مقالات

فلسفة الخطأ: كيف يمكن للخطأ أن يجعلنا أكمل؟!

حين خاف الصحابة من اقترافهم للأخطاء لجأوا إلى رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، شاكين إليه حالهم، فقال لهم هذا الحديث الجليل: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لهم بهذا) [أخرجه مسلم في صحيحه]. يعالج هذا الحديث مشكلة الخطأ البشري ضمن علاقتنا مع الاستغفار، فهو يشير إلى أن الأصل في الإنسان أن يبادر إلى الاستغفار بعد الخطأ، وأن الحالة التي يحبها الله هي اعتراف الإنسان بخطئه واللجوء إليه مستغفرين إياه، وبتعبير آخر فإن الحديث يشير إلى أن الكمال الإنساني الذي يمكن أن يتحقق به أمثالنا، ليس في أن نكون بلا أخطاء، فهذا أقرب للمستحيل، وإنما الكمال يبدأ بالاعتراف بالذنب والسعي لنيل المغفرة.

لماذا الخطأ؟ بضدها تتميز الأشياء!

الحرية الذاتية وحرية الإرادة والاختيار جزء أساسيٌّ من مقتضيات كون الإنسان إنساناً، فبها يكون الإنسان مخلوقاً مكلفاً، ومن دون حرية الاختيار لا يمكن أن يكون هناك مفاهيم كالخير والشر، إذ لو كان الإنسان مجبراً على فعل الخير لما كان هذا الخير خيراً بالمعنى الفلسفي والوجودي. فنحن ندرك معاني ثنائية من خلال وضعها في مقابل بعضها، فالأبيض لا يدرك معناه إلا بأضداده كالأسود. انظر إلى الأسماك فإنها لن تدرك معنى الابتلال بالماء كونها لا تعرف ضده وهو الجفاف، وعليه فإن إدراكنا نحن البشر لمفهوم الخطأ نابع من كوننا ندرك معنى الفضيلة، فثمة قابلية في جهازنا المفاهيمي لتقييم الأشياء وتصنيف أفعالنا وفق كونها خيرًا وشرًّا، وهذا يقتضي بالأصل حريتنا على فعل شيء أو لا، وعلى القيام بفعل خيِّر أو شرير، ووعينا بما نفعله هو من جوهر معنى الإنسان بتصوري. فالمَلَك مَلَكٌ لأنه مجبول على الطاعة، أما الإنسان فإنه مجبول على الحرية، وبالتالي فإن الخطأ منه نتيجة متوقعة بل ومنتظرة.

لماذا نخطئ؟  الإنسان .. المخلوق الذي ينسى!

لا ينفكّ الإنسان عن حالة النسيان، فالنسيان سبب خطيئة آدم الأولى[1]، وهو ما قاله ربنا {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} [طه: 115] أي نسي عداوة الشيطان التي أُعلِم بها[2]، ونقل عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: “إنما أخذ الإِنسان أنه عُهِد إليه فنسي”[3]

 وهذا النسيان المسبب للخطيئة هو الناتج عن التغافل عن التذكر، ذلك لأن النسيان كما قال الحسن ينقسم إلى قسمين: نسيان من جراء صنع الإنسان، وهو النسيان الذي يقع من غفلة الإنسان وتغافله، أما الثاني فهو الذي يقع خارج إرادة الإنسان وصنعه، والإنسان في الأول مسؤول بخلاف الثاني.

طه عبد الرحمن

عالج الفيلسوف المغاربي طه عبد الرحمن مفهوم الإنسان مبينا علاقته الوثيقة بالنسيان فقال: “كلما تأمّلتُ أحوال الإنسان في هذا الزمان واستغرقت في هذا التأمل، لم أزدد إلا يقينا بأنه لا كائن أنسى منه، حتى إني لو خُـيّرت في وضع تعريفه، فما كنتُ لأعرّفه بغير كونه الموجود الذي ينسى أنّه ينسى، ولو خيّرت في اشتقاق اسمه، فما كنتُ لأقول غير أنه اشتُق من لفظ النسيان” ويشرح هذا النسيان مبينا أنه ينسى شيء يذكّره بأنه “لا يملك من أمره شيئا، لا خَلقا ولا رِزْقا، ينسَى أنه كان في ظلماتٍ بعضها فوق بعض، بدءا بظلمة العدم وانتهاء بظلمة الحس؛ ينسى أنه لم يخلق ذرّة من ذرات بدنه، ولا نسمة من نسمات روحه؛ كما ينسى أنه كان في فاقات بعضها أشد من بعض، بدءا بفاقة النور وانتهاء بفاقة العلم؛ ينسى أنه لم يَرزُق عينَه بصرا ولا أذنه سمعا، ولا لسانه نُطقا”[4] وبناء على ما قاله طه عبد الرحمن، فالنسيان جزء من ضعف الإنسان، وهذا الضعف سبب مباشرة لخطأ الإنسان ومقارفته بعض الأفعال التي لا يصح أن نطلق عليها صفة الخير.

إن من أسماء القرآن الكريم (الذِّكْر)، وهذه التسمية تحمل بعداً مهماً، فالإنسان قد حفظ شيئا أو لنقل أُخِذَ منه وَعد، أو لنقل بلغة القرآن الكريم “حمل الأمانة”، لكن بسبب طبعه القابل للنسيان والتناسي فإنه يغفل فينسى أو يتكبر فيتناسى، ويقارف ما لا يقتضيه حمله للأمانة، لذلك جاء هذا الكتاب الإلهي ذكراً للإنسان وتذكرة له. ومشتقات الذكر في القرآن متعددة، منها الذكر والتذكرة.

النسيان حالة من الذهول عن التاريخ، لأنه وعي فقط بالحاضر، باللحظة الراهنة، وهو في نفس الوقت غفلة تؤدي لعدم تقييم الأمر أو التصرف من ناحية نتائجه وعواقبه. لذلك فإن النسيان قد يعني سعادة آنية، وقد نظر نيتشه إلى النسيان من هذه المنظور مبيناً أن الحيوانات سعيدة لأنها لا تمتلك ذاكرة دقيقة كالإنسان، فهو الكائن الوحيد الذي يقول: أنا أتذكر.

أما التذكر فإنه يعني وعياً تاريخياً عميقاً وتقييماً أخلاقياً، لأن التذكر يعني سلطة للتعقل والتدبر في الزمان ماضيه وحاضره ومستقبله، وإدراكا لـمآلات الفعل. التذكر فعلٌ من التَفعُّل، وهذا الباب في الصرف –يعني التفعل- يحتاج إلى جهد، فالتذكر وعدم النسيان والتناسي فعل شاق، لأنه يقتضي أن تخالف طبعك النفسي في النسيان وتغالب الغفلة التي تجذبك إلى ما تهواه في التناسي، وقد يستأنس لذلك بقول الله تعالى: {ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45] في إشارة إلى أن ذكر الله أمر مهم، وقد أشار أبو الدرداء صحابي الرسول إلى أهمية الذكر قائلا: “ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها إلى مليككم وأتمها في درجاتكم، وخير لكم من أن تغزوا عدوكم فيضرب رقابكم وتضربون رقابهم، وخير من إعطاء الدنانير والدراهم، قالوا: وما هو يا أبا الدرداء؛ قال: ذكر الله -عز وجل- ثم قرأ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [ذكره ابن أبي شيبة في المصنّف].

الذكر ليس مجرد حركة اللسان بل عملية قلبية تعكس مراقبة الله بالدرجة الأولى. لذلك فإن ذكر الله في السوق درجة كبيرة، لأن السوق وما يحضر فيه من أعمال قد تلهي الإنسان عن مراقبة الله وتذكر أوامره، أما ذكره يعني بمعنى مراقبته في السوق يحيل إلى الحساسية الإيمانية لهذا الإنسان الذي يذكر الله مراقبا له في حضور المال الذي يطغي.

هل الإشكالية في الخطأ ذاته؟

وبما أن طبع الإنسان مجبول على النسيان، فإن الخطأ متوقع منه، واسم الله الغفار والتواب يحيل إلى ضرورة وجود عبد يغفر الله له ويتوب عليه. وعليه فإن المحاسبة لن تكون على مجرد الخطأ، بل في عدم إدراكنا لما نقوم به من خطأ، وإن استعملنا تعبيرا آخر فإن المحاسبة ستكون على عدم توبتنا من الذنب[5]، لأن عدم التوبة يشير إلى أمرين: عدم وعي الإنسان بما يفعله، وعدم اكتراثه بما يفعله.

في الحالة الأولى فإن الإنسان مهملٌ وقع في غفلة، أما في الثانية فإنه متكبر متغافل، وكلاهما نتيجة النسيان والتناسي، فعدم وعيه بما يفعله يحيل إلى عدم التفكير في المآل، أما تكبره، فيشير إلى عدم إرادة التذكر أصلاً.

لقد أدرك نبي الله آدم ما فعله، فبادر إلى التوبة مبرزاً ندمه وحاجته إلى المغفرة: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الظالمين} [الأعراف: 23]، فجاء الجواب من الله تعالى {فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37]. لقد كانت التوبة طريقا لآدم يدرك من خلاله المعركة الأخلاقية التي يجب أن يخوضها، وأدرك أن التذكر هو الخلاص الأخلاقي من النسيان وأن طريق التذكر يكمن في اتباع هدى الله {فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 38].

التوبة .. فرصة للقيام من جديد

إن الله يحب التوابين، هذا ما أكرمنا الله بنص القرآن، ولعل الخطأ ينطوي على فضيلة أنه يتحول لدى الخاضع لله إلى وسيلة للتذكر، وطريقا لمراجعة الإنسان نفسه، ومحاسبتها، والعدول عما فعله من تقصير وأخطاء، ولذلك قيل: “رب معصية أورثت ذلا وانكسارا، خير من طاعة أورثت استكبارا” [حكم ابن عطاء الله السكندري].

عالج علماء المسلمين موضوع عدم اقتراف الذنب أخلاقيا مبينين أنه “إذا لم يقترف ذنبًا، ولم يقدم على معصية، وداوم على البر والتقوى، فينظر إلى غيره ممن غرق في بحار المعاصي، أو أتى مخالفة، أو ارتكب محظورًا؛ فإنه يرى نفسه خالية من كل ذلك، فيدخله العجب، فلا يلجأ إلى بارئه، ويستفتح بابه، ويسأله، ويتواضع له، ويتذلل، فلا تظهر عظمة الربِّ وجلاله، ويخفى سرُّ الألوهية”[6]، لكن هذا الأمر مرتبط بالتوبة والاستغفار، لأن التوبة طريق أخلاقي يوصل العبد إلى محبة الله تعالى باعتبارها تذكراً. فإن كان الذنب نسياناً فإن الاستغفار تذكر. ولذلك فإن العبد يحاسب يوم القيامة على عدم تذكره، عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال صلى الله عليه وسلم-: (يَلْقَى العبدُ ربَّه يومَ القيامةِ فيقولُ اللهُ جلَّ وعلا: أيْ فُلُ ألَمْ أخلُقْكَ؟ ألَمْ أجعَلْكَ سميعًا بصيرًا؟ ألَمْ أُزوِّجْكَ؟ ألَمْ أُكرِمْكَ؟ ألَمْ أُسخِّرْ لكَ الخيلَ والإبلَ؟ ألَمْ أُسوِّدْكَ وأذَرْكَ ترأَسُ وتربَعُ؟ فيقولُ: بلى أيْ ربِّ فيقولُ: فظنَنْتَ أنَّكَ مُلاقِيَّ؟  فيقولُ: لا يا ربِّ فيقولُ: اليومَ أنساكَ كما نسِيتَني) [أخرجه ابن حبان في الصحيح]

وللتوبة شروط!

بالنظر في شروط التوبة نرى عدة أمور نستطيع أن نقرأها أخلاقياً على الشكل التالي: يجب أولاً الاعتراف بالذنب، فالاعتراف يقتضي أن الإنسان قد تذكَّر فحاسب نفسه، وأدرك تقصيره فيما فعله، فبادر للاعتراف.

أما ثانيها، أي عدم الإصرار، فلأن الإصرار يحيل إلى أن الشخص لا يرى في الذنب ذنباً أو يرى في نفسه قوة لمقارفته، وهو في ذلك ينسى أو لا يريد أن يذكر مبدأه ومعاده. فثمة فرق بين الإصرار على الذنب، والعودة إلى فعل الذنب، والفرق بينهما في القلب، فإن كان العودة إليه من ضعف البشر أمام الذنب فإنه ليس بإصرار، بخلاف المصرين، ولذلك ورد في تعريف المصرّين في الحديث بأنهم: (الذين يصرّون على ما فعلوا وهم يعلمون) [أخرجه أحمد في المسند]، وقد بُيِّنَ في حديث أن المستغفر ليس بمصر وإن عاود فعل الذنب ضَعْفاً. وإذا أردنا أن وضعنا هذه الأحاديث في نسق أو إطار واحد فيمكن القول بأن المصر هو من يكرر فعل الذنب دون نسيان ودون ضعف. أما الضعف البشري وما يقتضيه من مقارفة الذنب فإن قبول توبته مرهون بصدق قلبه العبد في التوبة

أما آخر الشروط فهو: الندم وردّ الحقوق إلى أصحابها، فالندم مهم باعتباره الحالة الروحية التي يرى الإنسان فيها نفسه مذنبا مدركا لأنه مستحق للجزاء، أما رد الحقوق إلى أصحابها، فإنه مهم لتستقيم الأمور بعد الخطأ.

مسك الختام

الإنسان مخلوق عجيب فهو جرم صغير لكن العالم الأكبر فيه انطوى، فهو على خلاف المخلوقات الأخرى يملك وعيا أخلاقيا بناء على وعيه بامتلاكه للحرية والاختيار. وهذا الوعي يجعله مدركا لأفعاله ابتداء وانتهاء. الخطأ واقتراف الخطأ قَدَر في حياة الإنسان الناقص، ومن قَدَره أيضًا امتلاك الحرية على النسيان والتذكر، فإن حوّل الخطأ وسيلةً للتذكُّر فذلك خطوة إلى الكمال، وهذا مرتبط بوعي الإنسان الذي سيدفعه إلى محاسبة نفسه والتوبة.


[1] انظر طه عبد الرحمن: روح الدين: 13

[2] الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره، وأحكامه، وجمل من فنون علومه 7/4706

[3] تفسير الطبري 16/182

[4] المرجع السابق: 13

[5] الكلاباذي، بحر الفوائد 363

[6] الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية 159

لا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء!

لن نحتاج لوقت طويل من التفكير لندرك أن وجه العالم قد تغيّر، وأنه قد عمّ الفساد الأرض بما كسبت أيدي الناس، فلم يتبقَّ سوى ثلة من المسلمين هنا وهناك يسعون لإصلاح ما فسد بأيدي الناس، لكنهم –لقلتهم- باتوا كالغرباء، – فقد أتى الزمان الذي يُعيّر فيه المؤمن بإيمانه كما كان يعيّر الفاجر بفجوره، فأصبح المؤمن لا يدري إلى أين يهربُ بدينه وماذا يصنع فرارًا من الفساد الذي قد ساد المجتمع.

يميل الإنسانُ بطبعه إلى الاجتماع بالناس، والأنس بهم وبحديثهم فلا يقوى على أن يعيش منعزلاً وحيداً، ولكنه في الوقت نفسِه يتأثر بمن يخالط ويعيش معه، فمن جالَس جانس، ومن شاهد معصية ينكرها في المرة الأولى، فإنه يكاد يألفها في المرة الثانية أو الثالثة أو العاشرة! ويمتد أثر ألفة المعاصي التي يراها المؤمن ليلاً ونهاراً إلى فؤاد الإنسان وبيته وعمله، وترافقه في حله وترحاله، حتى تصبح مما لا ينكَر ومما قد فرض على الناس أمراً واقعاً لا مهرب منه.

هل يدعونا الإسلام للعزلة؟

هذا الشرّ الذي قد ساد المجتمع دفع بقلة قليلة إلى أن ينعزلوا ويحتملوا في سبيل ذلك ما يقاسونه من الوحدة والوحشة، حيث إن ما يسلّيهم هو أن أنسهم في وحدتهم بالله، وأنه معهم وملجأهم أين ما حلّوا واستقروا.

بالرغم من ذلك فإن الإنسان بحاجةٍ إلى من يشاركه الطريق الذي يسير به، فينهض به لحظة وقوعه في الزلَل ويكون داعمًا له ليصل إلى حال صلاحه؛ إذ إن الشيطان أقرب للواحد منه إلى الاثنين، وكذلك إنما يأكل الذئب من الفرائس القاصية الضعيفة، والجماعة رحمة وعصمة للإنسان، وقد جاء التوجيه الإلهي يحثنا عليها، إذ قال الله عز وجل موصياً نبيه عليه الصلاة والسلام: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} [الكهف: 28]، وقد أوصى الله عز وجل نبيه المعصوم بأن يكون مع الجماعة الصالحة التي تستقيم عندما يفسد الناس، فكيف الحال بمن هم دون النبي عليه الصلاة والسلام إن لم يلازموا الجماعة؟

ترسيخ الواقع بيد الجماعة

ولأنّ القصص أكثر رسوخاً في عقل الإنسان من الكلام المجرد، فلنقف عند القصة التي حدثنا رسول الله عليه الصلاة والسلام بها، إذ قال:

“كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على راهب. فأتاه فقال: إنه قتل تسعاً وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على رجلٍ عالمٍ فقال: إنه قتل مائة نفسٍ فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلِق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوءٍ” [متفق عليه]

تؤكد لنا مقولة هذا العالِم الذي آتاه الله العلم والفقه والبصيرة الواجب اتباعه في زماننا، فهو لم يقل لسائله بأن عليك أن تذهب إلى الجبال فتبحث لك فيها عن كهفٍ وتعتزل الناس جميعهم وتعبد الله وحدك حتى تلقاه وحدك، بل قال -بما فتح عليه الله-: بأن عليه أن يذهب إلى بلادٍ ينتشر فيها الصلاح والتقوى كأحد أهمّ سماتها وحتى أصبح الغريب فيها والملامُ هو من يعصي ويفجر لا كأرضك التي كنت فيها والتي قد ساد فيها الفساد والفجور والشر حتى صار يعاب المؤمن بإيمانه ويمدح الفاجر بفجوره.

لقد أقر الرسول عليه الصلاة والسلام ذاك العالم على توجيهه، وهذه هي الخطوة الأولى لمن أراد التوبة، لأن من بقي في بيئته نفسها، وهو يريد إصلاح نفسه، فإنه يوشك أن يعود إلى ما كان عليه، وقد لا يتطلب الأمر أن يهاجر التائب من أرض إلى أرض، بل يكتفي بأن يهجر رفاق السوء المحاطين حوله من كل جانب، ويستبدلهم بآخرين يعينونه على طاعة الله ومرضاته، فرفاق السوء هم العائق الأول في طريق التوبة، ويظهر لنا ذلك عياناً، فنرى ذلك الذي أراد أن يترك الخمر أو الزنا، لكنه لم يشأ أن يتخلى عن رفاقه السابقين، فيستمرون بملء رأسه بأفكارهم قائلين له: عش شبابك، فإنك لن تحيا حياتك إلا مرةً واحدة، ولا تحرم نفسك من شيء! وبأنه يمكن له عندما يشيخ أن يتوب! متجاهلين أن من شب على شيء شاب عليه، وأن من يحرم نفسه من هذه الشهوات في هذه الدنيا القصيرة ثم تعقبه كل الخيرات في الآخرة خير له من أن يتبع نفسه هواها في هذه الرحلة القصيرة ثم لا يكون له في الآخرة من خلاق.

وإن عرفوا بأن أفكارهم الفاسدة لن تؤثر به فإنهم لا يزالون يهزؤون به ويعيرونه بـ”المشيخة” حتى يعود إلى ما كان عليه بل ربما إلى أسوأ مما كان عليه!

حين يعم السوء!

إن حال الأشخاص الذين أشرنا إليهم آنفًا مع صديقهم، كحال ذاك الثعلب الذي وقع حجر على ذيله فقطعه، فعندما رآه ثعلب آخر مقطوع الذيل سأله لم قطعت ذيلك؟ فأجابه بأنه يشعر بالسعادة وكأنه طائر بالهواء وأن يا لها من متعة! فجعل الثعلب الآخر يقطع ذيله، فلما شعر بألم شديد ولم يجد متعة مثله، سأله: لماذا كذبت علي؟

قال: إن أخبرتَ الثعالب بألمك، فإن ذلك لن يدفعهم ليقطعوا ذيولهم، بل سيسخرون منا، ومن هنا ظلت الثعالب تخبر كل من تراه بمتعتها في العيش دون ذيل، حتى أصبحت غالب الثعالب بلا ذيل! وحين كانوا يرون ثعلباً بذيل سخروا منه!

إن حال كثير من المجتمعات في زمننا هذا كحال تلك الثعالب، فلعموم الفساد وتغير الأهواء، صار الناس يعيرون الصالحين بصلاحهم! ويتخذونهم مادةً للاستهزاء والسخرية، ومن ثمّ فإنه لا بدّ لكل من أراد صلاحاً وتوبةً وحال من حوله كتلك المجتمعات، فإن عليه أن يهجر موطن الشر والسوء إلى موطن الخير والتقوى، فالانغماس في مجتمع المعصية كفيل بالوقوع فيها وألفتها، وحين يكون ذلك، تصعب التوبة، أو تكاد تكون أقرب للمستحيل، والعياذ بالله.