أدلجة العلم وتضليل الجماهير!

image_print

منذ مطلع البشرية اتصف الإنسان بحب البحث والاطلاع، فالإنسان مجبول في فطرته منذ أقدم الحضارات في التاريخ على ذلك، ومن الشهير في أوساط العلوم أن أول مدرسة معتبرة في العلوم الطبيعية كانت في اليونان قبل الميلاد في أثينا على يد عدد من الفلاسفة مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو.

تأسيس المنهج العلمي التجريبي

ألف أرسطو كتبًا في علوم الطبيعة ونظرية المعرفة –الإبستمولوجيا-  وقد كانت الإضافة الحقيقية تكمن في تأليفه للمنهج الذي يجيب على سؤال (ما الفرق بين الحقيقة والخرافة)؟ حيث تردد بين إجابات متعددة إلى أن انتهى إلى (الاستدلال الاستقرائي). ويمكن شرح هذا الاستدلال بأنه قائم على اتباع الملاحظات والحقائق الصغيرة، وبناء نسق عام لها، بهدف توصُّل الإنسان إلى الاستنتاجات والنتائج الكبرى، وقد تبنى غالبية من جاء بعد أرسطو من المفكرين والفلاسفة هذا المعيار للتفريق بين العلمي وما هو مجرد خرافة حين من الدهر، وبالرغم من أن هذا المنهج –أي الاستدلال الاستقرائي- يميل إليه الإنسان دون الحاجة إلى معلّم أو سابق تفكير، إلا أن وضع قواعد منهجية ومكتوبة لهذا الاستدلال كان من حظ أرسطو بداية.

من ناحية أخرى، فإن التطبيق العملي المثمر لهذا المنهج جاء على يد المسلمين، سواء قبل حركة الترجمة في عهد العباسيين أو بعدها، وبناء على اتباع هذا الاستدلال ظهرت طفرة عظيمة في المعارف، ووجِدت ثورة معرفية عظيمة بين المسلمين على يد أمثال ابن الهيثم، والبيروني، وابن سينا وغيرهم من العلماء الموسوعيين في الطبيعة والطب وغير ذلك.

بالرغم من تبنّي المسلمين منهج الاستدلال الاستقرائي بصيغته الأرسطية بدايةً، إلا أنهم زادوا عليه شرط وجود التجربة، إذ إن المعيار الأرسطي كان نظريًّا جافًا منعزلًا عن الواقع، فأضاف عليه المسلمون التجربة ليتحول الافتراض العلمي من احتمالية ظنية إلى حقيقة يقينية. ومن هنا جاء التأسيس الحقيقي للمنهج العلمي التجريبي ليكون الخط الأحمر الفاصل بين العلم والخرافة.

نظرية التطور وفلسفة العلم

مرّ الزمان وبقي الحال على ما هو عليه من مناهج البحث والعلم حتى بدء عهد النهضة في أوروبا، وهنا رأينا ترجمة أخرى لكتب أرسطو وكتب علماء المسلمين إلى اللغة اللاتينية، وبذلك انتقلت العلوم الطبيعية إلى أوروبا مع المنهج التجريبي الذي نفذه المسلمون وكان فاصلًا بين الحقيقة والخرافة، ومن ثم فقد حاول الغرب اتخاذ المنهج التجريبي مرجعية في العلوم لعدة قرون، إلى أن جاء القرن السابع عشر أو ما يسمى بعصر الأنوار، حيث شهدت أوروبا تصاعد حركات الإصلاح الديني والفكر المتمرد على الدين المسيحي، وأصبح الذوق العام يميل إلى تكذيب الخطاب الكنسي القائم على الاتباع الأعمى في مسائل الظواهر الطبيعية، واستبدلت الجماهير تفسيرات الأناجيل حول ظواهر الطبيعة بالتفسير العلمي القائم على التجربة والدليل.

ومع زيادة دعاوى تعارض الدين مع العلم، ومع الميل العام لجانب العلم، ظهرت شكوك دارون حول الرواية الإنجيلية حول قصة الخلق. وبدأ رحلته في محاولة استبدال الرواية الدينية بأخرى علمية حتى نشر كتابه (أصل الأنواع) في سنة 1859م. ولقي الكتاب رواجا هائلا جعل من مؤلفه نجما مقدسا إلى يومنا هذا، ولا شك أن الموجة العامة من التنوير أثرت في مدى قبول أفكاره، مهما كانت غريبة وجديدة على الناس كليًّا!

ولكن التسرع في قبول النظرية والانشغال بالضجة الجدلية التي أخلفتها ستر عن الناس الخلل الجوهري في النظرية، وهو عدم اتباع النظرية للمنهج الاستقرائي والتجريبي الذي سار العلم عليه طوال التاريخ! إذ إن النظرية بدأت بوضع فرضية التطور أولًا، ثم بدأت تبحث عن أدلة تدعم الفكرة ثانيًا. أي إن نظرية التطور اتبعت في مسارها (الاستدلال الاستنتاجي) بدايةً لا (الاستدلال الاستقرائي)!

وهذا يعني أنها –بحسب المنهج العلمي– افتراض نظري لا يخضع للرصد والتجربة، ولا يمكن أن ينسب إلى العلم بأي حال. إذ أن العمر البشري المحدود في بضعة عقود يستحيل له أن يرصد ما يحدث على مدار ملايين السنين، فضلا عن التجربة والبرهنة!

يقين فوق الشبهات

الحماسة الأولية والإصرار على قبول النظرية تبعه تلاعبٌ بالمعيار العلمي، وهكذا كانت البداية لخروج هذه النظرية من تهمة الخرافة وتلحق بركب الحقائق العلمية المعتبرة،  ففي نفس القرن الذي شهد الترويج لنظرية دارون، غُيِّرَ المعيار الفاصل بين الحقيقة العلمية والخرافة العلمية على يد بعض فلاسفة العلم ممن يؤيدون دارون مثل (لويس باستير) و(جريجور مينديل) بحجة أن الحاضر يختلف عن الماضي، ولو صدقوا لاعترفوا أنهم يتلاعبون بالمعيارية ليجدوا مخرجا من عدم التزام نظرية صديقهم بالمنهج العلمي!

بطبيعة الحال، فقد صدرت آراء تقول إن الاستدلال الاستنتاجي معترف به إلى جانب الاستدلال الاستقرائي أيضًا، ولا عجب –والحال كذلك- أن يتم الاعتراف بالمعيار الجديد ليزاحم القديم!

والعجيب أن التلاعب لم يكتفِ بتغيير المعيار العلمي الأصيل، بل وصل الأمر إلى عدم الالتزام بالمعيار الجديد أيضًا! فالمنهج الاستنتاجي ينص أن أي استنتاج وجد أدلة تدعمه فهو حق ما دام قابلًا للدحض عن طريق التخطئة بالتجربة Falsification tests .

ولكن هذا لا يتوفر في نظرية التطور أصلا، إذ إن الإنسان صاحب العمر المحدود لن يستطيع أن يأتي بدليل تجريبي يدحض وجود تطورٍ يحدث على مدار ملايين السنين. فلا الاستدلال الاستقرائي المتعارف عليه موجود في عملية الاستدلال، ولا الطعن في النظرية تجريبيا في الإمكان! ومنذ ذلك الحين، تحول المعيار من خط أحمر متفق عليه عالميا –أي المنهج الاستقرائي التجريبي- إلى معايير مختلفة ومتعددة.

نتيجة لذلك نشأ مذاهب عدة في فلسفة العلم، وكانت هذه المذاهب طرائق قددا لا تكاد تجتمع على رأي واحد، وكل مذهب يضيف معيارًا ما ليفرق بين العلم والخرافة. ومن شبه المحال أن تحصل على إجابة واحدة على سؤال: ما الفرق بين ما هو علمي science وما هو غير علمي pseudoscience؟

من هنا خذلت فلسفة العلم المجتمع العلمي بشكل فادح لعدم وجود إجابة موحدة يعترف بها عالميا. ولا تملك الجامعات إلا أن تتبنى فلسفة ما تقيم عليها الأبحاث العلمية!

وبهذا المثال البسيط، يدرك الإنسان خطورة فلسفة العلم في تغيير المعيار بين الحقيقة والخرافة، وتحويل الخرافة إلى حقيقة، بل وتحويل الخيال إلى حق مطلق غير قابل للنقاش ولا يحتمل التخطئة!

إن غياب المعيارية الموحدة في المسائل العلمية لا يعني نهاية فلسفة العلم، بل يعني أننا لن نتحاكم إلى حكماء وعلماء ومفكرين وفلاسفة منصفين فور نشب أي جدال. كلا، فلا حكم منصف في ظل توفر ألف خط أحمر بين العلم والخرافة! وهذه المعيارية السائلة تشكل خطرا كبيرا على البشر، لا لأن الجموع قد تمر عليها الخرافات تحت ستار العلم، بل لأن الجموع أُشبِعَت عقولها بالخرفات وهم يحسبون أنهم يتزودون من المعارف!

 فالتلاعب بالمعايير قد ينتج لنا خرافات تتسم بالقداسة بلا مساحة للطعن أو التشكيك، وقد يتحول الاحتمال الظني إلى يقين فوق الشبهات!

تضليل الجماهير

لا يكاد ينكر أحدٌ أن الأدلجة وتشكيل وعي العامة عبر المناهج التعليمية كان هدفًا أساسيًّا ومن دأب الساسة في العقود الأخيرة. فمن يمتلك قدرة السيطرة على مناهج العلوم في المدارس والجامعات أصبح يمتلك عقول العامة بين يديه في ظل غياب المعيارية الدقيقة!

فالسياسة تهتم بترسيخ الأفكار من خلال أدلجة العلم، تارة بتحويل العنصرية بين شعوب بعينها إلى نتيجة محتومة لنظرية التطور. وتارة بالتطبيع مع مناقضة الفطرة في الميول الجنسية بحجة أنه أمر طبيعي لأسباب وراثية أو اختيارية، وتارة بإعلاء أصوات ورؤى النسوية بحجة أن المخ الأنثوي يتفوق على المخ الذكري، وتارة بنشر الإلحاد بحجة أن الكون قد نشأ عن أكوان لانهائية متعددة فكان كوننا والأرض فيه من خلال الصدفة الرائعة!

ولا يتوهم أن المجتمع العلمي محايد إلا مسرف على نفسه في السذاجة. فلا براءة في ظل سياسات تتسابق على نشر الأيدولوجيات، ولا حياد في ظل غياب الخطوط الحمراء!

وأما من كان له من بعد النظر والحكمة، فلا يملك إلا أن يتحاكم إلى المعيار الفطري والعلمي القديم، وهو الاستدلال الاستقرائي المبني على الرصد والتجربة المعترف به على مدار التاريخ إلى عصر الأنوار. حينها يمتلك المرء فرقانا يفرق به بين الحقيقة العلمية والخرافة العلمية، وليكون الإنسان في تثقيف هادئ بعيدًا عن ضجيج المؤامرات. في مأمن من مصائد الأدلجة، ومكائد تضليل الجماهير!

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد