مقالات

الأسئلة الوجودية الكبرى

بعد أن نؤمن بوجود الله تعالى، وبصفاته وكماله المطلق، وبوجود الوحي المعصوم المنزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ قد تبقى هناك بعض الأسئلة التي يقلبها العقل ويضيق بها الصدر، وهي أسئلة يشترك في بحثها كبار الفلاسفة مع صغار المراهقين، لكونها نابعة من أعماق النفس البشرية التي لا يختلف على فطرتها اثنان مهما تنوعت الثقافات والمشارب.

سنحاول في هذا المقال طرح أهم تلك الأسئلة، ثم نواصل السير في سبيل البحث عن أجوبة لها بأدوات المعرفة التي تزودنا بها في مطلع الرحلة، وسيكون طرحها متسلسلا ومتدرجا وفقا للترتيب الذي تخطر به على العقل في العادة.

لماذا خلقنا الله؟

ينبغي أن نحدد من البداية مصدر المعرفة الذي سنلجأ إليه للبحث في هذا السؤال، وبما أن السؤال يتعلق بأفعال الله تعالى، فإن الوحي الصادر عنه هو الوحيد الذي يمكن الاطمئنان إليه، لأن العقل سيعجز عن الخوض فيما يتجاوز حدوده، ولأن الكشف (الإلهام والحدس) ليس مصدرا مأمون الجانب في هذه المسائل الغيبية [انظر مقال مصادر المعرفة].

والسؤال بصيغة “لماذا” في قضية وجودية كبرى قد يتضمن مستويين من البحث، وهما العلة أو السبب (الظاهر) والحكمة (العميقة)، وسنستعير من علم أصول الفقه هذا التمييز على اعتبار أن علة الحُكم هي الوصف الظاهر المعرِّف له، أما الحكمة فهي الغاية النهائية للحكم والتي يترتب عليها تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة. فمثلا علة قصر صلاة المسافر هي السفر، أما ما يسمى بالعلة الغائية (الحكمة) فهي التيسير ودفع المشقة عن الناس، وقد يتسبب الخلط بين العلة والحكمة بالكثير من اللبس.

وقد وجد الفقهاء في أحكام الشريعة أن هناك أموراً لم يوضح الشرع علتها، فتظل الحكمة منها أيضاً خفية، مثل عدد ركعات الصلاة، فالمؤمن يعلم من منطلق يقينه بحكمة الله أن لهذا التشريع المحدد غاية وحكمة، ولا يصعب على عقله التصديق بأن خفاء الحكمة عنه لا يعني عدم وجودها.

وعندما نطبق هذا الفهم على خلقنا نفسه من حيث خروجنا من العدم إلى الوجود، فسنعود إلى الوحي لنكتشف أنه أوضح لنا الغاية في أمر محدد بوضوح، وهو عبادة الله، حيث قال القرآن الكريم: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، وقال: {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [هود: 7]. ويضيف بعض المفسرين غاية أخرى هي إعمار الأرض، أي إقامة العدل وتحكيم شرع الله وتحقيق مصالح الناس، مستندين إلى قوله تعالى {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود: 61]، ويمكن القول إن الإعمار مشمول بالعبادة نفسها، فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة كما يقول ابن تيمية [انظر مقال شريعة الإسلام].

لحظة الولادة

كما نص الوحي على أن خلق الإنسان والكون لم يكن عبثاً، فقال: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115]، وقال: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} [ص: 27]، فالآية توضح أن الكافرين يسيؤون الظن في الحكمة من خلق الكون، وهي تؤكد أن لله حكمة وإن خفيت عنا، وتجيب أيضاً على أسئلة يطرحها البعض من قبيل: لماذا خلق الله كونًا بكل هذا الاتساع المهول ونحن لا نشغل منه سوى مساحة صغيرة جداً؟ والجواب أننا لا نعلم إن كنا وحدنا المخلوقين فيه، وحتى إذا لم يكن هناك غيرنا فليست هناك علاقة ضرورية (عقلية أو تجريبية) بين صغر حجم كوكبنا في الكون وبين كونه مسخراً لنا من عدمه، فيكفينا من اكتشاف عظمة الكون أن نزداد إيماناً بعظمة الله، وهو تعالى قد نفى العبث عن هذا الخلق الهائل المعجز، فغياب جانب من الحكمة في خلقه عنا لا يعني العبث بل يثبت نقصنا وعجزنا، لكن العجيب أن الإنسان يزداد كفراً بالخالق العظيم كلما ازداد اكتشافه لضآلة حجم البشرية وسعة خلق الله بدلاً من العكس، وهذا ما يحدث في العالم المعاصر منذ ما يسمى بعصر النهضة.

والقرآن الكريم لم ينفِ العبث في خلق الكون فحسب، بل نفى اللهو واللعب أيضاً، فقال {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين، لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنّا إن كنا فاعلين} [الأنبياء: 16-17]، أي أن الخالق جل وعلا لو أراد أن يتخذ زوجة (كما يتوهم أصحاب الأساطير عن الآلهة التي تتزوج وتنجب) لاتخذ زوجة من عنده لكن ذلك لا ينبغي لمقام الألوهية. وقال الإمام المفسر مجاهد بن جبر في الآية: {لاتخذناه من لدنا} أي “من عندنا، وما خلقنا جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا”.

إذن فالوحي يوضح لنا أن خلقنا كان بغاية عبادة الله، وأن خلقنا وخلق الكون لم يكن عبثا ولا لهوا. إلا أنه لم يوضح لنا ما هو أبعد من ذلك، فلم يخبرنا مثلاً عن الحكمة من تكليفنا بالعبادة أصلا، أو من وضع شروط العبادة وتفاصيلها على النحو الذي أمرنا به، أو من خلقنا وخلق الكون على النحو الذي نعرفه.

والعقل لا يستطيع الوصول إلى الغايات الأولى للوجود حيث لم يكن موجودا آنذاك، كما لا يستطيع التفكير بمنطق خارج عن التجربة والحدس والبديهيات المغروزة فيه. والعلم التجريبي يبحث في الكيفية وليس في الحكمة، أي أنه يجيب عن “كيف” وليس عن “لماذا”، وطالما أن الوحي لم يخبرنا عن الحكمة من الوجود على هذا النحو فلا ينبغي لفيلسوف ولا عالم أن يضيعا الوقت في البحث عنها.

وهذا لا يعني أن نُجبر عقولنا على عدم طرح الأسئلة، فالعقل لا يمكنه التوقف عن التفكير، ولكن عندما نجرده عن الهوى يمكننا أن نضبط أسئلته لتصبح محدودة بحدود قدراته، ومن ثم تكون أسئلته قابلة للبحث كي يتمكن في النهاية من الإجابة عنها، والعقل يعرف مسبقاً أن أجوبة الأسئلة الماورائية الغيبية (ميتافيزيقية) التي يولّدها ليست دائماً في متناوله، بينما يعرف أن من الأسئلة القابلة للبحث سؤالنا: هل الخلق نفسه على هذا الشكل كان عبثا؟ والعقل يقر ما أقره الوحي من نفي العبث، فعبثية الخلق ليست ضرورية أصلاً من جهة المنطق، والتجربة والعادة تنفيان بدورهما العبثية عن الكون المعجِز بدقته، ما يؤكد بالمجمل أن لهذا الكون خالقاً مدبراً حكيماً، وأن لكل جزء من هذا الكون غاية وسبباً حتى لو لم نفهم الحكمة من وجوده على هذا النحو أو ذاك.

والسؤال التالي القابل للبحث هو: هل تحقيق غاية خلقنا نحن يتعارض مع العقل أو الضمير؟ والجواب هو: لا، فمن المفهوم بكل بساطة أننا خُلقنا لنعبد الخالق ونعمر أرضه، كما أن إنجاز المطلوب ليس فيه ما يتعارض مع المبادئ الأخلاقية، بل إن العقل والضمير يجدان صعوبة في تقبل افتراض عبثية خلقنا، فإذا كانت نفسُ الإنسان المتشكك تستبعد وجود الحكمة الخفية بسبب حيرتها أمام مظاهر الخلل والشر والنقص في العالم، فيجدر بعقله أن يتساءل كيف يمكن لهذا الكون المُعجز بأدق تفاصيله المدهشة أن ينشأ عن صدفة؟ أو حتى أن يكون مخلوقا من قبل إله “غير حكيم”؟ إذ يبدو أن الشكوك تتعلق بزاوية النظر إلى الأمور وليست ناتجة عن إلحاح عقلي مجرد.

وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم “كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض” [صحيح البخاري: 3020]، وهذا يعني أن الله كان موجودا وحده ولم يكن هناك أي مخلوق في الوجود، ثم خلق الله تعالى عرشه وجعله على ماء، ثم خلق الكون بسماواته وكواكبه. والعلم التجريبي لا يستطيع الخوض في ما قبل لحظة “الانفجار العظيم” التي يُعتقد أنها بداية الكون، ولا يستطيع أيضا أن يعرف من أين جاءت الكتلة الهائلة في الكثافة وفي الصغر التي انفجر منها الكون (على افتراض صحة نظرية الانفجار العظيم)، كما لا يمكن للعقل أن يبحث في تلك البداية وما قبلها لعدم وجود أي دليل تجريبي أو شاهد يقيس عليه، فلا مفر من التسليم بما يخبرنا به الوحي عن وجود الله الأولي وعن خلقه للكون، وذلك بعد أن آمنا اضطرارا بأنه لا بد من موجد للكون [انظر مقال وجود الله].

وإذا سلمنا بوجود الله وبخلقه للكون، فلا بد أن يسلّم العقل بما أخبرنا به من غاية هذا الخلق، أما الحكمة مما وراء ذلك ومن التفاصيل الدقيقة للخلق فلم يُطلعنا الوحي عليها ولم يكلفنا بالبحث عنها، ومن يدفع بعقله لمحاولة تجاوز حدوده فلن يصل إلى أي معرفة يقينية، وحتى إذا بلغها بضربة حظ جدلاً فلن يكون بمقدوره أن يبرهن عليها، لذا لجأت الفلسفات الغنوصية والباطنية التي خاضت في الغيبيات إلى مزاعم الكشف والإلهام، لعجزها عن تقديم براهين على نظرياتها.

بناء على ذلك، لا ينبغي للعاقل أن يضيع وقته وجهده في محاولة الخوض في الغيب دون أن يملك الأدوات المناسبة، كما لا يرمي المغامر بنفسه في كهف مظلم دون أن يحمل خريطة ومصباحا وبوصلة وسلاحا وطعاما وغير ذلك مما يحتاجه في الحالات الطارئة، أما إذا علم مسبقا بأن آلاف المغامرين الأبطال قد دخلوا هذا الكهف وضاعوا فيه ولم يخرجوا فمن الجنون أن يرمي بنفسه فيه، كما أن من العبث الخوض فيما حاول فيه كبار الفلاسفة دون جدوى.

ومن المهم أن معرفتنا للحكمة الإلهية من كل شيء خلقه -في حال حدوثها- لن تؤثر في طبيعة حياتنا ومسؤولياتنا تجاه خالقنا، فنحن جميعا وجدنا أنفسنا داخل “متاهة” هذه الحياة بكل ما فيها من كبد، واهتدينا بالوحي والعقل إلى غاية هذا الوجود، فالعاقل منا هو الذي يبحث عن الخطة الإرشادية (الوحي) التي وضعها خالق هذه “المتاهة” كي يصل إلى بر الأمان، ثم يبذل كل جهده ووقته في اتباع سبيل الحق لينجو قبل فوات الأوان وانقضاء العمر، ولا يهدر وقته المحدود في البحث عن حكمة أخرى وراء وجوده في تلك المتاهة أو وراء خلق المتاهة على هذا النحو الذي وجده.

وعندما يرفض أحد ما اتباع الخطة الإرشادية بعد اتضاح صحتها فهو مجرد رافض سلبي، لأنه لم يجد لنفسه طريقا آخر للخلاص، بل اكتفى بالبقاء داخل المتاهة للتمتع بما فيها من بعض المتع والمُلهيات الزائلة، وهو يعلم يقينا أن بقاءه هناك مؤقت، بل يعلم أيضا أن لحظة زواله (الموت) ستأتي فجأة وبدون سابق إنذار. أما من يزعم أن الخطة الإرشادية لا تكفيه لأنها لا تجيب على كل أسئلته (مع أنها توصله إلى بر الأمان)، فهو لا يقل حماقة عن الأول، لأن طريق الخلاص كان متاحاً بين يديه لكن اغتراره بنفسه شغله بأمر آخر فأضاع من يده فرصة الخلاص الوحيدة.

وربما يلاحظ القارئ الكريم أن الكثير من الملحدين واللادينيين لا يخاطرون بحياتهم كما يخاطرون بآخرتهم، فيصرون على رفض الإيمان بالله والوحي طالما أنهم لم يدركوا الحكمة من إرادة الله في خلقه، وفي المقابل ينخرطون في متاهات الحياة المادية ويثابرون للوصول إلى أعلى درجات النجاح الاجتماعي والعلمي والمهني مع أنهم لا يعرفون الحكمة من وجودهم في هذا العالم، وقد يكون أحدهم مستعدا للخوض في تحديات صعبة دون أن يبادر بالبحث عن الحكمة من وجودها مكتفيا بأنه يعلم غايتها فقط، وهي تحقيق بعض مصالحه.

والبحث عن الحكمة ليس هو المطلوب أصلا في الكثير من معاملاتنا اليومية، فإذا كان أحد الطلاب داخل قاعة الامتحان بمادة الرياضيات، ووجد سؤالا يتطلب بعض التفكير والتأمل، ثم اهتدى إلى الجواب من خلال ما يحفظه من نظريات رياضية، فهل يجب عليه أن يتجاهل هذه النظريات التي اختبرها خبراء قبله وجربها هو بنفسه أثناء دراسته؟ أم عليه أن يتباهى بقدراته العقلية ويبدأ بالبحث أثناء الامتحان عن برهان رياضي للنظرية نفسها قبل أن يستخدمها في الحل؟

وماذا نقول أيضا لو قرر هذا الطالب أن يترك النظرية التي يحفظها وبدأ بالتفكير في إبداع نظرية جديدة توصله إلى الحل بحجة أن براهين النظرية الأولى لا تجيب على كل أسئلته، بالرغم من اعترافه بأن النظرية صحيحة وكافية لحل المعادلة؟

وفي مثال آخر، لنتخيل أيضا أن شخصا ما يعاني من مرض عضال، وأن الطبيب أخبره بأن الدواء الذي وصفه له هو الوحيد المتاح في العالم لإنقاذه من موت محتم، وأن جميع النظريات العلمية المتاحة تؤكد أنه لا يمكن إيجاد دواء ناجع آخر (جدلا)، فهل يهمل المريض -إذا كان عاقلا- خبرات الأطباء ويبدأ بالبحث عن علاج أفضل مخاطرا بحياته مع أن الوقت ينفد منه بسرعة؟

والأمر لا يتعلق هنا فقط بضيق الوقت وقلة خبرة الطالب أو المريض، فحتى لو لم يكن هناك امتحان محدد بوقت ضيق أو مرض ينهش جسد المريض، وحتى لو كان الطالب عالما فذا وكان المريض صيدلانيا بارعا، فهناك بعض النظريات الرياضية التي لا يمكن البرهنة عليها مع أنها صحيحة عمليا، كما أن هناك بعض الأدوية التي لا يُعرف سبب فعاليتها مع أنها مفيدة، فمن حق العالم الرياضي أن يبحث عن برهنة كما يحق للصيدلاني أن يقضي عمره في محاولة فهم سبب فعالية الدواء، لكن كلا منهما سيظل يستخدم تلك النظرية وذاك الدواء طالما أنهما يحققان الفائدة حتى لو لم يجدا الأجوبة الكاملة على كل الأسئلة.

فإذا قلنا إن هذه الأمثلة تتعلق بجوانب عقلية وعلمية قابلة للبحث، فإن الحكمة من إرادة الله واختياره وبعض تفاصيل خلقه هي خارج التأمل العقلي والبحث التجريبي أصلا، فلماذا يهدر أحدنا عمره في انتظار اكتشافها؟ ولماذا يخاطر بحياته ومصيره طالما ثبت له أنها خارج قدرات العقل البشري نفسه؟ بينما يمكنه أن يختبر صحة الوحي الذي بين يديه، وأن يصل إلى علم يقيني بصحة نسبة الوحي إلى الخالق، وأن يجد فيه دليلا يرشده إلى الطريق الآمن في هذه الحياة، بل ويجد في هذا الوحي أيضا تحذيرا شديدا من أن عدم التزامه به سيؤدي به إلى مصير مؤلم.

لماذا وضعنا الله في اختبار صعب كهذا دون أن يكون لنا الخيار فيه؟


هذا سؤال مهم جدا، وقد كان يتردد في ذهني منذ طفولتي، فنحن وعينا على وجودنا في هذه الحياة فجأة، وعلمنا من والدينا أنهم خرجوا إلى الحياة بالطريقة نفسها، وأننا جميعا سنموت لنقف بين يدي الله كي نُحاسب على كل صغيرة وكبيرة، مع أنه لم يؤخذ رأينا -كما يبدو- فيما إذا كنا أصلا نريد خوض هذا الاختبار الصعب، لا سيما وأن فيه مجازفة كبيرة جدا، فالفاشل فيه لن يخسر صحته أو ماله أو شيئا من حياته العابرة، بل سيدخل نار جهنم بكل ما فيها من عذاب دائم.

وبما أن هذا السؤال يخوض في عمق الغيبيات التي لا يبلغها الحس والعقل، فلا سبيل لتحصيل إجابته سوى بالبحث في نصوص الوحي الذي أثبتنا سابقا صحة صدوره عن الله تعالى [انظر مقال الوحي القرآني]، حيث يخبرنا القرآن الكريم أن الإنسان قد خُير بالفعل.

يقول الله تعالى {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب: 72]، وفي عدة روايات عن ابن عباس نجد أن الأمانة هي الطاعة والفرائض، حيث يقول إن الله عرض هذه المسؤولية على تلك المخلوقات فاعتذرت عن تحملها، ثم عرضها على آدم وقال له: إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ فقال: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جُزيت، وإن أسأت عوقبت. فأخذها آدم فتحمّلها.

وفي آية أخرى يقول تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172]، وأجمع المفسرون على أن هذه الآية تعني أن الله أخرج جميع بني آدم (وعددهم بالمليارات كما نعلم) من ظهره على هيئة الذر (أي مثل النمل الصغير)، ثم سألهم ألست بربكم؟ قالوا بلى، ويقول المفسر مجاهد بن بكر “فقالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين”، أي أن الملائكة شهدت علينا أيضا باعترافنا بوجود الله وعبوديتنا له. وقد نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من حديث يؤول هذه الآية بهذا المعنى.

ويستنتج بعض العلماء أن التخيير كان لكل واحد منا، وليس لآدم وحده فقط. وقد يقول قائل: ولكن لا أذكر أني تعرضت لهذا التخيير ولا أذكر أني شهدتُ أمام الملائكة بأن الله هو ربي. والجواب هو أن الله أعاد بني آدم جميعا إلى ظهره ليخرج كل منهم في وقته إلى الدنيا ويدخل هذا الاختبار بعد أن مُسحت تلك الحادثة من ذاكرته، إلا أنه وضع لنا علامات في الطريق، وترك فينا فطرة الشعور بألوهيته وعبوديتنا له، وأرسل لكل أمة رسولا كما يقول {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر: 24]، ثم ذكر الله هذه الحادثة في الوحي المرسل وأخبرنا أن الملائكة شهدت علينا، وسمح لنا بالتحقق من صحة الوحي [انظر مقال الوحي القرآني] ومن صدق المرسلين [انظر مقال نبوة محمد]، وزوّدنا بأدوات البحث الكافية للتحقق والاختبار والفهم والاقتناع [انظر مقال مصادر المعرفة]، ومنحنا الوقت الكافي لذلك، كما أعطى كلا منا حرية الاختيار بين التصديق والإنكار، وعليه فإنه يمكننا أن نفهم مبدئيا أن وضْعنا في هذا الامتحان لم يكن ظلما.

وينبغي ألا ننسى أننا نتعامل في هذه الحياة وفق مبدأ التسخير، حيث لا نجد معضلة أخلاقية في تفاوت درجات الناس بالمجتمع طالما لم يظلم الأعلى منهم الأدنى، فلماذا إذن يتمرد البعض على خالقهم دون أن يعترضوا في المقابل على انصياعهم لسلطة بشر يماثلونهم في الخلقة؟

والظاهر أن ورود الاعتراض على ذهن أي منا -بشأن خلقه دون اختيار منه- هو خاطر نفسي ينشأ عن حالة تذمر من مصائب الحياة ومشاقها، وهذا الخاطر لا يطرأ إلا نادراً، وليس ملازماً لذهن أكثر الناس تساؤلاً وتذمراً إلا أن يكون مصاباً بالاكتئاب وبحاجة للعلاج، فلا نكاد نسمع مثل هذا الاعتراض من شخص يتقلب في النعم الحسّية وهو يستمتع بحياته، ما يؤكد أن المشكلة نفسية لا عقلية. فإذا افترضنا إذن أن المُعترض قد خرج من هذه الحياة الشاقة وفتح عينيه على عالم الآخرة، ووجد نفسه فجأة بين أهل الجنة وهم يدخلونها ليخلدوا في نعيم مقيم، فهل سيخطر بباله حينئذ الاعتراض السابق على خلقه؟ أم أنه سيحمد الله على خلقه وابتلائه في حياة قصيرة عابرة لينقله إلى جنة فيها من مقومات السعادة ما يتجاوز أحلامه، بل وما ينسيه كل ما كان من أسباب التذمر في الدنيا؟

لماذا خلق الله الشر؟


سنناقش هذا السؤال من خلال إثباتنا للمغالطات المنطقية في ما يسمى بمعضلة أبيقور، التي أخذت اسمها من الفيلسوف اليوناني المتوفى في القرن الثالث قبل الميلاد.

الفيلسوف أبيقور

يقول أبيقور: إن الشر موجود أصلا في الدنيا، وهذا يعني أنه أمام ثلاثة احتمالات تفسر وجوده، وهي:

1- أنه ليس هناك إله أصلا ليمنع وجود الشر.

2- هناك إله، وهو يريد منع الشر، إلا أنه عاجز عن ذلك.

3- هناك إله، وهو يستطيع منع الشر، إلا أنه لا يريد ذلك.

ويزعم أبيقور أنه أمام خيارات ثلاث فقط، وهي عدم وجود الإله، وجود إله عاجز، ووجود إله شرير.

والمغالطة الأولى في هذه النظرية أن أبيقور لم يبحث في أصل الشر نفسه، وافترض أن الشر حقيقة موضوعية، وكأنها موجودة بذاتها وليست قيمة أخلاقية نسبية، فوجودها بهذا الشكل المزعوم يتنافى أصلا مع وجود الإله.

ويحق لنا أن نسأله: من أين اكتسب الشر حقيقته الموضوعية هذه؟ فالعالم المادي المجرد لا يملك أي مقياس للخير والشر ولا يمكنه منح أي شيء صفة خيرية أو شرية.

إذن فالشر يكتسب قيمته من عالم مفارق، من مصدر آخر خارج المادة، وهو الإله نفسه الذي خلق ثنائية الخير والشر وجعلهما متقابلين ليتميز أحدهما عن الآخر، وليفهم العقل وجودهما، وهذا يعني أن الاحتمال الأول باطل منطقيا.

أما الاحتمالان الثاني والثالث فهما ناشئان عن مغالطة “قياس الغائب على الشاهد”، حيث يقيس أبيقور صفات الإله الذي يتخيله على صفات البشر، ويجعل الشر والعجز قيمتان موضوعيتان مستقلتان ليحكم بهما على الإله نفسه.

فوجود الشر (سواء كان موضوعيا أو نسبيا) لا يستلزم أن “يضطر” الإله لمنعه كما يقول أبيقور، فالإله ليس في موضع اختبار أمام خلقه ليكشف لهم عن مدى قدرته، إلا إذا كان أبيقور يتحدث أصلا عن إله أسطوري على هيئة زيوس أو أبنائه الذين يتصارعون ويخسرون ويغضبون ويمارسون الرذيلة، فالميثولوجيا اليونانية تفترض وجود آلهة تشبه البشر في كل شيء، إلا أنها أكثر قوة نسبيا (وليست مطلقة القوة) وخالدة لا تموت. [انظر مقال الوثنية].

لكن الإله الذي نتحدث عنه هو إله مطلق القدرة، ومطلق الإرادة أيضا، فإن شاء أن يخلق الشر فله ذلك، وليست هناك أي ضرورة عقلية تربط بين وجود الإله القادر وبين وجود الشر كقيمة أخلاقية نسبية بين خلقه، أي أن وجود أي قيمة أخلاقية بين قائمة المخلوقات التي خلقها الإله لا يعني أن الإله نفسه يتصف بها.

ولو كان وجود الشر بين المخلوقات يستلزم أن يكون الإله الخالق نفسه شريرا، فإن وجود الخير أيضا بين تلك المخلوقات سيستلزم أن يكون الإله خيّرا كذلك، فكيف يجمع هذا الإله (المفترض) بين المتناقضات؟

وما يقال عن الشر يقال عن كل الصفات السيئة والمخلوقات الكريهة لدى البشر، فإن الله لم يخلقها ليتصف بها، لأن الصفات الحسنة والأشياء المحبوبة لدينا لم تكن لتظهر وتُعرف لو لم توجد تلك الشرور والمكروهات في مقابلها، وكما يقال “بضدّها تُعرف الأشياء”.

كما أن سماحه تعالى لبعض الخلق بأن يتصفوا بتلك الصفات وأن يمارسوا الشر والظلم ليس دليلا على عجز الله أمام خلقه الأشرار، فقد أخبرهم مسبقا أنه سيمنحهم حرية التصرف في هذه الحياة قبل أن يحاسبهم، ولو منعهم من الشر فلن تكون هناك قيمة للاختبار الدنيوي كله، لذا فإن إذنه بوجود الشر ليس عن رضا منه، إلا أنه ليس مخالفا لإرادته أيضا، واللبس في عقول البعض ينشأ من الخلط بين الرضا والإرادة، لأنهم يقيسون الإله على أنفسهم، فالإنسان عندما لا يرضى بوجود شيء فإنه لا يسمح به، أما الإله فليس مضطرا لإلغاء وجود ما لا يرضيه، لأنه لا يتأذى منه أصلا.

وإذا كان الملحد يجد مشكلة نفسية في تقبل وجود الإله مع وجود الشر في هذا العالم، فيجدر به أن يجد مشكلة أكبر في القبول بفكرة فناء هذا العالم المليء بالشر دون وجود مرحلة أخيرة للحساب، ليقتص فيها المظلوم من الظالم، وينال كل مخلوق حقه كاملا، ويعود كل شيء إلى نصابه.

لماذا يبتلينا الله بالمصائب؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “احتج آدم وموسى، فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة” [صحيح مسلم، 2652]، إذن فقد كان مقدرا على بني آدم قبل أن يخلق الله آدم وحواء أن يخرجا من الجنة ويعيشا في هذه الأرض، وأن يكابد أبناؤهم مشقة الحياة، كما تقول الآية {لقد خلقنا الإنسان في كبد} [البلد، 4].

لكن كبد الحياة ومشقتها وكل ما فيها من مصائب لا تشكل بمجموعها الصورة الكاملة، فالخالق أعطى آدم وبنيه قبل أن يُخرجهم من الجنة الأدوات الكافية لمقاومة المشقة وتوظيفها والتعايش معها، بل اعتبر المؤرخ أرنولد توينبي أن التحديات هي التي تدفع الإنسان لبناء الحضارات وإعمار الأرض، حيث رأى من خلال دراسته لتاريخ البشرية أن الظروف الطبيعية القاسية والضغوط البشرية الخارجية توجد استجابة ناجحة لدى رواد المجتمعات من المبدعين والقادة، ولو لم توجد تلك التحديات لركن المجتمع إلى الراحة والدعة وكان مصيره الفناء.

وربما يتذكر كل من يقرأ هذه الكلمات عشرات المواقف الصعبة التي ألمت به حتى كادت تدفعه إلى اليأس، وحتى الرغبة بالموت أو التفكير بالانتحار، إلا أنه تمكن لاحقا من تجاوزها وحتى نسيانها، ولعله يتعجب اليوم من شعوره السابق باليأس ويرى أنه كان مبالغا فيه. فحتى الإنسان السفيه لديه من القدرة على الصبر والتحمل ما يساعده على متابعة الحياة، لكن الذي يتسلح بالإيمان يكون أكثر قدرة بكثير على التجاوز، بل قد يصل إلى مرحلة التلذذ بالابتلاء، وهي درجة يعرفها الزهاد في كل العصور.

 

المسجد الأموي في حلب
(وكالة تسنيم)

لقد كشفت لنا الحروب والثورات والمحن التي مرت بها شعوب عربية عديدة أن لدى الإنسان قدرة هائلة على التكيف والصبر، فمن دون سابق إنذار وجد الملايين أنفسهم فجأة معرضين للقصف والتهجير وخسارة كل مدخراتهم، وربما خسارة أحب الناس إليهم، فضلا عن خسارة أحلامهم ومستقبلهم. ومع ذلك يفاجأ المراسلون الذين يجرون تغطياتهم الصحفية عن تلك المآسي بقدرة الناس على التعايش مع كل هذا الألم، بل وابتكار أساليب جديدة للعيش ومقاومة الصعاب، فضلا عن الإبقاء على جذوة الأمل حية في قلوبهم، حتى يقال إن بعضهم يجد في وسط تلك المصاعب من الرضا ما يغنيه عما كان فيه من مقومات السعادة.

وحتى في ظروف الحياة الخالية من المآسي، قد يكون أحد الجاحدين مستعدا لبذل جهود جبارة في سبيل النجاح الدراسي والمهني، وقد يفعل المستحيل ليكتسب شهرة أو ينال سلطة أو يُحرز دخلا جيدا أو ترضى عنه امرأة حسناء، بل قد يخاطر بحياته لأجل لذة عاجلة تافهة، أو يتسبب بهلاك أشخاص آخرين من أجل إشباع غروره بالمزيد من جنون العظمة، وهو لا يجد في ذلك معضلة منطقية ولا أخلاقية، بينما تدور الشكوك في رأسه عندما يبدأ التفكير بهذا المنطق نفسه بشأن مشقة عابرة في مقابل نعيم هائل ودائم.

علاوة على ذلك، يمكن لكل منا أن يكتشف بقليل من التأمل أن هناك انسجاما بين الغاية من الخلق وبين الهيئة التي خُلقنا عليها، فالحديث يطول ويتشعب إذا بحثنا في قدرات الجسد البشري وإمكانات تحمله، وكذلك الحال في النفس البشرية وقدرتها على التأقلم والتكيف. وكلما تجردنا عن ذواتنا وأنعمنا النظر في طبائعنا وعجائب خلقنا وجدنا في كَبد الحياة ذاته متعة، بل يكاد الناس جميعا يتفقون على أن الحياة ستكون مملة لو خلَت من مشقتها.

وربما تستوقفنا مئات الكتب التي تحصد أعلى المبيعات كل عام بعناوينها التي تدور حول دروس الحياة ومتعة الإنجاز وعظمة التحدي، فالبشر على اختلاف ثقافاتهم يتفقون على أن الحياة جميلة وتستحق أن تُعاش، غير أنهم سرعان ما يتفرقون مذاهب شتى عندما يتعلق الأمر بالغاية الكامنة وراء هذه الحياة، وكأنهم مستعدون لتحمل مشقتها من أجل لذاتها العاجلة، بينما يتعنت الكثير منهم في الإيمان بما وراءها.

هناك الكثير من الآيات والأحاديث والأقوال والقصص التي تفصّل الحديث في فضل الصبر وثواب الصابرين، وقد تكفي قراءتها لإقناع معظمنا بحكمة الابتلاء وما يتركه من أثر طيب في نفوسنا بالرغم من صعوبته، وهذا أمر يدركه حتى أولئك الذين بلغوا قدرا من الحكمة دون أن يؤمنوا بالله والقدر والثواب، فكثيرا ما نجد لدى ممارسي رياضات التأمل ومدربي التنمية البشرية قدرات فلسفية وعملية على الاستفادة من المصاعب وتحويلها إلى محفزات للتقدم.

لكن ما نهتم به هنا هو الشق الفلسفي من السؤال، فقد يقصد السائل أن يقول: لماذا يبتلينا الله أصلا بالمصائب إن كان قادرا على أن يمنحنا ثواب الصبر ومزايا الحكماء الصابرين دون أن نعاني؟

وهنا نعود أيضا إلى العلة الغائية من الخلق، فنحن نعلم أن خلقنا لم يكن عبثا لكن الوحي لم يخبرنا بما وراء ذلك، وليس للعقل أن يخوض فيما لا يملك أي أداة للبحث فيه. وبالمثل فنحن نعلم أن الله وضعنا في هذه الحياة ليختبرنا -بالسراء والضراء معا- كما قال {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}، ومعرفتنا بهذه الغاية تكفي لمتابعة الحياة ودخول الاختبار حتى لو لم يخبرنا الله تعالى لماذا اختار أن تكون الحياة أصلا محل اختبار، فالمهم أننا نعلم يقينا أن النجاح في الاختبار ممكن، وأن لدينا من الأدوات ما يساعدنا على اجتيازه.

ومن المهم أيضا أننا على يقين بأن الله عادل، وليس ذلك لأنه إله فحسب، بل هو اختار بكرمه أن يكون عادلا كما قال في الحديث القدسي “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا” [صحيح مسلم، 2577]، وهو أيضا لم يتركنا دون فطرة ولا عقل ولا وحي، فهذه الأدوات الثلاث تؤهل الشخص العادي للبحث عن الحق والتعرف عليه والعمل بمقتضاه، ولو اختلفت الوسائل ودرجات الاستجابة والالتزام، لكن الحد الأدنى من الإيمان متوفر لدى جميع الناس الأسوياء.

لماذا يسمح الله بوجود الظلم؟


إذا آمنا بكل ما سبق، وأدركنا أن هذه الحياة قائمة على الابتلاء، فسيسهُل علينا أن نتفهم وجود مخلوقات (من البشر والجن والحيوانات) قد تؤذينا دون مبرر، وهذا لا ينفي عدالة الله طالما أنه وعد بالقصاص، لا سيما وأنه تعالى شدد على تحريم الظلم وتوعد الظالمين بأشد العذاب، بل وأنزل على الكثير منهم جزءا من عذابه في الدنيا ليردعهم.

يقول تعالى في سورة محمد، بعد أن يطالب الصحابة بالقتال ضد المشركين: {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض} [محمد: 4]، أي أن الله قادر على الانتقام من أعداء المؤمنين وأن يدفع أذاهم، إلا أنه اختار أن يجعل أذاهم ابتلاء واختبار للمؤمنين أنفسهم كي ينكشف المؤمن من المنافق.

يتكرر هذا السؤال الوجودي كثيرا في الفترات التي يشتد فيها البلاء على الناس، لذا تسمى هذه الفترات بالفتن، لأن ضعاف الإيمان يُفتنون فيها وقد يخسرون فيها إيمانهم كله، ومن العجيب أن نجد من المثقفين والفلاسفة من يحاجج بهذه المغالطة (مثل أبيقور المذكور أعلاه) معتبرا أن وجود الشر في العالم دليل على عدم وجود الإله، وهذا خلل كبير في فهم الألوهية، فليس من مقتضياتها أن يمنع الإله وجود أي خلل (شر أو مصيبة) في العالم الذي خلقه ويرعاه، وليس من المنطقي أن يكون العالم المخلوق كاملا كالإله الخالق نفسه.

وإذا كان من الضروري عقلا وجود إله خالق لهذا الكون ومسيّر لأموره [انظر مقال وجود الله]، فإنه ليس من الضروري أن يكون هذا الإله عادلا أصلا، إلا أنه مع ذلك أوجب على نفسه العدل بكرم منه، كما قال في الحديث القدسي “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا” [صحيح مسلم، 2577]، وقال أيضا {إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون} [يونس: 44]، لكن السماح بوجود الظلم ليس ظلما بحد ذاته، فالله تعالى وضع جميع المخلوقات في عالم تحكمه طبائع نفسية وسنن اجتماعية وقوانين فيزيائية، وأنزل فيه شرائع لضبط وتوجيه تلك الطبائع والسنن والقوانين بما يحقق العدل، ثم ترك البشر أحرارا في الاختيار والتحكم، مع حثهم جميعا على العدل ووعدهم بالثواب العظيم لمن يحققه، وبالعذاب الشديد لمن يخل به.

ولا يشك أحد من البشر في أن هذه الدنيا فانية حتى لو كان ملحدا لا يؤمن بالبعث، فالظلم إذن مؤقت لا يدوم. كما أن الحث على العدل لم يقتصر على الشرائع التي أنزلها الله، بل وضع الله أيضا فطرة الميل إليه في كل خلقه، فنرى أن الكثير من الأمم التي لم تلتزم بالشرع كاملا تتمسك بالعدل وتسن قوانين صارمة لتحقيقه.

لوحة تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر تبين طريقة وسم العبيد بالكيّ في إنجلترا

ومع أن الله وعد بالحساب والقصاص من الظالمين في الآخرة، فإنه لم يترك المعاملات تسير بما يوافق هوى الناس دون تدخل منه في هذه الحياة، بل وضع بين أيدينا وسائل دفاعية تقينا شر الظلم والأذى، فجعل من حول كل فرد ملائكة تحفظه {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11]، وربما لو رُفعت هذه الملائكة لوقع الإنسان في عدد لا يحصى من المصائب والحوادث والظلم كل يوم، كما حث الله عباده على الدعاء وشرع لهم أذكارا في الصباح والمساء لتحفظهم من المكاره. ثم توعد الله الظالمين بالعذاب في الدنيا نفسها، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث “اتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب” [صحيح البخاري: 2316، صحيح مسلم: 19]، وفي حديث آخر: “ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده” [المعجم الأوسط للطبراني: 24 وسنده صحيح].

لكن القصاص الدنيوي قد لا يحدث عاجلا فيُمهل الله الظالم لحكمة لا نعلمها ثم يقتص منه بعد سنوات، وقد يُمهله حتى الآخرة، وقد يربط على قلب المظلوم فيرزقه الصبر ويفتح عليه من أبواب الهداية والثبات ما يُشعره بأنه في نعمة.

ولولا وجود الظلم في هذا العالم لما عرفنا قيمة العدل، وقد لا يستشعر الكثير من الناس قيمة عبوديتهم لله وحاجتهم إليه إلا بعد نزول المصائب والظلم، فيطمئن قلبه بعد ذلك إلى أن البلاء الذي حل به كان دافعا لنيل رضا الله ولتطهير نفسه من الكبر وسوء الخلق.

وعلاوة على كل ما سبق، قد تكون المصيبة التي يتعرض لها الإنسان كفارة لذنوبه قبل أن يُحاسب عنها حسابا أشد في الآخرة، فيقول الله تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30]، أي أن كل مصيبة تحل بنا هي نتيجة للذنوب التي لا يخلو منها أحد، بل تشير الآية إلى أن الله يعفو عن كثير من تلك الذنوب والعيوب ولا يعاقبنا إلا على القليل منها. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم “ما يصيب المسلم من نصب ولا وَصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه” [صحيح البخاري: 5318].

وجاء في الحديث أنه “يودّ أهل العافية يوم القيامة حين يُعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرضت في الدنيا بالمقاريض” [الترمذي: 2402]، فالذي يجزع من المصيبة والظلم في هذه الدنيا قد يجد لاحقا أن كل عذابه كان مؤقتا وزائلا ومقدورا عليه، وعندما يتلقى النعيم المقيم في الآخرة يتمنى أنه كان قد ابتُلي بما هو أشد. ومع ذلك فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعذب الإنسان نفسه أو حتى أن يتمنى لنفسه البلاء، حيث يروى أن أحد الصحابة دعا الله: “اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا”، فمرض مرضا حتى أضنى على فراشه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم شأنه، فقال له “إنه لا طاقة لأحد بعقوبة الله، ولكن قل {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}، فقالها الرجل فما لبث إلا أياما أو يسيرا حتى برئ.

ومن العجيب أن يرى البعض في وجود الظلم والمصائب والآلام ما يتناقض مع وجود الله تعالى فيميل إلى إنكار وجوده أصلا، وهو ما نراه في الفلسفات الباطنية التي انبثقت عن الهندوسية وفلسفة اليوغا، حيث تقوم أساسا على فكرة مفادها أن علَّة الألم كامنة في الوجود نفسه، وأن الألم ظاهرة متأصلة في الطبيعة البشرية بسبب انغلاق الوعي في المادة، فلا يتحرر الإنسان من هذا الألم سوى بالتخلص من الألم الكامن في الوجود وبالتوحد مع الحقيقة الكونية. لكن هذا الحل يؤدي إلى مشكلة أكبر، فليس هناك تناقض عقلي بين وجود الإله ووجود الألم، بينما لا يمكن للعالم أن يوجد أصلا بدون إله [انظر مقال وجود الله].

لماذا تنزل المصائب أحيانا بشكل جماعي على الناس؟

إجابة هذا السؤال هي جزء من الإجابات السابقة، فنحن لا ندرك على وجه اليقين الحكمة من نزول أي مصيبة، ولن يختلف هذا الأمر من حيث كون المصيبة فردية أو جماعية، فقد تكون المصيبة واحدة في نزولها على مجموعة كبيرة من الناس إلا أن الحكمة في إصابتها لكل فرد منهم تختلف من شخص لآخر، وهذه الحكمة ليست موضع بحثنا لأنها أمر غيبي في علم الله، لكن الذي يقع في دائرة علمنا وتكليفنا أن نزول المصيبة لا يتنافى مع العدل الإلهي، وأن لكل صابر نصيب من الثواب ومن تكفير الذنوب ومن تزكية النفس وتحسين الخُلق.

ونزول العذاب الجماعي لا يكون إلا بعد قيام الحجة على الناس وظهور الحق. ومع ذلك، قد يتساءل البعض: ما ذنب الأفراد الصالحين الذين يكونون وسط تلك الجماعة الفاسدة؟ وسنجيب على السؤال بعد التفريق بين حالتين:

الحالة الأولى: الاستئصال الجماعي بإهلاك أمة أو شعب ما نتيجة إصرار عامة الناس على العناد والكفر والظلم. ولكي تتضح لنا الصورة بكل أبعادها، سنناقش ثلاث نقاط أساسية:

أولا: قد تكون هناك فئة من المجتمع لا تمارس الظلم والكفر، إلا أنها راضية بالمنكر أو لا تقوم بواجبها في محاولة تغييره، فلو حاول الصالحون أن يغيروا لنجى القوم كلهم، كما تقول الآية {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} [هود:117]، لكن تقصير الصالحين قد يؤدي إلى العذاب الجماعي كما يحذرنا القرآن الكريم بقوله {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} [الأنفال: 25]، فالفتنة تعم الجميع عندما يعم المنكر.

ثانيا: عندما قضى الله على بعض الأمم السابقة بالاستئصال، وذلك بعد أن أقام الأنبياء عليهم الحجة وأصروا سنوات طويلة على الكفر والظلم والعناد، فقد أوحى الله لأنبيائه بأن يخرجوا مع أتباعهم الصالحين من قراهم قبل حلول ساعة الهلاك، مثل النبيين نوح ولوط عليهما السلام، ليحل الهلاك بالجاحدين المعاندين فقط، كما تقول الآية {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا} [الأعراف: 165].

ثالثا: بالرغم من نجاة الصالحين في القصص التي ذكرها القرآن الكريم، فإن نزول الهلاك على أمة ما بوجود الصالحين فيها لا ينفي عدل الله تعالى، فالهلاك نفسه قد لا يكون هو الإجراء العقابي الذي استحقوه، بل هو بالأحرى استئصال للشر الذي عمّ بسبب فسادهم، فيموتون جميعا بما فيهم الفئة الصالحة، أما العقوبة فتكون في الآخرة وليست في لحظة نزول الكارثة التي لا يدوم عذابها إلا ساعة من نهار.

وفي حديث يروى عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن السوء إذا فشا في الأرض فلم يُتناه عنه، أرسل الله بأسه على أهل الأرض، فقالت: يا رسول الله، وفيهم الصالحون؟ قال: نعم، وفيهم الصالحون يصيبهم ما أصابهم، ثم يقبضهم الله إلى مغفرته، ورضوانه [رواه أحمد]. كما تروى عدة أحاديث بذات المعنى، ومنها “إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم” [رواه البخاري].

ويمكننا أن نفهم من هذين الحديثين أن الموت نفسه ليس مصيبة، فنزول القضاء بهلاكهم الجماعي يكون لتخليص الأرض من السوء الذي فشا على يد أهلها، ثم يحاسب الله كل فرد منهم بالعدل يوم القيامة، فمن كان صالحا وقام بما يقدر عليه من الإصلاح نجا من العذاب إلى رضوان الله، وهذا أدوم وأبقى من نعيم الدنيا أو عذابها.

وحتى لو قلنا إن ساعة نزول الكارثة الجماعية تتضمن من الفزع ما يكفي لاعتبارها عذابا، فإنا لا ندري ما يحل بقلوب الصالحين حينئذ، فطالما كنا مؤمنين بعدل الله وقررنا أن هذا الفزع بمثابة العذاب للعصاة فمن البديهي أن نفترض أن الله تعالى سيربط على قلوب الصالحين، فيقبض أرواحهم في تلك الساعة دون خوف، أو يجعل تلك الساعة من العذاب بمثابة كفارة لذنوبهم كما هو حال المؤمن الصابر على أي مصيبة أخرى، والله أعلم.

مدينة بومبي الرومانية في إيطاليا كانت عاصمة للإباحية قبل أن يلقى أهلها حتفهم ببركان مباغت عام 79م وما زالت جثثهم محفوظة تحت الرماد المتحجر
(Lancevortex)

الحالة الثانية: نزول المصائب الجماعية على أمة أو شعب أو فئة من المجتمع دون هلاك، وما قلناه في مناقشة نزول المصائب الفردية على الناس يمكن أن يقال هنا، فالحكمة الإلهية في المصيبة الفردية قد تكون هي ذاتها الحكمة من وراء ابتلاء كل شخص على حدة عندما ينزل البلاء على الجميع.

ولو قلنا إن مدينة يسكنها الملايين تعرضت لزلزال مدمر، فإن كل فرد من أهلها سينال ثوابه وتُكفر ذنوبه على قدر صبره واحتسابه، كما سيتحقق له من فوائد المكابدة واللجوء إلى الله ما يتحقق أيضا في حال نزول مصيبة أخرى عليه وحده.

ولو أدت الكارثة إلى مقتل بعضهم، فقد يكون في ذلك عقوبة معجلة لبعضهم، وراحة من كبد العيش وتكفيرا للذنوب للبعض الآخر. فلا أحد يعلم استحقاقات كل فرد إلا الله، كما لا يعلم أحد ما يحل بكل فرد من راحة ونعيم وصبر وعذاب وجزع إلا الله وحده.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم “عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط” [رواه الترمذي وقال حديث حسن]، وقال أيضا “أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل” [رواه أحمد].

ولا يعني ذلك أن هناك سنة كونية تقتضي أن يبتلي الله الأمة المؤمنة بالمصائب، فقد كان النبي نوح عليه السلام يعِد قومه بالرخاء إن آمنوا، كما نقلت عنه الآيات التالية: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} [نوح: 10-12]، فالابتلاء يمحّص إيمان الناس ليتبين صدقهم من عدمه، والفرد المؤمن الذي يزداد تلذذا بقربه من الله تهون عليه المصائب إلى درجة الاعتياد عليها، حتى تصبح لذة استشعار تذكير الله له بالمصائب أحب إليه من لذة الرخاء الذي يترافق مع الغفلة والتراخي، وهذه درجة عالية من الصفاء الروحي لا تُعمم على الناس.

إذن فنظرة الإنسان للمصيبة وأثرها النفسي تغير مفهومه جذريا إزاء ما يكمن في المصيبة من خير وشر، فما يراه البعض شرا يراه آخرون خيرا، وهذه النسبية تكفي لاعتبار المحاججة نفسها غير كافية للاستدلال بها على وجود إله مطلق ومنزه عن خيارات الإنسان وقناعاته وأهوائه.

كيف تكون المصائب من السنن الكونية والاجتماعية (الخاضعة للبحث والتجربة) وهي في نفس الوقت عقاب إلهي أو كفارة للذنوب (شؤون غيبية)؟

كثيرا ما يقع اللبس في عقول بعض الشباب، وهو ناشئ عن الافتراض المسبق بأنهم أمام سببين متناقضين لا يجتمعان.

من البديهي لمن يقر بوجود خالق للكون أن ينسب إلى هذا الإله أيضا القدرة على التصرف التام والمطلق في خلقه، وذلك على النحو الذي لا يرفض فيه العقل نسبة إرادة ما يحدث في الكون إلى الله، سواء من استمرار الحركات والتفاعلات المنظمة مثل دوران الأرض، أو ما يطرأ من كوارث غير منظمة وغير دورية مع أن لها أسبابا يمكن قياسها تجريبيا كالزلازل.

فالوحي يخبرنا بوضوح أن الله تعالى لم يتخلّ عن الكون بعد أن خلقه، حيث وصف اللهُ نفسَه في القرآن بأنه القيوم، أي القائم على شؤون الكون والمتصرف فيه، وهذا يعني بطبيعة الحال أن الله لم يضع القوانين في الكون كي يسير من تلقاء نفسه، فاستمرارية وجود الكون وسيره مرتبطتان بالقيومية الإلهية.

وطالما كان للإله مطلق التصرف في خلقه، فله أن يخرق السنن التي وضعها متى شاء ولأي سبب شاء، وله أن يجعل بعض الكوارث عقابا لبعض الشعوب التي ساد فيها الظلم والكفر والعناد، كما حدث مع قوم فرعون الذين رأوا بأعينهم تحقق المعجزة على يد موسى عندما تحدى السحرة، حتى آمن به السحرة أنفسهم، فسلط الله على الحكومة والشعب معا عدة كوارث للردع والزجر والتنبيه، كما تقول الآيات: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 133-135]، حيث نرى أن الناس الذين ابتلوا بهذه المصائب ارتدعوا فعلا وطالبوا نبيهم بأن يدعو ربه برفع العذاب، مع أنهم كانوا يعبدون فرعون نفسه ويعتقدون حلول الإله فيه.

وعندما نقول إن العوامل الطبيعية قد تكون جندا من جنود الله التي يرسلها للعقاب أو التذكير، فلا يعني هذا أن تكون الكوارث الطبيعية غير قابلة للدراسة العلمية، بل لا يتعارض ذلك حتى مع إمكانية التنبؤ بحدوثها مسبقاً، فالأمر لا يعدو أن يكون شدة وقعت بعد رخاء، مما يدعو الإنسان إلى التأمل في حاله مع الناس ومع الله تعالى، فمعظم البشر -حتى المشككين بوجود الله- يلجؤون إلى الله لاشعوريا عندما يشعرون بالحاجة إليه، وقد تكون هذه من الحكمة الإلهية في الابتلاء.

زلزال مسينا حصد أرواح حوالي مئتي ألف إنسان في عام 1908 بجنوب إيطاليا

ولنفهم طبيعة العلاقة بين إرادة الله ووقوع الكارثة الطبيعية، علينا أن نميز بين كيفية حدوث للكارثة وبين المسبب لها، فالعلم مثلا يمكنه أن يكتشف كيفية حدوث إعصار ما، وكل الأحداث التمهيدية التي أدت لحدوثه، إلا أنه ليس بمقدور أي عالم أن يعرف لماذا حدث الإعصار، فالتغيرات المناخية التمهيدية ليست هي السبب الذي أدى إلى الكارثة بالمعنى الفلسفي، ولا يمكن للعالم أيضا أن يجزم بأنها هي السبب المباشر للإعصار، لأنها قد تتغير في أي لحظة، وقد لا تحدث في الزمان والمكان المتوقعين.

والأمر نفسه ينطبق على إصابة شخص ما بالمرض، فنحن نعلم أن انتقال جرثومة ما تسبب بالمرض، لكن البحث الفلسفي الأعمق لأسئلة من قبيل لماذا أصيب به الآن ولماذا هو تحديدا من دون بقية العائلة؟ ولماذا لم يستطع جهاز المناعة مقاومة الجرثومة؟ فقد يتمكن العلم من الإجابة على بعض هذه الأسئلة أو كلها إلا أنه لا يجزم بها، فهو يترك هامشا احتماليا للخطأ مهما كانت قياساته وحساباته دقيقة، وهذا الهامش يكفي لنقول إننا لا نستطيع أن نجزم بأن الأسباب المادية تمثل وحدها الصورة الكاملة.

وقد فرغ علماء الكلام المسلمون منذ مئات السنين من الجمع بين الإيمان والعقل، دون الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه العلماء التجريبيون في الغرب مع بزوغ “عصر التنوير”، وهو الخطأ الذي تم تصحيحه تجريبياً في القرن العشرين مع انتفاء العلية والسببية في عالم فيزياء الكم، فليست هناك حتمية في قوانين الكون كما كان يظن العلماء في عصر نيوتن مما دفعهم إلى الإلحاد.

هايزنبرغ

في عام 1927 وضع العالم الألماني فيرنر كارل هايزنبرغ مبدأ الريبة أو مبدأ اللايقين الذي يعد اليوم من أهم مبادئ فيزياء الكم، حيث استنتج أنه لا يمكن تحديد خاصيتين مقاستين من خواص جملة كمومية إلا بالتخلي عن اليقين في التعرف على إحدى الخاصيتين. وهذا يعني عمليا أن القوانين الأساسية للكون لا تسمح لأي عالِم بالحصول على معلومات كاملة ويقينية تماما بشأن أي موضوع يخضعه للتجربة، ومن ثم فلا يمكن للعالِم أن يتنبأ بحركة الأشياء مستقبلا بدقة يقينية مهما كانت أدوات البحث دقيقة ومتطورة، وهو ما يعبر عنه هايزنبرغ بقوله إن عدم استطاعتنا معرفة المستقبل لا تنبع من عدم معرفتنا بالحاضر، وإنما بسبب عدم استطاعتنا معرفة الحاضر.

إذن فإرادة الله عز وجل المطلقة غير محكومة بمنطق السببية، ولو صدقت تنبؤاتنا مئات المرات بحدوث الأعاصير والبراكين والفيضانات فهذا لا يعني أننا سنصيب في المرة التالية، بل لا يجرؤ العلماء على الجزم بصحة تنبؤاتهم يقينا، وليس ذلك تواضعا بل لأن العلم نفسه يتبرأ من هذه الحتمية. وهذا يعني بالضرورة أن الكوارث تخضع لإرادة الله التي لا نعلمها، مهما صدقت توقعاتنا.

وقد نص القرآن الكريم بوضوح على أن الله تعالى قد يبتلي أمة ما بالمصائب والكوارث الطبيعية ليدفعهم إلى الإيمان والخشوع، بل نص على أن هذا الابتلاء وقع لكل الأمم التي أرسل إليها أحدا من رسله، والابتلاء لا يعني بالضرورة الإبادة كما حدث لأقوام عاد وثمود، بل قد يكون نوعا من الشدة التي تحدث لنا نحن في هذا العصر، حيث قال تعالى {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرعون، ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون}، [الأعراف: 94- 95]، فهاتان الآيتان تقطعان بأن الله تعالى يبتلي الأمم على مر التاريخ، وأنه في كل عصر وبعد كل ابتلاء يبدل بالشدة رخاءً، فيأتي الجيل التالي ويقول “لقد مر آباؤنا بالرخاء حيناً وبالشدة حيناً آخر، وهذه من عادة الطبيعة ولا علاقة لها بعقاب الله”، وهكذا إلى أن يأتيهم العذاب كما أتى الذين من قبلهم، ثم يأتي الجيل التالي ليغفل عن الحقيقة دون أن يتعظ.

لكن هذا كله لا ينبغي أن يبرر للمؤمن التحجج بالإرادة الإلهية لنفي المسؤولية عن نفسه، فالإنسان محاسَب عما يفعله، ولو أنه شخصا طعن شخصا آخر بخنجر مثلا فليس له أن يقول إن إرادة الله هي التي أدت إلى مقتل الآخر بعد طعنه، فالقاتل هنا يُسأل ويُحاسب ويعاقب بناء على فعله الإرادي، أما إرادة الله بشأن مقتل المطعون أو إنقاذه من الموت بالرغم من الطعن فهذا أمر آخر لا يؤخذ به في معاملات الناس.

لماذا يعاقب الله بعض المجتمعات المسلمة بالكوارث والمصائب الجماعية بينما يترك مجتمعات منحلة دينيا وأخلاقيا في أمن ورغد من العيش؟

هذا السؤال قائم على عدة مغالطات، فمن قال إن المسلمين اليوم يطبقون فعلا ما أمر الله به من إقامة مجتمع العدل والعبودية لله؟ ومن قال إن النعم التي يرفل فيها الظالم والجاحد والمنحل أخلاقيا تعني أن الله راض عنه؟ وهل الدنيا دار ابتلاء أم دار حساب؟ لذا سنجيب على السؤال في عدة فقرات كما يلي:

1- عندما نقول إن كارثة ما هي رسالة إلهية إلى البشر لتذكيرهم بحقيقة الدنيا وتحذيرهم من مغبة الإسراف في المعاصي، فهذا لا يعني أن الله تعالى قد ألزم نفسه بإرسال هذه الرسائل إلى كل العصاة، فللّه الأمر من قبل ومن بعد، إن شاء عفى وإن شاء أمهل، وإن شاء عاقب بما يشاء ولمن يشاء.

2- نزول كارثة جماعية على مجموعة من البشر لا ينبغي أن يُفسر جماعيا بحكمة واحدة كما أسلفنا. ومع ذلك، فنحن لا نحكم على أي مجموعة بشرية بأنها معصومة عن الخطأ، كما لا نستطيع أن نقول إن أحدا من أفرادها لا يحمل عيبا واحدا على الأقل.

3- ما يتعرض له أي مجتمع مسلم من كوارث لا يستلزم منا أن نطعن في دين أفراد هذا المجتمع، فقد تكون المصيبة دافعا لإصلاح أنفسهم وتغيير مجتمعهم، وقد تكون أيضا عبرة لمجتمعات أخرى ممن حولهم من المسلمين، وهذا هو معنى قوله تعالى {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} [الأنعام: 42-43]، فالآية تحث على التضرع عند نزول المصيبة، ما يعني أن الحكمة في البأس والضرر هي تليين قلوب الناس وتذكيرهم بعبوديتهم لله.

وقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف بسندٍ حسن عن صفية بنت أبي عبيد زوجة عبد الله بن عمر أنها قالت {زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، فخطب عمر الناس، فقال: أحدثتم، لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم}، أي أن الهزة الأرضية لم تقع في المدينة المنورة التي كان يعيش فيها خير القرون على مر التاريخ إلا بسبب ذنوب اقترفوها، وفقا لفهم عمر بن الخطاب.

كما وقعت هزة أرضية في عهد عمر بن عبد العزيز، فكتب على إثرها إلى أهل البلدان “إن هذه الرجفة شيء يعاتب الله به عباده، فمن استطاع أن يتصدق فليفعل؛ فإن الله يقول {قد أفلح من تزكى}”.

الدمار الذي أصاب قرية آتشيه الإندونيسية عام 2004 بسبب موجة المد العاتية (تسونامي)

4ـ من الخطأ الاعتقاد بأن اعتناق غالبية مجتمع ما للإسلام يعني حصول هذا المجتمع على وعد إلهي بالنصر والتمكين والتقدم والحماية من الكوارث، فالقرآن الكريم عندما كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم أثناء تأسيسه للمجتمع المسلم كان ينبههم باستمرار إلى ضرورة تطبيق الإسلام عمليا وتحقيق كل شروطه ومكابدة ما يتطلبه ذلك من مشقة، وذلك قبل أن يعدهم بالحصول على مزايا النصر والحماية، فقد حذّر القرأن الصحابة من الاستئصال بالرغم من إسلامهم فقال: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38]، وقال أيضا: {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} [التوبة: 39].

5- من الخطأ أيضا الاعتقاد بأن كل مجتمع لا يلتزم بالإسلام ويستجيب للوحي ويطبق العدل فإن مصيره التعرض للكوارث أو الفناء، فكما يبتلي الله المؤمنين بالكوارث ليردعهم ويعيدهم إلى الصواب فإنه قد يبتلي بعض المعاندين في المقابل بالرخاء استدراجا لهم وفتنة، كما قال تعالى {فلما نسوا ما ذُكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} [الأنعام: 44]، وكقوله {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات؟ بل لا يشعرون} [المؤمنون: 55-56].

6- قد لا يقتصر الأمر على أن يبتلي الله المؤمنين بالشدة ويبتلي الكافرين بالرخاء، بل قد يسلط الكافرين أنفسهم على المؤمنين، وذلك عقابا للمؤمنين على تقصيرهم وتخاذلهم وعدم قيامهم بواجبهم في حمل مشعل الوحي إلى الأمم الأخرى وإعمار الأرض بشرع الله. وهذا ما حدث مع بني إسرائيل عندما تخلوا عن شريعة نبيهم موسى عليه السلام فسلّط الله عليهم أقواما وثنية لا تؤمن بالوحي، وهو ما يحدث الآن أيضا بحق المسلمين الذين تخلوا عن شريعة نبيهم فسلط الله عليهم اليهود وغيرهم من الأمم التي لا تؤمن بالوحي وتحاربه.

إذا كانت هناك حكمة في المصائب الفردية والجماعية، فماذا عن الأطفال والمجانين وما يتعرضون له من كوارث مع أنهم ليسوا مكلَّفين؟

لقد أعطى الله جميع خلقه قدرات هائلة على التحمل والصبر والتعلم، لكن معظمها يبقى معطلا عندما لا يستخدمها أصحابها ممن يعتادون على الرخاء، ولا شك في أن الأطفال والمجانين يتمتعون أيضا بتلك القدرات، بل هم أكثر تأقلما مع الشدائد من الكبار، ولديهم من المرونة ما يؤهلهم للصبر والاعتياد دون تذمر.

أطفال قتلهم النظام السوري بالغاز السام في الغوطة بريف دمشق في 21 أغسطس 2013

من الملاحظ أن الأسئلة الفلسفية والشكوك التي نناقشها هنا لا تخطر غالبا على أذهان عامة الناس ممن يعانون من الشدائد، فهي تُطرح عادة من قبل المعتادين أكثر على التمتع بنمط حياة مريح، وهذا لا يعود بالدرجة الأولى إلى التفرغ وازدياد فرص الاطلاع والقراءة، بل هو ناشئ أولا عن الرفاهية نفسها التي تدفع الإنسان لاشعوريا إلى التمرد والتذمر معا.

في المقابل، يكاد يكون من المجمع عليه أن يميل الأشخاص الذين اعتادوا على المكابدة إلى الإيمان بالله وبالقدر، لأن المشقة التي اعتادوا عليها في حياتهم منذ الصغر أبرزت طاقاتهم الكامنة، حتى أصبح الصبر والمكابدة وتحمل الصعاب والشدائد من العادات التي لا تلفت نظرهم ولا تستلزم الكثير من جهدهم، ومن ثمّ فإن الطفل الذي ينشأ في هذا النمط الطبيعي من العيش -وهو الذي اعتادت عليه الأغلبية الساحقة من البشر منذ آلاف السنين- يتمتع بقدر كبير من القدرة على الصبر والتحمل كالكبار، كما لا تتولد في ذهنه عادةً تلك التساؤلات الدالة على السخط.

ومع أن الطفل غير مُكلف ولا مسؤول أمام الله على ذنوبه، إلا أن عدل الله يقتضي أن يكافئه على حسناته وصبره وتحمله. وقد قلنا إن المصائب لا تكون كلها عقابا على ذنب اقترفه الإنسان، بل تكون أيضا تربية وتزكية وبابا من أبواب الثواب في الآخرة، وهي مزايا قد يحصل عليها الأطفال أيضا.

ومن العجيب أن الأشخاص المتنعمين أنفسهم، ممن لا يملكون الكثير من الصبر، قد يكتشفون فجأة أنهم قادرين على مكابدة ما يحل بهم من مصائب ثم تجاوزها ونسيانها، بل كثيرا ما تتحول ذكرياتهم المؤلمة ذاتها إلى تجربة ممتعة ومدعاة للفخر لما يكتسبونه بسببها من خبرة وقوة، ومع ذلك فإن بعضهم يرى في نزول المصائب على الأطفال شرا مطلقا “لا ينبغي” أن يسمح به الله.

لماذا التفاوت في الرزق من حيث المال والجمال والصحة وغير ذلك؟ أليس هذا التفاوت يتعارض مع العدل الإلهي؟

ذكرنا سابقا أننا لا نعرف على وجه الدقة الحكمة النهائية من خلقنا وابتلائنا، إلا أننا نعلم يقينا أننا مكلفون. ومن بديهيات التكليف أن يكون هناك ابتلاء، سواء بالنعم التي قد تُطغي الإنسان وتلهيه عما خُلق له، أو بالشدائد التي قد تلهيه أيضا وتسقطه في اليأس والقنوط. لكن المؤمن الواعي والمجاهد لنزعات النفس يتخذ موقفا وسطا في كلا الظرفين، وهو ما تلخصه القاعدة النبوية في الحديث الصحيح: “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له” [رواه مسلم]، فالحديث يقف عند نقطة مهمة، وهي أن التعامل الإيجابي مع الظرفين المتناقضين لا يقدر عليه إلا المؤمن، لأنه نتيجة طبيعية للإيمان الواعي بحكمة الله والتسليم له والرضا بقضائه.

وإذا استوعبنا جيدا ما سبق ذكره من حكمة الابتلاء، فإن ما قد يبدو لنا من “اختلال في التوزيع” يمكن فهمه أيضا على أنه نوع من الابتلاء، كما يمكننا التعامل معه بنفس الآلية.

لكن مفهوم الاختلال نفسه ليس صحيحا، فإذا كانت عين الإنسان القاصرة تقف عند خلل ما في إحدى النعم فقد تغيب عنها نعم أخرى لا تحصى، ومع أن أدواتنا البشرية قاصرة عن تعداد كل نعم الله على كل فرد منا، والتي تشمل أدق تفاصيل مقادير الأمور مما يغيب عنا أصلا، فإن ما نعرفه من النعم وحده يكفي لنجزم بأن الله إذا سلب من أحد عباده نعمة ما فإنه يعوضه بنعم أخرى كثيرة.

بالرغم من الرفاهية التي يتمتع بها الشعب الياباني فإن بعض الإحصاءات تؤكد أنه في المرتبة الثانية عالميا من حيث نسبة الانتحار
(Jmho/wikimedia)

فعلى سبيل المثال، قد يتذمر أحدنا من مرض عضال يصيبه ويعكر صفو حياته، ويقارن نفسه بملايين الأصحاء، إلا أنه لا ينتبه إلى أن كل واحد من الأصحاء لديه نقص في نعم كثيرة يتمتع بها هو، ولا يوجد على وجه الأرض شخص واحد اجتمعت لديه كل النعم بكمالها دون نقص، كما لا يوجد شخص آخر اختلت لديه موازين النعم كلها، بل يتمتع كل منا غالبا بقدر ما من كل نعمة ولا تُسلب منه بالكلية، وإن سُلبت منه إحداها تماما فإنه يُرزق نعما أخرى تعوضه، ويكفي لكل سائل متشكك أن ينظر في حال من هو أشد منه ابتلاء في نفس المجال الذي يجد نقصا فيه، ثم ينظر في نعم أخرى يتمتع بها ولم تكن تخطر على باله مما قد حُرم منه آخرون.

وعندما اعترض جبابرة قريش، حسدا وتكبرا، على تخصيص النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة وحده دونهم، نزلت الآية {أهم يقسمون رحمت ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون} [الزخرف: 32]، فالآية توضح أن هذا التفاوت في المعيشة هو من لوازم الحياة التي لا يمكن لها أن تستمر لو كان البشر كلهم متساوون في كل شيء، بل كان من الضروري أن يُسخَّر بعضهم لبعض، فيكون فيهم الرئيس والمرؤوس، والذكي ومتوسط الذكاء، والغني والفقير، كي يكون بعضهم محتاجا إلى بعض ومسخرا له. وعلاوة على ذلك، لم يكن الرسول يرفل في النعم الدنيوية، فإذا كان أعداؤه من قريش قد حسدوه على نعمة الرسالة والنبوة فقد رأوا بأعينهم كيف سُلب نعماً كثيرة من نعم الدنيا التي لا يتخلون عنها، فكان صلى الله عليه وسلم من أشد الناس ابتلاء وتعرضا للشدائد.

ولو تأملنا في تعقيد شؤون المجتمع لرأينا أن كل فرد مهما علا شأنه بحاجة إلى الآخرين مهما قل شأنهم، فالغني والعالِم وصاحب السلطة محتاجون جميعا إلى من يعملون في أقل المهن شأنا كي تستمر حياتهم.

أما ما ينتج عن هذا التفاوت والتسخير من طبقية وعنصرية واستعلاء وتجبر، فهي كلها من صنع الإنسان نفسه الذي حذره الله على لسان كل الأنبياء من الغطرسة والظلم. ونجد في آخر الشرائع التي جاء بها خاتم الأنبياء نصوصا كثيرة تنهى عن هذه الأخلاق السيئة وتأمر بالتواضع ولين الجانب لكل الناس، ولا سيما لمن كانوا في الخدمة، وحتى الأرقاء المملوكين.

إذا كان الله غنيًا عنا فلماذا يعذبنا؟

سبق أن قلنا إن الله خيّر آدم قبل أن يحمّله الأمانة والمسؤولية، كما أشهدنا على عبوديتنا له فأقررنا بذلك وشهدت علينا الملائكة، وقلنا أيضا إن العدل ليس صفة لازمة من صفات الألوهية، إلا أن الله تعالى تفضل على خلقه بأن أوجب على نفسه العدل ووعدهم بأنه لن يظلمهم.

ولكن ما الذي كان سيحدث لو أنه جل وعلا لم يلزم نفسه بالعدل؟ وما الذي كان بمقدورنا أن نفعله لو أننا وجدنا أنفسنا مخلوقين في هذه الدنيا دون تخيير وأننا مطالبون بمكابدة مشاق الحياة وتحمل الأذى والظلم والمصائب، ثم وجدنا أن الإله لن يعاملنا بالعدل ولا بالرحمة بل سيعذبنا إلى الأبد؟

من المفهوم والبديهي أننا سنعترض ونتذمر، طالما كنا نملك القدرة على ذلك على الأقل، إلا أن هذا الاعتراض لم يكن سيغير شيئا طالما كان الإله القادر على كل شيء قد حكم علينا بعذاب مقيم.

أليس إلزام نفسه بالعدل إذن هو كرم عظيم منه؟ لا سيما وأنه ليس مضطرا لإكرامنا أصلا، ولن يحاسبه أحد على ما سيفعله بنا. وإذا كان العدل بحد ذاته كرما بالغا، فماذا نسمي النعيم المقيم في الجنة التي وعد الإله الصالحين بأن يخلّدهم فيها؟

نحن البشر نميل ميلا طبيعيا للانتقام ممن يكون خاضعا لسلطتنا ويخرج عليها، ومع أن إنزال العذاب في أعدائنا قد لا يؤدي إلى أي نتيجة عملية إلا أننا نطالب به من قبيل النكاية، ونقر بأن هذا هو العدل، فلماذا نستنكر إذن أن يستحق الإنسان المتمرد (بحجمه التافه) العذاب من قبل الإله العظيم؟

قد يبدو الأمر محيرا عندما يكون التساؤل من منظور شخص يرى أن الإله بعظمته في غنى عن تعذيب هذا الفرد الصغير، لكن الصورة الكاملة تقتضي أن نرى أيضا أن هذا الفرد لديه من الجرأة ما يجيز له التمرد على الإله المسيطر على الكون كله، وأي جريمة أكبر من هذه؟

وعندما نكون أمام حالة متطرفة من العناد، مع الإصرار على الشر، فربما نندفع لمحاولة إصلاح هذا الشخص بكل الطرق الممكنة، فإذا لم نجد منه سوى السخرية والتهتك، فإننا نميل بالطبع لإخضاعه بالقوة، ونعتبر أن كسر كبريائه هو الجزاء العادل الذي يستحقه.

وقد تأخذ بقلبنا الشفقة أحيانا على المجرم المعاند المكابر، فنتوسل إليه أن يتجرد عن جحوده وكبر نفسه وجهالته ليتخلص من العذاب، وكأننا أكثر رأفة به من نفسه، فإذا وافق مرغما على التوبة والاعتذار نفاجأ به وهو يعود إلى أسوأ مما كان عليه، مع علمه المسبق بأنه سيُعذب مجددا، إلا أن الشر أصبح جزءا من كيانه، والكبْر استبد بعقله حتى أسكره.

ولو تأملنا في آيات القرآن الكريم التي كانت تقرّع الجاحدين المعاندين سنجد أنها كانت تصفهم بهذا النوع من الكبر، بل يخبرنا أنهم عندما يذوقون عذاب الآخرة سيطالبون الله بعد دخولهم جهنم بأن يخرجهم ويعيدهم إلى الدنيا ليبدأوا الاختبار من جديد إلا أنهم مع ذلك سيعودون إلى الجحود نفسه دون تغيير، لأن الكفر صفة أصيلة في نفوسهم.

يقول الله تعالى عن هذا الصنف من أهل النار: {وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، أولم نعمّركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير، فذوقوا فما للظالمين من نصير، إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور} [فاطر: 37-38]، فالآية تخبرنا أن الرد سيأتيهم بأنهم نالوا فرصتهم في الدنيا وجاءهم الوحي لينذرهم ويحذرهم من المصير، ثم تخبرنا الآية الثانية أن الله يعلم ما في صدورهم وأنهم يكذبون وسيعودون إلى الكفر لو عادوا إلى الدنيا مرة أخرى. وهذا ما تؤكده آيات عدة مثل قوله تعالى {ولو رُدوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} [الأنعام: 28].

وفي سورة المُلك، يخبرنا الله تعالى أن أهل النار سيعترفون بأنهم كانوا على علم بهذا المصير، فيقول {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} [الملك: 8-9]، حيث تسأل الملائكة التي تشرف على النار (الخزَنة) كل فوج من أهل النار عما إذا كان الأنبياء قد أنذروهم فعلا بهذا العذاب، فيقرّون بذلك وبأنهم كذّبوا الوحي عنادا واستكبارا.

وقد يصح أن نستنتج من هذا أن الذين سيخلّدون في النار هم أولئك المعاندين الجاحدين الذين لا أمل فيه صلاحهم وقيامهم بواجب العبودية الذي خُلقوا له، أما العصاة الذين لم يبلغوا هذا الحد من الجحود فسيذوقون قسطا من العذاب ثم يدخلون الجنة، وقد يكون هذا العذاب في الدنيا فقط، وقد يكون في القبر أو في أهوال يوم القيامة دون دخول النار.

وإذا كنا نستعظم العذاب أمام ذنوب الإنسان، فلماذا لا نستعظم أيضا نعيم الجنة الذي لا يبدو أن أعمال أفضل الناس تفي بحقه. ومع ذلك فقد وعد الله تعالى بألا يُدخل النار إلا من يستحقها بالعدل، بينما وعد بأن يُدخل الجنة الكثير من خلقه برحمته وليس بالاستحقاق، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته يوما: “لن ينجي أحدا منكم عملُه، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة” [صحيح البخاري: 6098].

هل نحن مسيّرون أم مخيّرون؟ وإذا كان الله قد كتب علي أن أكون كافرا فما فائدة البحث عن الإيمان؟

كي نكشف الخلل في هذا السؤال، سنفترض أن الله تعالى عندما خلقنا لم يكن يعلم ما الذي سنفعله في حياتنا وما إذا كنا سنؤمن أم نكفر، فهل كنا سنقتنع إذن بأنه إله كامل الصفات ويستحق أن يُعبد؟

إذن فكمال صفات الله يستلزم أن يكون عالما بما كان وسيكون، لأن الزمان منبسط في حضرته فليس هناك فرق عنده بين ماض وحاضر ومستقبل، وهذا يعني أن الله يعلم تماما من الذي سيؤمن منا ومن الذي سيكفر، وعلمه هذا لا يعني أنه قد أمر بأن يحدث ذلك طالما أنه منحنا القدرة والاختيار والإرادة.

ويأتي الإشكال واللبس من حيث قياس علم الله وإرادته على صفاتنا البشرية، فنحن نتوهم أنه بمجرد أن علِم ما سيحدث فقد أمر بحدوثه، وهذا ليس لازما ولا ضروريا، أما الضروري فهو أن يكون عالما فعلا بما سيحدث لأن الجهل لا يليق به.

وبعبارة أخرى، إن علمه بمستقبلنا وبأفعالنا ومصيرنا هو من صفات كمال الله، فلا يمكن إلا أن يكون عالما به، أما إكراهنا أو تركنا أحرارا فهو أمر آخر.

وكما ذكرنا سابقا، علينا أن نفرق بين مشيئة الله تعالى وبين ما يرضاه من أفعال عباده، فكل ما يحدث في الكون هو داخل في مشيئته وإلا فلن يكون إلها، ولكن سماحه بحدوث شيء ما لا يعني أنه يرضى به.

يقول تعالى {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} [التكوير: 29]، ومن مشيئته أنه جعل لنا مشيئة مستقلة، فهي غير تابعة لمشيئته إلا أنها ليست ضدها في الوقت نفسه.

وهذه العلاقة بين المشيئتين قد نجربها في حياتنا اليومية مع أشخاص آخرين، فالأب مثلا قد يمنح طفله الصغير قدرا من الحرية في الاختيار بين أمرين، ويخبره بأنه سيتسامح معه في ذلك، وسواء اختار الطفل ما يتوافق مع رضا الأب أم العكس فإن حرية الاختيار التي يمارسها الطفل هي التي أرادها الأب، فقدرة الطفل على الاختيار جاءت نتيجة للفرصة التي منحها له الأب، لكن النتيجة جاءت نتيجة اختيار الطفل وحده.

وبنفس المعنى، يختار كل منا ما يشاء وفقا لحرية الإرادة التي منحها الله لنا، وقد نختار ما لا يرضي الله ولكن ليس ما يخرج عن مشيئته.

أجرى جوناثان سكولر الأستاذ بجامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا دراسة لفهم النتائج العملية للإيمان بكون الإنسان مسيّرا أو مخيّرا، فوضع أمام كل متطوع شاشة كبيرة، ثم عرض على نصف المتطوعين عبارات تجزم بأن الإنسان لا يملك حرية الإرادة، وعرض على النصف الآخر عبارات معاكسة.

ثم طلب من كل متطوع إجراء اختبار وهمي على حدة، ووضع على الطاولة علبة مليئة بالنقود المعدنية وأخبره أنه سيحصل على دولار مقابل كل إجابة صحيحة، وقبل نهاية الاختبار كان يقول له إنه مضطر لترك الغرفة بسبب انشغاله المفاجئ، ويعطيه نموذج الأجوبة طالبا منه أن يقوم بالتصحيح بنفسه وأن يأخذ الدولارات التي يستحقها.

اكتشف سكولر أن الذين تم إقناع عقلهم الباطن مسبقا بأنهم مسيّرون قرروا أن يسرقوا بضعة دولارات إضافية، وكأنهم اقتنعوا لاشعوريا بأن السرقة أمر خارج عن إرادتهم، بينما كان الآخرون أكثر أمانة والتزاما بالمسؤولية.

والكافر يدرك في قرارة نفسه أنه لم يكفر إلا بمحض إرادته، ويعلم تماما أنه قادر على تغيير قراره والالتزام بالوحي، إلا أنه لا يفعل عنادا، أما التعذر بأنها مشيئة الله فهو مجرد محاولة للتهرب من المسؤولية، كما فعل المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بحسب الآية: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم، مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} [الزخرف: 20]، حيث يرد عليهم الوحي في الآية نفسها بأنهم يتوهمون.

ويوضح القرآن في مواضع عدة أن الهداية نتيجة لمشيئة الإنسان نفسه، فيقول {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} [المزمل: 19]، ويقول أيضا {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها” [الكهف: 29]، ويبدو أن هذه الآية لم تكتفِ بتوضيح حرية الاختيار بل قرنته بالتحذير من مغبة سوء الاختيار.

ويذكر القرآن الكريم أنه لو أراد الله أن يتدخل في مشيئة الناس لفعل، إلا أنه تركهم لحريتهم الشخصية بعد أن دلهم على الطريق، فيقول {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} [الأنعام: 149]، ويقول أيضا {ولو شاء الله ما أشركوا، وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل} [الأنعام: 107]، أي أن الله لم يتدخل في رغبتهم كما لم يجعل للنبي سلطة على اختيارهم، ويقول في آية أخرى مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس: 99]، إذن فقد تركهم لمشيئتهم فكفروا، ولم يكرههم على الإيمان، كما أنه لم يكرههم على الكفر في الوقت نفسه.

وقد يشكل على البعض معنى قوله تعالى {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} [البقرة: 272]، فقد يُفهم من الآية أن الله يختار من يشاء للهداية ويترك الآخرين للضلال، لكن الآية جاءت في سياق الرد على الصحابة الذين كانوا يعطون أقاربهم المشركين بعض الأموال من باب صلة الرحم ثم امتنعوا عن العطاء، فنزلت الآية لتخبرهم عن طريق مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بأن هداية الناس ليست من شأن أي أحد بل هي بيد الله، فالجملة الأخيرة ليست مطلقة بل هي في سياق نفي قدرة الناس على هداية الآخرين، أما الحديث عن هداية الله للناس بالمطلق فيأتي في مواضع أخرى من القرآن سنذكرها لاحقا.

وعلينا أن ننتبه أولًا إلى أن لفظ الهداية قد يأتي بمعنى الإرشاد إلى الطريق وليس حمل الناس على اتباعه، فالله تعالى يقول {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]، فلو كانت كلمة “هديناهم” تعني إجبارهم على الإيمان فكيف يفضلون بعد ذلك العمى على الهدى؟

وفي مثال آخر، نجد أن الله يخاطب الرسول في آيتين مختلفتين بقوله {إنك لا تهدي من أحببت} [القصص: 56] وبقوله أيضًا {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} [الشورى: 52]، فلو كان مصطلح الهداية يحمل معنى واحدا لكان هذا تناقضا، لكن الهداية في الأولى تعني الحمل على الإيمان بالإكراه (وهي منفية)، وفي الثانية تعني الدلالة والإرشاد.

إذن فالله تعالى لا يجبر أحدًا على الإيمان، كما لم يعط أنبياءه القدرة على ذلك، إلا أنه وعد من يبذل جهده لبلوغ الحق بأن يهديه عندما قال {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69]، وكلمة “فينا” تستلزم الإخلاص أيضا وليس الاجتهاد فقط.

وعندما يعرف المؤمن الطريق فإنه ينسب الفضل في ذلك إلى الله تأدبا كما تقول الآية {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي} [سبأ: 50]، وبعد أن يختار هذا الطريق بمحض إرادته ويلتزم به يضاعف الله هدايته كما وعد قائلا {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} [مريم: 76].

وفي المقابل، عندما يختار المرء طريق الضلال، فقد يزيده الله ضلالا ويطمس على قلبه، ولكن الله لا يكرهه على ذلك الخيار من البداية، فيقول تعالى {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم، وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا، يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، وما يضل به إلا الفاسقين} [البقرة: 26]، فالآية تتحدث عن قضية واحدة، وهي ضرب المثل بالبعوضة، حيث كانت  بمثابة اختبار واحد يختبر الله به الطرفين، فالمؤمن يهتدي به ويزداد إيمانه، بينما يضل به الفاسق الذي اختار طريق الفسق بنفسه أولا.

وبنفس هذا المعنى يمكننا فهم العديد من الآيات التي نفى الله فيها الهداية عمن يختارون طريق الضلال، فيقول {والله لا يهدي القوم الكافرين}، كما يصفهم في آيات أخرى بالظالمين والفاسقين، وهذا يؤكد المعنى السابق بأن الله لا يُضل ولا يهدي إلا بعد أن يختار المرء طريقه.

في هذا الفيلم الوثائقي، يتحدث الشيخ البرازيلي إسرائيل دوسنتوس عن قصة إسلامه وهو في سن متأخرة، بعد أن كان راعي كنيسة بروتستانتية وهو يحمل شهادة الدكتوراه في علوم اللاهوت، حيث قرر تغيير دينه وحياته والدخول في صدام مع زوجته وأولاده وأتباع كنيسته فجأة، وذلك بعد يومين فقط من قراءة كتاب الطبيب الفرنسي موريس بوكاي “التوراة والإنجيل والقرآن والعلم”، فالهداية قد لا تتطلب سوى وقفة صادقة مع النفس.

بناء على ما سبق، لا يصح الافتراض الشائع بأن الإنسان يكتسب دينه بالوراثة دون اختيار، فالدين ليس من المورثات الجينية التي تجري في دمائنا، ولدى كل منا مشاهدات كثيرة عن تمرد المراهقين على آبائهم في الكثير من التفاصيل التي لا تروق لهم، لأن الإنسان عندما يبلغ سن التكليف وينضج إحساسه بذاته يبدأ بتكوينها بالطريقة التي تناسبه، وقد يتطلب الأمر نوعا من الصدام والمشقة، لا سيما وأنه سيجد في وسائل الإعلام والثقافة المحيطة ما يحرضه على التمرد والتغيير نحو الأسوأ، بينما لا يكاد يجد ما يشجعه على تغيير دينه نحو الإيمان بالله وبالوحي أو نحو المزيد من التقيد بتعاليم الوحي إلا القليل، وهذه من عيوب المجتمعات نفسها وليست عيبا في تركيب الإنسان الذي خلقه الله حرا وقادرا على التمييز واتخاذ القرار وتطبيقه.

والملاحَظ أن غالبية الناس يتلذذون بالكفاح الذي يبذلونه في سبيل التمرد على المجتمع، ولا يجدون في اضطرارهم إلى ذلك أي غضاضة، بينما يتذمر الكثيرون عندما يُطلب منهم الشيء ذاته في سبيل التمرد على شياطين الجنس والإنس وبلوغ سبيل الحق من أجل خلاصهم، وكأن الدنيا تستحق النضال بلا جدال بينما ينبغي أن يكون خلاص الآخرة سهلا وميسرا.

وبالقياس نفسه نجد أن الكثير من الناس يعاتبون آباءهم على أي تقصير في مجال التربية الدنيوية، أي بما يمس نجاحهم الدراسي وصحة أبدانهم، بينما لا نكاد نسمع اعتراضا على حمل الآباء أبناءهم على عبادة غير الله، بل تتوارث الأجيال أديانها المحرفة والوثنية على أنها جزء من ثقافتها التي يجب التمسك بها دون أي تمحيص عقلي، في حين يعلن الجميع أن من أهم سمات التربية الناجحة أن يُمنح الابن والابنة القدرة على التفكير المستقل والنضج النفسي، وهذا التناقض ليس من سمات الإنسان التي خلقها الله فيه وفطره عليها، بل هو من نتائج اتباع الهوى وتقديم المصلحة الدنيوية العاجلة على الآخرة.

لذا أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسألة بشكل قاطع في قوله: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء”، ثم يقول أبو هريرة واقرؤوا إن شئتم {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [رواه البخاري ومسلم]، فالنبي ضرب مثلا بالحيوان الذي يولد كامل الخلقة خاليا من العيوب، فإذا كبر قطع الناس أذنيه وأنفه وغيروا خلقته، وهذا هو حال الإنسان الذي يولد على فطرة الإيمان فتنحرف فطرته ويُملأ عقله بالأساطير حتى ينشأ على أديان لا أصل لها.

وبالرغم من وضوح حرية الإرادة، قد يبقى في النفس شيء من الشك عندما نرى أن مجتمعات كاملة لا تؤمن بالله في مقابل مجتمعات أخرى يُعطى أطفالها الإيمان دون عناء، والجواب على هذه الإشكالية يتطلب إعادة التذكير بعدالة الله، فطالما كان الله تعالى قد وعد بألا يظلم الناس وأن يؤتي كل مخلوق حقه يوم القيامة فمن البديهي إذن ألا يعذب أحدا إلا عن استحقاق، فالمسلم الذي يولد في أكثر المجتمعات تمسكا بالإسلام قد يقرر الجنوح نحو الكفر والإلحاد يوما ما، كما يحدث فعلا في عصرنا الحاضر، وقد يكفر بقلبه ولا يعلن ذلك، أو ربما ينشأ متشككا وعاصيا وظالما فلا يكاد يتميز عن أي شخص سيئ نشأ في مجتمع لا يعرف الوحي، فيُعاقَب يوم القيامة على عدم إيمانه أو عدم التزامه، ولا يكون الحساب فقط بناءً على كونه مسلما بالاسم.

أما الذي قُدر له أن ينشأ في مجتمع آخر، ولم يُكتب له الاطلاع على الوحي، ولم تكن الظروف مواتية لذلك، فحسابه على قدر صلاحه وبذله الجهد والتزامه بفعل الخير، والله أعلم بمعايير محاسبة كل فرد على حدة.

إذا كان الإيمان علاجا ناجحا للقلق والأمراض النفسية فلماذا يعاني نفسيا الكثير من المؤمنين؟ ولماذا نرى أن كثيرا من الملحدين في المقابل أكثر سعادة؟

ربما ينشأ هذا السؤال المتشكك من المبالغة والسطحية التي نجدها في بعض أطروحات الدعاة إلى الإيمان، فمن المؤكد أن جزءا كبيرا من الأمراض النفسية لا يتعلق بالجانب الروحي لدى الإنسان، مثل الفصام والرهاب والتوحد والوسواس القهري والهلوسة التي قد تصيب أشخاصا في قمة إيمانهم، تماما كما يصابون بالأمراض الجسدية أيضا، وقد تكون هذه الأمراض النفسية من الابتلاءات التي تصيب الناس جميعا بما فيهم المؤمن والجاحد.

ولا يصح أيضا وضع الأديان كلها في خانة واحدة، فالأمر لا يتعلق بما يتركه الإيمان الروحي على النفس من طمأنينة فقط، بل يتأثر أساساً بالعقيدة وبما تتركه في العقل من قناعات فكرية، فالمؤمن بالعقيدة المسيحية وما تتضمنه من أفكار الخلاص والفداء والخطيئة الأولى والرهبانية لا يصح أن نقارنه بالمؤمن بعقيدة الإسلام.

والمؤمنون بالعقيدة الصحيحة ليسوا سواسية أيضاً، فهناك تفاوت كبير بين الأفراد من حيث تعمق كل منهم في العقيدة ومدى فهمه لها وممارسته لشعائرها، وقد يؤدي تركيزه على جانب واحد من العقيدة إلى اختلال التوازن النفسي وسقوطه في الأمراض أكثر من الملحد، والمشكلة هنا لا تتعلق بالدين نفسه بل بفهمه وتطبيقه غير المتوازن.

والنفس البشرية أكثر تعقيدا مما قد يتخيل بعض الدعاة البسطاء وغير المتخصصين في علم النفس، فالمصاب بالاكتئاب قد يعاني من خلل سلوكي لا معرفي، وهذا يعني أن علاجه يتطلب تحريضاً للانفعالات الإيجابية في نفسه وعلاجاً للعقد النفسية المتراكمة في لاوعيه، وليس بالخوض معه في نقاش فلسفي حول حكمة الابتلاء، بل إن هذا النقاش قد يزيد من سوء حالته من خلال تعميق شعوره بالذنب، فيقع حبيساً لهواجس الردة والكفر مع أنه مقتنع عقلياً بحجج الإيمان لكن نفسه البشرية المنهكة هي التي تطلب العلاج.

وليام جيمس

كان الفيلسوف البراغماتي الأميركي وليام جيمس -الذي يعد من رواد علم النفس الحديث- يؤكد في كتاباته على ضرورة الإيمان بوجود الله لمواجهة شعور الإنسان بالعجز والضعف أمام صعوبات الحياة، وكان يرى أن الإيمان يعطي الحياة قيمة ودافعا لتحقيق الأمنيات ومعالجة القلق.

ويجدر بالذكر أن جيمس كان ينظر إلى الإيمان من هذه الناحية العملية فقط، فالبراغماتية تقوم أصلا على إضفاء المعنى للأشياء من حيث منفعتها العملية دون الالتفات إلى وجودها الموضوعي، وهي فلسفة متطرفة لا يسلم بها العقل، فوجود الله وضرورة الإيمان به والانقياد لعبوديته أمران مستقلان عن مصلحة الإنسان.

وإذا تعامل الإنسان مع ربه بهذه العلاقة المصلحية، فقد لا ينال مراده أصلا، ما يعرّض إيمانه كله للتزعزع وفقا للظروف، وهذا يتعارض مع مقتضى العبودية.

ومع أن الكثير من علماء النفس والمتخصصين في مجالات التحفيز وتطوير الذات يؤكدون على أهمية الإيمان لمعالجة القلق، مثل كارل يونغ ودايل كارنيغي وهنري لينك، إلا أن الربط المطلق بين الإيمان والراحة النفسية قد يعرض المؤمن إيمانا سطحيا للشك في إيمانه كله، لا سيما عندما يكون إيمانه قائما على المصلحة أصلا.

ولا ننسى أن الإيمان لا ينفي القلق الوجودي بالكلية، فالمؤمن يتحمل مسؤولية كبرى كما أسلفنا، وهي أمانة لم تحملها السماوات والأرض، ومن يراقب طبيعة حياة الأنبياء وكبار الصحابة يجد أنهم كانوا يجمعون بين الخوف والرجاء في محاولة دائمة للموازنة بينهما.

وفي الحديث القدسي يروى عن الله جل وعلا أنه قال “وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين، إذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة” [أخرجه ابن حبان والبزار والبيهقي وابن المبارك وأبو نعيم وصححه ابن حجر والألباني السلسلة]، وهذا يعني أن المؤمن الذي يعلم حقا حجم المسؤولية الكبرى التي يحملها، وأنه مقبل على موت محتم دون أن يعلم في أي لحظة وعلى أي حال، وأنه ليس بعد الموت توبة ولا رجعة، وأنه قد يُحاسب على كل صغيرة وكبيرة دون أن يضمن رحمة الله، فعليه أن يخاف الله بالقدر الذي يمنعه عن المعاصي ويجعل ثقته كلها بالله وليس بنفسه، أملا في نيل الأمن الدائم يوم القيامة.

لذا حث القرآن الكريم في آيات كثيرة على فضيلة الخوف، ومنها {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 175]، {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} [المؤمنون: 57]، {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46].

وكلما ازداد قرب الإنسان من ربه استشعر المزيد من عظمته فتضاعف خوفه منه إجلالا وإكبارا، لذا تقول الآية {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، وهذا ما نراه فعلا في المجتمعات كلها، فالغافل عن الله يرتكب الفواحش دون اكتراث، بينما يرتجف قلب المؤمن خوفا من ربه لأصغر هفوة يرتكبها.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس خشية، ويروى عنه في الحديث أنه قال “لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفُرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله” [رواه الترمذي]، ومع ذلك فإنه لم يأمر الناس بهذا الخوف، فعندما جاءه حنظلة الأسيدي يشكو إليه شعوره بالنفاق، قال الرسول صلى الله عليه وسلم “وما ذاك؟” فقال: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال “والذي نفسي بيده؛ إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة” [صحيح مسلم: 2750].

وعندما سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} [المؤمنون: 60] هل هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال “لا يا بنت الصدّيق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يُقبل منهم” [رواه الترمذي]. وعلّق التابعي الحسن البصري بقوله “عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم. إن المؤمن جمع إحسانا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنا”.

وإذا كانت هذه النصوص تؤدي بالبعض إلى الاعتقاد بأن الملحد أكثر راحة نفسية، لأنه لا يحمل على عاتقه تلك المسؤولية (الأمانة) ولا يخشى حسابا ولا عقابا، فهل هذا يبرر الإلحاد حتى لو كان صحيحا؟ أم أنه لا يدل سوى على الغفلة؟

وهذه الغفلة هي التي كان يقصدها المتنبي في بيته المشهور:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله      وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

فمن يرتضي لنفسه بالغفلة بضع سنين في حياة عابرة، دون أن يشغل نفسه بهمّ التفكير فيما سيحل به بعد ذلك، فهو حتما أحمق.

وإذا كان الملحد أكثر راحة من المؤمن من حيث القلق بشأن الآخرة، فإن المؤمن أكثر راحة بالمقابل من حيث القلق بشأن الدنيا التي يشترك فيها مع الملحد، وهذا النوع من القلق هو الذي اعتنى به علماء النفس الذين أكدوا على ضرورة الإيمان لتوفير الراحة النفسية كما أسلفنا.

فالمؤمن الذي يفهم أن لله حكمة في كل ما يقضيه ويقدّره لا يجد مبررا للحزن والأسى، وكلما ازداد زهدا في الدنيا تضاءل حجم القلق والحرص في قلبه، حتى لا يكاد يشعر بألم المصائب التي قد تحل به.

وهذا هو جوهر العديد من نصوص الوحي، ولعل أوضحها هو هذه الآيات الواردة في سورة الحديد، حيث يقول تعالى {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}، ففي هذه الآية نجد أبلغ وصف لحال الدنيا التي لا تزيد عن كونها فقاعة جميلة يغتر بها السطحيون والحمقى، فهي مثل أرض خصبة تشربت بعض الماء بعد هطول المطر فأنبتت زرعا جميلا، وما إن فرح به المزارعون (وصفهم بالكفار لأن المزارع يكفر البذر أي يغطيه بالتراب) حتى انتهى عمره سريعا واصفر لونه وصار يابسا تذروه الرياح، حتى إن الوقت لم يسعفهم ليستفيدوا منه، كما هو حال الموت الذي يخطف الناس قبل أن يحققوا أحلامهم.

ثم تأتي الآية الأخرى لتوضح الهدف الذي يستحق الاهتمام فتقول {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.

وبعدها مباشرة يذكرنا الوحي بأن قلة شأن الدنيا لا تنبع فقط من قصر عمرها، بل من كون المصائب أصلا قدرا مكتوبا من قبل أن يخلق الله الإنسان نفسه، فالله تعالى يقول {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير}.

ويختتم الوحي ببيان المعادلة التي تحقق التوازن النفسي، بعد أن يفهم المؤمن حقيقة الدنيا وغاية وجوده العابر فيها، فتقول الآية {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} [الحديد: 23]، وكأن الوحي يقول إذا كانت الدنيا مجرد “متاع الغرور”، وكانت الآخرة هي التي تحقق للمرء كل ما يحلم به في جنة بعرض السماء والأرض، فلا شيء من زخارف الدنيا إذن يستحق الأسى على فواته أو الفرح باكتسابه، وهذه القناعة هي الكنز الذي يحاول الفلاسفة أن ينالوه بشتى السبل، وهي الترياق الذي يحاول علماء النفس ومدربو التحفيز أن يعالجوا مرضاهم به، لكن الملحد لن يناله مهما اقترب منه، لأن زهده في الدنيا إذا لم يقترن بالتطلع إلى حياة أفضل في الآخرة سيؤدي به إلى كارثة أكبر، وسيغرقه في قلق وجودي أشد صعوبة من القلق على الدنيا الزائلة، ففكرة الفناء بعد الموت وانتهاء كل شيء هي فكرة مرعبة للغاية، وهي أصعب على النفس بكثير من القلق الذي يتولد لدى المؤمن من خشية العذاب في الآخرة، فلا يجد الملحد إزاء ذلك مفرا من الاستمتاع بملذات الدنيا بدلا من الزهد فيها، حتى لو كان هذا سيؤدي إلى قلق آخر وهو قلق التعلق بشيء زائل ومجهول المصير.

علاوة على ذلك، يعاني الملحد من قلق غياب العدالة واستحالة تحققها أبدا، فالمؤمن يصبر على الظلم انتظارا لحساب أخروي عادل، ويعلم أنه سيقتص بنفسه من كل من ظلمه، حتى لو كان خصمه هو أكثر الطغاة تجبرا ممن لا يحلم بأن يتمكن حتى من الاقتراب من قصورهم في هذه الدنيا. بينما يدرك الملحد أنه لن يقتص لنفسه ولا لغيره في الدنيا، ولا أمل له أيضا في شيء بعد الموت، وهذا الخلل يكفي لنفي مزاعمه بالراحة والطمأنينة.

بالرغم من هذا، يحاجج البعض بأن الدول التي ينتشر فيها الإلحاد هي التي تتمتع شعوبها بأعلى قدر من السعادة، مثل الدول الإسكندنافية، وذلك بحسب العديد من استطلاعات الرأي التي تجريها بعض الجهات الإعلامية وفقا لمؤشرات عديدة، مثل الشعور بالأمن وتوفر الخدمات الأساسية، وسيادة القانون والديمقراطية وحرية التعبير. لكن هذه المؤشرات لا تتعلق غالبا بمدى الرضا النفسي لدى الأفراد، بل تهتم بمؤشرات الرفاه المتعلقة بالحاجات الأساسية لدى الإنسان ومدى إشباعها، وهي حاجات مادية واجتماعية فقط.

والأهم من ذلك أن استطلاعات الرأي المتعلقة بالسعادة الشخصية (الرضا) تقدم نتائج متباينة جدا بسبب اختلاف معاييرها، فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة “الإندبندنت” البريطانية في 9 يناير/كانون الثاني 2016 استطلاعا للرأي أجراه معهد “غالوب” الأميركي عن الدول الأكثر سعادة في العالم، فجاءت الدول العشرة الأولى بالترتيب التالي من الأسعد إلى الأقل سعادة: كولومبيا، فيجي، السعودية، أذربيجان، فيتنام، الأرجنتين، بنما، المكسيك، الإكوادور، وأخيرا الصين وأيسلندا معا في المركز العاشر.

وقد أبدت الصحيفة اندهاشها الكبير من هذه النتائج، فمعظم هذه الدول تعاني من أزمات تنموية ومشاكل في مجال حقوق الإنسان، بل تفتقر المدن الكبرى في الدولة الأولى (كولومبيا) لأبسط مقومات الأمن والسلامة نظرا لانتشار العصابات والفساد الحكومي، بينما جاءت الدولة الأوروبية الوحيدة (أيسلندا) في آخر قائمة الدول العشر.

أما المرتبة الأخيرة في هذه القائمة التي شملت ثمانية وستين دولة، فكانت من نصيب فرنسا وإيطاليا معا، وجاءت اليونان قبلهما.

وقد يزداد القارئ دهشة إذا علم أن الصحيفة نشرت قائمة أخرى بعنوان “الدول الأكثر تفاؤلا”، حيث تصدّرتها دولة إفريقية حافلة بالمشاكل هي نيجيريا.

ولكي تتضح الصورة من كل جوانبها، جاءت نيجيريا نفسها في المرتبة الثامنة والسبعين على قائمة الدول الأكثر سعادة بحسب “تقرير السعادة العالمي” عام 2015، وهو التقرير السنوي الأكثر شهرة. وبما أنه يعتمد على معايير مادية بحتة وليس على استطلاع لرأي الناس أنفسهم حول مشاعرهم ومدى رضاهم عن الحياة؛ فإن الدول الغربية هي التي تتصدر قائمته كل سنة.

ومع أن الإحصاءات السابقة لم تستطلع علاقة الدين بالسعادة، فربما نجد في استطلاع آخر أجرته منظمة “بارم” Barem التركية ومؤسسة غالوب مؤشرًا على أن الشعوب الأكثر سعادة هي التي تقل فيها نسبة الإلحاد، حيث سُئل أكثر من 66 ألف شخص في 67 دولة (لا توجد بينها دولة عربية) عن مدى تدينهم أو عدم التدين أو الإلحاد، وتبين أن الشعوب التي تقل فيها نسبة الإلحاد هي من الشعوب العشرة الأكثر سعادة بحسب استطلاع صحيفة “الإندبندنت” السابق.

ومع ذلك، إذا افترضنا جدلا أن الدول التي تشهد أعلى نسب الإلحاد بين شعوبها هي التي تتصدر فعلا قوائم السعادة بكل المعايير، فلا ننسى أن هذه الدول لم تحقق نجاحها الاقتصادي والتنموي بسبب الإلحاد واللادينية، بل أقامت نهضتها على جملة من العوامل والمتغيرات التاريخية المعقدة، والتي لا نجد الإلحاد من بينها، فالثروة التي بنت عليها أوروبا اقتصادها الحالي هي في معظمها خيرات القارات الأخرى المنهوبة منذ بدء ما يسمى بعصر الاكتشافات الجغرافية في القرن السادس عشر، ومرورا بالاستعمار والاحتلال المباشر في القرنين الأخيرين، وصولا إلى رأسمالية الشركات العابرة للحدود القائمة اليوم. وعندما اعتمدت أوروبا النظام الرأسمالي إبان الثورة الصناعية كان الدين من أهم المحفزات على العمل والنجاح الاقتصادي، وهذا ما يؤكده ماكس فيبر في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” الصادر عام 1905.

أما الإلحاد الشائع اليوم في الغرب فلم يتحول إلى ظاهرة جماعية إلا بعد أن استقر النظام العالمي على ما هو عليه، وبعد أن تحولت معظم ثروات العالم إلى تلك البقعة الصغيرة التي لا يسكنها أكثر من عُشر سكان الكوكب، وبعد إبادة عشرات الملايين من السكان الأصليين في أمريكا الشمالية وأستراليا تزامنا مع استعباد عشرات الملايين من العمال والمزارعين بعد شحنهم كالحيوانات من أفريقيا.

فالإلحاد إذن ليس هو سبب سعادة الإنسان الذي يعيش على أنقاض تلك الوحشية المنسية، بل هو أحد أعراض الخواء الروحي الذي جاء كنتيجة حتمية للعلمانية المادية الشاملة، وهو حالة مرَضية شاذة في تاريخ الأمم، وانتكاسة للجنس البشري بعد إغراقه في شرعنة النهب والإبادة والاستعباد.

خلال إحدى جولاته للترويج لأفلامه، قال المخرج والممثل الهوليودي وودي آلان للصحفيين إن صناعة الأفلام هي وسيلته لإلهاء عقله عن التفكير في القضايا الوجودية الكبرى، وإنه يهدف أيضا لإلهاء الناس بالأفلام التي يقدمها لهم كي لا ينشغلوا بالتفكير والقلق، لأنه يرى أن الدنيا إلى زوال وأنه لن يبقى هناك شيء بعد الموت.

وهذه نتيجة حتمية لمن لا يؤمن بالبعث والحساب ولا يطمح إلى الخلود في الجنة، فليس هناك حل للقلق الذي يعصف بالإنسان الملحد أو اللاديني سوى بإلهاء عقله، مع علمه بأنه مجرد إلهاء مؤقت.

ومن الجدير بالذكر أن هذا الاعتقاد ليس محصورا بالملحدين واللادينيين فقط، بل يشاركهم فيه كثير من اليهود والمسيحيين البروتستانت الذين لا يؤمنون بالبعث، فسعادتهم لن تتجاوز ما يتمكنون من تحصيله في هذه الدنيا الفانية.

الأخلاق سابقة على الدين، فقد وجدت قبل الأديان الإبراهيمية، والملحدون يتمتعون بنظام أخلاقي كامل، ولديهم الوازع الذاتي والمثل العليا دون حاجة للإيمان بإله يحاسبهم، فلماذا يقول المؤمنون إن الدين ضروري للأخلاق؟

المقولة الشائعة التي ابتدأ بها السؤال هي مغالطة تاريخية وليست حقيقة، فقد بيّنا في مقال الوثنية أن الأصل هو الدين وليس الوثنية، فالدين ابتدأ مع الإنسان الأول آدم وليس مع إبراهيم عليهما السلام، وشرائع ورسالات الأنبياء كلها كانت تجدد العهد الأول من الله تعالى لآدم، فالأخلاق ليست اختراعا ولا اكتشافا، بل نظام محدد ومنضبط نزل به الوحي مع نزول الإنسان نفسه إلى الأرض.

وما قلناه في الجواب على السؤال السابق بشأن نشوء ظاهرة الإلحاد الحديثة والشاذة يقال هنا أيضا، فالملحدون الذين يتباهون بنظامهم الأخلاقي لا يدركون أنهم يتحدثون عن ميراث أخلاقي أخذوه بالكامل عن آبائهم المؤمنين، فالمجتمعات الغربية التي يقال إن نسبة الإلحاد في بعضها تتجاوز نصف السكان ما زال الدين فيها قائماً مهما تراجع، وما زال ظهور الإلحاد فيها -كظاهرة عامة- حديثاً للغاية ولا يقارن أثره التراكمي على العقول والنفوس بأثر المسيحية واليهودية اللتين تعدان حتى اليوم عاملا جوهريا في تشكيل الثقافة الأوروبية، وفي الخلفية الأخلاقية بطبيعة الحال.

وإذا أردنا تقييم دور الإلحاد كنظام شامل للحياة في الأخلاق فعلينا أن نجد أولا مجتمعا ملحدا بالكامل ولم يتشرب الثقافة الدينية عبر أجيال طويلة، ثم نُخضع أخلاق هذا المجتمع للبحث العلمي لنتحقق من مزاعم نشوء الأخلاق من العقل المجرد دون حاجة للوحي.

والعثور على مجتمع كهذا مستحيل عمليا، فحتى القبائل المعزولة في الغابات النائية تمتلك عقائد وأساطير دينية وسحرية، ولا يمكن لأي باحث أن يجزم بأن هذه الأديان “البدائية” قد تولدت عن عقول أجدادهم لأنه لا يوجد تاريخ مكتوب أو شفوي لأصول هذه الأديان، لذا يؤمن بعض الباحثين الملحدين باحتمال ورود الأديان نفسها من كائنات فضائية، لعدم إيمانهم بوجود إله ولا ملائكة ولا شياطين، وهذا الاحتمال -الممكن عقليا وعلميا- يعني أنه لا يحق لأي باحث أن يجزم بأن الأديان، وبما فيها الأخلاق، قد نشأت حتما عن العقل البشري وحده دون مصدر خارجي.

وبالعودة إلى الوحي المحفوظ من التحريف، نجد ما يؤكد أن الأمم كلها تلقت نصيبها من الوحي الإلهي، حيث يقول القرآن الكريم {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا} [النحل: 36]، ما يعني أن الأخلاق المتبقية في ثقافة الشعوب المعزولة هي ميراثها المتبقي من الدين قبل تحريفه.

وعبر كل قرون التاريخ المكتوب، لا نجد مجتمعا إلحاديا واحدا أقام عقيدته ونظامه الأخلاقي بالكامل على المادية المطلقة، فحتى الأساطير التي استبعدت فكرة الإله الخالق لم تجنح نحو المادية بل آمنت بوجود “حقيقة مطلقة” مفارقة للعالم المادي، وتخيلت وجود عوالم روحية أكثر رقيا، وزعمت استمداد الأخلاق والمثل من تلك العوالم المثالية.

وعندما حاول أبيقور اليوناني إقامة فلسفة مادية إلحادية تتخلى عن الآلهة والغيبيات، لم يستطع وضع نظام أخلاقي سليم يهذّب الإنسان المفعم بالشهوة، فحاول جاهدا أن يفلسف اللذات الحسية ويضفي عليها بعدا أخلاقيا، معتبرا أن السعادة تكمن في اللذة، إلا أنه اضطر إلى إيجاد مفهوم أخلاقي يضبط هذه اللذة كي لا يتحول الإنسان إلى عبد لها، فنصح أتباعه بالاستمتاع بسكينة العقل التي سماها “أتاراكسيا”، وانتهى به الأمر إلى مطالبتهم بتقديم اللذات الروحية على الحسية. لذا سارع تلاميذه بعد موته إلى إزالة هذا التناقض وحذف اللذات الروحية من المعادلة، لأن الإلحاد لا يتناسب أصلا إلا مع المتع الحسية، وتحولت هذه الفلسفة تلقائيا إلى مجرد تقليعة للخلاعة والمجون وليست فلسفة ولا بديلا للدين، ولا يمكن لأي حضارة أن تعتمد عليها لبناء مجتمع متماسك.

وعندما عاد الإلحاد للانتشار في الغرب، كادت الحضارة الحديثة أن تقع في هذا التناقض المفزع، وقدّم عدة فلاسفة ملحدين أطروحات متناقضة بحثا عن أصل فلسفي للأخلاق تتسق مع افتراضهم المسبق بعدم وجود إله، ووصل الأمر بالبعض إلى العدمية التي كان من الممكن أن توقع الغرب كله في مأزق لو قُدر لها الانتشار، إلى أن طرح الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في القرن التاسع عشر فلسفته الأخلاقية التي تفترض وجود مبدأ اسمه الواجب، معتبرا أن الإنسان يلتزم بالأخلاق النبيلة بدافع ذاتي عقلاني، وهو لم يحلّ بذلك معضلة الأصل المثالي المتعالي لهذا الوازع الذي لا يمكن أن ينشأ لوحده في عالم المادة، فكل ما فعله كانط هو أنه أعاد الاعتبار للأخلاق المسيحية ولكن في إطار علماني، لا سيما وأن كانط نفسه نشأ في عائلة شديدة التدين واستمد خلفيته الثقافية من تربيته الدينية، وما زالت فلسفته الأخلاقية هي السائدة في الغرب اليوم لأنها الحامل الفكري الوحيد المتبقي للأخلاق في العالم المادي، مع أنها ليست سوى محاولة لإعادة صياغة الأخلاق الدينية بعبارات جديدة.

والأمر نفسه ينطبق على الدول الشيوعية التي جربت تطبيق الإلحاد المتطرف وفرضته على الشعوب في القرن العشرين، فالأنظمة الدكتاتورية هناك فرضت نظاما أخلاقيا صارما للحفاظ على تماسك المجتمع، ولم تترك الناس ليستمدوا أي وازع من عالم المادة، فالإلحاد لا يمكنه أن يصمد أمام إلحاح الشهوات عندما يقتنع الإنسان بأن حياته القصيرة هي كل شيء، وإذا كان بضعة فلاسفة ملحدين قد نجحوا فعلا في ضبط نزواتهم الجسدية والنفسية فإن تجربتهم لا يمكن أن تعمم على عوام الناس، لا سيما إذا اقتنعوا بأنه ليس هناك إله مطلع على كل أعمالهم، بل حتى على قلوبهم ونواياهم.

في عام 1963 أجرى عالم النفس الاجتماعي الأميركي ستانلي ملغرام تجربة مشهورة حملت اسمه، الهدف منها قياس مدى استعداد الناس للطاعة حتى عندما تتناقض أوامر السلطة مع ضمائرهم، فطلب ملغرام من أربعين مشاركا طرح أسلئة على شخص موجود في غرفة أخرى عبر جهاز اتصال، وأخبرهم أن هذا الشخص يجلس على كرسي كهربائي، وأن كل إجابة خاطئة يقدمها ذاك الشخص ستؤدي إلى صعقه بصدمة كهربائية، وستزداد قوة الصدمة تلقائيا مع توالي الإجابات الخاطئة، ولم يعرف المشاركون في التجربة أن الشخص الآخر كان ممثلا وأن صرخاته وتوسلاته مع كل صدمة لم تكن حقيقية.

كان المشرف على التجربة يوجه تنبيهات جادة للمشاركين كلما أبدوا رغبتهم في التوقف، ويطالبهم بصيغة تتضمن نوعا من الأوامر أن يواصلوا، مع أنه ترك لهم حرية الإصرار على التوقف إذا أرادوا، كما أخبرهم ملغرام أن التجربة ستنتهي تلقائيا عندما تصل قوة الصدمة إلى 450 فولت.

المفاجأة أن 65% من المشاركين استمروا بصعق الرجل وصولا إلى الصدمة القصوى، ولم يقم أي منهم بمغادرة الغرفة للتحقق من سلامة الشخص الآخر في الغرفة المجاورة مع أنه كان يصرخ بشدة، بل لم يصل الأمر بالذين رفضوا المتابعة أن يطالبوا المشرف بإلغاء التجربة نهائياً. والسبب لا يقتصر فقط على أنهم كانوا ينصاعون للأوامر، بل لأن المشرف كان يؤكد باستمرار أنه هو الوحيد الذي يتحمل المسؤولية، وعندما كان بعضهم يسألونه مجددا عما إذا كانوا مسؤولين عن أي أضرار تصيب الرجل المسكين أو حتى موته كان يجيب بكل صرامة أنه هو المسؤول الوحيد بموجب عقد تم توقيعه مسبقا مع المشاركين.

فيديو توضيحي لتجربة ملغرام

أجريت تجارب أخرى عديدة مماثلة، وتم الاستنتاج أن الإنسان العادي يكاد يفقد وازعه الأخلاقي عندما يعلم أنه لن يحاسبه أحد، وأثبتت التجربة أيضا -بشكل غير معلن- أن الإنسان الغربي الذي نشأ على العلمانية الشاملة لم يعد يفكر بوجود إله يراقبه ويحاسبه على إيذاء شخص آخر، فلم يعد يخشى سوى سلطة الدولة.

بعد نحو خمسين سنة على إجراء التجربة، ازداد الانهيار الأخلاقي في الغرب بسرعة مرعبة، حيث تنتشر في السنوات الأخيرة عبر موقع يوتيوب عشرات المشاهد المصورة بكاميرات خفية لتجارب يجريها هواة، فضلا عن برامج تلفزيونية احترافية، رُصدت فيها ردود فعل مئات الناس في مجتمعات غربية إزاء بعض القضايا الأخلاقية، مثل طفل يدعي أنه فقير وهو يرتجف بقميص صفيق في شتاء نيويورك فلا يجد أحدا يساعده، وشخص يتظاهر بأنه مصاب بنوبة قلبية وهو ملقى على الرصيف لعدة ساعات دون أن يتوقف أحد المارة لينقذ حياته، وشخص يتظاهر بالعمى ويطلب مساعدة المارة بتحويل ورقة من فئة المئة دولار إلى “فكّة” فيتعرض لعدة محاولات سرقة.

تجربة اجتماعية لاكتشاف ردود أفعال المارة إزاء طفل يعاني من البرد

كما أثبتت تجارب أخرى مصورة بكاميرات خفية انتشار ظواهر خطيرة في شوارع عدة مدن غربية، مثل التحرش بالجنسين، والتعصب ضد الأقليات، وعقوق الوالدين، بل أظهرت أن غالبية الناس لا تجرؤ على تغيير المنكر عندما ترى شخصا يتعرض للضرب أو الاحتيال مثلا.

في المقابل، أظهرت تجارب مماثلة أجريت في مدن عربية عدة وبثتها عدة قنوات فضائية، وانتشر بعضها على الإنترنت من قبل هواة، أن الوازع الأخلاقي في المجتمع المسلم أقوى بكثير من مثيله في الغرب، وذلك بالرغم من التراجع الشديد لأثر الدين في حياة الناس اليوم.

ولكي تكون المقارنة أكثر مصداقية بين الشرق والغرب، فيجب على الباحث أن ينتبه إلى أن كثيرا من المجتمعات العربية والمسلمة تعاني من أزمات اقتصادية وأمنية خانقة، بينما يسود الرخاء والأمن في المجتمع الغربي غالبا. وفي كل الاضطرابات التي شهدتها بعض الدول الغربية خلال السنوات الأخيرة نرى انهيارا سريعا للأخلاق، وانتشارا لأعمال النهب والشغب، كما جسدت السينما الغربية في أفلام كثيرة هذه الصورة المرعبة لانحدار المجتمعات المتحضرة نحو الوحشية فور وقوع أي كارثة.

ولو عدنا بالزمن قليلا لدراسة أخلاق المجتمعات الغربية إبان الثورات والحربين العالميتين وأزمات الكساد الكبرى في القرن العشرين فقط، لتغيرت نظرتنا جذريا تجاه كل ما يقال عن تحضر تلك المجتمعات، فعندما نحذف من ثقافة مجتمع ما عقيدة البعث والحساب الأخروي، ونستبعد تماما فكرة مراقبة الله للإنسان، فهذا يعني أننا نضعه أمام سلطة واحدة فقط هي سلطة الدولة، وبما أن الدولة (مهما تغوّلت) لن تستطيع أن تراقب كل فرد وفي كل مكان وزمان، فما هو الوازع البديل إذن؟ وما الذي يبقى من الأخلاق في مجتمع كهذا؟

الصليبية

الصليبية وصف أطلق على الحروب التي شنها الغرب المسيحي على العالم الإسلامي نهاية القرن الحادي عشر الميلادي/الخامس الهجري، واستمرت معاركها العسكرية لمدة تزيد عن مئتي سنة، وكان لأحداثها ونتائجها أثر بالغ في تاريخ العالم الإسلامي لايزال مستمراً بقوة إلى الآن.

وإذا كانت المعارك العسكرية قد انتهت فإن الفكر الصليبي الذي أسس لهذه الحرب وأشعلها لم ينته، بل على العكس لا يزال مسيطراً على الفكر الغربي وعقلية من يحكمونه من نخب سياسية وثقافية واقتصادية.

وسنهتم هنا بدراسة الخلفية الفكرية (الأيديولوجية) لهذه الحروب؛ لا سرد تاريخها ومعاركها، فقد شكلت هذه الأيديولوجية عقيدة راسخة لها أبعادها وخفاياها وليست مجرد فكرة طارئة خرجت من ذهن متهورٍ أو جاهل، كما أن الرؤوس المدبرة لهذه الحروب لازالت موجودة إلى الآن، وتشهد اليوم ذروة قوتها وهيمنتها.

الصراع الإسلامي المسيحي

لوحة تخيلية لمجمع نيقية تعود إلى القرن السادس عشر

تعود جذور الصراع بين الإسلام والمسيحية إلى وقت مبكر من تاريخ الإسلام، فقد بدأت البعثة النبوية في القرن السابع الميلادي عندما كانت الدولة البيزنطية تمثل القوة المسيحية الأساسية الكبرى التي تسيطر على مساحات واسعة من العالم، بما فيها الشام ومصر وشمال أفريقيا، وكان من الطبيعي أن تنظر هذه الدولة عقائدياً بعين العداء لعقيدة جاءت وركنها الأعظم توحيد الإله ونفي الشريك والولد عنه، مقابل ما تبنته تلك الدولة من عقيدة مشوهة منذ عقد إمبراطورها قسطنطين مجمع نيقية (325م) وصدر عنه مقررات اعتمدت تعديلات بولس الرسول (شاؤول اليهودي) القائلة بألوهية المسيح، ثم أضيف إليها فيما بعد ألوهية الروح القدس، فأصبحت بنسختها المعدلة تقر بالتثليث مقابل التوحيد الذي جاء به المسيح نفسه.

وكان الصدام العسكري الأول بين المسلمين والمسيحيين في معركة مؤتة (8هـ- 629م)، ثم تبعتها سلسلة من الصدامات التي دلت على أن الدولة البيزنطية ستتولى قيادة الصراع مع المسلمين في القرون المقبلة. ومع توالي الفتوحات الإسلامية زمن الخلافة الراشدة وما بعدها؛ شكَّل فتح المسلمين لبيت المقدس (16هـ-637م) محطة مفصلية لما تمثله المدينة من مكانة دينية هامة للطرفين، مما سيجعلها المؤثر الأبرز على مستقبل الصراع الإسلامي- المسيحي، بل واليهودي أيضاً كما سيظهر.

وشهد الصراع بين الطرفين مراحل من المد والجذر إلى أن دبَّ الضعف في العالم الإسلامي نتيجة عوامل عديدة، على رأسها التشتت والخلافات، إضافةً إلى عامل مهم تمثل في خضوع أقاليم واسعة منه لسيطرة دول شيعية، أهمها الدولة العبيدية التي تعرف بالفاطمية في مصر وأجزاء واسعة من الشام، مقابل خلافة عباسية سنية ضعيفة في العراق وما حوله، مما جرأ الدولة البيزنطية على التفكير في استعادة ما فقدته من بلاد، وعلى رأسها بيت المقدس، وأصبحت خطابات ملوكها التي توجَّه لجيوشها المقاتلة مشحونة بالعبارات الدينية التي تؤكد الروح العقدية التي تحرك حروبها.

أما في غرب أوروبا -منطلق الحملات الصليبية- فكانت السيادة والهيمنة للسلطة الدينية ممثلةً بالكنيسة الكاثوليكية وبابا الفاتيكان، إضافة إلى مجموعة محكمة التنظيم من الأديرة والكنائس التي تديرها أسر من النبلاء والأمراء الإقطاعيون والتي تمتع بعضها بنفوذ وثروات كبيرة واستقلالية تامة بعيدة عن سلطة الكنيسة وأعينها.

دوافع الفكر الصليبي

يُطلق مصطلح العصور المظلمة على المرحلة التي عاشتها أوروبا قبل الحروب الصليبية التي سمحت لها بالاحتكاك بالمشرق الإسلامي واكتشاف حضارته وعلومه، حيث كانت أوروبا تغرق قبلها في العنف والجهل والأوبئة

بعد استقراء معظم ما كُتب في تحليل دوافع الحروب الصليبية يتبين أن آراء الباحثين تنوعت ما بين من يرجع أسبابها إلى مجموعة من الدوافع الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حركتها وقدحت شرارتها، وبين من يجعل لها سبباً واحداً أسهم في نشأة الفكر الصليبي وما نتج عنه من حروب عسكرية وفكرية.

ويلاحظ تركيز البعض على ضرورة استبعاد الدافع الديني الذي حرك تلك الحشود الضخمة وجعلها تطوف في البلاد وتسفك الدماء، مع أن أفرادها كانوا يرسمون الصليب على أكتافهم ويرفعونه في حروبهم ويصرحون بأن هدف حملاتهم هو “إنقاذ المسيحيين والقدس من المسلمين واستعادة الضريح المقدس”.

ومع البحث يتضح أن لهذا الفكر دوافع عديدة، منها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، إلا أن الدافع الديني هو المهيمن، ويشكل الأصل الذي تفرعت عنه تلك الأسباب كلها، فلا شك أن أوروبا كانت تعاني اقتصادياً وأن معظم شعوبها محرومة من رغد الحياة، مما أطمعها في خيرات الشرق الغني، كما تغلبت رغبة الثراء على عقول الأمراء الإقطاعيين، فكانت الحرب فرصة لتحقيق طموحات استحال عليهم تحقيقها في أوروبا بسبب قانون الإرث الذي يمنح الثروة بأكملها للابن الأكبر، إضافة لما تجلبه الحرب من امتيازات وثروات لتجار الموانئ الأوربية التي تساهم أساطيلها فيها.

أما سياسياً، فقد رغب ملوكها وأمراؤها بتوسيع نفوذهم، وانتبهوا إلى ضعف الدولة البيزنطية (والتي كانت تتبع المذهب الأرثوذكسي وتمتد على تركيا وأوربا الشرقية) مما شجعهم على فتح الباب الشرقي لأوروبا أمام خطر المسلمين، إضافةً إلى خطر إخوانهم في الغرب أي الأندلس الذين كانوا يخوضون معهم حروباً لم تتوقف.

أما على الصعيد الاجتماعي، فكانت أوربا تعيش حالة مزرية مع تفشي الفساد الأخلاقي الذي امتد ليشمل رجال الكنيسة، كما كانت تعاني من انتشار الجريمة، إضافة إلى معاناة شديدة عاشتها جموع الفلاحين والعبيد بسبب حياة الذل والعبودية التي فرضها الإقطاعيون مقابل حمايتهم من هجمات خارجية تشنها عصابات قطاع الطرق.

أوربان الثاني

ساهمت هذه العوامل دون شك في إذكاء الحروب الصلبيبية، لكنها مجتمعة ما كان لها أن تضرم نار سلسلة من الحروب استمرت طوال هذه المدة الزمنية ودمرت وقتلت مئات الألاف، لولا وجود دافع رئيسي مؤثر غذّاها وأمدها بأسباب القوة والاستمرار، ألا وهو الدافع الديني. فالفكر المحرك لتلك الحروب كان ولازال نتيجةَ دافعٍ عقدي رئيسي تفرعت عنه تلك الدوافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عانى منها الغرب طويلاً، لكنها لم تشعل حرباً على العالم الإسلامي إلى أن ظهرت شخصيات مؤثرة كالبابا أوربان الثاني، الذي كان العامل الديني لديه ولدى كثيرٍ من القواد والأمراء واضحاً منذ البداية، فأفلح في الاستفادة من تلك العوامل وتجنيدها لخدمة غايته العظمى وهي شنُّ “حرب مقدسة” على العالم الإسلامي.

كان الدين هو الهدف المعلن لتلك الحملات التي دعت الحشود إلى “إنقاذ الأرض المقدسة وضريح المسيح والإمبراطورية البيزنطية من المسلمين الوثنيين الكفار”، ونجح البابا في تهييج الجموع الكبيرة التي اجتمعت في كليرمون جنوب فرنسا سنة 1095م لتستمع إلى خطبته الشهيرة، التي أكد فيها أنه يتكلم نيابة عن المسيح نفسه عليه السلام، فقال “ومن ثَمَّ فإنني لست أنا، ولكن الرب هو الذي يحثكم باعتباركم وزراء المسيح أن تحضوا الناس من شتى الطبقات”، كما استخدم نصاً من إنجيل لوقا يقول “ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا”، ووعد المشاركين بالغفران من الذنوب التي كانت شائعة للغاية، فازداد حماسهم في ظل شيوع التعصب الديني والخرافات والاعتقاد بالعودة الوشيكة للمسيح إلى الأرض ونبوءات آخر الزمان، وهي عقائد سادت بقوة في ذلك العصر بفعل اليهود المتغلغلين بقوة في المجتمع الأوروبي بأفكارهم وعقائدهم [انظر مقال المسيحية المتصهينة].

كما استغل البابا قدرته الخطابية في التصوير غير النزيه لمعاناة الحجاج النصارى في الأراضي المقدسة على أيدي المسلمين الذين سمّاهم بالوثنيين، واستثار الحشود التي كان معظمها لا يعرف القراءة والكتابة مؤكدا لهم أن بيت المقدس هو جنة الأرض وقلب العالم المليء بالخيرات، وما إن انتهى من خطبته حتى ثارت الجماهير وصاحت: “الرب يريدها.. الرب يريدها” وهي الصيحة التي صارت شعارًا للحرب بعد ذلك.

تواصل البابا مع المجامع الدينية في أوروبا الغربية ليأخذ رجال الكنائس على عاتقهم مهمة تحميس الناس، وكلّف بطرس الناسك (الذي سيكون له دور بارز في الحملة الصليبية الأولى) بالقيام بجولات مكثفة في أوربا لجمع المقاتلين، مستغلا براعته في الخطابة.

واستثمر البابا حماسة الأمير ريمون الرابع الذي كان يحكم تولوز وبروفانس، وغيره من الأمراء الكبار، ولا سيما الذين شاركوا سابقا في محاربة المسلمين بالأندلس، والذين سبق لهم أن زاروا القدس كحجاج.

لوحة تعود إلى القرن الرابع عشر للحملة الصليبية الثانية

وكان اختيار البابا لفرنسا -موطنه الأصلي- لتكون المكان الذي سيعلن منه بدء الحملات الصليبية مقصوداً، فقد كان جنوب فرنسا بمثابة منطقة تماس مع الحرب التي شنها النصارى الإسبان ضد المسلمين في الأندلس، كما كانت ذات دلالة رمزية وتاريخية خاصة تمثلت في أنها شهدت وقف المدِّ الإسلامي وإعاقته خلال معركة بلاط الشهداء أو بواتييه التي هزم فيها المسلمون سنة (732م)، وهو أمر لم يغب عن بال أوربان الثاني فأراد لها أن تكون منطلق حملاته التي يريد شنَّها على العالم الإسلامي.

وهكذا استطاع أوربان الثاني أن يوحد أوربا في مشروع واحد رغم الاختلاف البيِّن بين شعوبها المختلفة، فتوحدت على الحرب المقدسة ضد الأعداء مع شيوع الاعتقاد بقرب نهاية العالم، وأصبحت الحرب مشروعاً لتحقيق أحلامهم الدنيوية وخلاصهم الأخروي في آن واحد، حتى اعتبروا أنفسهم “فرسان المسيح” و”جيش المسيح” و”الشعب المقدس ” و”شعب الرب “، وآمنوا فعلا بأن الحرب استجابة لأوامر الرب نفسه.

أبعاد خفية
ذكرت دراسات عديدة في الشرق والغرب أن هناك أبعادا أخرى للحروب الصليبية تم إخفاؤها عمداً عن صفحات التاريخ، وكان من أحدث هذه الدراسات التي صدرت حديثاً كتاب “اليهود والحركات السرية في الحروب الصليبيبة” للباحث المصري د. بهاء الأمير، حيث أشار إلى أن تلك الحروب لم يكن لها من المسيحية إلا الغلاف والقشرة، أما في جوهرها فكانت يهوديةً خالصة.

وقد عمد الأمير في كتابه إلى جمع وثائق ومراجع غربية عديدة لكتَّاب من عصور مختلفة والنظر فيها وتمحيصها، ككتاب “الدم المقدس: الكأس المقدسة” لميشيل بيجنت وهنري لنكولن، وموسوعات غربية شهيرة كالموسوعة البريطانية، وما كتبه روبرت لوماس أحد الخبراء في تاريخ الجمعيات السرية وأشهر من أرَّخ للماسونية، وألبرت بايك سيد الماسونية في القرن التاسع عشر وغيرهم، ورجّح من خلالها وجود تلك الدوافع الخفية للحروب الصليبية.

وتفصيل ذلك أن أوروبا عرفت منذ القرن الثالث الميلادي ظهور ما يعرف بالأسرة الميروفنجية، وهي مجموعة من الأسر التي ترتبط فيما بينها بعلاقات نسب ومصاهرة قوية، وتعتبر الفرع الأكبر والأشهر من قبائل الفرانكا (الفرنجة) التي سيطرت على مناطق واسعة من جنوب أوروبا وغربها، فيما كان يعرف قديماً باسم “غالة”، والتي كانت تضم فرنسا وبلجيكا وسويسرا وغرب ألمانيا وجزءاً من أسبانيا، ولم تدخل في المسيحية إلا في القرن الخامس الميلادي، حيث أنشأت سلسلة أديرة خاصة بها في كل أنحاء غالة ودعمتها مادياً ومعنوياً لضمان ولائها لها، ولتبثَّ من خلالها أفكارها في أتباعها، حتى نجحت بالتدريج في التغلغل بالمجتمع وصولاً إلى الطبقة الحاكمة، ولتصل في النهاية إلى تأسيس مملكة دينية من الأديرة والكنائس تنافس الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان، وتمنع تسرُّب أفكار الفاتيكان إلى شعوب “غالة” التي صارت تحت حكمها.

ويؤكد في كتابه اعتماداً على وثائق ودراسات غربية أن نسب الأسر الميروفنجية يعود إلى من بقي من سبط بنيامين (أحد أسباط بني إسرائيل الإثني عشر)، الذين فروا بحراً إلى أوربا بعد خراب الهيكل الثاني في القدس على يد الرومان واستقروا فيها، ثم حرصوا على التصاهر مع أسر يهودية من سبطي لاوي ويهوذا، أي أن جذورهم تعود إلى بني اسرائيل ودينهم اليهودي، وأن اعتناقهم المسيحية كان مجرد غطاء.

ولاحقاً، نجحت تلك السلالة من خلال رهبان الأديرة التي أسستها في اختراق الكنيسة الكاثوليكية نفسها، واستطاعت إيصال ستٍ من الباباوات ذوي الأصل اليهودي إلى رأسها، وكان أشهرهم البابا أوربان الثاني الذي أوقد شعلة الحروب الصليبية، فقد كان راهباً يرأس دير كلوني، أحد أكثر أديرة الأسرة الميروفنجية نفوذاً وثراءً.

وبهذا يمكن فهم أبعاد العبارة التي افتتح بها البابا خطبته الشهيرة في كليرمون عندما قال “يا شعب الفرانكا (الفرنجة) العظيم القادم عبر الجبال، يا شعب الله المحبوب المختار”. فقد كان يوجه خطابه إلى الفرانكا وليس إلى المسيحيين أو المؤمنين، ووصفهم بأنهم شعب الله المختار، وهو أسلوبٌ يهودي خالص.

كان أمراء أوروبا يتعاونون مع رهبان تلك الأديرة لتهيئة الأجواء باتجاه الحرب، فوثقوا صلاتهم بالإمبراطور البيزنطي (الأرثوذكسي) وأقنعوه بضرورة الاستعانة بهم لمساعدته في صراعه ضد السلاجقة المسلمين، وعندما استنجد بهم فعلاً أثاروا مشاعر الجماهير للزحف تجاه الأرض المقدسة.

غودفروي دي بويون

ومن الملفت أن قادة الحملة الصليبية الأولى اتفقوا على أن تعيين غودفروي دي بويون حاكماً للقدس (أورشليم) بعد السيطرة عليها، ولم يكن اختياره مصادفةً إذ كان أصرحهم نسباً في الأسرة الميروفنجية، فهو سليل داوود عليه السلام مما جعله في دين اليهود وريث أورشليم الشرعي، ويبدو أن استعادة القدس وتنصيب ملكٍ من بني إسرائيل عليها هو الهدف الحقيقي للحملة الصليبية.

وبالرغم مما قلناه عن الدوافع الاقتصادية للحرب فقد كانت متداخلة مع العقيدة، إذ تؤكد مصادر عديدة أن اليهود كانوا سادة المال والتجارة في أوروبا منذ القرن الخامس الميلادي، وأن التجارة بين أوروبا والعالم الإسلامي أصبحت في أيديهم بحلول القرن العاشر الميلادي، فكان تدبيرهم للحملات الصليبية وسيلة لاستكمال سيطرتهم على المال والتجارة العالمية، حيث راجت التجارة أثناء الحروب الصليبيبة وأثرى التجار (ومعظمهم من اليهود) ثراءً فاحشاً.

ولعل السِّمة اليهودية الأبرز للحملات الصليبية تتجلى في منظمة “فرسان الهيكل” التي كانت أشهر منظمة عسكرية في تاريخ أوروبا، علماً بأن اسمها الكامل هو “الجنود الفقراء من أتباع المسيح وهيكل سليمان”.

ويكتنف الغموض تاريخ هذه المنظمة، إلا أن ما كشفته بعض الدراسات الحديثة ساعد على ربط الكثير من الخيوط وكشف خفاياها، فقد أنشأها عام 1118م رجلان أحدهما الكونت دي شامبان رأس الأسر الميروفنجية، والآخر هو القديس برنار دي كليرفو رأس مملكة الأديرة التي أنشأتها تلك الأسر، وبذلك يعتبر الفرسان نموذجاً مثالياً للتحالف الوثيق بين تلك الأسر والأديرة التي كونتها ومولتها.

“كنيسة المعبد” التي كانت مقرا لفرسان الهيكل في لندن ويبدو من مظهرها أنها كانت أقرب للقلاع من الكنائس المسيحية

نجح دي كليرفو في اختراق الكنيسة الكاثوليكية حتى أصبح أهم مستشاري البابا، وأقام علاقات وثيقة مع ملوك أوروبا وأمرائها، واستطاع بنفوذه الحصول على اعتراف البابا بفرسان الهيكل ومباركته، حتى منحها من الامتيازات ما جعلها خارج سلطة الملوك والأمراء والأساقفة.

أعلنت هذه المنظمة ظاهرياً أن الهدف من إنشائها هو حراسة طرق الحج من يافا إلى أورشليم، وحماية الحجاج المسيحيين من أعمال السرقة والنهب التي كانوا يتعرضون لها بزعمهم، وأظهرت كفاءة قتالية عالية بمشاركتها مع الجيوش الصليبية، وحققت انتصارات كبيرة كان أشهرها معركة تل جازر سنة 1177م، والتي استطاعوا فيها تشتيت جيش صلاح الدين الأيوبي وهزيمته نتيجة خطأٍ عسكري ارتكبه، فزادت امتيازاتها وأصبحت القوة المنظمة الأولى في مملكة أورشليم الصليبية.

وأكد باحثون أن ما أظهرته المنظمة من أهداف وما قدمته من بطولات كانت ستاراً لهدف خفي، وهو الوصول إلى المسجد الأقصى والتنقيب تحته لكشف آثار هيكل سليمان الذي حملت المنظمة اسمه صراحةً، حيث اتخذوا مقراً لهم داخل المسجد، أي بعيداً عن طرق الحج التي أعلنوا عن حمايتها، وحفروا أنفاقاً تحته عُثر عليها سنة 1867م وفيها أدوات وأسلحة تحمل شعاراتهم.

اللباس التقليدي لفرسان المعبد

يدل ارتباط هؤلاء الفرسان بالهيكل دلالةً واضحة على أصلهم اليهودي ويرجح صِحَّة وقوف اليهود خلف الحملات التي رفعت الصليب شعاراً لها، إذ يبدو أن هدفهم من تحريكها كان الوصول إلى الهيكل الذي يصفه تيودور هرتزل بأنه: “عقيدة آبائنا التليدة التي جمعتنا معاً”، فالهيكل هو لبُّ اليهودية، وإعادة بنائه غايتها في كل زمان ومكان، فلا يوضع اسم الهيكل في منظمة أو تنظيم إلا ويكون يهودٌ خلفه، ولا علاقة للمسيحية به من قريب أو بعيد.

ومع أن أورشليم مقدسة عند المسيحيين، إلا أن المقدس فيها هو القبر وكنيسة القيامة وليس الهيكل، لأن خراب الهيكل وهدمه من علامات صدق المسيح عند أتباعه كما نص إنجيل متى. فلماذا تنسب منظمة -تدَّعي أنها كاثوليكية- نفسها إلى الهيكل وتضعه في اسمها إلى جانب المسيح، مع أنه ليس له أي قداسة في المسيحية بل العكس هو الصحيح؟!

لذا يرجح باحثون أن وضعهم كلمة المسيح ضمن اسم المنظمة كان غلافاً يخفي غايتهم الحقيقية وهي “الهيكل”، وهذا من سمات اليهود التي يغفل عنها الكثير من المؤرخين، ولا سيما المتعلقون بظاهر الأحداث.

ومع تنوع أسباب الحروب الصليببية وتشتتها في نظر معظم مؤرخيها، يبدو أن بعض الدراسات الحديثة نجحت أخيرا في الكشف عن انبثاقها من أصل واحد ضمن إطار العقيدة اليهودية، وأن اليهود تعمدوا إظهارها مشتَّتةً لإخفاء الهدف الحقيقي وتركه محل جدل على مدى قرون، وليبقى الآخرون غافلين عن السلاح الفعال الذي لا يمكن مواجهتهم إلا به، ألا وهو عقيدة الوحي غير المحرفة.

 

نتائج الحروب الصليبية
لعل أهم نتائجها هو ما خلفته من آثار على الصعيدين الثقافي والفكري، فالحملات الصليبية انتهت عام 1291م بفشل عسكري ذريع، إلا أنها أقنعت الصليبيين ومن وراءهم بضرورة تحويل المعركة مع العالم الإسلامي من حرب مسلحة إلى حرب مقنعة وأن يكون سلاحها الرئيس هو الغزو الفكري، وذلك تحت أقنعة العلم والصناعة والتجارة والبعثات الطبية والأثرية، وغيرها من المجالات الإنسانية التي لا تثير حفيظة الشعوب.

فالغزو الفكري لا يولد ردَّ فعل مقاوم كما يحدث مع العدوان العسكري، لذا شاع في الغرب قولهم “إذا أرهبك سلاح عدوك؛ فأفسد فكره ينتحر به”. وقد كان اليهود العقل المدبر لهذا الغزو ثم سار الصليبيون على أعقابهم بعد خيبة الحروب الصليبية، ونجحوا خلال قرون من التجريب والتطوير في تحقيق أهدافهم، والتي تتجسد في المجالات الثلاثة الآتية:

  • التنصير: لجؤوا إليه لاستمالة المسلمين بطرق ودية بعد فشلهم العسكري، فأرسلوا البعثات التبشيرية التي نشطت في العالم الإسلامي مستغلةً ضعفه، حيث استغل المبشرون مجالات التعليم والطب والتواصل الشخصي مع المسلمين لتحقيق غايتهم. وقد أثبتت الكثير من البعثات التبشرية حرصها الشديد على تنصير المسلمين وتحملت في سبيل ذلك مشاق عظيمة لا يتحملها إلا من يمتلك دافعاً عقدياً قوياً يهيمن عليه.
  • الاستشراق: هو تعبير أطلقه الغربيون على الدراسات المتعلقة بالشرقيين، بما يشمل دراسة شعوبهم وتاريخهم وأديانهم ولغاتهم ، وقد اهتم معظم المستشرقين بدراسة الإسلام وشعوبه أكثر من أي شعب شرقي آخر، وأثبت التاريخ توظيف أبحاثهم في خدمة أغراض التبشير والاستعمار.
  • التغريب: يقصد به نقل مفاهيم الحضارة الغربية وسلوكياتها وأفكارها إلى العالم الإسلامي عبر الأنظمة التربوية والسياسية والثقافية، وذلك بأيدٍ إسلامية تلقت تعليمها على الأغلب في المدارس الغربية وتشبعت بالعداء لبيئتها ودينها.

إدموند إلّنبي

ويبدو أن الغرب استثمر هذه الوسائل الثلاث جيداً على مدى قرون، ليعود إلى العالم الإسلامي غازياً ويستكمل حربه الصليبية بحملة جديدة تحت مسمى الاستعمار، حتى قال الجنرال إدموند إلّنبي -اليهودي كما جاء في الموسوعة اليهودية- وهو يدخل القدس سنة 1917م “اليوم انتهت الحروب الصليبية”، كما توجه الجنرال الفرنسي هنري غورو فور احتلاله دمشق سنة 1920 إلى قبر صلاح الدين الأيوبي، وركله بقدمه قائلاً: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”، وهي مقولة استحضرناها مؤخراً عندما أفلتت من الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن عبارة “إنها حملة صليبية جديدة”في وصف حربه على العراق سنة 2003م [انظر مقال المسيحية الصهيونية].

والملفت في جميع تلك الحملات القديمة والحديثة الدور اليهودي غير المعلن، فقد نجح اليهود في اختراق المسيحية منذ شاؤول في القرن الميلادي الأول حتى أصبح رسول المسيحية الأول وحمل اسم بولس الرسول، وتمكن بذلك من تحريف الوحي الذي جاء بها المسيح من عقيدة توحيد إلى عقيدة تثليث، ثم اخترقت الأسر الميروفنجية الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى وهيمنت عليها، وأنشأت منظمة فرسان الهيكل لتصل إلى المسجد الأقصى وتسعى لإنشاء هيكل ينسبونه إلى سليمان عليه السلام، واليوم يمثل البروتستانت تياراً مسيحياً متصهيناً يهيمن على القرار السياسي الغربي ويتحكم به للوصول إلى الهدف ذاته، وهو إنشاء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى.

ما زال الأوروبيون يحيون ذكرى الحملات الصليبية حتى اليوم

ملاحظات على بعض الدراسات العربية
يرفض كثير من الباحثين والمؤرخين من العرب والمسلمين تسمية الحروب الصليبية بهذا الاسم ويصرون على تسميتها بحروب “الفِرَنجة”، مع نفي الطابع الديني الذي صبغ أهداف الأوربيين آنذاك أو التقليل من شأنه، ويدللون على ذلك بما فعله مؤرخو الإسلام الثقات عند تدوينهم لتاريخ تلك الحروب، حيث استخدموا مصطلح “الفِرَنجة” و”الإفْرَنج” في وصفهم، وينقلون عن صلاح الدين الأيوبي قوله “انظروا إلى الإفرنج.. انظروا بأي ضراوة يقاتلون في سبيل دينهم في حين لا نبدي نحن المسلمون أية حمية للجهاد في سبيل الله”، مع أن عبارة السلطان هذه تفنِّد دعواهم، فقد أدرك صلاح الدين أن الحرب مع الفرنجة صراع عقائدي بالدرجة الأولى.

حتى لو استخدم القدماء صفة “حروب الفرنجة” فهذا لا ينفي طبيعتها العقدية، لا سيما بعد ما بيَّنته بعض الدراسات الحديثة من علاقة قبائل الفرانكا أو الفرنجة ببني إسرائيل، والدور الذي لعبته اليد اليهودية الخفية لتحريك لتلك الحروب.

ويبالغ البعض بالقول إن نسبة تلك الحملات إلى الصليب لا تصح، لأنها تسمية لا توافق مضمونها، ويقررون أن الصليب رمز للفداء والتضحية بالنفس ولم يكن يوماً رمزاً للحرب والقتل. وهذه مغالطة، ففكرة الصليب تمثل نقطة تحول الوحي الذي جاء به المسيح من التوحيد وتنزيه الإله عن مشابهة مخلوقاته، إلى عقيدة تنسب إلى الإله الولد وتجعله عاجزاً عن حمايته ومضطراً إلى التضحية به لتكفير ذنوب عباده.

وفي ما سبق من التبريرات صرفٌ للعالم الإسلامي عن حقيقة الصراع إلى دوافع ثانوية تفقده السلاح الوحيد الفعال في معركته، مع أن الصليبيين كانوا أكثر وضوحاً وسمّوا حربهم بمسماها الديني ولا نجد في مراجعهم عن تلك المرحلة إلا مصطلح “Croisades” و”Crusade” أي “الصليببية”.

يسارع بعض الباحثين أيضاً إلى تبرئة نصارى المشرق من الولاء لنصارى الغرب ويؤكدون رفضهم للحملات الصليبية بدوافع وطنية، مع أن التاريخ ووقائعه تشهد بأن هذه الدعوى لم تكن دقيقة بالمطلق، وقد كشف هذه الحقيقة مفكرون نصارى مثل المستشرق الأميركي لبناني الأصل فيليب حتّي، فأكد في كتابه “لبنان في التاريخ” على متانة العلاقات الودِّية بين الصليببين والموارنة، حيث قدم الموارنة للحملة الصليبية الأولى أدلاء يرشدونهم إلى الطرق والمعابر، وأرسلوا فرقة من النشَّابة (الرماة) المتطوعة لدعم الصليبيين في القدس، كما ذكر حتّي أن لويس التاسع عندما نزل عكا وجد في استقباله 25 ألفاً منهم محملين بالمؤن والهدايا، وكانت لهم المكانة الأولى بعد الصليبيين في كل مملكة أسسوها.

وقد وصف المؤرخون استقبال نصارى دمشق للقائد التتري النصراني كتبغا عندما دخل مدينتهم محتلاً، وكيف خرجوا إليه مرحبين ورافعين الصلبان ورشوا الخمر على أبواب المساجد، كما نالوا حظوة عظيمة عند هولاكو حتى أَذِن لهم بتحويل المسجد الأموي إلى كنيسة، كما تشابهت تلك التصرفات من قبل النصارى الشرقيين في مدن كثيرة دخلها التتار والصليبيون كحلب وبغداد التي حرص التتار على الحفاظ على كنائسها وأنعموا على بطرقها (بطريركها) بالهدايا الثمينة، في الوقت الذي قتلوا فيه الخليفة العباسي وهدموا مساجدها وذبحوا أهلها المسلمين بفقهائهم وعلمائهم.

وكان التنسيق بين المغول ونصارى المشرق عالياً، حتى عدَّ المؤرخون ومنهم ابن العبري النصراني اجتياح التتار للعالم الإسلامي حملةً صليبية جديدة وفرصة للنيل من المسلمين جاءت من الشرق، وأكدوا على دور زوجة هولاكو النصرانية في توجيه اهتمامه نحو العالم الإسلامي لغزوه دون أوروبا النصرانية، وحرص هولاكو من جهة على أن تكون حاشيته وبطانته المقربة منهم،كما حرص بعض بطارقتهم وأمرائهم من جهة أخرى على ملازمة المغول في زحفهم ومشاركتهم في احتلالهم، وتحريضهم ضد المسلمين.

مخطوط أوروبي لمعركة نيكوبوليس

مع أن معظم المؤرخين يعتبرون أن الحملات الصليبية على بلاد المسلمين في المشرق انتهت في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، أي مع بدء ظهور الدولة العثمانية القوية في الأناضول، إلا أن الصراع لم يتوقف. فبعد نحو قرن من تأسيس دولتهم، نجح العثمانيون عام 1396م في دحر تحالف هائل من الجيوش الصليبية القادمة من المجر وبلغاريا وويلز وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وذلك في المعركة التي سقطت فيها العاصمة المجرية نيكوبوليس، ما سمحت للدولة العثمانية بالتمدد نحو عمق أوروبا.


أهم المراجع
راغب السرجاني، قصة الحروب الصليبية، القاهرة، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، 2008م، ط1.

علي محمد الصلابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، القاهرة، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، 2006م، ط1.

بهاء الأمير، اليهود والحركات السرية في الحروب الصليبية، القاهرة، مكتبة مدبولي، 2013م.

عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاث وخوافيها: التبشير- الاستشراق- الاستعمار، دمشق، دار القلم، 2000م، ط8.