العدو الشرير (6)
دل النجاح اللافت للجنة كريل –المذكورة في المقال السابق- على فاعلية استخدام “العدو” في توجيه الرأي العام وكسب تأييد الجمهور، ومن هنا نشأ ما سمي بـ”الذعر الأحمر”، حيث كانت الشيوعية هي العدو هذه المرة.
وشهد عام 1954 أحد أشهر استخدامات “الذعر الأحمر”، حيث كانت شركة “الفواكه المتحدة” أحد أبرز عملاء إدوارد بيرنيز، إذ كانت تمتلك مزارع موز شاسعة في غواتيمالا وأمريكا الوسطى.

إعلان لشركة الفواكه المتحدة يعود إلى عام 1916
وعلى مدى عقود، كانت الشركة تسيطر على غواتيمالا من خلال الدكتاتوريين الموالين لأمريكا، ولكن في عام 1950 تم انتخاب العقيد الشاب جاكوبو أربينز رئيسًا، والذي وعد بإزالة سيطرة شركة الفواكه عن البلاد، وفي عام 1953 أعلن أن الحكومة ستتولي أمر معظم أراضي الشركة. وكانت هذه كارثة للشركة، فلجأت إلى بيرنيز.
ومع أنّ الرئيس المنتخب وحكومته لم تربطهما أي علاقة بموسكو، إلا أن بيرنيز استغل اندلاع الحرب الباردة وقلق الشعب مما قد تفعله الشيوعية؛ وعمل على تغيير مظهر حكومة غواتيمالا -إعلاميًا- من حكومة منتخبة شعبيًا تعمل لصالح البلاد، إلى ذلك الكيان الشيوعي القريب جدًا من الشاطئ الأمريكي، والمهدِّد للقيم الأمريكية.
تضمنت خطة بيرنيز دعوة صحفيين أمريكيين مؤثرين للقيام بجولة في غواتيمالا، فقلة منهم فقط كانوا يعرفون شيئا عن البلاد وسياساتها، حيث رتب لهم بيرنيز لقاءات مع سياسيين غواتيماليين مختارين ليخبروهم أن أربنز كان شيوعيا تتحكم به موسكو. كما كانت هناك خلال الرحلة مظاهرات عنيفة ضد الولايات المتحدة في العاصمة، ويرجح موظفو شركة الفواكه المتحدة أن بيرنيز هو من عمل على تنظيم المظاهرات.

أربينز
أنشأ بيرنيز أيضا وكالة إخبارية وهمية في أمريكا تدعى “مكتب معلومات أمريكا الوسطى”، وأمطرت هذه الوكالة وسائل الإعلام الامريكية بوابل من نشرات صحفية تدعي أن موسكو تعتزم استخدام غواتيمالا كشاطئ لشن هجوم على الولايات المتحدة.
وفي الوقت ذاته، أقر الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور بأنه يتعين على الولايات المتحدة الإطاحة -سرًا- بحكومة غواتيمالا. فصدرت التعليمات إلى وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) لتنظيم انقلاب.
وبالتعاون مع شركة الفواكه المتحدة، قامت وكالة الاستخبارات المركزية بتدريب وتسليح مليشيات متمردة، وعثرت على زعيم جديد للبلاد هو العقيد كارلوس كاستيلو أرماس.
وفي الوقت الذي كان فيه الطيّارون التابعون لوكالة الاستخبارات المركزية يلقون القنابل على عاصمة غواتيمالا، قام بيرنيز بحملته الدعائية في الصحافة الأمريكية ليعيد تشكيل الواقع، ويعيد توجيه الرأي العام لرؤية ما يحدث على أنه ثورة يقودها “مقاتلو الحرية” لتحرير غواتيمالا.

من نتائج الحرب في غواتيمالا
وفي عام 1954 فرّ العقيد أربينز من البلاد ووصل الزعيم الجديد أرماس، وفي غضون أشهر زار ريتشارد نيكسون غواتيمالا، وكان حينها نائب رئيس الولايات المتحدة. وأُقيم هذا الحدث تحت إشراف دائرة العلاقات العامة لشركة الفواكه المتحدة، والتي ظهرت -بعد كل هذا- على أنّها مجرد شركة تجارية.
عُرضت على نيكسون أكوام من كتب الأدب الماركسي، وقيل إنهم عثروا عليها في القصر الرئاسي. ثم قدم أرماس ونيكسون خطابهما الجماهيري وخلفهما تلك الأكوام من الكتب؛ وقدما بذلك مثالًا صارخًا على الكلمات الجوفاء التي تملأ الخطاب السياسي لكسب تأييد الجمهور، والتي تم التطرق لها في المقال السابق.
مما قاله نيكسون في خطابه: “هذه هي المرة الأولى في تاريخ العالم التي تتم فيها الإطاحة بالحكومة الشيوعية من قبل الشعب. ولهذا نهنئكم وشعب غواتيمالا على الدعم الذي قدمتموه. ونحن على ثقة بأنّه تحت قيادتكم المدعومة من الشعب -الذي التقيت بالمئات منه في زيارتي- ستدخل غواتيمالا حقبة جديدة يكون فيها الرخاء للشعب والحرية للشعب”. |
ما بعد “الذعر الأحمر”

ريغان
بعد أن تراجع التهديد الشيوعي تحتم إيجاد عدو جديد، حيث أوجد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في الثمانينات العدو المناسب، والذي كان “الإرهاب”، فبدأ ريغان “الحرب على الإرهاب” والتي ما زالت مستمرة حتى الآن.
كانت الحرب على الإرهاب هي الحجة الإعلامية الأولى لجميع الفظائع والمجازر التي اقترفتها الولايات المتحدة منذ ثمانينات القرن الماضي حتى الآن، وتبعتها في ذلك كثير من الدول العربية والإسلامية.
وبحجة مواجهة هذا “العدو الشرير”، تم تبرير انتهاكات فظيعة كالتعذيب والاختفاء القسري وسفك الدماء وارتكاب المجازر؛ فضلا عن تردي الوضع الاقتصادي والتعليمي والصحي، فعلى الشعب أن يضحي في سبيل القضاء على “العدو الشرير”.
وقد يأخذ “العدو الشرير” أشكالًا عدة؛ فالإرهاب هو عدو عالمي، لكن هذا لا يمنع وجود “الأعداء” على المستوى الإقليمي، كـ”العدو المجوسي” في الشرق الأوسط (إيران)، و”العدو المجنون صاحب السلاح النووي” في شرق آسيا (كوريا الشمالية).
وبذلك يتم ضمان السيطرة الدائمة على الجماهير، بما يحقق مصالح المنظومة السياسية والاقتصادية، ويبرر الإنفاق الهائل على التسلح، والذي بدوره يضاعف مبيعات الشركات المصنعة للأسلحة.
ختامًا … من هو العدو الشرير حقًا؟
إن هذه السلسلة هي محاولة لإزالة الغشاوة عن عيون اللاهثين وراء غرائزهم ومصالحهم ونزواتهم، من لا يحتكمون لوحيٍ أو دين، فباتوا كالقطيع الضال. هي محاولة لتوضيح من هو “العدو الشرير” حقًا، وهم أولئك الذين لا يُمانعون بأن يتسببوا باندلاع الحروب وإبادة الشعوب في سبيل تحقيق مصالحهم. والذين يملكون الآلة الإعلامية الديمقراطية، ويصنِّعون الأسلحة الدموية الاستبدادية.
هم أولئك الذين يعاملوننا على أننا “قطيع ضال” تجب السيطرة عليه، هم المتوارون في الظلال ويعيثون في الأرض فسادًا. هم شياطين الإنس التي تسعى لأن تُفقَد البوصلة، ويضيع السبيل.
أهم المصادر والمراجع
السيطرة على الإعلام، نعوم تشومسكي، ترجمة أميمة عبد اللطيف، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 2005.
The Century of the Self, Adam Curtis, BBC, 2002.