أمام النظم القرآني.. شبهات في وجه الإعجاز!
يتركز النظر في النظم القرآني على دقة ترتيب الآيات بينها وتناسبها بين بعضها البعض على مستوى وحدة المعنى، أي أن ترتَّب الآيات في السورة الواحدة أو في السور المتتالية بناء على وحدة موضوع الآيات حتى لا يصاب القارئ بالتشتت بين معاني كثيرة لا صلة بينها.
وعلى الرغم من أن المسألة هي محل بحث وتأليف من علماء التفسير على مدار الزمان، إلا أنها أصبحت مثار شبهة عند غير المتخصّصين أو المبطلين من غير المسلمين، ويعود جذر هذه الشبهة -برأيي- إلى مقارنة الأسلوب القرآني في سرد المواضيع بالطرق التقليدية المتعارف عليها بين الناس في الكتابة والسرد، حيث إن تنقّل القرآن بين المواضيع والمعاني مغاير للأساليب البشرية من استخدام علامات الترقيم وفصل الفقرات في المقالة الواحدة وكثرة استخدام العناوين بين الفصول المختلفة، ومن هنا فقد اعتقد البعض أن التأليف البشري أدق نظامًا من الوحي الإلهي!
زيادة على ذلك، فإن الشبهة تنبع من عدم الإلمام بمقاصد السورة الواحدة، وتمام الغفلة يتجلى في عدم معرفة أن لكل سورة شخصية مستقلة تهدف إلى ترسيخ معنى بعينه مهما تغايرت المواضيع والمعاني. وبسبب ذلك تعمى الأعين عن ملاحظة الوحدة القرآنية بسبب الحكم المسبق بأنه كتاب لا وحدة موضوعية فيه.
جهود المفسرين بين الماضي والعصر الحديث
على الرغم من أن الوحدة القرآنية كانت محل بحث بدءاً من عصور السلف إلا أن أغلب المفسرين أسهبوا في التأليف حول علاقة خواتيم السورة بما بعدها، وعلاقة أسامي السور ببعض، ونذكر على سبيل المثال عمل السيوطي في كتابه (أسرار ترتيب القرآن) في أن سورة الفرقان جاءت في الترتيب التوقيفي للمصحف بعد سورة النور، لأن الفرقان بين الحق والباطل لا يكون إلا بعد نورٍ يكشف ما في الظلمة.
صحيح أنّ ما اهتم به السلف لم يخرج عن محاولة استكشاف ما للقرآن من وحدة موضوعية، ولكن أغلب جهودهم كانت حول وحدة مواضيع وأسامي السور بعضها ببعض، ولم يتطرق أحد إلى الوحدة في السورة الواحدة بين الآيات، أما في العصر الحديث – بدءا من القرن الماضي- بدأ بعض العلماء في التأليف في المسألة. ولعل أول من كتب فيها كان الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) حيث أسهب في كتابه لإثبات أن سورة البقرة على كبر حجمها وكثرة مواضيعها بها نظام موضوعي بين الآيات بشكل واضح جدًّا لمن يتفكر ويتدبر.

سعيد حوى (على اليمين)،عبد السلام المجيدي (في الوسط)، محمد عبد الله دراز (على اليسار)
بعد مدة من الزمن ألف الشيخ سعيد حوى كتابه (الرسول) وذكر في فصل “المعجزة القرآنية” وجود الوحدة الموضوعية في القرآن بشكل مختصر، ثم ألّف بحثاً طويلاً -بعد ذلك- في المسألة من ستة مجلدات باسم (الأساس في التفسير) أثبت فيه أن كل سورة مقسمة إلى عدة مقاطع وفقرات تخدم المعنى الرئيس والمقصد الأعلى للسورة، وأن لكل سورة وحدة في موضوعها مهما تفرعت في مواضيع جانبية، وأنه ما ذُكِر موضوع إلا لخدمة المعنى الأساسي المراد ترسيخه. وأثبت في بحثه أن القرآن كله عبارة عن جسد واحد من الوحدة الموضوعية وأنه كله ما هو إلا مزيد تفصيل وبيان لما جاء في سورة البقرة. أي أن سورة البقرة تلخّص المركزيات الكبرى للدين من تقرير العقائد الكبرى وتفصيل التشريعات وتبيان مواقف الناس المغايرة من الدين. أما في العصر الراهن فهناك عدة مشاريع بحثية في المسألة مثل مشروع الشيخ الدكتور عبد السلام المجيدي الذي انطلق في مشروع فكري وتفسيري للقرآن من حوالي ثلاث سنوات فأنهى بمنهجه المتميز تدبره لبعض السور وهي الفاتحة والبقرة وآل عمران والنساء.
في ظلال من أمثلة القرآن
على الرغم من أن نظم القرآن أوسع من أن يُلخَّص أو يختَصَر في بحث واحد، وأعظم من أن يحيط بكل ما فيه أحد ما، إلا أن جهود العلماء تركت لنا مئات الأمثلة من وجود الوحدة الموضوعية في القرآن، وقد كثر مؤخرًا التأليف تحت هذا المصطلح، ونمثل لذلك ما كتبه المفكر محمد الغزالي للتفريق بين تفسير النص بشكل حرفي وتفسير السورة ككل بشكل إيجازي في كتابه (التفسير الموضعي والموضوعي للقرآن الكريم). ولو كانت الشبهة تثار أكثر في السور الطويلة لكثرة تنوع المواضيع، فإن تبيان أمثلة من تلك السور يثبت وجود الإعجاز ويقوي موقف القرآن أكثر أمام معارضيه.
لقد أفرد عبد القاهر الجرجاني كتابه العظيم “دلائل الإعجاز” للبرهنة على ما في النظم القرآني من وجوه الإعجاز. ولنأخذ مثالاً واحدًا من الآيات القرآنية التي أوردها عبد القاهر الجرجاني مبينًا بعض جوانب الإعجاز فيها، وذلك قول الله تعالى في شأن اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]. يقول عبد القاهر:
“إذا أنت راجعت نفسك، وأذكيت حسَّك، وجدت لهذا التنكير، وأنه قيل: {عَلَى حَيَاةٍ} ولم يقل: “على الحياة” حسنًا وروعة ولطف موقع لا يُقْدَرُ قَدْرُه، وتجدك تَعْدَم ذلك مع التعريف وتخرج من الأريحية والأنس إلى خلافهما. والسبب في ذلك أن المعنى على الازدياد من الحياة، لا الحياة من أصلها.. فكأنما قيل: ولتجدنهم أحرص الناس ـ ولو عاشوا ما عاشوا ـ على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضي الوقت وراهنه حياة في الذي يستقبل”.
وإليك مثالًا من سورة البقرة، أقتبسه من كتاب (النبأ العظيم):
“يقول تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِين} [البقرة: 237- 238] فقد يحسبها الناظر اقتضاباً، وما هي باقتضاب إلا في النظر السطحي العابر، أما من يتابع معنا سير قافلة المعاني منذ بدايتها ويقطع معنا ثلثي الطريق الذي رسمته آية البر من الوفاء بالعهود والصبر في البأساء والضراء وحين البأس فإنه لا ريب سوف يستشرف معنا إلى ثلثه الباقي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبذل المال على حبه في سبيل الله وسوف يرى أن هذه الحلقة الثالثة قد جاءت هنا في رتبتها وفي موضعها المقدر لها وفق ترتيبها في الآية الجامعة.
سيقول قائل: نعم لقد جاءت في موضعها ورُتْبتها، ولكن الانتقال إليها قد تم دون إعداد نفسي ولا تمهيد بياني. نقول: بل كان هذا الإعداد والتمهيد في الآية الكريمة التي ختمت بها الحلقة السابقة {وأن تعفو أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير} فهذه لو تدبرت معبرة ذهبية وضعت في وقت الحاجة إليها بعد أن استطال الحديث في تفصيل الحقوق والواجبات المنزلية، معبرة جيء بها لتنقلنا من ضوضاء المحاسبة والمخاصمة إلى سكون المسامحة والمكارمة فكانت معراجا وسطا صعد بنا إلى أفق أعلى تمهيدا للعروج بنا فيما يلي إلى الأفق الأعلى. ألا تسمع إلى هذه الكلمات {ولا تنسوا الفضل بينكم} فإن كل حرف في هذه الكلمات ينادي بأنها كلمات حبيب مودع كان قد أقام بيننا فترة ما ليفصل في شؤوننا ثم أخذ الآن يطوي صحيفة أحكامه ليتحول بنا عنها إلى ما هو أهم منها، فقال لنا -وهو يطويها-: دعوا المشادّة في هذه الشؤون الجزئية الصغرى، سوّوها فيما بينكم بقانون البر والفضل الذي هو أسمى من قانون الحق والعدل، وحوّلوا أبصاركم معي إلى الشؤون الكلية الكبرى التي هي أحق بأن يتوفر عليها العزم والقصد، وأحرى أن يشتغل بها العقل والقلب، نعم نعم لقد كفاكم هذا حديثًا عن حقوق الزوج والولد، فاستمعوا الآن إلى الحديث عن حقوق الله والوطن حافظوا على الصلاة، وأنفقوا في سبيل الله، وجاهدوا في سبيل الله”
خلاصة القول
لقد استقرّ عند علماء التفسير وعلوم القُرآن أن النظْم القرآني وجه من وجوه إعجاز القُرآن، وهو طريقة الكلام وأسلوبه، وارتباط آي القُرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، متسقة المباني؛ فإن السورة مهما تعددت قضاياها، فهي كلامٌ واحد، يتعلق آخره بأوله وأوله بآخره، ويترامى بجملته إلى غرض واحد، وارتباط الجمل بعضها ببعض في القضية الواحدة، بل والسور القُرْآنية أيضًا كذلك، فهو مقابل للشعر، والسجع عند العرب، والقُرْآن معجز بنظمه؛ أي: بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم، فهو خارج عن عادتهم، ومعجِز بهذه الخصوصية التي ترجع إلى جملة القُرْآن، وتحصل في جميعه.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!