مقالات

كم من حليمة؟

بنهاية شهر نوفمبر من عام 2020، ظهر منشور لعارضة الأزياء الأمريكية من أصل صومالي حليمة عدن- والتي اشتهرت بأنها عارضة أزياء عالمية محجبة- على حسابها بموقع إنستغرام تعلن فيه اعتزالها تلك المهنة لأنها تخالف قيمها الدينية وما تربّت عليه، وذكرت أن توقفها عن العمل بعد جائحة كورونا قد منحها وقتا للتفكير والمراجعة واتخاذ القرار، ونشرت معها بعض تفاصيل وخلفيات اتخاذها لهذا القرار.

 لله درك يا حليمة، أدمعتِ عيني وأثرتِ بالقلب شجونا…

نعم، أعادتني رحلتكِ إلى واقع مزر طمست حقيقته مظاهر تخلب العيون وتفقد الألباب صوابها، واقع عالم اليوم يأخذ بناتنا إلى عالم سحري، إلا أنه مسموم، عطري الرائحة لكنه موبوء، فدعينا نحدث بناتنا من خلالك أيتها العاقلة التي أبصرت النار قريبا فولَّيتِ قبل أن تحترقي وتصيري ذكرى بائسة..

لا ريب أن تصريحات حليمة وكلماتها حملت دروسا أحببت أن أتأملها وأهديها لبناتنا اللواتي تتشوق كثيرات منهنّ لتجربة الشهرة التي مرّت حليمة بها، ظنًّا أن فيها رفعة ومكانة ونجاح، فتتوق كثير من فتياتنا ونسائنا الملتزمات أو اللواتي نشأن في بيئة محافظة أن يجدن أنفسهن أو من يشبههن في ذلك الموقع الذي كانت فيه حليمة وفي أنماط أخرى لا يليق بالمرأة عموما والمسلمة خصوصا الوجود فيها كالتمثيل مثلا وعروض الأزياء والرياضات المشهورة وغيرها. لذلك كان حريا أن ننظر في كلمات واحدة ممن خضن هذه التجربة، لنرى ما وراء الصورة واللقطة المبهرة.

 الصدق مع النفس نجاة
يقول ربنا في كتابه العزيز {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14- 15]  لكن الإنسان كثيرا ما يُسقط تلك النفس في أغوار عميقة كثيفة الشباك، يخفيها عن وعيه، فلا يكاد يدرى عنها شيئا أو يلتف عليها هروبا أو مخادعة.

تذكر حليمة بداية أثر ذلك الوباء الذي اجتاح عالمنا في اتخاذ قرارها الصائب؛ جلوسها في البيت، وابتعادها عن دائرة التأثير والتأثر لفترة، فأجرت مع النفس حوارَ مصارحة أَثْمَرَ خيرًا، وفي هذا تنبيه ووقفة تستحق ألا نتغافل عنها.

إن النفس بطبيعتها خداعة، ومن اليسير عليها أن تجذبك إلى طريقها الموهوم بحيل شتى قد لا تفطن لها إذا لم تكن واعيا. لذلك يكون من الواجب ألا يركن الإنسان إليها مطمئنا ظانا أنه إنما يتحرى الحق ويسعى نحو الفلاح وقد يكون في الطريق المعاكس له، فأصعب أنواع الصدق هو الصدق مع النفس لأنه يتطلب نفسا سوية لا تخشى المواجهة ولا تتخذ التجاهل سبيلا، والطريق الأقصر إلى حياة مطمئنة راضية تنتهي بالفوز والرضوان لن يكون إلا بالتصالح مع تلك النفس السويّة والجلوس إليها، وفهم ما ترمى إليه وسؤالها الدائم عن وجهتها وعن سبيلها.

إذا كانت حليمة قد صدقت تلك المرة في مواجهتها للنفس وإدراك ما هي حقا عليه، فإن الاستمرار في تلك المراجعة ومتابعة الخطوات وسؤال النية والهدف من أعظم السبل التي ينبغي علينا سلوكها كي لا ننخدع بنفس مضطربة أو فكرة متزينة أو مبدأ ملتو لا يثبت مع الفقه والعلم.

 لا يأتي الموج دفعة واحدة
إننا قد ندوس بخطواتنا الشوك الكثيف ولا نتبيّنه بينما تتورم أقدامنا وتسيل على الأرض دماءنا حتى تتخدر وتأخذنا حيث تريد.

قالت حليمة: إن حجابها قبل اثني عشر عاما كان شرعيا.. نعم، كان ذلك ما ترضى عنه وتعرفه، وحين دخلت عالم الصورة والأثر، قبلوا بحجابها أول مرة، لا بأس لديهم إذا كانت ما تحته يوافق صورتهم..

في كل مرة كانت تختلف الصورة الأصلية وتهتز جوانبها، تنقص شيئا ما، لم يطلبوا نزع حجابها ولن يطلبوا، فهي أو غيرها من المحجبات في هذا الطريق هي من ستفعل..

إحدى منشورات حليمة على حسابها على إنستغرام

ستجد البون شاسعا، تكبلها تلك القطعة من الثياب، فهي لا تليق بها على بنطال تضيق حوافه وتلتصق بما يليها، أو قميص منتفش الأوداج ستتوقف إحداهنّ كثيرًا أمام ياقته التي لابد أن تظهر، ويختفي معها بقايا غطاء كان ينسحب في السابق على ما يلي الياقة بكثير..

لن يكون مناسبا يا صغيرتي أن يعلو الثوب الرقيق المنضبط بالتمام على كل جزء فيكِ، قطعة ضافية ساكنة بلا تغيير..ستتحول تدريجيا إلى لفافة أو عمامة تغطي الخصلات وتبقى النحر مكشوفا وتظهر ما يتزين به الأذن..

مررتِ بذلك كله يا حليمة فأدركتِ كم يصبر الزيف على زيفه حتى يستطيل ويظهر كحقيقة موثقة، أدركت كيف يأخذنا الهوى عبر درجاته المدروسة خطوة خطوة، لا يغمرنا الموج يا حليمة دفعة واحدة فنرى الغرق مؤكدا وندفع بكل قوتنا لننجو، بل موجة إثر موجة، رقيقة أولا ثم تعلو شيئا فشيئا حتى لا نكاد نشعر بها فلا نقاوم لأننا نظن أنها كسابقتها لطيفة تداعبنا ثم تترك، خفيفة لن تأخذ منا إلا القليل، وتمنحنا في المقابل دغدغة وانتعاشا يطول أمده حتى نستعذبه ونظنه الأصل الذي يجب أن يكون ويظل ولا يغادر أو نغادره.

الأضواء فتنة
ما الذي أوصل حليمة إلى ذلك التدرج الذي قصصنا خبره في الفقرة السابقة؟

إنها تلك الجمرة الناشبة في الأعماق وبين الضلوع، جمرة الشهرة أو الظهور على الملأ، والظمأ لأن ترى وتُعرف وتصير نموذجا يعرفك الناس بشيء، فيتطلعون لك ويغمرونك بثناء وربما بحب، باتباع أحيانًا وخصومة وعداء في بعض الأحيان، فتلك الآفة لا تخص شخصا بعينه، بل هي سحر يتخلل مشاعر المرء ويجرى في أعصابه، وهي فتنة لا يسلم منها إلا من عصمه الله.

 دخلت الباب صاحبتنا فتزحزحت عن موقعها وكادت ألا تسلم، وكيف تسلم وقد صارت صورتها على أغلفة مجلات الموضة وإن تلونت ببعض الطلاء الذي يُسكن يقظتها، ذلك اللون الإسلامي أو الملصق الذي نضعه أحيانا لنخرج من حشرجة الصدر إلى مساحة الغفلة الواسعة.

تطارد الشهرة بناتنا اليوم ما بين طاهية حاذقة وقائدة رحالة أو خبيرة جمال أو صانعة محتوى أيا كان لونه ومادته، وتنتظر على أبواب تلك الطرق جميعها ألغام ومنحدرات خطرة، والحق أن دخول هذا العالم يتطلب ضوابط خاصة ويحتاج نفوسًا سوية تعرف ما لها وما عليها فإن آنس أصحابها زورا أو وجدوا انحدارا في خطها الغائي المرسوم قبلا سحبوا أنفسهم ليزيلوا عنها آثار السقطات وليجدوا الطريق الأوضح والأزكى.

الصورة خادعة
كنت ترين صورتكِ فتعرفين وتنكرين، أما غيركِ فقد كان يرى وينبهر، أو يرى ويتمنى، أو يرى ويسكت، ويجد في نفسه نكتة، تلك التي تدفعه للاقتراب شيئا فشيئا من زيف الصورة.

فتياتنا اللواتي أرحمهن لأنهن يتطلعن فلا يجدن في مواطن النظر سوى ذلك التيار الهادر الذي يسحب من خلفه عيونهن المتطلعة وأمانيهن المتدفقة، ولكني كذلك أعتب عليهن إذ لم يتفقدن مواطن أخرى هادئة كسيل القطرات إذا تجمع والتقى، مواطن فيها النور لا الظلمة، والصحة لا الزيف، والصدق لا ما نرغم أنفسنا على تصديقه.

قد كنتِ يا حليمة في تلك الصورة، تلك التي ترى مثلها بناتنا فتقول: فاتني الكثير، لست إلى هذه ولا تلك.. معلقة أنا بين من تحرروا ومن توسطوا، تعوقني قطع من القماش الغليظ من الأعلى والأسفل.. وها قد جاءت رسالتك تضع لهن وسامًا وتقول لهن: قد فزتن إذ لم تغادرن المواقع الأولى.. فالتحرر في عالم اليوم يراد به التحرر عن الرقيّ والغاية والمبدأ، إنه تحرُّرٌ يجعلك عبداً، لا لصاحب الخلق والأمر، بل لشيء رخيصٍ في داخلك كان من الأجدر أن يكون لك تابعا، فإذا به يكبر ويتضخم حتى يصير حاكمًا على سيرك وتوجهك..

من منشورات حليمة على إنستغرام

إنه الهوى الذي ما إن تتحرر على طريقة أهله حتى يأخذك بمركبه إلى ساحلهم فتكاد أن تغرق إذا لم تستعد أنفاسك وتولي نفسك هاربا، أما التوسط الذي يطلبون فإنه وقوف على حافة طريقين مترددا، عيناك عند كل منعطف لاجئة، تكاد تقفز في كل لقطة خادعة ومع كل صورة زائفة، ثم تفيء حينا، ولا تكاد تجد نفسك إلا قليلا، فما أبشع الصورة التي لها ظاهر وباطن، باطن مقهور يئن من وجع الروح وألم البعد وظاهر مبتهج يواصل الصعود نحو المنى.

الرفقة حصن
ولقد وقفت أمام تلك الصورة الحقيقية التي لم يتم فيها خداع الروح أو تغطيتها.. صورة تلك الرفقة الآمنة التي تأخذ بيدكِ فإن فاتتها اليد أشارت إلى العلامات على الطريق، هنا خطر فتنبهي، هنا لغم فارجعي.. رفقتك يا حليمة كانت دليلاً لكِ عندما غابت لديك الرؤية.. فأي رفقة لمن يراك كي يرتدع فيعود عن الخطو نحو الوقوع؟

إن الرفقة الآمنة يا بنيتي هي تلك التي لا تتركك لهواك وإن خسرتكِ ظاهرا، تلك التي تذكرك من أين أنا وإلى أين.. تلك التي كانت لها معك وقفات وجلسات صالحة، تلك التي يجمعها رباط الإيمان والخوف عليه، تلك التي تبصر نهاية الطريق وتريد أن تجتازه معا. تلك الرفقة ستكون لكِ الحصن وقد كانت، ستكون لمن يريد بريد الرجوع، لكنها لتكون كذلك لابد أن تبني على ذلك، فيكون فيها ذكرُ الله حاضرا، والتواصي بالصبر والمرحمة والحق معلمًا، حتى إذا انفلّ واحد خارجها، ذكّروه فتذكر. أما الأخرى التي لم يجمعها إلا اللهو ولم تجلس مرة مجلس حق، فأنى تكون منها الذكرى..

ليس مثل الأم الصالحة
تركت ذلك العنوان إلى آخر الرسائل يا حليمة رغم أنه كان أولا في رسالتك ليكون الختام مسكا كما علمنا ربنا.. وأي مسك أطيب ريحاً من سيرة أمّ لا تمل من نصح بضعتها إذ تراها سلكت غير ما تحب. إنها تلك الأم التي وجهتها الله، وهي المرأة التي لا يصرفها جمال ابنتها واجتماع النظرات المعجبة على صورتها عن رفض ما لا يقبله إيمانها ودينها.

إنه امتحان ليس من السهل على كل أم في تلك الديار المتزينة اجتيازه، ذلك الحب لبضعة القلب، ذلك الإعجاب بها ولها، ذلك الخوف أن ينكر عليها أحد أو ينظر إليها شزرا، فتصمت عن فرض الله وتتناساه شيئا فشيئا صونًا لابنتها عن أي أذى نفسي أو جسديّ تتوقعه، وتنسى أن من أمر هو من يحفظ وهو الأعلم والأحكم.

كان ذلك الاختبار يسيرا أنهته الأم الصالحة مبكرا في مرحلتك الأولى عندما جعلت حجابك الساتر جزءا لا يتجزأ منكِ. لكن امتحانا آخر متقدما تعرضت له كانت فيه أشد صمودا حتى أثابها الله بعودتك سالمة نقية.

إنه امتحان الهوية القلقة، إثبات الذات بين قوم لا يقدرون، الاندماج المطلوب، إثبات التفوق، أصوات ترتفع وتصفق، رياضية مسلمة، سياسية عربية، عارضة محجبة، وألقاب أخرى جاذبة وخادعة.

إن الأم المتفوقة حقا لم تُخدع، لقد أبصرت نهاية الطريق وأخبرتكِ.. كانت تذكركِ بمن تكونين، وما يليق بك وما لا يليق.. وقد نفع الله بتذكرتها فعافاكِ من الغوص بعيدا في الاندماج البئيس، وعدت تذكرين فضلها وكرم الله لكِ بها. ألا فلتصابر كل أم، ولتتلمس كل فتاة أشعة الشمس من وراء كلمات الأمهات الصالحات.

تلك رسائل ألهمتنا بها عودة حليمة، عارضة الأزياء المسلمة الأمريكية، من طريق ظنته منتهى آمالها، فإذ به يخرج بها عن جادة الطريق فيلهها الأمل ويغري بها عن السبيل..

نسأل الله أن يثبتها، وأن تبقى على الطريق الذي آمنت بصحته فإن الاختبارات حتما قادمة، فليحفظ الله عليها إيمانها وصدقها، وكم لدينا من حليمات انطلقن ولم يعدن أو ما زلن يتأرجحن بين موج الزبد وبين نهر يتدفق بالخير لا يتوقف، فليتهن يقرأن ويأخذن القرار الأصوب.

هل نحن عاجزون بيولوجياً أمام شهواتنا؟

صار من المتداول اليوم بين الشباب كثيرا أن ميولنا وشهواتنا ورغباتنا تنشأ أصلا من دوافع بيولوجية ووراثية، وكأن الإنسان يُخلق مجرما أو سويّا أو عفيفا أو متهتكا، لكن الأبحاث التي يستندون إليها ليست نهائية، بل هناك ما ينقضها بقوة.

البعض يستشهد بقصة تم توثيقها عام 2003 لشخص اكتشف أن لديه ميولا جنسية نحو الأطفال، وهي الحالة المسماة في علم النفس “بيدوفيليا”، وتم تشخيصه لاحقا بأنه مصاب بورم في المخ. وبناء عليه، حاول الكثير من علماء الأعصاب الربط بين ميول كهذه وبين إصابات في بعض مناطق الدماغ، لكن هناك أبحاثا أخرى أثبتت أن ليس كل من يصاب في نفس تلك المناطق يجد ميولا مماثلة[1].

على سبيل المثال، قدم الأستاذ في جامعة نيويورك سبرامونيام مادهوسودانان ورقة علمية في عام 2014 أوضح فيها أنه لا توجد علاقة بين مكان الورم في الدماغ و بين الآثار النفسية[2].

وعليه فإن الطب لا يقدم دليلا على أن إصابة منطقة معينة من الدماغ بورم ستؤدي إلى ظهور ميول البيدوفيليا أو الشذوذ الجنسي أو أي سلوك آخر؛ لكن الورم قد يغير المزاج العام ويؤدي إلى الاكتئاب والأرق وفقدان شهية وأعراض أخرى.

وقاحات جديدة
في مقال نشره بمجلة “ريدرز دايجست” بعنوان “وقاحات جديدة”[3]، يقول ويليام لي ويلبانكس إن الإرادة وحدها قادرة على تخليصنا من أعتى العادات السيئة.

ويستشهد بمحاكمة شهيرة جرت في الولايات المتحدة للنظر في قضية رجل اعتدى جنسيا على فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، حيث حكم القاضي بإخضاع المتهم لدورة تأهيلية لتصحيح إفراز الهرمون الذكري “تستستيرون” لديه بحجة أن فرط إفراز الهرمون هو الذي يمنعه من مقاومة المغريات، ويعلق الكاتب “ولكن معظم الذين يعانون من هذه المشكلة لا يعتدون على الآخرين، وما قام به القاضي ليس إلا واحدا من أوهام الوقاحة الجديدة، والتي نرددها باستمرار لنصيب بها صميم إنسانيتنا عبر تلفظنا بعبارات من قبيل: لا يمكنني أن أتمالك نفسي”.

ويضيف أن وصفنا للمدخنين بأنهم مدمنون يوحي بعجزهم عن الإقلاع عن التدخين، مع أن الكثير منهم تمكنوا من ترك هذه العادة دون علاج.

ثم يذكر مثالا آخر عن الغضب، فيقتبس من كتاب “الغضب: عاطفة يساء فهمها” للأخصائية كارول تافريس قولها إننا نحن من يقرر أن نغضب عندما نعتقد بأننا تلقينا معاملة غير عادلة، فالعدوانية ليست طبعا بيولوجيا قسريا في داخلنا، بل هي طريقة مكتسبة نلجأ إليها للتعامل مع من يدفعنا للغضب، مع أنه بمقدورنا أن نختار طرقا أخرى مكتسبة أيضا مثل كظم الغيظ والترويح عن النفس بالبوح بما يغيظنا أو حتى الصراخ، والدليل على قدرتنا على التحكم بأعصابنا عند الغضب هو أننا نادرا ما نثور على مدرائنا في العمل، في الوقت الذي نفقد فيه السيطرة عند التعامل مع أصدقائنا أو أفراد عائلاتنا.

ونحن نوافق على هذا، فلو كان الغضب أمرا خارجا عن السيطرة لما أمر الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام من جاء يطلب منه الوصية بقوله “لا تغضب”، ومكررا وصيته ثلاث مرات.

وفي سيرة عمر بن الخطاب مواقف كثيرة تشير إلى أنه كان شديدا قوي البأس، ومع ذلك كان وقافا عند حدود الله ومسيطرا على أعصابه، فعندما أساء إليه أحد العامة -وهو الخليفة- همّ به ليوقفه عند حده لولا أن بادر أحد جلسائه بتذكيره بقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، فأقلع على الفور وعفا عنه.

وفي قصة مشابهة، أخطأ أحد غلمان الخليفة العباسي هارون الرشيد وآذاه، فلما نظر الخليفة إلى الغلام غاضبا سبقه الفتى بقوله: “والكاظمين الغيظ” فهدأ الخليفة وقال: قد كظمت غيظي، فتابع: “والعافين عن الناس” فقال: قد عفوت عنك، فأكمل الغلام: “والله يحب المحسنين” فقال: أنت حر لوجه الله.

الإرادة تكفي
ويتحدث الكاتب ويلبانكس عن تجربة شخصية مر بها عندما كان طالبا في المدرسة الثانوية، إذ كان مقتنعا بأن طباعه غير سوية، إلى أن طلب منه مدرب كرة السلة في المدرسة أن يواجه أحد زملائه في التدريب، فكان كلما فوّت فرصة في التسديد ضرب الأرض بقدمه متذمرا، فحذره المدرب من الطرد إن عاد إلى هذا التصرف مرة أخرى. وبما أن المدرب كان حازما فإن الفتى لم يجرؤ على القول “ولكني لا أستطيع أن أتمالك نفسي يا أستاذ”، بل أقلع عن تلك العادة على الفور لعلمه المسبق بأن عقابا صارما سيواجهه.

ويعلق بالقول إن الإرادة الحازمة قادرة على الإمساك بزمام الأمور، مشيرا إلى أن الكثير من مدمني المخدرات تمكنوا من الخلاص منها دون علاج، ولا ينسى التذكير بأن العلاج ضروري شريطة أن يسبقه التذكير -وليس التعليم- بأن الإرادة هي السلاح الأول، فالإدمان مشكلة أخلاقية بالدرجة الأولى وليست طبية، وفق رأيه.

ويضيف أن المعالجين أخذوا يطلقون صفة الإدمان على كل العادات السيئة حتى على المراهنين ولاعبي القمار، حتى باتوا يعتبرون من يتخطى الحدود في المقامرة شخصا مريضا فاقدا للسيطرة على نفسه، مما يفتح الباب واسعا أمام الانحراف السلوكي، ويجعل من الجناة أشخاصا يستحقون الشفقة بدلا من العقاب.

وإذا كان هذا المقال قد كُتب في أواخر الثمانينات للتنديد بما أسماه “وقاحات جديدة” فماذا يقول إذن عما انتهى إليه الحال اليوم بعد نحو ثلاثين سنة؟ فمع أن العديد من الأبحاث تنفي ارتباط السلوك المنحرف بالهرمونات وأضرار الدماغ كما ذكرنا في بداية المقال إلا أنه أصبح من الشائع كثيرا الركون إلى المقولات المضادة، لا سيما في الأوساط الإلحادية المادية التي تميل إلى الفلسفة الجبرية واعتبار الإنسان مجرد آلة مسيَّرة محدودة الإرادة، وما نراه من انحلال أخلاقي في الغرب اليوم هو إحدى نتائج هذه الفلسفة.

هوس التبرير
ومن الأمثلة المتزايدة على الهوس الطبي في البحث عن دوافع بيولوجية لكل سلوك منحرف، تصنيف أطباء النفس لظاهرة التسوق المبالغ فيها ضمن الأمراض النفسية القابلة للعلاج، وربطها بانخفاض مادة سيروتونين في المخ، والذي يسبب أعراضا أخرى مثل إدمان لعب القمار أو اللهو بإشعال النار والتسبب في الحرائق.

ومن الأمثلة أيضا اعتبار مشاهدة التلفاز المبالغ فيها حالة من حالات الإدمان، حيث ربطت دراسة نشرت في مجلة “أميركان سيانتيست” بين الانبعاث المتواصل الذي يطلقه الدماغ لموجات “ألفا” ومشاعر الارتياح النفسي لدى مشاهدة التلفاز، لكن هذا الارتياح الذي يشعر به معظم الناس الطبيعيين لا يعني بالضرورة أنهم سيعانون من الإدمان وفقدان الإرادة!

أما التدخين فحاول فريق علمي من جامعة أكسفورد أن ينسب الاعتياد عليه إلى جين وراثي قال إنه مسؤول عن الإدمان على النيكوتين، مؤكدا أن الأشخاص الذين لا يحملون الجين يمكنهم الإقلاع عن التدخين دون استعمال الوسائل التي تستخدم النيكوتين (مثل لبان النيكوتين ولصقة النيكوتين على الجلد)، لكن وجود هذا الجين لا يعني حتمية التدخين، فهو لا يعدو كونه استعدادا أوليا يمنح الشخص قابلية إضافية للتدخين، كما هو الحال مع اشتهاء الإنسان لنوع ما من الطعام أكثر من غيره، لكن هذا لا يؤدي بالضرورة إلى فقد الإرادة.

وكل ما في الأمر هو أن مجاهدة النفس لمنعها عما تشتهيه تكون أصعب أمام إغراء الإعلانات وتشجيع المجتمع، لذا تمتلئ كتب التزكية والزهد في تراثنا الغني بقصص مجاهدة النفس لدى كبار الزهاد عن أبسط الأمور، لمنع النفس من التمادي حتى في اشتهاء الحلال فضلا عن المنكرات. لكن التساهل في التعاطي مع المكاره والمحرمات قد يتحول مع مرور الزمن عادة مستعصية، فتبررها النفس الأمارة بالسوء ووساوس الشيطان بالعجز والإدمان.

وقد يصل الأمر فعلا لدى البعض إلى وسواس قهري يسلب الشخص إرادته، وهذه تحديدا حالية مرَضية مرتبطة بعوامل بيولوجية، لكن العلاج في معظم الحالات يكون بالإيحاء النفسي السيكولوجي دون تدخل الأدوية والعقاقير.


[1] https://jamanetwork.com/journals/jamaneurology/fullarticle/783830

[2] https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1586/14737175.7.4.343

[3] Reader’s Digest, Mars 1989.

لماذا فُرض الحجاب؟

منذ بزوغ شمس الإسلام وحتى انحسار الاحتلال الأوربي عن بلاد المسلمين في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، لم ينقل لنا التاريخ أي حادثة تدل على أن حجاب المرأة قد تسبب لها في يوم من الأيام بأي مشكلة. وإذا كان التراجع الحضاري الذي استكان إليه المسلمون في القرون الثلاثة الأخيرة قد منح أعداءهم فرصة التعرض لقيمهم ومقدساتهم، فإن قضية “تحرير” المرأة ما زالت إحدى أهم مداخل الغزو الثقافي التي يراد من خلالها خلخلة التماسك الاجتماعي للمجتمع الإسلامي، ونسف قيمه الأثيرة التي تغوص في وجدان المسلم العادي.

من أجل ذلك، كان جسد المرأة المسلمة -قبل عقلها- هدفا مركزيا لسهام الغزو، وإذا كان الحجاب هو العائق الأول في طريق الوصول إليها، كان لا بد من اصطناع ثقافة متكاملة تحمل على عاتقها نسف الحجاب من اللاوعي الإسلامي، بدءا بإشاعة الشكوك حول حكمه الشرعي وعلته وغايته، ثم ربطه الدائم بكل الصور المنفرة، في سعي دؤوب لتنميط صورته على أنه الوجه السافر لكل ما هو مقيت ومنفر.

وما إن اكتملت فصول هذه الحملة التي تتخذ من حقوق الإنسان والديمقراطية غطاء لها، حتى اجتمعت بين أيدينا مجموعة من الدعاوى التي يحاول بها أصحابها التشكيك في علة فرض الحجاب على المرأة. ويمكن للمطلع أن يلاحظ أن بعضها يناقض البعض الآخر، إذ يصعب الجمع بينها في منظومة واحدة، إلا أن الهدف من إثارتها وتكرارها قد يكون هو مجرد الاكتفاء بنسف حرمة الجسد وثقافة العفة والشرف، وهو أمر كفيل بزعزعة بنيان المجتمع.

وفي هذه العجالة، سنعرض لأهم ما يتداوله أعداء الحجاب من شبهات حول علة هذا الفرض الذي أجمع عليه المسلمون، مع مناقشة كل منها بما يسمح به المقام.

أوهام العلمانيين حول علة الحجاب
1- “أن الحجاب فُرض لتمييز الحرائر عن الإماء”، ويستدلون بقوله تعالى: “ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ” (الأحزاب: 59)، فقد ذهب الكثير من الفقهاء والمفسرين إلى أن الحجاب (أي الخمار والجلباب) كان خاصا بالحرائر دون الإماء، فاستغل البعض هذا الحكم ليزعموا أن الحجاب لم يعد حكما واجبا اليوم، إذ انتهى عهد الرق ولم تعد هناك حاجة للتمييز.

والحقيقة أن هذه العلة ليست الوحيدة في فرض الحجاب أصلا، وأنها ليست محل إجماع أيضا، فبعض الفقهاء رأى عدم التمييز بين الحرة والأمَة، مثل ابن حزم والنووي، وأجمعوا جميعا على أن الأمة تتحجب إذا كانت شابة أو جميلة، فالإعفاء من الخمار والجلباب كان تخفيفا عمن تضطر للعمل والخدمة ممن لا يكترث لها الرجال.

2- “أن الحجاب فُرض لتربية المرأة والحفاظ على أخلاقها من الانحراف”، ويتشدق أصحاب هذا الرأي دائما بأمثلة لا تحصى عن فتيات محجبات غير أخلاقيات، في مقابل فتيات يتمتعن بالأخلاق العالية دون أن يضعن الحجاب على رؤوسهن.

وقد يكون الحجاب من لوازم الحشمة التي ينبغي أن تنشأ عليها الفتاة في سن المراهقة، لكن نصوص الوحي لم تعلل فرض الخمار والجلباب بالتربية نفسها، بل نستنتج من الآيات -كما سيأتي لاحقا- أن العلة الأبرز هي حماية المرأة من الأذى، وبغض النظر عن أخلاقها، فالحجاب إجراء احترازي لحماية الرجل من الفتنة، ولحماية المرأة من مضاعفات هذه الفتنة.

3- “أن الحجاب أداة سياسية، ابتكرها الإسلاميون للتلويح بها في وجه خصومهم”، ويتبع ذلك إطلاق مصطلحات من قبيل “ثقافة الحجاب” و”مؤسسة الحجاب”!

ويبدو أن أصحاب هذه الحجة لا يمضون في عرضها إلى أبعد من ذلك، بل لا يملكون من الأدلة عليها إلا دعوة الناشطين الإسلاميين في عالم السياسة إلى الحجاب، دون أن يلحظوا أن هؤلاء الحركيين يهتمون أيضا بالدعوة إلى الصلاة والصوم وغيرها من أحكام الإسلام، فضلا عن الدفاع عن الأوطان، ولكن العجيب هو أن أيا من هذه الدعوات لم يحظ بذلك الاهتمام العلماني الذي حظي به الحجاب.

علاوة على ذلك، لا ينتبه أصحاب هذه النظرية إلى أن الحجاب يستند إلى نص قرآني يتداوله المسلمون منذ أربعة عشر قرنا، فما المبرر إذن لتحميله بعدًا سياسيًا لا يمتد إلى ما هو أبعد من بضعة عقود، حين بدأت الحركات الإسلامية بالتشكل؟ بل ما هي العلة التي يرون أنها السبب في التزام ملايين المسلمات في مجتمعات لا تصل إليها أنشطة تلك الحركات الإسلامية؟

4- “أنه فُرض على المرأة لاضطهادها من قبل الرجال”، والدليل الذي يتمسك به أصحاب هذه النظرية هو اقتصار الحجاب على المرأة دون الرجل، إذ يدفعهم ذلك لافتراض استغلال “طبقة” الفقهاء من الرجال لبعض النصوص وتفسيرها على نحو يرسخ نظرتهم الظالمة للمرأة.

والعجيب في الأمر هو تجاهل هؤلاء للحال الذي كانت عليه النساء في عصر نزول هذه النصوص، إذ نزلت آية الحجاب قبل وجود “طبقة الفقهاء”، والتزمت بها النساء فور سماعهن بها.

أخرج أبو داود وابن أبي حاتم وابن مردويه عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة فذكرن نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة: “إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقا لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته وبنته وأخته، وعلى ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله في كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم للصبح متعجرات كأن على رؤوسهن الغربان”. وورد الحديث بأكثر من رواية بعضها في صحيح البخاري.

وليس في الحديث أي دليل على اضطهاد أو إكراه من جنس لآخر، بل لم يكن للفقهاء هنا أي دور في تفسير هذه الآية التي تنص بوضوح على وجوب الخمار، إذ بادرت النساء على الفور بتنفيذ أمر الله فور علمهن به، لكونه أمرا من الله تعالى لا من الرجال.

أما عن كون هذا الحكم خاصا بالمرأة دون الرجل، فهذا مما لا يحتاج إلى كبير جهد لبيان علته، فلا يختلف اثنان على أن الرجل يفتتن بكل ما يظهر من جمال المرأة، في الوقت الذي تضع فيه المرأة وسامة الرجل في درجات ثانوية، تأتي بعد اهتمامها بشخصيته وعلمه وماله وغير ذلك، ومن المألوف أن يقترن الرجل بمن تصغره سنا، وأن تصرف المرأة جل وقتها لإخفاء معالم الشيخوخة حفاظا على مكانتها في قلب الرجل، دون أن يكلف الرجل نفسه عناء ذلك.

5- “أنه وسيلة لعزل المرأة المسلمة في الغرب عن مجتمعها العلماني ولتمييزها عن غيرها من النساء”. ولا يمضي أصحاب هذه النظرية أيضا إلى ما هو أبعد من ذلك، بل يكتفون بضرورة انصهار النساء جميعا في بوتقة واحدة، إذ يرون أن الرجل المسلم لا يختلف في مظهره عن غيره من الرجال، مما يعني ضرورة إجبار المرأة المسلمة أيضا على عدم ظهورها بما يميزها عن غيرها من النساء.

ويتابع هؤلاء بافتراض كون الحجاب رمزا دينيا، ثم يلحقونه بافتراض آخر يماثله عند الرجل المسلم وهو إطلاق لحيته، ومن ثمّ فإن كلا الرمزين يُعدان إشارة إلى كون من يلتزم بهما من “طبقة رجال الدين”، ولا يمكن للطبقات الأخرى من المجتمع أن تشترك مع هؤلاء في المظهر.

لكن هذا التصور نابع من موقف الغرب من الدين أولا، ومن مفهومه الخاص لدور الدين ورجاله ثانيا. فالموقف الغربي من الدين قائم على تاريخ طويل من الصراع والنضال ضد اضطهاد الكنيسة، وهذا مما لم يعهد له المسلمون مثيلا في تاريخهم.

أما مفهوم طبقة رجال الدين فقائم أيضا على خصوصية الدين المسيحي في المجتمع الأوربي، إذ لا يوجد الدين هناك إلا مع وجود مؤسسة كنسية يديرها رجال ونساء منتدبون لهذه المهمة، وهم طبقة من الرهبان والراهبات الذين نذروا حياتهم للدين دون غيره، فلا يمكن الجمع بين هذه المهمة وبين غيرها، بل لا يسمح لأفراد هذه الطبقة بممارسة مهماتهم خارج نطاق المؤسسة. وهذا تصور لا نجد مثيله أيضا في الإسلام، فليست هناك مؤسسة دينية ولا تنظيم ديني للعاملين فيها، بل هناك مساجد للعبادة والعلم، وعلماء لا يختلفون عن غيرهم سوى بقدراتهم العقلية والنفسية وبهمتهم لطلب العلم، وعلمهم متاح للجميع طلباً وبذلاً. أما الالتزام بالدين في مظاهره وسلوكه وعقيدته فهو أمر مطلوب من كل المسلمين دون تمييز، فإعفاء اللحى واجب على كل الرجال، كوجوب الحجاب على كل النساء. [انظر مقال هل هناك مؤسسة دينية في الإسلام؟].

6- “أن الحجاب في ذاته ليس بالأمر المهم، بل هو مجرد أداة ضغط يتلاعب بها الإسلاميون لإبرازها عند الحاجة، مستهدفين بذلك إثارة القلاقل وصرف الأنظار عما هو أهم”. وقد يلاحظ كل من قُدر له الاطلاع على كتابات هذا النوع من الكتاب أن الأمور المهمة لديهم هي التي تتعلق بالوضع الاقتصادي للمجتمع، أما إذا ارتفع مستوى الاهتمام قليلا عن المادة فإن الأهمية لا تتعدى حقوق المرأة الأخرى من ضرورة رفع الظلم عنها، وتعليمها، ومساواتها التامة بالرجل.

وإذا كان الإسلام هو أولى بالدعوة لإحقاق الحق ورفع الظلم ونشر العلم، فإن الخلط هنا ليس قاصرا على مفهوم هؤلاء للمساواة الذي لا يراد منه تحويل المرأة إلى رجل كما يُخيل إلى البعض، ولا حتى العبث بأنوثتها، بل إن ترتيب الأمور على هذا النحو من الأهمية لا يقوم لديهم على أكثر من تصورهم العلماني للحياة، فالحوار هنا لا يصح أن يظل حبيس وجهات النظر حول المهم والأهم، ما لم نتفق أولاً على تصور واضح لوجود حياة أخرى بعد هذه الدنيا أو لا، فالحديث عن البطالة والفقر يبدو أنه مجرد شغب وصرف للأنظار عن هذه القضية.

ولو أن المفاضلة كانت بين موت المرأة جوعاً وبين حجابها، فلا خلاف في أن الشريعة تضع حفظ النفس أولاً، لكن الاهتمام بالحجاب والعفة وتماسك المجتمع لا يكون أصلاً على حساب محاربة الفقر، بل قد يكون مكملا له وصارفا للفقراء وغيرهم عن الانشغال بالشهوات.

لماذا فُرض الحجاب إذن؟
وردت آيات وجوب الحجاب في القرآن الكريم بوضوح لا يرقى إليه شك، ويمكن جمعها على النحو الآتي:

(قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 30-31).

(وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور:60).

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 33).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا) (الأحزاب: 53).

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب: 59).

ولفهم هذه الآيات، نقف عند معاني بعض ما جاء فيها من مفردات:

-الجلباب: أصل مادة جلبب يفيد الجمع والإحاطة، والجلباب هو ما يتغطى به، وقد يطلق على القميص والخمار والرداء والإزار، وهو ثوب واسع للمرأة أوسع من الخمار ودون الرداء تغطي به رأسها وصدرها وظهرها، أو ما تضعه فوق ثيابها.

-الخمار: أصل الخمر ستر الشيء، والخمار ما يستر به، وهو ما تغطي به المرأة رأسها.

-الجيب: هو ما قُطع وسطه، وجيب القميص ما ينفتح على النحر (الياقة).

-الضرب: وضع الشيء على الشيء.

-الإدناء: يقال أدنيت أحد الأمرين من الآخر أي قاربت بينهما، وإدناء المرأة ثوبها عليها أي أرخته وتسترت به.

ويبدو أن مصطلح الحجاب المتداول اليوم لم يرد في القرآن، فالوارد هو الخمار والجلباب، أما الحجاب فكان يُقصد به حجب المرأة بشخصها عن الرجال، أي عدم احتكاكها بهم، وعدم إبراز ما يدل على شخصها إذا اضطرت للخروج، وهذا أمر خاص بنساء النبي تحديداً لكونهن أمهات للمسلمين جميعا.

وبالعودة إلى الآيات الكريمة التي وردت في شأن لباس المرأة، نرى أنها جاءت في سياق غض البصر وحفظ الفرج، ويؤكد ذلك أيضا ما جاء بعدها من آيات تفصل آداب الاستئذان قبل الدخول، والحث على الزواج والإعفاف.

وعليه، فإن العلة الأولى للحجاب (الخمار والجلباب)، هي إحصان المرأة وحفظ كرامتها بتغطية ما يثير شهوة الرجال من زينتها، وذلك بستر سائر بدنها خلا الوجه والكفين (استنادا إلى أحاديث نبوية)، مع التأكيد على أن العفة تناط أولا بالتربية وتزكية النفوس لكلا الجنسين كما قال تعالى: “ولباس التقوى ذلك خير”، فيما تأخذ تغطية الزينة حكم الإجراء الاحترازي لدرء الفتنة، والتي لا تُقصر على ضعاف النفوس فحسب، بل تشمل المجتمع بأسره، فالغريزة الجنسية يستوي فيها العقلاء مع العامة، والتاريخ حافل بقصص الخيانة الزوجية على جميع المستويات.

الغاية إذن هي مساواة المرأة بالرجل لا تمييزها عنه، فلما اختصت الزينة والفتنة بأحدهما أكثر من الآخر، كان لا بد من مواءمة الأحكام للفروق القائمة بينهما، ليلتقي كل منهما في إطار الضرورة بما يضمن التقاء إنسان بإنسان، دون أن يشوب العلاقة ما يهبط بها إلى دركات الشهوانية المقيتة.

بناء على ما سبق، فمن الذي ينظر إلى المرأة على أنها جسد؟ ومن الذي يقصر فكره ونشاطه على ما يجب كشفه أو ستره من جسدها؟ أتراه ذاك الذي يعترف بحقيقة غريزته ويبني عليها حكما يلزم به نفسه ليحترم إنسانية المرأة، وينصرف من خلاله عن التدني إلى مستوى التطلع إلى غاية شهوانية، أم هو الذي يصر على نفي وجود تلك الغريزة وهو يعلم مكانها في نفسه، ثم يحكم على الرجال بضرورة التنزه عنها، مصرا على إخراج النساء اللاتي بقين مئات السنين في خدورهن، وطرح غطائهن الذي لم يُثِر أي مشكلة طوال تلك القرون، فيأمر الرجال بالنظر دون شهوة، والنساء بالاختلاط دون اعتراف بوجود أي نزوة؟

لقد رافقت الحشمة صورة المرأة منذ خُلقت وعاء للجمال والفتنة، فإذا كان هذا الغطاء الذي لا يمنع المرأة عن مزاولة أعمالها والتمتع بحقوقها قد وقف حائلاً في وجه بعض من الرجال عن التمتع بزينتها، فلنبدأ إذن بإعادة صياغة أسئلتنا من جديد، ولنتحلّ بالجرأة في تحديد الطرف الذي لا يرى من المرأة إلا جسدها ثم يتظاهر بالدفاع عن حريتها عبر كشف ما استتر منه.