مقالات

فتنة الفطنة

إن حاولَ الواحد منّا تحديدَ شعوره وحالته الفكريّة إزاء آخر قضيّةٍ خلافيّةٍ سمعها سواءً كانت اجتماعية أو معرفية في حقلٍ معين، سيجد أن فكرة التحديد تلك بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ صعبةٌ إلى حدّ ما، تدخل فيها خلفيّاته المعرفية وجهله، واهتماماته ورغباته وميوله، وحتّى نزعاته وانحرافاته النفسية -أحياناً- مؤثرةً على أحكامه، ما يجعل الأمرَ معقّداً محتاجاً إلى الضبط والتحديد بأداةٍ قابلةٍ للبناء السليم للوصول إلى حكمٍ صحيح. فضلاً عن كون الحالة الفكريّة والشعوريّة المتعلقة بالخلاف في بعض القضايا غير موجودةٍ لدينا أصلاً في بعض الحالات، وذلك عند الحديث عن بعض المساحات التي لا نرى أنفسنا معنيّين بها إلى حدٍّ كبير. ولكن ما الأداة الحاكمة في اعتبار هذه المساحة مهمّةً لنا دون غيرها؟ وما الأداة الحاكمة في ترتيب المهمّ من مساحات معرفتنا واهتمامنا تبعاً لأولويّتها في حياتنا؟

تداخل العلوم

رغم اجتماع أنواع العلوم المختلفة في العالِمِ الواحد من علماء المسلمين الأفذاذ قبل مئات السنين، إلّا أنّ تداخل مساحات العلوم المختلفة سويّاً كدوائر كثيفة يتخلّل بعضها البعض لم يكن كما هو الآن وبهذا التعقيد، كان للعلم الواحد مساحته التي تكاد تكون مستقلةً لا يؤثر فيها تقدم العلم الآخر، ولا يزاحم أساساتها معارف مكتشفة في حقول أخرى. أما هذه الأيّام فعالِم النفس يحاول معرفة أسباب الأزمات الاقتصادية متمثّلةً بنفوس قادة الاقتصاد العالميّ وكباره، وخبير الحاسوب والأنظمة الذكيّة يحاول تصنيع ما يسعف الطبّ وعلوم الصيدلة في حلّ بعض أزمات جسم الإنسان وأمراضه، وعالم الطبيعة يحاول التشكيك في الأديان وهدم أساساتها، والفيلسوف يقف ندّاً أمام خبير العلوم التجريبية المختلفة، والكثير الكثير من التداخلات والعلاقات التي تتجاوز الحصر، وبصرف النظر عن تقييم التداخلات الصحيحة والخاطئة منها.

المراد إيصاله هو أن استخدم العقل متمثّلاً بالقدرات التي ميّزنا الله بها من وعيٍ وإدراك وقدرةٍ على المقارنة والتمييز وتجريد المفاهيم من صورها لاستنباط المعاني الأصيلة بحضور العلم والإرادة؛ هو الخطوة الفارقة والأداة القادرة على إصدار الحكم بعيداً عن النوازع الأخرى وذلك إن تمّ بناء فكره وتوظيفه بكيفيّةٍ سليمة طبعاً. وممّا تثبته الظواهر والمشاهدات الآن هو أنّ توظيف العقل بجدّيّة في عصرنا هذا قد بات أمراً لا فرار منه قطعاً، وإن تمّ اعتباره رفاهيةً أو ثقافةً زائدة في عصرٍ ما كان الاعتماد فيه على أشكال القوى الأخرى -كالبدنيّة مثلاً-، فهو ضرورةٌ وحاجةٌ ملحّة واجبة الحضور والاستخدام الآن في هذا الزمان.

هل تختلف الكفاءات في توظيف العقل؟

إن اتّفقنا على أهميّة الحضور العقليّ ذاك في فهم المسائل وتحليلها وتعلّمها والحكم عليها، فإن من التساؤلات التي قد تحضر في الذهن هو كوننا متفاوتين فيما أوتينا، فما يستوعبه هذا الشخص لا يفهمه ذاك، وما يسهل على فلان من الناس يصعب على أخيه وهلمّ جرّاً، فكيف نُطالَب بالاحتكام إلى أمرٍ لسنا متساوين في امتلاكه بنفس الكفاءة والقدرة؟ خاصةً إن كان هذا الأمر هو الأداة الأساسيّة في تحديدنا لأضيق دائرة -على الأقل- من المجالات التي تكفي الواحد منّا مؤونته المعرفية وتعينه في مواجهة صراعاته المهمّة في حياته وبعد مماته، ستبقى فكرة الفطنة والذكاء واختلاف كفاءة الأدوات تلك مدعاةً للقلق، وهنا نحتاج وقفةً نستطيع فيها تعريف المفاهيم المختلفة لنكون على وضوحٍ وبيّنة.

تدلُّ الفطنة لغةً: “على ذكاءٍ وعلم بشيء. والفِطْنَة والفَطَانَة كالفهم، وهي ضِدُّ الغَباوة” (1). وعرّف أبو البقاء الكفوي الفِطنة في كشّافه بأنها: “التَّنَـبُّه للشَّيء الذي يُقْصد معرفته” (2)، ومن هذه التعريفات يتّضح لنا أنّ الفطنة التي نطالَب بها إنما هي إعمال العقل وتوظيفه بوعيٍ كاملٍ وعن علمٍ لا عن جهالة، لئلا يكون المرء ساذجاً أو غبيّاً في تعاطيه للحقائق أو الأخبار وتعامله معها. وفي تحديد الكفويّ لمواطن التنبّه بقوله “للشيء الذي يقصد معرفته” توجيهٌ لصبّ الاهتمام والتنبّه والتركيز على ما يعني المرء وما يقصد فهمه لا على ما هبّ ودبّ من الأمور. وبهذا التعريف للفطنة نحن نستبعد ما قد يتفوّق به شخصٌ على آخر ولا نوجب توافره عند الجميع، وهذا التفوّق والاختلاف المذكور هو ما يقع ضمن ما نسميه الذكاء.

قال العسكري: “الذَّكاء تمام الفِطْنَة، من قولك: ذَكَت النَّار إذا تمَّ اشتعالها، وسُمِّيت الشَّمس ذكاءً؛ لتمام نورها. والتَّذكية: تمام الذَّبح، ففي الذَّكاء معنى زائدٌ على الفِطْنَة” (3)، وعليه فلا يستوجب علينا جميعاً أن نكون أذكياء فتلك هباتٌ يعطيها الله بقدرٍ من يشاء، إن وُجِدَت فذاك فضل من الله وابتلاء يستوجب حسن التوظيف والاستخدام ومنفعة النفس والعباد به، وإن لم توجَد فيكفي المرء أن يكون فطِناً واعياً عالماً متعلّماً وذاك ما حبانا الله به جميعاً بأن كرّمنا بمنحة العقل والمنطق وعلى الله التوفيق والاتكال.

أفي الإيمان فطنة؟

  جاء مفهوم الإيمان والأمر به في كتاب الله العزيز مقترناً بإقامة الحجج الدامغة للعقول والحث على التأمل فيها وفهمها، وعلى ذكر آيات الله البديعة في خلقه والدعوة إلى تدبر عظيم صنع الله وقدرته في ذلك الخلق المحكَم، أي أنّ ذاك التصديق الجازم الذي أمرنا به العزيز الحكيم كان مترتّباً على أسباب البحث والفهم والتفكير العميق حتى يأتي اليقين راغماً بالأدلّة المقنعة على أنّ لهذا الكون خالقاً عظيماً واجب الوجود، وإلهاً مستحقاً للعبادة والتسليم.

ولكن مع هذا البعد عن مصدر التشريع، والتلقّي الجامد للمفاهيم الإيمانيّة دون تدبّر لمعانيها، نجد أنَّ الإيمان في النفوس قد بدأ يخفت حتى بات يخيفنا السؤال، ويرهبنا التفكير لنطرده كما نطرد الوساوس، لذا فإننا في الميادين الإيمانية أحوج ما نكون إلى الفطنة لتأصيل لإيمان في تلك النفوس التي تعيش الصراعات على الدوام، المهتمّة باليقين والوصول لمرتبة إيمانٍ حقيقيٍّ لا اعتقادٍ مجمَل، وفهم المعاني الأصيلة لا التقليديّة الملقّنة، تلك النفوس الملفوحة بحرّ الشبهات والمكائد في هذا الزمان، المتعرّضة لمحاولات التشكيك في العقائد والإيمانيّات على الدوام ورغماً عنها غالباً، نحتاج فهماً وإيماناً يحمله أصحاب تلك النفوس قويّين به، مستنيرين بفهمه، ينقلونه من حيز الاعتقاد إلى حيز التطبيق العمليّ الحقيقي مواجهين به العالم أجمع.

وللفطنة تجلّياتٌ بديعةٌ ناهضةٌ بالسلوك والأخلاق إلى مستوى رفيع جداً يحقّق الإيمان، وذاك حين يوازن المؤمن بين المعطيات المختلفة فيختار أفضلها متنبّهاً إلى تبعات المغالاة والتفريط، فلا المؤمن بالقاسي المتجبّر ولا المسكين المهضوم. وما هو بالمغفّل المستغفَل ولا المتتبع لإخوانه على كلّ هفوةٍ وزلّة، إنما هو المدرك لواجبه وحقّه، الحليم الذي قد أدرك بفطنته أنّ هذه الدار إنما دارُ اختبار فأعطاها قدرها دون زيادةٍ أو نقصان. وما هذا الفهم والإدراك المتّزن إلا قوةٌ في شخص المؤمن وفكره، والمؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف!

أين تكمن الفتنة إذن؟

عند التأمل في آثار إعمال العقل في الأحكام مستنداً على العلم والفهم والإيمان، يكاد نصف الكأس الفارغ يوهمنا بامتلائه، غافلين عمّا لتلك العملية من جوانب قد تتسرّب إليها ذيول الفتنة.

لقد تطرّقنا في الأعلى إلى فكرة تحديد المساحات التي ينبغي للإنسان أن يشغل فيها نفسه ويُعمل فيها عقله متجنّباً خطر استغفاله فيها قدر الإمكان، وإنّا إن أردنا تفصيل ذلك لأمكننا القول بأنها مساحات تحتاج فطنةً في اختيارها أصلاً توقّياً من السقوط في الفتنة. إنه الاختيار الذي ينبغي على الإنسان فيه الموازنة بين خيرَي الدنيا والآخرة، بل على وجهٍ أدقّ؛ أن يعمل للآخرة، ويحصّل من خير الدنيا ما يصبّ في خير الآخرة والفوز فيها. وممّا يحسن التطرق إليه هنا هو أنّ لذلك الفوز ثمناً باهظاً قد يتطلب التعب والمشقة في محاولة تحصيل القدر الكافي الشافي من العلوم، والمشقّة في إخلاص النوايا للّه تعالى بعد تحصيل تلك العلوم. فما أكثر من تعب واجتهد في تحصيل علمٍ عظيمٍ ما، ثم نثر أجر ذلك السعي في مهبّ الريح بعد أن سيطرت عليه انتفاخات الكبر، وغرور المعرفة، وإغراءات الجدل اللامنتهي لأجل إرضاء النفس وفرض الرؤى الشخصيّة فقط، لا لأجل الوصول للحقيقة والمنفعة.

صورة تعبر عن اختيار الأولويات وهذا من الفطنة

وبالعودة لفطنة اختيار المساحات فإنّ أوّل المساحات المهمّة هي أن يكون المرء فطناً في أخذه العلمَ الشرعيّ، مستقياً من وحي العليم الحكيم فهماً يزرع في القلب يقيناً لا يتزحزح بهذا الدين، ويجعله واقفاً على برّ الأمان وإن كثر الهرج والخلاف، فطِناً يفهم الصحيح ويعرفه، أو فطِناً يعرض عن ذلك الخلاف إن كان نفعه أكثر من ضره، المهم ألّا يكون ذلك الإنسان إمّعةً، سائل الملامح الفكريّة، يتغيّر شكل اعتقاده ومبدئه ويتحوّر مع كلّ حملة تشكيكٍ وانتقادٍ تُشنّ على هذا الدين القويم.

وثاني المساحات المطلوبة هي علمٌ يجعل الإنسان قويّاً في معرفةٍ يختصّ ويتميز فيها سواءً كمجال عمل أو منبر نفعٍ للبشريّة ولهذه الامة تحديداً، وكم تحتاج هذه الأمة للعلماء والخبراء والأفراد الأفذاذ الأقوياء الذين يجمعون العلم والإيمان، والفهم والتواضع، ونفع النفس والغير بما علموا، علّهم يُعرَفون بالإسلام ويُعرَف بهم، وينتشلون هذه الأمة من وحل التغييب والاستغفال والتّهم الملقاة على دينها جزافاً.

الفطن هو الذي يعي أولويّات كهذه، ويتبحّر بعد التمكّن من كل مساحةٍ على مبدأ الأَولى فالأَولى، والمفتون هو الذي تجتره هيبة العلم في مساحةٍ ضيّقة إلى التعدّي في مساحاتٍ أخرى، آخذاً من هذا العلم رشفة، ومن ذاك قضمةً للتذوق، مفتياً هنا مستنكراً هناك، خالطاً المساحة في أختها لا عالماً بهذه ولا بتلك. تلك هي فتنة المساحات التي تجعل من الفطنة -إن وجدت- نقمةً على صاحبها وعلى أمته ممن يسمعونَ لغطه أو يتعلّمون منه.

أما الفتنة الأخرى للفطنة فهي الاتكال إليها والاعتماد عليها والاغترار بها حتى لا يعود المرء يصدّق سوى ما يرى، ولا يؤمن إلا بما يستطيع عقله المحدود تحليله وفهمه، مسدلاً الستار على الروح متناسياً إياها، مُغشياً عقله عن الوصول إلى منتهى الأمور ومبتدى الوجود، رامياً بدراسة الدين والمنطق عرض الحائط منتفخاً بأدواته القاصرة، وتلك الفتنة هي الأشد نقمةً والأعظم أخذاً بصاحبها إلى الهاوية، وتحضرني في هذا المقام مقولةٌ لفيرنر هايزنبرج صاحب نظرية ميكانيكا الكم الحائز علي جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٣٢: ” إن أول جرعة من كأس العلوم الطبيعية سوف تحوّلك إلى ملحد ولكن في قاع الكأس ستجد الله في انتظارك”.

خلاصة الأمر أنّ فتنة الفطنة؛ الطمع والغرور. طمعٌ بالتصدّر في مساحاتٍ أكثر، وجدلٍ أكثر، وكلامٍ دونَ فائدةٍ أكثر، وغرورٌ بالأدوات مَغشيّاً بالوسيلة عن الغاية، وبالطريق عن محطة الوصول.


الإحالات والمراجع

[١]: معجم مقاييس اللغة، ابن فارس (4/510)

[٢]: الكليات (1/456)، ومعه التَّعريفات، الشريف الجرجاني، 143))

[٣]: الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري،(1/85)