مقالات

على شفا جرف هارٍ

هل جربت أن تعيش طمأنينة من ورق، تتسارع فيها دقات قلبك منذرة بشقاء قريب!

شبَح الخوف يطوف بك أينما خرجت وحيثما ولّيتَ وجهك، وقد تكون وحيدًا، فتظن أنك بين أحضان الجموع ستغدو أكثر استقرارًا. تهجر عهدك وتنسى غايتك، وترمي بنفسك بعيدًا عما خلقت لأجله، مؤمّلًا إياها أنك -في الغد- بين الجموع قد تشفى، وأنك في الغد ستحررها، ثم تأتي ساعة الوفاء فإذا بك ما زلتَ غريقًا، وأكثر غربة عنها، ولا شيء غير الحسرة يملأ فؤادك!

حسرة التنازلات والسقوط في سبيل الظفر بشيء من السكينة، تطرق فكرك كلماته تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4] فتوقن أنك تسلك سبيلًا غير الذي تأمل الوصول إليه، وتعلم في قرارة نفسك أنك لن تصل؛  لأنك وضعت طمأنينتك على أعتاب أبواب موصدة  لا تُفتَح  إلا بمزيد من التنازلات.

على أعتاب ماذا لو؟

في كل مرة تهمس لنفسك (ستكون الأخيرة ولن أعود)، سأكذب للمرة الأخيرة، وسأحلف للمرة الأخيرة، سأغش وســ…، وما إن تفتح الباب حتى تَلِجَهُ فتغنم شيئًا من السمّ على هيئة اللذة، فتردّد فرِحًا على عجل: ها قد وصلت وظفرت، ولم يذهب بذلي سدىً.

لكنك لا تلبث يسيرًا حتى يطاردك شبح “ماذا لو؟”

ماذا لو تركني زوجي؟، وماذا لو اغتربت وقُدّر علي أن أعيش وحدي؟ ماذا لو توفي والداي؟ ماذا لو افتقرت واحتجت؟ فتتراءى أمامك سيناريوهات الغد المؤلم  – وإن لم يكن قد وُجِد بعدُ-  وتبدأ مع كل سيناريو رحلة التفكير  والخوف مما هو آت، فينسيك الشيطان ذكر ربك، حتى تجد أنك شقي بما لديك، وأنك تعلقت بإفراط ووضعت طمأنينتك على شفا جُرف هارٍ من الشقاء!

إذا زاد ضرّ

مجبولون نحن على التعلّق بمن حولنا من الناس وما نحبه ونتذكره من الأماكن. ضحِكُ الصغار في الأرجاء، رائحة شاي البيت، وتفاصيل لا تكاد تنتهي، نستظلّ بظلّها كي لا نُضِلّ في عالم يعجّ بالمادّية حتى النخاع!  نخبر العالم بها: إنّنا سعداء!. لكن هل نحن حقـًّا سعداء؟

هل فكرت فيما قد يحدث لحياتك وأنت ترى عقارب ساعات الألم والفقد تدقّ قريبًا من بيتك؟ أي شعور سيملأ أركان روحك وأنت تقف أمامها كسبع عجاف لا غيث بعدها ولا تقدر على صدّها أو ردّها؟

ترى هل هو  شعورٌ بالشلل والشقاء، أم تراه  حزمة من الرضا مع صوت متحشرج  يردّد  (أمر المؤمن كله له خير)؟ [أخرجه مسلم]

إن كان الشلل واللاحراك هو أول احتمال طرق ذهنك، فـلا ضير؛ إذ إن ضعفك طبيعي وما عليك إلا أن تقبله، لكنّ الفيصل ها هنا هو محاولة استدراكه، ولـك أن تعتبره نذيرًا جاءك محذّرًا إياك، فإن زادك من الطمأنينة قليل حين جعلت نفسك أسيرة مستعبدة لما حولها ولم تعلِّمها أنّ: التعلق إذا زاد ضرّ!

هل إلى الحرية من سبيل

لا أحد ينكر أن الاستعباد والأسر كرب عظيم، يحملك من سعة الرضا إلى ضيق السخط، لا سيما إن كانت أغلالك من صنع يديك، أغلال محملة بشحنة من الرفض التام للألم، فيصبح كل تحدّ أو امتحان -مهما صغر- بمنزلة النازلة والقشة التي تقصم ظهر البعير وتنتهي بالعتب على ما جاءت به الأقدار.

هنا حق لنا أن نسأل كل مستعبد أسير “أما اكتفيت”؟

وتحضرني عبارة قالها د. عبد الرحمن ذاكر: “إذا خفتَ أن تفعل فقد فعلت ما تخاف”، لذا تحرّك واعلم أنك بينك وطمأنينتك مسافة الترك، ستقرصك مرارة التخلّي وينزف قلبك، وستسمع أنين روحك!

لكن هذه المرة سيكون أنين التماثل للشفاء، جرّب أن تخطو بصدق، وليكن زادك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]

وإذا اخترت المكوث فلا أزيد على أن أقول لك: إن الفطام يصعب بقدر التأجيل.