أوتار الطمأنينة والخوف!
تخيل أنك في حوار بينك وصديق لك، ثم حصل ما اختلفتما في أمره، هذا وأنت تعلم يقينًا أن ما بين يديك وما تُحدث به هو الصواب والحق بإجماع العقلاء، حاولت المرة تلو الأخرى إقناعه بالتي هي أحسن بما لديك لكنه أبى في غير استكبار.
تساءلت لماذا لم ينفع معه أسلوبك؟ ثم انتبهت أن في المرات السابقة كلها حديثك كان يسير على الإيقاع ذاته، -أي الترغيب- وما اشتق عنه فقط!
لحظتها عرفت علة الإعراض، وتراءى أمام عينيك مفتاح الدخول إلى مجاهل نفسه، وما قد يزعزع ركونه إلى ما هو عليه. حاك في صدرك ما لو حدثته به استجاب، لكنك فكرت وقدّرت العواقب ثم أسررتها في نفسك ولم تبدها له.
تكتّمت عنه، ولم تجرب معه البتة، وقد مرّ بعض الوقت، وإذ به يأتيك مغاضبًا، وقف بين يديك وفتح الموضوع الذي أُسدِل عليه الستار فترة ليست باليسيرة، ثم عاتبك قائلًا: “لو أنك حدثتني بأسلوب كذا، لربما استجبت، ووقر في قلبي منه شيء ما!” تخيل لو أنه قال لك:
“كنت أحتاج أن (أخاف) لحظتها! ظلمتني يا صاح.. لم تحاول أن ترهبني حتى!”
أخبرتني التجربة!
وقر هذا المعنى في قلبي، وأثيرت خواطري حوله بعد أن هاتفتني صديقة لي، جمعتنا فصول الدراسة أولا ثم تطورت علاقتنا بفضل الله شيئا فشيئا. صديقتي هذه نشأت في بيئة شبه بعيدة عن الدين، فمع أن والديها يقيمان الفرائض، إلا أن الحديث عن الدين بالمجمل كان مغيَّبًا بشكل شبه كاملٍ في البيت، وفي المحصلة فقد كانت رفيقتي هذه لا تهتم لأمر فريضة الصلاة لدرجة أنها لم تكن تعرف كم من الركعات الواجب أداؤها في كل فريضة، وبحسب ما فهمت من حديثها أنها لم تُقم الصلاة يومًا!
لفت انتباهي هذا التفصيل، ولإلمامي جزئيا ببيئة نشأتها بحكم طول المعاشرة، بدأت أحاول من طرفي تحريك هذا الجانب فيها، حيث كنت كلما سنحت لي الفرصة أحدثها عن الموضوع وأهمية الصلاة في حياة المسلم.. غير أنني كنت على شاكلة صاحبنا الأول، وبالعبارة: غلبت علي فطنتيَّ؛ فكرت وقدرت وقلت صديقتي المسكينة ترعرت بعيدة عن الدين، لن ينفع معها أسلوب الترهيب بحال من الأحوال! فعكفت لا أبرح ترجيتها وترغيبها فقط! إلى أن حدث مؤخرا ما أعاد توجيه أو بالأحرى تعديل البوصلة عندي. إذ كلمتني فرحة “مطمئنة” بخطوتها الجديدة: “بدأتُ الصلاة.. أنا الآن ممن يقيمون الصلاة!”، فرحت أنا الأخرى كثيرًا بخطوتها لكن علامات الاستغراب والتعجب كانت بادية من حديثي: “كيف أقبلتِ على هذه الخطوة يا فلانة؟!”..فبعثتْ لي بمقطع فيديو لأحدهم تحدث عن الصلاة وأهميتها، غير أنه لم يغفل مثلي الحديث عن جانب “الوعيد” لتارك الصلاة، ولا أخفي أنني حدثت نفسي لحظتها وقلت: (ما كنت لأبعث إليها بهذا المقطع لو سقط بين يدي بحال من الأحوال).
لكن يبدو أنني أخطأت التقدير، وفاتني أن التخويف ليس هو المشكل بذاته بل القالب الذي يقدم فيه، وطريقة الطرح هي ما يشكل الفارق، إذ الترهيب لا يتقاطع البتة مع اللين؛ نستطيع أن نُخوّف المخاطَب بـ “لين”!. فسبحان العليم الخبير سبحانه بنفسيات عباده وما يصلُح لها، نظن أحيانا أننا أذكى وأشد فهما لمن هم معنا، حتى تكشف لنا الأيام والمواقف أننا كثيرًا ما أخطأنا التقدير بمعاييرنا القاصرة، ومنظوراتنا الضيقة. كما فعلتُ مع صديقتي ثبتها الله.
أهمية الخوف
في كتابه الأخير “مستقبل الخوف” يقول الأستاذ أحمد دعدوش: “الطغاة يتعمّدون إشاعة الشعور بأقصى درجات الخوف ليتحوّل الناس تلقائيًّا إلى ممثلين متواطئين بهدف النجاة، فتحت مظلة الخوف من المجهول وغموض العقوبة وغياب القانون، وعندما يكون الزعيم مهووسًا بالقهر والتشفّي، يجتهد الناس لتخيّل القوانين وفرضها على أنفسهم، ثم يمتثلون لها، بل يعاقبون الآخرين إذا لم يحقّقوا تلك المعايير المفترضة”.[مستقبل الخوف، أحمد دعدوش].
هذه المقدمة الصغيرة هي للإشارة في موضع حديثنا هذا إلى أن الخوف ليس مشكلة في ذاته! وإنما طرق استغلاله هي ما يشكل الفيصل بين الثمرات المتباينة للتخويف والترهيب. فتارة هو سياط الجلد والتعذيب، وأخرى يكون هو الأداة الناجعة، واليد الخفية التي يهدي بها الله مَن يشاء من عباده.
شواهد كثيرة من واقعنا المعاصر تشهد للخوف بالأهمية التي لا مراء فيها، ألم تر إلى العالمين من حولك كيف يدفعهم خوفهم من خسارة مظهرهم-مثلا- أمام الناس إلى السعي الحثيث للمسارعة لإخفاء العيوب! وخذ مثالًا على ذلك: إعلان “إشهار شامبو إزالة القشرة”؛ إذ يطلع عليك النجم الممثل وسمات القلق بادية على محياه، ولا يشغل فكره غير كيف يتفادى ظهور هذه الحبيبات البيضاء على سترته السوداء كلما حرك شعر رأسه هنا أو هناك! ثم فجأة يبتهج ويُسر كثيرا لأنه أخيرا وجد حلا لما يؤرقه: شامبو كذا كذا!
أرأيت؟ إنهم يتاجرون بالخوف، وهم يلعبون هاهنا على الوتر الحساس للإنسان، فيصنعون المشكلة وما يترتب عنها من مخاوف، ولشدة حرصهم أمدوا البشرية بالحل!
وحتى لا يأخذنا التيه، فالمقصد هو القول: “مَن علم بأهمية الخوف، لم يألُ جهده لاستغلاله”، وكما أن بعض الأشياء سيف ذو حدين، فإن الخوف كذلك أمره، فهو في الأخير شعور له مقدمات ترتب عنها. وما يعنينا من هذا التفصيل هو استغلال هذا الشعور فيما يقربنا من الله جل جلاله، فالخوف من الله واستشعار عظمته والرهبة منه هو ما يجعلنا قادرين على مجابهة تخويف الطغاة، وضبط حركاتنا وسكناتنا تحت عين الله الناظرة إلينا.
جناحا طائر
الحديث عن الخوف لا يعني الإفراط والغلو فيه، حتى لا يأتي بالثمرة المعاكسة للمراد! بل كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “لا بدَّ للعبد في سيره إلى الله من الجمع بين ثلاثة أركان، والعبادة كالطائر، فالحُبّ بمنزلة الرأس، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سَلِمَ الرأسُ والجناحانِ فالطائرُ جيد الطيران، ومتى قُطِعَ الرأسُ مات الطائرُ، ومتى فُقِدَ الجناحانِ فهو عرضة لكل صائدٍ وكاسر”.[مدارج السالكين، ابن القيم]
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!