مقالات

تعليم الدين في زمن الوسائط المفتوحة: تعلّم الدين من غير معلم!

عندما كنت صغيرًا كانت أجمل اللحظات التي عشتها هي وقوفي في الأرصفة أمام بائعي الكتب، أطالع العناوين الشائعة والمرغوبة من العامة، من الروايات البوليسية إلى كتبٍ الطبخ والتمثيل، وهناك بالطبع الكتب التي تدعي أنها تعلمك اللغات الأجنبية من غير معلم في خمسة أيام أو في أسبوع…

لقد كان أسلوب هذه الكتب قائمًا على كتابة بعض الجمل المهمة بحروف عربية، ثم ما عليك –أيها المتعلّم- سوى أن تهجّئ هذه الكلمات لتصل إلى الادّعاء بأنك قد تعلمت اللغة في فترة قصيرة من غير معلّم كما يدعي الكتاب.

سؤال الموثوقية؟

فكرة هذه الكتب لم تكن سوى بداية القصة بتصوّري، ففي عصر الانترنت والوسائط المفتوحة، وفّرت كثير من المنصات في عالم الشبكة المفتوحة -وخاصة يوتيوب-مئات الفيديوهات لكثير من الموضوعات العلمية وغيرها، يقدّمها أشخاصٌ لا يمكن التأكّد من خلفيّاتهم، وهنا تبرز المشكلة؛ وهي أن هذه الفيديوهات لا تخضع للتدقيق، ولا تمرّ –في غالبيّتها- على مبضع الرقيب العلميّ[1]، حيث يتبادر بلا شكّ سؤال الموثوقية إلى عقل المشاهد، فما الذي يدفعُه للوثوق بهذا المحتوى، وهل كثرةُ التفاعلات بالإعجاب هي الطريق الصحيح للتأكد من الموثوقية؟

أم إن الباعث هو جِدَّة الفكرة التي تقدّم –وهنا نقول إن الفكرة الجديدة لا تعني أنها جيدة كما يتبادر إلى كثيرٍ من الأذهان-؟ أم إن المعيار هو كثرة المشتركين والمشاركين للفيديو أو المنشور؟!

بتعبير آخر: ما مرجعية الصحّة والبطلان في المعلومات المذكورة أو مصدرها؟

هذا السؤال يعني سؤال الموثوقية يكون واضحاً ومهماً في المواضيع الحساسة كالطب أو الدين، فكما أنه لا يجوز سماع نصيحة من شخص يقول شيئا متعلقاً بالطب إلا بعد فحص ما يقوله عند من يعرف الطب معرفة واسعة، فإنه كذلك لا يصح منطقاً السماع إلى من يقدم شيئًا حول الدين إلا بعد التأكد من صحة ما يقوله هذا الإنسان، ولعلنا نذكر هنا كثرة التسجيلات المصوّرة التي ظهرت في فترة كورونا حول مصدره وعلاجه، ولعلنا نذكر كيف أن غالبها كان دجلاً وتلفيقاً.

وإذا انتقلنا إلى الفيديوهات الدينية فإن الأمر لا يختلف، فيكفي أن تبحث بحثًا صغيرًا في اليوتيوب عن موضوع ما لترى كثرة المحتوى فيه من مختص وغير مختص؛ حيث إن كثيراً من “صانعي المحتوى” في العالم الافتراضي يقدمون سلاسل معينة عن موضوع ديني ما، ويحاولون أن يقدّموا رأياً معيناً أو أن ينتقدوا فكرة ما، إلا أنه في أيامنا هذه ظهر-إلى جانب ذلك- “موضة” الاستنباط المباشر من القرآن مع تغييب السنة ودون امتلاك أساس شرعي أو علمي.

تابعتُ أخيرًا فيديوهات –كل فيديو أكثر من نصف ساعة– عن كيفية الصلاة وأعداد ركعاتها بالاعتماد على آيات القرآن فقط، وتابعت فيديوهات أخرى في نفس الموضوع لشخص يستنبط أعداد الصلاة بنظام حسابي معقّد[2]، وكان الهدف من ذلك كله، إلغاء العودة إلى السنة!

هذه الفيديوهات القصيرة والسريعة في إيقاعها والتي تعتمد على المؤثرات الصوتية والصورية، هي تمامًا مثل كتب تعلّم اللغة من غير معلم، ذلك أن المعلم لا يهتم للتعليم السريع، بل بإنشاء البناء المعرفي القائم على أصول معينة، والذي يؤتي أكُله بعد جهد جهيد.

أبنية بلا أسس!

في كل نوع من أنواع المجالات العلمية والبحثية ثمة اختلافات في الرأي، ويصدق هذا في الطب والهندسة وغيرهما من مجالات العلوم التطبيقية والنظرية، إلا أنه بالرغم من الاختلاف، ثمة أصول عامة ومبادئ كلية تحكم هذه الاختلافات وتؤطرها، بحيث تجعل الاختلاف ممكنًا، لكن المشكلة في أنماط الفيديوهات التي أشرنا إليها وغيرها من مناشير العالم الافتراضي أنها لم تبنَ على أصولٍ واضحة ومتسقة مع بعضها، وكثيرًا ما يجري الحديث عن آراء ذاتية وشخصية قد تكون معتمدة على فهم ناقص أو نظر قاصر، ومن ثمّ فإنه لا يمكن الاعتماد عليها في التعلّم أو اكتساب العلم.

إن التعليم يحتاج إلى تخصص، والتخصص هنا لا يعني الدراسة في كلية معينة فحسب، بل أن يكون مطلعًا على مصادر الاختصاص مع فهم تاريخه وتاريخ تطور الآراء وكيفية استنباط الحكم من الأصول.

ومن مشاكل فيديوهات ومناشير العالم الافتراضي أنها لا تقوم على أرضية ثابتة من الأصول الفكرية، إنما يعتمد جمعٌ غفيرٌ من المؤثرين فيها على رصيدهم من المعجبين والمشاركين[3]، كما قد يعتمد بعضهم على حاجات المجتمع، فتستغل هذه الحاجة لتقديم رأي شخصيٍّ يقدّمه صاحبه وكأنه الحق الذي ليس بعده إلا الضلال المبين، بالرغم أن الشخص ذاته يقدم نفسه على أنه منافح عن حرية الرأي.

إن بناء الرأي الشخصي القائم على التفكير وفق أصول متسقة هو المطلوب، سواءً اتفقنا معه أو اختلفنا، فوجود الأسس يحاكِم البناء، وبه يظهر الثبات من الانهيار، وذلك كما قبل المسلمون سابقًا وجود اختلاف بين المعتزلة والأشاعرة مثلًا، كون الطرفين قد اعتمدا في إبداء تصوراتهم على قراءات معمقة وأصول واضحة.

يمكن القول إن فيديوهات “صانعي المحتوى” وغيرهم تعتمد الضغطَ على الوتر العاطفي لدى المشاهد، فيتم الانتقال على الفور إلى تلقين النتائج دون إبراز الأدلة المقنعة، ولدى مشاهدتي لعدد من الفيديوهات وجدت أنّ بعضهم يردُّ أحاديث كثيرة ممّا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه عقله لم يقتنع به ويكفي هذا دليلاً على أن الحديث مثلاً لم يتناسب مع فكره أو يَرُق لعقله[4]، ولكم أن تتخيلوا خطورة هذا الوضع فإذا فتحنا باب القَبول الشخصي معيارًا لأيّ فكرة؛ فهذا يعني أننا فتحنا باب “التشهّي الذاتي” الذي سينتهي بنا في دوامة من الاشتهاءات المتضادة.

أسطورة الاجتهاد الشخصي!

هنا قد يعترض البعض قائلاً بأن الاجتهاد مفتوح، وبأن ما يقوله صانع المحتوى إنما هو رأي قد يصيب وقد يخطئ، وللمصيب أجران وللمخطئ أجرٌ!

وددتُّ لو أنّ هذا الأمر يكون على هذا النحو، إلا أن هذا الادعاء لا يصح في باب التعليم ونشر الوعي؛ إذ إن جرم الإفساد والخطأ المتعمّد فيه مضاعف، لما له من أثر ممتدٍّ في عقول أجيال متتالية، كما أن مقولة “المخطئ له أجر” تتجه لمعنىً آخر، فالمجتهد المخطئ المأجور هو من حاز وأدرك شروط الاجتهاد وأولها معرفة القرآن والسنة معرفة تامة مع معرفته باللغة، واللغة هنا ليست مجرد قواعد نحوية بل الاطلاع على فقها ومنطقها، فكما لا يجوز الاجتهاد في معالجة المريض إلا ممن حاز فهمًا ومعرفة وممارسة بالطب، فكذلك لا يصح الاجتهاد في معالجة المسائل الدينية إلا ممن حاز المعرفة والفهم والاجتهاد في الدين.

وهنا لا بد من التنبيه إلى أنه ثمّة خلط خطير في زمن الوسائط المفتوحة بين نقطتين هما: المعلومات والتعلّم، حيث التركيز الأكبرُ على جمع المعلومات وإغراق المستمع بالكثير منها لإيهام المستمع بأن المقدم على اطلاع واسع وتبحُّر كبير، وهذا من آثار العصور الحديثة، ففرق بين المعلومة وبين العلم والتعلّم، إذ إن كثرة المعلومات دونما إدراك لها وهضمها لا يؤدي إلا إلى آلام في العقل وسوء تصرفات في السلوك، وذلك كحال من يكثر من أنواع الطعام فيصاب بآلام المعدة؛ إذ إن العلم يبدأ من حسن التعلم وحسن استخدام المعلومات وإدراك العلاقات من المنشأ إلى النتيجة ليصل إلى ترتيب منطقي من المعلومات إلى التعلم فالعلم.

في عصر الوسائط المفتوحة، ما الواجب؟

لعل هذا هو السؤال الأهم، فالدين عنصر مكمّل لمعنى الإنسان ومن دون الدين سيفقد الإنسان بُعده المعنوي؛ إذ إن انتفاء وجود الدين سيقطع الصلة بين الإنسان وبين الله؛ ولذا فإنه من الضروري أن يكوّن الإنسان تصورًا واعيًا وشاملًا عن الدين حتى يستطيع أن يستكمل حياته الإنسانية، ولا بد –بكل تأكيد- أن يكون ذلك التصور مبنيًّا على أسس متينة، وهنا يظهر لنا أهمية السؤال: “ما الواجب في عصر الوسائط المفتوحة”؟، وكيف لي أن أقوّم التصور الذي يقدمه شخص ما حتى آخذ منه؟

إنّ التعلّم الديني تخصُّص من الاختصاصات التي يحتاجها أي مجتمع مهما كان دينه، ذلك أن الدين عنصر أصيل في حياة الإنسان، نظرًا لكون الدين منظومة تعنى بالعالم الغيبي وبالبحث عن المعنى من الوجود، وإذا حصل أي اختلال في تصوّر مجتمَع عن الدين فإن حياته ستصاب بالفساد، وعلى هذا فإن المختصّين بالدين عليهم أن يكونوا على وعي كبير واطلاع واسع بالدين ونصوصه وأهدافه ومقاصده، إضافة إلى فهم لأبعاد الحياة والإنسان، وهنا أحيل إلى فكرة مفادها أن علوم الآلة – والتي تعني العلوم المساعدة لطالب العلم في فهم النصوص الدينية كالنحو والبلاغة والصرف والمنطق- تتغيّر حدودها ومساحاتها بحسب الاحتياج لها على تغيّر الأزمان، فقد يكون من الأفضل أن تنطلق علوم الآلة في عصرنا من علوم الاجتماع، ولا أعني أن يكون طالب العلم مختصًّا بها بل أن يكون مطلعًا عليها ومتابعًا لسيرها.

إنّ المعلم الديني يدرك فقه الأولويات في التعليم فلا يبدأ من بائه إلا بعد أن ينتهي من ألفه وهكذا، فهو خبير بتسلسل المواضيع وتراتُبيّتها وعلاقاتها مع بعضها، فلا يُقدِم على موضوع إلا بعد أن يؤسس له وهكذا، كما أن هدف التعليم الديني ليس إخراج المتخصصين في الدين -بالدرجة الأولى-، بل تخريج المثقّفين من ذوي التمكّن الديني والشرعي، كما أن ليس هدف هذا التعليم تأهيل الناس جميعًا لتقديم الفتوى؛ إذ إن الفتوى ليست عملية رياضية يمكن لأي إنسان القيام بها، وإنما هي عملية تقويم واسعة المدخلات ودقيقة الإجراء.

إن الواجب الأول –في عصر الوسائط المفتوحة- هو عدم التسرع في الاستماع وبناء القناعات بناءً عليها، أو على الأقل التمهّل في تبني ما نسمع في فيديوهات هذا العالم المفتوح إلى حين البحث والتمحيص والسؤال عن قيمة ما يُقدّم لي فيها، فالتريث وعدم التعجّل واجب يفرضه إيقاع نمط حياتنا،  وسؤال من نثق بهم ومن نعرفهم من الثقات العدول قد يكون دواء –مبدئيًّا- مانعًا للانكسار ودافعًا للنهوض بالتدريج.


[1] في أحد الفيديوهات يقدم أحدهم عدة فيديوهات لكيفية الصلاة وأوقاتها بالاعتماد فقط على القرآن دون الرجوع إلى بيان الرسول العلمي لكيفية الصلاة. والإشكالية أن مثل هذه الفيديوهات تلقى رواجا دون رقيب علمي.

[2] ثمة فيديوهات كثيرة تنطلق من أن القرآن هو المصدر المطلق والأوحد، ومن بينها قناة سمى صاحبها نفسه بالباحث وقناته بالتدبر في القرآن الكريم.

[3] فمثلاً، أشار أحدهم في فيديو عندما بلغ عدد المشتركين في قناته إلى مليون مشترك أن هذا دليل يشير إلى أهمية ما يقدمه انظر:
http://www.youtube.com/watch?v=jhXNqBGVlBc

[4] قدم أحدهم  – وهو مختص في الصحة النفسية كما يقول – برنامجا سماه روائع يوم القيامة، وقد قمت بمتابعته لأرى أنه خصص أكثر من حلقة ليرد عدد من الأحاديث لأنها غير متفقة مع العقل أو لمخالفتها – كما يدعي – للقرآن. ولم يقدم في سياق الرد أي دليل أو فكرة يمكن الاستناد إليها. والمشكلة في مثل هؤلاء الأشخاص أنهم يكسبون جمهورهم بالخطاب العاطفي الذي يقنّع بأنه عقلي.

لماذا يطغى التشتت الذهني في حياتنا؟

لا تسير الحياة على نمط واحدٍ أو خطٍ مستقيم، فهي في تفاصيلها متعرجة، وفي أحداثها مختلفة، فلا تدوم على فرح مستقرٍّ أو حزنٍ دائم، ومن ثمّ فإن طبيعة الحياة التقلّبُ على أنماط عديدة وأشكال مختلفة، مما قد ينشأ عنه ضغوطات تؤثر في حياة الإنسان وأفكاره تدفعه للتخبّط والتشتّت.

وليستوعب الإنسان ما حوله ويدركه، ويكون بمُكنته التفاعل معه برصانة وفاعليّة، والاستجابة للتحديات المحيطة به دونما ضياعٍ، فإنه يجب أن يكون في حالة ذهنية مستقرة؛ إذ من المؤكّد أنه بمقدار التشابك والتداخل على أي شيء في حيز التركيز، فإنه سيؤثر في مدى تركيز الإنسان ويشتته وبالتالي يقل استيعابه أو ينعدم.

تخيل أنك تجلس مع طفل يمسك بهاتف ذكيٍّ في يده وعيناه ثابتتا النظر والتحديق في شاشته، وعقله سابح في تفاصيل الألعاب أو الفيديوهات أو التطبيقات التي يتابعها، فإنه من المؤكد أنه لن يستطيع جمع شتات تركيزه ويصبر ليركّز فيما تقول في تلك اللحظة.

إن صفة “التشتّت الذهني” باتت ظاهرة طاغية بين أبناء هذا الجيل، ولا تقتصر على الأطفال وإنما تتعدّاهم إلى مختلف الفئات العمرية، ولن يكون من المبالغة الزعمُ بأن جزءًا يسيرًا من الناس تقريبًا قد سلم من ظاهرة “التشتت الذهني” والفكري

مفهوم التشتت الذهني

لنبدأ الكلام في هذه الظاهرة ضمن نطاقها الضيّق micro-level أي على الصعيد الفردي؛ حيث عرّفت جمعية علم النفس الأمريكية التشتت الذهني -mind-wandering- بأنه حالة لا يظل فيها التفكير مركزًا على المهمة المطروحة، بل يكون متنوعًا وعفويًّا وغير مستقر1))

في دراسة أجراها كلٌّ من  أولريك نيسرUlric Neisser،  وروبرت بيكلين Robert Becklen في إطار التشتت الذهني، اختبرا الانتباهَ المركَّز على شيء واحد بوجود مؤثرات أخرى في المجال البصري، حيث أُجري البحث على أربع وعشرين طالبًا، فكان الاستنتاج الأهم في هذه التجربة أنه لا يمكن نفي الأشياء الموجودة في المجال البصري من الانتباه، وأنها تزيد التشتّت بكثرتها، وحتى إن كانت غير مركّز عليها من خلال المشارك في التجربة، كما خلصت الدراسة بناء على التجربة ذاتها أن التركيز يقل إلى النصف عند تعدّد المهام (2)، فكيف إذًا سيكون مستوى التشتت في ذهن يتعامل مع العديد من الألعاب وقنوات التواصل في الأوقات نفسها، وكم مقدار التركيز والثبات الذهني اللازم لتغطية كل تلك المهام؟

صورة تعبيرية عن التشتت الذهني

يوضّح علم الأعصاب أنّ المناطق التي تتحفّز في المخ عند تعاطي المخدرات ولعب القمار وأي إدمان، مثل اللوزة amygdala هي نفسها التي تُحفَّز عند استخدام وسائل التواصل وألعاب التقنية(3)، كما أن هذا العالم الافتراضي يزيد من احتمالية الاكتئاب والقلق والوحدة عند مستخدميه بكثرة (4).

إن من أعظم احتياجات الإنسان التي تدفع عنه الكآبة هو احتياجه إلى حس الجماعة والانتماء، والأنس بالآخر، وإذا ما تأملنا واقع اليوم فإننا نرى أن الأنس بالآخر الافتراضي قد طغى على الأنس بالأخ الحقيقي، بل إنه أصبح متنفَّسًا وذريعة للاستغناء عن أي شيء يمكن أن يعكّر مزاجه، فالبديل دائمًا متوفر، ولا تحتاج سوى ضغطة زرٍّ للوصول إليه(5).

من التشتت الأصغر إلى التشتت الأكبر

نتطرق الآن إلى المجال الأكبر macro-level  من أنواع التشتت، ونقصد به التشتت الفكري، الذي هو –في الحقيقة- المظلّة الجامعة للتشتت الذهني، وإن كان الاثنان يؤثران في بعضهما البعض، إلا أن تأثير التشتت الفكري في التشتت الذهني يشابه تأثير الكبير في الصغير، والعكس صحيح.

إن قنوات التواصل والتطور الهائل في التقنية جاءت على جسد مهيأ للتماهي معه، فلتغيّر العالم جدًا في مجال التواصل والاتصال تأثير كبير في ذلك، فمثلًا، وقوع خبر في أقصى الشرق يحتاج فقط إلى بضع دقائق إن لم يكن ثواني ليصل إلى أقصى الغرب، والوصول إلى المعلومة سهل جدًا والتواصل الافتراضي زاد في يسر ذلك، لكن هذا الانفتاح الهائل لم يكن محمودًا دائمًا، فكما نقلت السلع الأفكار قديمًا، مثل الوجبات السريعة والجينز وغيرها، ينتقل الإنسان من حيز التعامل مع السلع، لأن يصبح نفسه سلعةً أيضًا..

لنقف –على سبيل المثال- عند مصادر المعرفة وإصدار الأحكام للأجيال السابقة كجيل الثمانينات، فقد كانت أكثر ارتباطًا ومعرفة بالدين الإسلامي ممن جاء بعدهم (6) إذ إن الأجيال التي بعد هذا الجيل منفتحة على كثير من مصادر العلوم والمعرفة، بحيث إنها بدأت تشكك كثيرًا منهم في مصادر التلقي الأولى لدى المسلمين، أي القرآن والسنة.

ويعود السر للتأثر المتصاعد بأفكار الحداثة التي غطّت السطح، حيث بات من الطبيعي أن تجدَ العشرات من الناس ناقدين لكل شيء، ومؤمنين بأن النسبية المطلقة هي القول الفصل وأنه ليس هناك قطعيات للإيمان بها، وأن البشر قد تجاوزوا فكرة الحقيقة، فما بعد الحداثة أسهم أيضًا في تعزيز ما يسمى -post truth- ببعد الحقيقة(7)،

كل هذه الأفكار لاقت التعزيز من خلال قنوات التواصل وألعاب الفيديو، فكانت –من ناحيةً- مسببةً للإدمان والجهد العقلي واستنزاف طاقاته، وعلى صعيد آخر ناقلًا مهمًّا لأفكار وتصورات زائفة، تترسّخ يومًا بعد اليوم في أذهان الناس لطول الألفة والتكرار.

السعي للاستقلال

حين ننتقد وسائل التواصل فإننا لا ندعو إلى القطيعة الكاملة معها، ولكننا نحث على تقنين كيفية استعمالها بالطريقة التي لا تجعل منها إدمانًا وشهوة جامحة، أو نمطًا حاكمًا طاغيًا، وقد نستخدمه للوصول إلى المفيد منها الممكن منها وترك غير ذلك، ولكن يجب علينا ألّا ننسى أننا في واقع ليس من صنعنا -كما قال الدكتور عبد الوهاب المسيري- وعليه فإنه يجب علينا فهمه ومن ثم التأثير فيه.

هذا يقودنا إلى ملاحظة مهمة وهي أنه باستطاعة المسلمين السير نحو الاستقلالية الاجتماعية والثقافية من خلال قنوات التواصل الاجتماعي، فإذا كان الاستقلال السياسي غير ممكنًا حاليًا فإن الاستقلال الاجتماعي ممكن جدًا، ويمكن باختصار وببساطة إنشاء مواقع تواصل اجتماعية ضخمة تكون فيها اليد العليا للمسلمين وهم من يسنون القوانين فيها ويضعون فيها معايير ما هو قابل للنشر وما هو غير قابل له، فعلى سبيل المثال إن أكبر مكتبة لمحاضراتنا المرئية والصوتية نحن المسلمين هي اليوتيوب، وبذلك فإنا قد وضعنا أهم ما نملك في أيدي غيرنا، وليس في هذا ضير إن نفع الناس، إلا أن المشكل هو أن المتحكم فيه يضع قال الله وقال رسوله، مع ذات السوية التي يضع فيها جماعات LGBT بل ربما يكون لهم أفضلية التقدّم والترويج والدفاع، وما إلى ذلك من التفاهات، وفي الأحداث الأخيرة التي جرت في فلسطين رأينا أن كلًّا من يوتيوب وسناب شات وانستغرام وغيرهم من مواقع التواصل الاجتماعية، حاولت حجب الأصوات المدافعة عن فلسطين وإسكاتها!

ألا تستطيع أمة فيها قرابة ملياري إنسان أن يكون لها يوتيوبها الخاص بها بحيث ان المشاهد والمتابع لا تؤذى عيناه بالإعلانات الخادشة، أو دفعه لمشاهدة ما لا يريد بالاطلاع على خصوصيته واستخدام الخوارزميات algorithms لمحاولة التحكم به، على خلاف لو كان “يوتيوب” موجها بقيم الإسلام فإنه سيهدف لبثّ أكبر عدد ممكن من الفوائد سواءً العلمية والاجتماعية أو المادية.

ولو قمنا بحسبة يسيرة وقلنا إنه يوجد في العالم الان قرابة ملياري مسلم، وعلى أقل تقدير أيضًا يتوفر لثلث هذا العدد الامكانية للوصول إلى الانترنت، إضافة إلى وجود خمسين مليون على الأقل نشطين في مجال الانترنت والتواصل، وعليه فإن احتمالية نجاح مشروع مثل هذا كبيرة جدًا خصوصًا، إذا تعاون الشباب المسلم في مشارق الأرض ومغاربها للوصول الى هذه الاستقلالية التواصلية الاجتماعية الثقافية.

بكل تأكيد هناك تحديات كبيرة أمام مثل هذه المشروع، مثل توفير الريسيفيرات الخاصة المشغلة لها، إلا أنها تبقى تحديات في حيز الممكن.

ما الذي يمكن فعله؟

إضافة إلى حاجتنا في الاستقلالية الاجتماعية والفكرية، فإنه للمساهمة في التخفيف من وطأة التشتت الذهني والفكري ينبغي علينا أولًا تعزيز الهوية الإسلامية لدى الأطفال والشباب وتكثيف الجهود للتعريف بالقرآن الكريم قراءة وحفظًا وتفسيرًا وتدبرًا، إضافة إلى تقوية ارتباطهم بالسنة النبوية والنبي صلّى الله عليه وسلم، صورة وسيرة وسريرة، وتعليم أبنائنا أن ينظروا لما حولهم بعيونهم وما أخذوه من صافي الإسلام وصحيحه، وتشجيعهم على التفكير الناقد، لأن أغلب الأفكار المستوردة تحمل في طياتها هشاشتها، إلا أن لتأثير سلطة الثقافة الغالبة دور في ترسيخها.

وهذا يقودنا الى جزئية مهمة وهي معرفة التاريخ وفلسفته والجغرافيا، وأهميتها في صناعة التاريخ، وقد قيل: إن الجغرافيا أم التاريخ، والتاريخ هو منبع الأفكار المؤثرة في العالم حاليًا، وخصوصًا وليس –حصرًا- دعاوى ونظريات الليبرالية الغربية، والنيوليبرالية، والرأسمالية، والداروينية.

في هذا الإطار لا بد –أخيرًا- من التأكيد على أهمية وضرورة تنشيط دور الآباء والمربين في زيادة الوعي لدى الأطفال، خصوصًا  عبر التعليم والتدريب على تنظيم الوقت وإدارة المهام، وإعطاء فرصة للتعلم بالترفيه والاستكشاف الذاتي “الموجّه”.

ختامًا، فإن التشتت بشقيه الذهني والفكري موجود وله تأثير على جميع الفئات العمرية، خصوصًا الأطفال والشباب، إلا أنه يمكننا السعي لفهمه ومعرفة أسبابه ونتائجه، وتقديم حلول له بحول الله وقوته.


الإحالات

https://dictionary.apa.org/mind-wandering

Selective looking: Attending to visually specified events https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/0010028575900195

Excess social media use in normal populations is associated with amygd… https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0925492717302159

 

https://www.google.com/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=&ved=2ahUKEwjx3dOl84vvAhVBXxoKHZ56DaUQFjAJegQIBxAD&url=https%3A%2F%2Fcreativematter.skidmore.edu%2Fcgi%2Fviewcontent.cgi%3Farticle%3D1011%26context%3Dsocio_stu_stu_schol&usg=AOvVaw3oo4_1Rp2iygnfnrdwmwAB

 

https://doi.org/10.1177/0973258617708367

الجيل الصاعد، أحمد السيد

https://www.philosophytalk.org/shows/postmodernism-really-blame

احرص على ما ينفعك

يقف الإنسان أمام وسائل الإعلام مُتابعاً لما يحدث في هذا العالم، فكم حصد الوباء من أرواح، وكم هُجّر أشخاصٌ من أوطانهم، وما آخر الكوارث التي حصلت، وماذا عن أخبار الإلحاد والعالم الغربيّ الذي تنتكس فطرته شيئاً فشيئاً، ماذا عن التفاهة المنتشرة في مواقع التواصل، وعن ضياع الأجيال، ماذا عن الحروب، ثُمّ يتساءل، ما الذي عليّ فعلُه؟

في البداية لابُدّ أن نعلم بأنّنا نعيش على هذه الأرض لمدةٍ محدودة، وبأنّ مدة الإقامة ستنتهي مهما طالت، والله تعالى قد وزّع الابتلاءات على البشر، كُلٌّ حسبما يُطيقُه، وقد أعلَمَنا في كتابه بوضوح بأنّه تعالى لا يُكلّف نفساً إلا وسعها، ونتيجة الامتحان في تمايز الناس ما بين صابرٍ وشاكر، وساخطٍ وغافل.

مِمّا لا شكَ فيه، أنّ المسلم يهتم لأمر إخوانه المستضعفين، ويهتم لأمر أُمته في صلاحها وفسادها، ومن واجبه أنه لو كان يستطيع المساعدة أو الإصلاح بقدر استطاعته أن يفعل ما يستطيعه، وإن لم يستطع فعليه أن يتذكرهم في دعاءه.

ثُمّ ماذا بعد؟

بعد ذلك عليه أن يتذكّر الحقيقة التي تقول: إنّ كل بلاءٍ يقع بالمسلمين، ليس في قدرتك رفعه؛ فإنّ الله لن يسألك إن لم ترفعه[1].

وهنا، نستحضر قصة آل ياسر في بداية دعوة الإسلام، حيث كان المسلمون قلّة قليلة، يُخفونَ إسلامهم عن المشركين، قال جابر رضي الله عنه: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمّار وأهله وهم يعذَّبون فقال: (أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ، وَآلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ) [أخرجه الحاكم في المستدرك برقم: 5666]، والشاهد هنا بأنّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد أرجَأ أمرهم إلى الآخرة، فلم يكن حال المسلمين آنذاك يسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم، وكذا أمرُ بلال بن رباح، وسؤال الصحابة للرسول -عليه الصلاة والسلام- ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصرُ لنا؟

ففي الحديث: عنْ أبي عبدِاللَّهِ خَبَّابِ بْن الأَرتِّ قَالَ: (شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟

فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) [أخرجه البخاري في صحيحه برقم: 6943]

فالرسول -عليه الصلاة والسلام-  هنا يأمرهم بالصبر، ويُكرر على مسامعهم حقيقة البلاء في الدنيا، وحقيقة عدم بقاء الدُنيا على حالٍ واحد، حيث تتعاقب الأحوال مع مرور السنين، والأهم من ذلك أنّهم لم يتوقفوا عن العمل ولم يتراجعوا عن دينهم وعن الدعوة إليه رغم القلّة والضعف، ورغم أنّهم غرباءٌ بين الناس، والغربة مع الخوف ومع رؤية الإنسان للطريق الطويل المُظلم الذي لا يرى النور في آخره، كُلُّ هذا قد يُقعِد الإنسان عن العمل، ورُبّما يُقعِده عن الدعاء، وقد يدفعه للهرب بالاتجّاه والطريق المُعاكس للحق، حتى يدفع عن نفسه الشعور بالغربة، فيذهب إلى السراب يحسبه ماءً يروي به عَطشَه، حتى إذا جاءَهُ لم يجدهُ شيئاً.

هروبٌ إلى الله أم هروبٌ إلى الوهم؟

وسط هذه الظروف وأنواع البلاء المختلفة في الدين والدنيا، تتعدّدُ طرق هروب البشر، ما بين هاربٍ إلى الحقّ وهاربٍ إلى الباطل، إلا أنّ طريق الحقّ واحد، وطرق الباطل كثيرةٌ مُتعدّدة.

خُلق الإنسان وهو يُدرك بفطرته أنّ الدنيا هي ليست دار المقام، ففي داخله شيءٌ يُخبره أنّ هذا المكان لا يمكن تحصيل السعادة الكاملة فيه، وبأنه لابُدّ من الكدر والهمّ فيه، ومن هذا المُنطلَق، يبدأ الإنسان رحلته في الهروب.

بعض الناس يظنون أنّ النجاة تكون بتحصيل المال، أو بالهجرة إلى إحدى دول الأحلام، حيث اللذة التي لا تنتهي والانفتاح والأموال، ثمّ إن رحلوا إليها لا يلبثون إلا أن يعلموا بأنّها لم تُحقّق لهم فردوساً أرضيًّا كما ظنّوا فيعاودون الركض والهرب ويطلبون المزيد، يريدون رفع سقف اللذة، إلا أنه مهما ارتفع لا يجدون شيئاً يشفي مرادهم، إن هو إلا سرابٌ وغمٌّ وخوفٌ من فقدان الدنيا يؤرّقُ مضاجعهم.

وبعض الناس يهربون للشهرة ومواقع التواصل، وكذا حالهُم كحال مَن في المثال الأوّل، وليس بالضرورة أن تكون طُرق الهروب مُكلفةً كهذه، بل لعلّ كثيراً من الناس يهربون إلى إدمانٍ مجانيّ، يظنّونه هيّناً، وهو في حقيقته خطيرٌ جداً.

الهروب إلى السجائر، أو إلى مواقع التواصل الاجتماعيّ، أو إباحية المقاطع الفاحشة، الهروب إلى الأفلام والمسلسلات ومجالس اللغو، أو إلى عيادات التجميل، إلى الألعاب الإلكترونيّة والأسواق، اللجوء إلى الأغاني، الإمعان في الاستهلاك والتعلّق بالبشر، يدمنون ذلك كله ويطلبون المزيد والمزيد منها، فلا تزيدهم إلا خوفاً من فقدان اللذّة، ولا تزيدهم إلا تعاسة حتى وإن كان ظاهرها السعادة، وطُرق الباطل لا تنتهي كما أسلفنا.

ولأنّ الإنسان بفطرته يبحث عن الجنّة، فالطريق الحقيقيُّ للوصول إليها واحدٌ فقط، جاء الرُسُل فوجّهوا البشر إليه، وهو طريق العمل والتعب والمُجاهدة، مُجاهدة النفس عِلماً وعملاً، عملٌ مستمرٌ يشمل أعمال القلوب والجوارح من خلال الطاعات وترك المعاصي بعد العلم بما لا يسع المسلم جهله من الدين، جدولٌ يوميٌّ يضعه الإنسان لنفسه فيه أقلّ القليل مِمّا ينبغي للمسلم فعله، وحينما يُردّد الأذكار يُدرك معانيها فلا ينسى الهدف من وجوده في الدنيا، ولا ينسى أنّهُ سيُحاسب عن كلّ دقيقة تمضي من وقته، وعن جميع تفاصيل عمله وعِلمه وماله وأهله ودوائره القريبة، وعن أمره بالمعروف وإنكاره للمُنكر ولو بقلبه.

يقول الله تعالى على لسان نبيّه: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: ١٥٣]

هذه هي معركة الإنسان الحقيقيّة، سواء أَخرَج من تحت الأنقاض فاقداً أهله، أم دخل السجن مظلوماً، أم عاش حياةً مطمئنةً آمنة، أم عاش في أوضاعٍ اقتصاديّةٍ سيئة، فمعركة الإنسان أينما كان، في أن يختار طريق الهروب الصحيح، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: ٥٠].

الزم ثغرك

يقول عليه الصلاة والسلام: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها) [أخرجه الإمام أحمد في المسند، والبخاري في الأدب المفرَد]، من هنا نعلم بأنّ الله سيُحاسبنا على أدوارنا وأعمالنا، حتى وإن كانت الدنيا في أسوأ الأحوال، فحين تقوم القيامة أيختار الإنسان البكاء والتوجُّع على الأطفال الجرحى في الحروب في منشورٍ ما، ثُمّ يُغلق التطبيق لينتقل إلى مشاهدة فيلم، يحسبُه مُهدّئاً، أم يدعو للضعفاء في الأرض ثمّ ينتقل إلى معركته الحقيقيّة وميدان عَمله؟ أم هل يستمر بالشكوى من القرارات الظالمة من المسؤولين ومن سوء الأوضاع الاقتصاديّة، ثُمّ يهرب إلى سجائره، ويسوّغ هروبه؟ أم يترك أمر الظلم والظالمين لِله ويمضي في طريق الحقّ رغم جميع الظروف؟

وكذلك نقول في أوضاعنا الفكرية والسلوكية، عندما يتعرض الإنسان لانتكاسة الواقع والسلوك والفطرة، هل الواجب عليه أن يبقى في صراعٍ مع نفسه وقَلقٍ مستمر مِمّا يحُلّ من إشكالاتٍ في تفكير الشباب وعقائدهم وضياعهم لأوقاتهم، مع يأسٍ ودون عملٍ حقيقيّ في إصلاح نفسه، أم يحاول الإصلاح بقدر ما يستطيع وقد هدأَت نفسُه، وعَلِمَ أنّ هداية القلوب وإصلاح الأمم بيد الله، ويبدأ من مجاهدة النفس أولاً؟

لعل الأغلب يقول: نعم، لابُدّ أن من الانتقال إلى ميدان العمل، وهنا لا ندعو إلى عدم الاهتمام بشأن المسلمين، بل على العكس، يتألّمُ الإنسان لألمِ أخيه المُسلم، ويتألّم الإنسان لسوء الأحوال إجمالاً في بلاد المسلمين، لكنّنا الآن لا نملك حكمًا إسلاميًّا عادلاً صحيحاً في أغلب بقاع العالم، بل إن الواقع يقول إنّنا في حالة ضعف، وهنا لا يملك المسلم سوى أن يبذل بقدر استطاعته من السعي لتنمية فكره ووعيه ودعم نهضة الأمة وإن بعمله اليومي المستقيم إلى جانب اللجوء والدعاء، مع التسليم والإذعان بحقيقة توزيع البلاء على الناس من قِبَل الله تعالى، وبحقيقة أنّ الأُمم تضعف وتقوى ولا تبقى على حال، لأنّ الله هو الأعلمُ بما يحتمله عباده، وبما يُصلحُ به عِباده، وبأنّ هذه سُنّة الحياة.

أقتبس ههنا للأستاذ أحمد سالم إحدى نصائحه الثمينة، يقول: “إذا لم تُضع واجباً أوجبه الله عليك ينصرون به أو يخفف عنهم البلاء تخفيفاً حقيقياً فلا بأس عليك، ووالهم بقلبك ودعائك وواسهم بما تستطيع، ولا تنصرف عن غاياتك التي اخترتها لتخدم بها دينك.

وإني والله شهدت في العشرين سنة الأخيرة أناساً ينتقلون هكذا من حادثة إلى حادثة لا هم يؤثرون في تلك الوقائع تأثيراً ملموساً يقابل أوقاتهم وجهودهم التي ينفقونها، ولا هم صنعوا شيئاً حقيقياً في التحديات القريبة منهم التي كانوا مؤهلين بالفعل للتغيير والإصلاح فيها.

إياك أن يدخل لك واحد من الناس من هذا الباب فيلفتك عن عملك لدين الله فيما تحسن وبما تحسن فيحيلك إلى ثرثار تجعجع بلا طحين، لا أنت رفعت البلاء ولا أنت عملت لدين الله صالحة تقرب الناس إلى ربهم وتقربك إلى رضاه.”[2]

ولنا أن نزيد هنا ونقول أيضاً حتى الدوائر القريبة من أهلٍ وأصحاب، من بعد نُصح الإنسان لهم ومحاولاته المستمرة في الإصلاح بكافّة الطُرُق وبكُلّ ما يستطيع، وبالدعاء بعد بذل الأسباب؛ لن يُسألَ بعدها عن النتيجة، فالإنسان مسؤولٌ عن السعي فقط، ولا يملك أحدٌ قلوب العِباد، بل إنّ معركة كل إنسان الحقيقيّة تبدأ من تزكيته لنفسه.

والآيات التي تدور حول إصلاح النفس وتزكيتها أوّلاً كثيرة، نورِدُ بعضها ههنا، كقوله تعالى: {منِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: ١٥] وقوله تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: ٦] وقوله جل في علاه: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام: ١٠٤].

فلا بُدّ إذن للإنسان أن يلزمَ ثغره مهما تغيرت الظروف وتعاقبت، ولا يهرب إلا باتجّاه الحقّ بعيداً عن الباطل.

مهما بدَت صور الباطل أسهل وأجمل وألذّ، ومهما حاول الأعداء من الجنّ والإنس تزيينها، فليعلم الإنسان أنّها راحةٌ كاذبة، ولذّةٌ مؤقتة، بل إنها تحمل ألماً شديداً في طيّاتها، وليتأكّد كذلك بأنّ طريق الحقّ وإن بدا صعباً، وإن كان يبعث الشعور بالغربة ففيه الراحة الحقيقيّة، وفيه اللذّة التي لا تنتهي ولا تموت “فأريحوا أنفُسكُم بالتعب”[3].


[1] . من جملة ما نشره أ. أحمد سالم، على قناته في تيلغرام.

[2] من منشورات أ. أحمد سالم في قناته على تيلغرام.

[3] مقولة للدكتورعبد الرحمن ذاكر الهاشمي.

ماذا تعلمت عن الحياة من خلال مشاهدة المسلسلات؟

قل لي ما تتابع، أقل لك من أنت!

قد تبدو هذه جملة سطحية وتعميمية، إلا أن نظرة سريعة إلى مقال “تبادل آراء” لصحيفة نيويورك تايمز قد تمنحنا نوعاً من الاتفاق على المقدّمة المفترضة، فقد نشرت الصحيفة المذكورة مقالاً بعنوان “ماذا تعلمت عن الحياة من خلال مشاهدة الأفلام؟” ( What have you learned about life from watching movies)

حيث افتتحت المقال بمقدمة للكاتبة مانولا دارجيز Manohla Dargis: “الأفلام تعلمنا كل شيء، كيف نطمح ونحلم وندخّن ونلبس، وكيف نحب، وكيف نضحّي، سواء لأجل الحب أو الوظيفة والعمل؟”، ثم اختتمت المقال بسؤال عام لمن يحب مشاركة رأيه بالإيجاب أو النفي عن تجربته مع الأفلام.

بعد الاطلاع على ردود اثنين وسبعين مشاركًا، لم أُفاجأ بأن المعظم موافقون بشدة ويشاركون تجاربهم وانطباعاتهم عن الأفلام، فقال أحدهم: حتماً ستكون إنساناً مختلفاً عند خروجك من قاعة السينما عما كنت عليه لحظة دخولها!

وآخر يقول مستعيناً بالتاريخ بأن هذه الصناعة العظيمة التي بدأت ١٨٨٨ ما زالت إلى اللحظة تتطور مع تطور الإنسان وتعينه على الإجابة عن أسئلة الحياة المختلفة، -وكأن ١٢٠ عاماً من حياة البشر وتجاربهم المختلفة كافية لاستخلاص الأجوبة!! فكيف إن كانت هذه المسيرة تخطّ منحنىً متسارعاً مبتعداً عن أي وحيٍ سماوي!- ويزيد آخر بأنه تعلّم كل شيء عن الحياة من خلال مشاهدته للأفلام!

السينما والطريق لرسم الثقافة

وجدَتْ هذه البلاد التي تأسست من عدة قرون -نصفها الأول دموي والآخر نزاعات عرقية- نسيجَها الاجتماعي متبايناً ومختلفاً، لا أعراف أو حتى أهداف مشتركة تسمو عن المأكل والمشرب وأساسيات العيش، فكان لا بدّ من الوصول إلى ضمائر الناس ونفوسهم لمحاولة التوفيق ربما ورسم الثقافة العامة للبلد الجديد، وقد حقق التلفاز هذه الغاية بجدارة؛ إذ كان يبثّ للناس على مدار الساعة الصورة المثالية للمواطن والعامل والموظف الأمريكي، والصورة البراقة للأسرة المتحابّة المتراحمة، والصورة الجذابة لما يجب أن تكون عليه الطلاب والطالبات في الثانويات والجامعات، ثم تصبح المهمة على عاتق المشاهد، لمحاولة الوصول إلى تلك الحالة التلفزيونية.

ما يثير العجب هو أن تُباع نفس الخلطة إلى بلادٍ وحضارات ضاربةٍ في التاريخ منذ القدم، كوّنت عبر آلاف السنين أعرافاً وطرائق معيشية عريقة استوَت بعد أن استقت من الوحي قيمها نموذجاً يُحتذى به في وقتٍ من الأوقات، لينقلب الحال وتصبح الدراما والخبائث من الأفكار هي ما نقتدي به ونستقيه، مُعرِضين عن كنوزٍ تركها لنا الأسبقون، ويقدمها الآن بعض المعاصرون بفضل الله.

ابدأ العمل وتفكّر!

كفانا جلوساً على مقاعد الحسرة، وبكاءً على الأطلال، ولنعد إلى الواقع، إلى ساعات النهار الأربع والعشرين التي تملكها، إن رأس مالك وحقك الوحيد الذي لا ينازعك فيه أحد هو هذه الساعات التي تُمنَحُها كل صباح من الحيّ القيوم بلا مقابل، فهي فرصة جديدة لتدارك ما فات، وحبل ودٍّ للاقتراب من عتبات رضوانه، فأنت من تقرر كيف تستهلكها.

لن أُدخلك في متاهات المؤامرات أو أقول إن هناك من يجلس ويخطط ليعبث بوقتك وبباكورة أيامك والسنين الذهبية من شبابك، فأنت أبسط من أن تُنفق عليك هذه الجهود والأموال! لكن، أتعرف من هو الأبسط منك والأقل شأناً؟

هو ذاك الكاتب الذي حمل قلماً يخط فيه سيناريوهاتٍ عن عائلات يُقال إنها من عندنا، تتلاقى وتخون وتسرق وتكذب وتقيم علاقات غير شرعية وكل ما يمكن أن يخطر على باله من شطط وإمالة (فكل ذلك جذاب للتسويق)، ويعينه على ذلك إنسان آخر أقل حظاً بمهارات إخراجية يحوّل المكتوب على الورق إلى مشاهد حقيقية بالاستعانة بأشخاص قرروا تكريس عمرهم للتمثيل، واحتراف تحويل خيال شخص ورؤية شخص آخر إلى شيء يشبه الواقع (إذا غضضنا البصر عن الأجندات والأهداف)

صورة مسلسلات وأفلام

كل هؤلاء الأشخاص الذين ليسوا نجوماً ولا لامعين، راهنوا على الساعة والساعتين التي ستقدمها لهم بالمجان، وصبروا وعملوا بلا كللٍ ولا ملل، ودعّموا أنشطتهم بإعلانات وأموال طائلة تُنفق حتى تترسخ عندك قناعة أنك تحتاج متابعتهم لتتعلّم عن الحياة وأهوالها وتعرف الناس وغدرها، والنساء و”كيدهن”، ومكر الرجال، وجشع الأغنياء ومأساة الفقراء…. إلخ.

وعلى فرض أنك واعٍ لذلك كله، وأنك تقضي هذه السويعات للترفيه، أفيُعقل أن تبني جداراً، وتتعب على رصف حجارته، ثم من باب الترفيه تبدأ تصدّعه بطَرْقاتٍ من هنا، وضربات من هناك؟

هذا الجدار هو عقلك ونفسك اللذان تحتاجهما لتواجه الحياة بنفسية مستقرة وشخصية متّزنة خالية -قدر الإمكان- من حوارات الدراما وردّات الأفعال مسبقة الصنع والتعابير الجاهزة، كما في عبارة “أنا حدا كتير….” التي ظهرت وانتشرت قبل أكثر من عشر سنوات إثر ظهور مسلسل سوري يكرر هذه العبارة في كثيرٍ من لقطات السيناريو، وعلى ألسنة العديد من شخصيات المسلسل التي تتكلم بهذه الطريقة، وما هي إلا عدة أشهر إلا وصار الحوار بين الناس يتضمن الكثير من “أنا حدا كتير”، وأترك لذاكرتك مهمة إيجاد تعابير ومدخلات مشابهة، وربما من نوع آخر.

الترفيه ضرورة أم حاجة

أجاز الإسلام النشاط الترويحي الذي يعين الفرد المسلم على تحمّل مشاقّ الحياة وصعابها، والتخفيف من الجانب الجدي فيها، ومقاومة رتابتها، شريطة ألا تتعارض تلك الأنشطة مع شرائع الإسلام وأوامره، أو يكون فيها إشغال عن عبادة مفروضة، والأصل في ذلك الحديث الذي في صحيح مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: (كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَعَظَنَا فَذَكَّرَ النَّارَ قَالَ ثُمَّ جِئْتُ إِلَى الْبَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ الْمَرْأَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَافَقَ حَنْظَلَةُ، فَقَالَ: مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَقَالَ: يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ). [أخرجه مسلم في الصحيح]

فمعنى هذه العبارة –أي (وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) أنه “لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُنَافِقًا بِأَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ عَلَى الْحُضُورِ وَفِي وَقْتٍ عَلَى الْفُتُورِ، فَفِي سَاعَةِ الْحُضُورِ تُؤَدُّونَ حُقُوقَ رَبِّكُمْ، وَفِي سَاعَةِ الْفُتُورِ تَقْضُونَ حُظُوظَ أَنْفُسِكُمْ” [المباركفوري في شرح سنن الترمذي]، وهنا يُترك كل شخص لضميره ليعرف كمية العبادات الضئيلة التي يُمارسها يوميّاً.

في ناحية أخرى، فإن أغلب من يقضي وقته في الترفيه، سواء بمسلسلات التلفاز أو ألعاب الهاتف، فإنه بعيدٌ كل البعد عن الإنجازات الجادة –ولا أظن أننا بحاجةٍ لإحصاءات واستطلاعات لإثبات ذلك- فوحده من يشعر بتعب ولذة الإنجاز يقدّر قيمة نفسه وقيمة وقته ولمن يعطي سمعه وأذنه وانتباهه.

متاهات السوشال ميديا

إن كنا ما زلنا حديثي عهد بهذا الفخ الجديد الذي وقع فيه حتى أكثرنا انشغالاً واجتهاداً، فخ إضاعة الوقت في متاهات “الماجَرَيات” التي تبثها لنا يومياً وسائل التواصل الاجتماعي دون توقف أو كلل أو ملل، فلا نكاد نشهد معركة خمدت بين داعية ومفكر حتى تندلع ثانية، عدا عن مزاحمات المواعظ والدروس والعبر والنصائح والتنبيهات والتحذيرات والأخبار والمستجدات، وكل ذلك مما يبدو كأنه ثقبٌ أسود يلتهم ساعاتنا وأيامنا والسنوات على غفلة منا، بينما يتوجب علينا –في الأصل- أن نتجه للانشغال بشيء أهم في حياتنا الحقيقية.

أوليس من غير الحكمة ونحن نصارع أنفسنا في مهمة التخفّف من الملهيات أن نزداد في متابعة هذه الفضاءات وأن نفتح جبهة حربٍ جديدة مع مسلسلات تشبكنا معها ٣٠ ساعة وربما أكثر، في الوقت الذي يتأسف فيه كثيرٌ منا لمرور عشر دقائق من ذكرٍ أو تلاوة لصفحة من كتاب الله تعالى.

يوصي العديد من الأطباء بألا تتجاوز مدة الانشغال بمواقع التواصل الاجتماعي ثلاثين دقيقة، وبذلك يتوفّر للإنسان متابعة صفحتين أو ثلاثٍ أو خمس على الأكثر المجمل –في حال كانت ذا محتوى غني وقيّم- فإن زاد الحال عن ذلك انقلب إلى مضيعة للوقت، فيصاب المتابع بالتخمة المعرفية والفوضى، إذ إن منصات التواصل لا يؤخذ عنها العلم وإنما هي منصة للتذكير، والأولى والأصل أن يرتبط العلم بالعمل، ومن كان عمله التصفّح والتقليب بالساعات فإنه ممن يظنون أنهم يحسنون صنعاً وهو من الأخسرين.

البدائل والحلول

حسنٌ، يشار لنا على الفور بكلمة “ما البديل؟” التي صارت ردنا السريع على كل من يحاول إبعادنا عن عادة سيئة أو فعلٍ خاطئ!! وكأن البديل يجب أن يكون موجوداً، وكأنما إقامتنا في فندق ٥ نجوم، وليست في دار امتحانٍ وابتلاء!!

بلى، إننا نفتقر في مكتبتنا العربية للمرئيات المفيدة التي تجذب اليافعين والشباب، إلا أن ملء هذا الفراغ لا يكون باللجوء لبدائل لا تناسب قيمنا وأخلاقنا.

ولعل الحل يكون بالإقلاع عن هذه العادة أولاً، وأنا أكثر من يتفهم صعوبة الأمر، فمع الأسف الذكريات العائلية الجميلة يُرسم أغلبها خلال جلسات المساء لمتابعة مسلسلٍ ما أو فيلم، إلا أن الأمر يستحق كل جهدٍ مبذول، والمكسب في نهاية المطاف هو عمرك وبركة وقتك.

ومما يعين على هذه الخطوة التدرّج بالترك، ومجاهدة النفس قدر الإمكان على الامتناع كلياً في رمضان عن مشاهدة أي شيء، وملء الوقت بالعبادات التي تؤجر عليها وتثاب وترفع مقامك عند ربّك -وهو هدفنا الأساسي- والاستعانة بالله قبل كل شيء، فمعارك النفس داخلة في حكم الجهاد، وتغيير العادات يتطلب وقتاً وصبراً وثباتاً، ورمضان فرصة ذهبية للانطلاق، وهو من رحمة الله بنا أن فرض علينا هذه المساحة الضيقة من باحة العام الواسع، لنُعيد فيها حساباتنا ونتمكّن من الامتناع جزئياً عن أساسياتٍ حياتية، تمهيداً للإقلاع عن مُهلكات نحسبها ضروريات.

من وحي التجربة

وقبل التنعّم بطعم الحرية والخلاص من قيود وأسلاك التلفاز الشائكة، دعني أشاركك بعضاً من تجربتي الشخصية التي بدأتها في مطلع العشرينات من عمري، عند اندلاع الثورات وسقوط كثير من المشاهير من أعين الجماهير، فقررت الامتناع ما استطعت عن متابعة التلفاز ومن ضمنها المسلسلات والأخبار والأفلام، فعشت في قوقعتي الصغيرة وبات الفراغ كبيراً، ملأته فوراً بتطوير مهارة أحبها ولا أعرفها، ألا وهي “الحياكة”، وبعد عدة شهور ومن خلال فيديوهات اليوتيوب أتقنتها فصارت ملجئي الذي أستعين به على ليال الشتاء الطويلة.

وحمّلت على هاتفي تطبيق Duolingo لتعليم اللغات، فتعلمت مبادئ الفرنسية (بالإضافة إلى التحاقي بمدرسة بدوام جزئي لا يُذكر في البداية) لكن مع ذلك أُرجع الفضل للـدقائق الخمسة عشر التي كنت أتمرن بها على هذا التطبيق بشكل شبه يومي، فصار بإمكاني إجراء محادثة بسيطة، وفهم معظم ما أسمعه وكل ما أقرأه.

جاهدت نفسي لمشاهدة المحتويات وقراءة المقالات التي أهتم بتعلمها باللغة الانجليزية بدل العربية، مثل الحياكة، والصحة، ورعاية الأطفال، وحتى الطبخ وكل ما يخطر بالبال، فأتقنت الانجليزية لوحدي في المنزل إلى درجة القدرة على التعبير عن نفسي بشكل جيّد جدّاً، وقراءة المواد المتعددة في المواقع الإخبارية، والاستماع لمحاضرات مختلفة بمواضيع متنوّعة، في فترة تُعتبر قصيرة.

لقد كان أهم إنجاز لي هو حفظ القرآن، ولو أنه جاء متأخراً ولكن أحمد الله الذي أذن لي بحفظ كتابه، فبفضله ونعمته حفظت الخُمس مع صحبة خيرٍ تعينني على ذلك..

لم يكن الطريق سالكاً سهلاً؛ إذ حصلت بعض الانتكاسات، ولكن بمجرّد أن تقتنع أن وقتك أثمن من أن يضيع هباءً، فإن الصعب يغدو سهلاً بإذن الله.

ختامًا، فإن كنت قد استطعتُ أن أقوم بذلك، فإنكَ بالتأكيد أيضاً تستطيع، وإننا مهما اجتهدنا لن نخسر الترفيه، إلا أننا سنربح أنفسنا مع ذلك.


المصادر:

(١) عن الترويح عن النفس موقع إسلام ويب

https://www.islamweb.net/ar/fatwa/129613/

مقال نيويورك تايمز:

https://www.google.com/amp/s/www.nytimes.com/2018/12/03/learning/what-have-you-learned-about-life-from-watching-movies.amp.html

 

مصدر صورة الوسائل التواصل الاجتماعي

<a href=”https://www.freepik.com/vectors/people”>People vector created by pikisuperstar – http://www.freepik.com</a&gt;

كيف يتحول النقد الساخر إلى سخرية وتجريح؟

تصدرت في الآونة الأخيرة موجات متعددة من السخرية، سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أو من خلال مقالات نقدية تُقَدَّم على بعض المواقع المتخصصة بهذا الشأن؛ متجاوزة النقد الطبيعي المنضبط كما هو معروف في النقد الساخر، إلا أن الأمر تجاوز ذلك إلى النيل من الأفكار، والشخصيات والمنظمات بطريقة تجريحية استهزائية.

باتت السخرية تقدّم صورًا نمطيَّةً، تصوّر المشهد السياسي والفكري والاقتصادي، بمشاهد لا تقبل التحليل أو التأويل، وتحوّلت السخرية إلى نمط يحكم سلوك الأفراد، من خلال توجيه أفكارهم وعقائدهم، وبتقديم هذا النوع الساخر على أنه فن هادف!

 فمتى يتحول النقد الساخر إلى تجريح وسخرية؟ وما الفرق بينهما؟

النقد الساخر
يوصل النقد الساخر رسالته دون إيلام أو تشويه، من خلال عرض الفكرة وما يقابلها من حقيقة أو رأي يدعيه القائل، ويتجنب النقد الساخر -بحدوده الطبيعية- الإخلال بصورة أي شخص، أو التعرض لمعتقداته لغرض التشويه، إضافة لتجنّب الاستهزاء بالصورة الخَلْقية لأي إنسان؛ فالهدف الأساسي من النقد الساخر يتمحور حول تفنيد الفكرة دون التعرّض للأشخاص بالكلام المسيء والتصوير الجارح.

 ويستعمَل النقد الساخر عادة، عندما تكون الفكرة المقابلة سطحية إلى درجة يصعب الرد عليها بطريقة علمية، فيتجنّب العالم الرد عليها بطريقة أكاديمية ويقوم النقد الساخر بإظهار إسرافها بالسطحية وعدم مطابقتها للواقع والمنطق ونذكر مثلًا الردود الساخرة على المؤمنين بعدم كروية الأرض واتهام ناسا بأنها تنشر هذه العقيدة كذبًا وبهتانًا..

وكذلك يستعمَل النقد الساخر عندما تصبح الأفكار السطحية ضارة بالمجتمع أو تشكل تهديدًا مباشرًا له كإيمان بعض الناس بأن لقاحات كورونا تحتوي على شريحة تنصّت ستغرَس في أجسادهم!.

وتظهر الأفكار السطحية في تفكير البعض، عندما يركزون على الفرع دون الأصل، والغرق في الجزيئات دون الكليات، والأفكار المثالية الزائدة دون النظر لحقيقة الواقع، عندها تدفع الأفكار السطحية أي شخصٍ إلى النقد الساخر، وخصوصًا عندما يتحول القائل إلى أسلوب الابتسار الحضاري من خلال جعل التقدم والعلوم شيئًا مقصورًا على العقل الغربي دون غيره، وطمس معالم الرقيّ والتقدّم في الحضارات الأخرى وإن كانت منجزاتها مما يؤثر في نشأة العلوم الحديثة، والترويج لأن الحضارة الغربية حضارة واحدة ناتجة عن جهود أبنائها وعلمائها الذاتيّة فقط وأنها المبدعة والرائدة ومركز الحضارات الأخرى الناقلة أو التابعة.

يكون النقد الساخر إبداعيًّا حين يصدر من الإنسان المهتم والمتابع والذي يملك دراية علمية وأدبية في الموضوع المستهدف، وللناقد أسلوبه المهذّب فلا يستخدم الرموز المصوّرة، ولا يسعى للتجريح أو شتم خصمه.

لهذه الأسباب كلها يمكن القول إن النقد الساخر أمر طبيعي وحقٌّ مكفول في مختلف الأعراف البشرية، طالما أنه لا يتجاوز على الآخرين حقوقهم بالرأي والتعبير، ولا يصادر منهم حق المعرفة أو التأويل، ولا يسخر من الشكل الخارجي ويجرح بأسلوبه.

كيف يصبح الاستهزاء طريقًا للإهانة؟
إن نظرنا إلى السخرية والتجريح باعتبارها من طرق التعبير الجديدة، فإننا سنراها تقوم على أن يستعمل فيها الشخص ألفاظًا تقلب المعنى الحقيقي إلى عكس ما يقصده المتكلم، ويندرج الاستهزاء فيها حيث إن مراد المستهزئ هو الإضحاك بالتجريح، وغرض الساخر هنا ليس النقد، وإنما تصوير الشخص أو التيار أو المنظومة الفكرية في صورة استهزائيّة مضحكة، والذي يصل غالبًا إلى حد الإيلام المعنوي أو النفسي من خلال الاستهزاء بالعيوب الخَلْقية -كالطول، والقصر، والتلعثم- أو تركيب صورته على أجسام ورموز ضاحكة كما تطفح بها مواقع التواصل الاجتماعي.

النقد الساخر على وسائل التواصل الاجتماعي

وتكون السخرية بالافتراء على الناس، أو السخرية من أخطاء يعلم المتحدث أنها قد تحدث لكل الناس، ويكون ذلك من خلال تركيب الكلام على منشور ما أو تصريح صحفي، ثم التقوُّل على صاحبه بما لا يقصد، وتحميل الكلام أوجهًا مختلفة دون أن يقصد صاحبه أيًّا منها.

لقد درج في العادة أن يكون هذا السلوك على مواقع التواصل الاجتماعي بغرض لفت انتباه المتابعين، وزيادة أعدادهم، أو لتحقيق غايات شخصية تخصه، وهذا النوع منتشر كثيرا، خصوصا عندما يتم الحديث بالدين أو توضيح أحكام شرعية.

وتنتشر عادة السخرية والتجريح عندما لا يمتلك الشخص ردًّا حقيقيًّا على فكرة علمية، فيجد الشخص هنا أنه من الأسهل عليه الطعن بها وبصاحبها من خلال التشويه المتعمّد، وليس الحوار حول رفض الفكرة وعدم الإيمان بها أو الاعتراف بجهله!

لكن، لمَ يجب أن يغوص الساخر المستهزئ في بطون الكتب، ويبحث عن الحقيقة، طالما أن تقمّص دور الاستهزاء الساخر؛ سيجلب له المتابعين ويزيد من شهرته ويحقق له غايته في تسطيح العلم والوقائع، فهذه الطريقة – السخرية والتجريح – غير مكلفة؛ إذ كل ما على الساخر فعله، تركيب الصور، وتقطيع الكلمات، وتجزيء الأفكار بما يخدم قضيته، وعندها سيجد جمهورًا بالملايين، ومئات وربما آلاف مؤلفة من المعجبين الذين يتخذونه قدوة.

لقد بتنا نلاحظ في الآونة الأخيرة أنه صار للاستهزاء مساحات واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام من خلال الترويج –على الأقل- لبرامج السخرية المنتشرة كثيرًا في الفترة الأخيرة.

ويلاقي أصحاب هذه المشاريع دعما كبيرا من المؤسسات الإعلامية، ومنظمات المجتمع المدني، ومن الجمهور المتعطش” للضحك”، الذي لا يهمه البحث والتمحيص وراء الفكرة المعروضة والتأكّد من صحتها وبطلانها هي صحيحة أم لا، بل يسلّم عقله للساخر المستهزئ بدون أدنى مقاومة.

السخرية.. نقيض للجدية وطريق للابتذال
يمثّل الرد الساخر المستهزئ نموذجًا للاجتزاء والاقتطاع؛ حيث يركز على الأفكار التي تخدم سخريته، فيقتطعها من سياقها الصحيح؛ وبالتالي تفشل كل محاولات الشخص المستهدَف للتوضيح أدراج الرياح -إلا إن سلك نفس طريقة السخرية والتجريح-.

 إذن فالسخرية -أسلوبًا استهزائيًّا- ليست نقدًا عاديًّا يمكن التعامل معه أو التغاضي عنه، بل هي اختزال للأفكار وتنميطها بقالب معين، وهي ليست أداة تعبير يمكن احترامها لما تحمله من إهانات لنُظُمٍ فكرية أو شخصيات اعتبارية.

تعبّر الجدّية عن البحث والتحقيق والدراية الكاملة، وهي ضدّ الضعف والهزل والتنميط، إذ تقتضي البحث والاستقصاء عن الموضوع المستهدَف، والعلمَ به وعدم السخرية منه، إلى جانب تقديم الأفكار بطريقة علمية، أو تفنيدها حسب الأصول المطلوبة، دون ابتذال أو تشويه.

 وكذلك فإن الإعلام الجدي يبحث عن المعلومة ويشخصها بالطريقة الصحيحة دون إسفاف، والشخص الجادّ يبحث عن مضمون الحديث وعن الرسالة الباعثة له والغاية المقصودة منه، أما السخرية والتجريح فإنها تهدف إلى استهداف المعلومة أو الفكرة أو الشخص بشكل مباشر، دون تقديم طريقٍ علميٍّ يسوّغ ذلك.

تتناول السخرية في مواقع التواصل والإعلام الكثير من المنظمات والأفكار والشخصيات المعروفة بطريقة تشويهية وانتقائية، دون البحث في أفكارهم ومصادر معلوماتهم، وحتى لو بحثوا فإنه غالبًا ما ذلك يُقدَّم في قالبٍ كوميديٍّ ساخر مثل استهداف المقدسات لدى المسلمين من خلال الاستهزاء المنظم، بهدف امتهان كرامتهم والإساءة إليهم من خلال ربط بعض الوقائع المعاصرة بسلسلة من الأحداث التاريخية.

النقد الساخر من المسلمين

يتجنب الأشخاص في فضاء التواصل الاجتماعي التعرّض في الغالب للمفاهيم المعقدة والتي تحتاج إلى بحث متواصل، فيلجأ هؤلاء إلى السخرية منها كونها تريح من عناء الاستقصاء، وتوفّر برامج السخرية، منصّات متخصّصة لاستقبال الباحثين عن السخرية والاستهزاء!

السخرية بشكلها الاستهزائي نقيضٌ للجدية، والرابط بينهما هو خيط رفيع يسهل قطعه وتجاوزه، وتستخدِم السخرية -سواء من خلال برنامج منتظم أو المنشورات على منصة فيسبوك- أسلوب الاستخفاف بالخصم والحط من قدرته المعرفية، من خلال “الرموز الضاحكة” والهجوم الساخر؛ فمع وضعِ صورة ساخرة ضد الأفكار المقدمة سيصبح الدفاع عن مبدأ ما أمرًا مثيرًا للضحك عند الغالبية العظمى من متابعي تلك البرامج.

لعل أشد نتائج السخرية والتجريح هو تحولها إلى طريق للابتذال؛ من خلال التكلف والتصنع اللذين يتعارضان مع السجيّة والتلقائية، إلى التضحية بالوقار في سبيل جلب الأنظار، مثل استخدام الأساليب التهريجية في نقد الخصم، وتقديم العبارات النابية تعبيرًا عن الإنسان الظريف!! لكن الواقع المؤكّد هو أن السخرية والتجريح تجبر أصحابها –مؤسسة أو أشخاصًا– على الغوص أكثر فأكثر في الابتذال، إلى حد مهاجمة البرنامج والساخر نفسه، وتحكم عليهم التجاوز في حق حرية الآخرين في الاعتقاد والممارسة، وتصبح مصادرة الآراء – عندهم – مجرد نكتة أو جولة ترفيهية.

خلاصة القول
يجب تحديد الحدود الرئيسية بين النقد الساخر الطبيعي المقبول، وبين السخرية والتجريح، التي تأخذ دور الحكم على الأفكار والأشخاص والمنظمات، وهذا لا يعني الدعوة للتوقف عن استخدام النقد الساخر المنضبط بما لا يخرج عن أوامر الإسلام ونواهيه، كونه يُسهِم في تنوع الطرق الإعلامية، وهنا لا بد من وضع ميثاق شرف يحدد طرق استخدام هذا النوع من التعبير، ويوجه طريقة استخدامه.

 قد يكون من المناسب في كثير من الأحيان استخدام السخرية في انتقاد السلطة السياسية بهدف إبراز جوانب الفساد والظلم فيها، إلا أن استخدام الإساءات الشخصية والأخلاقية دون راع وموجِّه، فلعل تجاوزه ومنعه أولى، وعليه فإنه يجب بكل بساطة تقنين النقد الساخر بما يحفظ حقوق الآخرين ويمنع من الوقوع في فخ التجريح.

الشهرة والظهور وتطوّر مفهوم الـ (trend) عبر العصور

الشهرة هي تلك الرّياح التي تواجه مركبك طالما اخترت الإبحار، والناس بين مسخّر تلك الرّياح لخدمة شراعه بحيث يصل بسموّ أفكاره ويحقق نفعها الانتشار، وبين متشاغل بالعاصفة ظانّاً أنّها قد ترفعه طالما تفوق سرعة المركب، فتراه نسي الوجهة وظنّ أنّ الطيران يتمّ بشكل عشوائي ناسياً أنّ الوصول للهدف يتمّ على نحو مدروسٍ مهذّب.

وأكثر المشاهير اليوم بين إيجابيّ وسلبيّ، فالأمر فيه بحث ونظر، ولكن إنّما نتحدّث عن مسلّماتِ مراعاةِ شفافية وعاء الروح لكيلا نلقاه بالبهرج والوهج المؤقّت قد تكدّر أو انكسر.

وسم الشهرة
لا يخفى أن (trend) كلمة إنكليزية، وتطلَقُ على كلّ حدث أو نموذجٍ يُحدث ضجّة إعلاميّة بين النّاس ويوجّه الأنظار لطرفٍ أو قضية ما، وهو ما يثبته المعنى اللغوي، فالـ (trend) هو الاتّجاه، وهو –باصطلاح مواقع التواصل الاجتماعي – الشيء الأكثر بحثاً أو الأكثر تداولاً في فترة معيّنة.

لنسلك النقاش بالأمر ضمن اتّجاه واضح؛ إذ يجب علينا أن نعرف حقّ المعرفة أنّ الـ (trend) ظاهرةٌ تستولي على العقول اليوم، فالكلّ يريد أن يكون ذاك الشّخص الذي يؤثّر في الناس، أو محورَ الحدث الذي تنطلق إليه الأنظار.

وبناء على هذا التصوّر بات الاتجاه لا يهمّ، فالبعض يختار سفاسف الأمور كتصوير الشباب لدقائق حياتهم أو خروج أحدهم بشيء مخالف للدّين أو للفطرة السليمة، وكلّ الهمّ أن يصبح حدثاً يتمّ التكلّم عنه، متناسيًا أنّ هذه الطفرة في عمقها أمرٌ هشّ وأنّ هذا التوهّج المفاجئ كاذبٌ مؤقّت، لا يرفع بنياناً ولا يُقيم عمراناً.

وهنا أسأل نفسي، هل مفهوم الـ (trend) يتعارض مع مبادئ المسلم؟

لم يكن الإسلام يوماً مقيّداً لأي لبِنة خيرٍ إيجابية تسهم برفع راية الأمّة، وإنّما كان مهذّباً ومقوّماً لكلّ مائل عن الطريق المتّجه نحو السموّ والرفعة؛ إذ إنّ الإنسان الذي كرّمه الله تعالى على جميع مخلوقاته وميّزه بالعقل والإدراك لا ينبغي له أن يسمح لنفسه بالسقوط نحو القاع ولو بتنازلٍ بسيط؛ ولذلك فإنه لم يكن ثَمّة مانعٌ في الإسلام لتوجيه السلوك باتّجاه معيّن يدخل في أهداف الإسلام وخدمة مبادئه، بل إنّ من توفيقَ من الله في أن يترك الإنسان أثره النافع في الآخرين أينما سلك وتوجّه.

من الممكن أن تقوم بمناقشة كتب تُساهم في بناء عقول سليمة لمن حولك وتشارك تجربتك مع الآخرين، ومن الممكن أن تطرح محتوى يطوّر لغة تتقنها لدى من يريد التعلّم، ومن الممكن فعل أشياء أخرى كثيرة، فالأبواب مفتوحة لكل راغبٍ في إحداث أثرٍ إيجابيٍّ بالناس.

إلا أن مدار الأمر وعمقه يظهر لك حين تسأل نفسك عدّة أسئلة لتقيس صحّة اتّجاهك، كأن تسألها “لمَ أقوم بهذا الأمر الذي يجعل مني شيئًا أو من فعلي حدثاً مميّزاً”، “ما نوع المحتوى الذي أقدمه للآخرين”، “ما الرؤيا التي وضعتها لنفسي ولأمّتي”، وقبل كل ذلك أن تسأل نفسك: هل الهدف منفعة شخصية آنيّة لا تُسمن ولا تغني من جوع؟ أم أنّ هناك طبخة دسمة لأوصال الأمّة المقطّعة جوعاً؟ وأن تفكّر مليًّا في أنك إن سلكت مسلكاً إيجابياً، فهل تملك الحصانة لنفسك ضد الشهرة ونسيان الهدف الأسمى والأساسي؟

هذه جزءٌ من الأسئلة التي يجب أن يجيب المرء عليها قبل أن يشرع بتقديم أي محتوى للنّاس.

نماذج من ظاهرة التأثير في القرآن
القرآن الكريم والسّنة النبوية زاخران بالأحداث التي كانت حديثاً مطروقاً بين أصحاب وقت ما، بين إيجابي وسلبيّ، ولكن في نهايات كلّ قصّة نأخذ عبرة واحدة أنّ ما كان سلبياً كان مؤقّتاً وما كان إيجابياً بقي نبراساً يُستضاء به.

  • قارون نموذجًا سلبيًّا على الصعيد المادّي

كان قارون رجلاً من قوم سيدنا موسى، آتاه الله مالاً عظيماً، فما كان منه إلا أن ردّ الفضل لذاته، وخرج يستعرض ماله وكنوزه بين النّاس بطَراً وأشَرَاً، بدل أن يكون جزاء إحسان الله إليه إحساناً لخلقه، لا استعراضاً لبهرج زائل ومال آفل.

لقد كان قارون -بلغة العصر الحالي- المؤثر الشهير (trend) في تلك الفترة بماله وكنوزه، وكان حديث النّاس بين لائم له ومذكّر بفضل الله عليه، وبين حاسد ومتمنٍّ أن يؤتى مثلما أوتي قارون من مال، ولكن طريقة طرح قارون السلبية للأمر جعلت النهاية إلى سراب.  

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ  * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ  *فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:76-82]

  • ماشطة ابنة فرعون نموذج إيجابيّ على الصعيد الإيماني:

أدركت ماشطة ابنة فرعون الحقّ واتّبعته، فكانت اتّجاهاً مختلفاً عن السائد في ذلك الوقت من تأليه لفرعون وتقديس له، لقد عرفت الصواب فلزمته، ولم يؤثّر عليها فساد ما حولها، وإنّما كانت نقطة ضوء وسط ذلك الظلام فكانت بلغة العصر الحالي (trend) في ثباتها وعدم تزعزعها.

عن عبد الله بن عبّاس  tقال: قال رسول الله r: (لَمَّا كانتِ اللَّيلةُ الَّتي أُسريَ بي فيها، أَتَتْ عليَّ رائحةٌ طَيِّبةٌ، فقُلْتُ: يا جِبريلُ، ما هذه الرَّائحةُ الطَّيِّبةُ؟ فقال: هذه رائحةُ ماشِطةِ ابنةِ فِرعونَ وأَولادِها. قال: قُلْتُ: وما شَأنُها؟ قال: بيْنما هي تَمشُطُ ابنةَ فِرعونَ ذاتَ يَومٍ، إذْ سَقَطَتِ المِدْرَى مِن يَدَيْها، فقالتْ: باسمِ اللهِ، فقالتْ لها ابنةُ فِرعونَ: أَبي؟ قالتْ: لا، ولكنْ رَبِّي ورَبُّ أَبيكَ: اللهُ. قالتْ: أُخبِرُه بذلكَ؟ قالتْ: نعَمْ. فأَخبَرَتْه، فدَعاها، فقال: يا فُلانةُ، وإنَّ لكِ رَبًّا غَيري؟ قالتْ: نعَمْ، رَبِّي وربُّكَ اللهُ. فأَمَرَ ببَقرةٍ مِن نُحاسٍ، فأُحميَتْ، ثمَّ أَمَرَ بها أنْ تُلْقى هي وأَولادُها فيها. قالتْ له: إنَّ لي إليكَ حاجةً، قال: وما حاجتُكِ؟ قالتْ: أُحِبُّ أنْ تَجمَعَ عِظامي وعِظامَ ولدِي في ثَوبٍ واحدٍ وتَدفِنَنا، قال: ذلكَ لكِ علينا مِنَ الحقِّ. قال: فأَمَرَ بأَولادِها فأُلْقوا بيْن يَدَيها؛ واحدًا واحدًا، إلى أنِ انتَهى ذلكَ إلى صَبيٍّ لها مُرضَعٍ، وكأنَّها تَقاعَسَتْ مِن أجْلِه، قال: يا أُمَّهْ، اقتَحِمي؛ فإنَّ عذابَ الدُّنيا أَهْوَنُ مِن عذابِ الآخِرةِ، فاقتَحَمَتْ.) [مُسند الإمام أحمد، بإسناد صحيح]

الشهرة والتأثير وأسئلة الشباب
كثيرٌ من الشباب يتساءل عن اتجاهات التأثير، ترى بعضهم يقول: إن المحتوى الإيجابي لن يجعلني trend)) لأنّ الشهرة لأولئك الذين يقدّمون محتوى سخيفاً لا فائدة منه.

بادئ ذي بدئ يجب أن نعلم أنّ العوامل التي تؤثر في جودة أي محتوى هي: موافقته للشريعة والصدق والجودة والابتكار.

أما الموافقة للشريعة فيكون ذلك بأن لا يخالف المحتوى عقيدة ولا مبدأ من مبادئ الإسلام، بالتوازي مع الصدق في إرادة التغيير، والجودة بحيث يكون المحتوى هادفاً ومنسوجاً من خيوط قويّة، وأن تحقق فيه الابتكار بأن يكون غير مملّ ولا مكرراً لغيره.

 هنا -أي بعد تحديد الاتّجاه- يأتي أمر مهمّ وهو استحضار أنّ الشهرة ليست شيئاً منشوداً، وإنّما هي شيء مساعد لتحقيق الانتشار، والمؤمن مُدرك لحقيقة نفسه وقدراته وأنّ كلّ ما يأتيه من نِعَم فإنّما هي من الله تفضّلاً ومنّة، لا من جهد شخصي.

قد يتساءل آخرون بأن العمل على محتوى جيّد لن يجلب العدد المطلوب من المُتابعين، إذ لا أحد يهتمّ رغم أنّ المحتوى هادف؟

هنا لا بد من أن نتذكّر أن ديدن الصالحين –دائمًا- هو العمل والتوكّل، فربّ عمر يقضيه الإنسان يعبّد طريقاً ما، دون أن يُعرَف، وكان له شرف تمهيد الطريق فحسب، وربّ عمر قضاه نبيّ وهو يدعو إلى الله تعالى دون أن يؤمن به مؤمن واحد، فقد جاء في الحديث الشريف: عن عبد الله بن عبّاس t قال: قال رسول الله r: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النبيُّ والنبيَّانِ يَمُرُّونَ معهُمُ الرَّهْطُ، والنبيُّ ليسَ معهُ أحَدٌ) [رواه البخاري، حديث صحيح] وبالرغم من أنه لا رسالة يتمّ تقديمُها أعلى وأجود وأفضل من رسالة التوحيد،  إلا أن بعض الأنبياء يأتون دون تابعين، فعدد المُتابعين ليس دليلاً على جودة الرسالة، إنّما الخير باستمرار تمهيد الطريق ولو لم نلقَ سالكين.

يترك بعض الأشخاص الأثر دون أن يُذكروا في صفحات التاريخ أصلاً، وخير مثال على ذلك، الرجل الصالح الذي جاء من أقصى المدينة يسعى فقط ليقوم بالمهمّة التي يمليها عليها إيمانه، رجل لم يأتِ ماشياً، وإنّما جاء يخطو على نحو مسرع، لم نعرف اسمه، وإنّما رفع ذكره صفاء رسالته، قال الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]

إن الشهرة لها متلازمة المتابعين، حيث يبدأ الإنسان –أحيانًا- منحاه بشكل سليم، إلا أنه سرعان ما يُقيّد نفسه وسط الطريق بردّة فعل الآخرين، يرتفع بمدحهم ويُحبَط بذمّهم، وإن قلّ العدد قلّ منه العطاء والمدد، وبات كزهرة ذابلة تشعر أن لا أهمّية لها دون التصفيق والثناء من الجمهور، فإن أحجموا ذبل وإن أقبلوا بثّ أجمل العطور، وهذه حمّى تعترض السائر نحو هدف سامٍ، إذ إنّ العين يعتريها عند السلوك ضعف بصر وبصيرة، وتربط حبالها بجهة متقلّبة الأهواء والآراء، متناسية أنّ أمتن حبل هو حبل يُربط مع خالق الأرض والسّماء.

إن كيان المؤمن في نموّه وانطلاقته ورحلته ونتائجه مرتبط بنفسه وعقيدته ونتاجه، فقد قال رسول الله r: (مَثَل المؤمن مَثَل النحلة، لا تأكُلُ إلا طيِّبًا، ولا تضَعُ إلا طيِّبًا) [صحيح ابن حبان: 247]

تهافت مروجي الإلحاد على مواقع التواصل

في كل زمان ومكان لا يكتفي أهل الباطل بما هم عليه من انحراف عن جادة الصواب، بل يعملون ليلا نهارا لنشر باطلهم وتزينيه في عيون الناس علّهم يلتحقون بركب الباطل وأهله، قال تعالى {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}، ولا يختلف أهل الإلحاد العرب عن باقي إخوانهم من أهل الباطل في كل مكان، فهم أيضاً لا يكتفون بإلحادهم بل يتجهون لنشره بين الناس والعمل على محاربة الأديان بأي طريقة يستطيعونها.

الملاحظ في حالة الملاحدة العرب أنهم ينقسمون إلى قسمين رئيسيين في عرض أفكارهم: القسم الأول هم السذج وبسطاء التفكير ممن ألحدوا ولا يدرون شيئا عن الإلحاد أو عن الأديان الأخرى، فهم ركبوا موجة الإلحاد المنتشرة ويريدون دعوة غيرهم للإلحاد، ويبدو هذا من أحاديثهم وتصرفاتهم الغريبة في الفيديوهات، وهؤلاء لا يستحقون التوقف عندهم كثيراً. أما القسم الثاني فهم أذكى نوعاً ما ويعيدون اجترار شبهات المستشرقين ضد الإسلام أو حجج مشاهير الملاحدة مثل دوكينز وهاريس، ويعرضونها إما في حوارات مطولة يديرونها بين بعضهم أو من خلال فيديوهات مركزة ومكثفة جدا مع صور أو موسيقى تصويرية أو مقاطع من مسلسلات وأفلام، بالإضافة للسخرية والفكاهة المصطنعة على طريقة مشاهير اليوتيوبرز.

كل هذا أشبه ما يكون بالصدمات المتتالية لمحاولة إحداث أكبر خرق ممكن في عقل المتلقي، وخاصة إذا لم يكن يمتلك خلفية عقديّة قوية ليخرج من هذه الفيديوهات متسائلاً: هل هذا ديني حقاً؟ ما كل هذه الشبهات والتناقضات؟ فهم على طريقة من يلقي القنابل الضوئية والصوتية ثم يهرب وينتظر إحداث الضرر بعد حين!

وسأعرض فيما يلي بعض صفات وأقوال مروجي الإلحاد العرب لمعرفة طريقة تفكير هؤلاء ليسهل علينا الحد من خطرهم، فاليوم أصبح من السهل أن ينشر أهل الباطل ما يريدونه وأن يجدوا آذاناً صاغية تستمع إليهم ممن لا يملك العلم الكافي وأدوات النقد والتفكير الصحيح، فكل شيء أصبح متاحاً بنقرة زر واحدة:

1- ادعاؤهم أن الدين ينتقل بالوراثة فلولا أنهم ولدوا في عائلات تعتنق الإسلام لما كانوا مسلمين، والقرآن يرد على هذا الأمر بعدة مواضع ويذم التقليد الأعمى، وأكتفي هنا بآية من سورة البقرة تؤكد هذا المعنى، قال تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}.

2- أغلب هؤلاء الملاحدة تحدثوا عما يمكن تسميته “طفولتهم الخارقة”، فهم منذ سنواتهم الأولى يطرحون الأسئلة الفلسفية العميقة عن الوجود والإله والجنة والنار والأنبياء ولا يجدون إجابات مقنعة عليها!

3- أغلبهم يحمل فكراً استئصالياً خطيراً لمخالفيهم، فهم يعيبون على أوروبا استقبالها للاجئين المسلمين ويصفونهم بالقنابل الموقوتة التي ستدمر أوربا وحرياتها في المستقبل، ولهذا فهم يدعون أوروبا لاستقبال اللاجئين من الملاحدة والمرتدين والشواذ فقط؛ يعني هم ملكيون أكثر من الملك. وهذا يوضح بعض جوانب الفكر الإلحادي بشكل عام، فهو فكر إقصائي واستئصالي، إذ لا يحمل مرجعاً ولا قيماً ومرجعيته الداروينية والبقاء للأقوى.

4- حديثهم عن أن الدين أمر ممل ومكرر، وأن خطب الجمعة والمواعظ والدروس الدينية تعيد نفس الكلام وتكرر نفس الآيات والأحاديث. والطريف أني سمعت من أحدهم يقول إنه لا يوجد في الدين تحديث update على عكس العلم الذي يقدم لنا دائماً اكتشافات وأشياء جديدة! وهؤلاء الملاحدة مثال واضح على عقلية القردة أو monkey brains التي أصابت إنسان ما بعد الحداثة والتي تبحث عن القفز السريع من أمر إلى آخر والتجديد المستمر حتى على حساب أية قيم أو مبادئ.

5-معظم هؤلاء الملاحدة يركزون هجومهم على الإسلام والمسلمين دون غيره من الأديان، وهذا يعود لسببين: الأول أن غالبيتهم نشأ في عوائل إسلامية، والثاني أن الإسلام هو الدين الحيوي الوحيد القادر على التفاعل مع حياة الناس في الحيز العام على عكس بقية الأديان التي أصابتها العالمانية بمقتل وأصبحت مجرد طقوس وعادات ومظاهر ثقافية مكانها دور العبادة والأعياد الموسمية.

6-وصف عموم المسلمين بالجهل العام بتاريخهم ودينهم وعدم قراءة كتب تراثهم وعقيدتهم، ومن يستمع لهذا الكلام يظن هؤلاء الملحدين وكأنهم تعمقوا في القرآن وقرأوا في كتب التفاسير فأدركوا معاني القرآن ثم عرجوا على كتب الحديث فدرسوا علومه ثم طافوا على كتب أصول الفقه والفقه المقارن والتشريع والتاريخ الإسلامي، ثم استنتجوا أن المسلمين لا يقرأون تراثهم وأنهم لو قرأوه لألحدوا! والحقيقة أن هؤلاء الملحدين معظمهم لا يدري شيئاً عن التراث الإسلامي ومعظم معلوماتهم نسخ وقص ولصق من غوغل يشكلون بها معظم بضاعتهم المزجاة التي يعرضونها على عوام الناس.

7- ربما لا يوجد مقطع فيديو لهؤلاء الملاحدة إلا وهو مليء بالسباب والشتائم والسفه، والمفارقة أن هؤلاء الملاحدة دائماً يتغنون بالعقلانية واحترام آراء المخالفين، وهذه ادعاءات فارغة تكذبها شتائمهم القبيحة وإسفافهم المتواصل في هذه المقاطع، هذا عدا تدخين التبغ والحشيش والخمور أثناء تقديم حلقاتهم، وهذا يكشف الكثير عن نفسيات وعقليات هؤلاء القوم.

8- تحدي الله تعالى بمنطق طفولي سخيف، فالعديد منهم برر إلحاده بأنه تحدى الله تعالى بأن يحرقه أو يميته إذا كفر بالله أو مزق ورقات من المصحف أو شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله تعالى لم ينتقم منهم! وبعضهم الآخر تحدث أنه دعا الله تعالى ولكن لم يستجب له. وهذه دلائل على عدم وجود الله تعالى على حسب ادعاءاتهم! وكأنهم يعتقدون أنه لو شتم طفلٌ صغير أباه في السوق فأجّل الوالد عقاب ابنه حتى عودتهما إلى المنزل فالأب غير موجود!

9- اتهام المؤمنين بالببغائية وتكرار الأقوال الجاهزة، ولكن هؤلاء الملحدين لا يحدثوننا عن ببغائيتهم وتكرارهم لحجج المستشرقين التي يلوكونها.

10- كلامهم مليء بادعاءات المظلومية والاضطهاد، فهم يلعبون على هذا الوتر الذي يوافق ويعجب العقلية الغربية التي تقف مع الأقليات في أي مكان وتعمل على دعمها بالباطل أو بالحق بأي طريقة، ولكن الواقع في بلادنا العربية يثبت أنهم يفعلون ويقولون ما يشاؤون دون أي حسيب أو رقيب، بينما الدعاة والمصلحون من المسلمين معظمهم في السجون أو مطاردون أو مضيق عليهم!

11- ترديد المغالطات المنطقية بشكل كبير وتوسيع قياسها بأكثر مما تحتمل، فكل رأي يخالفهم يعتبرونه مغالطة منطقية، ولو أخذنا بهذا الكلام على عمومه لأصبح كل العلم قائما على المغالطات المنطقية، فمثلا هناك قاعدة علمية تقول أن المعادن تتمدد بالحرارة ولو وسعنا مفاهيم المغالطات المنطقية كما يفعل ملاحدة اليوتيوب فسوف نقول عن هذه القاعدة إنها مغالطة التعميم لأننا لم نستقرئ جميع المعادن في الأرض وهذا مستحيل. وفي النقاشات المنطقية عملية الاستقراء الناقص لا تفيد اليقين.

في الختام يبقى الإلحاد المنتشر اليوم بين بعض الشباب العرب أشبه ما يكون بالموضة الفكرية، وهو غير قائم على أسس فكرية قوية بل ربما تأثيره لا يقارب تأثير الجانب الإلحادي للشيوعية في القرن الماضي والذي كان يستند إلى بعض المقومات والأسس الفكرية؛ وعلى هذا فإن الإلحاد اليوم قائم بشكل رئيسي على الضجة الإعلامية التي يحاول إحداثها، وهذا أمر مشاهد في مؤتمرات دعاة الإلحاد الجدد في الغرب وعلى خطاهم يحاول الملاحدة العرب الترويج لبضاعتهم الإلحادية بنسخة مكررة ورديئة.