تعليم الدين في زمن الوسائط المفتوحة: تعلّم الدين من غير معلم!
عندما كنت صغيرًا كانت أجمل اللحظات التي عشتها هي وقوفي في الأرصفة أمام بائعي الكتب، أطالع العناوين الشائعة والمرغوبة من العامة، من الروايات البوليسية إلى كتبٍ الطبخ والتمثيل، وهناك بالطبع الكتب التي تدعي أنها تعلمك اللغات الأجنبية من غير معلم في خمسة أيام أو في أسبوع…
لقد كان أسلوب هذه الكتب قائمًا على كتابة بعض الجمل المهمة بحروف عربية، ثم ما عليك –أيها المتعلّم- سوى أن تهجّئ هذه الكلمات لتصل إلى الادّعاء بأنك قد تعلمت اللغة في فترة قصيرة من غير معلّم كما يدعي الكتاب.
سؤال الموثوقية؟
فكرة هذه الكتب لم تكن سوى بداية القصة بتصوّري، ففي عصر الانترنت والوسائط المفتوحة، وفّرت كثير من المنصات في عالم الشبكة المفتوحة -وخاصة يوتيوب-مئات الفيديوهات لكثير من الموضوعات العلمية وغيرها، يقدّمها أشخاصٌ لا يمكن التأكّد من خلفيّاتهم، وهنا تبرز المشكلة؛ وهي أن هذه الفيديوهات لا تخضع للتدقيق، ولا تمرّ –في غالبيّتها- على مبضع الرقيب العلميّ[1]، حيث يتبادر بلا شكّ سؤال الموثوقية إلى عقل المشاهد، فما الذي يدفعُه للوثوق بهذا المحتوى، وهل كثرةُ التفاعلات بالإعجاب هي الطريق الصحيح للتأكد من الموثوقية؟
أم إن الباعث هو جِدَّة الفكرة التي تقدّم –وهنا نقول إن الفكرة الجديدة لا تعني أنها جيدة كما يتبادر إلى كثيرٍ من الأذهان-؟ أم إن المعيار هو كثرة المشتركين والمشاركين للفيديو أو المنشور؟!
بتعبير آخر: ما مرجعية الصحّة والبطلان في المعلومات المذكورة أو مصدرها؟
هذا السؤال يعني سؤال الموثوقية يكون واضحاً ومهماً في المواضيع الحساسة كالطب أو الدين، فكما أنه لا يجوز سماع نصيحة من شخص يقول شيئا متعلقاً بالطب إلا بعد فحص ما يقوله عند من يعرف الطب معرفة واسعة، فإنه كذلك لا يصح منطقاً السماع إلى من يقدم شيئًا حول الدين إلا بعد التأكد من صحة ما يقوله هذا الإنسان، ولعلنا نذكر هنا كثرة التسجيلات المصوّرة التي ظهرت في فترة كورونا حول مصدره وعلاجه، ولعلنا نذكر كيف أن غالبها كان دجلاً وتلفيقاً.
وإذا انتقلنا إلى الفيديوهات الدينية فإن الأمر لا يختلف، فيكفي أن تبحث بحثًا صغيرًا في اليوتيوب عن موضوع ما لترى كثرة المحتوى فيه من مختص وغير مختص؛ حيث إن كثيراً من “صانعي المحتوى” في العالم الافتراضي يقدمون سلاسل معينة عن موضوع ديني ما، ويحاولون أن يقدّموا رأياً معيناً أو أن ينتقدوا فكرة ما، إلا أنه في أيامنا هذه ظهر-إلى جانب ذلك- “موضة” الاستنباط المباشر من القرآن مع تغييب السنة ودون امتلاك أساس شرعي أو علمي.
تابعتُ أخيرًا فيديوهات –كل فيديو أكثر من نصف ساعة– عن كيفية الصلاة وأعداد ركعاتها بالاعتماد على آيات القرآن فقط، وتابعت فيديوهات أخرى في نفس الموضوع لشخص يستنبط أعداد الصلاة بنظام حسابي معقّد[2]، وكان الهدف من ذلك كله، إلغاء العودة إلى السنة!
هذه الفيديوهات القصيرة والسريعة في إيقاعها والتي تعتمد على المؤثرات الصوتية والصورية، هي تمامًا مثل كتب تعلّم اللغة من غير معلم، ذلك أن المعلم لا يهتم للتعليم السريع، بل بإنشاء البناء المعرفي القائم على أصول معينة، والذي يؤتي أكُله بعد جهد جهيد.
أبنية بلا أسس!
في كل نوع من أنواع المجالات العلمية والبحثية ثمة اختلافات في الرأي، ويصدق هذا في الطب والهندسة وغيرهما من مجالات العلوم التطبيقية والنظرية، إلا أنه بالرغم من الاختلاف، ثمة أصول عامة ومبادئ كلية تحكم هذه الاختلافات وتؤطرها، بحيث تجعل الاختلاف ممكنًا، لكن المشكلة في أنماط الفيديوهات التي أشرنا إليها وغيرها من مناشير العالم الافتراضي أنها لم تبنَ على أصولٍ واضحة ومتسقة مع بعضها، وكثيرًا ما يجري الحديث عن آراء ذاتية وشخصية قد تكون معتمدة على فهم ناقص أو نظر قاصر، ومن ثمّ فإنه لا يمكن الاعتماد عليها في التعلّم أو اكتساب العلم.
إن التعليم يحتاج إلى تخصص، والتخصص هنا لا يعني الدراسة في كلية معينة فحسب، بل أن يكون مطلعًا على مصادر الاختصاص مع فهم تاريخه وتاريخ تطور الآراء وكيفية استنباط الحكم من الأصول.
ومن مشاكل فيديوهات ومناشير العالم الافتراضي أنها لا تقوم على أرضية ثابتة من الأصول الفكرية، إنما يعتمد جمعٌ غفيرٌ من المؤثرين فيها على رصيدهم من المعجبين والمشاركين[3]، كما قد يعتمد بعضهم على حاجات المجتمع، فتستغل هذه الحاجة لتقديم رأي شخصيٍّ يقدّمه صاحبه وكأنه الحق الذي ليس بعده إلا الضلال المبين، بالرغم أن الشخص ذاته يقدم نفسه على أنه منافح عن حرية الرأي.
إن بناء الرأي الشخصي القائم على التفكير وفق أصول متسقة هو المطلوب، سواءً اتفقنا معه أو اختلفنا، فوجود الأسس يحاكِم البناء، وبه يظهر الثبات من الانهيار، وذلك كما قبل المسلمون سابقًا وجود اختلاف بين المعتزلة والأشاعرة مثلًا، كون الطرفين قد اعتمدا في إبداء تصوراتهم على قراءات معمقة وأصول واضحة.
يمكن القول إن فيديوهات “صانعي المحتوى” وغيرهم تعتمد الضغطَ على الوتر العاطفي لدى المشاهد، فيتم الانتقال على الفور إلى تلقين النتائج دون إبراز الأدلة المقنعة، ولدى مشاهدتي لعدد من الفيديوهات وجدت أنّ بعضهم يردُّ أحاديث كثيرة ممّا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه عقله لم يقتنع به ويكفي هذا دليلاً على أن الحديث مثلاً لم يتناسب مع فكره أو يَرُق لعقله[4]، ولكم أن تتخيلوا خطورة هذا الوضع فإذا فتحنا باب القَبول الشخصي معيارًا لأيّ فكرة؛ فهذا يعني أننا فتحنا باب “التشهّي الذاتي” الذي سينتهي بنا في دوامة من الاشتهاءات المتضادة.
أسطورة الاجتهاد الشخصي!
هنا قد يعترض البعض قائلاً بأن الاجتهاد مفتوح، وبأن ما يقوله صانع المحتوى إنما هو رأي قد يصيب وقد يخطئ، وللمصيب أجران وللمخطئ أجرٌ!
وددتُّ لو أنّ هذا الأمر يكون على هذا النحو، إلا أن هذا الادعاء لا يصح في باب التعليم ونشر الوعي؛ إذ إن جرم الإفساد والخطأ المتعمّد فيه مضاعف، لما له من أثر ممتدٍّ في عقول أجيال متتالية، كما أن مقولة “المخطئ له أجر” تتجه لمعنىً آخر، فالمجتهد المخطئ المأجور هو من حاز وأدرك شروط الاجتهاد وأولها معرفة القرآن والسنة معرفة تامة مع معرفته باللغة، واللغة هنا ليست مجرد قواعد نحوية بل الاطلاع على فقها ومنطقها، فكما لا يجوز الاجتهاد في معالجة المريض إلا ممن حاز فهمًا ومعرفة وممارسة بالطب، فكذلك لا يصح الاجتهاد في معالجة المسائل الدينية إلا ممن حاز المعرفة والفهم والاجتهاد في الدين.
وهنا لا بد من التنبيه إلى أنه ثمّة خلط خطير في زمن الوسائط المفتوحة بين نقطتين هما: المعلومات والتعلّم، حيث التركيز الأكبرُ على جمع المعلومات وإغراق المستمع بالكثير منها لإيهام المستمع بأن المقدم على اطلاع واسع وتبحُّر كبير، وهذا من آثار العصور الحديثة، ففرق بين المعلومة وبين العلم والتعلّم، إذ إن كثرة المعلومات دونما إدراك لها وهضمها لا يؤدي إلا إلى آلام في العقل وسوء تصرفات في السلوك، وذلك كحال من يكثر من أنواع الطعام فيصاب بآلام المعدة؛ إذ إن العلم يبدأ من حسن التعلم وحسن استخدام المعلومات وإدراك العلاقات من المنشأ إلى النتيجة ليصل إلى ترتيب منطقي من المعلومات إلى التعلم فالعلم.
في عصر الوسائط المفتوحة، ما الواجب؟
لعل هذا هو السؤال الأهم، فالدين عنصر مكمّل لمعنى الإنسان ومن دون الدين سيفقد الإنسان بُعده المعنوي؛ إذ إن انتفاء وجود الدين سيقطع الصلة بين الإنسان وبين الله؛ ولذا فإنه من الضروري أن يكوّن الإنسان تصورًا واعيًا وشاملًا عن الدين حتى يستطيع أن يستكمل حياته الإنسانية، ولا بد –بكل تأكيد- أن يكون ذلك التصور مبنيًّا على أسس متينة، وهنا يظهر لنا أهمية السؤال: “ما الواجب في عصر الوسائط المفتوحة”؟، وكيف لي أن أقوّم التصور الذي يقدمه شخص ما حتى آخذ منه؟
إنّ التعلّم الديني تخصُّص من الاختصاصات التي يحتاجها أي مجتمع مهما كان دينه، ذلك أن الدين عنصر أصيل في حياة الإنسان، نظرًا لكون الدين منظومة تعنى بالعالم الغيبي وبالبحث عن المعنى من الوجود، وإذا حصل أي اختلال في تصوّر مجتمَع عن الدين فإن حياته ستصاب بالفساد، وعلى هذا فإن المختصّين بالدين عليهم أن يكونوا على وعي كبير واطلاع واسع بالدين ونصوصه وأهدافه ومقاصده، إضافة إلى فهم لأبعاد الحياة والإنسان، وهنا أحيل إلى فكرة مفادها أن علوم الآلة – والتي تعني العلوم المساعدة لطالب العلم في فهم النصوص الدينية كالنحو والبلاغة والصرف والمنطق- تتغيّر حدودها ومساحاتها بحسب الاحتياج لها على تغيّر الأزمان، فقد يكون من الأفضل أن تنطلق علوم الآلة في عصرنا من علوم الاجتماع، ولا أعني أن يكون طالب العلم مختصًّا بها بل أن يكون مطلعًا عليها ومتابعًا لسيرها.
إنّ المعلم الديني يدرك فقه الأولويات في التعليم فلا يبدأ من بائه إلا بعد أن ينتهي من ألفه وهكذا، فهو خبير بتسلسل المواضيع وتراتُبيّتها وعلاقاتها مع بعضها، فلا يُقدِم على موضوع إلا بعد أن يؤسس له وهكذا، كما أن هدف التعليم الديني ليس إخراج المتخصصين في الدين -بالدرجة الأولى-، بل تخريج المثقّفين من ذوي التمكّن الديني والشرعي، كما أن ليس هدف هذا التعليم تأهيل الناس جميعًا لتقديم الفتوى؛ إذ إن الفتوى ليست عملية رياضية يمكن لأي إنسان القيام بها، وإنما هي عملية تقويم واسعة المدخلات ودقيقة الإجراء.
إن الواجب الأول –في عصر الوسائط المفتوحة- هو عدم التسرع في الاستماع وبناء القناعات بناءً عليها، أو على الأقل التمهّل في تبني ما نسمع في فيديوهات هذا العالم المفتوح إلى حين البحث والتمحيص والسؤال عن قيمة ما يُقدّم لي فيها، فالتريث وعدم التعجّل واجب يفرضه إيقاع نمط حياتنا، وسؤال من نثق بهم ومن نعرفهم من الثقات العدول قد يكون دواء –مبدئيًّا- مانعًا للانكسار ودافعًا للنهوض بالتدريج.
[1] في أحد الفيديوهات يقدم أحدهم عدة فيديوهات لكيفية الصلاة وأوقاتها بالاعتماد فقط على القرآن دون الرجوع إلى بيان الرسول العلمي لكيفية الصلاة. والإشكالية أن مثل هذه الفيديوهات تلقى رواجا دون رقيب علمي.
[2] ثمة فيديوهات كثيرة تنطلق من أن القرآن هو المصدر المطلق والأوحد، ومن بينها قناة سمى صاحبها نفسه بالباحث وقناته بالتدبر في القرآن الكريم.
[3] فمثلاً، أشار أحدهم في فيديو عندما بلغ عدد المشتركين في قناته إلى مليون مشترك أن هذا دليل يشير إلى أهمية ما يقدمه انظر:
http://www.youtube.com/watch?v=jhXNqBGVlBc
[4] قدم أحدهم – وهو مختص في الصحة النفسية كما يقول – برنامجا سماه روائع يوم القيامة، وقد قمت بمتابعته لأرى أنه خصص أكثر من حلقة ليرد عدد من الأحاديث لأنها غير متفقة مع العقل أو لمخالفتها – كما يدعي – للقرآن. ولم يقدم في سياق الرد أي دليل أو فكرة يمكن الاستناد إليها. والمشكلة في مثل هؤلاء الأشخاص أنهم يكسبون جمهورهم بالخطاب العاطفي الذي يقنّع بأنه عقلي.