هل فسر القدماء “الحجارة من سجيل” بأنها ميكروبات الجدري؟
انتصر أحد الدعاة الجدد مؤخرا للرأي القائل بأن الطير الأبابيل التي أرسلها الله إلى جيش أبرهة هي البعوض أو الذباب، وأن الحجارة التي أبادتهم لم تكن سوى ميكروبات الجدري، وعندما حاججه أحدهم بأن هذا التأويل الحداثي لا ضرورة له، رد الداعية بالقول إن هذا التأويل قد سبق إليه القرطبي والفخر الرازي وغيرهما من القدماء وليس من بدع المعاصرين، وظن أنه ألقمه بذلك حجرا.
والعجيب أن أولئك المفسرين القدماء لم يقولوا بما زعمه الداعية، فالقرطبي رحمه الله نقل على عادته ما اجتمع تحت يديه من روايات، وسرد منها عشرات الأقوال المنقولة -كما يُفترض- عن قريش التي شهدت الواقعة والتي تنص على أن الطير كانت ضخمة، حتى قال البعض إن لها رؤوسا كرؤوس السباع، مع إجماعهم على أن الحجارة كانت حقيقية.
ومن بين تلك الأقوال الكثيرة، ذكر القرطبي روايتين عن الجدري، وقد ذكرهما معظم المفسرين أصلا، غير أن كلتيهما لم تخرجا إلى القول بأن الحجارة هي الميكروبات وأن الطير هي الحشرات.
ففي الأولى يقول عكرمة: “كانت ترميهم بحجارة معها فإذا أصاب أحدهم خرج به الجدري. وكان أول يوم رُؤي فيه الجدري. ولم ير قبل ذلك اليوم، ولا بعده.”
وفي الثانية يروى عن ابن عباس قوله “كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده، فكان ذلك أول الجدري”.
فعكرمة وابن عباس لم يأتيا برواية تخالف ظاهر النص، فالطير هي الطير، والحجارة هي الحجارة، غير أنها تصيب من يُقذف بها بالجدري فيموت.
أما الفخر الرازي فنقل في كتابه “التفسير الكبير” رواية عكرمة نفسها عن ابن عباس، وقال “وهو قول سعيد بن جبير”، ثم قال “وكانت تلك الأحجار أصغرها مثل العدسة وأكبرها مثل الحمّصة. واعلم أن من الناس من أنكر ذلك”.
ثم ناقش الرازي رحمه الله مذهب إنكار صغر حجم الحجارة على طريقة أهل الكلام، وهو من أئمتهم، غير أنه اختتم بالقول “واعلم أن ذلك جائز على مذهبنا إلا أن العادة جارية بأنها لا تقع”، أي أنه أجاز عقلا أن يكون حجم الحجر صغيرا وأن يكون قاتلا ولو أنه كان بذلك مخالفا للعادة.
ولعل الرازي كان يقصد بعضا من المعتزلة أو الفلاسفة، وهؤلاء مذهبهم معروف في تقديم العقل، غير أني لم أجد من يقول منهم إن الحجارة هي الجدري وإن الطير هي البعوض ليخرج بذلك عن الخوارق، وإن قالوا هذا فلا يغير ذلك شيئا في مذهب الجمهور، فالجنوح نحو تقديم العقل كان موجودا منذ عصر السلف، إلا أنه لم يكن سوى بدعة من بدع الفرق وليس رأيا معتمدا لدى علماء السنة.
ونضيف إلى ما سبق رواية نقلها الطبري في تفسيره عن ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدّث أن أول ما رُؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رؤي بها مُرار الشجر: الحرمل والحنظل والعُشر ذلك العام.
أي أن الراوي هنا لم يجنح إلى إنكار الحادثة الخارقة للعادة، واكتفى بذكر ما استجد في جزيرة العرب من أمراض ونبات، ولعله لم يربط أصلا بين المرض وحادثة الطير، ولو كان كذلك فما علاقة هذه الحادثة بظهور الشجر المرّ أيضا؟

محمد عبده
التأويل المعاصر
الظاهر إذن أن تأويل الحجارة بالجدري نفسه لم يأت به أحد قبل الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية المتوفى مطلع القرن العشرين، والذي كان أقرب إلى المعتزلة من غيرهم، فاكتشاف الميكروبات أصلا ظهر في عصره، ولعله وجد في ظهور الجدري في عام الفيل -كما مر بنا في الروايات السابقة- مبررا للأخذ بقول المنكرين للخارقة، فقال في تفسيره “فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات. فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه. وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وأن هذا الحيوان الصغير -الذي يسمونه الآن بالمكروب- لا يخرج عنها”.
واللافت أنه اعتذر بعد ذلك بالقول “ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها.. فلله جند من كل شيء”. فالشيخ محمد عبده رحمه الله لا ينفي عن قدرة الله ظهور تلك الخارقة، غير أنه يميل -كالمعتزلة قديما والحداثيين حديثا- إلى الأخذ بما جرت عليه العادة من الظواهر والسنن.

سيد قطب
وقد أبدع سيد قطب رحمه الله في الرد على الشيخ محمد عبده، فرجّح أن يكون دافع الشيخ لاقتراح هذا التأويل هو ما كان شائعا في عصره من “الطوفان العلمي الحديث”، حتى اعتاد صرف ما نص عليه القرآن إلى واقع العقلية العلمانية الحديثة.
ونظرا لطول النص الذي سنقتبسه من كتابه “ظلال القرآن”، فسنجتزئ منه أهم السطور، حيث قال قطب “ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الأستاذ الإمام -صورة الجدري أو حصبة من طين ملوث بالجراثيم- أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو “العصف”، لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله، ولا أولى بتفسير الحادث. فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع، ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس، المعهودة المكشوفة لعلمهم، هي التي جرت فأهلكت قوما أراد الله إهلاكهم، أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر، وغير المعهود المكشوف لعلمهم”.
وقال أيضا “ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها -متى صحت الرواية- أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة… وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعا ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف. فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر”.
ثم اعتبر قطب رحمه الله أنه لا حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيرا، والتي تشي بأن عنصر المبالغة مضاف إليها، لكن وقوع الحادثة الخارقة هو الأصح لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب، فقد كان الله سبحانه يريد أن يحفظ البيت الحرام ليكون مثابة للناس وأمنا، وأن يجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال، حتى يمتن بها على قريش بعد بعثة النبي الذي ولد في نفس العام بإنزال سورة الفيل.
ثم يقول بحجة واضحة إن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده، فهذه الأمراض لا تسقط الجسم عضوا عضوا، ولا تشق الصدر عن القلب.
بعد كل هذا، يؤسفني أن يدلس الداعية الجديد على قرائه غير المختصين ليلصق بالمفسرين القدماء ميوله “الاعتزالية” في التأويل بعيدا عن الخوارق، وليس ذلك لتبرير منهجه الذي لا يرى حاجة للالتزام بالقدماء أصلا، بل لتقريع من يقبل بالتراث ويرفض تأويل الشيخ محمد عبده، إذ تبين لنا أن ما فعله الداعية لا يعدو كونه نقلا متسرعا عن تراث المفسرين، وأن الميل إلى رفض الخوارق كان موجودا لدى المعتزلة والفلاسفة قديما ولا حاجة لنا إلى إنكار أقدميته لإثبات تهافته.