المعتقدات السلافية: ماضٍ ينهض من جديد (1)
روسيا، الاسم الذي يوحي أول ما يوحي لسامعه بالجغرافيا الواسعة، الاتحاد السوفيتي سابقًا، بوتين والمعسكر الشرقي، في هذا المقال نسلّط الضوء على المعتقدات التي سادت تلك البلاد في القديم وما بقي منها إلى الآن.
إن الشعوب السلافية هي أكبر المجموعات العرقية اللغوية (ذات أصل مشترك في العرق واللغة ethnolinguistic groupe) في أوروبا، وتُقسم الشعوب السلافية المعاصرة إلى:
- سلاف الشرق: بيلاروسيا، روسيا، أوكرانيا
- سلاف الغرب: التشيك، مورافيا، بولندا، سلوفاكيا
- سلاف الجنوب: البوسنة، بلغاريا، كرواتيا، مقدونيا، مونتينيغرو(الجبل الأسود)، صربيا، سلوفانيا
كانت الشعوب السلافية عبارة عن مجموعات قَبَليّة عديدة عاشت في بداية العصور الوسطى -من القرن الخامس إلى العاشر- في أوروبا الشرقية، ولم تُستخدم لفظة سلاف بشكل مكتوب إلّا في القرن السادس تزامناً مع هيمنة هذه القبائل على جزء كبير من أوروبا الشرقية والوسطى، وقد وصفهم المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس القيسراني Procopuis of Caesarea بأنهم: طوال القامة، أقوياء البنية، بشرتهم ليست بيضاء، وشعرهم ليس بالأشقر ولا الأسود ولكنه يميل عند معظمهم للاحمرار.

بروكوبيوس القيسراني (مصدر الصورة: ويكيبيديا)
المعتقدات السلافية القديمة
نظراً لأنّ أول كتابات ظهرت حول هذا الموضوع كانت في القرن التاسع الميلادي -ولم تنتشر بشكل كبير آنذاك- فإنّ المعلومات حول المعتقدات والآلهة المنتشرة لدى الشعوب السلافيّة في تلك الفترة كانت قليلة، كما أنه لا يوجد إلى الآن أي مخطوطات أو كتابات قديمة تؤكّد أو تصف معتقدات الشعوب السلافية الأولى بشكل كامل، فمعظم ما تمّ اكتشافه في مدينة نوفوغرود Novogrod (حوالي ١٢٠٠ قطعة من ألواح لحاء الشجر) والذي يتراوح في القِدَم بين القرن الحادي عشر والخامس عشر، تضمّن معظمها تدوينات لمبادلات تجارية، أو رسائل خاصة بين الأفراد، ولا شيء عن شعائر أو طقوس القدماء، ومعظم المنقول هو من شهادات البيزنطيين والألمان والرحالة.
وقد عثِر على أصنام وأدوات تعبدية لكنّها لم تترافق مع أي نص مكتوب يوضح كيفية الطقوس والممارسات للعبادات، وما يقوم به العلماء من دراسات وتحليلات حاليًّا يستند إلى التخمينات، إلا أن هناك إجماعًا على أنّ آلهة الشعوب السلافية القديمة كثيرة ومتشابكة.
إضافةً إلى الإيمان بالآلهة المتعددة فقد آمن السلافيّون بوجود مخلوقات سفلية ذات قوى خارقة مثل الأرواح والغول والمستذئبين وغيرهم، ومن ثمّ، فإنه بحسب هذه المعتقدات، تحكم الكون آلهة عليا تتشارك في أصولها مع آلهة اليونان القدماء وأهل الشمال “الاسكندناف” وتتشابه في الصفات لحد كبير.
من هذه الآلهة:
- الإله بيرون Perun: إله الرعد وهو نفسه الإله ثور Thor وغيره من آلهة الرعد الهندوأوروبية.
- إله الغابات والأنعام والحياة الآخرة after life: فيليس Veles
- إله السماء: ستريبوغ Stribog
- آلهة الخصوبة والإناث: موكوش Mokosh وهي نفسها Freya عند الفايكينغ
- إله الشمس: Dashbog
وغيرها من الآلهة الكثيرة التي عبّرت بجزء كبير عن أجزاء الطبيعة وتفاعُلِ البشر معها بقوّةٍ آنذاك، من نهرٍ وغابةٍ وطقسٍ وجليدٍ وحتى الوقت وقِصر الليل والنهار خلال السنة كان له إله يعمل على تنظيمه!
فُرِضت المسيحيّة عام ٩٨٨م على الشعوب السلافية، ودمِّر كل ما له شأن بالعبادات الوثنية كالمعابد والأصنام، ومع ذلك يرجح الدارسون في تاريخ الوثنية السلافية أن العبادات والمناسك كانت تُمارس في الهواء الطلق على شكل ترانيم وصلوات أو في الغابات التي تحتلّ مكانة مقدّسة عند تلك الشعوب، أو في المعابد الخشبية التي إما دُمّرت كلياً على يد دعاة المسيحية، أو أنّ ما تبقى منها فنيَ واهترأ بعامل الوقت، ومن الصعب إعادة استحضار هذه الطقوس الوثنية بدقة أو تمثيلها لقلّة الأدلة.
أحد الأصنام القليلة جدًّا التي عثر عليها علماء الآثار وما زال موجوداً ومحفوظاً في متحف كراكوف-بولندا هو الصنم زبروخ Zbruch الذي يعود إلى القرن التاسع حيث الأوجه الثلاثة على التمثال حسب معتقداتهم: العالم السفلي، والإنسان، والعالم السماوي.

مصدر الصورة: ويكيبيديا
بالرغم من فرض المسيحية الأرثوذوكسية على الشعوب السلافية لأكثر من ١٠٠٠ عام، وبالرغم من إجراءات الاتحاد السوفيتي الذي تلاها في فرض الأجواء اللادينية بالقوة إلّا أنّ ذلك لم يمحُ آثار الوثنية من معتقدات الروس وبقية الشعوب السلافيّة، حيث ما تزال موجودة وبشكل متداخل بشكل كبير مع المعتقد المسيحي.
من بعضها:
- عيد الماسلينيتسا Maslenitsa ويعرف بأنه (أسبوع الزبدة والشطائر): ففي كلّ عام يقومون فيه بعمل ولائم في آخر فصل الشتاء (أواخر شباط وبدايات آذار) احتفالاً بآلهة الشمس ويحضرون أكلة شعبية تسمى البلينشيكي Plinchiki (تشبه الكريب الفرنسي) وتعبّر بشكلها عن رمز الشمس وذلك لحث الشتاء على الرحيل، واستعجال الربيع في القدوم.
- اللجوء إلى العرّافات لمعرفة الطالع وما يخبّئه المستقبل.
- تقديم الطعام عند القبور: ويُعتقد أنه في أيام الانقلابات والاعتدالات الفصلية تزور أرواح الأموات أقاربها ويمشي الأموات على الأرض في يوم يسمّونه “إيفان كوبالا Ivana Kupala” في تاريخ ٢١، ٢٢، ٢٣،٢٤ من شهر حزيران، وقد استمرت عادة الاحتفال به حتى منتصف القرن العشرين.
- البابا ياغا babayaga: إحدى المخلوقات من دون الآلهة والتي تمتلك قوى خارقة وتتمثّل بساحرة عجوز تميل للشر مع امتلاكها للحكمة لمساعدة من يستحق المساعدة، وتكيد بالأشرار والطفوليين، وما زالت هذه الشخصية الأسطورية تشكّل جزءاً كبيراً من قصص ومناهج الأطفال في الأدب الروسي إلى اليوم.
- إله الشمس وحصانه الناري: حيث يُعتَقَد بأنه يسافر عبر المحيطات برفقة حصانه الناري المخلص، وقد عَبَدوه جنباً إلى جنب مع إله الشمس، ومنذ ذلك الزمن تُعتبر حدوة الحصان رمزاً جالباً للحظ الجيّد، ومن يعثر على حدوة في الطريق فهي غالباً تعود إلى الحصان الناري، وستضمن لصاحبها الحظ السعيد، وإلى الآن تُعلّق الكثير من البيوت في روسيا وغيرها حدوة الحصان للأسباب ذاتها!
- الحمّامات البخارية “بانيا“: كانت تُعتبر بوابة العبور من عالم الأرواح إلى العالم المادي، وتحرسها إلهة تدعى جدّة الحمّام، والتي بيدها الشفاء من الأمراض ورعاية الأمهات النفاس ومواليدهن، كما جرت العادة منذ أكثر من ألفي عام أن تلد النساء داخل هذه الحمّامات البخارية لتسهيل عملية العبور بين العوالم للأطفال حديثي الولادة!
- جن المنزل أوعفريت المنزل أوحتى سيّد المنزل “دوموفوي Domovoi”: وهو عبارة عن روح ذكرية على هيئة مخلوق صغير(قزم) بلحية يعيش مع سكان البيت ويُعتبر سيّده، ويساعد في أعمال المنزل مُقابل أن يتم الإحسان إليه بترك كأسٍ من الحليب وقطعة خبز على الطاولة، وإسماعه كلمات الثناء والمديح والإطراء عليه، والمحافظة على نظافة المنزل، واستخدام الكلمات اللبقة بين أفراده، وإلا يحلّ عليهم غضبه، وفي حالة رضاه التام فإنه يحرس سكان منزله ويحميهم.
وحتى أيامنا هذه يعمد الناس عادةً عند الانتقال من بيت لآخر إلى جلب كاهنٍ ليبارك السكن الجديد وينقل “الدوموفوي” معهم، خاصةً إن كان ممن أحبّوا عشرته وآمنوا بأنه سببٌ في حظهم وتوفيقهم.
والجدير بالذكر أنه مشابه للقزم المرافق لحكايات بابا نويل في بلاد الغرب والذي يبدأ منذ شهر كانون الأول مشاكساته في المنزل The elf on the shelf.

دوموفوي (المصدر: thevintagenews.com)
- الليلة السحرية: أقصر ليلة في العام ٢١ من شهر حزيران، إذ إنّ الأعشاب والورود التي يتم قطفها في هذه الليلة لها قدرات شفائية بسبب المعتقد القديم أنّ الوردة السحرية يُبحَثُ عنها في هذه الليلة ومن يجدها يمتلكُ القدرة على فهم لغة الحيوانات والنباتات والطيور، وقراءة عقول البشر والتأليف بين قلوبهم!
ويفسّرون هذا الاعتقاد بأنّ يوم ٢١ تموز هو أطول يوم في العام، وبذلك تتعرض النباتات لأشعة الشمس بشكل أطول من أي يوم وتكتسب طاقةً مكثفة من إله الشمس.
ختاماً لا بد من الإشارة إلى أن بعض المتخصصين وصفوا الإيمان الروسي بأنه ثنائي Dvoeverie بسبب هذه الموروثات الوثنية المتداخلة بشدّة مع المعتقدات الكنسية.
إن السؤال الذي يجب إثارته في نهاية المقال هو البحث في طبيعة هذه الثنائية، فهل الإيمان المسيحي الروسي والإيمان السلافي شيئان متداخلان ببعضهما، أم أن كلًّا منهما يسير بشكل موازٍ للآخر كمحاولة من الناس لمقاومة المسيحية التي فُرضت على شعبٍ ما زال يمجّد ماضيه ويتغنّى به؟
نرجئ الإجابة عن ذلك إلى المقال القادم بإذن الله.
المصادر:
https://www.ancient-origins.net
https://youtube.com/playlist?list=PLx1Hrg5Bg3xrOTtXQyed4zLsCxm9F-dfQ
قبيلة وثنية في روسيا: https://youtu.be/E1qdU1JnSpc