مقالات

التصوف

يعد التَّصوف تجربة خاصة وفريدة في تاريخ الفكر الإسلامي، وقد تلونت بكثير من المجاهدات والشطحات والرموز والأسرار. لذا يتطلب فهمنا له إلى تذوق ومعاناة وتجربة، فللصوفية نظرتهم الخاصة لطبيعة الإنسان والمعرفة والعلم والعالم والروح والنفس والأخلاق والآداب، وهو أمر يستدعي الكثير من الحذر والدقة أثناء الدراسة لتوخي الموضوعية.

تعريف التصوف
نشأ خلاف كبير حول اشتقاق كلمة التصوف، وأرجح تلك الآراء هي التي ترجع نسبة الكلمة إلى الصوف الذي كان فيما يبدو زياً خاصًا فضَّله أوائل الصوفية ليناسب حياة التقشف، ثم أصبح اسم التصوف يُطلق على من يسلك منهجهم.

المسجد النبوي

وهناك من يرى أنه مشتق من “أهل الصفَّة” الذين انقطعوا للعبادة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الاشتقاق اللغوي لا يسمح بذلك، كما رأى البعض أنه مشتق من الصَّفاء، أو من الصَّف الأول بين يدي الله تعالى.

وقيل هو نسبة إلى قبيلة “صوفة” التي كانت تجير الحاج وتخدم الكعبة، أو إلى كلمة “صوفيا” اليونانية التي تعني الحكمة، أو إلى “الصوفة” (الخرقة) للدلالة على التذلل بين يدي الله.

والرأي الأول هو الأرجح، وهو اختيار أعلامهم، لأنه حكم على الظاهر وهو أولى.

يصعب تقديم تعريف جامع مانع للتصوف، فالصوفية يختلفون في تعريفه أكثر من اختلافهم في أصله واشتقاقه، نظرًا لطبيعته ذاتها، ولاختلاف التجربة الوجدانية الخاصة بكل صوفي، حتى قال السهروردي في كتاب “عوارف المعارف” إن تعريفات مشايخ التصوف زادت عن ألف قول.

نشأة التصوف
لم يكن التصوف موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويرى القشيري وابن الجوزي أن هذا الاسم اشتُهر قبل مرور قرنين على الهجرة، بينما حدد ابن تيمية نشأته بدقة أكبر عندما قال إنه ظهر في زمن التابعي الحسن البصري، وإن أول من سمي بالصوفي هو أبو هاشم الكوفي (توفي عام 150هـ).

وفي عهد النبي وأصحابه كانت النسبة إلى الإيمان والإسلام، ثم ظهر اسم زاهد وعابد، ثم ظهر اسم صوفي. وهكذا فالتصوف يزيد على الزهد، بل هو اسم للزهد المتطور بعد القرون التي شهد لها النبي بالخير.

ويمكن القول إن الزهد بحالته الفطرية هو جزء أصيل من كل الرسالات التي جاء بها الأنبياء، وقد كان واضحا بطبيعة الحال في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي سلوكه وسلوك أصحابه وأجيال السلف الأولى، لكن التصوف لم يبدأ بالتشكل إلا في القرن الهجري الثاني، ثم تبعه التصوف الفلسفي في القرن الرابع ليكتمل نضوجه في القرنين السادس والسابع.

موكب صوفي يتجول في القاهرة عام 1870م

يقول كثير من المؤرخين المسلمين، مثل الطبري وابن سعد والجوزجاني والبلاذري، إن هناك محاولات كثيرة قام بها المنافقون والزنادقة واليهود من أجل دس عقائد وثنية وباطنية في صلب الإسلام منذ بداية الرسالة المحمدية، إلا أنها لم تظهر على السطح بوضوح إلا بعد انتهاء أجيال السلف الثلاثة الأولى (الصحابة والتابعين وتابعي التابعين)، بينما كان مجال “الروحانيات” أرضا خصبة للتأثر بالأفكار الباطنية القادمة من شرق ووسط آسيا كما هو حال المجال العقلاني-الكلامي الذي تأثر بفلسفة اليونان.

في منتصف القرن الثاني بدأت مفاهيم الزهد بالتحول إلى سلوك صوفي على شاكلة الرهبنة المسيحية، وظهر ما يسمى بالخانقاه الذي يشبه الصومعة المسيحية التي ينقطع الناس فيه للعبادة، وساعد على تقبل الأمر انتشار ظاهرة الاستبداد والظلم وإقبال الناس على الدنيا -بحسب ابن خلدون- قياسا إلى ما كان عليه السلف، مما دفع الزهاد إلى العزلة، بينما يرى آخرون أن التصوف جاء رد فعل على انتشار البدع، أو بسبب تغلغل المؤثرات الأجنبية.

ورأى معظم المستشرقين أن التصوف الإسلامي مستمد من مصدر واحد، فذهب فون كريمر ودُوزي إلى أن أصله هو فلسفة الفيدانتا الهندوسية، بينما رأى مركس أن أصله الفلسفة الأفلاطونية الجديدة [انظر مقال الباطنية]، وقال الأستاذ برون إنه فارسي مجوسي وهو نتيجة لرد فعل أحدثه “ثوران العقل” ضد الدين الإسلامي الفاتح.

أما بروكلمان فرأى أن الصراع الحربي بين الحكام وكذا الصراع المذهبي بين الفرق، دفعا بأصحاب النفوس الأكثر صفاء إلى الفرار بأنفسهم من الجدل متأثرين بالرهبنة النصرانية، وفسَّر المستشرق الفرنسي ماسنيون منشأ النزوع إلى التصوف بأنه ثورة الضمير على ما يصيب الإنسان من مظالم الآخرين ومن ظلم الإنسان نفسه، في حين كان الأستاذ رينولد نيكولسون أكثر اعتدالا واعترف بأن التصوف الإسلامي ظاهرة معقدة، ورأى أنه كان وليد الإسلام ذاته ونتيجة لازمة لفكرة الإسلام عن الله.

ويعقب الأستاذ أبو العلا عفيفي على هذا التضارب بقوله إن الذي دعا المستشرقين إليه هو قصرهم النظر على ناحية خاصة من التصوف دون النواحي الأخرى وملاحظتهم لبعض جهات الشبه بين التصوف والأحوال التي قالوا إنه مستمد منها، ناسين أو متناسين أن العقلية الإسلامية هضمت كل ما وصل إليها من عناصر الفلسفة والتصوف واستخلصت لنفسها فلسفة وتصوفا خاصين [كتاب التصوف الفلسفي في الإسلام].

وعلى أي حال، لا ينبغي أن نطبق قاعدة الأثر والتأثير على نحو مطلق، فقد أوضحنا في مقال “المغالطات المنطقية” أن وقوع حدث ما بعد حدث آخر لا يعني بالضرورة أن الأول لا بد أن يكون سببا للتالي، فهذه تسمى بالمغالطة البَعدية، وهي تُرتكب كثيرا عندما يحاول أحدهم إثبات أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم تلقى شعائر الإسلام وقصص الأمم السابقة عن أهل الكتاب وكهنة الأديان الأخرى لمجرد التشابه، فهذه مغالطة من حيث عدم ثبوت الارتباط والتلقي، ولأن النبي نفسه أكد أن المصدر واحد وهو الوحي، وأن كهنة الأديان السابقة هم الذين حرفوا الأصل الواحد وتركوه مشوّها.

حضرة الذكر الصوفي

لكن هذه المعادلة لا تطبق على ما أحدثه التصوف الفلسفي في الإسلام، فالتشابه هنا ظاهر بين ما ابتُدع في الدين بعد وفاة خاتم الأنبياء وبين الأساطير التي طرأت على رسالة الأنبياء السابقين وما جاءت به الفلسفات الباطنية والشيطانية، وهذا التشابه لا يمكن أن يكون ناشئا عن مصدر واحد هو الوحي، فقد أوضح النبي كل تعاليم الوحي واختتمه قبل موته كما أكدت الآية القرآنية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3].

وهذا يضعنا أمام خيارين إزاء التشابه، فإما أن يكون ناتجا عن تجربة روحية واحدة، وهذا لا نستبعد حدوثه في بعض طقوس التصوف، وإما أن تكون البدع التي ظهرت أخيرا مقتبسة عن السابقة عليها، ولا سيما عندما تتكاثر نقاط التشابه في المصطلحات والمقدمات والنتائج حتى تكاد تتطابق كما سنرى لاحقا، وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحذو ناس من أمته حذو الأمم السابقة، وتحديدا اليهود والنصارى، وهم أقرب الأمم إلى أمته وأوضحهم تحريفا، فقال “لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!” [صحيح البخاري: 3269].

مراحل التصوف
1ـ مرحلة النشأة: تميز فيها التصوف بالبساطة وغلبت عليه نزعة عملية، حيث مال الصوفية آنذاك إلى الزهد والنسك، وشملت هذه المرحلة القرنين الأول والثاني ومنتصف القرن الثالث الهجري، وأشهر أعلامها الحسن البصري وإبراهيم بن أدهم ورابعة العدوية.

2ـ مرحلة النضج والتربية: امتدت من القرن الثالث حتى الخامس، وتوجه أصحابها إلى بناء فلسفة روحية، فعرضوا للكشف عن أحوال النفس وعوَّلوا على الذوق والعرفان، ومن أشهرهم المحاسبي وذو النون المصري والبسطامي والجنيد وأخيرا الغزالي.

3ـ مرحلة الازدهار الفكري: امتدت خلال القرنين السادس والسابع، وفيها اتضحت سمات التصوف الفلسفية، ومن أبرز رموزه السهروردي المقتول ومحيي الدين بن عربي صاحب مذهب وحدة الوجود، وابن سبعين القائل بالوحدة المطلقة.

4ـ مرحلة التصوف السني العملي: حاول أنصار هذه المرحلة العودة لتعاليم القرآن والسنة ورفض النظريات الفلسفية، وبدأت هذه المرحلة بفترة فتور وتقليد ما بين القرنين التاسع والحادي عشر، ثم أعقبتها نهضة امتدت إلى يومنا الحالي.

يمكننا التمييز بين المجالات الروحية التالية:

1- الزهد: هو الجانب التطبيقي العملي الذي يعيشه المسلم التقي، متمثلا في إعراضه عن الملذات وإقباله على خالقه.

2- التصوف الطُّرقي: هو منهج سلوكي لمجاهدة النفس ورياضتها (ترويضها) وفق خطوات تنتقل بالنفس بين الأحوال والمقامات، وصولا إلى ما يسمى مقام الشهود أو الفناء، ليدرك بذلك المريد عن طريق الوجد والكشف ما لا يدركه عقله من المعرفة.

3- التصوف الفلسفي: هو الجانب النظري (الفكري) الذي يحاول تبرير وتفسير المقامات والأحوال والأسرار الصوفية.

الطرق الصوفية
وضع أئمة الصوفية في القرن الثالث الهجري أسس الطريق الذي يجب على “السالك” أو “المريد” أن يقطعه ببطء وجهد حتى يصل إلى حالة الشهود والفناء وتنكشف له الحقائق الإلهية، وسنوضح خطوات هذا الطريق لاحقا، حيث تحول الزهد إلى علم مستقل له مصطلحاته الخاصة مثل الأحوال والمنازل والمقامات، والصحو والسكْر، والتفريد والتجريد، والفناء والبقاء، والوجد والكشف.

واتفق كبار الصوفية على أن المريد لن يصل إلى الفناء ويحقق تمام المعرفة إلا بتحقيق إنكاره لذاته، وأصبحوا يسمون الصوفي الذي يصل إلى هذه الدرجة بالعارف، ويميزونه عن الزاهد نفسه، فضلا عن بقية الناس.

بوذا في حالة النرفانا
(wikimedia/Jean-PierreDalbéra)

كان أبو يزيد البسطامي من كبار مؤسسي هذه المرحلة، وهو فارسي من بلدة بسطام في خراسان، وكان جده سروشان مجوسيا (زرادشتيا) فأسلم [الأعلام للزركلي، 3/235]، فكان فيما يبدو متأثرا بما انتشر في بلاد فارس من أفكار الهندوس، حتى قيل إنه نقل عن الهنود رياضة مراقبة الأنفاس، والتي تشبه بعض ما يردده مدربو التنمية البشرية اليوم من تدريبات التنفس. ويعتقد المستشرق نيكولسون أن البسطامي هو أول من أدخل فكرة الفناء في الإسلام، وهي تعني الاستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق، وبمعنى آخر هي الاتحاد بالله تعالى، وكأنها النسخة الإسلامية المعدلة عن “الموكشا” الهندوسية أو “النرفانا” البوذية [انظر أيضا مقال اليوغا]، وكذلك عن “الدفيقوت” لدى القبالاه اليهودية، ومما يرجح وصول هذه الفكرة الباطنية إلى الصوفية من الهند -سواء عن طريق البسطامي أو ذي النون المصري أو غيرهما- أنها ظهرت لدى المتصوفة في الشرق قبل أن يعرفها متصوفة مصر والمغرب [عفيفي، التصوف الفلسفي في الإسلام].

في بدايات القرن الخامس الهجري كان التصوف قد أصبح رائجا وله جماعات وأتباع، فوضع الشيخ الصوفي أبو عبد الرحمن السلمي كتاب طبقات الصوفية وقال في مقدمته “أحببت أن أجمع في سير متأخري الأولياء كتاباً أسميه طبقات الصوفية، أجعله على خمس طبقات من أئمة القوم ومشايخهم وعلمائهم، فأذكُر في كل طبقة عشرين شيخا”، وقد انتقد ابن تيمية مؤلفات السلمي وقال إن فيها “من الآثار السقيمة والكلام المردود ما يضر من لا خيرة له، وبعض الناس توقف في روايته” [ مجموع الفتاوى 1/ 578 ].

في الوقت نفسه انتقل التصوف إلى مرحلة المأسسة على يد المتصوف الفارسي محمد أحمد الميهمي الذي كان تلميذا للسلمي، حيث وضع أول هيكل تنظيمي للطرق الصوفية بجعله متسلسلاً عن طريق الوراثة، وبنى خاناً بجوار منزله للمتصوفة، ففتح بذلك الباب أمام كبار مشايخ الصوفية ليؤسس كل منهم طريقة خاصة به، بحيث تحمل اسمه وتستمر قيادتها في سلالته آلاف السنين.

بدأ انتشار الفكرة في إيران نفسها، ثم امتدت باتجاه الغرب إلى أبعد نقطة في العالم الإسلامي مرورا بالعراق والشام، ومن أشهر الطرق التي نُسبت لمؤسسيها وما زالت قائمة حتى اليوم الشاذلية والنقشبندية والرفاعية والدسوقية والتجانية والجيلانية، وهناك فرق فرعية أنشأها شيوخ من داخل فرق أخرى.

يقول الجرجاني في كتاب التعريفات إن المتصوفة يعرّفون الطريقة بأنها السيرة المختصة بالسالكين إلى الله من قطع المنازل والترقي في المقامات، فهم يرون أن لكل شيخ عارف طريقته الخاصة في التزكية والتربية التي ألزم نفسه بها حتى وصل إلى معرفة الله بالكشف والإشراق، ويصرّ المتصوفة على أن هذه الطرق مقتبسة دائما من الكتاب والسنة وفقا لاجتهاد صاحبها الذي حملت اسمه.

وبحسب موسوعة ويكيبيديا والعديد من المواقع الصوفية الإلكترونية، يُرجع بعض المتصوفة فكرة إنشاء الطرق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بقولهم إنه كان يخصّ كل صحابي بوِرْد يتفق مع درجته وأحواله، فأعطى علي بن أبي طالب الذكر بالنفي والإثبات وهو “لا إله إلا الله”، بينما أعطى أبا بكر الصديق الذكر بالاسم المفرد (الله)، ثم أخذ عنهما التابعون هاتين الطريقتين “البكرية والعلوية”، حتى تطورت لاحقا إلى عشرات الفرق، وهذه الرواية لا أصل لها.

لوحة تعود إلى القرن السابع عشر الميلادي تمثل حالة الاتحاد والانجذاب الصوفي

الاتحاد هو صعود الإنسان بروحه عبر المجاهدة إلى مقام الله حتى تتحد روحه معه، فيصير الاثنان في كيان واحد، ومع أن المتصوفة يستخدمون فقط كلمة الفناء في الله إلا أنها تعني الاتحاد به.

أما الحلول فهو نزول الإله وحلوله في مخلوقاته، لتكون مظهرا من مظاهره وامتدادا لوجوده. وقد يحل بشخص ما (مثل المسيح أو إمام الشيعة أو ولي الصوفية) أو يحل بمخلوقاته كلها.

فالاتحاد هو صعود الإنسان من عالم المادة إلى عالم الملكوت، بينما الحلول هو نزول الإله إلى عالم المخلوقات. وكلاهما يتناقضان مع الإسلام والتوحيد وصريح الوحي، وهما مقتبسان من عقائد الباطنية التي أوضحناها سابقا.

قال ابن خلدون: “إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والاتحاد كما أشرنا إليه، وملأوا الصحف منه، مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره، وتبعهم ابن عربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف، وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم” [المقدمة، ص 473].

واللافت أنه لم يسلم معتدلو الصوفية وكبار علمائهم المتأخرين من القول بالفناء، حتى لو لم يقصدوا به الاتحاد صراحة، حيث قال أبو حامد الغزالي أثناء شرحه لعقيدة التوحيد “موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث أنه كثير، بل من حيث أنه واحد، وهذه الغاية القصوى في التوحيد” [إحياء علوم الدين، 4/230].

كان الشيخ أبو حامد الغزالي الطوسي (توفي عام 505هـ) من المتبحرين في الفقه وأصوله وفي علوم الفلسفة والكلام، ولُقب بحجة الإسلام بعد مبارزته لكبار الفلاسفة في عصره عبر كتابَي “مقاصد الفلاسفة” و”تهافت الفلاسفة”، كما يعد من أبرز علماء السنة الذين تصدوا لمواجهة موجة المد الباطني الغنوصي التي تسربت للثقافة الإسلامية على يد الفرس والترجمات اليونانية، فوضع كتابَي “فضائح الباطنية” و”القسطاس المستقيم”.

لكن اللافت في حياة هذا العالم العبقري أنه بعد بلوغه أعلى درجات الإبداع الفكري انتهى إلى مرحلة من الشك، فاعتزل التدريس والمناظرة، كما اعتزل مناهج علم الكلام (التي تستخدم المنطق والعقل في الدفاع عن العقيدة)، واكتشف أن الكشف الصوفي هو المنهج الأسلم للحقيقة، وشرح تجربته الشخصية هذه في كتابه “المنقذ من الضلال”، ثم صار محسوبا على الصوفية في كتابه المشهور “إحياء علوم الدين”، بل يتهمه البعض بأنه صار ضحية للغنوصية نفسها التي كان قد ردّ عليها، لا سيما عندما اتُهم بوضع كتب باطنية مثل “مشكاة الأنوار” و”معارج القدس” و”المضنون به على غير أهله”.

يرى الدكتور علي سامي النشار أن الغزالي بريء من هذه التهمة، وأن ابن الجوزي كان مخطئا عندما اتهمه بأنه “باع الفقه بالتصوف”، فالغزالي كان يخوض في كل المدارس الفكرية وهو متمسك بالسنة، كما يرى الكثيرون أنه حتى في حال ثبوت ميل الغزالي إلى التصوف في مرحلة العزلة التي مر بها فقد انتهى به الأمر بالعودة إلى السنة والتبحر في علوم الحديث، حتى مات رحمه الله وكتاب صحيح البخاري على صدره. [نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ص 211].

وفي عام 1960م أصدر الفيلسوف المصري عبد الرحمن البدوي كتابا أسماه “مؤلفات الغزالي”، تناول فيه 457 مصنفا يُنسب إلى الغزالي، ووجد فيه أن هناك 48 مصنفا قد نُسب للغزالي زورا، فضلا عن عشرات الكتب مجهولة الهوية أو التي تم التشكيك بنسبتها للغزالي، ومنها تلك الكتب الباطنية.

كما وضع الدكتور مشهد العلاف عام 2002 كتابا اسمه “كتُب الإمام الغزالي: الثابت منها والمنحول”، وقال فيه إن الكتب الباطنية ليست للغزالي.

والخلاصة أن الغزالي عندما مال إلى التصوف كان يرى أنه منهج آخر مخالف لمنهج الباطنية، وفقا لما ذكره في كتابه “المنقذ من الضلال”، وأنه بالرغم من مخالفته الجزئية لمنهج السنة خلال مرحلة العزلة التي مرّ بها فقد عاد إليه رحمه الله في آخر حياته.

مؤسسات التصوف
يتميز الصوفية عن غيرهم في مجال إعداد المريد (المتعلم) وتربيته، ولهم الفضل في إنشاء مؤسسات تعبدية وتربوية كبرى، ومن أهمها:

خانقاه في أصفهان الإيرانية
(wikimedia/Zereshk)

1ـ الخوانق: كلمة فارسية يراد بها الدور التي يسكنها الصوفية، وتجري عليها الأرزاق ويشرف عليها الشيوخ، ويتم فيها التفرغ للعبادة والذكر، لكن اسمها تغير لاحقا إلى “التكايا” التي خصصت لإقامة الدراويش.

2- الربط: هي بيوت الجهاد والعلم، أخذت اسمها من المرابطة في سبيل الله، كما تعني خدمة الغير تطوعاً بغير أجر؛ ليروض المريد نفسه على حب الخير والتواضع.

3ـ الخلاوي: ما تزال حتى يومنا هذا تلعب دورا تربويا في عدد من الدول الإسلامية، وخاصة السودان ودول جنوب الصحراء الكبرى.

ويلزم الصوفي نفسه في هذه المؤسسات بمنهج متكامل من العبادات (كالأدعية والأوراد)، والسلوكيات (كخشونة الأكل والملبس)، والرياضات النفسية (كالتواضع والخشية).

غاية التصوف
أوضحنا في مقال “الباطنية” أن الباطنية تيار فكري موغل في القدم، وأنه تسلل إلى معظم -وربما كل- الأديان وأنشأ في داخلها مذاهب وأديانا مستقلة، وكما هو حال الطوائف الإسماعيلية التي تطورت في قلب المذهب الشيعي، الذي نشأ بدوره داخل الإسلام، فإن التصوف تشكل أيضا بفعل التأثير الباطني، ولكن داخل المذهب السني.

يشترك الباطنيون في المعتقد الأساسي مهما كان دينهم الذي ينتمون إليه، ويؤمنون بأن المعرفة الباطنية “الغنوص” هي غاية الإنسان، وأن الوصول إليها يتم بالإشراق (الحدس).

وربما تكون نسخة التوراة التي كتبت أثناء السبي البابلي لبني إسرائيل هي أقدم النصوص المتوفرة اليوم لتحريف قصة الخلق على النحو الذي يجعل المعرفة هي السر الذي أخفاه الإله الخالق (أدوناي) عن الإنسان (آدم وحواء)، حيث سارع إبليس إلى مساعدة الإنسان وأخبره أن الإله حرّم عليه الأكل من “شجرة المعرفة” في الجنة كي لا يصل إلى الحقائق السرية التي ترتقي به إلى مراتب الآلهة، وهو ما دفع الباطنية اليهودية (القبالاه) إلى تأليه إبليس (لوسيفر).

تعد هذه القصة المحرفة -والتي تتناقض مع قصة الخلق الحقيقية الموضحة في القرآن- الأساس الذي انبثقت منه المذاهب والفلسفات الباطنية، فعقائد الاتحاد والفناء والحلول ووحدة الوجود ونظرية الفيض تعد من نتائج هذا التحريف، وقد لا يؤمن المعتقدون بهذه العقائد بالأصل المحرف لقصة الخلق بعد أن أصبحت الأفكار الوليدة منفصلة عن العقيدة الأم وقادرة على التغلغل بشكل منفرد في الأديان الأخرى وتوليد المذاهب الباطنية المتعددة، وهذا ما اتضح لنا في دراستنا للهندوسية والبوذية والمسيحية والإسماعيلية.

وعندما ندرس التصوف الإسلامي، سواء الفلسفي منه أو المعتدل، نجد أثرا واضحا -وأحيانا يكون طفيفا- للأصل الباطني المحرف، وذلك في مجالين رئيسين هما:

1- نظرية المعرفة (طريقة الحصول على المعرفة والحقائق)، حيث يرى كبار المتصوفة أن للمعرفة نوعين، فهناك معرفة استدلالية عن العقل النظري، فيُعرف بها وجود الله وصفاته، سواء من خلال التأمل في الحقائق أو بتدبر الوحي ويطلق على هذا النوع “العلم”.

وهناك معرفة خاصة، يعرف فيها الصوفي العارف حقائق الصفات والتدبير والأسرار، ولا تكون عن طريق العقل بل بالإلهام، وتسمى “العلم اللدني”.

وقد يطلق المتصوفة على الأول اسم “العلم”، وعلى الثاني “المعرفة”، فالعلم يؤتى بالكسب والتعلم، وهو ما جاء في الحديث الضعيف: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، أما المعرفة فتتحقق لمن يسلك طريق المجاهدة والتصوف، ويستدلون على ذلك بحديث روي فيه أن الرسول قال لحارثة كيف أصبحت؟ فقال أصبحت مؤمنا حقا، قال بم ذلك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا وسهرت الليل وظمئت النهار وكأني أرى عرش ربي وأرى الجنة والنار، فقال النبي يا حارثة “عرفت فالزم”. وهذا الحديث يتفاوت تخريج العلماء له بين الباطل والضعيف جدا.

وبالرغم من عدم ثبوت المعرفة بهذا المعنى الكشفي في نصوص القرآن والسنة، فقد جعلها المتصوفة أعلى من العلم نفسه، ورأوا أنها لا تتحقق إلا لمن يسلك طريقهم، بل جعلوا منها غاية الإنسان وهدفه الأسمى.

قال أبو على الدقاق “المعرفة توجب السكينة في القلب، كما أن العلم يوجب السكون ، فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته ” [الرسالة القشيرية، ص312].

2- الغاية من الوجود: ينص القرآن الكريم على أن غاية خلق الإنسان هي عبادة الله، فيقول تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، لكن المتصوفة جعلوا المعرفة نفسها هي الغاية، وهي مفهوم يشمل محبة الله وإشراق نوره على القلب، كما يشمل أيضا الاتحاد بالله (الفناء) عند غلاة المتصوفة.

وينتشر في كتب الصوفية حديث قدسي ينسب إلى الله تعالى القول: “كنت كنزاً لا أُعرف، فأحببت أن أُعرف فخلقت خلقاً فعرّفتهم بي فعرفوني”، وكأن غاية الخلق كله هي أن يُعرف الله من قبل خلقه، لكن هذا الحديث موضوع مكذوب كما يقول العجلوني، وينقل ذلك عن ابن تيمية والزركشي وابن حجر والسيوطي وغيرهم [كشف الخفاء: رقم 2016].

يقول ابن خلدون عن المتصوفة “ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة” [المقدمة، ص585].

وحتى معتدلو الصوفية الذين لم يقولوا بالاتحاد والحلول جعلوا المعرفة هي الغاية، ومنهم الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي قال “الزهد عمل ساعة، والورع عمل ساعتين، والمعرفة عمل الأبد” [فتوح الغيب، ص171].

ومن المعاصرين الشيخ محمد سعيد البوطي الذي قال في سياق إجابته على إحدى الفتاوى “القصد من السلوك إنما هو المحافظة على القلب السليم, وإحاطتُه بذلك المنهج النبوي القويم للوصول إلى المأمول الأسمى وهو المعرفة، على ميزان قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)” [موقع نسيم الشام، الفتوى رقم 46686].

الكشف والعقل
قلل معظم الصوفية من شأن الدليل العقلي والنقلي في مقابل الكشف والوجد والذوق، فالإلهام في عرفهم هو مصدر المعرفة الحقيقية التي يستبعد معها إمكان الخطأ، حتى وصل الأمر بالغلاة منهم إلى التخلي عن العلم الشرعي نفسه، ونصحوا مريديهم بالاجتهاد في كشف الحجب لا جمع الكتب، فشاعت بينهم مقولة “دع علم الورق وعليك بعلم الخِرق”.

والإلهام كما يرونه هو حصول المعرفة بغير أسباب ولا اكتساب، إذ يهجم على القلب كأنه ألقي فيه، فلا يدري العبد كيف حصل له ومن أين حصل، وبالغ بعضهم عندما عدَّ الكشف أصلاً زائداً على الكتاب والسنة، يمكن أن تثبت به عقائد غيبية لم ترد فيهما، وهو الذي قاد إلى اعتقاد العصمة في المشايخ (الأولياء).

ومن أخطر الأمور التي تسربت إلى التصوف من الأديان الباطنية ما ذهب إليه بعضهم من التحلل من التكاليف الشرعية، بدعوى أن الأوامر والنواهي رسوم العوام، وأن هدف التكاليف حصول المعرفة في القلب، فإذا حصلت فلا ضرورة لها، واحتجوا بقوله تعالى {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99] ففسروا اليقين بالعلم وقالوا إذا حصل العلم سقطت العبادة، لكن عقلاء الصوفية ردوا بشدة على هذا الغلو فقال الجنيد إن من يسرق ويزني أحسن حالاً من هؤلاء.

وعموماً فإن هذه المعرفة الوجدانية لا يمكن إقامة دليل عليها، لأنها نتاج تجربة فردية وربما تكون في كثير من مراحلها خارج حدود الزمان والمكان، ومن ثم لو ثبتت العلوم بالإلهام لا يبقى للتفكير العقلي والعلم التجريبي أي معنى، وحتى لو كان صحيحا فهو حجة باطنة تخص صاحبها ولا يمكن إلزام الآخرين بها، فلا توجد ضوابط تحكم المعرفة الإلهامية بحيث يعرف صحتها من بطلانها، ولا يمكن أن يعرف صاحبها نفسه ما إذا كانت إلهاما من الله أو وسوسة من الشيطان، ولو صدّق كل امرئ بما ادعى لما ثبت حق ولا بطل باطل.

التأويل الباطني
يرى المتصوفة أن للنص ظاهرا وباطنا، سواء كان نصا قرآنيا أو حديثا شريفا أو من أقوال شيوخهم التي يسمونها بالفتوحات، ومن هذا المنطلق ظهر ما يسمى بالتفسير الإشاري، وهو أحد أشكال التأويلات الباطنية للقرآن الكريم، حيث يرى أصحابه أن للقرآن معنى باطنا خفيا لا يظهر لعامة الناس، ولا حتى لعلماء الشريعة، وإنما يظهر لخاصتهم ممن فتح الله قلوبهم بعد المجاهدة وفقا لطرقهم المعروفة، ويعتبرون هذا العلم من العلم “الوهبي” و”اللدنّي”، أي أنه هبة من الله ومن لدنه مباشرة (بالكشف والإلهام)، فهو ليس علما كسبيا كالذي يكتسبه علماء الشريعة بالدراسة والتعلم.

وقد شرح الشيخ الصوفي سهل التستري هذا التفسير بقوله “ما من آية في القرآن إلا ولها أربعة معان، ظاهر وباطن وحد ومطلع، فالظاهر التلاوة، والباطن الفهم، والحد حلالها وحرامها، والمطلع إشراف القلب على المراد بها فقهاً من الله عز وجل، فالعلم الظاهر علم عام، والفهم لباطنه والمراد به خاص”.

وربما بالغ بعض المتصوفة في هذا التفسير حتى أصبح لكل كلمة في القرآن معنى آخر خفي، وهم غالبا يبحثون في ذلك عن معاني تتعلق بالجانب الروحي وتزكية النفس. وأتاحوا بذلك -ربما عن غير قصد من قبل البعض- الفرصة لتمييع النص القرآني وإعادة تأويله بما يوافق هوى أصحاب البدع والخرافات والأفكار المستوردة.

ويعد الشيخ العراقي محمود الألوسي من أعظم العلماء الذين كتبوا في التفسير الإشاري، وذلك في كتابه الضخم “روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسَّبع المثاني” الذي وضعه في القرن الثالث عشر الهجري (العصر العثماني)، فكان يورد فيه تفسير الآيات حسب الظاهر، ثم يشير إلى بعض المعاني الخفية التي تستنبط بطريق الرمز والإشارة.

ويؤكد بعض العلماء أن أصحاب هذا النوع من التفسير لم يكونوا يدّعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم فيه، فسمّوها إشارات ولم يسموها معاني. لذا قال ابن تيمية إن كانت الإشارة اعتبارية من جنس القياس الصحيح فهي مقبولة، وإن كانت تحريفا للكلام عن مواضعه وتأويلا له على غير تأويله فهي من جنس كلام القرامطة والباطنية والجهمية [انظر مقال الإسماعيلية]. أما تلميذه ابن القيم فقال إن كان المراد بتلك الإشارات أنها هي مراد الله فهي غلط، وإن أراد أصحابها أنهم يقولون بها عن طريق الإشارة والقياس فكلامهم مقبول بشرط ألا تناقض الإشارة المعنى الظاهر للآية، وأن يكون معناها صحيحا في نفسه، وأن يكون في اللفظ إشعار به، وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم.

الولاية
للولاية معان عديدة، لكن المقصود بها هنا صفة أطلقها القرآن الكريم على فئة من الناس، فقال {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63]، أي أن أولياء الله هم الذي يجمعون صفتي الإيمان والتقوى، فيحققون الإيمان قولا وعملا، ويجمعون معه أنواع القربات والطاعات ويتجنبون المعاصي والذنوب.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه” [رواه البخاري]، وصفة الولي في هذا الحديث الصحيح تنطبق على من يتقرب إلى الله بالفرائض ويكثر من النوافل، حتى يصل إلى مرتبة الإحسان التي وصفها حديث آخر يقول “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، وعند هذه الدرجة من القرب إلى الله تصبح جوارح الولي كلها مسخرة لإرضاء الله، ويصبح دعاؤه مجابا.

ويمكننا أن نقول إن كبار الصحابة كانوا يجسدون بسلوكهم هذا المعنى العملي لأولياء الله، حيث يقول عنهم الشوكاني في تفسيره: “فإذا لم يكونوا رأس الأولياء، وصفوة الأتقياء، فليس لله أولياء ولا أتقياء ولا بررة ولا أصفياء” [تفسير الشوكاني: 5/288].

ومن المعروف أن كبار الصحابة كانوا يساهمون في بناء المجتمع والدولة ويلتمسون رزقهم بالتجارة والزراعة والحرف اليدوية كأي عضو آخر في المجتمع، ولم يتميز أحدهم بأي سمة من سمات الكهنوتية والرهبنة المعروفة في الأديان الأخرى.

لذا يرى ابن تيمية في رسالة “الصوفية والفقراء” أن الأولياء هم المؤمنين المتقين، “سواء سُمِّي أحدهم فقيهًا أو عالمًا أو تاجرًا أو جنديًّا أو صانعًا أو أميرًا أو حاكمًا أو غير ذلك”، ويؤكد في كتابه “الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان” أنه “ليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور والمباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحًا، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفر إذا كان مباحًا… فيوجدون في أهل القرآن وأهل العلم، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف، ويوجدون في التجار والصناع والزرَّاع”.

لكن واضعي نظريات التصوف الفلسفي كان لهم رأي آخر، فمع أن الآيات والأحاديث التي ذكرت الولاية لم تعطها أي بعد آخر يفوق ما ذكرناه، إلا أن الاعتقاد بالمعنى الباطني الخفي للنص منحهم فرصة لتمرير عقيدة الحلول من باب التأويل، فجعلوا الولاية مرتبة تفوق مراتب البشر –بما فيهم الأنبياء عند بعض الغلاة- والأصل في ذلك هو عقيدة وحدة الوجود (اتحاد الإله بالكون والإنسان في أصل واحد) وعقيدة الحلول، حيث يقول القطب الصوفي محمود أبو الفيض المنوفي في كتابه جمهرة الأولياء وأعلام أهل التصوف إن “الولاية عبارة عن تولي الحق سبحانه وتعالى عبده بظهور أسمائه وصفاته عليه علماً وعيناً وحالاً وأثر لذة وتصرفاً”، ويضيف أن الولي الذي يصل إلى أعلى مراتب الفناء “لا يرى في نظره غير فعل الفاعل الحقيقي وهو الله”.

ومع أن حديث “فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به…” لا يؤدي إلى معنى الحلول الذي يتعارض جذريا مع عقيدة الإسلام، بل يستخدم الحديث ألفاظا مجازية لتوضيح فكرة موالاة الله لعباده الصالحين، إلا أن التصوف الفلسفي استغل هذا اللفظ الظاهري لتأويله باطنيا بما يؤدي إلى حلول الإله في الإنسان واتحادهما معا، حتى يتمتع الولي بجزء من صفات الإله ويصبح من أنصاف الآلهة، وعلى النحو الذي نجده في الهندوسية والقبالاه وغيرهما من الوثنيات الباطنية، مع أننا لا نجد نصا صحيحا واحدا يؤكد أن أحدا من الصحابة أو التابعين قد فهم المعنى المجازي للحديث السابق بهذه الطريقة.

وكما فعل الشيعة في توظيف نظرية الإمامة عبر منح الأئمة (من سلالة النبي) صفات تكاد تشبه صفات الأنبياء، وربما تزيد عنها عند بعض الغلاة، فقد جعل بعض الصوفية من الانتساب إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ميزة كبيرة تسهّل على الإنسان اكتساب صفة الولاية، حتى ادعى الكثيرون عبر التاريخ الانتساب إلى النبي لهذه الغاية، ومن الملاحظ أن معظم أقطاب الصوفية ومشايخها -وربما كلهم- يفخرون بنسبهم الممتد إلى النبي.

يعد المتصوف محمد بن علي بن الحسن الترمذي (يلقب بالحكيم وهو ليس عالم الحديث محمد بن عيسى الترمذي مؤلف سنن الترمذي) أول من وضع أصول الولاية في الفكر الصوفي، وذلك عبر سلسلة من الكتب كان أولها “خاتم الأولياء” في أواخر القرن الثالث الهجري، فقال فيه إن هناك طريقين للولاية، الأول هو طريق الصدق والجهد والعبادة عبر أداء الواجبات والنوافل، والثاني هو طريق المنَّة والوَهْب والعبودية، ومع أن الأحاديث والآيات المذكورة أعلاه لا تصف إلا الطريق الأول فقط؛ فقد جعل بعض المتصوفة الطريق الثاني (الذي لا أصل له) هو الأساس، ما فتح الباب أمام العوام والجهلة، وحتى الفسّاق، لادعاء الولاية واجتذاب الأتباع، بل أصبح المصابون بأمراض عقلية من أهل الولاية باعتبارهم “مجاذيب”، أي أن الله جذبهم إليه وأسقط عنهم التكاليف، حيث نرى اليوم في الزوايا الصوفية عددا من هؤلاء المرضى الفقراء الذين وجدوا لهم مأوى هناك بينما يعتقد كثير من العوام أنهم ليسوا سوى أولياء صالحين يُتبرك بهم.

ابتدع المتصوف الترمذي أيضا نظرية جديدة في مفهوم الولاية، فقال إن نبوَّة الأنبياء ورسالة الرسل لهما نهاية وحدّ في هذه الدنيا؛ وتتوافق نهايتهما مع نهاية العالم ورجوع مخلوقاته إلى خالقها، أما صفة الولاية فهي أبدية، مستخدما التأويل الباطني لكلمة “الولي” التي أطلقها الله أيضا على نفسه بقوله {الله ولي الذين آمنوا} حيث لم يصف الله نفسه بالنبوة في المقابل، وهذه مغالطة واضحة فالولاية مصطلح لغوي يعني المحبة والنصرة، وإذا كانت تُطلق على الخالق والعبد بمعنيين مختلفين فهذا لا يعطي المصطلح نفسه أي ميزة عن مصطلحات أخرى، وإلا وجب التأمل أيضا في استخدام القرآن لكلمة الولاية في معنى الشر عندما تحدث عن “أولياء الشيطان”. ومع ذلك فلم يزعم الترمذي أن الولي أفضل من النبي؛ بل جعل صفة الولاية في شخص النبي صفة أبدية بينما تنتهي صفة نبوته بانتهاء العالم، لكن هذا التمييز والتأويل الباطني فتح الباب لمن جاء بعد الترمذي كي يصل به الحال إلى تقديم الولي على النبي، كما فعل غلاة الشيعة ممن قدموا الأئمة على الأنبياء.

تطورت نظرية الولاية في القرن الرابع الهجري على يد أبي بكر الكتاني الذي ابتكر فكرة مراتب الأولياء، فجعلهم على درجات هي: النقباء والنجباء والبدلاء والأخيار والعمد والغوث والسياحون، وفي أواخر القرن جعل أبو طالب المكي الولاية في ثلاث مراتب هي الأقطاب والأوتاد والأبدال، ثم وضع علي بن عثمان الهجويري مرتبة الغوث فوق القطب في كتابه “كشف المحجوب”.

في القرن الخامس الهجري، حاول الشيخ القشيري في كتابه “الرسالة” أن يجنب التصوف الكثير من الخرافات والبدع، وكان حريصا على أن يُظهر الولي في صفة العابد الزاهد دون مبالغة، ونقل عن السُّلمي قوله “نهايات الأولياء بدايات الأنبياء”، إلا أنه رأى أن من شرط الولاية أن يكون الولي محفوظًا، كما أنه من شرط النبي أن يكون معصومًا، وهذا الادعاء لا دليل عليه.

وفي القرن التالي، وضع محيي الدين بن عربي -الملقب بالشيخ الأكبر والمتوفى عام 638هـ الموافق 1240م- نظاما متكاملا لمفهوم التصوف الفلسفي للولاية، مبتدئا بالحديث عما أسماه “الحقيقة المحمدية”، وهي حسب رأيه النور الذي خلقه الله قبل كل شيء وخلق منه كل شيء، وهي أول مرحلة من مراحل التنزل الإلهي في صور الوجود، وهي الصورة الكاملة للإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه حقائق الوجود، والمشكاة التي يستقي منها الأنبياء والأولياء العلم الباطن.

 فكرة “الحقيقة المحمدية” تكاد تتطابق مع مفهوم وضعه الشيعة قبل ابن عربي هو “النور المحمدي”، وهي تشبه أيضا فكرة مركزية المسيح في العالم وأزليته حسب عقيدة المسيحيين، وتبدو مقتبسة من فلسفة القبالاه التي تحدثت عن “الإنسان الكامل” المتجسد في آدم عليه السلام “آدم قدمون”، حيث كان جسمه يعكس التجليات النورانية العشرة (سفيروت).

وفي كتابه المعروف “ختم الولاية”، حدد ابن عربي نظاما هيكليا لمراتب الأولياء، وبشكل يذكّرنا بدرجات الترقي في الجمعيات السرية، مستندا في ذلك بالدرجة الأولى إلى مشاهداته الكشفية الوجدانية حسب قوله، كما وضع ابن عربي أجوبة على الأسئلة المائة والسبعة والخمسين التي وضعها الترمذي لتحديد مفهوم الولاية وصفاتها في كتابه “الفتوحات المكية”، وأهم هذه الأسئلة: كم عدد منازل الأولياء؟ أين منازل أهل القُربة؟ من الذي يستحق خاتم الأولياء كما يستحق النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة؟ ما سبب الخاتم وما معناه؟ أين مقام الأنبياء من الأولياء؟

حدد ابن عربي في كتاب “الفتوحات المكية” نحو ثمانين مرتبة من مراتب الأولياء والمتصوفة، ثلاثون منها محفوظة برجال يتقيدون في كل زمان بعدد مخصوص، وعلى رأس الأولياء هناك قطب غوث واحد يتسيد أولياء العالم في زمانه، ولم يكتف ابن عربي بهذا بل عدد خمسة وعشرين قطبا من آدم وحتى النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

تحدث ابن عربي أيضا عن “الأوتاد الأربعة” يتولى كل منهم ربع العالم بحيث يحفظ الله بهم سكان الأرض، ثم يأتي في المرتبة التالية سبعة أبدال يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، وكل بدل منهم “على قدم” نبي من الأنبياء، مع افتراض أن كل نبي من أولئك الأنبياء يسكن في إحدى السموات السبع. ثم يليهم اثنا عشر نقيبًا على عدد بروج الفلك، فيتمتع كل واحد منهم بخاصية برج ما (وفقا للعقائد الهرمسية التي تعطي الكواكب وظائف تشبه الملائكة). وبعد النقباء يأتي ثمانية نجباء، ثم الحواريون، ثم الرجبيون، وهم أربعون شخصًا في كل زمان.

وبعد نحو قرنين من ابتكار الترمذي فكرة “ختم الولاية” دون أن يوضح من هو خاتم الأولياء، جاء محيي الدين ابن عربي ليطرح نظرية أوسع ويحاول الإجابة على السؤال، فقال إن هناك ختما يختم الله به الولاية على الإطلاق على يد عيسى عليه السلام، لأنه سينزل في آخر الزمان وارثًا خاتمًا، وأضاف أن هناك ختما آخر يختم الله به الولاية المحمدية، ثم قال إنه التقى بشخص في فاس هو خاتم الولاية المحمدية، غير أن ابن عربي أعلن لاحقا أنه هو نفسه خاتم الولاية المحمدية متحدثا عن رؤى بشرته بذلك في المنام، بحسب ما ينقل عنه المستشرق ميشيل شودكيفِتش في كتابه “خاتم الأولياء: النبوة والولاية في مذهب ابن عربي”.

وبعد أن استعرض شودكيفِتش مؤلَّفات الصوفية ممن جاء بعد ابن عربي، وجد أن كل جماعة كانت تزعم أن شيخها هو خاتم الولاية المحمدية، بينما ما زال تلامذة ابن عربي يؤكدون أن شيخهم هو الخاتم.

ولا ينكر المتصوفة أن كل هذه الألقاب والدرجات لا أصل لها في القرآن والسنة، فهي تُنسب إلى الشيوخ الذين ادعوا تلقي هذه النظريات عن طريق الكشف، ويستثنى فقط لفظ “الأبدال” الذي جاء في حديث منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو “إن فيهم -يعني أهل الشام- الأبدال أربعين رجلا، كلما مات رجل أبدله الله مكانه رجلا”، ويرجح ابن تيمية في الجزء الحادي عشر من مجموع الفتاوى أن هذا ليس من كلام النبي، فالإيمان كان بالحجاز وباليمن قبل فتوح الشام، ومع إقراره بالأحاديث التي ذكرت فضائل الشام وأهلها إلا أنه يتساءل: كيف يعتقد أن الأبدال جميعهم الذين هم أفضل الخلق كانوا في أهل الشام‏ فقط؟‏

ولا نستبعد أن يكون أصل نظرية الولاية مقتبسا من “الأفلاطونية الجديدة” التي طورت نظرية الفيض، وهي النظرية التي نجدها بوضوح لدى القبالاه، وهي تفترض انبثاق الإنسان عن الإله وإمكانية ارتقاء الإنسان للاتحاد به، وهو ما نجده أيضا في الهندوسية والبوذية، فالصفات التي يكتسبها الولي بعد بلوغه درجات الأبدال والأقطاب تشبه كثيرا صفات الإنسان “المستنير” لدى تلك الوثنيات الباطنية، وهي تشبه أيضا صفات آلهة الأولمب في الميثولوجيا اليونانية التي تتخيل وجود آلهة على هيئة البشر ولديهم شهوات ونزوات وصراعات، إلا أنهم خارقون وخالدون ويسيّرون شؤون العالم [انظر مقال الوثنية].

الديوان الصوفي العالمي
تعد القرون الثلاثة الأخيرة من أكثر المراحل التي شهد فيها العالم الإسلامي تراجعا حضاريا وفكريا، وذلك بالتوازي مع صعود المنظومات الأسطورية لكافة الطوائف المنتسبة للإسلام، ومنها التصوف، لذا وجد البعض في هذه البيئة مجالا أوسع لطرح نظريات باطنية لا تكاد تستند إلى أي أصل قرآني، ومنهم أحمد بن مبارك السلجماسي المغربي (المتوفى عام 1743) الذي تتلمذ على يد شيخ يدعى عبد العزيز الدباغ، وهو رجل أمي قيل إنه تلقى الكشف والعلم اللدني دون تعلم ولا طلب فصار من كبار الأولياء، وقد وضع السلجماسي كتاب “الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز” قائلا إنه جمع فيه أهم مأثورات شيخه.

ومن أهم ما ورد فيه أن هناك ديواناً (مجلس أو مؤتمر) للأقطاب والأوتاد وسائر صنوف الأولياء ينعقد كل ليلة في غار حراء، حيث يتصدره القطب الغوث (وهو الدباغ نفسه)، ويجلس عن يمينه أربعة أقطاب على مذهب مالك بن أنس (لأن الدباغ كان مالكيا)، وثلاثة أقطاب عن يساره واحد من كل مذهب، وقد يحضر الجلسة بعض الأموات الذين لا يُعرف أنهم مجرد أرواح بلا أجساد إلا بالنظر إلى انعدام ظلهم، ويقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد يحضر جلسات هذا الديوان أحيانا، وقد “يحضر معه أزواجه الطاهرات وأكابر صحابته الأكرمين”، كما يحضر الجلسة في ليلة القدر عدد من الأنبياء والملأ الأعلى من الملائكة.

ويضيف أن لغة أهل الديوان هي السريانية لأنها لغة الملائكة، وأنهم “لا يتكلمون العربية إلا إذا حضر النبي صلى الله عليه وسلم أدباً معه”، ويقول أيضا إن الغوث قد يغيب أحيانا عن بعض الاجتماعات فيقع الخلاف بين الحاضرين إلى درجة أن يقتل بعضهم بعضاً.

أما هدف الاجتماع فهو أن يتفق الأولياء على “ما يكون من ذلك الوقت إلى مثله من الغد… ولهم التصرف في العوالم كلها السفلية والعلوية وحتى في الحجب السبعين وحتى في عالم الرقَّا وهو ما فوق الحجب السبعين.. إلخ”، وكأن الأولياء بذلك هم نسخة عن آلهة الميثولوجيات القديمة.

تقديم الولي على النبي
كما هو حال غلاة الشيعة الذين قدموا الأئمة على الأنبياء في بعض الصفات، فقد بلغ الغلو ببعض المتصوفة إلى رفع مقام الأولياء بالطريقة نفسها، واعتقدوا أن الأنبياء يكتفون بعلم الظاهر (الوحي والشريعة) بينما يختص الأولياء بعلم الباطن الذي يقتبسونه بالكشف والإلهام، وقد رفض المتصوفة المعتدلة هذا الغلو.

ومن أهم المبررات التي يقدمونها لهذا الاعتقاد قصة النبي موسى عليه السلام مع الخضر الذي يعتبرونه من الأولياء، حيث وصفته الآية بأنه من عباد الله {فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلمناه من لدنا علماً} [الكهف: 65]، ويقولون إن النبي موسى عليه السلام لم يستطع إدراك الحقيقة الباطنية وراء الأحداث التي مرت بهما، بينما أدركها الخضر بعلمه اللدني.

لكن الفخر الرازي يقول في تفسيره إن غالبية المفسرين من أهل السنة يرجحون أن الخضر كان نبيا وليس مجرد ولي، وهذا ظاهر في قول الخضر عندما برر أفعاله {وما فعلته عن أمري}، فقد فعلها بأمر الله الذي يتحقق بطريق الوحي، إذ لا تُعرف أوامر الله ونواهيه إلا بالوحي، ولا سيما قتل الأنفس وتعييب سفن الناس بخرقها، فهذا العدوان على الأنفس والأموال لا يجوز إلا بالوحي من الله، حيث حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي بقوله {قل إنما أنذركم بالوحي} [الأنبياء: 45].

ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي إن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها، والاستدلال بالأعم على الأخص في أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف، وهو أيضا ما يدل عليه تواضع موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله {هل أتبعك على أن تعلمنِ مما علمت رشدا} [الكهف: 66]، فالأصل أن يتبع الولي النبي وليس العكس، لكن موسى والخضر عليهما السلام كانا نبيين ولديهما علم من الغيب، وقد كشف الله للخضر بعض الحقائق التي حجبها عن موسى ليبين له وللناس من بعده أن العلم لا يكون كله عند نبي واحد حتى لو كان هو أعظم الأنبياء على الأرض في عصره. [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: 4/172، 173].

وإذا كانت نبوة الأنبياء تثبت بنزول الوحي المُعجز عليهم وبتحقق المعجزات على أيديهم؛ فإن ولاية الولي أمر محتمل لا يثبت مهما كان صاحبها صالحا، فإذا زعم أحد أنه وليّ ولديه علم لدنّي يأمره بأعمال تخالف الشريعة (مثل قتل النفس وإغراق السفينة) فلا يعقل أن نصدقه، وإلا أصبح الشرع عرضة للعبث على يد كل دجال طالما كان قادرا على التمثل الظاهري بصفات الأولياء من الصلاح والزهد.

نظرا لأهمية الخضر عليه السلام لدى المتصوفة، فقد زعموا أن الله مدّ في عمره إلى آخر الزمان، ما فتح الباب أمام ظهور حكايات اجتماع المشايخ بالخضر وتلقيهم الأسرار عنه، ثم أضاف البعض فكرة امتداد حياة النبيين إدريس وإلياس عليهما السلام، وهذه من أساطير بني إسرائيل والقبالاه التي تزعم أنهما هرمس وإيليا [انظر مقال الباطنية].
ومع أن بعض علماء المسلمين ذهبوا إلى التصديق بالمرويات التي تحدثت عن استمرار حياة الخضر، إلا أن ابن الجوزي أثبت في كتابه “عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر” أن كل تلك النصوص المرفوعة لم تكن سوى أكاذيب موضوعة، وهو ما أثبته أيضا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في الجزء الثاني من كتابه أضواء البيان.

لذا قال ابن القيم إن العلم اللدني لا يعدو كونه فهما للكتاب والسنة بما لا يخالفهما، وهو ثمرة العبودية ومتابعة النبي، كما قال على بن أبي طالب رضي الله عنه (وهو من أولى الناس بالولاية) عندما سئل هل عندكم شيء مما ليس في القرآن أو ما ليس عند الناس؟ فقال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يُعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة، قيل وما في الصحيفة؟ قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر” [صحيح البخاري: 6517].

كما قال عمر بن الخطاب في كتاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: والفهم الفهم فيما أدلي إليك، فالفهم نعمة من الله على عبده، ونور يقذفه الله في قلبه، يعرف به ويدرك ما لا يدركه غيره ولا يعرفه، فيفهم من النص ما لا يفهمه غيره، مع استوائهما في حفظه، وفهم أصل معناه. [مدارج السالكين 3/382].

ملازمة الشيخ
يرى المتصوفة أن سبيل الدين غامضة وأن سبل الشيطان كثيرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، والشيخ عندهم ليس مجرد معلم بل هو أيضا معنى مجرد (صورة مثالية) يجب على المريد أن يتمثله ويطبع نفسه عليه، وبدون ذلك لا يكون المريد صادقاً في سلوكه، فلا يظفر بالوصول مهما بذل جهده في الطاعات.

ومن المبالغات الواردة على ألسنة بعض المشايخ أن أهمية الشيخ للمريد كأهمية الوضوء للصلاة، وهم كعادتهم يستخدمون نصوصا وقواعد فقهية بمعان أخرى باطنية لتبرير قناعاتهم، فبرروا ضرورة التعلم على يد الشيخ بالقاعدة الفقهية المشهورة “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.

ويشترط الصوفية أن يتخذ المريد شيخاً واحداً لا يحيد عنه، حتى قال ابن عربي “فكما أنه لم يكن وجود العالم بين إلهين ولا المكلف بين رسولين، ولا امرأة بين زوجين، فكذلك المريد لا يكون بين شيخين” [الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية: 1/ 65].

وبالغ بعض الصوفية كثيراً في الشروط التي أوجبوها على المريد نحو شيخه، حتى أصبحت قيوداً على حريته وعقله، ويبدو أن الإفراط في طاعة المريد للشيخ والتسليم له باطناً وظاهراً ينبع من حرص شيوخهم على تأصيل مفهوم “عصمة الشيخ”، حتى زعموا أن “النبي معصوم والولي محفوظ”، ولم يقدموا فرقا بين العصمة والحفظ إلا في اللفظ، مع أن القشيري -وهو كبار الصوفية- حذر من الاعتقاد بعصمة المشايخ.

يظهر التأثير الهندوسي-البوذي في التصوف من خلال مراقبة مظاهر تبرك المتصوفة بشيوخهم واستحضارهم لهم في أذهانهم أثناء الذكر، حيث يستحضر البوذيون معلمهم بوذا أثناء ترتيل صلواتهم ويقولون في بدايتها “نستحضرك أيها القديس المستنير”.

ويظهر التأثير أيضا في لبس المريد الخرقة والمرقعة على يد الشيخ حتى يتميز بها عن بقية الناس، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس المسلم لباسا يشتهر به، فجاء في الحديث الذي حسنه السيوطي والألباني “من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة، ثم يلهب فيه النار” [أخرجه أبو داود وابن ماجه].

ولتثبيت طاعة المريد للشيخ وضمان سيطرة المشايخ على أتباعهم، وضعوا شروطا لا أصل لها في الإسلام، ومنها:

أ- عدم مخالفة الشيخ  بالقلب والجوارح مطلقاً، فشعار بعضهم “كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي مغسله”، ومع أن القشيري أنكر عصمة المشايخ فقد طالب المريدين بالطاعة العمياء، فيقول “وأن لا يخالف شيخه في كل ما يشير عليه، لأن خلاف المريد في ابتداء حاله دليل على جميع عمره”، ويقول أيضاً “ومن شرطه أن لا يكون بقلبه اعتراض على شيخه” [رسالة القشيري، ص182]، بل يقول السهروردي “أدب المريد مع الشيخ أن يكون مسلوب الاختيار لا يتصرف في نفسه وماله إلا بمراجعة الشيخ وأمره” [العوارف، ص403]. ومن لم ير خطأ الشيخ أحسن من صوابه لم ينتفع به، وعليه أن يحذر “من سؤال لمَ، وعلام، ولأي شيء؟ [جواهر المعاني للتيجاني، 2/ 185] بل يطيع المريد شيخه ويتلقى منه كل شيء دون سؤال ولا فهم، حتى وصل الأمر بهم إلى اعتبار أن الشيخ “كعبة” المريد ولا يحصل له مدد وفيض إلا بواسطته [الأنوار القدسية 2/ 82، 84، 103]، وهذه الشروط لا تناسب دينا ربى أتباعه على الاستيثاق وعدم اتباع الظن والرجم بالغيب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا معصوم إلا الأنبياء.

ب ـ لا يجوز للمريد أن ينكر شيئاً على شيخه أبدا ولو ملك الدليل، بل لا يجوز أن يظن فيه خلاف الخير والحق، وبرروا ذلك بأنه قد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن، فيجب التسليم والصمت مهما فعل، وتنبع هذه المغالطة من عقيدتهم الباطنية التي تجعل لكل ظاهر باطنا قد يكون نقيضه، وهو أمر يفتح أبوابا لارتكاب الجرائم والفواحش، فقد يكون الشيخ دجالا أصلا وهو يفعل ما يحلو له دون أن يجرؤ المريدون على الاستنكار بذريعة عدم فهمهم لحقيقة أفعاله.

ج ـ أن يحفظ شيخه في غيبته كحفظه في حضوره، وأن يلاحظه بقلبه في جميع أموره سفرا وحضرا ليحوز بركته، وأن يرى كل بركة حصلت له في الدنيا والآخرة هي ببركة الشيخ، وألا يكتم على شيخه شيئاً من الأحوال والخواطر والكشوفات والكرامات، كما لا يشير على شيخه برأي حتى إذا استشاره، بل يردّ الأمر إلى شيخه اعتقادا منه أنه أعلم منه بالأمور وغني عن استشارته، وإنما استشاره تحببا ما لم تقم القرائن الواضحة على خلاف ذلك، وألا يجالس من كان يكره شيخه، وعليه أن يحب من يحبه، وأن يصبر على جفوة شيخه وإعراضه عنه، وألا يتصرف تصرفا من سفر أو زواج أو أي أمر مهم إلا بإذنه، ولم يقتصر الأمر على حال الشيخ في حياته، بل تعدى ذلك إلى ما بعد الموت، فمن زار شيخاً في قبره عليه ألا يعتقد أنه ميت لا يسمعه، بل يعتقد بحياته البرزخية لينال بركته [الأنوار القدسية 1/161].

ووصل الحال بالبعض إلى الاعتقاد بأن الشيوخ الكبار قد يُظهرون بعض المنكرات والفواحش -التي هي حسب زعمهم تصورات خيالية يراها غيرهم حقيقة- لكي يُخفوا عن الناس كونهم من الأولياء تواضعًا، وهذا ليس إلا من تلبيس إبليس عليهم، فهو أيضا من أبواب الخداع التي يمكن أن يمارس بها الدجالون الفواحش ويبررونها للجهلة، ويردّ عليهم ابن تيمية بقوله إن الأنبياء فقط يجب لهم الإيمان والطاعة فيما يخبرون به ويأمرون، أما غيرهم ولو كانوا أولياء فيُعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة، فما خالف رُد [الفرقان، ص31].

الكرامات
ذكرنا في مقال “نبوة محمد” أنه ليس هناك مانع عقلي من وقوع الخوارق التي تخالف العادة، فإذا منح الله هذه القدرة لأنبيائه كي يثبتوا نبوتهم فلا مانع شرعي وعقائدي أيضا من أن يمنحها تعالى لبعض عباده الصالحين، وهذه الخوارق تسمى معجزات في حال وقوعها على يد الأنبياء، بينما تسمى كرامات إذا حصلت لشخص مؤمن، وقد ثبت في الأحاديث وقوع الكرامات لعدد من الصحابة، وكانت إما لحاجة أو حُجّة في الدين، مثل دعوة مستجابة أو تكثير طعام أو عدم احتراق بالنار، ولم يُذكر أنها حدثت بتكلف أو طلب أو حرص من أحدهم، بل حدثت إكراماً لهم من الله أو استجابة لدعاء يرون فيه مصلحة ما، ويقول الإمام الشاطبي إن “طلب الكرامات ليس عليه دليل، بل الدليل خلاف ذلك فإن ما غيّب عن الإنسان ولا هو من التكاليف لا يطالب به” [الموافقات: 2/283]، وكان ابن تيمية يقول إن الوليّ يستحي من الكرامة كما تستحي العذراء من دم حيضها، أي أن الأولى به أن يخفي ما يكرمه الله به من كرامات حياءً من الله بدلاً من التباهي بها.

كما كان الصوفي الكبير السريّ السقطي يقول “لو أن واحداً دخل بستاناً فيه أشجار كثيرة، وعلى كل شجرة طير يقول له بلسان فصيح: السلام عليك يا ولي الله، ولم يخف أنه مكر، لكان ممكوراً به” [بستان العارفين للنووي: 1/ 66]، أي أن الولي الحقيقي إذا تعرض لكرامة فإنه يشك في نفسه ويعتبر أنها امتحان من الله له، فلا يتباهى بالكرامة فضلا عن أن يصدّق في قرارة نفسه أنه يستحقها.

لكن التصوف الفلسفي جعل الكرامة عنصرا أساسيا في نظريته للولاية، فلا يصل المرء لدرجة الولاية إلا بعد ظهور الكرامات على يديه. وأصبحت الكرامات في عصور الانحطاط والجهل تُطلب بالرياضات النفسية والمجاهدات كما يطلبها ممارسو اليوغا وطقوس القبالاه الشاقة. وافترض منظرو التصوف الفلسفي أيضا أن الله يسخر للولي أجزاء معينة من العوالم الأرضية والسماوية والغيبية، فالكرامة لم تعد بذلك حدثا عارضا كما كانت تحدث المعجزات للأنبياء أنفسهم، بل أصبح الولي كائنا خارقا يتصرف في الكون تلقائيا بأسلوبه الخاص والمفارق للعادات وقوانين الفيزياء، وهو يفعل ذلك بثقة تامة وبيقين دائم بأن قوانين العالم المادية ستُخرق على يديه في كل مرة، وهذا ما تعِدُ به القبالاه من ينتسب إليها.

ومع امتداد الزمن وقلة العلم في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، ولا سيما في الدول التي يحكمها الاستبداد وفي الأرياف النائية، أصبحت الكرامات جزءا أصيلا من الأساطير الشعبية (الفولكلور) التي تروى عن الأبطال الخارقين، وما زالت هذه الحكايات تروى إلى اليوم عن أفعال تتناقض مع الدين والعقل والأخلاق، بينما يمارس آخرون السحر والشعوذة والدجل تحت مسمى الكرامات للسيطرة على العوام والتكسب من أرزاقهم.

في القرن السابع الهجري، وضع عبد الرحمن بن عمر الجوبري كتابا تحت عنوان “المختار في كشف الأسرار وهتك الأستار” وذكر فيه تفاصيل مئات الحيل والخدع التي كان المنتسبون للصوفية في عصره يخدعون بها الناس للظهور في مظهر الأولياء الصالحين، وهي تشبه تماماً ألعاب الخفة التي يقدمها محترفو العروض الترفيهية، ومنها مثلا دهن اليد بمسحوق يؤخذ من دهون الضفادع فتشكل طبقة عازلة يمكن بها إشعال اليد بالنار دون أن تتأذى.

تهذيب النفس
يسعى المتصوف إلى تهذيب نفسه وتطهير قلبه من الرذائل والخطرات الشيطانية، حتى يرى نفسه “كأنه محل للأرجاس ومقامه دائما تحت أقدام الناس”، حسب وصف عبد الوهاب الشعراني في كتاب الأنوار القدسية، وللوصول إلى ذلك يتبع المريد عدة وسائل، وسنذكر فيما يلي موجزا لأهم خمسة منها، وهي الخلوة والمجاهدة والرهبنة والذكر والتوكل:

الخلوة والانقطاع عن الخلق، حتى تظاهر بعضهم بالخرس والجنون كي ينفر الناس عنه فلا ينشغل عن ربه، فحُمل مرارا إلى المارستان (مشفى الأمراض العقلية)، كما أقام بعضهم مدة طويلة وحيدًا في الصحراء وخرائب العمران كي لا يختلط بالناس.

فالعزلة عندهم طريق للأنس بالله؛ وهي ضرورية أيضاً لتحقق الكشف، ولتحقيق بعض الصفات الحميدة، والعزلة جسدية لا معنوية؛ وعلى السالك (أي المريد) أن يعتقد باعتزاله عن الخلق سلامة الناس من شره وليس العكس، بل يستصغر نفسه ويتواضع.

ويرى بعضهم أن هناك قدرا من العزلة مفروض وواجب، ويستشهدون بالحديث النبوي “من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه” [رواه أحمد]، مع أن الحديث لا يتضمن أي أمر شرعي.

وفي ميزان الشرع، قد تؤدي العزلة إلى ترك الواجبات الشرعية والسنن مثل حضور الجنائز وصلاة الجماعة، ويقول ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر “كم فوتت العزلة عِلما يصلح به أصل الدين، وكم أوقعت في بليَّة هلك بها الدين، إنما عزلة العالم عن الشر فحسب”.

والعزلة المشروعة التي استحسنها بعض السلف هي ترك فضول الصحبة (أي مبالغة الاختلاط بالناس) وليس مفارقتهم مطلقاً، فالعزلة بالمعنى الصوفي لا يجوز أن تكون قاعدة عامة، وإنما هي تدريب تربوي يلجأ إليه الفرد بين الحين والآخر دون أن يقاطع المجتمع ويتخلى عن واجباته ويقصر في حقوق الآخرين.

ويقول الحديث النبوي “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” [أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن].

أما اعتزال الفتن والبيئة السيئة فهو أمر آخر، حيث نصح بها النبي صلى الله عليه وسلم باعتزال الفتنة عندما يصعب اتقاء شرها، فقال “يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن” [البخاري: 19]، وعلق ابن حجر العسقلاني بقوله إن الحديث يدل على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه، ونقل عن جمهور السلف أن الاختلاط أولى من العزلة، وهو ما أكد عليه النووي أيضا بقوله إن المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية، فإن أشكل الأمر فالعزلة أولى.

وفي كتابه “تلبيس إبليس”، تساءل ابن الجوزي كيف يتأكد الصوفي الذي يعزل نفسه عن الناس فترة طويلة ويحرم نفسه من الطعام أنه لن يصاب بالماليخوليا (مرض عقلي)؟ وأن ما يسمعه من كلام باطني -والذي يعتقد الصوفي أنه هاتف إلهي خاص به- ليس سوى هواجس نفسية أو وساوس شيطانية؟ خصوصا وأن الصوفي الذي يمارس هذه الخلوة لا يسلك سنة النبي في ترويض النفس، وقد قال صلى الله عليه وسلم “من رغب عن سنتي فليس مني” [رواه البخاري ومسلم].

مجاهدة النفس للحد من شهواتها، وهذا مسلك جيد في التربية غير أنه بلغ تجاوز إزالة المرض حتى كاد أن يزيل النفس ويمحو أثرها ويعطل طاقاتها، فنجد في كتب بعض أئمة الصوفية قصصا عجيبة من هذا المبالغات، ومنها ما أورده الغزالي في “إحياء علوم الدين” عن رجل كلَّم امرأة فضعفت نفسه ووضع يده عليها، وعندما ندم وأراد أن يعاقب نفسه وضع يده في النار حتى يبست، ورجل آخر نظر إلى محاسن امرأة، فعاقب نفسه بضرب عينه بيده حتى عميت.

وشدد ابن الجوزي على أنه لا يجوز للإنسان أن يفعل بنفسه ذلك، فالمعاقبة تكون بالامتناع عن المباح حتى تتأدب النفس وليس بفعل الحرام وهو إيذاء الجسد، فمن يشدد على نفسه من غير ضرورة لا بد أن يصل إلى الابتداع؛ لأن الشرع لم يصل بتكاليفه الواجبة إلى درجة تعذيب النفس.

لذا انتقد ابن عطاء الله السكندري هذا الغلو عند الصوفية وقال “لم تأت الشرائع بمنع الملاذ للعباد، وكيف وهي مخلوقة من أجلهم؟” [التنوير في إسقاط التدبير، ص41].

ومن مجاهداتهم أيضاً التحقق بالفقر، وهو من مقامات الزهد التي لا تكتفي بالجانب الروحي المتمثل بالافتقار إلى الله وإنما تشمل الجانب المادي؛ فيرون أن الصوفي الحق كلما ازداد فقراً ازداد قرباً من الله؛ بل جعله أبو محمد رويم والسُهروردي أساس التصوف نفسه.

وقد وُجد هذا الترغيب في الفقر لدى أديان أخرى مثل المسيحية، إلا أنه بعيد عن منهج الإسلام ولا يمثل حقيقة الزهد المشروع؛ حيث أودع الله في النفس غريزة حب المال لكي يتحقق صلاح الدنيا وإعمار الأرض، ولو كبت الناس كلهم هذا الدافع تعطلت مصالح الفرد والجماعة، وقد أرشد الله الإنسان إلى ما فيه خيره، فقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

والإسلام لا يحارب الغنى وإنما يأمر بتسخير المال لمرضاة الله، والتمتع به مادام مباحاً لا يشغل عن الطاعة، فقال تعالى {قلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: ٣٢].

لذا قال ابن تيمية إن الزهد المشروع هو”ترك كل شيء لا ينفع في الدار الآخرة، وثقة القلب بما عند الله، وترك ما لا يستعان به على طاعة الله من مال ومطعم”، وعندما سئل أحمد بن حنبل عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدا؟ قال: نعم بشرط ألا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت.

3- الرهبنة: نظر بعض الصوفية إلى الزواج على أنه شأن دنيوي يشغل عن التقرب إلى الله، فقال أبو سليمان الداراني “من تزوج فقد ركن إلى الدنيا”، وبعضهم استند في ذلك إلى الحديث الموضوع “خيركم بعد المئتين رجل خفيف الحاذ، قيل يارسول الله: وما الخفيف الحاذ؟ قال: الذي لا أهل له ولا ولد”.

وقد خفف بعض الصوفية من هذا الغلو، فالغزالي لم يدع إلى ترك الزواج مطلقاً وإنما إلى تأخيره في حق المريد المبتدئ، أما الذي لا يقدر على التعفف فالنكاح في حقه أولى لتسكين الشهوة كما يقول في كتاب الإحياء.

لكن النبي أنكر على من ترك الزواج بدافع الانقطاع للعبادة بقوله: “من رغب عن سنتي فليس مني” [صحيح البخاري: 5063]، فالزواج ليس علاجا لتطهير النفس من الرذائل بل هو عامل مهم في تزكية النفس وإصلاح المجتمع، والتزكية لا تتحقق بتضييق مسالك الفطرة وإماتة الغرائز نهائيا، فليس مقصود الشرع قمع الشهوات وإنما تهذيبها، فحذر النبي من تشدَّد في الدين وأرهق نفسه بقوله “هلك المتنطعون” [صحيح مسلم: 2670].

لوحة تعود إلى القرن التاسع عشر لصوفي من شمال أفريقيا يحمل سبحة

4- الذكر: إذا كانت العبادة قاسما مشتركا بين المسلمين فالمتصوفة تميزوا بالذكر، فهو عمدة الطريق إلى الله عندهم، وهو أول خطوة على طريق المحبة، فمن أحب غيره تذكره وردد اسمه.

والذكر عندهم باللسان والقلب، والدراويش يمارسونه جماعيا وعلنيا، ويتعلمونه عن طريق شيخ حي أو على يد الخضر (وهو نبي يزعمون أنه ما زال حيا ويتصل بكبار شيوخهم)، ويعتقدون أن الوِرْد نصيب يومي من الذكر يقرؤه المريد ويتعاهد نفسه عليه كأنه فرض، ولكل طريقة صوفية تقريبا ورد خاص أو مجموعة أوراد، وربما يؤمن بعضهم أن النبي نفسه قد أعطى الورد لشيخهم، كما يردد البعض أورادا يعتقدون أنها تعود للنبي بسند متصل أو إلى الخليفة الأول أبي بكر حيث علمه النبي الذكر بالقلب عندما كانا في الغار.

وقد يستخدمون السبحة لعد مرات الذكر، غير أن الصوفي الصادق لا يستخدمها كي لا تشغله عن ربه، وهو لا يبتدئ بالذكر إلا بعد أفعال تمهيدية، فيجلس على هيئة مخصوصة، ويستدعي صورة شيخه أمام عينيه، وغايته أن يصل إلى نقطة يتحد فيها الذكر والذاكر والمذكور، فيحقق بذلك “المشاهدة” وتصبح حقيقة الذكر هي نسيان الذكر نفسه والوصول إلى صمت تام، فيصير كل عضو من أعضائه قلبا يذكر الله.

وهناك أسلوب آخر يرتبط بالذكر، وهو تأمل كلمة “الله” المكتوبة في قلب الصوفي، إلى أن يصبح محوطا بالحقيقة النورانية لحرف الهاء، الذي هو على شكل حلقة (ه)، ومنهم من يكرر عبارة “لا إله إلا الله” بإيقاع وحركات معينة يمكن أن تستدعي حالة من السكْر (الغياب عن الوعي) ثم يستمر اختصار كلمة الله؛ فلا يبقى منها إلا حرفها الأخير “الهاء”، وتشكل بالفتح “هَـ” مع الالتفات إلى الكتف الأيسر، ثم بالضم “هُـ” مع الالتفات للأيمن، ثم بالكسر “هِـ” مع انحناء القامة، وفي الغالب يشكّلون حلقة ذكر جماعي حول الشيخ (القطب) واضعا كل واحد منهم يده اليمنى على اليد اليسرى لمجاوره، ويرددون معا الشهادة بعيون مغلقة حتى تختزل في حرف الهاء.

ولم يؤْثَر عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة شيء من هذه الشعائر، فالنبي كان يذكر الله “على كل أحيانه” [صحيح مسلم: 373]، وإذا قارنا هذه الشعائر بما ذكرناه من عبادات وطقوس في مقالَي الهندوسية واليوغا فسنجد الكثير من وجوه التشابه.

تتشابه طقوس بعض جلسات الذكر الصوفية “الحضرة” بطقوس الوثنيات الشرقية، حيث يمارس البوذيون جلسات صلاة (أو ذكر) جماعية تبدأ بترديد الراهب للأناشيد المقدسة (مانترات) بصوت ملحن، ثم يرددها الجالسون في حلقات محيطة به أو في صفوف أمامه بشكل جماعي مع التمايل.

كما تتشابه نظرية التصوف في التأمل بكلمة “الله” مع نظرية القبالاه اليهودية في ذكر كلمة “عين صوف”، وهي التي اقتبستها أيضا الهندوسية في تأمل كهنتها لكلمة “أوم”.

5- التوكل: مع أنه من المبادئ المعروفة في الإسلام إلا أن للصوفية تفسيرهم الخاص له، فهو عندهم ترك تدبير النفس وانخلاع من الحول والقوة، والاستسلام لجريان القضاء في الأحكام، ولا يصح إلا بإسقاط التدبير مع الله والاختيار، حتى لا يعتمد الصوفي على مطر في خروج زرع، ولا على غيم في نزول مطر.

وهذا الفهم يؤدي إلى ترك الأسباب، حتى بلغ الأمر ببعضهم إلى التعطل وانتظار الرزق بلا عمل، وترك المريض بلا طبيب ولا دواء، مع أن الحديث النبوي يقول “تداووا عباد الله، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع معه شفاء إلا الهرم” [مسند ابن أبي شيبة: 23883].

ويُعتقد أن مبدأ السياحة في الصحراء بدون حمل الزاد والمتاع، مع التبذل في المظهر (الدروشة)، قد اقتبسه المتصوفة من رهبان الهندوسية والبوذية، فبعضهم يعتبرونه نوعا من التوكل المطلق على الإله ويعرّضون أنفسهم للهلاك جوعا وعطشا في البراري تعذيبا للنفس، ويظنون أنهم يحققون بذلك كمال التوكل على الرازق، مع أنهم لا يمتنعون عن أخذ الرزق من الناس بدون طلب، وهذا يتعارض مع مفهوم التوكل والعمل الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله “اعقلها وتوكل”، بل يعتقد بعض الصوفية أن الادخار والاكتساب أيضا أمور لا تتناسب مع كمال التوكل.

ووصل الحال بهم إلى الإعراض عن التعلم معتقدين أن العلم يأتي عن طريق الكشف، مع أن كل الصحابة كانوا يطلبون العلم على يد النبي، ثم جاء التابعون ليتعلموا منهم، ولم يتلق أحد منهم العلم بقلبه وهو يعتزل الناس.

علاقة التصوف الفلسفي بالسحر
أوضحنا في مقال “الهندوسية والبوذية” أن القبالاه والهرمسية كانتا من أهم المؤثرات الباطنية الشيطانية التي تسللت إلى الهندوسية وأدت إلى ظهور مذاهب أكثر باطنية من الأصل الهندوسي الباطني، مثل مذهب الفيدانتا الذي يتوجه بالعبادة إلى الشيطان نفسه. وهذه الجرثومة تسللت أيضا إلى الجسد الإسلامي عن طريق العديد من المذاهب والفرق، ومنها التصوف الفلسفي، فمن خلال ما سمي بعلوم الحروف والأسماء والدوائر نجح أساتذة السحر بإقحام طلاسمهم في التصوف تحت غطاء ديني بحت، وبطريقة مازالت متداولة حتى اليوم في الكثير من المناطق التي يسودها الجهل، حيث يلبس الساحر زي المتصوف العارف بالله وبأسرار التأويل، فيختلط على العوام الدينُ مع نقيضه كما اختلط لدى الأمم السابقة الوحي بالسحر، مع الفارق المتمثل بأن أصل القرآن محفوظ من الضياع بوعد إلهي متحقق.

يصعب تتبع بداية هذا التغلغل الشيطاني في التصوف، حيث نجد لدى الكثير من كبرى الطرق الصوفية نصوصا سحرية مدسوسة على كبار شيوخها، وهي في معظمها توسلات بأسماء الشياطين باللغة السريانية. ويقول محمود المراكبي في كتابه “العقائد الصوفية في ضوء الكتاب والسنة” إنك إذا سألت أي صوفي عن الأسماء السريانية المنتشرة في ورده الذي تلقاه عن شيخه فسيقول لك إنها لغة الملائكة، وهو يعتقد أنه يتوسل بها إلى الله بأسماء سريانية أو يستغيث بأحد الملائكة دون أن يعلم أنها أسماء شياطين.

ويرصد المراكبي نصوصا سحرية كثيرة في أوراد كبرى الطرق المعروفة، ونذكر منها هذه الأمثلة:

1- وِرد منسوب للشيخ عبد القادر الجيلاني: “وأسألك الوصول بالسر الذي تدهش منه العقول، فهو من قربه ذاهل، أيتنوخ، يا ملوخ، باي، وامن أي وامن، مهباش الذي له ملك السموات والأرض”.

2- ورد “الحزب الكبير” المنسوب للشيخ الدسوقي: “اللهم آمني من كل خوف، وهم وغم، وكرب كدكد كردد كردد كردد كرده كرده كرده ده ده ده ده ده الله رب العزة”.

3- أوراد عديدة ذكرها محمد عثمان عبده البرهاني في كتابه “تبرئة الذمة في نصح الأمة”, ومنها: “أحمى حميثاً أطمى طميثاً، (وكان الله قوياً عزيزاً) “، وأيضا” “بها بها بهيا بهيا بهيا بهيات بهيات بهيات القديم الأزلي، يخضع لي كل من يراني…”.

4- ينقل المراكبي عن أحمد بن عياد في كتابه “المفاخر العلية في المآثر الشاذلية” أشهر الألفاظ السريانية التي تُكتب في دائرة وتوضع على رأس المريد كالتميمة لتحفظه، وهذه الألفاظ هي: طهور وبدعق ومحببه وصوره وسقفاطيس وسقاطيم، ويزعم أن هذه أسماء الله التي لا يعرفها إلا العارفون. ومن الأدعية التي ينصح المريدين بترديدها سبعين مرة: “أسألك اللهم يا من هو أحُونُ أَدُمَّ حَمَّ هَاءُ آمين افعل لي كذا وكذا”.

5- أما أكثر هذه الطرق تطرفا فهي الطريقة الخلوتية العونية، حيث قطعت شوطا أبعد وصرّحت بأنها تتصل بالشياطين، ولكن دون التصريح بأنها ضرب من السحر والشرك بل على اعتبار أن أسرارها هي جزء من “الحكمة” المنسوبة كذبا إلى النبي سليمان عليه السلام، والتي يقولون إنه تمكن عبرها من التحكم بالمردة والشياطين. وتتضمن هذه الطريقة برنامجا للخلوة يبذل فيه المريد الكثير من الجهد عبر سبع مراحل، وفي أوراد كل منها تظهر الأسماء السريانية بوضوح، ويتضمن ورد المرحلة السابعة وحده ثمانين اسما سريانيا للشياطين ويسمى “البرهتية”.

يعد القطب أحمد بن علي البوني -الذي عاش في الجزائر خلال القرن الهجري السابع- أحد زعماء هذه المرحلة، حيث بث في كتابيه “شمس المعارف الكبرى” و”منبع أصول الحكمة” الكثير من الطلاسم والأسرار التي كانت حكرا على السحرة، فصاغها في صورة أدعية وأحجبة تتداخل فيها أسماء الله الحسنى والآيات القرآنية بالتعاويذ الشيطانية السريانية، وكان ينسب هذه الأسرار تارة إلى علوم الحكماء والفلاسفة، وتارة أخرى إلى سليمان عليه الصلاة والسلام (كما فعل سحرة القبالاه)، كما أطلق على الشياطين أحيانا وصف خدم الحروف والكواكب لإقناع القارئ بأنهم ملائكة، بينما تجرأ في أحيان أخرى على التصريح بأن الخدم من الجن، ولكن مع الزعم بأن الاتصال بهم لا يعدو كونه طقوسا روحانية مارسها النبي سليمان نفسه.

تطور أسلوب البوني في القرن الثامن الهجري على يد الفارسي فضل الله نعيمي الأسترآبادي، الذي سمي بمؤسس “الصوفية الحروفية”، ويعد كتاب الأزل (جويدان نما) من أهم مؤلفاته التي تحاول البحث في “الطاقة” المفترضة للحروف، وبشكل يتقاطع تقريبا مع فلسفة القبالاه، وتأثر به الشاعر عماد الدين نسيمي الذي كان يقرض الشعر بالفارسية والتركية، حيث وضع كتاب “مقدمة الحقائق” شارحا فيه العقيدة الحروفية القائمة على وحدة الوجود وتأليه الإنسان، ودعا فيه إلى معرفة الإنسان من حيث كونه محلا لتجليات أسرار الكون.

مازال الخلط بين التصوف والسحر قائما حتى اليوم دون أن ينتبه له ملايين العوام من المسلمين، حيث نرى الأسماء السريانية للشياطين وهي تتسلل إلى كتب كبار الصوفية المشهود لهم بالتقوى والعلم, ومنهم على سبيل المثال الشيخ الطبيب مفتي سورية الأسبق محمد أبو اليسر عابدين (توفي عام 1981)، فقد أورد في كتابه “الأوراد الدائمة” الوِرد التالي: “يا تمخيثا يا تماخيثا يا مشطبا يا بطرشيثا يا شليخوثا يا مثلخوثا يا صمد كافيا آهيا شراهيا أدوناي أصباؤت آل شدّاي، يا مجلي عظيم الأمور لا إله إلا هو الحي القيوم…” [ص 122-123].

وهذا الخلط هو نفسه الذي أدى بأتباع الأديان السابقة إلى الانحراف، فالسحرة اليهود (القباليون) زعموا أيضا أن السحر الذي بين أيديهم ليس سوى التراث السرّي للنبي سليمان الذي انكشف لهم بعد موته كما تقول الآية: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102]، والآية نفسها توضح أن سليمان لا يمكن أن يكفر ويتوسل للشياطين.

وحتى اليوم تباع كتب البوني وغيرها من كتب السحر على الأرصفة في الدول العربية، كما أصبحت الطلاسم وطقوس السحر مشاعًا على الإنترنت لمن يريد أن يجرب، وقد يندفع الكثير من الشباب إلى التجريب بدافع الفضول، أو لاكتساب قدرات خارقة، أو للانتقام من أشخاص يكرهونهم وللتأثير في قلوب أشخاص يسعون إلى محبتهم، دون أن يعلموا أنهم يمارسون السحر ويتصلون بالشياطين ويخرجون من دائرة الإسلام.

نتائج الانحراف
كما هو الحال في أي تحريف أو تحوير لتعليمات الوحي، فإن البداية تكون ببدعة صغيرة لها مبرراتها، ثم ما تلبث زاوية الافتراق عن خط الوحي أن تتسع مع مرور الزمن ليصبح المسار بعيدا للغاية عن الطريق المستقيم، وهذا ما كان يحدث في الأمم السابقة التي انحرفت عن رسالات الأنبياء، وكانت البداية عندما أقنع إبليس البشر الأوائل بصناعة التماثيل تكريما لأمواتهم، ثم جاء إلى أبنائهم وأحفادهم ليقنعهم بأن يعبدوها.

وكما استعرضنا في هذا المقال، فإن بعض الطرق الصوفية التي بدأت بالاقتباس من الأديان الوثنية والباطنية رياضات الزهد والتقشف لتزكية النفس، انتهى بها الحال على يد بعض أقطاب التصوف الفلسفي إلى دين آخر، حتى أصبح التصوف مدخلا لعبادة الشيطان بدلا من العكس.

بكتاش ولي

التقى الشاعر نسيمي في الأناضول بالحاج بكتاش ولي، فأخذ عنه بكتاش فلسفته الحروفية وأسس الطريقة البكتاشية (البكداشية) التي تمزج بين التشيع العلوي والتصوف الفلسفي، وهي مستمرة إلى اليوم ويتبعها أكثر من عشرة ملايين كردي في جنوب تركيا، ويعترف قادتها بأنها طائفة خارجة عن الإسلام ويسعون إلى اعتراف حكومة تركيا بطائفتهم على أنها دين مستقل، كما يتبعها عدد غير معروف في ألبانيا، وهي كبقية الأديان الباطنية تكتم أسرارها عن أتباعها ولا تكشفها إلا لمن ينخرط في سلك الكهنوت أكثر من ألف يوم.

واليوم توجد في بعض الدول الغربية زوايا صوفية تقدم عروضا موسيقية وحفلات للرقص على الطريقة المولوية، وقد يرتادها أشخاص غربيون يسمون أنفسهم “صوفيين” على اعتبار أن الصوفية حسب فهمهم دينا مستقلا، أو هي على الأقل إحدى تقليعات “حركة العصر الجديد” التي تتيح للمرء أن يمارس طقوسا روحية دون التزام بدين محدد. ومع أن بعض الغربيين يعتنقون الإسلام بالفعل من باب الصوفية، ويحسُن إسلامهم، إلا أن البعض الآخر لا يرى في الأمر سوى رياضة روحية يتذوق فيها الموسيقى والشعر ويستمتع بالرقص والتأمل، قياسا على ممارسة آخرين لتمارين اليوغا والتاي تشي.

علاوة على ذلك، أصبح بعض شيوخ الطرق الصوفية من كبار الأثرياء والمتنفذين، كما هو حال زعماء الطوائف الدينية المتجاوزة للحدود والعابرة للقارات، فيطوفون العالم بطائرات خاصة ويقطنون مزارع وقصورا فخمة ويديرون شبكات مالية وإعلامية كبيرة، ويتهافت عليهم الأتباع للتبرك وهم يجلسون على العروش ويتصرفون كالملوك، ويتدخلون في تفاصيل حياة أتباعهم بعد إقناعهم بأن كل ما يقوله الشيوخ صحيحا لصلته المباشرة بالله، بل يتدخلون أحيانا في السياسة لترجيح كفة حزب ما أو إسقاطه، وهذا كله يتناقض مع جوهر التصوف القائم على الزهد والتواضع.

كان ضريح الشيخ الجيلاني في بغداد يتلقى من تبرعات الزائرين كل سنة ما يفوق نفقة الدولة العثمانية على الحرمين الشريفين، وذكر المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي أن سدنة الأضرحة في مصر كانوا من أغنى الناس في المجتمع. [زكريا بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، ص 129].

هذا النمط من التصوف لعب أيضا دورا سيئا للغاية في تثبيط همم الناس عن الجهاد والمقاومة عبر التاريخ، بالرغم من وجود نماذج مشرفة لجهاد المتصوف كما سنذكر لاحقا، ومن الأمثلة على ذلك ما يُذكر من انتقادات في حق الإمام أبي حامد الغزالي الذي عاصر احتلال الصليبيين للقدس دون أن ينتفض أو يحرض الناس على الجهاد أو يترك أثرا لذلك في كتبه ومؤلفاته، لذلك قال ابن تيمية عن المتصوفة في كتاب الاستقامة: “وأما الجهاد فالغالب عليهم أنهم أبعد عنه من غيرهم” [1/268].

وبالفكر نفسه تم توطيد الاحتلال الأوروبي للعالم الإسلامي بعد قضائه على الدولة العثمانية، فالتصوف الطرقي كان قد بلغ آنذاك أكثر مراحله انحطاطا، حيث شاعت عقيدة التواكل ومهادنة الظلمة، ما سمح للمحتلين باستغلال بعض شيوخ الطرق لتثبيط همم الناس عن المقاومة، مثل بعض شيوخ الطريقة الأحمدية الكتانية في المغرب، والطرق التجانية والعليوية والشاذلية والقادرية في الجزائر، والطريقة البريلوية في الهند، والطريقتان السعيدية والبدرية في سورية، بل تصدى بعض الشيوخ لمن أراد مقاومة المحتلين، وقدموا الولاء والطاعة للمحتل الأوروبي بصفته الحاكم المتغلب الذي يجب الانصياع لسلطته.

عبد القادر الجزائري أصبح من أقطاب الماسونية بعد نفيه إلى الشام

أما الشيخ عبد القادر الجزائري فتولى في بداية الأمر قيادة شعبه إلى الجهاد ضد الفرنسيين طيلة سبعة عشر عاماً؛ ثم استسلم وسلم نفسه إلى الفرنسيين الذين نفوه إلى دمشق وخصصوا له راتبا ومنزلا فخما حتى مات.

وفي العصر الحالي، يحظى العديد من كبار شيوخ الطرق الصوفية بحفاوة الاستقبال في جولاتهم بالدول الغربية، بل يقيم بعضهم هناك ويتمتع بتسهيلات كبيرة في تأسيس المراكز والمدارس والزوايا، مثل الشيخ هشام قباني الذي أسس عام 1997 “المجلس الأعلى الإسلامي في أمريكا”، وهو تلميذ شيخ الطريقة النقشبندية ناظم الحقاني المقيم بقبرص.

وقد عقد مركز “نيكسون” بالولايات المتحدة في عام 2003 مؤتمرا عن “فهم الصوفية والدور الذي ستلعبه في رسم السياسة الأمريكية”، وشارك فيه كبار المنظرين لليمين المتطرف مثل برنارد لويس، كما أوصى تقرير مؤسسة “راند” للأبحاث الاستراتيجية في الولايات المتحدة عام 2007 بدعم الحركات الصوفية في العالم الإسلامي، وذلك بعد أن “فشلت” الاستراتيجية العسكرية في السيطرة على العراق وأفغانستان.

يقول المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري إن العالم الغربي الذي يحارب الإسلام، يشجع الحركات الصوفية، ومن أكثر الكتب انتشاراً الآن في الغرب مؤلفات محيي الدين بن عربي وأشعار جلال الدين الرومي.

ويضيف “وقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات الدينية بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية. فالزهد في الدنيا والانصراف عنها وعن عالم السياسة يضعف ولا شك صلابة مقاومة الاستعمار الغربي” [مقال الإسلام والغرب، موقع الجزيرة نت، 26/12/2004].

ومن الواضح أن الصوفية التي يدعمها الغرب ليست هي الصوفية السنية المعتدلة التي خرّجت خيرة المجاهدين على مر القرون، بل هي الصوفية الفلسفية الطُّرقية التي تنصح أتباعها بتجنب السياسة، وتنشر في نفوسهم عقلية التواكل والضعف والولاء للحاكم المتغلب حتى لو كان ظالما.

لذا يقول المستشرق الفرنسي المسلم يونس إريك جوفروا إن الأنظمة العربية (المتحالفة مع الغرب) عملت على إدماج الصوفية في الحكم بهدف محاربة “الظاهرة الإسلامية”. ويقول المستشرق اليهودي البريطاني برنارد لويس إن الغرب يسعى إلى المصالحة مع “التصوف الإسلامي” ودعمه لكي يملأ الساحة الدينية والسياسية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصاء الدين عن قضايا السياسة والاقتصاد [نوفل بن إبراهيم، موقع الصوفية].

بين الغلو والاعتدال
بالعودة إلى ما أوضحناه بشأن نشأة التصوف، فقد كان الزهد منضبطا بالكتاب والسنة وقيود الشرع في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي بأنها خير القرون (الصحابة والتابعون وتابعو التابعين)، ومع أن الانحراف بدأ بالظهور على الأرجح في عصر البسطامي (القرن الثالث الهجري) إلا أن التصوف المعتدل ظل قائما لدى الكثيرين ممن جاؤوا بعده، فحتى ابن تيمية الذي شدد على نقد البدع أقر بأن الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبا سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطي والجنيد بن محمد كانوا من المتمسكين بالسنة، بل رأى أيضا أن عددا من المتأخرين كانوا كذلك مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ حماد والشيخ أبي البيان [مجموع الفتاوى: 10/517].

جامع الجيلاني في بغداد

لكن الجدل يظل مع ذلك دائرا بين المتخصصين بشأن بعض الأعلام الكبار، فالجنيد مثلا كان عالما بالحديث والفقه ولم يجعل الأولوية للكشف والإلهام، وينسب إليه قوله “علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ولم يكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا”، وقال أيضا “الطريق إِلَى الله عز وجل مسدودة على خلق الله تعالى، إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لسنته”.

ومع ذلك، يرى آخرون أن للجنيد رحمه الله آراءً وأحوالا مثيرة للريبة، فقد قال الشعراني في كتاب اليواقيت والجواهر إن الجنيد “كان يستر كلام أهل الطريق عمن ليس منهم وكان يستتر بالفقه والإفتاء على مذهب أبي ثور، وكان إذا تكلم في مذهب القوم أغلق باب داره وجعل مفتاحه تحت وركه” [اليواقيت والجواهر: 2/93]، كما يقال إن الجنيد عاتب الشبلي بقوله “نحن حبّرنا هذا العلم تحبيرا ثم خبأناه في السراديب فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ” [التعرف لمذهب التصوف للكلاباذي، ص165]، وكأن التصوف كان علما سريا يستره المتصوفة كما يفعل أقطاب الجمعيات السرية.

وبما أن التحقق من صحة هذه الاتهامات ليس مهمة سهلة فالأسلم عدم التسليم بها، وهو ما ينبغي أن نفعله بحق كل شيوخ المتصوفة الذين لم تثبت صحة نسبة الآراء الشاذة لهم، مثل محيي الدين بن عربي الذي يصعب حتى الآن التحقق من مسؤوليته عن كل ما جاء في كتبه من أقوال كفرية تتعلق بوحدة الوجود، إلا أن هذا قد لا يبرئه من قضايا إشكالية أخرى مثل رفع مقام الأولياء إلى درجات لا تتوافق مع صريح القرآن والسنة، وغير ذلك من الأفكار المقتبسة عن الباطنيات الشرقية. لذا نجد أن تقييم الإسلاميين له يتفاوت بين اعتباره القطب الغوث والشيخ الأكبر وبين تكفيره، ولعل الأسلم أن نترك أمره لله مع التحذير مما جاء في كتبه (سواء صحت نسبتها له أم لا) من شذوذ وكفر.

يضاف إلى ما سبق، أن الصوفية المعتدلة تنأى بنفسها عن نظريات التصوف الفلسفي التي أودت بأصحابها في هوة الشرك ووحدة الوجود والحلول، لكن هذا الاعتدال لا يخلو أحيانا من التأويل، فهو يتمسك بالسنة في السلوك إلا أنه يفارقها في الغايات، وكثيرا ما يأخذ بالأحاديث الضعيفة والموضوعة لتتوافق مع تأويله الخاص، فقد لا يعتقد المتصوف المعتدل بالاتحاد بالإله وبنظرية الفيض غير أنه يعتقد -كما أسلفنا- أن غاية العبادة هي المعرفة، أي إشراق النور الإلهي على روحه، وهذا الفناء ليس سوى شكل ملطف للحلول والاتحاد، وهو تأويل متعسف للآيات التي تصف الله بالنور وتصف الهداية بالاستنارة.

يحاجج كثير من المتصوفة بأن شطحات شيوخهم التي تتضمن تصريحا بالحلول والاتحاد وما يخرج عن ملة الإسلام هي مجرد فلتات لسان نطقوا بها في حالة سكْر (الفناء)، ومنها مثلا المقولة المنسوبة إلى البسطامي: “رفعني الله فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك. فقلت: زينّي بوحدانيتك وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك” [اللمع، ص 382]. وما زال الخلاف حول هذه الشطحات وتأويلاتها يحتل مساحة كبيرة من النقاشات المذهبية الإسلامية، ونرى أنه ينبغي الاتفاق على المبادئ العامة التالية:

1- الحلول والاتحاد عقيدتان كفريتان.
2- الصحابة والتابعون كانوا من أكثر الناس زهدا، ومع ذلك لم يقعوا في حالة السكْر وفقدان الوعي، وهم ليسوا معصومين، فالسكْر إذن ليس ضروريا لبلوغ أعلى درجات القرب من الله.
3- حتى إذا افترضنا أن السكْر حالة وجدانية خارجة عن إرادة المريد والعارف، فإن فكرة الفناء التي أدت إليها هي فكرة قائمة على عقيدة غنوصية باطنية، وإنكار المتصوفة إيمانهم بأصل الفكرة قد يبرئهم من الكفر إلا أنه لا يمنع توصلهم إلى نفس النتيجة التي يصل إليها المعتقدون بالحلول والاتحاد.

يتذرع المتصوفة أيضا بأن علومهم وفلسفتهم ليست موجهة لغير المتخصصين، ومن ثم فلا يحق لأحد من خارج دائرتهم الخوض فيها وانتقادها، وهذا حق من حيث المبدأ فلا ينبغي لغير المختص في أي علم أن ينقده قبل أن يفهم أدواته ويتمكن منها، لكن التمكن من النقد لا يتعلق لدى المتصوفة بسعة الاطلاع والفهم، بل بالكشف والاستعداد النفسي، فمهما تبحر الباحث في العلم فلن يكون أهلا للنقد في رأيهم ما لم ينخرط في سلك التصوف نفسه، أي أنه لا يمكن للباحث أن يتحقق من صحة ومطابقة أسرارهم للوحي إلا بعد أن يعتنقها.

وهذا يجعل من التصوف عقيدة مغلقة على نفسها، بحيث يصبح نقدها مستحيلا، لأن الحجة قائمة على مغالطة منطقية (المغالطة الدائرية أو الدور)، فلا يحق للباحث أن ينتقد إلا من الداخل، ولن يدخل هذا المجال حتى يؤمن به ويسلّم لأهله وينبذ النقد!

وهذه المغالطة يرتكبها أتباع الوثنيات الباطنية التي جاء الإسلام ليحاربها أصلا، فرجال الدين والكهنة في الهندوسية والبوذية والمجوسية والقبالاه وقادة الجمعيات السرية يردّون على منتقديهم بأن فهم دينهم وعقائدهم مستحيل من الخارج.

وعلى سبيل المثال، ينسب واضعو كتاب “البهاغافاد غيتا” الهندوسي إلى الإله كريشنا قوله “لا داعي لشرح هذا العلم الخفي لغير المرتاضين في الحياة أو غير المتتيمين، أو غير المنشغلين بالخدمة التتيمية، ولا لمن يحسدني”، [الإنشاد 18، الآية 67]، أي أن الباحث لن يفهم عقائدهم الباطنية طالما كان لا يؤمن بها، ما يقطع الطريق على كل النقاد من خارج المؤسسة الكهنوتية.

وإذا كانت هناك مآخذ على بعض المتصوفة بشأن سوء فهمهم للتوكل وموقفهم السلبي من المحتلين والطغاة، فقد انبرى شيوخ آخرون للجهاد ضد الاحتلال الأوروبي وحرضوا عليه، ومنهم شيوخ الطريقة التجانية في السودان والسنغال، وشيوخ الطريقة السنوسية الذين جاهدوا الاحتلال الإيطالي في ليبيا وعلى رأسهم عمر المختار، وكذلك العديد من رموز المقاومة مثل الشيخ عبد الكريم الخطابي في المغرب والشيخ عز الدين القسام في فلسطين، وفي السنوات الأخيرة انبرى أتباع الطريقة النقشبندية لمقاومة الروس في داغستان والشيشان، كما فعل زملاؤهم في العراق ضد الغزو الأميركي.

وبالرغم من الانتقادات التي أشرنا إليها بشأن عدم اتخاذ الغزالي موقفا من الاحتلال الصليبي، إلا أن مؤسس الطريقة القادرية الشيخ عبد القادر الجيلاني استفاد لاحقا من تراث الغزالي وحوّله إلى منهج مبسط لإعداد جيل كامل من المريدين علمياً وروحياً واجتماعياً في رباط المدرسة القادرية ببغداد، والذين تحولوا لاحقا إلى القوة الضاربة في جيوش نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي التي حررت البلاد من الاحتلال الصليبي. وما كانت هذه الجهود لتثمر لولا الاتصالات التي فتحها الجيلاني مع كبار شيوخ الصوفية في المغرب والشام ومصر، الذين أحيوا روح الجهاد في الأمة بعد أن تمكن الوهن والإحباط من نفوس الناس.

التعصب عدو الحقيقة
من الملفت أن ابن تيمية كان من المتأثرين بالمنهج التربوي الذي تركه الشيخ الجيلاني، فكانت لابن تيمية كتابات كثيرة وغزيرة في إنصاف الصالحين من المتصوفة وفي نقد الغلاة منهم بآن واحد. وكذلك كان تلميذه ابن القيم في إنكاره على البدع المستوردة تحت مسمى التصوف بالرغم من ثنائه على من التزم من المتصوفة بمنهج السنة. وقد كتب الشيخان مؤلفات ورسائل مفيدة في التزكية و”الروحانيات” مما يجعلهما من الأئمة في هذا الباب.

أما ما نراه اليوم من صراع سلفي-صوفي ففيه الكثير من مظاهر المذهبية والتحزب والتعصب، وقد كان علماء القرون السابقة أكثر حرصا على التزام الأدب في نقدهم لما سقط فيه بعض المتصوفة من هفوات، والتمسوا لبعضهم العذر بعدم تبحرهم في علم الحديث ليميزوا الحق من الباطل، وبأن فقدهم للثقة بالفلسفة العقلية دفعهم إلى المبالغة في تقدير دور الإشراق والكشف.

وكما ذكرنا في مقال “مصادر المعرفة“، فهناك خلاف كبير بين منهجين أساسيين لنظرية المعرفة، وهذا الخلاف ما زال يفرق البشر منذ آلاف السنين إلى أديان وتيارات ومذاهب فرعية داخل الدين الواحد، فأتباع المنهج العقلاني (الفلاسفة وعلماء الكلام) يضعون العقل والمنطق أولا، وأتباع المنهج الحدسي (المتصوفة والباطنية) يقدمون الجانب العاطفي النفسي ويرون أن الكشف والإشراق هو الأصح.

وأوضحنا أن سلوك الطريق الأسلم يقتضي الجمع بين مصادر المعرفة من قلب وحس وعقل للتوصل إلى حقائق لا تتضارب ولا يُستغنى فيها عن أي من تلك المصادر، لذا فإن استغناء المعرفة الصوفية في بعض حقائقها عن العقل أو الحس -وربما النقل أحيانا- هو أمر محفوف بالمخاطر أصلا، ولن تنشأ عنه سوى معرفة قاصرة ومنهج أعوج.

وإذا كانت غاية المتصوف هي القرب من الله، وليس الاتحاد والفناء والمعرفة، فإن الطريق الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون كان ولا يزال كافيا لتحقيق الغاية، ودون وقوع في الشطحات التي يتبرأ منها معتدلو الصوفية، فما الداعي إذن للبحث عن طرق أخرى في فلسفات باطنية محفوفة بالمخاطر؟

وإذا كان المريد يخشى مغبة الانغلاق العقلي في حال الاكتفاء بما جاء في السنة من طرق التربية والمجاهدة والتزكية، فما هي الفضيلة التي يرجوها من الانفتاح المحض؟ فالعاقل هو الذي لا يجعل من الانفتاح هدفا بذاته بل وسيلةً لتحقيق الغاية، وهي القرب من الله كما أسلفنا، وإذا كان الاكتفاء بالسنة انغلاقا يضر بالعقل فهذا لا يعني سوى أن الانفتاح على تجارب أخرى، وضعها العقل البشري أو وسوست بها الشياطين، هو أكثر كمالا، أو على الأقل هو إكمال للسنة التي ستغدو بذلك ناقصة، وهذا يتناقض مع جوهر الإيمان.

 قال النبي صلى الله عليه وسلم “لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم” [صحيح البخاري: 6889].
فالنبي أخبر بما وقع فعلا في أمته من انقسام إلى فرق وتيارات ومذاهب، كما حدث في الأمم السابقة التي أرسل الله لها أنبياءه بالوحي الموافق للفطرة والعقل، فتغلغلت فيها الفلسفات الباطنية والوثنية والشيطانية، حتى ضاع الأصل وتبدّل على يد الكهنة، فاختلطت على عوامّهم الفلسفة بالوحي، بينما لا يزال الوحي في أمة خاتم الأنبياء محفوظا لا يضيع، وهم أولى الناس باتباعه ونبذ ما سواه.

ونختتم بما قاله ابن تيمية في الجزء الحادي عشر من مجموع الفتاوى حيث قال “طائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام. وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم, والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطىء، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب. ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه، وقد انتسب إليهم من أهل البدع والزندقة، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم”.


أهم المراجع
شهاب الدين السهروردي، عوارف المعارف، دار المعارف، مصر، 1993.

محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، دار الكتب العربية الكبرى، 1329هـ.

أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، دارالمعرفة، بيروت، بدون تاريخ.

عبد الوهاب الشعراني، الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية، دار المعارف، بيروت.

عبد الوهاب الشعراني، اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، 1378هـ.

أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق عبد الحليم محمود، دار المعارف، القاهرة، بدون تاريخ.

أبو الوفا التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، دار الثقافة، مصر، الطبعة الثالثة.

ابن تيمية، الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، مكتبة المعارف، الرياض، 1982.

ابن الجوزي، تلبيس إبليس، مكتبة النور الإسلامي، الإسماعيلية، بدون تاريخ.

ابن الجوزي، صيد الخاطر، دار القلم، دمشق، 2004.

هنري كوربان، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة حسن مروة وحسن قبيسي، دار عويدات، بيروت، بدون تاريخ.

آنا ماري شميل، الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف، ترجمة محمد السيد وزميله، منشورات الجمل، 2006.

محمد مصطفى حلمي، الحياة الروحية في الإسلام، دار الكتاب اللبناني، بيروت.

محمد كمال جعفر وحسن الشافعي، في الفلسفة مدخل وتاريخ، مكتبة دار العروبة، 1981.

علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف, 1995.

محمود المراكبي، العقائد الصوفية في ضوء الكتاب والسنة، 1996.

علي بن بخيت الزهراني، الانحرافات العلمية والعقدية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، دار الرسالة، مكة المكرمة.

رينولد نيكولسون، في التصوف الإسلامي وتاريخه، ترجمة وتحقيق: أبو العلا عفيفي، 1969.

كريم المحروس، بحث “التصوف الفلسفي.. الوافد الجديد على مناهج الحوزات الدينية”، مجلة البصائر، العدد 41، السنة 18، 1428هـ/ 2007م.

أكرم علي حمدان، بحث “الجانب الصوفي في تفسير روح المعاني”، مجلة الجامعة الإسلامية، المجلد 14، يونيو 2006.

أبو العلا عفيفي، مقال “التصوف الفلسفي في الإسلام”، مجلة الرسالة، العدد 196، 1937.

نوفل بن إبراهيم، مقال “التصوف الفرنكوأمريكي الجديد في المغرب”، موقع الصوفية، 13-9-2008، http://www.alsoufia.com/main/articles.aspx?article_no=2633

سعاد الحكيم، مقال “خاتم الأولياء: النبوة والولاية في مذهب ابن عربي”، موقع معابر، http://maaber.50megs.com/ibn_arabi/ibnarabi_5.htm

Michel Chodkiewicz, Le Sceau des saints : Prophétie et sainteté dans la doctrine d’Ibn ‘Arabī, Bibliothèque des sciences humaines, Éditions Gallimard, Paris, 1986.