مقالات

فيلم Eternals ووقفةٌ مع أفلام الأبطال الخارقين

انطلق قبل عدة أيام فيلم Marvels الجديد Eternals في دور العرض الأمريكية وفي عدد من دول العالم، وكعادة أفلام الأبطال الخارقين صار الفيلم موضة بين الشباب الذين يريدون التسلي بحضوره ومعرفة شخصياته وقصصهم والقوى الخارقة التي يملكونها، إلى جاب الاستمتاع والنظر في المؤثرات البصرية المبهرة المرافقة لهم وإتقان كل مكونات الفيلم وتناسقها في العمل الترفيهي الذي أمامهم.

ولشعبية هذا النوع من الأفلام وانعكاساتها العقدية التي يغفل عنها كثير ممن يشاهدها للترفيه وجدت أن أفرد له بعض النقد لننتبه لأثره علينا ولا نستخف بقدرة هذه المدخلات التي تبدو بسيطة على التأثير في فكرنا وحياتنا من حيث لا ندرك.

الفيلم الذي يترجم عنوانه حرفياً إلى “الخالدون” يحكي قصته الخاصة لبداية الخلق، إذ يبدأ بعبارة “In The Beginning” تماماً كما يبدأ سفر التكوين -من كتب العهد القديم عند المسيحيين- ثم يحكي قصصاً تمزج بين النصرانية المحرفة، والميثولوجيا اليونانية القديمة، والميثولوجيا الإيرلندية وغيرها من الأساطير في قصة شخصياتٍ شبيهة بـ”الآلهة” والبشر وضعها كائن خارق ضخمٌ على الأرض لتحرس الكوكب أمام مخلوقات شريرة قد تدمره وتنهي وجود البشر عليه في أي لحظة.

من مقدّس إلى مسلٍّ!

إنها قصة قد تبدو بسيطة إن نظرنا إليها بعين المتلقّي المسترخي الذي يتناول البوشار وينتظر أن يرى ما يمتعه، لكنها تحتوي كثيراً من الأخطار العقدية والإشكالات الإيمانية التي لا ينبغي الاستهانة بها، فالكاتب بكل بساطة يقدِّم تخيُّله الخاص لنشأة الكون، ويطرح في إطار الترفيه تصوره عن الله والملائكة والشياطين وهدف الحياة، وينتقد منظومة الخير والشر التي يستمدها الإنسان من الله، فالشخصيات المكلّفة بحماية الأرض تتساءل في كثير من الأحيان عن مسؤولياتها وعن تماشيها مع ما تريد، كما أن الكاتب يقدم صورةً لما يمكن للإنسان العادي تحصيله إن تقرب من أنصاف الآلهة هؤلاء ورافقهم، وهو ما يشابه إلى حد كبير ما عرضته أفلام سابقة من نفس النوع -كفيلمي Thorو Hercules- لكن مع تمثيل أكبر وأخطر للخلق وهدف الوجود والإله الموجد كذلك.

thor

والإشكال في هذه الأفلام ليس في أن المشاهد قد يشرك تلك الشخصيات الخيالية بالله بشكل مباشر، فهو يعلم أنها خيال ووهم، إنما في أنها تجعل أمر الآخرة والملأ الأعلى والمعجزات والكرامات وعلامات الساعة ونهاية العالم أموراً مسلِّيةً مفتوحة للخيال والتنبؤ فضلاً عن السخرية والتسخيف، فيغيب عن قلبه أي قداسة للغيب والخوض فيه، وينسى تدريجياً أن الحديث في هذه الأمور محصور بالوحي المنزّه الذي يخبرنا بما لا يمكن أن نعلم دونه، وبذلك تختلط الأمور في ذهنه شيئاً فشيئاً بين الذي يراه بشكل متكرر ومتناقض معروض عليه في كل فيلم على حدة، والذي يقرأه في القرآن ويكرره في صلواته الخمس كل يوم، فإن كانت تلك الصلوات مُصلَّاةً على غفلة، وتلك الأفلام مشاهَدةً بتركيز وتغييب للنقد والمحاكمة وكثير من التكرار، فحين ذلك يتداخل الحق الغيبي بالأساطير لتصير كلها في ذهنه في خانة الخيال والفتنازيا لا أكثر.

ولعل تناقص هيبة الغيب في نفس من يكثر متابعة تلك المواد من أهم آثارها؛ إذ لكل منا نفس واحدة مهما حاولنا تخيل أنها مقسمة أو لا تربط الأمور ببعضها إذ تفكر فيها، فيصعب على الذهن وضع الإله ونهاية العالم وبدايته في خانة المتعة تارة وفي خانة الجد والخوف والرجاء والحب والعبودية والتسليم بعدها بدقائق قليلة، ومع هذا التناقض والاستمرار في غض الطرف عنه، تزول قداسة ذاك ويغيب عن النفس تذكر أن هذا منكر وهذا حق وهي لا تشعر.

الإنسان الخارق

يمكن عزو بدايات مفهوم البطل الخارق للفيلسوف الألماني نيتشه في كتابه “هكذا تكلم زرادشت” عام ١٨٨٣ و فكرة الإنسان المتعالي -فوق البشري- الذي يمكن لوجوده أن يبرر بقاء جنسه[i]، والذي رسم فيه الفيلسوف الملحد ما رآه أهدافاً ينبغي أن تسعى البشرية إليها بدلاً عن القيم الدينية المتجاوزة التي عرفتها الشعوب الغربية من قبل، فنيتشه الذي قال بـ”موت الإله” وضع الصورة الخارقة التي اخترع وسمى Übermensch كبديلٍ عن كل الثوابت التي كان يستمدها البشر من الإيمان، وكحماية لهم من السقوط في فراغ العدمية التي تختفي فيها كل الأرضيات التي يمكن التحاكم لها[ii] ، فكانت هذه الفكرة البشرية الخيالية لتمثل النموذجية التي ينبغي للبشرية السعي لها.  وفي عام ١٩٠٩ ترجم توماس كومون المفهوم إلى الإنكليزية ليصير باسم “Super Man” الذي ظهر لاحقاً في القصص المصورة ومن ثم الأفلام والمسلسلات بصورٍ مختلفة كثيرة.

وإن كانت فكرة نيتشة الفلسفية لا تظهر بوضوح في أفلام الأبطال الخارقين التي نرى اليوم، فإن نتائجها تتجلى فيها بلا شك. ففي هذه العوالم التي يرسم كتّاب الأفلام لا نرى أثراً لأي دعاء أو استعانة بالله أو التدين عند المصائب التي لا يوجد منقذ ولا أمل للبشرية فيها إلا في شخصٍ أو مجموعة أشخاص يشبهون البشر شكلاً ويملكون قوىً استثنائية تجعلهم قادرين على ما يحلم الناس العاديون بفعله، فمنهم من يطير ومنهم من يقرأ أفكار الآخرين ومنهم من يملك قوىً عضلية كبيرة ومنهم من يرى عبر الجدران وإلى غير ذلك مما يجعل الإنسان مستغنياً عن اللجوء للإله وباحثاً عن نجاته في بشرٍ خارق يشبهه ولا يشبهه.

هذا التمثل البشري للإله خطير عقدياً بما يدخل في ذهن المشاهد من أنه مستغنٍ عن الرب ببعض القوة والتكنولوجيا والتقدم العلمي الذي يجعله أيضاً يشبه البطل الذي يرى على الشاشة، وتجعله مثله قادرٌ على تجاوز كل المشكلات والارتقاء بجنسه بدون استحضار للغيب ولا الاستعانة بالإله، فمن تلك الشخصيات مَن قوته بدرعٍ متطورة صنعها مثل (Iron Man)، ومنهم من قوته بسيارات وطائرات ومخابر وتدريبات رياضية مكثفة خاضها كما لدى (Batman)، فما حاجة الإنسان عندها للتعبد واللجوء لمولاه؟ كيف سيستشعر ضعفه ويرضى به؟ ولم يمنع نفسه أياً من المتع الدنيوية إن كانت تلك الأمثلة التي باتت قدواتٍ تصور كل الخيرية تقضي يومها في قتال الأشرار وليلها في السُّكر والزنا والحفلات؟

ففي تلك العوالم نجد الخير والشر مبنياً على حكم البطل الخارق ومصالحه والقيم التي يختار، فهو الذي يحفظ السلام على وجه الأرض وهو الذي يقرر المبادئ التي على كل الناس التماشي معها، والقبول بها، ففي عالم الرجل الوطواط -مثلاً- يحق له التجسس بكاميرات مراقبة على كل المدينة وبدون إذن من أي سلطة لأنه الذي يحميها، وفي عالمSuperman  يحق له تحطيم أي متجر أو مقهى وهو يطير بلا انتباه ليلاحق الشرير الخطير، وفي عالم الرجل الحديدي نراه بشكل متكرر يسخر من الشرطة ورجال الحكومة الذين يعلمون أنهم لا يقدرون على مجاراة كفاءته وذكائه وحده، والغريب أننا كمشاهدين نتلقى هذه المواد بكل بساطة ولا ننتبه إلى ما تقوله وما تبني عليه في إطارها الترفيهي.

صورة من فيلم The Dark Knight (2008) تظهر كاميرات المراقبة التي وضعها البطل في كل المدنية

سحر الوهم

لعل من المشترك بين أفلام الأبطال الخارقين على اختلاف قصصها والشركات المنتجة لها هو امتلاؤها بالمؤثرات البصرية واعتمادها بشكل كبيرٍ على إتقان فريق كبير من المصممين لها، فالممثل في تلك الأفلام غالباً ما يقف أمام شاشة خضراء كبيرة يقوم بحركات بهلوانية أمام عصاً أو كاميراً يتظاهر فيها أنه يقاتل شريراً أو يتحول لشكلٍ آخر أو يستخدم قوة خاصة أو يسقط من سطح بناء دون أن يخدش، وإن كانت هذه المعلومة معروفةً لدى المتابعين  إلا أن سحر الصورة ودقتها تغيِّب عن ذهنهم حقيقة ما يفعله الممثل الواقف أمامهم، فهم وإن علموا أن الفيلم محشوٌ بالمؤثرات الخاصة إلا أنهم قد يغفلون عن المدى التي تذهب إليه تلك المؤثرات، فيتخيلون أن الممثل لديه جزء من القوة العضلية التي تظهر في اللكمة التي يمارس أو كل اللياقة البدنية الظاهرة أو حتى أنه يلبس اللباس الذي يظهر على الشاشة، بينما الحقيقة هي أن معظم الظاهر أمامنا في المنتج النهائي هو من صنع المحاكاة الحاسوبية التي يقوم الممثل بحركات متقطعة معينة يعيد المصممون ترتيبها فيه.

وهنا فإنه من الضروري التذكير للصغار والكبار الذين يكثر انبهارهم بما يشاهدون و غفلتهم عن أثره عليهم، فهم من ناحية يجهلون عدد الساعات التي قضاها فريق العمل في تجهيز كل مشهد من الفيلم، ومن ناحية أخرى لا يدركون مقدار الأموال التي أنفِقَت لنرى الفيلم بصورته النهائية التي تتناغم فيها حركات الممثل تماماً مع المحيط والمركبات التي يحلق فيها والأشعة الصادرة منه وغير ذلك، ومن آثار هذا الانبهار أن تغدو معايير الصحة البدنية عند اليافع مساوية لشكل جسد البطل الخارق الذي رآه ظاهر العضلات قادراً على رفع الأثقال والقفز والجري بشكل استثنائي، وإن لم يحدث شيء من ذلك فإن أقل ما تحدثه تلك المؤثرات هو إبهار المشاهد وتعطيل آليات تفكيره الناقد فيجد نفسه مستغرقًا في تأمل سحر الصور وبريقها المذهل، دون أن يلاحظ الإشكالات العقدية والفكرية التي تتسرب إليه خلال مشاهدتها.

في الأعلى: مشهد من فيلم Captain America: Civil War يظهر الفرق في الصورة قبل وبعد المؤثرات الخاصة.
في الأسفل: مشهد من أحد أفلام Avenges يظهر الفرق في الصورة قبل وبعد المؤثرات الخاصة. عن موقع Fame Focus

إني -وإن كنت- في هذا المقال أتحدث عن أفلام الأبطال الخارقين بشكل خاص، فإن كثيراً مما ذُكر يمكن إسقاطه على ما يسمى بأفلام الخيال العلمي أو الفنتازيا بشكل عام، ومن ذلك أفلام السحرة ومصاصي الدماء والمستذئبين وغيرها مما قد يوجه للصغار والكبار من الخيالات التي تصنع لذاتها عالماً خاصاً تحكمه قوانين يخترعها الكاتب وتحتكم شخصياته لمنظومات خير وشر خاصة بها كذلك، ولذا فإن دورنا كمؤمنين ومربين واعين أن نراقب نفوسنا أمام تلك المواد ونحدد تلقينا لها وموقفنا تجاهها لا كمشاهدين مستسلمين، إنما كمحللين ناقدين، وكذلك أن نعنى بالمقدار الذي يستهلكه أبناؤنا منها واستعدادهم لنقد محتواها وفهمه وتمييز أثره عليهم على الدوام.


[i] Arvhie Bland, Comic book superheroes: the gods of modern mythology, The Guardian, 2016.

https://www.theguardian.com/books/2016/may/27/comic-book-superheroes-the-gods-of-modern-mythology

[ii] Loeb, Paul. “Finding the Übermensch in Nietzsche’s Genealogy of Morality”. Journal of Nietzsche Studies. 42–4: 77 – via EBSCO Host.

هل الفن وسيلة للإصلاح؟

من مزايا المنهج الإسلامي شّموليّته الواضحة في كلّ شيء، ونقصد بالشمولية هنا وجود ضوابط وأطرٍ عامّة ومقاصد أساسيّة للإسلام تتنزّل الحوادث المتجددة تحتها والبحث عن اجتهادات فيها ضمن تلك الضوابط، حيث إن الشريعة حدّدت لنا المبادئ التّي يستطيع أن يلتزم بها الإنسان المُسلم في مُختلف مجالات الحياة من سياسة واقتصاد واجتماع، ويمتدّ ذلك أيضًا إلى الفن بمُختلف أنواعه، وما ابتعدت البشريّة عن هذه الضّوابط في أيّ مجالٍ إلاّ وأتبع ذلك انحراف وفساد وانتكاسة عن الفطرة الإنسانيّة.

يتبادر إلى الأذهان أنّ الإسلام عدو للفنّ وأنّه لا يُمكن النّبوغ فيه مع المُحافظة على القِيَم والمبادئ الإسلاميّة، فكيف يُمكن –أصلاً- توظيفه في التّغيير والإصلاح؟!

يحتج البعض في رَفضه للفنّ بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْ والْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان: 6]، وتعليقًا على هذه الآية نرى الإمام ابن حزم يقول في مواضع متعددة بأن الكفر متأتٍّ عن إرادة الإضلال عن سبيل الله واتخاذ ذلك هزؤًا، بل لو أن امرؤًا اشترى مصحفًا بقصد الإضلال عن سبيل الله لكان كافرًا” [المحلّى بالآثار، ابن حزم، ج7- 567] ومن ثمّ يمكن القول إنه لا علاقة لهذه الآية بتحريم الفن البنّاء السّليم والنّقي.

محمد الغزالي

محمد الغزالي

يرى الشيخ محمد الغزالي رحمه الله “أن الغناء كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح! فهنالك أغان آثمة، تلقى في ليال مظلمة وإن كثرت فيها الأضواء، لا تسمع فيها إلاّ صراخ الغرائز أو فحيح الرّغبات الحرام، وهناك أغان سليمة الأداء، شريفة المعنى، قد تكون عاطفية وقد تكون دينيّة وقد تكون عسكرية تتجاوب معها النّفوس، وتمضي مع ألحانها إلى أهداف عالية” [السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، محمد الغزالي، ص 109] “لقد أشاعت المدينة الحديثة الراديو والتلفزيون وغيرهما من الأجهزة الناقلة للثقافة والملاهي على سواء، ومعروف أنّ هذه الأجهزة أدوات غير مسؤولة عمّا يصدر عنها، وإنّ المسؤولية تقع على المؤلفين والمغنين والمخرجين، ففي استطاعتهم أن يقدّموا النّافع ويحجبوا الضّار” [المصدر السابق، 125].

إنّ الفن وسيلة يستخدمها الإنسان ليُعبّر عن تصوّراته في الحياة، ولينقُل ما يؤمن به من أفكار ومبادئ للمُتلقّي، فإن صلح هذا الإنسان وأبدع في فنّه فسيُنتج لنا صورة فنيّة سليمة المعالم نبيلة الأهداف تُنير الفكر الإنساني، وإن كان هذا الإنسان مُتّبعًا لأهوائه فاسد العقيدة، فلن يُنتج لنا إلاّ فنًّا مُشوّهًا لا خير فيه، بل لن يزيد المُشاهد إلاّ انحرافًا وضلالاً. فالمُشكل هُنا في الإنسان وفي كيفيّة توظيف الفن الذّي أصبح جزءًا من مُجتمعاتنا وثقافتنا المعاصرة.

الفن في الغرب

يعكس الفن في الغرب تصوّرات الأفكار والأفراد في واقع الحياة المعاشة في ظل طغيان المادة وفساد الفطرة، وأوّل ما يلفت نظرنا في الفن الغربى أنّه مشغول بالآلهة وبصراعها مع الإنسان الذّي بمقدوره الانتصار عليها والاستقلال بذاته.

وفي كلّ مرّة تكون هذه الآلهة أو القدر هي مصدر الشرّ والاستبداد، وفي المُقابل يكون الإنسان هو المُتعرّض للظلم وصاحب الحقّ، وبناء على ذلك وجب عليه تحدّي الآلهة المزعومة، حتّى يستطيع التحكّم في مصيره وصناعة تاريخه بنفسه دون الخضوع لأيّ قوّة خارجيّة. فعلى سبيل المثال الأفلام الحديثة التي يكون فيها الأبطال هم أشخاص من ذوي القدرات غير الطبيعيّة فيتمّ تأليههم في مواجهة قوى الشرّ الظالمة أو في بعض الأحيان يتطور الأمر بينهم وبين الإنسان العادي إلى صراع لإثبات قدرة انتصار الإنسان على هذه الآلهة وانتزاع السّلطة منها.

ومن مظاهر الفن الغربي أيضًا تمييع الدّين وتشويهه وتقديمه للعامّة بصورة باطلة ومنحرفة، حيث يتمّ عرض قصص الأنبياء مثلا كما حدث في فيلم نبي الله نوح وموسى بطريقة مُحرّفة فيها تجسيد للذات الإلهيّة، ففي ذلك افتراء على حقيقتها، كما أن فيها تجسيد للأنبياء ونزع للعصمة التّي منحها الله لهم، ولا ينتهي الأمر هنا بل يتمّ غالبًا عن طريق الفن ربط التطرّف والتخلّف بالدّين، خاصة بالإسلام، كما يتمّ الاستهزاء به في المسرحيّات من أجل المُتعة والتّسلية.

أمّا على المستوى الاجتماعي فقد أصبح الفن تهديدًا للأمن والاستقرار داخل المجتمع، حيث يتمّ تبرير أعمال العنف والقتل لشخصيّة عاشت ظلمًا اجتماعيّة واضطرابات نفسيّة وجعلها ضحيّة يتعاطف معها المُتلقّي، فتُصبح له قابليّة للّجوء للعنف الجسدي واللّفظي كلّما وقعت له مظلمة من باب التمرّد على النّظام القائم، وهذا ما حصل عندما تمّ عرض فيلم الجوكر الذّي انتقِد بشدّة بسبب العنف المفرط فيه إلى جانب التّبرير لإجرام هذه الشّخصيّة، وخلال عرضه في دور السّينما الأمريكيّة تمّ نشر وحدات أمنيّة إضافية فيها خوفًا من تداعيات عرض هذا الفيلم.

الجوكر أحد أشكال الفن

لم يترك الفن في الغرب العلاقات بين الرّجل والمرأة على شكلها الفطري، فلا يكاد يخلو عمل فنّي من عرض مفاتن المرأة من باب الإغراء والمُتعة وتقديس الجسد، كما بات عرض العلاقات الجنسيّة المُحرّمة وكأنه جزءٌ من الدلالة على الحبّ، حيث لا بدّ من تلبية الغرائز كلّما سنحت الفرصة لذلك بدون تحرّج أو قيود أخلاقيّة، ومن شدّة الانحراف الفنّي أصبح يُروّج اليوم لزنا المحارم، والشّذوذ، بل وصل الأمر بأن تقوم نتفليكس بالدفاع عن إدراج فكرة اشتهاء الأطفال والدعوة للمثلية وعرض أفلام من بطولة أطفال مراهقات بما لها من إيحاءات جنسيّة مبالغ فيها!

إنّ مثل هذا الفن، الذّى يتم إخراجه بإتقان وجودة عالية تأسر المُتلقّي، وذلك لن يُنتج إلاّ إنسانًا كارهًا للدّين، جاحدًا لربّه مُنغمسًا في شهواته مُتّبعًا لأهوائه بدون حدود، ونحن لا نُنكر وجود روائع إنسانيّة عميقة وعالية فيها مشاعر راقية في الفن الغربي، إلا أن قول ذلك يجب ألّا يحجب عن أبصارنا المفاسد التي ذكرناها وما يترتّب عليها من انحرافات.

الفن في مُجتمعاتنا

ربما يقال إن بداية الفن في مُجتمعاتنا كانت تحترم التّقاليد اليومية والأخلاق، وعندما دخلنا في طور الحداثة أصبح أرباب الفن مولعين بتقليد الغرب في كلّ شيء يُناقض قيم الإسلام، لقد بدأ الفن ينسلخ رويدًا رويدًا عن منهجه في إظهار مشكلات المجتمع إلى تحريف فكره، وأصبح من الضروري فيه أن تظهر المرأة بطريقة جذّابة ومُغرية، وأصبحت بعض الانتاجات الفنيّة تعرض العلاقات المُحرّمة من دون حرج باسم الإبداع والحريّة وذلك بهدف تحصيل أكبر نسبةٍ ممكنة من المُشاهدات.

أصبحت لحظات الضّعف والانحراف أمام الغرائز والنّزوات تُصوّر على أنّها بطولة فانقلبت المفاهيم عندنا، لقد تحوّلت الخيانات الزّوجيّة واتّخاذ العشيقات حبًّا وتضحية، وتحوّل التعرّي واللّباس الفاضح وغير اللائق تحرّرًا ومُوضة يتسابق إليها شبابنا اقتداءً بالمشاهير من الفنّانين والفنانات، وتحوّل الكلام الفاحش وعقوق الوالدين وشرب الخمر والتميّع رُجولة وفخرًا، وكلّ ذلك يُقام في الأعمال الفنيّة عندنا باسم الواقع وتشخيص حالة مُجتمعاتنا!

كما أصبح الفن اليوم طريقًا لتشويه قُدواتنا الإسلاميّة وتزييف التّاريخ ووصفهم بالتطرّف والإرهاب والقدح المسيء حتّى تنفر العامّة منهم بدون الاطّلاع على سيرتهم وما قدّموه لأمّتنا الإسلاميّة، ونذكر على سبيل المثال الهجمة الشرسة في احدى المُسلسلات على شيخ الاسلام بن تيميّة وجعله سببًا لاتّباع شبابنا لمنهج التّكفير وإباحة دماء الأبرياء، ولنضف إلى ذلك ما يتمّ ترويجه من أباطيل في أعمال فنيّة حديثة باستغلال ما تقوم به  بعض التنظيمات المتطرفة لإلصاق تُهمة القتل والعنف بالاسلام دون توضيح الحقيقة للمُتلقّي ودون تبيين انحراف هذه التّنظيمات عن الحقّ.

لن ينتهي دور الفن هنا بل سيزجّ في السياسة عن طريق إنتاج مُسلسلات ذات جودة عالية هدفها تزييف الحقائق وتلميع صورة الأنظمة الظالمة والمستبدّة، بهدف تبرئتهم من كلّ إجرام قاموا به داخل أوطانهم وخارجها، بل أصبح الفن اليوم يُوظّف من أجل تبرير جريمة التّطبيع مع الكيان الصّهيوني وإقامة الحفلات الغنائيّة إرضاءً لقرارات السّلطة الحاكمة واستجابة لطلبها!

وقد انعكس كلّ ذلك سلبًا على مُجتمعاتنا وانتشر بيننا العنف والفساد الأخلاقي والجمود والوهن أكثر من ذي قبل. ولنا أن نتساءل الآن إذا كانت هذه صورة الفن عندنا، فما البديل الذّي يُقدّمه الإسلام لنا؟

الفن في الإسلام

إنّ الالتزم بمنهج الله في الفن لن يجعله عبارة عن مواعظ وخطب وإرشادات دينيّة متسلسلة، ولن يتحدّث العمل الفني عن العقيدة والفقه فقط، ولن يكون مُنفصلاً عن واقع الحياة عن طريق تقديم صورة مثاليّة للإنسان غير قابلة للتّطبيق، بل سيجعله يتناول كلّ جوانب الحياة ومشاكلها بكلّ حرّية من زاوية التصور الإسلامي.

قد يتحدّث الفن الإسلامي عن الكون فيصوّر لنا جماله وارتباطه بالخالق ويصفه لنا على أنّه خليقة ذات روح تُسبّح لله وتخضع له وتشهد على من عاش فيه وكلّ مخلوق موجود فيه إلاّ وله حياة وروح كما قال الله لنا في كتابه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]

وقد يتحدّث الفن عن الإنسان فيراه خليفة الله في الأرض وعبدًا له يستمدّ حياته ووجوده من الله وحده وأنّ له دورًا فاعلاً في الحياة، وأن هذا الكون مُسخّر له ليُصلح فيه ويُحارب الظلم والشرّ، ومن ثمّ يكشف عن حقيقة الإنسان الذي له منافذ ضعف يستغلّها عدوّه الأوّل الشيطان ليُغويه، فتكون هنا مُجاهدة النّفس والشيطان من أجل اتّباع منهج الله والثبات عليه وتربية النّفس على ذلك.

بكل تأكيد فإنه من المهم للفنّ مُعالجة العلاقة بين الجنسين بإعطائها طابعها الإنساني النّظيف الطاهر بعيدًا عن الرذيلة والشّهوات، وأن يظهر أن العلاقة الطاهرة مهمة لبناء مُجتمع مُتوازن ونقيّ وتغيير واقعه والنّهوض به.

وقد يتحدّث الفن عن رسول الله عليه صلى الله عليه وسلّم فيُخبرنا عن حياته وأخلاقه وعن علاقته بربّه وعلاقته بأصحابه وبأهله وأزواجه وعن غزواته وكيف نصره الله فيها، وعن كفاحه من أجل نُصرة الحقّ ودحض الباطل، ليكون خير قدوة لنا في مُختلف المجالات، ولنتعلّم منه كيف نُدير حياتنا ونحياها.

قد يتحدّث الفن عن المُستويات العليا للجمال التّي تشمل كلّ مجلات الحياة كجمال الأخوّة الاسلاميّة ومدى حاجتنا لها اليوم، وجمال الحبّ الذّي يشمل الحبّ الإلهي والإنساني وجمال الأخلاق، وكيف تحيى الأمم بها، وكذلك جمال الصّبر على محن الحياة والعزم على تجاوزها مع التوكّل الله الذي بيده كلّ شيء، وجمال الخير الذي يجب أن يكون ديدنه كلّ إنسان، وجمال الحقّ والعدل الذي تقام بهما الدّول النّاجحة، وجمال الحريّة والكرامة التّي تطمح إليها الشّعوب والأمم المقهورة والمظلومة، وجمال العلوم التّي تنهض بها الأمم وتُنير بها طريقها وتُحقّق بها استقلالها، وجمال النّضال والبذل والتّضحية بالمال والنّفس من أجل الإصلاح والتّغيير والعودة لمنهج الله ومُحاربة المُنكر والجمود والجهل، وجمال الجهاد الذي تكسر به الأمّة قيود الاستعمار والمذلّة والاعتداء على حُرماتها.

وللفنّ أيضًا أن يُجسّد لنا الواقع ومشاكله الكبرى بدون إفراط أو تفريط، وفق الضوابط الإسلاميّة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، وتسليط الضوء على الانحرافات النفسيّة والخُلقيّة التّي يعيشها الفرد منّا مع تقديم الحلول لها في شكل فنّي إبداعي وفق الهدي الإسلامي.

وخلال هذا كلّه يُصبح للفنّ الإسلامي مجال واسعٌ للتّعبير الشامل في كلّ مجالات الحياة، وإنّ مثل هذا الفن سيُساهم بلا شكّ في ترسيخ القيم والمفاهيم الإسلامية بيننا، وسيلفت كذلك نظر المُتلقّي إلى مواضع الخلل التّي تعيشها مُجتمعاتنا وكيفيّة النّهوض بها، وسيدفعه ذلك إلى العمل وعل والهمّة من أجل التّغيير.

إننا لن نصل لهذا المستوى الفنّي إلاّ في وجود فنّانين تشبّعت أنفسهم وقلوبهم التصوّر الإسلامي الصّحيح، فتراهم يتطلّعون للإصلاح، كما أن علينا دعم مواهب شبابنا المُسلم في هذا المجال، والإحسان تأطيرهم وعدم غلق باب الفن عنهم فيفرّون من دينهم ويُسخّرون طاقاتهم الابداعيّة في الفن القبيح المشوّه والمنافي للأخلاق.

هوليوود تسوّق للنسوية وتزوّر التاريخ.. مسلسل Mrs. America

في الخامس عشر من شهر أبريل الماضي أطلقت شبكةFX  أولى حلقات مسلسل  “Mrs. America” الذي يزْعَم أنه مبني على أحداث حقيقية، هذا المسلسل القصير المعروض في تسع حلقات، والمصنوع بأيدي يسارية واضحة المعالم يحكي قصة الصراع الذي دار في السبعينات في الولايات المتحدة الأمريكية بين الحركة النسوية، وبين التيار المحافظ حول قضيّة تحرّر المرأة المتمثّل بتعديل مساواة الحقوق الدستوري (Equal Rights Amendment).

كعادتها؛ فإن هوليوود لا تقدم لنا قصة مجردة بوقائعها التاريخية المسجلة، وإنما لا بد أن تضع لمساتها وإضافاتها الخاصة عليها لتحوّل الحدث إلى رسالة مؤدلجة فيها خيرٌ وشرٌ ومحاكاة للعواطف والغرائز، مما ينتج نهايةً موقفاً محدداً مسبقاً في ذهن المشاهد.

هذه المنظومة الإعلامية الضخمة المموّلة بملايين الدولارات لا تعنيها القيم ولا تهمها الحقائق، إنما تستخدم جلَّ أدواتها في إقناع المشاهد بأفكارها الشيطانية بأخبث الوسائل الممكنة. وحين كانت قصة العمل متعلقة بالنسوية والمحافظة، فلا شك أن هوليوود ستساند النسوية، وستحوِّل في سبيل ذلك أصحاب الموقف المخالف إلى وحوش ورموزٍ للشر أياً كانوا.

أحاول في هذا المقال إيرادَ أبرز أمثلةً على أدلجة المفاهيم وتزوير الحقائق وابتداع التاريخ في المسلسل المذكور ليتضح للقارئ أسلوب هوليوود وصُنَّاع الأفلام بشكل عام في إيصال رسائلهم المخفية عن طريق أعمال تبدو في ظاهرها ترفيهية مجردة.

صراع النسويين والمحافظين
يحكي الفلم قصة حقيقية دارت في سبعينات القرن الماضي حين اقترح ناشطون التعديل الدستوري القائل بالمساواة التامة بين الجنسين في الحقوق والواجبات القانونية، ومنع التمييز الجنسي في أي حق أو واجب في البلاد في إطار حركات تحرير المرأة وتقدمها[1].

بدا التعديل ذو العنوانٍ الجذاب “المساواة” بريئاً وبسيطاً لعامة الشعب، مما جعلهم يدعمونه أول الأمر، لكن عمل التيار المعارض للتعديل بقيادة فيليس شلافلي (التي تبناها اليمين المحافظ، أي: الحزب الجمهوري) كان محورياً في توضيح مآلات المساواة المجحفة ومناقضتها لقيم الأسرة والدين في المجتمع، مما أدى إلى رفض جزء كبير من الشعب للتعديل ومطالبة النواب بمنعه ومن ثم إلغائه تماماً عام 1982[2].

ولكون التعديل بفكرته وغايته يوافق هوى النسوية فقد حملت شعاره ودعت إليه النسويات آنذاك، وتبنّاه اليسار الليبرالي (أي الحزب الديمقراطي)، ورأوا فيه غاية التحرر والحضارة التي تلغي الفوارق بين الرجال والنساء، ومن أهم قادة التيار المشهورين في ذاك الوقت: بيتي فريدان وغلوريا ستاينم وبيلا أبزاغ[3].

فيليس شلافلي (الشخصية الرئيسية في المسلسل) قادت حركة معارضة تعديل المساواة لأنها -على حد تعبيرها- أرادت تنبيه النساء إلى حقيقة الفكر النسوي ومآلات شعاراته الرنانة[4]. فكانت شلافلي ناشطة رائدة في توضيح حقيقة مطالب النسويات اللواتي يردن مساواة المرأة بالرجل مقابل استغنائها عن ميزاتها المكفولة قانونياً كحقها في النفقة الكافية من زوجها، وامتناع التجنيد الإجباري عنها حال الحرب، وحقها في التأمين الاجتماعي من زوجها وغير ذلك الكثير مما خفي على عامة النساء[5].

فيليس شلافلي في الحراك السياسي الرافض لتعديل مساواة الحقوق (ERA) المصدر: https://www.nytimes.com/2016/09/12/us/phyllis-schlaflys-lasting-legacy-in-defeating-the-era.html

وقد حققت شلافلي في نشاطها نجاحاً كبيراً. فرغم أنها بدأت حراكها الرافض لتعديل المساواة في مراحل تمريره الأخيرة إلا أنها تمكنت من قلب موقف الشعب لصفها وإلغاء تعديل المساواة انتهاءً ووضع عراقيل أمامه مازالت قائمة حتى اليوم[6].

كانت قدرة شلافلي على كشف خفايا المساواة ومآلات الفكر التيار النسوي وآثار مساعيه على المرأة والعائلة والقيم الأمريكية مؤثرةً في جعل جزء كافٍ من المجتمع يرفض تعديل المساواة. ولأن حراك شلافلي المنطلق من الدين المسيحي والقيم التقليدية كان ناجحاً وعائقاً في وجه تقدم اليسار اللاديني فلا عجب أنهم كرهوها ورأوا فيها الشر المطلق. ويستشف ذلك –على سبيل المثال- من قول آن فريدان لها في أحد المناظرات: “أنت خائنة وعدوة لأبناء جنسك، كم أتمنى أن أربطك على عصاً وأحرقك” [أي: كالساحرات]![7].

ولما كان اليسار يزداد شعبيةً وتأثيراً اليوم، خصوصاً مع بُعد الجيل الجديد عن الدين وانفصاله عن تاريخه القديم والحديث، رأت هوليوود أن تنتج عملاً كاملاً يلمّع صورة النسويات ويشيطن عدوتهن ويعيد كتابة القصة على أنها تراجيديا تاريخية مؤلمة خسر فيها العدل وانتصرت فيها الساحرة الشريرة وأتباعها الجهّال!

تصوير المسلسل للواقع
شلافلي كانت شخصية غريبة بالنسبة للنسويات، فقد رفضت المساواة ودافعت عن حق المرأة بالأمومة والتربية ووصفت الإنجاب بالحاجة الغريزية التي تطلبها معظم النساء، وقالت مرة: “كثيرٌ من النساء يعملن خارج البيت وهن بحاجة للعمل، لكنني أرفض تماماً قول هؤلاء الليبراليات اللواتي يزدرين ربة البيت التي تريد لأمومتها أن تكون مهنتها الوحيدة، هؤلاء يسمين البيت بالسجن الأنيق بينما يصوّرن العمل خارجه على أنه الجنة، في حين أن كثير من النساء يعتبرن البيت أكثر مكان مرضٍ ومريح. أنا أعمل لحفظ حق المرأة في أن تكون الأمومة وظيفتها الدائمة إن شاءت، فأول شيءٍ سيفعله تعديل مساواة الحقوق هو إزالة واجب النفقة عن كاهل الزوج وتقسيمه بالتساوي بين الزوجين”[8].

لقاء تلفزيوني لفيليس شلافلي مع المقدم فيل دونيهيو، 1975 المصدر: Phyllis Schlafly Eagles https://www.youtube.com/watch?v=s13qZnKdLQ8&t=603s

كما أنها قدّمت صورة ثابتة للمرأة المحافظة الفخورة ببيتها ودينها والقوية في مناظراتها وتأثيرها على الجمهور. لكن المسلسل أظهرها بشكل مختلفٍ تماماً، حيث ظهرت كاذبة وجاهلة وحقودة، مخدوعة وخادعة لكل من حولها، إضافة لامتلاكها أجندات خفية لا علم لأحد بها وبأنها تعامل زوجها وأبناءها الستة بأسوأ الأساليب الجارحة، مع أن كل ذلك لا دليل عليه البتة، بل هو مخالفٌ لما يبدو لقارئ التاريخ الناظر في وثائقه.

في مشهدٍ صادم صنعه الكاتب من خلال دمج ثلاث مواقف حقيقية موثقة ليصور مناظرة شلافلي وزوجها ضد برندا فاستو وزوجها، واستخدم فيه حوارات حقيقية، لكن بقائلين مقلوبين وسياقات مختلفة[9].

ففي لقاء مشترك لفيليس وزوجها في برنامج صباحي، مرّت عبارات حكى فيها الزوجان تفاصيل من حياتهما في سياق المزاح، أخذها الكاتب ووضعها على لسان الزوج في قلب المناظرة الرسمية المحتدمة ليبدو أنه الزوج المحافظ يحرج زوجته أمام الجمهور[10]، بينما زوج النسوية المتحررة يقدّرها ويعاملها بحب واحترام. إضافة لذلك أخذ الكاتب حواراً لفيليس مع النسوية بيتي فريدان[11] تقدم فيه فريدان عدة دعاوى كاذبة، فتحرجها فيليس بمطالبتها بدليل عدة مرات على الهواء، بينما تتهرب فريدان دون جدوى (وهذا كله موثق ومتوفر على يوتيوب)، فأخذ الكاتب هذا الحوار نفسه ووضعه في مشهد مناظرة شلافلي وفاستو مع جعل شلافلي هي الطرف الذي يقدم الدعاوى الكاذبة ويحرج نهايةً من قبل خصمه المطالب بالدليل[12]!

إضافة للتزوير الجلي، فقد اخترعت هوليوود تفاصيل كثيرة زجّتها في قصة المسلسل، فأضافت أحداثًا مختلقة لحياة فيليس الخاصة لتبدو على خلاف مستمر مع زوجها، وترسم في ذهن المشاهد أنها منافقة لا تعيش القيم التي تدعو إليها، كما ابتدع الكاتب خلافاً بينها وبين ابنتها لتبدو عائلتها رافضةً لها، الأمر الذي كتبت عنه الابنة الحقيقية وطالبت إدارة المسلسل بالرجوع عنه دون جدوى. وزيادةً في استغفال المشاهد اخترع الكاتب شخصيةً لا وجود حقيقي لها أسموها أليس مكراي وقرروا أنها صديقة فيليس المقربة التي تبدأ داعمةً لها ثم تتحول تدريجياً لكرهها والحقد عليها حين تكتشف أكاذيبها. وبهذه الطريقة وجد الكاتب شخصاً افتراضياً يقول لفيليس ما يتمنى قوله لها لو كان حياً في ذاك الوقت.

رغم أنني هنا لا أدافع عن شخص فيليس شلافلي، إلا أنها كانت نصيرة للتيار الديني، وفي صراع مساواة الحقوق تصدّت بنجاح للنسويات وأظهرت كذبهنّ، ولذلك كانت عقوبتها أن حوّلتها هوليود إلى رمز البغض والكره الذي لا يذكرنا إلا بساحرات ديزني الشريرات.  وفي المقابل، صوّر المسلسل النسويات على أنهن مرحات، سعيدات صادقات ولطيفات، يتبعن قيماً وأهدافاً عظيمة يومنّ بها سواء في الحياة الخاصة أو على المسارح، حتى إن الواحدة من قادتهن لا تكاد تمشي خطوة في الطريق إلا وتوقفها حشود النساء الشاكرات لجهودها العظيمة في سبيل تحررهن[13].

تزوير بلا خجل!
العجيب أننا هنا نتحدث عن كذب وضاح وتزوير جلي وإساءة لأشخاص بذاتهم دون مداراة أو مواراة، مع أن معظم شخصيات العمل مازالت على قيد الحياة، كما أن القصة المروية لا تبعد أكثر من 50 سنة إلى الوراء، لكنّ هوليوود تعوّل على جهل الجيل الجديد وميل الشباب للفكر اليساري وانبهار الفتيات بشعارات النسوية، وكسل الجميع عن النظر في السجلات أو عبر محركات البحث عن التاريخ الصحيح، فأنتجت عملاً كاملاً لا يحمل من الواقع إلا الأسماء، محشوًّا بتسويق النسوية وتحويل كل من لا يوافقها إلى شرٍ محضٍ في جسد إنسان.

ولنا أن نسأل هنا:

لصالح مَن تعمل هذه المنظومة المموّلة بملايين الدولارات، ذات البوابات المضمونة إلى البيوت والعقول؟ مَن الذي يحدد الفكرة والقصة والمعتَقَد الذي تنتجه تلك الأعمال في المشاهدين؟ ولماذا نرى فيها كل يوم مزيداً من الانحلال والكذب في أطرٍ جذابة من الصور والمؤثرات المتقنة؟ ولماذا لا تصلنا أي قصة إلا مرفقةً بذم الدين وربط أي متديّن بالشر المطلق؟

إن هذا البعد الممنهج عن الدين لا يخدم بالفعل إلا غايات الشيطان الذي {لَعَنَهُ اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء:118]، والذي مازال يوسوس في بني آدم حتى يصيروا عباداً له من دون الله. وها هي الأجيال تنبذ تدريجياً أياً من بقايا الدين، وتتحوّل لترى في مجرد الانتماء إليه خزياً وعاراً ومعاداة للقيم الإنسانية التي استبدلتها به، وكل ذلك تحقيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ، اللهُ ” (رواه مسلم).

لا بدّ في ختام الحديث من التنبيه إلى أن هذا الحديث عن المسلسل لا يسوّغ لي أو للقراء متابعته أو تكثير مشاهداته، فهدفنا تزكية نفوسنا أولاً، ومن ثم تدريبها على نقد ما يقدّم عليها، لا فتح أبوابٍ جديدة عليها من الكذب والوهم. نسأل الله أن يؤتي نفوسنا تقواها وأن يزكيها هو خير من زكاها.


[1] The History of the Equal Rights Amendment. ERA: A History, API.

https://alicepaul.org/era/history/

[2] المصدر السابق

[3] Equal Rights Amendment Passed by Congress, History.

https://www.history.com/this-day-in-history/equal-rights-amendment-passed-by-congress

[4] The Life and Legacy of Phyllis Schlafly, Phyllis Schlafly Eagles.

https://www.phyllisschlafly.com/phyllis/

[5] The Equal Rights Amendment Explained, Alex Cohen and Wilfred U. Codrington III, Bennan Center For Justice, 2020.

https://www.brennancenter.org/our-work/research-reports/equal-rights-amendment-explained

[6] Phyllis Schlafly’s Lasting Legacy in Defeating the E.R.A., Clyde Haberman, The New York Times, 2016.

https://www.nytimes.com/2016/09/12/us/phyllis-schlaflys-lasting-legacy-in-defeating-the-era.html

[7] Phyllis Schlafly Biography (1924-2016), Biography, 2020.

https://www.biography.com/political-figure/phyllis-schlafly

[8] Phyllis Schlafly on the Equal Rights Amendment | Phil Donahue Show 1974, Phyllis Schlafly Eagles. 2019.

https://www.youtube.com/watch?v=EtcSFH1xubA&t=964s

[9] مناظرة شلافلي وفاستو في المسلسل: https://www.youtube.com/watch?v=KDOe_jovXTk

جزء من مناظرة شلافلي وفاستو الحقيقية: https://www.youtube.com/watch?v=KBt5tCGV1sI

[10] لقاء فيليس شلافلي وزوجها: https://www.youtube.com/watch?v=dd0E72ZU5oM&t=7s

 

[12] انظر الدقيقة 16 و17 من اللقاء المشترك لفيليس شلافلي وبيتي فريدان: https://www.youtube.com/watch?v=WncN6PWEMGo

والدقيقة 1:30 من مناظرة شلافلي وفاستو في المسلسل: https://www.youtube.com/watch?v=KDOe_jovXTk

[13] Mrs. America | Ep. 4: Betty and Gloria Highlight | FX

https://www.youtube.com/watch?v=6u2cBwrKACY

 

 

المرأة في هوليوود وأساطير النجاح والحرية

سجادة حمراء، أثوابٌ فاخرة، حليّ ثمينة، جمالٌ وقوةٌ واستقلالية، خطابات شكر وثناء وفخر، وحديث عن التوازن والسعادة والاستقرار..كل تلك الصور البراقة تتبادر للأذهان عند ذكر المرأة في هوليوود. فهؤلاء النساء يظهرن لنا على الشاشات وفي دور السينما كمثالٍ لتحقيق الذات والوصول إلى قمة هرم النجاح. يرسمن نموذج الجمع بين القوة والحسن والأنوثة في عيون بناتنا وشبابنا كأنهم يمثلون غاية السعي ونهاية النفق المظلم الذي تقطنه الشعوب.

لكن نظرة فاحصة إلى عالم هوليوود والنساء فيه تظهر بشاعة الحقيقة المخفية. فبين معاناة نفسية وأمراض عضوية وضغوطات اجتماعية وفقدان للخصوصية، تعيش “النجمة” الهوليوودية حياتها تلهث وراء سرابٍ لا تمسكه مهما أغرقت نفسها بالماديات. لا تملك حياتها ولا بأبسط القرارات، مسكينة تائهة في متاهات مريرة إما تجهل الذي يُفعل بها أو تدري وتتغافل مقابل الأجر المادي و وهم النجومية المزعومة.

ولأن فتنة الظاهر قد تخيّل للناظر أن هؤلاء الإناث يمثلن المرأة القدوة، أقف في هذا المقال مع صورٍ من الظلم والاستعباد التي يعانينها، لتعلم شاباتنا أن مثيلاتهن لسن محل غيرة، إنما أهل لأن نشفق ونأسى عليهن مهما بلغت أعداد جمهورهن واتسعت قصورهن وغلت حليّهن.

مقارنة بالرجل
حين تتحدث الصحافة الغربية عن المرأة في هوليوود فإن التركيز غالباً يكون على عدد الممثلات في الأدوار الرئيسية وحواراتهن وأجورهن وعدد النسوة العاملات وراء الكواليس، كل ذلك مقارنة بالرجل طبعاً.[1] وإن كانت هذه النقاط مثبتةً بالاحصائيات، إلا أنها انعكاسات للرؤية النسوية التي لاتريد للأنثى إلا أن تحقق ما حققه الذكر، وأن يكون لها النصف في كل شيءٍ، بغض النظر عن اهتمامها به أومناسبته لطبيعتها. نجد النسويات مثلاً يعترضن على أن ثلاث نساء فقط على مر التاريخ ربحن جائزة الأوسكار لأفضل مخرج، رغم أن نسبة المخرجات النساء في هوليوود لم تجاوز 8-13% من المخرجين عبر السنوات![2]

لكن الذي أود تسليط الضوء عليه ليس نقص حضور المرأة أو نوع الحوارات التي تعطى لها، إنما ما يجري في خلفية كل ذلك، كيف تدخل الأنثى هذا العالم، وعلى أي أساس يتم اختيارها من بين المنافسات؟ وإن كانت تلك الأدوار تدر أرباحاً هائلة لمجرد أداء بعض الحركات وقول بضع عبارات، فما الذي تقدمه امرأة لتحصيلها والحفاظ عليها؟

إن التمثيل في هوليوود لا يشبه غيره من المهن، فتسابق الفتيات في أمريكا على فرص الظهورعلى الشاشة، مع قلة الأعمال المنتجة نسبياً يجعل المنافسة عصيبة جداً،[3] مما يقنع المتنافسات بضرورة تحمل أي شيء مقابل رضا المخرجين والمنتجين (الرجال غالباً).[4] وقد أظهرت تقارير عديدةٌ أن رضا هؤلاء لا علاقة له إلا بآرائهم وأهوائهم الخاصة، التي يقال أنها تتوجه إلى شخصية الفتاة، حضورها المسرحي، طاقتها، تميزها، تفوقها، وحيويتها وغيرها من السمات المعنوية التي لا تملك معيارية حقيقية. وبذلك يكون المجال مفتوحاً لمجموعة من صناع الأفلام لتقييم آلاف الفتيات بناءً على شكلهن الخارجي ثم اختيار بضعٍ منهن للدخول في هذا العالم والتحول إلى “نجوم”. ولنا أن نتخيل الحدود المهنية المحفوظة خلال التجارب، فهذه الممثلة روزمند بايك تقول إن المسؤولين طلبوا منها التعري في تجربة أداء لفلم “Die Another Day”،[5] وهذا أندي هنري -مسؤول تجارب أداء مسلسل “CSI”- يُطرد من عمله بعد أن كشفت خمس ممثلات أنه طلب ذات الفعل منهن خلال التجارب، الأمر الذي وافقن عليه طمعاً في الأدوار.[6] وهكذا يتحول ما يفترض أن يكون مقابلة عمل مهنية إلى حالة مبتذلة من عرض سلعة وقبول أو رفض.

تقول الممثلة جين فوندا لمجلة ديلي تلغراف: “حين يتعلق الأمر بالممثلات فالمظهر يختصر كل شيء، فالرجال بصريون جداً ويريدون الشابات الحسناوات في الأعمال، ولذلك تجدنا نحاول الحفظ على شبابنا دائماً”.[7] أما التفوق الأكاديمي والخبرة والاحترافية فلا قيمة لهم ولا اعتبار، إنما هي مسألة ذوق شخصي للمسؤول لا أكثر، ولا عجب أن إحصائية أجرتها مجلة فوربز وجدت أن 10% فقط من الممثلين الأعلى أجراً في هوليوود يحملون شهادة جامعية.[8] وكذلك فالبقاء في هوليوود يستوجب على الممثلة أن تحافظ على صورتها وشبابها دائماً، وإلا رفَضها الجمهور وأعرض عنها المخرجون. وتعليقاً على ضغط هوليوود على نجماتها ليحافظن على شكل جسدٍ معين ونحافة مرضيةٍ غير واقعية تقول ليزا كودرو -بطلة مسلسل Friends- إن التوقعات التي كان ينبغي عليها تحقيقها كجزء من عملها في المسلسل جعلتها غير راضية عن جسدها أبداً، مما دفعها إلى محاولة تنحيف نفسها بشكل دائم، حتى أنها كانت تشعر بالتعب والبرد والمرض بسبب الحميات، وكانت رغم ذلك تتلقى المديح والثناء ممن حولها كلما خسرت مزيداً من الوزن.[9]

فضائح الاستغلال وحركة MeToo
إن كان هذا حال المرأة في مرحلة العبور إلى هوليوود فكيف بعد أن تدخلها؟

سنة 2017 انفجرت في الإعلام الأمريكي والعالمي فضيحة المنتج المشهور هارفي واينستين الذي ادعت أكثر من 50 امرأة أنه قام باعتداءات جنسية ضدهن، ومع هذه القضية بدأ هاشتاغ MeToo  بالانتشار، حيث تشجعت النساء في هوليوود (ثم خارجها) على الإفصاح عن إساءات واستغلالات جنسية تعرضن لها من قبل الرجال.[10]و بدأ بتلك الحملة حديث طويل عن السلطة الرجولية في هوليوود والحاجة للثورة على الذكور وسحب مركز القوة من أيديهم. فبحسب إحصائية نشرتها USA Today  فأكثر من 94% من النساء في هوليوود عانين اعتداءً جنسياً مرةً على الأقل في العمل.[11] لكن العجيب هنا أن الحل المقترح لم يكن تبديل بيئة عمل النساء لتكون أكثر أماناً، ولا تخفيف مشاهد العري والإثارة في أفلامهن أو وضع ضوابط على ما يسمح تمثيله، إنما الصراخ في وجه الذكور الجنسيين العجيبين ومطالبتهم بالخروج عن طبيعتهم البشرية بينما يستمر كل شيءٍ كما هو. فالصناعة موجهة لتحفيز الغرائز وإثارة المتعة، لكنها في نفس الوقت تنكر على صانعيها التأثر بما تنتجه!

أتأمل هذا الضياع وأقارنه بتكريم الإسلام للإنسان وحفظه رجلاً وامرأة جسداً وروحاً من شياطين الإنس والجن. فشريعة غض البصر ومافيها من رفع للنفس البشرية تكفي ليظهر الفرق بين منظومة دين الحق التي تعترف بالغرائز وتوجهها ومنظومة حزب الشيطان التي تنكر الطبيعة البشرية ثم تتفاجأ بها عند حدوث المصائب.

من إنسان إلى إعلان
إضافة إلى كل الاستغلال الذي يمارس بحق المرأة في عالم السينما، فإن الشركات الرأسمالية أيضاً تستغلها لتحولها من إنسان ذي كينونة وروح إلى وجه دعائي. بكل بساطة تدفع شركة مستحضرات تجميل او عطور مبلغاً مالياً للممثلة مقابل تحويلها إلى وجهٍ إعلامي للعلامة التجارية، فتنتشر صورتها على المجلات والإعلانات، وجدران المحال وعلب المستحضرات فتتحول من كائن إنساني عزيز، إلى جسد لا يُرى إلا لإبراز فعالية مستحضرٍ يسوقه. يصير مطلوباً من هذه الإنسانة ارتداء ملابس معينة في كل محفل ومقام، وذكر المنتج الفلاني في كل لقاء، والظهور على أغلفة المجلات ولوحات الإعلانات في الطرقات، كأنها إعلان متحرك مستمر، ولا أرى في الحقيقة أشبه بالعبودية من هذه الممارسة!

ورغم أن ذلك كله يجري وفق عقود رسمية برضا الطرفين، إلا أن الفنانة تعلم حين توافق عليها أنها مجبرة على فعل ما يميزها، فهي تريد للجمهور أن يذكروها بين المنافسين، وللمنتجين أن يظنوا أنها مطلوبة وذات شعبية عالية ليختاروها في الأعمال المستقبلية. فأين العدل والحرية في ذلك كله؟ وأين الكرامة إن صار الإنسان أداة كذب وخداع وزيادة أرباح؟

هوليوود ليست استثناء
رغم أن الحديث هنا عن المرأة في هوليوود، إلا أن الذي أصفه يشمل عرض النساء في ظروف مرسومة من أجل إمتاع الجماهير وتحصيل أموالهم في أي مكان وزمان. ففي عالم بوليوود (السينما الهندية) مثلاً تقول الممثلة شريا نارايان في مقابلة مصورة أن استغلال المرأة جنسياً مقابل أن تكون “Somebody” أو شخصاً معروفاً في السينما هو الشائع.[12] فالسلوك إلى القمة في هذه الصناعة مع كثرة المتنافسين عليها لا بد أن يمر بما يسمونه “casting couch” أو كنبة تجارب الأداء، ولا شك أن جميع الممثلات مجبرات على سلوك هذا الطريق على حد قولها. علاوة على ذلك تقول نارايان (وقد خانتها عبرةٌ) أنها مقصاة إلى حد كبير لأنها لا ترضى أن تكون أداة تسويق لمنتجات يكلف الواحد منها ما يكفي لإطعام عائلة في بلدها. فهي ترفض أن تكون وجه جمال استثنائي على الدوام وتكره أن يطلب منها ارتداء أزياء المصممين ومجوهراتهم والمحافظة على مثالية هيئتها وشعرها في كل لقاء كي تكون وجهاً إعلامياً معروفاً للمنتجين والمخرجين.[13]

هؤلاء النساء المستعبدات لمعايير الجمال الخيالية ورضا الجمهور والمخرجين وشركات الإنتاج ورؤوس الأموال، هؤلاء اللواتي لا يملكن أن يدفعن عن أنفسهن اعتداءً ولا إهانةً، هن من يتربع على قمة سلم المال والشهرة ويقبع أسفل هرم الحرية والطمأنينة، هؤلاء يتصدرن فيشعرن ربة المنزل المسلمة الكريمة العفيفة بالنقص والدونية والهوان. يشعرنها بأن سؤال زوجها عن وجهتها إن خرجت انتقاص منها، لكن تحديد مخرج العمل لحميتهن وطلب المنتِج أن يصبغن شعورهن نهاية القوة والاستقلالية بالتأكيد!

إن هوليوود وغيرها من صناعات ليست إلا صناديق مغلقة تهدف لتصوير الحياة بأكملها بشكل مزيف لا يمت للواقع بصلة. فهذه العوالم لا تقدم الأفلام أو المسلسلات للمتعة فحسب، إنما تقدم رموزاً بشرية أيضاً تعيد للجمهور تعريف الحياة واضعةً المال والجمال والشهرة والمتعة كقيم عليا تلغي في سبيلها كل الأخلاقيات التي تعارفت عليها الأمم عبر تاريخها الطويل. فهؤلاء الممثلات اللواتي لم يقدمن للإنسانية إلا أداء بضع حركات أمام ستارة خضراء مقابل بخاخ ماء أو مروحة هواء، يظهرن في في اللقاءات والمؤتمرات يعطين عامة النساء محاضراتٍ في المساواة والحقوق والنجاح دون أن يعترض عليهن أحد، بل إن وجهات نظرهن تُنشر وتبجّل ويُحتفى بها كأنهن وصلن إلى غاية السعي و صرن في الفردوس الذي نتطلع إليه.


[1] Hollywood’s devastating gender divide, explained. Kelsey McKinney, VOX, 2015. https://www.vox.com/2015/1/26/7874295/gender-hollywood

The challenges of being a woman in the Hollywood business. Ashlea Green, MyStory, 2017.  https://yourstory.com/mystory/3c08075d00-the-challenges-of-being-a-woman-in-the-hollywood-business.

[2] Study: Women Film Directors Saw Their Numbers Shrink in 2018. Gregg Kilday, The Hollywood Reporter, 2019. https://www.hollywoodreporter.com/news/women-comprised-just-8-percent-directors-top-2018-films-1172727

Hollywood’s devastating gender divide, explained. Kelsey McKinney, VOX, 2015. https://www.vox.com/2015/1/26/7874295/gender-hollywood

[3] Only 2% of actors make a living. How do you become one of them?. Michael Simkins, The Guardian, 2019.

https://www.theguardian.com/film/shortcuts/2019/jun/05/only-2-per-cent-of-actors-make-a-living-how-do-you-become-one-of-them

[4] The challenges of being a woman in the Hollywood business. Ashlea Green, MyStory, 2017.  https://yourstory.com/mystory/3c08075d00-the-challenges-of-being-a-woman-in-the-hollywood-business.

[5] Rosamund Pike Says She Was Asked to Strip for ‘Die Another Day’ Audition. Katie Kilkenny, The Hollywood Reporter, 2018.

https://www.hollywoodreporter.com/news/rosamund-pike-says-she-was-asked-strip-die-day-audition-1135808

[6] Actresses Say Veteran ‘CSI’ Casting Employee Coerced Them Into Disrobing. Gary Baum, The Hollywood Reporter, 2017.

https://www.hollywoodreporter.com/news/women-say-veteran-csi-casting-employee-coerced-disrobing-1058398

[7] Jane Fonda:Ageism in Hollywood is “alive and well”. Bangshow.com, The Washington Post, 2015.

https://www.washingtonpost.com/entertainment/jane-fonda-ageism-in-hollywood-is-alive-and-well/2015/05/23/4df46594-0168-11e5-8c77-bf274685e1df_story.html?utm_term=.cf57dfb6a44b

[8] College Majors Of The Stars. Lacey Rose, Forbes, 2007.

https://www.forbes.com/2007/06/25/celebrity-college-education-biz-media_cx_lr_0626majors.html#5cd5d77b351a

[9] Lisa Kudrow Speaks Out About The Pressure She Faced on TV. Blendtx, Daily Blend, 2019.

https://blendtw.com/lisa-kudrow-speaks-out-about-the-pressure-she-faced-on-tv/

[10] A Timeline of the Weinstein Case. Alan Feuer, The New York Times, 2020.

https://www.nytimes.com/2020/02/24/nyregion/harvey-weinstein-case-sexual-assault.html

[11] How common is sexual misconduct in Hollywood?. Maria Puente and Cara Kelly, USA Today, 2018.

https://www.usatoday.com/story/life/people/2018/02/20/how-common-sexual-misconduct-hollywood/1083964001/

[12] Whaاt’s It Like to Be a Woman in Bollywood?. Vishal Arora, The Diplomat, 2017.

https://thediplomat.com/2017/03/whats-it-like-to-be-a-woman-in-bollywood/

[13] المصدر السابق

الأفلام والمسلسلات .. هل هي بريئة حقًا؟

“صنّاع الأفلام والمسلسلات لا يأبهون بنا ولا يدرون بوجودنا أصلًا”، “هي شركات ربحيّة فحسب”، “لمَ أنتم غارقون بنظرية المؤامرة”، “لمَ نظنّ أنّا مركز الكون؟”، “أنا أميز الجيد من السيء”، “مشاهدتي لما يفعلون لن تجعلني أفعل مثلهم”، “هذا استعراض للواقع وليس ترويجًا”، “كل المسلسلات والأفلام هكذا”. نرى هذه التعليقات وما يشابهها، تقال لكل من ينتقد ويحذِّر من أثر بعض المسلسلات والأفلام وما تبثه من “أفكار وقيم”

حسنًا.. سنبدأ بما يتعلق بـ “نظرية المؤامرة”

نظرية المؤامرة

سننسى أن هوليوود قامت بجهود المهاجرين اليهود كما هو مبيّن في كتاب “An Empire of Their Own: How the Jews Invented Hollywood” وغيره. وسننسى كذلك أن هؤلاء اليهود كانوا يعيشون كأقليات منبوذة منغلقة، وبالتالي كان الدين محورًا رئيسًا في حياتهم فهم ليسوا كالأمريكي المسيحي والعربي المسلم اللذان قد لا يعرفا من دينهما إلا اسمه.

كما ولن نلاحظ الأثر اليهودي الواضح في محتوى هوليوود سواء في الأفلام التي ترسخ التعاطف مع اليهود كـ (Schindler’s List) و (the life is beautiful) و (the pianist) أو الأفلام التي تعرض قصص الأنبياء بتصور يهودي كفيلم (Noah).

 ولن نتطرق إلى وعد بلفور  الذي بدأ بـ إلى “اللورد روتشيلد”، ورغم ذلك لا أثر لعائلة روتشيلد المصرفيّة بأي من قوائم أغنى أغنياء العالم.

وبالطبع لن نتحدث عن الجمعيات السرية أو الرموز الماسونية الموجودة بكل وضوح في إعلان حقوق الإنسان الذي أقرته الثورة الفرنسية، والموجودة بوضوح أشد على الدولار الأمريكي.

سننسى كل ذلك، لا وجود للمؤامرات، لا في السياسة ولا في الاقتصاد، صنّاع الأفلام هم مجرد آلات لا يحملون أي فكر أو معتقد يريدون نشره.

هل أنت سعيدٌ الآن يا صديقي؟

لكن أليس من المفترض أنك مسلم تؤمن بالله، تفعل ما أمرك وتجتنب ما نهاك؟ -وحتى إن كان قارئ هذه الكلمات غير مسلم-؛ ألا يُفترض أنه من البديهي التحذير من المحتوى الذي يروِّج للبذاءة والانحلال بل وللإباحية بكافة صورها وأشكالها؟ أليس تزيين الحرام والترويج له هو عملٌ شيطاني بامتياز؟ ألم تبدأ معركة إبليس مع الإنسان منذ خلق آدم؟ ألم يقل إبليس (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)؟ … سأترك الجواب لك

لننتقل الآن لمن يدّعي أن الأفلام والمسلسلات عندما تعرض أمرًا ما فإنها بذلك لا تروج له، وسنسأل:

هل عرض الشيء ترويجٌ له؟

من قال لك يا صديقي أنّ الترويج لشيء يعني أن يُقال لك “تعال قم بكذا”، “افعل ذلك وستكون سعيدًا”؟

الأمر لا يسير كذلك يا صديقي؛ فعندما تقوم الشركات بحملات إعلانية فإنها تهدف إلى نشر صورة علامتها التجارية لتراها في كل مكان، وهنا ليس بالضرورة أن يُقال لك بشكل مباشر: “استعمل منتَجنا”، فعندما تقوم شركة مشروبات غازية مثلًا برعاية “برنامج أو مسابقة ما”، فإنها تكتفي بوضع مشروبها أمام مقدم البرنامج أو لجنة تحكيم المسابقة، وهذا أسلوب تستخدمه كبرى الشركات، من خلال عرض منتجاتها في الأفلام، فيما يُعرف بـ (product placement).

أفيخاي أدرعي (تويتر)

وفي عصر الصورة؛ ترويج الأفكار لا يختلف كثيرًا عن ترويج السلع، خذ مثلًا المدعو أفيخاي أدرعي (المتحدث باسم الجيش الصهيوني) والذي ينهال عليه متابعوه العرب والمسلمون بأقذع الشتائم وأبشع الألفاظ، أتظنه يكترث لذلك؟ لفترة طويلة وبشكل تراكمي يتلقون كلامه ويأخذ حيزًا من تفكيرهم بل ويصبح محل نقاش … وهذا هو المهم.

ولا يختلف أسلوب صناع المحتوى السينمائي والتلفزيوني عن أسلوب أفيخاي ومن وراءه من الموساد، فعندما ترى فكرةً أو فِعلًا ما -مهما بلغ من القذارة والانحطاط- يتكرر أمامك على أنه أمرٌ طبيعيٌ مقبول، فمع الوقت لن يستنكر قلبك ما تراه، خاصةً إن قام به نجمك المفضل أو بطل العمل الذي تقف في صفه وتتعاطف معه -أو يُراد لك ذلك-. وهنا يكون يا صديقي قد زال من قلبك “أضعف الإيمان”. لذا راقب قلبك فالانحراف البسيط في البداية يغيّر وجهتك كليًا عند انتهاء الرحلة.

تلقّيك لما تبثه الشاشة من أفكار مسمومة سيجعلك تتقبل رؤيتها على أرض الواقع؛ فهي أمر “منتشر” و”عادي”. أنا وانت وهو وهي؛ نحن هم المجتمع، فتقبلك لذلك يعني على المدى الطويل تقبل المجتمع كله له، ولك يا صديقي بالشذوذ أوضح مثال.

والأمر لم يقف عند السحاق واللواط، بل تجاوزته إلى السفاح، تخيّل أنّ أحد “أعظم المسلسلات في التاريخ” فيه مشاهد إباحية بين الأخ وأخته وبين الأب وابنته وبين العمّة وابن أخيها، ولا يشمئزُ أحدٌ من ذلك، بل يدعون غيرهم لمشاهدته.

نتفليكس (يوتيوب)

ولديك مثلًا شبكة نتفليكس -أكبر شبكة لبث “المحتوى الترفيهي” والتي تترجِم مسلسلاتها لأكثر من مئة لغة- التي في أحد مسلسلاتها تستغل فكرة السفر عبر الزمن لتُظهر أن السحاق منتشر في المجتمع منذ خمسينيّات القرن الماضي، كما تُريك مثلًا بطلي المسلسل يبكيان لأنهما لن يستطيعا الاستمرار سويًا فقد اكتشف البطل أن حبيبته هي عمته، وأن حبهما سيتحطم بلا حولٍ منهما ولا قوة، فلن تملك يا صديقي إلا التعاطف معهما ومقت ما أدى لانهيار حبهما، بل قد تسعد لأجلهما إن تناسيا صلة القرابة وقررا الاستمرار سويًا. هذا ولا يخلو أي من منتجات نتفليكس تقريبًا من العري والإباحية والجنس بكافة أشكاله، لتكون النتيجة منتَجًا إباحيًا على شكل مسلسل يشاهده أفراد العائلة بلا قلق أو خجل.

ألا ترى يا صديقي الانحدار الذي وصلنا إليه؟

وسموم الشاشة تمسي أشد فتكًا عندما يتعلق الأمر بالعقائد، فترى النبي سليمان ساحرًا، وفرسان الهيكل أبطالًا أشداء وفرسانًا نبلاء، بل إبليس نفسه تم تصويره على أنّه الملاك الوسيم المرح الطيب الذي يحب الخير للناس، لكن والده الظالم (الإله) هو من أشاع عنه صورةً سيئة، كيف لن تتعاطف مع هذا يا صديقي؟

وحتى في المسلسل الذي يتحدث عن السفر عبر الزمن تم أخذ الموضوع لبعدٍ فلسفي، وبشكل صريح تم تقديم الزمن على أنه هو الاله، “فالإله ليس كيانًا يفكر ويتصرف بل مبدأ فيزيائي غير رحيم” وتم إعلان الحرب عليه، وكذلك تم تضمين فكرة أن الزمن قادر على الخلق من خلال المفارقة الزمنية (Bootstrap Paradox) حيث إن عاد شخصٌ بالزمن والتقى بنفسه وهو صغير وأعطى نفسه شيئًا ما فإن هذا الشيء لن يُعرف مصدره وسيكون جزءًا من حلقة زمنية غير منتهية (الكبير يعطي الشيء للصغير والصغير يكبر ويعطيه للصغير مرة أخرى … وهكذا)، ومع أن المفارقات الزمنية تصادم المنطق، إلا أن المسلسل يدّعي أنها تحدث معنا باستمرار. هذا عدا عن التأكيد على فكرة الجبرية وأن البشر مسلوبو الإرادة، وكذلك بث بعض الشبهات والأفكار الإلحادية عن عبثية الخلق، وغيرها من الإسقاطات والإشارات الدينية التي لا يمكن إغفالها، بدءًا من أسماء الشخصيات وانتهاءً بأهدافها، وكل هذا في مسلسل عن السفر عبر الزمن.

وبعد أن تسري في جسمك كل هذه السموم، ومع الأخذ بالاعتبار أن الخطاب السائد هو الخطاب الليبرالي الـ ما بعد الحداثي الإنسانوي، الذي يقدّس حرية الفرد ويميع الثوابت ويطمس الهوية ويساوي الحق بالباطل، قد ترفض يا صديقي حتى إعطاء حكمٍ على ما ترى.

ومع ما هو منتشر من جهل بالدين وعدم الاعتزاز به فقد يتبادر إلى ذهنك يا صديقي تساؤل: “لمَ لا؟” … لمَ نعتبر هذا خطاً، لمَ السحاق واللواط والشذوذ خطأ؟، لمَ لا يكون إبليس مظلومًا حقًا؟ خصوصًا أنّ الغيبيات والأخلاق هي أمور دينية بحتة، فيكون الأمر قد بدأ بمشاهدة مادة ترفيهية وانتهى بمشاكل عَقدية وأفكارٍ إلحادية، أو على أقل تقدير يَنتُج إسلامٌ كنسي مكانه المسجد فحسب دون أن يكون له أثر يذكر في حياة الناس وسلوكهم.

لماذا يا صديقي تريد أن تظل مجرّد مستهلكٍ لأي محتوًى يُقدم لك؟ لمَ ترضى بأن تكون مجرد وسيلة لزيادة أرباح هذه الشركات؟ بل تسمح لهم بأن يشكِّلوا عقلك وتفكيرك ويعرِّضوك لما شاؤوا من معتقداتٍ أفكار. لماذا يا صديقي؟

أبهذه التبعية والانسلاخ عن الهوية والتشوهات الفكرية، تَنتج النهضة الحضارية؟