أطفال المسلمين من جحيم الحرب إلى جحيم الحرية .. أوروبا نموذجًا
أثير أخيرًا قضية انتزاع الأطفال من والديهم في أوروبا والسويد تحديدًا، ورغم أن تسليط الضوء على القضية حديث مع حداثة المهاجرين العرب إلى القارة الأوروبية، إلا أن قانون سحب الأطفال من والديهم ليس بحديث العهد، ويبدو أن له جذورا مرتبطة بالسلطة الكنسية الاستبدادية في أوروبا، فكان سحب الأطفال من ذويهم ممكنا لمجرد ميل الأهل عن المسيحية البروتستانتية[1]، وبعد الحرب العالمية الثانية تصاعد الاهتمام بحماية الطفل وحقوقه بشكل أكبر واعتبار القانون رسمياً وتحويل رعاية الطفل من مسؤولية العائلة فقط إلى مسؤولية المجتمع والدولة، فيمكن لأي فرد؛ وبالأخص لمربي رياض الأطفال ودور الرعاية ومعلمي المدارس والأطباء في العيادات والمشافي إعلام دائرة الشؤون الاجتماعية بأي علامات أذية أو إهمال يلاحظونها على أي طفل، فتتولى الدولة حماية الأطفال على أراضيها ولو تطلّب الأمر حمايتهم من والديهم، لأن من حق الطفل أن يحيا حياة مستقرة وهادئة خالية من العنف ومن أي تهديد قد يضر بحالته النفسية والجسدية والعقلية بحسب قانون حماية الطفل[2].
مصطلح “راحة الطفل” الفضفاض
تختلف بنود حقوق الطفل وتحديد السبب الموجب لسحب الطفل من عائلته باختلاف الدولة، ففي حين أن ألمانيا تعتمد بنودا واضحة في تحديد الأسباب الموجبة لسحب الطفل وتراعي حق الأهل في تربية طفلهم إلى حد مقبول، ولا يتم سحب الطفل إلا بوجود تهديد واضح أو إهمال مستمر وظاهر، نجد أن السويد لا تعتمد تعريفا محدَّدًا لمصطلح “راحة الطفل” ويترك الأمر لرأي الموظف الاجتماعي ولجنة المدينة المنتخبة، فمركزية قانونهم هي حماية الطفل أو بالأصح راحته بالمقام الأول ولا تولي اهتماما كبيرا لحق الأهل برعاية أطفالهم لعدم وجود عائق في إمكانية نقلهم لعائلة أخرى، و يكفي استشعار عدم رغبة الطفل بالبقاء مع والديه لاتخاذ الإجراءات، وتلك الثغرة القانونية أدَّت لاتخاذ قرارات منطلقة من الأهواء بدلا من منطلق حماية الطفل فعلياً، وعرّضت القضاء والحكومة السويديين لكثير من الانتقادات.
ما بعد الشكوى
في ألمانيا عند الشك بوجود إهمال يتم إعلام الأهل لبدء تنسيق اللقاءات وبإمكان مكتب الرعاية الاجتماعية القيام بزيارات فجائية للتأكد من الشكوى، وعند ثبوت عدم قدرة الأهل على تربية أطفالهم يُطلَبُ موافقتهم لنقل الوصاية وفي حال الرفض وهو الغالب يتم عرض الأمر على المحكمة للحصول على أمر قضائي بنقل الطفل لمكان آخر، ولا يتم سحب الطفل مباشرة أوعن طريق الشرطة إلا في حال وجود تهديد واضح يتطلب تنفيذ الأمر قبل صدور حكم من محكمة الأسرة، ولا مفر من حدوث الأخطاء وسوء التقدير وتوجد حالات يكون قرار السحب فيها غير مفهوم ومشكوك به.[3]
أما في دولة السويد فيطبَّق قانون نقل الوصاية الأبوية مع خَمس أطفالٍ يوميا، فهم أكثر تهاونا في تطبيقه، لأن الأمر يأتي بقرار من اللجنة وليس عن طريق القضاء، كما أن قرارها يتأثّر برأي موظف الرعاية الاجتماعية بشكل كبير، ويبدو أن لديهم حساسية شديدة في التعاطي مع الطفل كمراقبة التواصل البصري بينه وبين والديه لاستشعار رغبته بالبقاء معهم أم لا، وتعدّت صلاحيات الموظف السويدي إلى انتزاع الأطفال من والديهم بشكل مفاجئ أو خطفهم من داخل منازلهم ومن أمام مدارسهم قبل إعلام الأهل بذلك، وقد وصف بعض المحامون السويديون طريقتهم تلك بالنظام الاستبدادي، وبحسب تجارب المستشار الأسري سفين هيسلي أن هناك أربع مجموعات مهددة بشكل أكبر بانتزاع الأطفال منهم، من ضمنهم الأجداد المسؤولون عن أحفادهم وأبناء الأم المعيلة، وأبناء المهاجرين والذين شكلت نسبتهم 46% من أعداد الأطفال المنقولين إلى رعاية الدولة في ستوكهولم، وتضيف القاضية سوندبيرغ فايتمان أن الدوائر الاجتماعية تعطي لموظفيها سلطة مخيفة، فمن جهة يمكن سحب الأطفال لوجود تهديد واضح ومن جهة أخرى يتم انتزاعهم من منزل والديهم الآمن والهادئ لمجرد انتماء الأهل لأقلية دينية أو لتبنّيهم اتجاهات فكرية وثقافية مخالفة للتوجه العام.[4]
نقل الوصاية المؤقت أو الدائم
يتم نقل الطفل في ألمانيا إلى مركز رعاية للأطفال تحت إشراف مختصين، ولا تُلغَى وصاية الأهل إلا في حال ثبوت عدم قدرتهم على الرعاية بالمطلق بعد مدة من محاولة إصلاح حال الأسرة، ويحق للأهل الاعتراض على منع موظف الرعاية تواصلهم مع أبنائهم أو عدم التعاون معهم[5]، والطريقة مشابهة في السويد عدا عن نقل الأطفال إلى رعاية عائلة حاضنة بشكل مباشر بسبب شح مراكز رعاية الأطفال لديهم[6]، أما عن استرجاع الأطفال ففي كلتا الحالتين لا عائق يقف في طريق الأهل في حال إثبات قدرتهم على الرعاية من جديد أو إثبات حدوث خطأ وسوء تقدير من الموظف ونفي كل الشكوك لدى دائرة الرعاية، والطريقة المثلى لاسترجاعهم هي عن طريق القضاء باستعانة محامٍ في الشؤون الأسرية، بَيد أنه طريق مكلف ماديا ويحتاج لطول نَفَسٍ حتى تحصيل قرار المحكمة، وغير مضمون النتائج مئة في المئة، و يلجأ البعض عند بدءِ إرسال الإنذارات إلى مغادرة الاتحاد الأوروبي مباشرة هربا بأولادهم، فإن لم يكن بالإمكان ذلك، فمن الأفضل التعاون مع مكتب الرعاية لأن التجاهل يسمح لهم باتخاذ إجراء السحب بالقوة.
رعايةٌ أم جناية؟
تتعرض دور الرعاية الحكومية لانتقادات نتيجة تهاونها برعاية الأطفال بسبب هرب الكثير منهم وتحوُّلهم للإدمان والإجرام والدعارة، أو لعدم متابعة حالة العائلة الحاضنة، حيث ثبت وجود تجاوزات قانونية منهم قد سبَّبت أذى للطفل، علاوة عن طريقة انتزاع الأطفال العنيفة والمؤذية أو الخاطفة والتي تترك أثرا في الطفل لا يُمحَى، أما تكاليف نقل رعاية الطفل فهي باهظة جدا بالمقارنة مع تكاليف بقائه مع عائلته البيولوجية[7].
وبالرغم من أنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن القانون ساهم بحماية أطفال كُثُرٍ، فمن ضمن الأسباب الموجبة لسحب الطفل من والديه هو الإهمال الشديد حيث يؤدّي الإهمال في كثير من الحالات إلى فقدان حياة الطفل، كموت طفل بعمر السنتين بعد أن أهملت أمه إطعامه وتركته تحت تأثير الجوع الشديد والنحالة المرضية[8]، أو في حالة الوالدين اللذين أرادا التوفير بجعل أطفالهم يستحمون بماء الأمطار في الشتاء وإقفال التدفئة لتصيبهم الأمراض المزمنة، ومن الأسباب أيضا الإساءة الجسدية واللفظية وحالات الاعتداء أو الاستغلال الجنسي، ومثاله أن أمًّا استغلت ابنتها ذات العشر سنوات في عرض الأزياء الفاضحة لأجل التجارة، وهناك مَن حوَّلت بيتها لمكان للدعارة بوجود أطفالها، ولاتزال الحالات المفجعة لأطفال يُعذَّبون من قبل والديهم تهز الرأي العام، وآخرها قصة طفل تبوَّل لا إراديًّا في سريره فعوقب بالضرب والنوم على فراشه النجس ليتوفاه الله في اليوم التالي، ويزيد على ذلك مشاكل الإدمان على الكحول والمخدرات والأمراض النفسية والعقلية، ومع ما قدَّمه القانون من حماية إلا أنه ما زال يحمل خللا كبيرا متمثلا بعدم الاهتمام بأهم حق للطفل وهو العيش في ظل والديه، ولكن كيف السبيل لتحقيق ذلك في مجتمع غارق في المادية والانحلال ولامعنى للروابط الأسرية لديه؟ ليبقى الطفل ضحية في كل من الحالين.
أطفال المسلمين وتهديد نقل الوصاية
لابد من تسليط الضوء على الأطفال الذين يُنقلون لوصاية الدولة لأسباب أخرى بعيدة عن تهديد الوالدين، مثل حالة وفاة الوالدين أو أحدهما؛ عند عدم قدرة الطرف الآخر على رعاية أطفاله لوحده؛ أو عند عدم وجود أجداد لهم يرعونهم، وقد تجاوزت أعداد الأطفال المنقولة وصايتهم للدولة الألمانية إلى 60 ألف طفل عام 2015 من بينهم مهاجرين ولاجئين مسلمين نتيجة موت الأهل أو ضياع الأطفال من والديهم في طريق الهجرة[9]، فضلا عن إرسال اليافعين ممن لم يبلغوا الثامنة عشرة إلى أوروبا بسبب قدرته على ضم والديه إليه فيما بعد، ولأنه طفل في القانون الأوروبي فإنه حق رعايته يقع على الدولة والتي في كثير من الحالات تنقل رعايته إلى عائلة حاضنة، أما التحدي الأكبر الذي يواجه العائلة المسلمة فهو قرار اليافع بنفسه بالانتقال من منزل والديه أو بتقديم شكوى لمكتب الرعاية، فيتم الاستجابة لرغباته، وإن وجد بصيص أمل في عودته لوالديه في سن المراهقة، إلا أنه بعد سن الثامنة عشرة تلغى الوصاية الأبوية قانونيا بشكل كامل.
التحصين والوقاية
إن وجود القوانين الوضعية المستمدة من أهواء البشر مع الانفتاح الكبير على كل الفتن تشكِّل تحديات عظيمة للعائلة المسلمة في أوروبا، وقد اختلف العلماء في حكم القدوم إلى مثل هذه البلاد وإن أجاز بعضهم البقاء فيها لكنهم ينصحون بتجنب السفر إليها أو جعل الإقامة مؤقتة قدر المستطاع، فعلى رب الأسرة مسؤولية الاستبراء لعرضه ودينه وحماية أسرته، وقد أشار لذلك الدكتور محمد راتب النابلسي في مقابلة له في قوله: إن لم تضمن أن يكون ابنُ ابنُ ابنِكَ مسلمًا، فلا يجوز أن تبقى في البلاد[10]، مع استثناء من لا مفر له إلا البقاء فيها، ولابد للمسلم المهاجر في الغرب أن يهتمّ بما يقوِّيهِ ويحفظ أسرته بإصلاح حاله وحالهم عن طريق التحصن بالعلم الشرعي والتقرب إلى الله، وتعلُّم لغة البلد الجديد وفهم ثقافته وقوانينه، ومن المهم معالجة الأمراض النفسية والبعد عن التعنيف والضرب وذلك أضعف الإيمان، ويجب التركيز على أهمية تقوية أواصر الجالية الإسلامية لما لها من دور في مساعدة الأسر والمهاجرين الجدد، ولكنها ما زالت إلى الآن تعاني من التشتت وضعف الإمكانيات المادية والبشرية.
سحب الأطفال.. هل مؤامرة؟
منبع القوانين الغربية مختلف جذرياً عن منبع القوانين الإسلامية، حيث يعتبَر الطفل فيها كيانًا منفصلًا عن والديه وبالتالي يغلب حق الدولة في رعاية الطفل على حق وصاية والديه، ولذا يُطَبَّق القانون على أي طفل يقطن الأراضي الأوروبية بغضّ النظر عن جنسيته، وبالتأكيد فإن المهاجرين يتعرّضون بشكل أكبر لتهديد نقل الوصاية لقلّة خبرتهم بالقوانين من ناحية، واختلاف التكوين الثقافي الشاسع بين الشرق والغرب، مع ضعف اللغة من ناحية أخرى، إلى جانب وجود فكرة مسبقة خاطئة أو عنصرية متطرّفة لدى بعض الموظّفين والسكان عن المهاجرين تدفعهم للتعامل الأشد والأسوأ لهم فيقدِّمون ذلك على أي تصور آخر، بالإضافة إلى أن سياسات أوروبا في الاندماج قاصرة عن تقديم الدعم الكافي للمهاجر وتركز جهودها على إذابة الفرد في المجتمع وثقافته، بدلا من مساعدته على التكيف ومراعاة حاجاته وثقافته المختلفة وخاصة لمن أتى من منطقة حروب، وعدم زرع سياسة التسامح وتقبل الضيف في المجتمع المضيف بل التنفير منه، وبسبب قلة شباب القارة العجوز فهم بحاجة للمهاجرين وأبنائهم أكثر من حاجة المهاجر لهم، ومع هذا مازالت سياساتهم تتجه بحذر نحو شعار إما الذوبان وإما الرحيل.
يحزن القلب على أبناء المسلمين الذين حرموا من عائلاتهم وما ينتظرهم من مصير مجهول، وانتفاضة المسلمين والتنديد وإثارة الرأي العام لهي من الأمور المحمودة والمطلوبة، ولا مناص بالطبع من الحكمة والروية واستغلال جميع الوسائل الممكنة في سبيل الهم الأكبر وهو عودة الأطفال إلى بيوتهم وأحضان أهليهم الدافئة.
[2] وقاية الأطفال من التعنيف والأذى
[3]متى-بنتزع-الطفل؟،ألماني
[4]تجاوزات-مكتب-الرعاية-السويدي، Spiegel
[5]مايمكن-فعله-بعد-سحب-الطفل
[6]قانون-سحب-الطفل-السويدي-بالتفصيل
https://www.dji.de/fileadmin/user_upload/pkh/laenderbericht_schweden.pdf
[7] المصدر(4)
[8] https://www.sueddeutsche.de/leben/prozess-wenn-kinder-wegen-vernachlaessigung-sterben-1.3654792
[9] https://mediendienst-integration.de/migration/flucht-asyl/minderjaehrige.html
[10] تربية-الأولاد-في-المهجر
https://www.youtube.com/watch?v=gGUD8He_aTE
فتوى-وكلمة-من-الشيخ-محمد-راتب-النابلسي
https://www.youtube.com/watch?v=PPxE8ZmwGWw&t=305stj,n
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!