مقالات

خُذها ولا تخف

كتاب الله عز وجل المنزل على نبيه لا تنفدُ معانيه ولا كنوزه، وإنما يفيض دائماً على من تدبّره وقرأه وألزم نفسه فهم آياته، ولذا قال حبرُ الأمّة رضي الله عنه ابنُ عباس: “إنَّ القرآنَ ذو شُجون وفنون لا تَنقضِي عجائبُه ولا تُبلَغُ غايتُه”.[1]

إلّا أنَّ كتابَ العزيزِ عزيزٌ كمُنزلِه سبحانه وتعالى. {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} ]فصلت: 41[، فما كلُّ من يقرأُ القرآن يُفتَحُ له بابُ الفهمِ والعطاء، وما كلُّ من أراد فهم مرادِ الله عزَّوجل من كتابه أُعطِيَ سُؤلَه، إذ إنَّ العزيزَ لا يرضى إلّا بأعزِّ أوقاتك ورغباتِك حتّى يعطيَك من عزِّه وأنوارِه.

يقول الحقُّ سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ]محمد: 24] كيفَ إذاً بتدبُّر قصص الأنبياء وأحوالهم وما طرأ لهم في دعواتهم من عقباتٍ وامتحانات، فليست قصصُهم وقائع تاريخية كتبها أحدُ المؤرِّخين في مرجعٍ من مراجعِ التاريخ القديم للتسلية، إنّما هي عِبَرٌ ساقها الله لنا في كتابه الحكيم كي نسقطَها على واقعِنا الحيّ ونعملَ بمضمونِها.

ولذا قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}] يوسف: 111[.

وقال تعالى: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120[.

ثمّ ما أحسنَ حديثنا عن أولي العزم من الرسل[2] عليهم السلام الذين جدُّوا في سبيل إعلاء كلمة الله وإنجاح دعوتهم المباركة، ولعلّ سيدنا موسى عليه السلام أحد أكثر الرّسل الذين طرق ذكرُهم وخبرُهم سمْعَنا، فمن قصة قذفه في اليمّ إلى تكليم الخالق سبحانه له، إلى قصة موعده مع السحرة وهزيمته لهم وما جرى له في “مدين”[3]، وإلى ما يقرؤه المسلمون في كل يوم جمعة عن قصته عليه السلام مع سيدنا الخضر وما حوته هذه القصة وهذه السورة المباركة من دروس جمّة.

إلا أنّ صدى قصة بدء “التكليف” بالرسالة يبقى متردِّداً في أذهان المسلمين على اختلاف أعمارهم وأحوالهم، فما منّا أحدٌ إلا قد سمع بقصته عليه السلام وما أراه ربُّه سبحانه من الآيات الكبرى والمعجزات المبهرة في اللقاء الأول.

عصا موسى
يقول سبحانه وتعالى في ذكر قصة سيدنا موسى عليه السلام: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى{17} قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى{18} قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى{19} فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى{20} قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى{21} وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى{22} لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى{23}}] طه: 17-23.[

وعلاوة على ما تحويه هذه الآيات من إخبارٍ بقصة سيدنا موسى عليه السلام وما أيده به اللهُ عزّ وجل من آيات كبرى لنصرته في دعوتِه، فهي تضم بين سطورها دروساً تربويّة عظيمة أدّب اللهُ بها نبيه عليه السلام وعلّمه بها حقيقة الدنيا ومتاعها، تهييئاً له لمهمته الدعوية التي وُجِّهَت لرأس الإفساد في الأرض وقتَها (فرعون).

فبعد هولِ اللقاء بين موسى (الإنسان) والرب سبحانه وتعالى، خاطب اللهُ عزّ وجل نبيَّه بخطابٍ وُديّ لتخفيف هول الموقف على سيدنا موسى فقال له {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} فما كان من سيدنا موسى إلا أن أجاب ربَّه {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}.

فما هذه العصا إلا (دنيا) موسى النبي عليه السلام، فهي تعينه في سيره وفي عمله وفي حاجاته المختلفة، فأراد الحقُّ سبحانه أن يبينَ لمصطفاه حقيقة هذه “الدنيا” التي بين يديه فأتاه الأمرُ مباشرةً: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى}، فما كان من العبد إلّا أن يطيعَ ربَّه: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} وهنا أدرك سيدنا موسى  عليه السلام مراد ربِّه في تعريفه حقيقة الدنيا ومتاعها فما هي إلا {حَيَّةٌ تَسْعَى}.

وحقيقةً، كلُّ ما سوى الله فالالتفات إليه والانشغال به عن اللهِ كالحيّة المهلكة لك، فهو ما أراد الله أن يريَه عبدَه الذي هو بصدد الاصطفاء لتبليغ رسالة الفطرة والتوحيد، وانت خبيرٌ أنَّ الدعوة إلى الله لا تتمّ إلا باصطفاءٍ من الله وإذن. قال تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}  ]الأحزاب: 46[.

الفهم الخاطئ لمعنى الزُّهد
فهل أمر اللهَ عزّ وجل رسوله عليه السلام بأن يتجرد من الدنيا كلها بمتاعها وبما فيها وأن يملأ وقته بذكر الله وعبادته فقط بعيداً عن الدنيا؟

إنّه لمعيبٌ أن يفهمَ القارئُ القصةَ على هذا النحو، ولذا تابع الله كلامه مبيّناً: {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى}، فما إنْ عرِف النبيُّ الكريم حقيقة الدنيا وأنها حيّةٌ مهلكة تنفث السم فيمن تعلّق بها وكانت في قلبه حتّى أمره الله عزّ وجل أن يأخذ دنياه مرةً أخرى، لكنْ هذه المرّة {وَلا تَخَفْ}.

فإنّ الإنسان لا يُخشى عليه من الدُّنيا إذا عرف حقيقتَها الخبيثة المخبّأة خلف زينتها، وبذا تغدو الدنيا في يدِ الإنسان لا في قلبِه فما الدنيا ومتاعها محرمة على الإنسان المسلم، على العكس تماماً إنما الدنيا قد جُعِلَتْ للإنسان المسلم، ألم تسمعْ قولَه تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ]الأعراف: 32[.

الجمع بين الدِّين والدُّنيا
إذن، ما يضرُّ الشاب المسلم أن يكون متعلّماً من علوم الدنيا (الرياضيات والفيزياء والجغرافيا والطب)؟ ألم يأمر النبيُّ الكريم السيدةَ الشفاءَ –رضي الله عنها- أن تعلمَ زوجَه حفصة من علوم الطب والكتابة؟[4]

وما يضرُّه أن يكون ذا مالٍ كثير وقد علم أن ثروة عبد الرحمن بن عوف –رضي الله عنه- قد بلغت ما يساوي 1088 مليون دولار، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة؟[5]

أو ما يعيبُ الشاب المسلم أن يتعلم اللغات والثقافات وقد سمع أمر النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود فتعلمها في نصف شهر؟ [6]

وما يعيبه أن يروِّحَ عن نفسه ساعة من النهار، وقد قرأ عن نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أنه كان يسابق زوجه عائشة ويلاعبها ضاحكاً؟ [7]

ففي حين تقرأ قوله سبحانه وتعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور} ]الحديد: 20[، تسمع أمرَه لعباده بأخذ الأسباب الدنيوية من علوم ومال وقوة عسكرية: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} ]الأنفال: 60[.

وأنت خبيرٌ أن القوة اليوم في عصرنا هي: المال والعلوم على اختلاف أنواعها (اقتصادية، طبيعية، عسكرية).

الدُّنيا سبيلٌ لنصرةِ المسلم
ثم إن قصة عصا موسى لم تقِفْ هنا، فما إن جُمِعَ السحرةُ لميقاتِ يومٍ معلوم ووقعت المعركة التاريخية بين السحرة وبين النبي الكريم حتى عادت “عصا” موسى إلى واجهة القصة!

فجاء الأمرُ من البارئ عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُون} ]الأعراف: 117[

إنَّ اللهَ عزّ وجل أمر نبيه في الموقفين بإلقاء عصاه، فحينما كان غير مدرك لحقيقة دنياه التي بين يديه خشي منها وولى هارباً، {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} ]النمل: 10[، ثمّ ما إن فهم حقيقة دنياه وأخرجها من قلبه وسخرها في سبيل دعوته إلى الله عزوجل حتى صارت “عصاه” سبباً لفوزه وهزيمتِه لسحرةِ فرعون.

{قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ، وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ} ]طه: 68-69[، فالدنيا (العصا) هي ذاتُها لكنَّ موقف القلب منها مختلف.

إنَّ هذه المعاني العميقة والدروس المنيرة قد علّمها البارئُ سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم، كيف لا وقد نزلت هذه الآيات الكريمات على قلبه الشريف!

ثم ما لبث نبيُّنا الكريم أن علّمها لأصحابه -رضوان الله عليهم- فما كان صحابة نبينا بعيدين عن الدنيا، جهلاء بعلومها أو فقراء رثةً ثيابهم فارغة عقولهم إلا من العبادة ورعي الأغنام كما يُصوَّرُ لنا اليوم، بل على العكس تماماً، فها هو “القارئ المُقرِئ” سيدنا عبد الله بن مسعود كان أنيقا يُعرَف بريحة طيبه وعطره بين الصحابة [8]، وها هو سيدنا خالد بن الوليد الذي كان سيفا للإسلام وقائداً عسكريّاً لا يُبارَى بشهادةِ العدوِّ والصّديق[9]، ومعلومٌ لديك أنّ صحابة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كانوا زعماء الإعلام أو (الميديا) وقتَها [10].

أما عن المال والتجارة، فحدِّث ولا حرج، فحدِّث مثلاً عن الصحابة المبشرين بالجنة الذين كان معظمهم ذوو ثرواتٍ هائلة تقدَّر بملايين ومليارات الدولارات كعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم.

ربانيَّة لا رهبانيَّة
فما إسلامُنا دينُ فقرٍ وبُعدٍ عن الدنيا وأهلها أو عزوفٍ عن الزواج ولزومٍ لمحراب المسجد، إنما هو ترشيدٌ لهذه الدنيا التي بين أيدينا وسعيٌ لتسخيرِها خدمةً للبشرية وفي سبيل إعلاء كلمة الله عزوجل ودعوة الناس إلى سبيل الحق ودين الفطرة وعندها تسعد البشرية جمعاء بدين الله في الدنيا والآخرة، فهذا النوع من الرهبنة غير مقبول في دينِنا الربانيّ.

عَنْ أنَس بِنْ مالِك رضي الله عنه قال: “إنَّ رهطًا من الصحابَةِ ذهبوا إلى بيوتِ النَّبِيِّ يسألونَ أزواجَهُ عن عبادتِهِ فلمَّا أُخبِرُوا بها كأنَّهُم تقالُّوها أي : اعتبروها قليلةً ثُمَّ قالوا : أينَ نحنُ مِن رسولِ اللَّهِ و قد غَفرَ اللَّهُ له ما تقدَّمَ من ذنبِهِ و ما تأخَّرَ ؟ فقال أحدُهُم : أما أنا فأصومُ الدَّهرَ فلا أفطرُ و قال الثَّاني : و أنا أقومُ اللَّيلِ فلا أنامُ و قال الثَّالثُ : و أنا أعتَزِلُ النِّساءَ فلمَّا بلغ ذلك النَّبيَّ بيَّنَ لهم خطأَهم و عِوَجَ طريقِهِم و قال لهم : إنَّما أنا أعلمُكُم باللَّهِ و أخشاكم له و لكنِّي أقومُ و أنامُ وأصومُ و أفطِرُ و أتزوَّجُ النِّساءَ فمَن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ منِّي”[11].

 واللهُ تعالى أعلم.
هذا المقال هو الفائز بالجائزة الرابعة في مسابقة “باحثو المستقبل”


الهوامش

[1]  أخرجه الطبري في مقدمة تفسيره {70،67} عن ابن مسعود بنحوه

[2]  هم خمسةٌ، وهم أكثر الأنبياء معاناةً مع أقوامهم وصبراً على أذاهم، وما تبوّؤا تلك الدّرجة وما استحقوا تلك الصّفة إلا بسبب ما قدّموه وما بذلوه وما تحمّلوه من أقوامهم من الأذى والتعذيب والصدِّ عن دين الله، ومنعهم من إيصال دعوتهم للناس، وتبليغها كما أمرهم الله سبحانه وتعالى، وقد ذكرهم العلماء بالتّفصيل، وبيّنوا مراتبهم وهم: خاتم النّبيين سيّدنا محمّد عليه الصّلاة والسّلام، وأنبياء الله نوح، وموسى، وإبراهيم، وعيسى عليهم أفضل الصّلاة والتّسليم.

[3]  ]القصص: )22-28[ (

  [4]  سنن أبي داود {ج4/342}

[5]      قال الحافظ ابن حجر في {الفتح}: {حميع تركة عبدالرحمن بن عوف ثلاثة آلاف ألف ومئتي ألف {3،200،000} }، وهو ما يعادل 1088  مليون دولار.

  [6]   انظر الإصابة في تمييز الصحابة {ج1/561}

 [7] انظر كتاب السنن الكبرى للنسائي حديث {7711}

  8 نجوم في فلك النبوة ص 82

[9]  انظر كتاب {الفتوح العربية الكبرى} للمستشرق والمؤرخ البريطاني هيو كينيدي

[10]  نقصد تزعمهم الشعر العربي وبراعتهم فيه والذي كان الوسيلة الإعلامية وقتها، ومن شعراء الصحابة البارزين: حسان بن ثابت- كعب بن مالك-      عبد الله بن رواحة رضوان الله عليهم 

[11]  انظر البخاري {1975}، ومسلم {1159}

تدبّر آيات الدّعاء في الفاتحة

يعاتب الله تعالى عباده عتاباً يرتعد له الجنان على تولّيهم عن تدبّر هدي البيان الّذي فيه صلاحهم ونجاتهم، فيقول في محكم تنزيله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[1]. وممّا لا شكّ فيه أنّ قراءة سورة كسورة الفاتحة سُمّيت بأمّ القرآن[2] سبعة عشر مرّة في اليوم واللّيلة دليل على أهمّيتها البالغة بما فيها من فيض لا ينضب، وكنوز لا تفنى، وأنّ فيها صلاح الدّنيا والآخرة.

يقول د. ناصر العمر في فضل سورة الفاتحة: “وفيها تحقيقُ التَّوجُّه إلى اللهِ تعالى بكمال العبوديَّة له وحده؛ بإثبات استحقاقِه لها؛ لتفرُّده بالرُّبوبيَّة؛ والإقرار له بالألوهيَّة، وسؤاله الهدايةَ إلى طريق المُنعَم عليهم، القائمينَ له بالعبوديَّة التَّامَّة، ومجانبة طريق المغضوب عليهم والضَّالِّين”[3].

فالأولى بنا أن نجاهد أنفسنا على تدبّر ما جاءت به هذه الآيات العظيمة الّتي اختُصّت بها أمّة خير البشر سيّدنا محمد ﷺ من مقاصد وآداب فيها صلاح أمرنا، وشفاء صدورنا، وتحقيق كمال عبوديّتنا لله تعالى[4].

معنى التّدبّر

التّدبّر في لسان العرب: هو التّأمّل والتّفكّر على مهل، والنّظر في العاقبة[5]، والمراد بتدبّر آيات الدّعاء هو ما أورده الشيخ عبد الرّحمن حبنّكة: “والتّدبّر هو التفكّر الشّامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة”[6]. وأساس التّدبّر هو الإخلاص والسّعي وراء الصّواب، وقد يطلق التّدبّر على العمل كما أورد د. خالد اللّاحم: “قد يطلق التّدبّر على العمل لأنّه ثمرته، وللتلازم القويّ بينهما كما في قول عليّ بن أبي طالب: “يا حملة القرآن، أو يا حملة العلم؛ اعملوا به فإنما العالم من عمل بما عَلِم”[7]. وقال الحسن البصريّ: “وما تدبّر آياته إلّا باتّباعه”[8].

قواعد التدبّر

لتدبّر آيات الدّعاء في سورة الفاتحة علينا أن ننظر إلى السّورة بشكل كامل، وأن نتفكر في أوجه العبر والمقاصد التي ترمي إليها في بدايتها، وجوهرها ونهايتها، ويجب علينا مراجعة ما ذكره أئمة الإسلام من تفاسير مختلفة ومفاتح وقواعد تعيننا على تدبّر هذه الآيات العظيمة.

قسّم علماء القرآن قواعد التّدبّر إلى قواعد تدبّر قلبي، وقواعد تدبّر عقليّ.

التّدبّر القلبي

من قواعد التّدبّر القلبيّ لآيات الدّعاء في سورة الفاتحة التّفاعل مع الآيات وتحريك القلب والمشاعر، وسؤال الله سبحانه أن يجعلنا من القوم المهتدين عند ذكرهم والاستعاذة به عند ذكر أحوال القوم الضّالّين[9].

روي عن سيّدنا محمّد ﷺ في حديث حذيفة بن اليمان أنّه: “كان يقرأ القرآن مترسّلاً: إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ”[10]. قال د. اللّاحم في التّدبّر القلبيّ لآيات الدعاء في سورة الفاتحة: “وهو التّفاعل مع آيات الهداية إلى الصّراط المستقيم، وهو صراط الّذين أنعم الله عليهم أن فتح لهم أبواب كتابه، ويسّر لهم العيش في رحابه، فعندما تقرأ الفاتحة فأنت تدعو الله تعالى أن يرزقك حبّ كتابه العظيم ليحصل لك بذلك الغوص في أعماقه والنّجاة به في الحياة الدّنيا والآخرة”[11].

وقال إبراهيم السّكران: “فإذا نطقت بجملة {إِيَّاْكَ نَعْبُدُ} تهاوت أمام ناظريك كلّ المألوهات من دون الله.. {إِيَّاْكَ نَعْبُدُ} هي جوهر مشروع صلاحك وقاعدة نهضتك ومعيار تقدّمك، وخطة تنميتك”[12].

وتدبّر آيات الهداية في الفاتحة فيه استذكار لواحد من أهداف قراءة القرآن الكريم وهو مناجاة الله سبحانه، والاستعانة به على أن يرشدنا الطّريق السّويّ[13]، وفيها تفكّر في حال أولئك القوم الصّالحين الّذين ضرب الله مثلهم في أمّ الكتاب، والاستعاذة بالله تعالى ممن سَلك مسلك من سمعوا القول فلم يعملوا به فغضب الله عليهم، ومن تنكّبوا عن السّير على صراطه المرشد فكانوا من القوم الضّالّين.

التّدبر العقلي

من قواعد التّدبّر العقلي: النّظر فيما ورد من أسباب نزول[14]، والتفكّر في التّفاسير المختلفة[15]، واستخلاص رسائل القرآن الكريم[16].

النّظر فيما ورد من أسباب نزول:
أورد السّيوطيّ أنّ: “الأكثرون ذهبوا على أنّ سورة الفاتحة مكّيّة، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[17][18]. واستدلّ من قال إنّها نزلت بالمدينة بما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف، وأبو سعيد بن الأعرابي في معجمه، والطّبراني في الأوسط من طريق مجاهد بن أبي هريرة: “رنّ إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب، وأنزلت بالمدينة”.

وذهب بعضهم إلى أنّها نزلت مرّتين مرّة بمكّة، ومرّة بالمدينة، مبالغةً في تشريفها[19]، وأنّها نزلت من تحت كنز العرش[20].

وعلى القول الأول، فإن سبب نزول سورة الفاتحة يعود إلى حادثة وقعت بين رسول ﷺ وورقة بن نوفل، فيقول أبو ميسرة إن “رسول الله ﷺ كان إذا برز سمع منادياً يناديه: يا محمّد، فإذا سمع الصّوت انطلق هارباً، فقال له ورقة بن نوفل: إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك، قال: فلما برز سمع النّداء: يا محمّد، فقال: لبّيك، قال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثمّ قال: قل: الحمد لله ربّ العالمين، الرّحمن الرّحيم، مالك يوم الدّين، حتّى فرغ من فاتحة الكتاب”[21].

جاءت سورة الفاتحة على الهيئة المتعارف عليها في السّور المكية، إذ ذكرت أهمّ الأسس في العقيدة الإسلامية وطرق تأسيسها في نفوس المسلمين، وفيها دعوة إلى توحيد الله، والاستعانة به على الثّبات في خوض رحلة الصّراط المستقيم، وأنّها ضمّت عنصرين أساسيّين من عناصر الرّؤيا القرآنية، وهي إثبات أنّك مكلّف بالخلافة، وأنّ لديك تخويلاً منه عزّ وجلّ للعمل، ومهما كان ومهما حصل ستظلّ تثني عليه، لأنّك تعلم أنّه أعطاك كلّ مقوّمات الاستخلاف في الأرض والتّغيير وأسبابهما[22].

التفكّر في التّفاسير المختلفة
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}:
ذكر ابن كثير أنّ العبادة في اللّغة مأخوذة من الذّلّة. وفي الشّرع هي ما يجمع كمال المحبّة والخضوع والخوف. وقُدّم المفعول وكُرّر للاهتمام والحصر، أي لا نعبد إلّا إيّاك، ولا نتوكل إلّا عليك، وهذا هو كمال الطّاعة[23].

ويقول ابن عاشور في تفسير آيات الدّعاء في سورة الفاتحة: “نبّه الله تعالى قراء كتابه وفاتحي مصحفه إلى أصول التّزكيّة النفسيّة بما لقّنهم أن يبتدئوا بالمناجاة التي تضمّنتها سورة الفاتحة من قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلى آخر السّورة. فإنّها تضمّنت أصولاً عظيمة: أوّلها التّخلية عن التّعطيل والشّرك بما تضمّنته {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، الثّاني: التّخلّي عن خواطر الاستغناء عنه بالتّبرّؤ من الحول والقوّة تجاه عظمته بما تضمّنته {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، الثّالث: الرّغبة في التّحلّي بالرّشد والاهتداء بما تضمّنته {اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، الرّابع: الرّغبة في التّحلّي بالأسوة الحسنة بما تضمّنته {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، الخامس: التّهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموّه بصورة الحق، وهو المسمّى بالضّلال، لأنّ الضّلال خطأ الطّريق المقصود بما تضمّنته {وَلاَ الضَّالِّينَ}. وقد فسّر الصّوفيّة العبادة بأنّها فعل ما يرضي الرّب، والعبوديّة بالرّضا بما يفعل الرّب”[24].

وذكر ابن القيم في الاستعانة: “والاستعانة تجمع أصلين: الثّقة بالله والاعتماد عليه”[25]. وقال ابن تيمية: “تأمّلت أنفع الدّعاء فإذا هو في سؤال الله العون على مرضاة الله، ثمّ رأيته في الفاتحة، في {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}”.

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
وهو الدّعاء الذي اختاره الله لنا، أن نسأله الإرشاد والتوفيق في متابعة نهجه ونهج رسوله –وهو الصّراط المستقيم– الّذي لا اعوجاج فيه، وهو دين الله الّذي لا يقبل من العباد غيره. وبكلمة المستقيم إيماءة إلى أنّ الإسلام واضح الحجّة، قويم المحجة، لا يهوى أهله إلى هوة الضّلالة[26].

وللهداية أنواع منها: توفيق الله. وهي على نوعين: هداية عامّة: وهي هداية الخلق لما ينفعهم ويصلح شؤونهم. وهداية خاصّة: وهي الهداية إلى الحقّ، إلى الإسلام والإيمان[27]. ومن الصّفات التي تقودك إلى الهداية: الاعتصام بحبل الله، وطاعة الله ورسوله واتّباع سنّته وهديه، والصّبر واليقين [28].

وإنّ المرء بحاجة إلى هذه الهداية في جميع شؤونه كلّها، حتّى في الدّوام على ماهو متلبّس به من الخير للوقاية من التّقصير فيه أو الزّيغ عنه[29].

{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}:
هدي الّذين أفيضت عليهم النّعم كاملة، وهم خيار الأمم السابقة من الرّسل والأنبياء[30] والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين[31]، لا طريق من علموا الحقّ ولم يعملوا به وجحدوه، فغضب الله عليهم، وهم اليهود، ومن سار على منهاجهم وطريقهم. ولا طريق الضّالين الذين لا علم عندهم، يعملون بلا علم، يعبدون الله على جهل، وهم النّصارى، ومن سار على شاكلتهم[32].

وهناك قوم حرمهم الله تعالى من الهداية والعياذ بالله، فهم من اتّصفوا بصفات منها: الكفر، الظّلم، الفسق، الخيانة، الكذب، والإسراف[33]. وهناك بعض الأمور والعبادات التي تعين على تجاوز الصّراط نذكر منها: ملازمة بيوت الله تعالى، مسامحة النّادم، قضاء حوائج المسلمين، والشّفاعة لهم[34].

استخلاص الرسائل
الفاتحة تعني: الفتح، وهو إزالة حاجز عن مكان مقصودٌ وُلُوجُه[35]، فكانت استفتاحيّة للغوص في كنوز كتاب الله. واستهلال الفاتحة بحمد الله سبحانه والثناء عليه كما أورد الزّركشي رحمه الله هو سرّ من أسرار الألوهيّة[36]، ويمثّل الكلّية الأولى في التّصور الإسلاميّ، ويقرّر حقيقة العلاقة بين العبد وربّه[37].

يعلّمنا الله سبحانه في سورة الفاتحة آداب الدّعاء وأصول مخاطبة العظماء بمدحه بداية والثّناء عليه، وذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، ثمّ إقرار مقام عبوديّتنا له وهو أشرف مقامات كمال المحبة والخضوع والخوف، ثم سؤاله التّوفيق والإلهام إلى طريق الحقّ والثّبات عليه، لأنّنا دائماً في حاجة واضطرار إلى مقصود هذا الدّعاء، وهو جاء بعد تمجيد الله سبحانه والتوسّل إليه بعبوديتنا له، فالدّاعي به حقيق بالإجابة[38].

وفي آيات الدّعاء في سورة الفاتحة معانٍ جليلة، فيها إقرار بإخلاص العبادة لله تعالى، ورفض الاستعانة إلّا به، وسؤاله مجانبة طريق المغضوب عليهم والضّالّين.

وبعد ذكر فضائل ودلالات آيات الدّعاء في سورة الفاتحة، حريّ بنا أن نجتهد في تدبّر مقاصدها خير اجتهاد، وبأن ننتهج منهج من أنعم الله عليهم بالفوز بخيريّ الدّنيا والآخرة.

قال رسول الله ﷺ: “اقرَؤوا، يقولُ العبدُ {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: حمدني عبدي. يقولُ العبدُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: أثنى عليَّ عبدي. يقولُ العبدُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: مجَّدني عبدي. يقولُ العبدُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَهذِهِ الآيةُ بيني وبينَ عبدي ولعبدي ما سأل. يقولُ العبدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَهؤلاءِ لعبدي ولعبدي ما سألَ”[39].

هذا المقال هو الفائز بالجائزة الثالثة في مسابقة “باحثو المستقبل


الهوامش

[1] سورة محمد، 24.

[2] كتاب أحكام القرآن، الإمام الشّافعي، ص74.

[3] كتاب تدبّر سورة الفاتحة، ناصر العمر، ص 14.

[4] كتاب تدبّر سورة الفاتحة، مرجع سابق، ص21.

[5] معجم المعاني الجامع.

[6] كتاب قواعد التّدبّر الأمثل لكتاب الله، عبد الرّحمن حسن حبنّكة الميدانيّ، ص10.

[7] كتاب مفاتح تدبّر القرآن والنّجاح في الحياة، خالد اللّاحم، ص21.

[8] مصنف عبد الرزاق: (5984).

[9] مفاتح التّدبّر، مرجع سابق، محاضرة 1.

[10] رواه مسلم.

[11] كتاب مفاتح تدبّر القرآن والنجاح في الحياة، مرجع سابق، ص30.

[12] كتاب الطّريق إلى القرآن، إبراهيم السّكران، ص61.

[13] كتاب مفاتح تدبّر القرآن والّنجاح في الحياة، مرجع سابق، ص48.

[14] كتاب قواعد التّدبّر الأمثل لكتاب الله، مرجع سابق، ص96.

[15] مفاتح التّدبّر، فاضل سليمان، محاضرة 2.

[16] مفاتح التّدبّر، مرجع سابق، محاضرة 4.

[17] سورة الحجر، 87، مكّيّة.

[18] كتاب الإتقان في علوم القرآن، الإمام السّيوطيّ، ص60.

[19] كتاب تنبيه الغافلين، أبو اللّيث السّمرقندي، ص318.

[20] كتاب الإتقان في علوم القرآن، مرجع سابق، ص60.

[21] كتاب العجاب في بيان الأسباب، ابن حجر، ص224.

[22] سلسلة كيمياء الصّلاة، عالم جديد ممكن، أحمد خيري العمري، ص39.

[23] مختصر تفسير ابن كثير، ص23.

[24] تفسير التّحرير والتّنوير، الطّاهر بن عاشور، ص152.

[25] كتاب مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، ابن القيّم، ص13.

[26] تفسير التحرير والتّنوير، مرجع سابق، ص200.

[27] كتاب تأمّلات في سورة الفاتحة، عبد الله بصفر، ص91.

[28] كتاب تأمّلات في سورة الفاتحة، مرجع سابق، ص 98.

[29] تفسير التّحرير والتّنوير، مرجع سابق، ص191.

[30] تفسير التّحرير والتّنوير، مرجع سابق، ص199.

[31] مختصر تفسير ابن كثير، مرجع سابق، ص24.

[32] كتاب تدبّر سورة الفاتحة، مرجع سابق، ص59.

[33] كتاب تأمّلات في سورة الفاتحة، مرجع سابق، ص96.

[34] كتاب تأمّلات في سورة الفاتحة، مرجع سابق، ص109.

[35] تفسير التّحرير والتّنوير، مرجع سابق، ص130.

[36] كتاب البرهان في علوم القرآن، الإمام الزّركشيّ، ص118.

[37] كتاب في ظلال القرآن، سيّد قطب، ص16.

[38] كتاب تقريب مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، مرجع سابق، ص25.

[39] صحيح النّسائي.

فضل الداعية وآدابه في القرآن

الحمد لله الذي خصَّنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة والسلام على صاحب الوجه الأزهر، سيدنا محمد الزَّكِيِّ الأطهر.

نَعَمْ، نِعَمُ الـمُقَفَّى ليس تُحصى        وتلخيص المقالة فيه أجدرْ

لأن الأُفْــق مهما قُلــتُ فيـه       من الزهر الدراري، فهي أكثَرْ

وفضلُ البحر لم يُدرِكهُ وصف         وَعَدُّ الموجِ مِنْهُ ليس يُحصَرْ[1]

وبعد، فإن الله سبحانه وتعالى خَصَّ هذه الأمة بخصائص تميزها عن سائر الأمم، فخَصَّنا تعالى بما شرَّف الله به المرسلين، وبما هو سبب رئيس لحفظ الدين، ألا وهو الدعوة إلى الله رب العالمين، وهي -بعد الأنبياء- وظيفة العلماء والمصلحين، وأحسن الأقوال إلى السميع العليم، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

أولا: تعريف الدعوة إلى الله

عرَّفها الشيخ محمد أبو الفتح البَيَانُوني بأنها: “تبليغ الإسلام للناس، وتعليمه إياهم، وتطبيقه في واقع الحياة”[2].

وجمع الشيخ في كتابه “المدخل إلى علم الدعوة” مجموعةً من التعاريف، اختار بعدها هذا التعريف ودلَّل على رجاحته وأَسْهَب، فأُحِيلُكم عليه خشية الإطالة[3].

ثانيًا: حكم الدعوة إلى الله

أ-في حق الأنبياء: فرض عين؛ لقوله تعالى: )يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ( [المائدة: 67].

ب-في حق غيرهم: فرض كفاية؛ لقوله تعالى: )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ( [آل عمران: 104]، “فقَد حَوَتْ هَذِهِ الْآيةُ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: وجوب الْأمْرِ بالمعروف والنهي عَن الْمُنْكَرِ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ إذَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ”[4].

وهي آكد في الوجوب الكفائي في حق العلماء لقوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ( [البقرة: 159، 160]، “وهذه الآيةُ وإن كانت نازلةً في أهل الكتاب، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله”[5]، ولكن إن ترتَّبَ على العالِم ضرر لا يستطيع تحمله، فعندئذ يجوز له أن يترك الدعوة لقوله تعالى: )لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا( [البقرة: 286].

ثالثًا: مكانة وفضل الداعية

أ-الداعي في أعلى المراتب عند الله، لقوله تعالى: )وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ( [فصلت: 33].

ب-الدعوة وظيفةُ أشرف الخلق وأنبلهم، الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: )يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا( [الأحزاب: 45، 46].

ج-القيام بالدعوة علامة على الإيمان، بل هي الفارق بين الإيمان والنفاق، قال تعالى: )الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ( [التوبة: 67] ثم قال بعد ذلك: )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ( [التوبة: 71] قال القُرطُبي رحمه الله: “فَجَعَلَ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَخَصَّ أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ”[6]

د-الداعي من خِيار الناس، لقوله تعالى: )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ( [آل عمران: 110] “فهذه الآية الكريمة أفادت معنيين: الأول: خَيرِيَّةُ هذه الأمة، والثاني: أنها حازت هذه الخيريَّة لقيامها بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”[7]، وفي الأثر: “قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ r وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الناس خير؟ قال: «خَيْرُ النَّاسِ أَقْرَؤُهُمْ وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ، وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ»”[8].

رابعًا: شروط وأخلاق وآداب الداعية

أ-الإخلاص لله
وهو أن تجعل دعوتك لله، لا لأمر من أمور الدنيا، فهكذا كانت دعوةُ الأنبياءِ عليهم السلام، يقول تعالى على لسان سيدنا هود عليه السلام: )يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ( [هود: 51]، وقال تعالى على لسان ذلك الرجل الصالح: )اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ( [يس: 21]، “فهم ليسوا يَدْعُون الخَلق طَمَعًا فيما يُصِيبُهم منهم من الأموال، وإنما يَدْعُون نصحا لهم، وتحصيلا لمصالحهم”[9]، ولسانُ حالِ كلِّ واحدٍ منهم: )إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ( [هود: 88].

ب-العلم
لقوله تعالى: )قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي( [يوسف: 108]؛ “أي: على علم ويقين”[10].

“وقد أمر الله به وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: )فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ( [محمد: 19]، فدل ذلك على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأن العلم شرطٌ في صحة القول والعمل”[11].

قال ابن تيمية رحمه الله: “فَلَا بُدَّ من هَذِه الثَّلَاثَة: العلمُ، والرِّفقُ، وَالصَّبْرُ؛ العلمُ قبل الْأَمر وَالنَّهْي، والرِّفقُ مَعَه، وَالصَّبْرُ بعده، وإن كَانَ كلٌ من الثَّلَاثَة لَا بُدَّ أن يكون مُسْتَصْحَبًا فِي هَذِه الأحوال”[12].

وهنا يجب التنويه على أن “مَنْ عَلِمَ مسألةً وجَهِلَ أخرى فهو عالمٌ بالأولى جاهلٌ بالثانية، وبالتالي يتوفر فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما عَلِم دون ما جَهِل، ولا خلاف أن من جَهِل شيئاً أو جَهِل حكمه أنه لا يدعو إليه، لأن العلم بصحة ما يدعو إليه الداعي شرط لصحة الدعوة. وعلى هذا فكل مسلم يدعو إلى الله بالقَدْر الذي يعلمه”[13].

ج-العمل بما يدعو إليه
قال تعالى على لسان سيدنا شعيب عليه السلام: )وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ( [هود: 88]، “أي: ما أريد أن أنهاكم عن شيء ثم أرتَكِبه”[14]

وقال تعالى: )وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ( [فصلت: 33]، “أي: هو فِي نَفْسِهِ مُهْتَدٍ بِمَا يَقُولُهُ، فَنَفْعُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وليس هو مِنَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَأْتُونَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَأْتُونَهُ، بَلْ يَأْتَمِرُ بِالْخَيْرِ وَيَتْرُكُ الشَّرَّ وَيَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى”[15].

وهذا الشرطُ ضروريٌ؛ لأن الناس تقتدي بالأعمال أكثر من الأقوال “ومما يدل على ذلك أن البخاري بوَّب بابًا قال فيه: (باب الاقتداء بأفعال النبي r)، ثم ساقَ الحديث: اتَّخَذَ النَّبِيُّ r خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ r: «إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ»، فَنَبَذَهُ، وَقَالَ: «إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا»، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ.

قال ابن بطال: (فدَلَّ ذلك على أن الفعل أبلغ من القول)”[16]

وقد وبَّخ الله تعالى بني إسرائيل لأنهم يأمُرون بالبر ولا يفعلونه، وذلك في قوله تعالى: )أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ( [البقرة: 44]، يقول السعدي رحمه الله: “وهذه الآية وإن كانت نزلت في سببِ بني إسرائيل، فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى: )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ(، وليس في الآية أنَّ الإنسان إذا لم يَقُم بما أُمِرَ به أنه يَتْرُكُ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمرُ غيرِه ونهيُه، وأمرُ نفسِه ونهيُها، فَـتَرْكُ أَحَدِهِما، لا يكون رخصةً في ترك الآخر”[17].

“وَقَالَ سَعِيدُ بْنَ جُبَيْرٍ: لَوْ كَانَ الْمَرْءُ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَصَدَقَ، مَنْ ذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شيء!”[18]

د-الصبر
لقوله تعالى: )يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ( [لقمان: 17]، قال ابن كثير رحمه الله: “عَلِمَ أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ مِنَ النَّاسِ أَذًى، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ. وَقَوْلُهُ تعالى: )إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ( أَيْ: إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى أَذَى النَّاسِ لَمِنْ عَزَمِ الْأُمُورِ”[19]

“إن الصبر للداعي أشد ضرورة له من غيره، لأنه يعمل في مَيْدَانَين؛ ميدانُ نفسه، يجاهدها ويحمِلُها على الطاعة ويمنعها من المعصية، وميدانُ خارج نفسه، وهو ميدان الدعوة إلى الله، ومخاطبةِ الناس، فيحتاج إلى قدْرٍ كبير من الصبر في الميدانَيْن، حتى يستطيع تجاوز العقبات وتحمل الأذى، فإن فَقَدَ الصبر قَعَدَ أو انسحب من الميدان وحَقَّ عليه الحساب وفاته الثواب”[20]

ه-و-الحكمة والموعظة الحسنة
لقوله تعالى: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( [النحل: 125]، “جعل الله سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخَلق؛ فالمستجيبُ القابلُ الذكيُّ الذي لا يعاند الحق ولا يَأبَاه: يُدعى بطريق الحكمة؛ “يعني بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلم الأشياء بحقائقها”[21].

والقابلُ الذي عنده نوع غفلة وتأخر: يدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.

والمعاندُ الجاحد: يُجَادَل بالتي هي أحسن”[22].

ومن مظاهر الحكمة، التدرج في الدعوة، “ففِيمَا يُحْكَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ ابْنَهُ عَبْد الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: مَا لَكَ لَا تُنَفِّذُ الْأُمُورَ؟ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي لَوْ أَنَّ الْقُدُورَ غَلَتْ بِي وَبِكَ فِي الْحَقِّ. قَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا تَعْجَلْ يَا بُنَيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْخَمْرَ فِي الْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ، وَحَرَّمَهَا فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنَّي أَخَافُ أَنْ أَحْمِلَ الْحَقَّ عَلَى النَّاسِ جُمْلَةً، فَيَدْفَعُوهُ جملةً، ويكون من ذا فتنة”[23].

ز-اللين والرفق
قال تعالى: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ( [آل عمران: 159]، “أي: لو كنت سيء الْكَلَامِ، قَاسِيَ الْقَلْبِ عَلَيْهِمْ لَانْفَضُّوا عَنْكَ وَتَرَكُوكَ”[24].

وقال تعالى: )وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ( [العنكبوت: 46] “فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى فرعون في قوله: )فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى( [طه: 44]”[25].

وذكر القرطبي رحمه الله قولاً في سبب وصف ملكة سبأ كتابَ سيدنا سليمان عليه السلام بــ)كَرِيمٌ( كما في قوله تعالى: )قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ( [النمل: 29]: “وَقِيلَ: وَصَفَتْهُ بِذَلِكَ، لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ لِينِ الْقَوْلِ وَالْمَوْعِظَةِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحُسْنِ الِاسْتِعْطَافِ وَالِاسْتِلْطَافِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَضَمَّنَ سَبًّا وَلَا لَعْنًا، وَلَا مَا يُغَيِّرُ النَّفْسَ، وَمِنْ غَيرِ كَلَامٍ نازلٍ وَلَا مُسْتَغْلَقٍ، عَلَى عَادَةِ الرُّسُلِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”[26].
هذا المقال هو الفائز بالجائزة الثانية في مسابقة “باحثو المستقبل”


فهرس المصادر والمراجع

  • أحكام القرآن للجصاص، ط دار الكتب العلمية 1994م.
  • الاستقامة، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط جامعة الإمام محمد بن سعود 1403ه.
  • أصول الدعوة، د. عبدالكريم زيدان. ط مؤسسة الرسالة ناشرون 2002م.
  • تفسير ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، ط دار الكتب العلمية 1419ه.
  • تفسير البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، ط دار طيبة 1997م
  • تفسير الخازن = لباب التأويل في معاني التنزيل، علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي المعروف بالخازن، ط دار الكتب العلمية 1415ه.
  • تفسير السعدي، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي، ط مؤسسة الرسالة 2000م.
  • التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، ط دار ومكتبة الهلال 1410ه.
  • الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، ط دار الكتب المصرية 1964م.
  • ديوان الإمام المؤرخ الأديب ابن حبيب الحلبي، ط دار الكتب العلمية 2017.
  • المدخل إلى علم الدعوة، محمد أبو الفتح البيانوني، ط مؤسسة الرسالة 2014م.
  • مسند أحمد، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، ط عالم الكتب 1998م.
  • مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، 1994م.
  • الموافقات، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، ط دار ابن عفان 1997م.

الهوامش

[1] الأبيات من ديوان الإمام المؤرخ الأديب ابن حبيب الحلبي صـ110، ط دار الكتب العلمية 2017.

[2] “المدخل إلى علم الدعوة” للشيخ محمد أبو الفتح البيانوني صـ 17.

[3] انظر المصدر السابق صـ 14-19.

[4] انظر أحكام القرآن للجصاص، ط العلمية (2/ 37).

[5] انظر تفسير السعدي (ص: 77).

[6] تفسير القرطبي (4/ 47).

[7] أصول الدعوة د. عبدالكريم زيدان (ص: 348).

[8] مسند أحمد (6/ 432).

[9] تفسير السعدي (ص: 556).

[10] تفسير السعدي (ص: 406).

[11]انظر مقومات الداعية الناجح، سعيد القحطاني، صـ15.

[12] الاستقامة (2/ 233) لشيخ الإسلام ابن تيمية.

[13] انظر أصول الدعوة د. عبدالكريم زيدان (ص: 353).

[14] تفسير البغوي (4/ 196).

[15] انظر تفسير ابن كثير (7/ 164).

[16] مقومات الداعية الناجح، سعيد القحطاني، صـ323.

[17] انظر تفسير السعدي (ص: 51).

[18] انظر تفسير القرطبي (1/367-368).

[19] تفسير ابن كثير  (6/ 302).

[20] انظر أصول الدعوة، د. عبدالكريم زيدان (ص: 397).

[21] انظر تفسير الخازن = لباب التأويل في معاني التنزيل (3/ 107).

[22] انظر التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم (ص: 359).

[23] الموافقات (2/ 148).

[24] تفسير ابن كثير ط العلمية (2/ 130).

[25] تفسير ابن كثير ط العلمية (4/ 526).

[26] تفسير القرطبي (13/ 191).

الترغيب والترهيب في القرآن الكريم

من أساليب خطاب الدعوة إلى الله تعالى في كتابه: الترغيب والترهيب ، ولهما آثار مختلفة في نفس المدعوّ. وقد شغل ذلك فكري فترة غير قصيرة، لاهتمامي بتحليل الخطاب الدعوي السائد، فهناك مَن يُركِّز على الترغيب برحمة الله وصولاً إلى تقبُّل التفريط بالواجبات، وهناك مَن يُركِّز على الترهيب من غضب الله، فيُقنِّط من رحمته ويُعرِّض مستمعيه لقلق نفسي. فوجدت أن عليَّ أن أُؤصِّل الموضوع من القرآن، ورأيت في مسابقة “باحثو المستقبل” منصَّة ملائمة لعرض بحثي، عسى أن ينفعنا الله به ويجعله خالصًا لوجهه الكريم.

أولاً: الترغيب

لغةً: رَغِبَ ورغَّب في الشيء إذا جَعَله يحرص عليه(1).

واصطلاحًا: ما يُشوِّق إلى الاستجابة وقَبول الحق والثبات عليه(2)، فهو وعد يصحبه إغراء بمتعة آجلة مؤكَّدة مقابل القيام بعمل صالح ابتغاء مرضاة الله(3).

والمتدبِّر للقرآن يجد الحثَّ على مختلف الأعمال الصالحة، فالله يعِد المحسنين من عباده بالتوفيق في الدنيا، وبالنعيم في الآخرة. وأهم ما رغَّب به القرآن: عبادة الله تعالى، وطاعة النبي r، واتباع القرآن، والصلاة والزكاة، والإيمان باليوم الآخر، والجهاد في سبيل الله، والتوبة، والحِسبة، وتقوى الله، والجنة، والصبر(4).

  1. الترغيب بعبادة الله تعالى:
    إن جوهر دعوة الأنبياء عليهم السلام هو توحيد الله تعالى وتنزيهه ودعوة الناس لعبادة ربهم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].

 قال السعدي(5): “وهذا أمر عام بالعبادة الجامعة، لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه وتصديق خبره، فأمرهم بما خلقهم له، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]”(6).

  1. الترغيب بالصلاة والزكاة:
    لهذَين الركنَين أهمية بالغة في حياة المسلم، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} [البقرة: 110]. والصلاة أقوى أسباب الاتصال بين العبد وربه، وإيتاء الزكاة تُوثِّق الصلة بين الأغنياء والفقراء ثم بينهم وبين الله تعالى.
  2. الترغيب بالإيمان باليوم الآخر:
    لا تتحقَّق حقيقة الإيمان بالله إلا بالإيمان باليوم الآخر لتلازم المبدأ والمعاد. قال تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
  3. الترغيب بالتوبة:
    أخبر تعالى عباده بسعة كرمه وحثَّهم على الإنابة والتضرُّع إليه، ونهاهم عن اليأس من رحمته، فيدفعون وساوس الشيطان التي ترد على فكرهم لتُبعدهم عن طاعة الله تعالى وتُهلكهم. قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. لذلك نجد أن روح الدعوة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كي لا ينزلق الناس إلى الإسراف في المعاصي والذنوب.
  4. الترغيب بالجنة:
    يُرغِّب الله تعالى عباده بجنات الخلد ويُعزِّز في نفوسهم حبَّها، فشَوْقُهم إليها يدفعهم للتفاني والتضحية بما يملكون للحصول على وعد الله لهم، فتسهل عليهم الصعاب وتهون أمامهم المشقات، في سبيل الجزاء الموعود من ربهم. قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72].

قال الصابوني(7):”جناتٍ وارفة الظلال، تجري من تحت أشجارها الأنهار لابثين فيها أبدًا، لا يزول عنهم نعيمها، ولهم فيها منازل يطيب العيش فيها في جنات الخلد، قصور من اللؤلؤ والياقوت، ورضوان الله أكبر من ذلك كله”(8).

ثمرة الترغيب: الرجاء برحمة الله
هي النتيجة المرجوّة من تكرار أسلوب الترغيب برحمة الله في القرآن الكريم، وتفاعل القلب مع هذه المؤثرات فيمتلئ أملاً بتوبة الله ومغفرته رغم كل ما يقترفه العبد من تقصير وجرأة على المعصية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].

والرجاء عبادة قلبية تظهر آثارُها على إيمان المسلم وسلوكه، فأعمال القلوب كما يقول ابن القيم(9): “أفْرَضُ على العبد من أعمال الجوارح، وعبوديَّةُ القلب أعظَمُ من عبوديَّة الجوارح”(10).

وتظهر آثار الرجاء على إيمان المسلم وسلوكه:

فمِن آثارِه الإيمانية: إظهار العبودية والحاجة إلى ما يرجوه من ربه ويستشرفه من إحسانه، وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفةَ عين. والرجاء يبعث المؤمن على مقام الشكر، فكلما اشتد رجاؤه وحصَل له ما يرجوه ازداد حُبًّا لله تعالى وشكرًا له ورضي به وعنه.

ومن آثاره السلوكية: أن أهله أكثر الناس تأسِّيًا بالنبي ﷺ، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. ومَن رجى الله حسُن ظنه به، وحُسن الظن يرفع درجة العبد عند ربه، قال النبي r: “يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي” متفق عليه.

ثانيًا: الترهيب

لغةً: التخويف، ويُقال: رهب الشيء، أي خافه(11).

واصطلاحًا: ما يُحذِّر من عدم الاستجابة أو رفض الحق أو عدم الثبات عليه بعد قبوله(12)، أو هو تهديد بعقوبة تترتَّب على اجتراح ذنب نهى الله عنه، أو التهاون بأداء فريضة أمر الله بها(13).

والمتأمِّل في القرآن يُلاحظ الترهيب من المعاصي والآثام التي لا يرضاها الله لعباده، فيتوعَّد الله كل ضالٍّ بالخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة. ويُحذِّر الله في كتابه من: الكفر بالله ومعصيته ومعصية رسوله r، وإنكار اليوم الآخر وقيام الساعة، واتباع الشيطان، واتباع الهوى، والظلم، وأكل الربا، والنفاق، ورمي المحصنات، ونار جهنم(14).

  1. الترهيب من الكفر بالله تعالى:
    رهَّب تعالى من الكفر بالله وعدم الإيمان به؛ لأنه من المعاصي التي لا تُغتفر، والكفر بالله أعظم الكفر؛ لأنه كفر بكتبه ورسله وملائكته وآياته ونعمه، وكل ما أراده الله معتمد على إثبات وجوده ووحدانيته. لهذا نجد الوعيد ترهيبًا لكل مَن كفر بالله فيتجنَّب الناس الكفر به. قال تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 6-8].
  2. الترهيب من الظلم:
    قال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة: 270]، وقال النبي r: “اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة” أخرجه مسلم. وقال البغوي(15): “ما للظالمين من أعوان يدفعون عنهم عذاب الله يوم القيامة”(16).
  3. الترهيب من اتباع الهوى:
    ورد النهي عن اتباع هوى النفس لأنه يؤدي إلى غير النهج القويم، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]. قال السعدي: “لا يوجد أحد أضل منه بعمله هذا، فمن اتَّبع هواه كان من أضل الناس وأشقاهم”(17).
  4. الترهيب من قيام الساعة:
    إنه اليوم الذي يشيب فيه الولدان، حين يخرج الناس من قبورهم للحساب، وتتكلَّم الجوارح فاضحة أعمال صاحبها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1-2].
  5. الترهيب من نار جهنم:
    ورد الترهيب من نار جهنم في القرآن بصيغ مختلفة وبألفاظ متعدِّدة منها: النار، السعير، سقر، الحريق وغيرها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. قال الطبري(18): “فالله يُرشدنا إلى حفظ أنفسنا وأهلينا ووقايتها من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ثم يُحذِّرنا من وقودها التي يوقد عليها المـُعرِضون عن شرع الله والحجارة، ثم يصف زبانية جهنم بأوصاف مخيفة: غلاظ شداد لا يخالفون أمر الله فيما يأمرهم به”(19).

ثمرة الترهيب: الخوف من الله
مع رحمة الواسعة فإن الله لا يُرَدّ بأسُه عن المجرمين، قال تعالى: {فإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147]، وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [الحجر: 49-50]، قال الشوكاني(20): “لَمَّا أمر رسوله بأن يُخبر عبادَه بهذه البشارة العظيمة أمرَه بأن يذكر لهم شيئًا مما يتضمَّن التخويف حتى يجتمع الرجاء والخوف ويتقابَل التبشيرُ والتحذيرُ ليكونوا راجين خائفين”(21).

والمؤمن كلما رأى آيات الله في الكون، يزداد خوفه من عظمة الله، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، ولا يغترَّ بعمله الصالح مهما زاد، قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]. وقال تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3]، قال ابن كثير(22): “شَدِيدِ الْعِقَابِ لمـَن طغى وآثَر الحياةَ الدنيا وعتا عن أوامر الله تعالى.. يقرن هذين الوصفين كثيرًا في مواضعَ متعددةٍ من القرآن ليبقى العبدُ بين الرجاء والخوف”(23).

الخاتمة
تبيَّن لنا في البحث مدى التوازن الدقيق بين الترغيب برحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء، والترهيب من غضبه وعذابه الذي يستحقُّه كلّ مَن أعرض عن الهدى. والجدير بالمؤمن العاقل أن يُوازن بين رجائه بعفو الله وغفرانه دون تقصير بالواجبات، وبين الخوف من غضب الله وعقابه دون يأسٍ أو قنوطٍ. وبذلك تقوم العلاقة الروحية المتوازنة بين العبد وربّه جل شأنه.

قال ابن القيم: “لا بدَّ للعبد في سيره إلى الله من الجمع بين ثلاثة أركان، والعبادة كالطائر، فالحُبّ بمنزلة الرأس، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سَلِمَ الرأسُ والجناحانِ فالطائرُ جيد الطيران، ومتى قُطِعَ الرأسُ مات الطائرُ، ومتى فُقِدَ الجناحانِ فهو عرضة لكل صائدٍ وكاسر”(24).

هذا المقال هو الفائز بالجائزة الأولى في مسابقة “باحثو المستقبل”


الهوامش

(1) الجوهري إسماعيل بن حماد، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ، تحقيق، :أحمد عبد الغفور عطار (رغب) :  1/137، دار العلم للملايين، بيروت- لبنان، الطبعة الرابعة 1990 م.

(2) عبدالكريم زيدان، أصول الدعوة، مكتبة الانجلو المصرية القاهرة ، 1395 ه – 1975 ص/ 670.

(3) أحمد علوش، الدعوة الاسلامية اصولها ووسائلها، دار الكتب اللبنان، بيروت، 1987 م، ص/257.

(4) كفايت همداني، الترغيب والترهيب في السياق القرآني، مجلة القسم العربي، جامعة بنجاب، لاهور- باكستان، العدد الثاني والعشرون، 2015 م، ص/ 98.

(5) عبد الرحمن بن ناصر السعدي الناصري التميمي، هو الشيخ العلامة أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر السعدي الناصري التميمي، ويعرف اختصاراً ابن سعدي، ولد في 7 أيلول 1889م وتوفي في 24 كانون الأول 1956م.

(6) ابن السعدي، تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 2002، ص/ 45.

(7) مُحمَّد علي الصَّابُونيّ: أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة في العصر الحديث، ومن المتخصصين في علم تفسير القرآن، وهو مؤلف كتاب صفوة التفاسير، ولد في حلب عام 1930م، وتوفي في 15 شباط 2015م.

(8) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، دار القرآن الكريم بيروت، المجلد الأول، ص/ 548.

(9) ابن القيم: هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي المشهور باسم “ابن قيّم الجوزية” أو “ابن القيّم”. هو فقيه ومحدّث ومفسَر وعالم مجتهد وواحد من أبرز أئمّة المذهب الحنبلي في النصف الأول من القرن الثامن الهجري. ولد في 7 صفر 691ه وتوفي في 13 رجب 751ه.

(10) ابن قيم الجوزية، بدائع الفوائد، دار علم الفوائد، المجلد الثالث، ص/ 1148.

(11) خليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين (رهب): 4/47.

(12) عبدالكريم زيدان، أصول الدعوة، مكتبة الانجلو المصرية القاهرة ، 1395 ه – 1975 ص/ 670.

(13) زياد العاني، أساليب الدعوة والتربية في السنة النبوية، رسالة ماجستير،كلية العلوم الإسلامية جامعة بغداد، 1995 م: 212.

(14) كفايت همداني، الترغيب والترهيب في السياق القرآني، مجلة القسم العربي، جامعة بنجاب، لاهور- باكستان، العدد الثاني والعشرون، 2015 م، ص/ 104.

(15)  الحافظ البغوي هو إمام حافظ وفقيه ومجتهد، واسمه الكامل “أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفراء البغوي”، ويلقب أيضاً بركن الدين ومحي السنة. أحد العلماء الذين خدموا القرآن والسنة النبوية الإسلامية، دراسة وتدريساً، وتأليفاً، توفي سنة 516ه.

(16) الحافظ البغوي، تفسير البغوي، دار طيبة، المجلد الأول، ص/ 335.

(17) ابن السعدي، تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 2002، ص/ 724.

(18) محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبو جعفر الطبري، مفسّر ومؤرّخ وفقيه، ولُقِّبَ بإمام المفسرين، ولد بآمُل عاصمة إقليم طبرستان سنة 224ه وتوفي سنة 310ه في بغداد.

(19) الإمام الطبري، تفسير الطبري، مؤسسة الرسالة، المجلد السابع، ص/ 330.

(20) محمد بن علي بن محمد الشوكاني، الملقب بـبدر الدين الشوكاني، أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة وفقهائها، ومن كبار علماء اليمن ولد في هجرة شوكان في اليمن 1173 هـ ونشأ بصنعاء، وولي قضائها سنة 1229 هـ ومات حاكمًا بها في سنة 1250 هـ.

(21) محمد بن علي بن محمد الشوكاني، فتح القدير، دار المعرفة، الطبعة الرابعة 1428ه -2007م، ص/ 763.

(22) هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضَوْ بن درع القرشي الحَصْلي، البُصروي، الشافعي، ثم الدمشقي، مُحدّث ومفسر وفقيه، ولد بمجدل من أعمال دمشق سنة 701 هـ، وتوفي سنة 774ه.

(23) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار ابن حزم، ص/ 1634.

(24) ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين 1 /514.