يرى بعض النقاد أنه من الصعب الحصول على منهج علمي لدراسة الأديان، وذلك لأن الدين يشمل مسائل غير موضوعية تتعلق بالجانب النفسي، فيصعب على الباحث بحثها من خلال المناهج التجريبية، كما أن البحث يتأثر بثقافة الكاتب وتكوينه الفكري وتراكماته المعرفية.
كما أن طريقة التعرف على حقيقة بعض الغيبيات التي يقدسها الآخرون لا تكون سوى بطرق غير محسوسة، لذا يزعم الكثيرون أن الباحثين في معتقداتهم من الخارج لا يتفهمون حقيقة ما يؤمنون به.
لكن التسليم بهذه الاعتراضات يجعلنا عاجزين عن دراسة الدين، وهي لا تبرر اقتصار البحث على جوانب الحياة المختلفة من طبيعة وفكر واجتماع ونفس ثم استثناء الدين، فبعض علماء الاجتماع يرون أن الدين هو أعلى مظاهر الطبيعة الإنسانية، وأنه ظاهرة محورية في صياغة التصورات الفكرية وأنماط الحياة في كثير من المجتمعات.
لذا يصر الباحثون في مقارنة الأديان على إمكانية دراسة الدين موضوعيا، وذلك بوصفه ظاهرة ذات أبعاد متداخلة ومتضايفة، فهناك بعد نظري مثل أصول العقائد، وبعد عملي يشمل المنظومة الأخلاقية والتعبدية، وبعد تنظيمي إداري يتجسد في منظومة الكهنوت، وبعد عاطفي يتجلى في الفنون والآداب.
اتجاهات مقارنة الأديان عبر التاريخ إذا نظرنا إلى الاتجاهات العامة لهذه الدراسات طوال التاريخ البشرية فيمكن تلخيصها بثلاثة اتجاهات رئيسة:
1- الاتجاه الإلحادي: ظهرت ملامحه الأولى في الفلسفة اليونانية، خاصة عند بروز الفلسفة الطبيعية عند الفيلسوف طاليس (624-546 ق.م) الذي قدّم تفسيرات عقلية عن أصل العالم وطبيعته، دون الرجوع إلى التفسيرات اللاهوتية أو الأسطورية، وترافق ذلك بالاستخفاف بالتعاليم الدينية وقيمتها المعرفية ثم الاعتقاد بأنها إنتاج بشري، وتطور الاستخفاف والتشكيك إلى معاداة الدين والسعي إلى إبعاده من الحياة الاجتماعية [انظر مقال “وجود الله“].
وتقول المؤرخة كارن أرمسترونغ في كتابها “تاريخ الإله” إنه منذ نهايات القرن السابع عشر وظهور الحداثة الغربية أعلنت المذاهب الفلسفية الكبرى استقلالها عن فكرة وجود الخالق، وظهر في هذا العصر كل من كارل ماركس وتشارلز داروين وفريدريك نيتشه وسيغموند فرويد الذين بدأوا بتحليل الظواهر المعرفية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية بدون أي وجود للإله.
وفي هذا العصر دعا بعض علماء الأنثروبولوجيا الثقافية إلى دراسة الدين بوصفه ظاهرة إنسانية طبيعية، قابلة للدراسة عبر أطر موضوعية محايدة، إلا أن دراساتهم كانت لا تقر للدين بأصل مقدس إلهي، ولم يميزوا بين الدين والسحر والخرافة والأسطورة، كما لم يميزوا بين الدين المنزل والدين الوضعي. فكانت أبحاثهم تنطلق من مبدأ اعتبار الدين نتيجة للتطور البشري، دون اعتقاد باحتمال وجود أي مصدر غيبي للدين.
وهناك أيضا من حاول تناول الدين على أنه ظاهرة اجتماعية ويمكن دراسة معالمها الظاهرية والنفسية دون البت بعدم قدسيتها أو العكس، ومع ذلك فإن هؤلاء الباحثين لم يعترفوا للدين بأي قدسية وبلا أصول غيبية لوجوده، فكانت النتيجة نفسها.
2- الاتجاه الإيماني التبريري: وهو الذي ينطلق من اعتقاد مسبق بصدق الدين والدفاع عنها، وهو موجود في كل الديانات الكبرى. ويتضمن هذا الاتجاه تيارين: الأول يميل إلى الشرح وبيان العقائد وتبسيطها لمعتقديها من خلال النصوص المقدسة لديه. أما الثاني فيستخدم الأدوات العقلية والنصوص النقلية للدفاع عن الدين الذي يعتقده من خلال نفي وجود أي تناقض بين العقل ومعتقداته، ثم بيان فضيلة دينه عن غيره من الأديان، وهو النهج الجدلي الكلامي الذي يُنتقد كثيرا بافتقاره إلى الموضوعية.
3- الاتجاه الموضوعي ذو الطابع الأنثروبولوجي القيمي: ويُحسب للعالم المسلم أبو الريحان البيروني أنه كان من رواد هذا الاتجاه، وهو يتفق مع الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة في أهمية دراسة التراث الثّقافي والمعرفي للمجتمع في معرفة دينه، لكنه يختلف مع الحداثيين في كون الدين جزءًا من الإنتاج البشري التطوري أو مقارنة الدين بالسحر والخرافة.
كما يختلف البيروني مع الأنثروبولوجيا الحديثة في الهدف، فهو يوضح في مؤلفاته أن هدفه من التأليف هو “الوصول إلى الحق”، بينما يرى الحداثيون أنه لا ينبغي للباحث أن يتخذ أي قرار حتى لو كان متوافقا مع منهجية البحث. علما بأن البيروني كان ينتقد منهج الكلاميين في الدفاع عن معتقداتهم بالحجج الجدلية إلا أنه وصل إلى النتيجة نفسها بإصدار حكم قيَمي على الأديان التي درسها، حيث لم ينطلق أصلا من منطلق إلحادي يستبعد وجود وحي وإله كما فعل أصحاب الاتجاه الأول.
مقارنة الأديان في التاريخ الإسلامي انفتح الفكر الإسلامي منذ القرن الثاني للهجرة على أديان العالم وجعلها موضوعا مستقلا للدراسة، فوضع رواد هذا المجال مناهج علمية للبحث، فدرسوا أديان العالم من حيث المقارنة فيما بينها وتأريخها ونقدها.
وأشاد باحثون غربيون معاصرون بالتراث الإسلامي الغزير والموضوعي في هذا المجال، ومنهم إيريك ج. شارب الذي رأى أن شرف كتابة أول تاريخ للأديان يعود إلى الإمام أبي الفتح الشهرستاني صاحب كتاب “الملل والنحل”
يعد كتاب “الفصل في الملل والأهواء والنحل” لابن حزم من أهم الموسوعات الدينية في التاريخ
أما بينارد دولا بولي فيقول في كتابه “الدراسة المقارنة للأديان” إن ابن حزم الأندلسي هو رائد مقارنة الأديان في الفكر الإنساني كله.
ويقول آدم متز إن أكبر فرق بين الخلافة الإسلامية والدول الأوروبية المسيحية في القرون الوسطى كان يتلخص في وجود عدد كبير من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين ممن يتمتعون بقدر من التسامح لم يكن معروفا في أوروبا، ومن مظاهر هذا التسامح نشوء علم “مقارنة الأديان”، وهذا ما يؤكده مؤرخ الأديان إريك شارب في قوله إن الانغلاق الصارم والتعصب كانا وراء الاعتقاد بأن أي دراسة للأديان الأخرى لن تقود إلا إلى تناقض حاد مع المسيحية.
وما زال هذا الانغلاق قائما حتى اليوم في كبرى المدارس اللاهوتية الغربية، حيث يدرس الطلاب معظم أديان العالم الكبرى في حين يتجاهل واضعو المناهج ذكر الإسلام، فضلا عن مناقشته ونقده.
ويقول المستشرق فرانز روزنتال إن الغرب يعترف اليوم بأن مقارنة الأديان هي إحدى الإنجازات العظيمة للحضارة الإسلامية التي أسهمت في التقدم الفكري للإنسانية، كما يرى المستشرق الألماني إدوارد سخاو أن مؤلفات البيروني هي حجر الأساس لعلم الأنثروبولوجيا الديني.
ومن أهم العلماء المسلمين الذين كتبوا في مقارنة الأديان: الجاحظ، والجبائي، والقاضي عبد الجبار، وابن حزم الأندلسي، وأبو الوليد الباجي، وأبو الحسن الأشعري، والباقلاني، والبيروني، والجويني، والغزالي، والشهرستاني، وابن تيمية، والمسعودي، والمقريزي، وكثيرون غيرهم.
مناهج البحث لدى المسلمين
1- منهج التأريخ: أصَّل علماء الإسلام هذا المنهج قبل أوروبا بأكثر من عشرة قرون، وكان بعضهم يكتب في الجدل والنقد كتاباً ثم يكتب في التأريخ والوصف كتاباً آخر؛ مثل أبي عيسى الوراق (القرن الثالث الهجري) الذي كتب في الجدل كتاب “الرد على فرق النصارى الثلاث” وكتب في التأريخ كتاب “مقالات الناس واختلافهم”.
2- منهج التحليل والمقارنة: وهو يشمل دراسة جانب أو أكثر من ديانتين أو أكثر ثم المقارنة بينهما، أو دراسة ديانة واحدة من كل جوانبها بالمقارنة مع ديانة أخرى، أو دراسة مؤسس الديانة وأسفارها بالمقارنة مع مؤسس وأسفار أخرى.
3- المنهج التحليلي النقدي: من أهم الأمثلة على تحليل أسس الأديان الأخرى دراسة ابن حزم لنصوص العهدين القديم والجديد، حيث تركت كتاباته أثرا عميقا لدى الأوروبين بعد ترجمتها في اكتشاف عيوب المسيحية.
4- منهج المناظرات الكلامية الجدلية، سواء كانت حية ومباشرة أو مدونة في رسائل وكتب، ومن الأمثلة عليها رسالة راهب كلوني في جنوب فرنسا إلى أمير سرقسطة في الأندلس، وجواب القاضي أبي الوليد الباجي عليها.
ميرسيا إلياد أستاذ في تاريخ الأديان من رومانيا توفي عام 1986
دراسة الأديان في العصر الحديث يؤكد ميرسيا إلياد صاحب “الموسوعة الدينية” أن مصطلح مقارنة الأديان لم يكن معروفا لدى الأوروبيين حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حيث أطلقه لأول مرة البريطاني ماكس مولر، ويقول إلياد إن تأخر ظهور المصطلح في أوروبا معناه غياب رؤية علمية ذات أسس منهجية لدراسة الأديان عن الأوساط العلمية الأوروبية.
اهتم الاتجاه العلمي السائد لدى الغرب في عصر النهضة الحديث بالبحث في أصل الأشياء، فبعد أن كان ذلك محصورا في الجوانب التجريبية اتسع ليشتمل على العلوم الإنسانية، وانتقل من السؤال عن أصل الإنسان البيولوجي وتطوره؛ إلى السؤال عن أصل دينه وتطور معتقداته.
لذا يغلب الطابع الوضعي على أبحاث الدين في الغرب، بحيث تُنحى جانبا الاعتبارات اللاهوتية التي ترى الدين تجليا لفضل الله على خلقه بالهداية، بينما يحرص الباحث الديني الغربي على التعامل مع الدين من منطلق كونه ظاهرة متكررة من الظواهر الإنسانية التي تخضع للتفسير.
ويبدو أن النظريات المقترحة لتفسير نشأة “الظاهرة الدينية” نظريات اختزالية بالمجمل، فهي تحاول أن تستخلص من الظواهر الدينية محددات عامة تفسر بها الدين على نحو عام، دون أن تلتفت إلى خصوصية دين بعينه؛ في ذاته أو في ظروفه التاريخية والاجتماعية.
وقد أوضحنا في مقال “الدين والتدين” أهم النظريات الغربية التي تحاول تفسير الظاهرة الدينية، وتبين لنا أنها تنطلق جميعا من قاعدة علمانية تشيئ الإنسان والوجود، لكن هناك من يرى أن الدين فطرة ونزعة إنسانية، برزت بأشكال متعددة من التدين، ويميل أصحاب هذه النظرية غالبا بأن الديانة الأولى للإنسان كانت التوحيد وليست التعدد، وهذا ما تقره الأديان السماوية.
ومن الملاحظ في دراستنا للنظريات اللادينية أن أصحابها يميلون إلى الاعتقاد ببراءة القدماء، وافتراض أنهم كانوا يبحثون عن الحقيقة فلم يجدوها سوى في الأساطير لإشباع النهم الغريزي إلى المعرفة وتقديم أجوبة على الأسئلة الوجودية، ولكن الذي وضع هذه الأجوبة ليس هو الإنسان الذي نتحدث عنه، بل هو شخص أو شيطان أو مجموعة قليلة من الأشخاص أو الشياطين. فوضعُ الأساطير يشبه كتابة أي عمل أدبي معاصر، أي هو عمل فردي اختياري وليس قرارا تم اتخاذه في مؤتمر شعبي أو عبر صناديق الاقتراع، فهناك من تعمد وضع تلك القصص الخرافية التي تتضمن تفاصيل وأحداثا عن الخلق وتصارع الآلهة وتناسخ الأرواح، ولم يكن لديه أي دليل على أن العالم الماورائي قد حدثت فيه كل تلك التفاصيل الغيبية التي لا تقتصر على التأويلات الاحتمالية لظواهر الطبيعة أو على رؤى تخيلية لكائنات ما ورائية تفسر ما لا يستطيع فهمه، بل كان واضع الأساطير يقدم ملاحم أدبية (شعرية أو مسرحية) مفصلة تتضمن أحداثا وحوارات وقرارات وهو يعلم أنها لم تحدث.
قد يصدق افتراض البراءة على العوام الذين اضطروا لاتباع الكهنة والسحرة والشامانات عندما لم يجدوا خيارا آخر لتحصيل المعرفة والأجوبة على الأسئلة، لكن هذا لا يعني أن الأساطير وُضعت لتقديم الأجوبة المحيرة للإنسان القديم؛ بل ربما لتضليل العوام من قبل النخبة المسيطرة.
جيمس فريزر
المناهج الحديثة لمقارنة الأديان في بداية العصر الأوروبي الحديث، اتسم النشاط في حقل “علم الأديان” بمحاولات جمع المادة العلمية التي يمكن الحصول عليها من الأديان المختلفة والاجتهاد في فهمها بمساعدة علم اللغات وعلم الأساطير، وسرعان ما تلقف الباحثون المنهج التاريخي الذي يحاول تتبع مسيرة الأديان تاريخيا، وارتبط ذلك بالمنظور التطوري الذي اكتسح جميع فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية بعد أن أخرج من مجاله الطبيعي (البيولوجي)، فبات يُنظر للأديان على أنها حلقة في التطور الطبيعي للحياة الإنسانية، وأصبح الهدف هو دراسة “نشأة الأديان”، وذلك بالاستعانة بعلوم اللغة والآثار والحفريات وعلم الإنسان.
ظهرت في الأفق أيضا علوم النفس والاجتماع لتساعد على إيجاد إجابات “علمية” للأسئلة المتعلقة بنشأة الدين، فانصرف البحث نحو الأديان البدائية والمظاهر السحرية والخرافية، وكانت حصيلة كل ذلك ظهور نظريات “تايلور” و”فريزر” و”سبنسر” و”دوركايم” وغيرهم التي أصبحت اليوم على لسان كل متحدث بدون سؤال عن سندها العلمي وقوامها العقلي وبراهينها العلمية.
اعتمد علماء مقارنة الأديان على رصد تأثير دين في دين آخر من خلال التشابه والأسبقية، الأمر الذي تعرض لانتقادات كثيرة، فالتشابه بين الأديان قد يعود إلى تطابق الاستعداد لدى المتدينين وتماثل البيئة ومراحل نمو الأفكار الدينية بين شعبين في منطقتين نائيتين دون أي تواصل بينهما، وقد رأى أستاذ الأديان في معهد فرنسا جورج أدوميزيل أن تشابه أسماء الآلهة في اللغات الهندية-الأوروبية ليس دليلا مقنعا على أنها نابعة من أصل مشترك، لذا اهتم بالبحث عن أصل اجتماعي يفسر فيه نشوء فكرة الثالوث الإلهي لدى كل من الرومان والهنود.
وفي رأينا، قد يكون التأثير صحيحا عندما يتعلق التشابه بشعائر وعقائد يمكن تفسيرها بعوامل طبيعية واجتماعية وغريزية، لكن التطابق أو التشابه بين بعض الأديان في التفاصيل الدقيقة والكثيرة يجعل المصادفة أمرا مستبعدا، وربما مستحيلا، فحتى في حال عدم ثبوت اتصال أمتين متباعدتين عن بعضهما، فإن هذا لا ينفي أن يكون مصدر الأفكار الذي تتلقى منهما هاتين الأمتين واحدا، سواء كان هذا المصدر هو الإله (الوحي) أو الشياطين.
على الرغم من الاكتشافات “العلمية” الغزيرة في أبحاث الأديان خلال القرن التاسع عشر فقد بقيت الأديان غير مفهومة، ما أشعر بعض العلماء بحاجة ملحة إلى منهج جديد يسمح للمتدين بأن يعبر عن نفسه وعن عقيدته بحرية، ويترك الظواهر الدينية تتحدث بنفسها، لذا نادى بعض العلماء في هولندا والبلاد الإسكندنافية بتطبيق “المنهج الظاهراتي” (الفينومينولوجي) في دراسة الدين، وبدأ ذلك بعد الحرب العالمية الأولى.
حدد فان ليون آلية عمل المنهج الظاهراتي للتوصل إلى فهم الدين عبر خمس مراحل، ففي الأولى يتم رصد الظواهر الدينية وتصنيفها لتسهيل تتبعها؛ مثل وضعها ضمن خانة “الأساطير” و”القرابين” وهكذا، لكن هذا لا يخلو من مغالطة تحويل الملاحظات إلى نظريات بشكل متسرع. ولتجنب التسرع يسعى الباحث في المرحلة الثانية لمعايشة الظاهرة وتجربتها بطريقة اختيارية ومنهجية لا بطريقة قهرية ولا شعورية. وفي المرحلة الثالثة يحاول الظاهراتي التجرد من كل أفكار سابقة ويدرس الظاهرة، وفي المرحلة الرابعة يدرك حقائقها بوضوح، ثم تأتي المرحلة الأخيرة عندما يواجه الظاهراتي الحقيقة التي تجلت له ويتحقق من فهمه لها.
يدرس الظاهراتيون الإسلام من خلال دراسة الطقوس التي تمارسها بعض المجتمعات المسلمة مما يؤدي إلى الخلط بين الدين الأصلي والعادات والبدع (wikimedia)
والظاهراتي لا يهتم بالتطورات التاريخية للدين ونشأة الأديان، فهدفه الأساسي تحرير نفسه من كل منطلق غير ظاهراتي والبحث عن الفهم الدقيق للظاهرة الدينية سعيا وراء معرفة حقائقها، دون التقيد بأية نظرية سيكولوجية أو ميتافيزيقية أو لاهوتية أو فلسفية.
والحقيقة أن هذه المشاركة في التجربة ستظل ادعاءً غير واقعي، فالنقاد يتساءلون عما إذا كان من الممكن أن يعتنق الإنسان الظاهراتي الإسلام حقا ليدرس الإسلام، فحتى إذا صار مسلما فمن الصعب الاقتناع بأن هذا “الاعتناق الوظيفي” للدين سيوفر له التجربة الحقيقة التي يريدها. ويضاف إلى ما سبق أن تعريف المنهج الظاهراتي مازال محل جدل بين الباحثين منذ ظهوره على يد الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل عام 1913، لذا تقول أستاذة الأديان في جامعة “ليدز” أورسولا كينغ إن “مفهوم الظاهراتية يتعدد بعدد الظاهراتيين أنفسهم”.
ولعل أخطر ما يشوب نتائج المنهج الظاهراتي من نقص في عين النقاد هو أنه يعجز عن فهم الأديان على حقيقتها، بل يكتفي بدراسة ظواهرها فيخلط بين سلوك المنتمين لدين معين وبين الدين نفسه. وعندما يتعلق الأمر بدراسة دين الإسلام على سبيل المثال، لا يستطيع الباحث الظاهراتي الغربي أن يفرق بين السنة والبدعة، ولا بين الوحي الإسلامي الثابت والآراء الدخيلة عليه، وهذا الدمج نراه كثيرا في أعمال المستشرقين، ومن أمثلته الحديثة مؤلفات الألمانية آنا ماري شميل (توفيت عام 2003)، مع أنها تزعم أن منهجها “يحاول النفاذ إلى قلب الدين من خلال دراسة الظواهر أولا”.
في كتابها “الكشف عن آيات الله: دراسة ظاهراتية للإسلام” الصادر عام 1994، نجد أن شيمل بذلت جهدا هائلا في البحث عن ظواهر الإسلام ودراستها، بما يشمل الشعائر والآراء والأذكار والعادات والتقاليد والمقدسات الزمانية والمكانية لبعض المجتمعات المسلمة، واعتبرت أن هذه الظواهر جميعا تعبر عن الإسلام نفسه من خلال المعاني والحقائق التي تنبئ عنها، فعلى سبيل المثال بحثت في الفصل الأول عن المكانة الخاصة في الثقافة الإسلامية لبعض الحيوانات والألوان وأشياء أخرى كالماء والأشجار والنور، وفي الفصل الثاني تتعرض لما أسمته بقدسية المكان والزمان والعدد، فحاولت مثلا حصر الأعداد التي تحتل مكانة معينة فظهر لها أن جميع الأعداد من 1 إلى 10 لها مكانة ما، إضافة إلى الأعداد 12 و14 و17 و18 و19 و40 و72 و73 و99. وينتهي هذا الفصل دون توضيح لما وراء ذلك، بل دون تمييز بين أصالة بعض تلك الأعداد في الإسلام وبدعيتها، فالمنهج يقتضي دراسة جميع الظواهر ثم اعتبارها جزءا من حقيقة الإسلام ذاته، مع أن المسلم العادي يعلم أن كثيرا من تلك الظواهر لا تمس دينه بشيء، بل إن بعضها تسلل إلى الإسلام من عادات وخرافات معادية له.
ختاما، نحاول في هذا الموقع أن نستفيد في دراستنا للأديان والمذاهب والتيارات الفلسفية من المناهج الوصفية والأنثروبولوجية والظاهراتية والكلامية معا، ونقر -كما فعل البيروني- بأننا نسعى إلى اكتشاف الحق واعتناقه وبيانه للناس، كما نؤمن بأن الاكتفاء بالحجج الكلامية لا يجدي في عصر الانفتاح وثورة المعلومات والاتصالات، ولا نزعم في الوقت نفسه بأن مقالاتنا المحدودة بحجم معين كافية لاستيعاب مواضيعها، إلا أنها قد تكون بمادتها المكثفة مدخلا وافيا للفهم واتخاذ الأحكام الموضوعية في سبيل التعرف على الحق.
أهم المراجع فراس سواح، الرحمن والشيطان، دار علاء الدين، دمشق، 2000.
د. دين محمد محمد ميرا صاحب، بحث بعنوان “الاتجاه الظاهراتي في دراسة الأديان في الغرب: رؤية نقدية”، مجلة الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام أباد، العدد السادس، 1998.
عبد الرزاق حاشي، دراسة بعنوان “علم مقارنة الأديان بين سؤالي المفهوم والإمكان: دراسة تحليليّة مقارنة”، مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، العدد 67، 2012.
https://i0.wp.com/al-sabeel.net/wp-content/uploads/2017/08/في-الدين-e1506579617226.jpg?fit=1200%2C429&ssl=14291200أحمد دعدوشhttps://al-sabeel.net/wp-content/uploads/2020/12/b1-1.pngأحمد دعدوش2017-08-21 22:34:512020-12-24 00:47:08البحث في الدين
سنستعرض في هذا المقال قصة بدء وجود الإنسان، من خلال روايتين متوازيتين هما الوحي القرآني والنظريات اللادينية، وسنؤجل استعراض روايات أخرى باطنية لتأخذ حيزا أكبر في مقالات مستقلة. كما سنتحدث عن نشأة الدين من منظور الروايتين، فرواية الوحي تؤكد أن الدين ملازم لخلق الإنسان الأول، بينما تبحث النظريات اللادينية في أدلة الأحافير والرسوم والتماثيل الأولى وتضع التفسيرات الاحتمالية لاعتقادها المسبق بأن العلم لا يؤمن سوى بما يراه، ما يعني استبعادها لمفهوم الوحي من الأساس. وسنتوقف في مقالنا هذا عند حدود بدء التاريخ البشري مع ظهور الكتابة، وهي المرحلة التي سنتعرض لبعض تفاصيلها في مقال الوثنية.
بداية واحدة وروايات متعددة يمكن القول إن هناك ثلاث روايات رئيسة لقصة الوجود، ومن خلالها يتم تصنيف العديد من التيارات والتوجهات التي تحكم رؤيتنا لأنفسنا وللعالم، ومن ثم تصوغ معتقداتنا الوجودية، ونلخص هذه الروايات بما يلي:
1- الرواية العلمية، ونحن نرى أن هذه التسمية بحد ذاتها ترجمة خاطئة لمصطلح science اللاتيني الذي يُقصد به العلم المادي الخاضع لشروط التجربة، أما كلمة “العلم” فهي أوسع من قيود التجربة وحدود المادة. ويبحث أصحاب هذه الرؤية في الوجود المادي من خلال المعطيات التجريبية التي يُفترض أن تقترب قدر المستطاع من النزاهة الموضوعية والتجرد عن الذات، ولعل المشكلة الأبرز لدى هذه الرواية هي افتراض أصحابها المسبق بأن العالم محصور أصلا بالمادة وحدها، ومن ثم استبعاد ما هو غير مادي (الميتافيزيقيا) من دائرة الوجود ذاتها فضلا عن طردها من دائرة البحث، وهذا افتراض فلسفي منحاز لا يدعمه دليل علمي (تجريبي). ومع أنه يحق للعالم التجريبي إخضاع الكائنات الحية وكافة الموجودات المادية للتجربة بحثا عن أصولها وقصة نشوئها و”تطورها” (إن وُجد التطور)، فإن الافتراض بأن العالِم التجريبي قادر على تقديم أجوبة على الأسئلة الوجودية هو مجازفة غير مضمونة، لأن معطيات العلم التجريبي لا تسمح أصلا بالتعرض لما هو خارج عن دائرة الحس، ما يعني أن الأجوبة ستكون مادية حصرا، أما الاعتقاد بأن تلك الأجوبة هي وحدها الصحيحة فهو تحكّم مسبق وغير منطقي. ومنذ بداية العصر الحديث يُقدِم الكثير من العلماء التجريبيين على هذه المجازفة دون التفات إلى تناقضها المنطقي، لكن آخرين يقدمون نتائج أبحاثهم مشفوعة بنقاش فلسفي، مع أن لجوء العالِم التجريبي إلى الفلسفة لا يخرجه من ورطته بل يعقّدها، فهو يسمح لنفسه بدعم رؤيته “غير العلمية” برأي فلسفي بينما يرد على منتقديه في الوقت نفسه بأنه رجل علم وليس من شأنه افتراض وجود عوالم غيبية أصلا، وكأن عجز أدواته عن الخوض فيما هو خارج عن تخصصه يسمح له بتخطئة الرأي المنبثق عن ذلك العالَم الخارج عن تخصصه.
رسم تخيلي ألماني يعود إلى عام 1888 لشخص يحاول اختراق عالم المادة واكتشاف ما وراء الطبيعة
2- الرواية الفلسفية: ونقصد بها كل ما يستند إلى الرأي، دون أن يكون مدعوما بتجربة علمية ولا بوحي سماوي. وقد تكون هذه الرواية وسوسة من عالم الشياطين (أو آلهة الشر والكائنات الظلامية كما يفترض البعض) لتضليل البشر، أو أسطورة خرافية صاغها خيال أديب مبدع أو كاهن دجال، أو رواية زعم أحد المتصوفة الروحانيين أنه تلقاها من مصدر مفارق عن طريق الكشف (العرفان) والإلهام، أو قد تكون محاولة جادة من قبل فيلسوف لتقديم أجوبة منطقية على الأسئلة الوجودية بما يتوافق مع العقل والحس. وحتى في حال افتراضنا أن واضع هذه الفلسفة أو الأسطورة كان صادق النية؛ فإن المشكلة تكمن في أن سقف العقل البشري محدود أصلا بما هو دون العوالم المفارقة التي يبحث فيها، ما يعني أن نتائج البحث لن تبلغ اليقين لاستحالة التحقق، كما أن افتراض التلقي عن طريق الكشف مشفوع بنظريات فلسفية مسبقة، فنتائج هذا البحث لا يمكن أيضا التحقق من صحتها إلا بتجربة شخصية ما يبقيها في دائرة الذاتية.
3- رواية الوحي: ونقصد بها الوحي الصادق الصادر عن الإله الواحد الحق، وهي رواية لا تتناقض ابتداءً مع معطيات التجربة وقواعد العقل، ويمكن ثانيا التحقق من صحتها من خلال التجربة والعقل، وطالما أن صحتها ثبتت بهذين الشرطين فمن المنطقي التصديق أيضا بما ينص عليه ذاك الوحي من أنه السبيل الوحيد المؤدي إلى الحقيقة والخلاص، وسنؤجل في رحلتنا هذه التحقق من صحة هذه الرواية إلى المراحل الأخيرة.
ولن يتسع هذا المقال لاستعراض الروايات الثلاث بتفاصيلها المتشعبة، فسنعرض أهم ما فيها ضمن المقالات اللاحقة، حيث يقدم مقال الغنوصية الرؤية الفلسفية الباطنية للخلق، كما تتشابه قصة الخلق لدى الكتب المقدسة لدى اليهود والنصارى (المسيحيين) مع ما ورد في القرآن الكريم (كتاب المسلمين المقدس)، وسنخصص مقالا منفردا لكل من اليهودية والمسيحية ونستعرض فيهما قصة الخلق.
بناء على كل ما سبق، سنعرض في هذا المقال قصتي ظهور الإنسان وظهور الدين، وسيكون عرضنا لكل منهما حسب روايتين متوازيتين، هما رواية العلم الحديث (وما يوافقه من الفلسفة المادية) ورواية الوحي.
أولاً: قصة الإنسان
الرواية الأولى: حسب العلم الحديث والفلسفة المادية مع أن الإلحاد (جحود الخالق أو المصدر المفارق للكون) ليس نزعة حديثة، إلا أنه لم يحظ بالانتشار والتأصل إلا في العصر الحديث، وسنتعرض لارتباط هذه النزعة بسقوط قدسية الدين المسيحي وبشيوع العلم التجريبي كمصدر للحقيقة في مقال العلمانية، وما يهمنا هنا هو ظهور نظرية النشوء والارتقاء والتطور مع نشر تشارلز داروين كتاب “أصل الأنواع” عام 1859، فمع أن النظرية لا تتعرض للخلق نفسه، إلا أنها قدمت للمرة الأولى مستندا “علميا” يمكن للملحد أن يحاجج به للتخلي عن الإيمان بوجود خالق، بينما كان الملحد قبل ذلك مضطرا للجوء إلى الأفكار الغنوصية وتبرير وجود الكون بمصدر ما، الأمر الذي جعل الفلسفة والعلم والخرافة تتقاطع كثيرا في هذه الجزئية.
تشارلز داروين
وبعد داروين، أصبحت علوم التاريخ والاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا (علم الإنسان) والإثنولوجيا (علم الأعراق) وغيرها تستند إلى مسلّمة (قاعدة) مفادها أن الإنسان تطور عن أسلاف غير عاقلة و”بدائية”، كما أصبح من مسلّمات الوسط العلمي أن أي رفض لنظرية التطور يعني بالضرورة اللجوء إلى نظرية الخلق (والتي باتت تسمى بالتصميم الذكي)، وذلك يفضي بحسب رأيهم إلى التخلي عن العلم والركون إلى الإيمان الديني، وهو أمر يرفضه الكثير من العلماء وغير المتخصصين في الغرب على السواء لأسباب تبدو لنا أنها نفسية.
وبحسب مخرجات نظرية التطور، تعود بداية قصة البشر إلى مخلوق بدائي عاش قبل 2.8 مليون سنة في شرق أفريقيا، وقد سُمي بالإنسان الماهر “هومو هابيليس”، ويُعتقد أنه تطور في سلسلة متصلة كان آخرها ظهور الإنسان العاقل “هومو سابينز” الذي يشبهنا قبل 200 ألف سنة.
ولن نخوض هنا في مناقشة نظرية التطور التي تتعرض منذ ظهورها لانتقادات حادة، ولا لمصداقية افتراض أن البقايا العظمية المكتشفة لتلك المخلوقات هي بالفعل تعود لأسلاف البشر، فالرسوم التي يقدمها العلماء لتخيل شكل الكائنات التي تعود لبعض العظام المكتشفة تتنوع بين خيارات كثيرة، كما أن بعضها يمكن أن يكون عائدا إلى كائن بشري يشبهنا تماما دون الحجة لافتراض أنه كان يشبه القردة ومكسوا بالشعر كما يرسمه التطوريون، فهذه التصورات مازالت مجرد افتراضات لتقديم أجوبة علمية على أصل الإنسان مع اتخاذ قرار مسبق بأنه لم يُخلق على هيئة كاملة دفعة واحدة ثم توالد أبناؤه من بعده [انظر مقال “وجود الله“].
ناشط أمريكي أراد أن يثبت للمتخصصين في علوم الأحياء (البيولوجيا) أن اقتناعهم بنظرية التطور الداروينية ليس قائما على أدلة علمية بقدر استناده إلى “الإيمان”، وتمكن من إحراجهم خلال 12 دقيقة فقط.
حجر عُثر عليه في كهف بولومبُس بجنوب أفريقيا (Chris. S. Henshilwood)
هذا على صعيد بقايا الهياكل العظمية، أما الآثار البشرية فيُعتقد أن أقدم ما تم اكتشافه منها حتى اليوم هو كتلتان حجريتان نُقشت عليهما خطوط هندسية، وقد عُثر عليهما في كهف بولومبُس بجنوب أفريقيا، ويعتقد أن عمرهما 77 ألف سنة (كما سيأتي لاحقاً)، مع أنه لا يمكن الجزم بصحة هذا التقدير.
وتواجه دراسة الأحافير وبقايا الكائنات الحية، وكذلك دراسة آثار البشر المرسومة والمنحوتة، صعوبات جمة يغفل عنها غير المتخصيين، فقياس عمرها يعتمد أساسا على اختبار الكربون المشع، ويعتقد الكثيرون أن هذا القياس يعطي نتائج دقيقة، ولا يدور في خلد القارئ غير المتخصص أن تلك النتائج المنشورة في المجلات العلمية المتخصصة عن أعمار الديناصورات وما يسمى بأسلاف البشر ليست دقيقة، لكن الحقيقية هي أن هناك أبحاثا كثيرة تؤكد أن قياس المواد المشعة في بقايا الكائنات الحية يختلط سهوا أو عمدا بقياس المادة المشعة للصخور والمعادن التي تحجرت فيها تلك الكائنات، فيصبح من الصعب الفصل بين عمر الديناصور وعمر الصخرة التي تحجرت عظامه فيها.
هناك أبحاث تم تقديمها على مدى عقود للتشكيك في الفكرة الشائعة عالميا عن أن الديناصورات انقرضت قبل عشرات ملايين السنين وأن الإنسان العاقل تطور لاحقا وكان ظهوره الأول قبل مئتي ألف سنة، لكن الجيولوجي الأمريكي “مايكل كريمو” ظهر في عدة لقاءات تلفزيونية خلال أربعينيات القرن الماضي متحدثا عن اكتشافاته التي تثبت العكس، وعن القمع الفكري الذي تعرض له من خلال الوسط الأكاديمي الذي يرفض أي مساس بنظرية داروين التطورية ومسلماتها.
ومنذ مطلع التسعينيات، حاولت الجيولوجية الأمريكية ماري شفايتزر جاهدة لإقناع العلماء بنتائج أبحاثها التي تثبت أن عظام الديناصورات التي وجدتها في حالة جيدة (ولاتزال تتضمن مواد عضوية غير متحللة) لا يمكن أن تعود إلى 65 مليون سنة، لكن المجتمع العلمي لم يبدأ بتقبل أفكارها إلا في السنوات الأخيرة، مثل مجلة “نيتشر” العلمية التي كتبت عن أبحاثها مقالا في أكتوبر 2012، وفي العام نفسه قدم الباحثان ماري كلير فان أوسترويتش وجان دي بونتشارا بحثا في مؤتمر بسينغافورة يؤكد أن بعض عظام الديناصورات لا يزيد عمرها عن 40 ألف سنة فقط، فسارع أعضاء المؤتمر إلى رفض البحث بحجة تعارضه مع المعطيات المتفق عليها في المجتمع العلمي.
إذن لم يصل العلم حتى الآن إلى جواب حاسم بشأن تاريخ أسلافنا الأوائل، وبغض النظر عن مناقشة مبدأ التطور نفسه، فإن مجرد افتراض أن أول البشر عاش قبل 200 ألف سنة هو قول غير مؤكد.
في هذا الرابط يقدم باحثون مسيحيون أدلة تاريخية كثيرة تدعم حجتهم في أن الإنسان والديناصورات عاشوا في فترة واحدة، ومع أننا لا نقدمها كدليل قطعي إلا أنها تكفي للطعن في مصداقية النظريات الشائعة في الوسط العلمي.
الرواية الثانية: حسب الوحي سنؤجل الحديث عن مصداقية الوحي والتحقق من نسبته إلى الله تعالى لنعرضه مفصلاً في مقالات لاحقة، حيث سنكتشف في مقالي اليهودية والمسيحية أن الكتب التي ينسبها أتباع تلك الديانا إلى الوحي قد نالها التحريف، ثم سندرس في مقال تفصيلي آخر صحة نسبة الوحي القرآني إلى الله. إلا أننا سنضطر في هذا المقال إلى عرض رواية الوحي القرآني للاطلاع عليها، وحتى قبل أن نخوض في أدلة صحة القرآن نفسه.
لا يكشف القرآن عن تفاصيل كثيرة بشأن المرحلة السابقة لوجود الإنسان، فما يذكره هو أن الله خاطب الملائكة بقوله {إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص: 71، 72]، وفي سورة أخرى نقرأ أن الله أخبرهم أن البشر سيكون خليفة، وهناك خلاف بين المفسرين بين من قال إن البشر خليفة لله في الأرض ومن قال إنه يعني أن الناس سيخلف بعضهم بعضا، وقد أجابت الملائكة بقولها {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، واختلف المفسرون أيضا في سبب تنبؤ الملائكة بذلك، ولعل أهم الأقوال أنهم علموا ذلك بإعلام الله تعالى لهم وإن كان ذلك لم يذكر في السياق، أو أنهم قاسوه على أحوال الجن الذين ربما أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء قبل وجود آدم.
وعندما نُفخت الروح في جسد آدم، ابتدأت حياته بأن منحه الله العلم، {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]، ثم تحدى الملائكة ليظهر أن لدى آدم من العلم ما لا تعرفه الملائكة.
وامتثلت الملائكة للأمر الإلهي بالسجود له تكريما، فمع أن الملائكة مخلوقات نورانية وهي لا تعصي الله أبدا، إلا أن آدم وجنسه كُرّموا من حيث امتلاكهم لحرية الإرادة والاختيار التي لا تملكها الملائكة.
وامتنع إبليس عن السجود تكبرا، وقال مخاطبا الله بشيء من التحدي {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}، فجاء الرد {فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين} [الأعراف: 13]، وقد طلب إبليس من الله أن يمهله ويطيل عمره إلى يوم القيامة، فكان له ذلك، وتعهد إبليس بأن يصب جام حقده وحسده على آدم وذريته ليغويهم ويحرفهم عن سبيل الحق، كما وعد بأن يسخر شياطين معه في هذه المهمة.
وفي سورة الأعراف: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} [الأعراف: 172، 173]، وبحسب كثير من المفسرين فإن هاتين الآيتين تلخصان مبدأ التكليف البشري، حيث خلق الله أرواح جميع البشر منذ خلق آدم، ثم أنطقهم الله وسألهم إن كانوا يقرون بأنه ربهم فشهدوا بذلك جميعا، ثم نُفخت تلك الأرواح في أجسادها بحسب الترتيب المقدر لها من عمر البشرية، لتدخل مرحلة الاختبار في الحياة الدنيا وتعيش بما يتوافق مع ما شهدت به منذ البداية، وهو الإيمان الذي يتوافق مع فطرتها البديهية، ثم ستُسأل يوم القيامة عن امتثالها لما أقرت به، وعندئذ سيسترجع البشر تلك الشهادة التي شهدوا بها منذ عصر أبيهم آدم، وسيعتذرون بالغفلة وبتقليد الآباء الذين ضلوا قبلهم.
ويؤكد هذا التفسير قول الله في سورة أخرى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما} [الأحزاب: 72، 73]. وثمة روايات كثيرة لتفسير هاتين الآيتين، وتكاد تتفق جميعها مع ما روي عن الصحابي ابن عباس الذي قال إن الأمانة هي الفرائض (أي التكليف)، فقبل أن يُكلف الله آدم وذريته بالعبادة ويمتحنهم بالدنيا عرض هذه المسؤولية على الموجودات المادية، فخشيت تلك المخلوقات من عاقبة ذلك وطلبت من ربها أن يعفيها، ثم عُرضت المسؤولية على آدم وبنيه، والأرجح أن يكون ذلك قد عُرض على كل إنسان بشكل فردي، فقبلوا جميعا دخول هذه المجازفة، مع علمهم بأن الفشل فيها يقتضي العقوبة، فجاء التعليق الإلهي بأن الإنسان كان ظلوما لعدم وفائه بالأمانة على الوجه الأمثل، وكان جهولا لعدم تقديره فداحة العاقبة الناجمة عن تفريطه بالأمانة.
ليست هناك رواية مؤكدة عن طريقة خلق حواء التي أصبحت زوجة آدم، لكن القرآن يوضح أنها خُلقت من جسده فيقول {ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} [النساء: 1]، وهناك خلاف بشأن الجنة التي قضى فيها آدم وحواء ردحا من الزمن، فالبعض يرى أنها الجنة التي سيؤول إليها المؤمنون بعد البعث، بينما يفسر آخرون النصوص التي تتحدث عنها بأنها كانت تصف جنة أرضية، وأن الهبوط منها كان هبوطا معنويا بمعنى الخروج، مثل الآية التي تقول لبني إسرائيل {اهبطوا مصرا}.
سواء كانت الجنة أرضية أم في مكان غيبي، فالذي يهمنا هنا هو أن الشيطان نجح في تنفيذ وعده من محاولته الأولى بإغواء آدم، فأقنعه مع زوجته بالأكل من الشجرة التي حرمها الله عليه، وكانت عاقبة ذلك خروجهما من الجنة لتبدأ بذلك قصة البشرية والتكليف والامتحان في الدنيا، مع وجود الشياطين التي تبذل جهدها لإغواء البشر.
ثانياً: قصة الدين
الرواية الأولى: حسب العلم الحديث والفلسفة المادية أوضحنا في مقال “البحث عن الدين” أن مناهج علوم الأديان الحديثة تنطلق من مبدأ لاديني، حتى أصبح هذا المبدأ رديفا لمصطلح العلم نفسه، فلا يُعد البحث علميا -في الأوساط العلمية اليوم- إلا باستبعاده لأي تفسير يؤدي إلى الاعتقاد بوجود إله أو جهة غيبية. إلا أن هذا المبدأ تعرض للكثير من النقد، ما سمح في العقود الأخيرة بظهور تيار علمي يؤمن بنظرية “التصميم الذكي”، والتي تقدم نتائج علمية تؤكد أن هناك “مصمما ذكيا” وراء العالم المادي دون التعرض لماهية هذا المصمم تجنبا لإقحام العلم التجريبي في قضايا دينية، لكن تيار التطور اللاديني ما زالت له الغلبة في الأوساط العلمية غربيا وعالميا، وهو يشكل جماعة ضغط (لوبي) واسعة النفوذ ولديها القدرة على التأثير في العلوم الاجتماعية، والدينية على وجه الخصوص [انظر مقال “وجود الله“].
حجارة مدببة يعتقد العلماء أنها أنصال نحتها “نياندرتال” في أسبانيا قبل 350 ألف سنة
ووفقا للرواية التي يقدمها تيار التطور الدارويني، والتي تُدرس في المدارس والجامعات وتقوم عليها أفلام هوليود ووثائقيات القنوات العلمية وكافة الموسوعات الكبرى، فإن أولى السلالات البشرية في أفريقيا ظهرت قبل نحو مليوني سنة، حيث أُطلق اسم “هومو هيبيليس” (الإنسان الماهر) على كائن قيل إنه كان أقرب للقردة العليا إلا أنه قادر على تشكيل الأدوات الحجرية كالسكاكين، ثم قام هذا المخلوق منتصبا بعد نحو 100 ألف أو 200 ألف سنة واكتشف النار. ومع أنه ليس هناك أي دليل على أن ذلك الإنسان اكتشف النار بعد أن كان جاهلا بوجودها، فقد بنى الباحثون على هذه الفرضية غير المؤكدة فرضية أخرى وهي أن النار كان دافعا لظهور أولى علامات التدين والتفكير السحري والأسطوري نظرا لغموض النار وقدرته على بث الدفء وطبخ الطعام وطرد الوحوش، وافترض الباحثون أن النار بات مقدسا.
جمجمة يقال إنها لكائن نياندرتال اكتشف في فرنسا (wikimedia/Luna04)
لم تترك تلك السلالات المفترضة سوى بقايا النار المحترقة والحجارة المسننة على هيئة سكاكين وأدوات بدائية، لذا فكل ما يقال عن معتقداتها وطريقة عيشها وما كانت تفكر به ليس سوى افتراضات.
افترض الباحثون أيضا أن “الإنسان المنتصب” بدأ النزوح نحو آسيا وأوروبا قبل 1.8 مليون سنة، وأنه تطور لاحقا إلى سلالة “نياندرتال” التي ظهرت قبل 350 ألف سنة، وأن هذا المخلوق كان يقدس الحيوانات بدليل العثور في كهوف جبال الألب على جماجم دببة مرتبة بطريقة خاصة ومحاطة بقطع من الحجارة، كما عُثر في أماكن أخرى على جماجم محفوظة لحيوانات الثور والماموث، فافترض الباحثون أنه كان يعبدها تقديسا لقدرات الحيوان الجسمية التي تفوق قدراته. ومن الواضح أيضا عدم وجود دليل على أنه كان يقدسها أو يعبدها، فربما كان يستخدم تلك العظام لأغراض أخرى تجميلية أو سحرية للتواصل مع الشياطين، أو لأغراض أخرى لا تخطر على بالنا اليوم.
تم العثور أيضا على مدافن لما يسمى بإنسان النياندرتال في فرنسا، حيث وُجد بجوار الهياكل العظمية آثار للنار ولحيوانات أخرى مدفونة معها ومقبض فأس حجرية، ووُضعت فرضيات تقول إن ذلك الإنسان كان يعتقد بأن الفأس ستحميه في حياته المستمرة بعد الموت وأن النار والحيوان كان لهما معنى روحي، وذلك دون وجود نص مكتوب أو شفهي يبرر هذا التفسير.
رأى آخرون أن وجود جماجم مكسورة لذلك الإنسان في إيطاليا وكرواتيا (وبعضها محروق)، يعني أنه كان يأكل أدمغة موتاه، ثم بُنيت على هذه الفرضية غير المؤكدة فرضيات التبرير الروحي بالقول إنه كان يعتقد بوجود روح في الدماغ وأنه يمكنه الحصول على قوتها بأكلها. علما بأنه ليس هناك دليل أصلا على وجود طقوس أكل الأدمغة فضلا عن التصديق بهذه التفسيرات.
جانب من رسوم كهف شوفيه
الرسوم الأولى منذ عام 1879 بدأ اكتشاف الآثار المرسومة بيد إنسان ما قبل التاريخ، وكانت البداية مع كهف ألتاميرا في أسبانيا، ثم اكتُشفت رسوم مشابهة في كهوف بفرنسا وشمال أفريقيا وقُدر عمرها بما بين 11 ألف و19 ألف سنة. ثم اكتُشف كهف لاسكو العملاق في فرنسا والذي تحتفظ جدرانه بنحو ألفي رسم لحيوانات وبشر وأعمال صيد وطبعات أيدي وقُدر عمرها بنحو 17 ألف سنة، أما كهف “شوفيه” في فرنسا المُكتشف عام 1994 فقُدر عمر رسومه الجدارية بنحو 32 ألف سنة.
وبحسب تقديرات علماء الآثار فإن أقدم أثر صُنع بيدٍ بشرية هو كتلتان حجريتان عُثر عليهما في كهف بولومبُس بجنوب أفريقيا، ونُقشت عليهما خطوط هندسية يُعتقد أن يبلغ عمرها حوالي 77 ألف سنة كما ذكرنا سابقا، وقد تم اكتشافهما عام 2002. أما إنسان النياندرتال فيفترض علماء التطور أنه انقرض قبل 24 ألف سنة فقط، وأن سلالتنا الحالية سادت المشهد بعده.
اجتهد علماء الآثار والأديان والأساطير في محاولة تفسير الرسوم الكهفية، إلا أنها جميعا ما زالت تخمينات مجردة عن أي دليل، فلا يوجد أي مبرر أصلا لافتراض أنها ذات دلالة دينية أو سحرية فضلا عن محاولة استخراج ما وراءها من معان شعائرية، فقد تكون للزينة والتمتع بالفن، بل ربما كان من يرسمها يسعى للتسلية لا أكثر، لكن بعض الباحثين –مثل جوزيف كامبل- ذهبوا إلى افتراض أن تكون تلك الكهوف بمثابة المعابد الأولى، ثم تابع باحثون آخرون -مثل فراس السواح وخزعل الماجدي من العرب- مسيرة وضع السيناريوهات التفسيرية، مثل افتراض تقديس الإنسان البدائي للحيوانات المرسومة على الجدران استحضارا لقوة العالم الحيواني الموازي، طمعا في الاتصال بعالم غيبي.
وضعيتان لتمثال “فينوس هول فلس”
التماثيل الأولى يقول المؤرخون إن الإنسان “البدائي” انتقل لاحقا من الرسم والتلوين إلى النحت والتجسيم، فظهرت “تماثيل فينوس الصغيرة”، حيث اكتُشفت خلال القرن العشرين في عدة مناطق أوروبية تماثيل أنثوية صغيرة متشابهة، وأطلق عليها اسم “فينوس” تشبيها لها بآلهة الحب اليونانية، بالرغم من عدم وجود دلائل تربط بين هذه التماثيل وبين أي بُعد أسطوري، ويقول الآثاريون إن أقدمها هو “فينوس هول فِلس” الذي اكتُشف في ألمانيا والمُقدر عمره بما بين 35 ألف و40 ألف سنة.
بعض هذه التماثيل كان منحوتا في جدران الكهوف مثل كهف لاوسيل في فرنسا، وحجمها يتراوح بين 3 سم و40 سم، لذا يُطلق عليها البعض اسم الدمى، وقد نُحتت على هيئة غريبة حيث ضُخمت أثداؤها وبطونها، فرجّح الباحثون أن الإنسان آنذاك كان يبجل وظائف الأمومة فسلط اهتمامه على أعضاء الخصوبة والحمل والإرضاع، في مقابل طمس ملامح الوجه. وفي مراحل لاحقة ظهرت دمى تحمل أشكالا أكثر غرابة، بوجوه أفعوانية وأجساد خنثوية تجمع بين الأثداء وأعضاء الرجل، ما يعني احتمال أن تكون لهذه التماثيل أغراض سحرية شيطانية، كما وُجدت تماثيل صغيرة للرجال ولكن بعدد أقل من للإناث ما دفع الباحثين للاعتقاد بأن القدماء قدسوا الأنثى قبل الذكر.
يستند الباحثون في ربط هذه الدمى بالعبادات الوثنية إلى التشابه بينها وبين تماثيل فينوس وشبيهاتها التي ظهرت بعد اختراع الكتابة (التاريخ)، فعلى سبيل المثال تتشابه دمية مكتشفة في تل المريبط بسورية (يقدر أنها تعود للألف الثامن قبل الميلاد) مع تماثيل الإلهة عشتار التي ظهرت بعد نشوء الكتابة، ما يعطي الباحث مبررا للاعتقاد بأن الدمى البدائية التي ضُخمت فيها الأثداء والعضو التناسلي كانت ترمز فعلا لتقديس الخصوبة مع ربطها بخصوبة الأرض. ومع ذلك، لا نملك دليلا مؤكدا على نوايا صانعي تلك الدمى قبل ظهور الكتابة، فربما كانت آلهة تُعبد، وربما كانت تُستخدم لأغراض سحرية بهدف إيذاء امرأة ما، بل يقترح البعض أنها لم تكن سوى تجسيد لدوافع المتعة الجنسية.
أنصاب ستونهنج في بريطانيا
المعابد الأولى يعتقد باحثون أن أولى المعابد ظهرت على هيئة كتل صخرية ضخمة أطلقوا عليها اسم “الأنصاب الميغاليثية” وهو مصطلح تم تأليفه بالأسبانية من مقطعين ويعني الأنصاب الحجرية الضخمة، وما زالت بقايا تلك الإنشاءات العملاقة في تركيا ومصر والشام وأوروبا الغربية والشمالية تذهل الباحثين أمام قدرة “البدائيين” على نصب كتل حجرية تزن 300 طن رأسيا ثم رفع كتل أفقية عليها بوزن 100 طن لكل منها.
وهناك عدة أشكال لبناء تلك الأنصاب، وقد اكتُشفت بالقرب من بعضها مدافن صخرية، ما دفع كثيرا من الباحثين للاعتقاد بأن “الديانة الميغاليثية” تتعلق بتقديس أرواح الموتى، حيث كانت منازل الفلاحين في العصر الحجري الحديث (النيوليت) متواضعة جدا ولا يكاد يُعثر لها على أثر، بينما نُصبت للأموات مدافن ومعابد بالصخور الضخمة التي ما زالت قائمة بعد قرون.
يُعد موقع “غوبكلي تيبي” في تركيا -الذي يضم 20 معبدا- أقدم المواقع الدينية المكتشفة حتى اليوم، ويعود تاريخ اكتشافه إلى عام 1994، أما تاريخ بنائه فيعود إلى ما قبل 12 ألف سنة تقريبا، أي إلى أواخر العصر الحجري الحديث، حيث يتوقع الألماني كلاوس شميدت الذي أشرف على التنقيبات في الموقع أنه كان أكبر موقع للعبادة والحج في العالم القديم، وأن القبائل كانت تقصده من أماكن بعيدة، ومازالت حجارته تحتفظ بنقوش تصوّر أشخاصا ونساءً عاريات وحيوانات أسطورية وبرية وحشرات وطيور.
وحسب النظريات التي تقول إن الإنسان كان يعتمد على الصيد وجني الثمار قبل أن يبدأ بالزراعة وتدجين القمح، فإن بناء “غوبكلي تيبي” تزامن مع هذه المرحلة الانتقالية التي شهدت تغيرا كبيرا في مناخ الأرض وانحسار الغابات والأنهار وانقراض أو انخفاض أعداد كثير من الحيوانات، وبعد أن كان الباحثون اللادينيون يفترضون أن الناس تعلّموا الزراعة أولا ثم انتقلوا من حياة البداوة إلى إنشاء مجتمعات حضارية فإن اكتشاف هذا الموقع دفع علماء آخرين إلى افتراض العكس، حيث كان يُعتقد أن المعابد لم تظهر إلا بعد تشكل المدن والحكومات والتفرغ لإنشاء المعابد، لكن الاكتشاف الأخيرة يؤكد أن الدين كان سابقا على ظهور الحضارة، وهو ما يلخصه شميدت بقوله “المعبد ظهر أولا، ثم ظهرت المدينة”.
اكتشاف معابد “غوبكلي تيبي” في تركيا دفع بعض الباحثين إلى إعادة النظر في أفكارهم عن الإنسان “البدائي”، حيث يبدو أن الناس كانوا يمتلكون الكثير من مقومات الرفاه والسعادة، وربما أكثر مما وفرته الحياة في المدن بعد نشوء الحضارة.
(gobeklitepe.info)
يُعتقد أن رموز الكتابة الأولى ظهرت للمرة الأولى في العراق قبل 8500 سنة، لكن التأريخ لم يبدأ إلا على يد السومريين قبل خمسة آلاف سنة تقريبا، حيث تركوا لنا أساطيرهم ورواياتهم مكتوبة ومفهومة، بينما لا يمكن فهم ما كانت عليه معتقدات من كان قبلهم سوى بالمقارنة والتأويل والتخمين.
ويرى باحثون أن ظهور الحضارة نفسها تزامن مع ظهور الكتابة والتأريخ، فالناس كانوا يعيشون قبل ذلك في قبائل، وبدون تنظيم لحدود الدول وسياسة الحكم، لذا لم ترتبط معابد ما قبل التاريخ بنظام حكم وثني مؤسسي قائم على التوافق بين الملك والكهنوت، وهو ما حدث عندما ظهرت الدول الحضرية للمرة الأولى في العراق كما يُخبرنا التاريخ المدون، لكن هذا لا يمنع نشوء حضارات سابقة دون أن تكتب تاريخها.
وسنبحث في مقال الوثنية نشوء هذا النمط من الدين المؤسسي الكهنوتي. ومع أنه لا يختلف عن وثنية ما قبل التاريخ من حيث كونه انحرافا عن الوحي، إلا أنه كان أكثر ارتباطا بالسلطة الحاكمة وأكثر رسوخا في المجتمع.
نقد المنهج المادي تستند جميع الأبحاث التي تعرضنا لنتائجها سابقا إلى مخرجات علم الأنثروبولوجيا، أي “علم الإنسان”، وهو مجال بحثي ظهر في العصر الحديث ويربط ما بين العلوم الاجتماعية وعلوم الحياة، والعلوم الإنسانية، أي أنه يستفيد من نتائج أبحاث التشريح القائمة أساسا على نظرية التطور، وكذلك من نتائج علمي الاجتماع والنفس، فهو يرصد سلوك الجماعات البشرية من خلال المنظور البيولوجي التطوري.
ويقوم هذا العلم منذ نشأته على البحث عن القبائل المعزولة في غابات أفريقيا والأمازون وأستراليا لدراستها، وافتراض أنها ما زالت تعيش وفق نمط حياتها الراكد منذ آلاف السنين، كما يقوم على دراسة الأحافير والنقوش والأساطير لرسم صورة عامة عن حياة القبائل “البدائية” قبل التاريخ. لكن هذا المنهج ما زال يتعرض لانتقادات منهجية كبيرة منذ نشأته، وأهمها ما يلي:
1- ليس هناك دليل ينفي إمكانية انحدار المجتمعات “البدائية” عن مجتمعات كانت أرقى سلوكا وأكثر تحضرا، وأن ما نراه اليوم من قبائل تعتاش على الصيد ليس سوى حالة انتكاس عن أسلاف متحضرين.
2- هناك الكثير من الباحثين الرواد في هذا العلم ممن أمضوا بضع سنوات في العيش مع تلك القبائل، ثم وضعوا مؤلفات تصف طريقة عيشهم وثقافتهم، وبنى آخرون عليها نظريات علمية ما زالت تُدرس في الجامعات، ويرى النقاد أن هذا لا يكفي لفهم طبيعة حياة البشرية كلها، وأنه تعميم مجحف.
3- تستند معظم الأبحاث في تفسيرها للسلوك والعادات الاجتماعية والتقاليد على أساس الأسبقية الزمنية، فما كان سابقا فهو الأصل، وما جاء لاحقا فلا بد –وفقا لهذا المنهج- أنه اقتبس عن الذي قبله، وهذا افتراض بلا دليل، كما أنه تجاهل لقدرة الإنسان على الفكر والإبداع حتى لو لم يكن لديه اتصال بمن سبقه. كما أن بعض التقاليد قد تتشابه في ظاهرها إلا أنها تختلف كثيرا في وظيفتها وأصلها.
4- من أهم الانتقادات التي باتت شائعة اليوم أن معيار التقدم والتخلف ليس بالبساطة التي يفترضها رواد هذا العلم، فالاكتشافات المتتالية تثبت أن القدماء تمتعوا بعلوم متقدمة للغاية، وأن أنماط الحياة نفسها لم تكن دائما على النحو “البدائي” المفترض، فقد تركوا لنا ما يثبت تمتعهم بحس ذوقي وتقدير عال للجمال والفنون والآداب.
لذا يقترح باحثون معاصرون إعادة النظر في مصطلح “البدائية” لصعوبة وضع تعريف علمي له، فالإنسان “البدائي” كان يفكر بنفس المنطق الذي يفكر به الحداثي، وإذا كانت بعض الشعوب القديمة قد آمنت بالأساطير لتفسير الظواهر الطبيعية فهناك شعوب قديمة أخرى لم تؤمن بها، كما أن معظم تلك الأساطير ما زالت حاضرة اليوم في عقول ملايين البشر، بل لا تكاد تخلو حياة الإنسان الغربي الحداثي من الاعتقاد ببعض الأساطير.
يقول المؤلف لويس ممفرود في كتابه “أسطورة الآلة” إن الأنثروبولوجيين ارتكبوا جريمة في حق إنسان ما قبل التاريخ، حيث اعتبروا أن الأشياء المادية من العظام والحجارة هي البرهان الوحيد الذي يمكن قبوله لفهم حياة الإنسان “البدائي”، فالشعائر الدينية واللغة والتنظيم الاجتماعي التي لم تترك أثرا ماديا كانت أهم ما أنتجه الإنسان آنذاك، ومع أن بعض القبائل الأسترالية على سبيل المثال لم تتمتع باختراعات تقنية متقدمة؛ إلا أن احتفالاتها الدينية منظمة جدا، وهي تملك لغة غنية للغاية.
الرواية الثانية: حسب التراث المنسوب للوحي والقرآن
مرحلة آدم وابنه شيث سنعرض لاحقاً في مقال “نبوة محمد” ما يؤكد حاجة الإنسان للاتصال بخالقه، كما سنتحدث عن أدلة صحة النبوة باعتبارها الوسيلة الوحيدة الموثوقة لهذا الاتصال، إلا أننا مضطرون في هذه المرحلة إلى الاكتفاء بالسرد التاريخي المبدئي لرواية الوحي (التي جاء بها النبي محمد).
يؤكد الوحي المحمدي أن آدم كان أول البشر وأول الأنبياء معا، ففي الحديث قال أحد الصحابة: يا رسول الله، أنبيّ كان آدم؟ قال: “نعم معلَّم مكلَّم”، وقد ورد هذا الحديث بعدة طرق وصححه الأرناؤوط والألباني. وفي حديث آخر قال أبو ذر: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ فقال صلى الله عليه وسلم “المسجد الحرام”، قال ثم أي؟ قال “المسجد الأقصى”، قال كم كان بينهما؟ قال “أربعون سنة” [البخاري: 3366، ومسلم: 520]. ونستنتج من الحديث أن آدم بنى أول معبد لعبادة الإله الواحد منذ فجر البشرية، ثم بُني المسجد الأقصى في بيت المقدس بفلسطين، ولا ندري إن كان آدم هو الذي بناه أم أحد أبنائه.
وبالرغم من عدم ظهور الشرك في تلك المرحلة، فقد ارتكب أحد أول أبناء آدم الجريمة الأولى، عندما قتل قابيل أخاه هابيل بدافع الغيرة وفقا لما ورد في الكتاب المقدس والقرآن الكريم، إلا أن الانحراف عن الدين نفسه لم يظهر إلا في مرحلة متأخرة.
وبحسب القصص الإسرائيلية، يُعتقد أن الله وهب آدم ابنه شيث عوضا عن هابيل القتيل، وأن شيث كان ثاني الأنبياء بعد أبيه، وليست في أيدينا اليوم تفاصيل إضافية عن حياة شيث، سواء من الوحي أو من الكتابات التاريخية. وتقول القصص التوراتية إن النبي إدريس (أخنوخ بالعبرية) جاء في الجيل الرابع من أحفاده، وسنبحث في مقال الغنوصية الأفكار الهرمسية التي نُسبت إلى إدريس (هرمس لدى بعض الحضارات)، بينما نستعرض في هذا المقال لاحقاً نبذة عن وجوده التاريخي.
وبما أن تلك المرحلة من حياة البشر لم تترك لنا شيئا مكتوبا عن تاريخها، كما لم تذكر لنا نصوص الوحي الإسلامي متى خُلق آدم وكم هي المدة التي تفصلنا عنه، فليست لدينا سوى نصوص قليلة جدا (من بين المكتشف حتى الآن) يمكن الاستئناس بها عن تاريخ تلك المرحلة السابقة للتاريخ، وأولها نص طيني يدعى “قائمة ملوك سومر”، قُسم فيه التاريخ السومري بالعراق إلى ما قبل الطوفان وما بعده.
قائمة ملوك سومر
يُعتقد أن “قائمة ملوك سومر” كُتبت في حوالي عام 2000 قبل الميلاد، وهي تقول إن أول ملوك البشرية هو “إلوليم” (ربما يكون آدم عليه السلام) الذي خرج من الجنة وأنشأ مدينة إريدو (تل أبو شهرين) في العراق بأمر من الإله إنكي، وبقي في الحكم 28 ألف و800 سنة، وتلاه سبعة ملوك كانت مدة حكم كل منهم تتراوح بين ما يقارب 43 ألف سنة ونحو 18 ألف سنة، ثم كان الطوفان الذي أهلك معظم البشر، وأصبحت أعمار الناس بعده أقصر بكثير، ثم سرعان ما نقصت أعمارهم خلال بضع سلالات حتى أصبح متوسط العمر نحو مئة سنة. [Sumer and the Sumerians, p. 24].
ويرى بعض المؤرخين أن كاتب النص أطال في أعمار ملوك ما قبل الطوفان إلى هذه الأرقام الضخمة لأنه لم يجد سوى ثمانية أسماء تملأ تلك الفترة، إلا أن النصوص اليهودية والمسيحية والإسلامية تؤكد على أي حال أن أعمار الناس في تلك الفترة كانت في حدود ألف عام، وقد أجرينا حسابا لمجموع مدة حكم ملوك هذه المرحلة (منذ حياة آدم وحتى بدء التاريخ المدوّن) فكانت النتيجة هي 241 ألف و200 سنة.
وإذا كان تأريخ “قائمة ملوك سومر” لقصة الإنسان منذ ما قبل التاريخ صحيحاً، فهذا يعني أن الإنسان لم يعش في مراحل بدائية متنقلا عبر أربعة عصور حجرية، تبدأ بالرعي والتقاط الثمار وتنتهي بتأسيس المدن والحضارات، بل كان آدم (أول البشر) هو مؤسس أولى الحضارات بتأسيسه لمدينة إريدو، ثم حدث الطوفان بعد عدة قرون ليعاد تأسيس الحضارة من جديد ويبدأ التاريخ مع ظهور الكتابة. لكن تصديق هذه الرواية سيظل مرهوناً بصحة ما جاء في تلك القائمة وصحة تأويلنا لمضمونها، وهما افتراضان لا يمكن الجزم بهما، كما أن تكذيب بعض ما جاء فيها -إن حدث- لا يعني بالضرورة أن كل ما فيها كذب محض.
من جهة أخرى، تؤمن طائفة المندائيين -التي يعيش أفرادها القلائل اليوم في العراق- أنها ما زالت تحتفظ بالكتب السماوية التي أنزلت على آدم وشيث وإدريس. وفي الوقت نفسه يقول الباحث العراقي خزعل الماجدي إن المندائيين هم ورثة الحضارة البشرية الأولى، فهم الذين أسسوا مدينة إريدو بعد الطوفان وقبل ظهور السومريين.
يؤمن المندائيون بأن كتابهم المقدس “الكنز العظيم” (كنزا ربّا) هو كلام الله ووصاياه الموحى بها إلى النبي آدم قبل نزوله إلى الأرض، كما يضم وصاياه إلى أنبياء آخرين، وهم شيتل بن آدم (شيث)، أنوش بن شيتل، نو (نوح)، سام بن نو (سام بن نوح)، دنانوخ (إدريس)، ويهيا يهانا (يحيى بن زكريا).
وبالجمع بين الروايات قد يصح القول (دون جزم) إن المندائيين كانوا من قوم آدم الذين أسسوا أولى المدن والحضارات (إريدو)، ومن بقي منهم بعد طوفان نوح أعادوا تأسيس مدينتهم نفسها لتصبح موطن الحضارة المعروفة في التاريخ المدون اليوم، ثم تفرعت عنهم بقية حضارات الرافدين.
ومن بين النصوص التي تشير إلى حضارات ضاربة في القدم قبل التاريخ برديّة تورين (نسبة إلى متحف تورين الإيطالي)، التي تشير باقتضاب إلى التاريخ الغابر للحضارة المصرية، فهي تتحدث عن أكثر من 340 ملكا قبل الأسرات الحاكمة التي شاعت تسميتها بالفراعنة.
ويرجع تاريخ هذه الوثيقة المكتوبة على ورق البردي إلى عصر الملك رمسيس الثاني، واكتشفت في القرن التاسع عشر. ومع أنها وثيقة مهشمة وتفتقد لأجزاء كثيرة، إلا أن المؤرخين وجدوا فيها إشارة إلى أن الحضارة المصرية تعود إلى عصر يسمى عصر الآلهة ويمتد إلى نحو سبعة آلاف سنة، وهذا يشبه ما ذكره هيرودت عن عصر ملكي مصري قديم عمره أكثر من 11 ألف سنة.
أضف إلى ذلك ما نقل عن كتاب لمؤرخ يدعى مانيتون، يعتقد أنه احترق في حريق مكتبة الإسكندرية على يد الزعيم الروماني يوليوس قيصر، فتأريخ مانيتون للحكم في مصر يمتد إلى حوالي ثلاثين ألف سنة.
إدريس النبي وهرمس الحكيم هناك تضارب كبير بشأن شخصية هرمس، فبينما يفترض البعض أنها شخصية أسطورية نُسب إليها خليط من الأفكار والأساطير، يقول البعض إن هناك ثلاثة هرامسة في التاريخ القديم، الأول كان يسكن في صعيد مصر وهو الذي بنى الأهرام وسجل فيها الصناعات والآلات كي لا تضيع العلوم في طوفان نوح، والثاني هو الذي بنى بابل بعد الطوفان وبعد عصر النمرود، والثالث كان مصريا أيضا.
ويتفق كثير من المؤرخين المسلمين على أن هرمس الأول هو النبي إدريس عليه السلام، ويسمى أخنوخ (وكذلك إنوخ وخنوخ) بالعبرية، وقد اشتق العرب اسمه من كلمة درس أي أنه الدارس الحكيم.
ونجد لهذه الشخصية ذكرا في تراث الفرس واليونان والكلدانيين والفراعنة مع اختلاف بسيط في التسمية، وكأنه شخص واحد لكن الأمم اختلفت في تسميته بما يناسب لغاتها، أو أن عدة حكماء لاحقين جاءوا بعده وتمت تسميتهم باسمه “هرمس” أو “هرمز” تيمّنا به. وقد درجت تسمية هرمس الأول باسم هرمس المثلث بالعظمة أو المثلث بالحكمة لأنه جمع بين الحكمة والنبوة والملك.
وبحسب العهد القديم من الكتاب المقدس لدى اليهود، فقد ورد نسب أخنوخ على أنه ابن يرد بن مهلائيل بن أنوش بن شيث بن آدم، وأنه أبو جد نوح. وهو نسب يتطابق تقريبا مع ما ورد عن ابن عباس، كما روي عن الصحابي أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء، فأخبره عن عددهم ثم قال “أربعة سريانيون: آدم وشيث ونوح وخنوخ وهو إدريس، وهو أول من خط بقلم”، وهو حديث ضعيف رغم وروده بأربعة طرق. وإذا كان هو أول من خط بالقلم فعلاً فهذا يعني أن الكتابة بدأت في عصره، وأن الوحي الذي أنزل على الأنبياء الذين قبله كان يُنقل شفهياً، لكن أقدم ما وصلنا من التاريخ المدون يعود إلى الحضارة السومرية التي نشأت بعد الطوفان، وليس بين يدينا الآن نص مكتوب مما قبل ذلك.
ونقل المؤرخون المسلمون روايات عن حياة إدريس تداخلت فيها الإسرائيليات غير المؤكدة، ففي كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري عايش إدريس آدم وشيث وكان ثالث الأنبياء، وأنزلت على إدريس ثلاثون صحيفة (أي كتاب سماوي)، وأن بدء انحراف البشرية عن عبادة الله في عصره عندما عبدوا الأصنام بدعوة من إبليس، فحمل إدريس وأتباعه السلاح وكان أول من جاهد في سبيل الله، ولكن هذا القول غير مؤكد، وثمة تفسيرات أخرى لدى المسلمين تميل إلى أن الوثنية بدأت في عصر نوح وليس إدريس، وأن إدريس تابع مهمة آدم وشيث في تعليم الناس وإرشادهم إلا أنه لم يواجه معضلة إعادتهم إلى التوحيد لأن الوثنية لم تكن قد ظهرت بعد.
وهناك حديث لأبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه ابن حبان، جاء فيه أن الله أنزل مئة كتاب وأربعة كتب وأنه أنزل على خنوخ (إدريس) ثلاثين صحيفة.
ومع إقرار التوراة بأن إدريس تلقى وحيا مكتوبا من السماء، فإن “سفر أخنوخ” المنسوب إليه لا يُعترف به إلا من قبل الكنيسة الأثيوبية التي تعتبره جزءا صحيحا من الكتاب المقدس، وقد تم اكتشافه ضمن مخطوطات البحر الميت في نسخة مكتوبة باللغة الآرامية يعود تاريخها إلى مائة عام قبل الميلاد، وهي تتضمن إشارات لنبوة محمد في آخر الزمان. وسنتعرض للوثنية -التي نعتقد أنها طرأت على رسالة إدريس التوحيدية في مصر- بموضع لاحق من هذا المقال.
النبي نوح وقومه بحسب العهد القديم من الكتاب المقدس (التوراة التي يؤمن بها اليهود اليوم) فإن نوح كان ابن حفيد إدريس، وقد نشأ في الجيل العاشر بعد آدم، كما نجد ذكر نوح في كتاب “الكنز العظيم” وهو الكتاب المقدس لدى طائفة المندائيين الذين يقيمون حاليا في العراق، وهو يدعى في كتابهم “نو”، وما زالوا يقيمون احتفالا دينيا كل عام في ذكرى الطوفان.
وعلى صعيد الأساطير، نجد ذكر نوح (بطريقة محرّفة) في كل من ملحمتي جلجامش وأتراحاسيس اللتين سيرد ذكرهما في هذا المقال لاحقا، كما نجد أن “قائمة ملوك سومر” المذكورة أعلاه قد قسمت قصة الإنسان أصلاً إلى ما قبل الطوفان وما بعده.
بحسب الرواية الإسلامية للتاريخ، ظلت البشرية على قلة عددها مؤمنة بالله وعلى ديانة أبيهم آدم، إذ يقول القرآن الكريم في سورة البقرة {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}، وقد فسر ابن عباس الآية بقوله “كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين” [أخرجه الحاكم في المستدرك]، ولعله اقتبس هذا المعنى من حديث يقول إن رجلا قال: يا رسول الله، أنبيّ كان آدم؟ قال: نعم معلَّم مكلَّم، قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون. قال: كم كان بين نوح وإبراهيم؟ قال: عشرة قرون. قالوا: يا رسول الله كم كانت الرسل؟ قال: ثلاثمائة وخمس عشرة جمًّا غفيرا. وقد ورد هذا الحديث بعدة طرق وصححه الأرناؤوط والألباني، والراجح أن كلمة قرن ليست محصورة بمئة سنة كما هو متداول في عصرنا بل قد تعني الجيل والأمة، فربما يكون القرن أطول لأن أعمار الناس آنذاك كانت طويلة جدا.
وفي حديث الشفاعة يوم القيامة، يذهب الناس إلى نوح ويقولون له {يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض} [أخرجه مسلم وهو حديث صحيح]، ويبدو من هذين الحديثين أن آدم وشيث وإدريس كانوا أنبياء، إلا أنهم لم يُكلفوا بالرسالة لأن الناس في العصور الأولى كانوا على الإيمان، فربما كانت الصحف (الكتب) التي أنزلت على الأنبياء الثلاثة الأوائل لا تتضمن رسالة إلى الناس بل مواعظ ونصائح ونبوءات، كما يُحتمل أن يكونوا رُسلا وأن يكون تأويل الحديث السابق هو أن نوح كان أول المرسلين إلى كافة أهل الأرض بعد أن مات معظمهم ولم يبق إلا قومه الناجون فكان رسولا إليهم وهم يمثلون كل البشرية.
جاء في حديث قدسي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه {وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا} [رواه مسلم وهو صحيح]. وهذا يفسر الآية التي وردت في سورة نوح بالقرآن الكريم، عندما شكى نوح قومه إلى الله، فقال من بين ما قاله عنهم {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا}، وقد شرح الصحابي عبد الله بن عباس هذه المصطلحات بقوله إنها “أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت” [رواه البخاري]، أي أن أول جيل بشري عبَد الأصنام هو قوم نوح، وأن ذلك لم يحدث إلا بعد تدخل إبليس، حيث دبر خطته بدهاء وصبر طال عدة أجيال، ففي الجيل الأول أقنعهم بصناعة التماثيل لتكون تذكارا للأموات الصالحين، ثم تطلب الأمر مرور عدة أجيال لينسى الناس سبب صناعتها، فقال إبليس للأحفاد إن أجدادهم صنعوا التماثيل ليعبدوها فتنزل عليهم المطر والرحمة فعبدوها، فأرسل الله إليهم رسوله نوح ليأمرهم بالعودة إلى الإيمان.
ويقول القرآن الكريم في سورة العنكبوت {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون}، أي أن دعوته لهم استمرت 950 سنة، حتى يئس منهم فاشتكى إلى ربه، وقد روى لنا القرآن في “سورة نوح” شكواه التي تؤكد أنه لم يترك سبيلا ممكنا لدعوتهم إلا سلكه، فلم يجد منهم سوى التكبر والسخرية والإصرار على الفساد والإفساد، وقالوا {يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا}، {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن}، وعندها دعا نوح ربه بأن يهلكهم ويأت بقوم آخرين: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يُضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}، ويقال إن من رحمة الله أن أوقف نسلهم فلم تلد النساء أربعين سنة حتى لا يبقى بينهم طفل فيلحقه العذاب وهو غير مُكلَّف، ثم أمر الله نبيه نوح ببناء سفينة وأن ينتظر الإشارة التي تنبئه بموعد الطوفان، فحمل معه الذين آمنوا به وزوجين من كل الحيوانات التي كانت تعيش في المنطقة.
الموقع الذي يعتقد البعض أن سفينة نوح رست فيه (wikimediaMfikretyilmaz)
تتفاوت الروايات الإسرائيلية عن عدد الذين كانوا معه والمدة التي قضوها في الماء بعد أن تفجرت الينابيع وانهال المطر حتى ملأ الماء اليابسة، لكن القرآن الكريم اكتفى بالقول إن السفينة رست بعد ذلك على جبل الجودي، بينما تقول الرواية اليهودية إنه جبل أرارات، والراجح أن أرارات هي سلسلة من الجبال وليست جبلا واحدا وأن الجودي جزء منها، وقد اكتُشف عام 1948 أثر يُرجح أنه للمكان الذي استقرت فيه السفينة على سفح الجودي، وكُشف في الحفريات عن بقايا المسامير المعدنية التي يعتقد أنها استُخدمت في بناء السفينة وعن ألواح خشبية متحجرة بما يتوافق مع الآية القرآنية {وحملناه على ذات ألواح ودُسر}، وبعد نحو أربعين سنة اكتُشفت في قرية مجاورة مرساة حجرية، ثم تتالى الكشف عن مراسٍ مماثلة على طول الطريق الذي يُعتقد أن السفينة قطعته، حيث يُفترض أنها كانت تعمل على تثبيت السفينة كي لا تقلبها الأمواج الضخمة، فقد ورد في الآية أنها كانت {تجري بهم في موج كالجبال}. ويجدر بالذكر أن اكتشاف هذه الآثار لا يعني بالضرورة أنها تعود فعلا إلى النبي نوح.
هناك من يفسر قصة الطوفان بأنها حدثت في أرض العراق ومحيطها ولم تشمل الكوكب كله، واستبعد أصحاب هذا الرأي أن تتسع السفينة لزوجين من كل الحيوانات والنباتات التي يبلغ عددها ملايين الأصناف والفصائل، مفترضين أن النبي نوح حمل ما كان يقدر على حمله من كائنات تعيش في منطقته لتستمر في التكاثر، وأن البشر على قلتهم كانوا محصورين في تلك المنطقة وحدها. لكن هناك من يرى أن الطوفان شمل الكوكب كله، ويستندون بذلك إلى تكرار قصته في تراث أمم بعيدة، مثل الصين والهند واليونان، وحتى لدى شعوب الدول الإسكندنافية في أقصى الشمال الأوروبي ولدى قبائل الأزتيك بأميركا اللاتينية. ويدافع اليهود والمسيحيون عن هذا الرأي بما يتوافق مع الكتاب المقدس، لكن وجود قصة الطوفان لدى الأمم البعيدة التي عاشت في قرون لاحقة قد يكون نتيجة ورودها على لسان أنبياء بُعثوا إليهم بعد نوح أو أنها انتقلت إليهم عبر أشخاص رحلوا إليهم، دون أن يكونوا قد عايشوا التجربة بالضرورة.
وقد وردت قصة الطوفان في لوح طيني يعود إلى الحضارة السومرية بمدينة نفر “نيبور” العراقية، كما وردت في ملحمة جلجامش الأسطورية التي اكتشفت ألواحها عام 1872 في العراق، وأعاد صياغتها أيضا الراهب البابلي بيروسوس في القرن الرابع قبل الميلاد. وتتشابه أحداث القصة في كل هذه الحكايات مع اختلافات بسيطة بما يتناسب مع السلطة التي كانت تحكم آنذاك.
علاوة على ما سبق، تؤكد الاكتشافات الجيولوجية أن طوفانا هائلا غمر مناطق واسعة في سورية والعراق وتركيا وإيران ومحيط البحر الأسود، لكن زمن حدوثه مازال محل جدل، ويُرجح أنه يعود إلى نحو 8000 آلاف سنة من الآن على أبعد تقدير.
ما بعد الطوفان ليست هناك أدلة تاريخية محفوظة في المخطوطات أو الألواح الطينية تحكي ما حدث للبشر بعد الطوفان، إلا أن الروايات المحفوظة لدى الأديان السماوية اليوم تؤكد أن نوحًا كان بمثابة أبي البشر الثاني، فكل من جاء بعده كانوا من سلالات أبنائه، ونجد تأييدا لذلك في القرآن الكريم الذي قال {وجعلنا ذريته هم الباقين} [الصافات: 77]، وقد فسر ابن عباس هذه الآية بقوله “لم يبق إلا ذرية نوح”، وقال البعض إن السفينة كانت تقل أشخاصا آخرين ممن آمنوا بنوح إلا أنهم لم يتركوا ذرية من بعدهم، فكان الناس جميعا من أبناء نوح الثلاثة وهم سام أبو العرب (وبقية السلالات في ما يسمى بالشرق الأوسط، ويافث أبو الروم (السلالات الأوروبية اليوم)، وحام أبو الحبش (الشعوب الأفريقية)، ولا ندري إن كان الأبناء الثلاثة قد نزحوا إلى أصقاع الأرض وتوالدوا أم أن سلالاتهم هي التي هاجرت في مرحلة لاحقة.
لوح سومري يعود إلى عام 2350ق.م
يتفق معظم الباحثين اليوم على أن بلاد الرافدين (العراق) هي مهد الحضارات الأولى، فمع أن هناك تجمعات بشرية في مناطق عدة كانت مزامنة لها في جزيرة العرب وتركيا ومصر إلا أن التاريخ المدون يدل على أن أول مظاهر الانتقال من حياة القبائل إلى تشكيل المدن والدول الحضارية القوية كان في العراق، وأن الدولة السومرية كانت هي أولها ظهورا، ويقول الدكتور أحمد سوسة في كتابه “تاريخ حضارة وادي الرافدين” إن السومريين ذكروا في الألواح الطينية أنهم تركوا موطنا في أرض جبلية يمكن الوصول إليها بحراً وهاجروا إلى العراق، ويرجح مؤرخون أن يكون موطنهم الجبلي الأول هو أواسط آسيا (وراء البحر الأسود)، وهو ما يمكن أن يتقاطع مع القول بأنهم قبائل بدوية نزحت من موقع رسوّ سفينة نوح.
لكن ترجيح الرأي القائل بأن الحضارة بدأت بالعراق يستند أساسا إلى أن اختراع الكتابة التي دوّن بها التاريخ حدث هناك أولاً وفق ما تدل عليه الاكتشافات الأثرية، وهذا لا يمنع أن تكون هناك حضارات سابقة في أماكن أخرى.
يقول المؤرخ ابن خلدون في موسوعته “العِبر” إن قوم ثمود انتقلوا إلى جزيرة العرب من بابل لما زاحمهم فيها بنو حام فسكنوا البادية بجزيرة العرب، ثم تحضروا وحكمهم الملوك، وهما من أوائل الشعوب العربية.
وبحسب القرآن الكريم، بعث الله نبيه هود إلى قوم عاد بعد فترة غير محددة من الطوفان، ولم يحدد القرآن المكان الذي عاش فيه هذا القوم إلا أنه وصفه بكلمة “الأحقاف” أي منطقة الهضاب الرملية، كما أطلق عليه اسم “إرَم ذات العماد” أي التي تعلوها أعمدة المباني الضخمة، وهناك جدل واسع بشأن تحديد الموقع، ومازال الباحثون يقدمون اجتهادات مدعومة بحفريات وصور للأقمار الصناعية، مع التركيز على منطقة الربع الخالي ما بين عُمان واليمن والسعودية، وليست هناك نتائج مؤكدة، كما اجتهد بعض المؤرخين المسلمين لتحديد نسب النبي هود، فقال بعضهم إنه كان يسمى “عابر” وهو ابن حفيد سام بن نوح.
انحرف قوم عاد عن التوحيد كما فعل قوم نوح، حيث قال لهم نبيهم هود {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة}، ويحكي القرآن الكريم في أكثر من موضع عما جرى من حوار بينهم وبين النبي هود، حيث كانوا معتدّين بقوتهم وحضارتهم، إذ تقول الآية في سورة فصلت {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة، أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون}، فعوقبوا بالإبادة عندما هبّت على أرضهم ريح عاتية لعدة أيام كما تقول الآية {فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات}، {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما}
وبما أن أرض عاد غير مكتشفة بعد فليس هناك مصدر لتاريخ ذاك القوم سوى القرآن الكريم، وقد ذكر القرآن من بعد عاد قوم ثمود، وهم من أوائل القبائل العربية التي يعتقد أنها انحدرت من سام بن نوح وهاجرت مبكرا إلى الحِجر (مدائن صالح في منطقة تبوك بشمال السعودية حاليا)، وأسست إحدى أولى الحضارات البشرية، وتخبرنا النقوش الصخرية أن الأنباط حفروا تلك المنازل الضخمة في الصخر والتي مازالت باقية إلى اليوم، لكن هناك رسوما أقدم تؤكد أن المعينيين (سلالة ثمود) واللحيانيين سكنوها قبلهم، وأن المعينيين كانوا هم أول من سكنها قبل الميلاد بنحو 7 آلاف سنة.
مدائن صالح التي كانت موطن ثمود (Madain Saleh)
وبحسب القرآن الكريم، فإن ثمود الأوائل انحرفوا عن التوحيد كما فعل قوم نوح وعاد، فأرسل الله إليهم نبيا منهم اسمه صالح، إذ تقول الآية {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم} [الأعراف: 73]، لكن الأسياد تمردوا وتحدوه وطالبوه بمعجزة لتصديقه، فدعا صالح ربه فأخرج لهم ناقة حية من صخرة أمام أعينهم، وحذرهم من إيذائها، فذبحوها بعد فترة، فكان العقاب أن أبيدوا بالصيحة بينما نجى المؤمنون وهم قلة مع نبيهم بمغادرة المكان. وقد أكد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقوع هذه الحادثة في مدينة الحِجر نفسها عندما مر بها مع صحابته أثناء غزوة تبوك.
يقول ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ” إن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يزعمون أنه لا ذكر لعاد وهود وثمود وصالح في التوراة، ويرد على ذلك بالقول “وأمرهم عند العرب في الجاهلية والإسلام كشهرة إبراهيم الخليل عليه السلام”، أي أن قصصهم لم تدوّن إلا أنها بقيت محفوظة شفهيا بين شعوب الجزيرة العربية حتى نزل القرآن وأكدها.
أهم المراجع ميرسيا إلياد، المقدس والعادي، ترجمة عادل العوا، دار التنوير للطباعة والنشر، 2009.
جون كيرتشر، كيف وُجدت الآلهة، ترجمة إبراهيم جركس، 1929، نسخة إلكترونية.
فراس سواح، الرحمن والشيطان، دار علاء الدين، دمشق، 2000.
فراس سواح، دين الإنسان، دار علاء الدين، دمشق، 1998.
فراس سواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق، 2002.
حبيب سعيد، أديان العالم، دار التأليف والنشر للكنيسة المرقسية، القاهرة، بدون تاريخ.
خزعل الماجدي، أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ، دار الشروق، عمّان، 1997.
خزعل الماجدي، كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد، المركز الثقافي العربي، 2014.
خزعل الماجدي، أصول الناصورائية المندائية في آريدو وسومر، دار فضاءات، عمان، 2013.
لويس مينار، هرمس المثلث العظمة أو النبي إدريس: ترجمة كاملة للكتب الهرمسية مع دراسة عن أصل هذه الكتب، ترجمة عبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق، 1998.
هدى درويش، نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهودية والإسلام، دار السلام، القاهرة، 2009.
محمد الغرباوي، نوح عليه السلام بين أهل الكتاب وأهل الإسلام، نسخة إلكترونية، 2009.
ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق عمر تدمري، دار الكتاب العربي، 1997.
كتب تفسير القرآن الكريم الكبرى، مثل تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي.
Crawford Harriet & Harriet Crawford, Sumer and the Sumerians, Cambridge University Press.
تحققنا في مقال “نبوة محمد” من ضرورة النبوة وحاجة الإنسان إليها كمصدر وحيد لبلوغ الحقيقة في الغيبيات، وتبين لنا أيضاً صدق نبوة العربي الأمي محمد بن عبد الله، المولود بمكة في القرن السادس الميلادي، وكونه مرسلا من الله إلى عباده، وسنبحث هنا في الوحي الذي أنزل إليه متمثلا بالقرآن الكريم الذي جُمع على هيئة كتاب وما زال محفوظاً إلى اليوم، ففي مقابل الشكوك التي يقر بها باحثو الأديان الأخرى، يُجمع علماء الإسلام على مر العصور وبالتواتر بأن الكتاب المتوفر بين أيدينا اليوم هو القرآن نفسه المنزل على النبي بواسطة الملَك جبريل.
سنركز بحثنا في مصدرية القرآن وصدق نسبته إلى الله تعالى مباشرة بألفاظه ومعانيه، كما سنتحقق من صحة توثيق هذا الكتاب وتدوينه ونقله بالتواتر حتى وصل إلينا بالرغم من مرور أكثر من أربعة عشر قرناً، وسنعرض بعض الأمثلة والنماذج التي تثبت صحة هذا الوحي وعصمته من التحريف، ونناقش بإيجاز أهم الشكوك التي تُطرح في هذا المجال.
البحث في مصدرية القرآن:
سنعالج هذه المسألة في تسع نقاط مهمة، وهي كما يلي:
النقطة الأولى: حاجة صاحب الرسالة إلى القرآن
المسجد النبوي في المدينة المنورة بمنتصف القرن التاسع عشر
فقد مر صاحب الرسالة ببعض المواقف المحرجة، وكان نزول الوحي السبيل الوحيد للتخلص منها، وفي حال تأخر الوحي كان يتعرض للحرج لأنه لا يستطيع حسمها، وأبرز هذه الحالات “حادثة الإفك”، حين خاضت الألسنة بزوجته عائشة، واتهما البعض بالزنا، ولم يكن بين يديه ما يمكنه من معرفة الحقيقة، ولم يشأ أن يتبع الظن، فتمنى لو نزل الوحي بقرآن يحسم الأمر، ولم يزد في هذه الفترة على التحري والاستشارة، وطوال هذه المدة لم يدعي أن له طريقة للعلم بحقيقة التهمة من غير طريق الوحي، فبقي ينتظر الوحي دون أن يتمكن من استعجاله بالرغم من حاجته الشديدة له.
ولو كان كاذبا لزعم نزول آية تبرئ زوجته على الفور، وحمى بذلك عرضه من لسان أعدائه المتربصين، إلا أنه ظل منتظرا كبقية أصحابه حتى نزلت سورة النور لتبرئة عائشة.
النقطة الثانية: توقف صاحب الرسالة -أحيانًا- في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان
وفي القرآن آيات تحتاج لبيان معناها، ولو كان القرآن من تأليفه فكيف يقول كلاماً لا يفهم هو معناه؟ وقد يتضمن القرآن أيضاً أمراً لا يعرف حكمته، وهذا دليل على أنه ناقل لا قائل، ومثال ذلك ما جاء في القرآن: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فظن أصحابه أنهم سيحاسَبون على كل شيء حتى خواطر القلوب، فقالوا: يا رسول الله نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال لهم “أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير” [رواه مسلم]، فكانوا يتضرعون بهذه الدعوات حتى نزل التوضيح: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وهنا علموا أنهم مُحاسبون على النوايا والعزائم وليس على الأماني والخواطر العابرة.
فلو كان صاحب الرسالة قد اخترع تلك الآية من عنده ابتداءً، فلماذا لم يبين لهم خطأهم ويزيل اشتباههم، وهم في أشد الحاجة إلى بيان معناها؟
النقطة الثالثة: طريقة صاحب الرسالة في حفظ القرآن أول نزوله
كان الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الرسالة يكرر القرآن على عجل، بهدف حفظه خشية نسيانه، وهذا أمر لم يُعْرف به في كلامه العادي، فلو كان القرآن من عند نفسه لقاله كما يقول أي كلام آخر، غير أنه كان يجد نفسه أمام تعليم يفاجئه في وقت معيَّن وعلى عجل، مما يتطلب تكراراً سريعاً لحفظه وتدارك نسيانه، وقد ظل على هذا الحال حتى ضمن الله له حفظ القرآن وعدم نسيانه {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]،فتوقف عندئذ عن التكرار، ولم يكن ينسى شيئاً من القرآن.
رسم لمكة يعود إلى عام 1790
النقطة الربعة: هل كان القرآن من تأليف محمد؟ في الحديث عن الماضي وما كان به من أمم، وما جرى عليها من أحوال، وإعطاء معلومات دقيقة حول ذلك، فهذا لا سبيل إليه إلا بالدراسة والتعلم. ومثال ذلك قصة أصحاب الكهف ضمن سورة الكهف والتي جاء ذكرها في الكتاب المقدس، فمع أن الأخير قال إنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية، فقد ورد في القرآن أنهم لبثوا في كهفهم {ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا}، وهذه السنوات التسع هي فرق مابين عدد السنين الشمسية والقمرية، وهو حساب لم يكن معروفا لدى العرب الأميين.
صحيح أن العلم بأسماء بعض الأنبياء والأمم الماضية وبمجمل ما جرى من حوادث التدمير في ديار عاد وثمود وطوفان نوح وأشباه ذلك وصل منه شيء قليل إلى العرب الأميين؛ لأن مثل هذه الأخبار مما توارثته الأجيال، وإنما النقطة المهمة فتتمثل في التفاصيل الدقيقة، التي ينبغي ألا تتوفر إلا في بطون الكتب والتي لا يعرفها إلا القليل من الدراسين، لكننا وجدنا ذلك واضحاً في القرآن.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رجلا أميا في أمة أمية، يشغله ما يشغلهم من المجالس وطلب الرزق في الأسواق أو المهن المتنوعة، وله زوجة وأبناء يعيلهم، ولا صلة له بالعلم والعلماء؛ وكان خصومه يعلمون أنه عاش هذا الحال أكثر من أربعين سنة من عمره، ثم بين عشية وضحاها جاء بما لا معرفة له به في حياته السابقة، وأخبر عن أخبار القرون الأولى،لا شك أن العقل المجرد يدرك أن لهذا التطور في المعرفة سر خارج عن حدود النفس وعن دائرة المعلومات القديمة، وهو الوحي.
النقطة الخامسة: أنباء المستقبل لا سبيل فيها لليقين إلا بالوحي الصادق
في الحديث عن الغيب والمستقبل يكون الإنسان أمام ثلاث احتمالات:
1- أن لا يخوض فيه لأنه لا سبيل لمعرفته.
2- أن يتوقع أمورا مستقبلية من خلال مقدمات علمية أو علامات ظنية، وقد يوافق المستقبل توقعاتهم دون يقين.
3- أن لا يمتلك المقدمات العلمية أو العلامات الظنية لكنه يجزم بصحة تنبؤاته، فهذا أحد رجلين: فإما أن يكون مجازفاً كالعرافين والمنجمين، أو نبياً يستمد معرفته من الوحي.
وبالمقارنة بين ادعاءات المنجمين ونبوءات محمد صلى الله عليه وسلم يبدو الفرق واضحا، فالادعاءات تأتي غالبا مبطنة بالرموز والعبارات المبهمة التي تحتمل التأويل، بينما ذكر النبي أحداثا واضحة ستقع في حياته أو بعد مماته على فترات متفاوتة، وقد تحقق الكثير منها، وما زال الباقي ينتظر التحقق كما وعد في آخر الزمان. ومن أمثلة ذلك:
المثال الأول: تأكيد الوحي حفظ القرآن دون الكتب السماوية الأخرى التي ضاعت وحرفت {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:10]، بالرغم من المحن التي واجهت النبي أثناء نزول هذه الآية وبعدها، وبالرغم مما تعرضت له دول الإسلام على مر القرون، من تسلط الكثير من الجيوش وحدوث المجازر الجماعية وإحراق الكتب وهدم المساجد، فإن القرآن ما زال محفوظا بكل كلماته وحروفه دون تبديل.
المثال الثاني: كان النبي عرضة للكثير من محاولات القتل، وكان من أصحابه من يحرسه ليتمكن من تبليغ دعوته، حتى نزل {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فقال لحراسه في تلك الليلة “يأيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله”.
إن ضمان السلامة من الأمور التي لا يمكن أن يملكها أحد لنفسه، لا سيما إن كان محاطاً بالكثير من المحاربين له، فما هذه الثقة التي تدعوه لإعفاء حراسه من مهمتهم، لقد كان بإمكان أي رجل من أعدائه أن يسارع إلى قتله فور نزول هذه الآية ليثبت أنها ليست وعداً إلهيا بحمايته، لكن هذه النبوءة تحققت فعلا، وبالرغم من الحروب الكثيرة التي خاضها، إلا أنه لم يمت حتى بلّغ الرسالة كما وعده الوحي، وحتى نزلت عليه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
المثال الثالث: قضية تحدي الناس على الإتيان بمثل القرآن {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، حيث نفى إمكان ذلك بشكل مؤكد، بل ومؤبد، وهذا حكم خطير، خصوصاً أنه بذلك استفز قدراتهم البيانية، ودعاهم للتكاتف بحيث يعين بعضهم بعضاً في التأليف والتهذيب حتى يخرجوا كلامًا منافسا، ولم يكتف بذلك بل أعلن أن هذا التحدي عام يشمل الأجيال القادمة، ومن الإنس والجن.
المثال الرابع: نبوءة انتصار الروم على الفرس رغم مخالفتها للتوقعات وللتحليل السياسي في وقت نزول الآيات من سورة الروم: {ألم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}، ذلك أن دولة الروم في تلك الفترة بلغت من الضعف درجة أنها غُزيت في عقر دارها وهزمت بمعركة أنطاكية سنة 613م، ولم يكن أحد يظن أنها ستقوم لها بعد ذلك قائمة، فكيف بمن يحدد وقت انتصارها ببضع سنين فقط؛ ولذلك تراهن المشركون على تكذيب النبوءة، ثم فوجئوا بتحقق الوعد وانتصار الروم على الفرس في معركة كابادوكيا سنة 622م، أي خلال تسع سنين.
كما أن هذه الآية لم تحدد عدد السنوات واكتفت بلفظ بضع أي بين الثلاث والتسع سنوات، وعلة ذلك اختلاف الناس في حساباتهم، فالحساب الشمسي غير الحساب القمري، لذلك عبر بلفظ “في بضع”.
المعركة بين الفرس والروم بريشة پييرو فرانشيسكا في منتصف القرن الخامس عشر
وإضافة لما سبق، فإن صاحب الرسالة لم يكن يدعي لنفسه معرفة بالغيبيات، بل كان يؤكد على بشريته كقوله: “إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له على نحو ما أسمع…” [رواه البخاري]، أي أنه يحكم بناء على المعطيات التي بين يديه ما لم يأته وحي إلهي، ومن كان بهذا الحال فكيف يزعم لنفسه القدرة على التنبؤ بالمستقبل من عند نفسه، وهو أمر لا نجده في سيَر الدجالين والسحرة ممن يجدون في التواضع علامة نقص، فيخوضون في ادعاءات تتجاوز قدراتهم.
إن الفراسة والذكاء في مواضيع الغيب لا تفيد، والمرء في كلامه عنهما يتخبط، إن أصاب الحق مرة أخطأ مرات، لكن نبوءات النبي لم تخطئ مرة واحدة، مما يدلل على أنه تلقاها بالوحي الإلهي.
النقطة السادسة: هل نسبة القرآن للوحي تحصن كلام صاحب الرسالة؟ وهذا السؤال يفترض أن محمداً رأى أن ينسب القرآن للوحي الإلهي، ليُكسبه مكانة عظيمة عند الناس، فيتبعونها أكثر ما لو نسبه إلى نفسه، والحقيقة أن هذه الفرضية باطلة من وجهين:
الوجه الأول: إن صاحب القرآن صدر عنه كلام منسوب إلى نفسه (الحديث)، وكلام منسوب إلى ربه (القرآن)؛ ومع ذلك فطاعة أحدهما من طاعة الآخر، ومعصية أحدهما من معصية الآخر.
الوجه الثاني: هذه الفرضية تعني اللجوء إلى الكذب لغاية الإصلاح، وهذا سلوك منحط لم يعهد عنه في سيرته التي تؤكد أنه أبعد الناس عن ذلك.
النقطة السابعة: الإقرار سيد الأدلة
النصوص القرآنية تبين أن هذا القرآن ليس من عمل صاحب الرسالة، وإنما نقل بواسطة جبريل الذي تلقاه من ربه، ثم نزله بلسان عربي مبين فتلقنه محمد منه كما يتلقن التلميذ عن أستاذه، ولو وجدت هذه القضية قاضياً عادلاً –كما يرى الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه النبأ العظيم- لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، لأنها من نوع “الإقرار” الذي يؤخذ به صاحبه، لا سيما أنه لا مصلحة لعاقل يدعي لنفسه حق الزعامة ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة، ثم ينسب بضاعته لغيره، ويتبرأ من نسبتها إليه؟ على حين أنه كان يستطيع أن ينسبها لنفسه فيزداد بها رفعة.
دير بحيرا الراهب في بصرى الشام
النقطة الثامنة: أمية محمد من المعلوم أن النبي عاش حياته وهو لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وحاله هذا يشبه حال أكثر العرب في زمانه، فهم أمة أمية تحفظ الشعر، لكنها لم تكن من الأمم المنتعشة علمياً بحال، ويسجل التاريخ أن أقصى من التقى بهم محمد صلى الله عليه وسلم ممن لهم شيء من العلم في طفولته بحيرا الراهب في سوق بُصرَى بالشام، وكذلك لقي في مكة بورقة بن نوفل بعيد نزول الوحي لأول مرة، وقبل إعلان نبوته بثلاثين شهرًا، والتقى بعد نبوته كثيراً من علماء اليهود والنصارى في المدينة، إلا أنه لم يتلقَّ عن أحد منهم، وقد صحبه الشهود في لقاءاته، فكان عمه أبو طالب معه حين رأى راهب الشام، وكانت زوجته خديجة رفيقة له حين لقي ورقة، ولم يزد الرجلان غير أنهم رأوا فيه سيما النبوة، وأما الذين لقوه بعد النبوة فقد سمع منهم وسمعوا منه، وكان هو معلمًا لهم مصححاً لأخطائهم ومنذراً ومبشراً.
النقطة التاسعة: علاقة محمد بعلماء الدين في زمنه
صوَّر القرآن عقيدة علماء الدين في زمنه، فعاب عليهم التلاعب بالعقائد وتحريف كلام الله، فلو تعلم محمد منهم شيئاً لتبنى وجهة نظر معلميه بدلا من نقدهم، بل إن القرآن تقدم على ذلك بخطوات وصحح لهم أغلاطهم وتوعدهم بالعذاب، ومن ذلك:
وبهذه الآيات يبدو واضحاً أن علاقة محمد بعلماء الأديان الأخرى، لم تكن علاقة التلميذ الذي يحفظ منهم، بل كانت علاقة الأستاذ الذي يصحح لهم ما حرَّفوا، ويكشف ما كتموا.
ظاهرة الوحي وتحليل عوارضها
روى لنا الصحابة في أحاديث عديدة الحالة التي كانت تعتري النبي أمامهم عندما كان ينزل عليه القرآن فجأة دون معرفة مسبقة منه ولا استعداد، فكان يحمر وجهه فجأة وتصيبه شدة حتى يتصبب جبينه عرقًا، ويثقل جسمه حتى يكاد يرُضُّ فخذه فخذ الجالس إلى جانبه، ولو كان راكبًا لبركت به راحلته، وكانوا مع ذلك يسمعون عند وجهه أصواتًا مختلطة تشبه دويَّ النحل، ثم تذهب عنه تلك الشدة فإذا هو يتلو قرآنًا جديدًا محدثًا.
ويرى الدكتور دراز أن الباحث عن مصدرية القرآن سيجد هذا أقرب مكان يتأمله، فعندما نقارن ما كان يصيب النبي أثناء نزول الوحي مع عارض السبات الطبيعي الذي يعتري المرء في وقت حاجته إلى النوم؛ نجد أنها حالة تختلف عن التدريج الذي يعرض لمن يغالبه النعاس، فقد كانت تأتيه قائمًا أو قاعدًا، وسائرًا أو راكبًا، وفي أثناء حديثه مع أصحابه أو أعدائه، وكانت تأتيه فجأة وتزول عنه فجأة، وتنقضي في لحظات يسيرة، وتصاحبها أصوات غريبة لا تسمع منه ولا من غيره عند النوم.
وحالة الوحي هذه تناقض كذلك الأعراض المرضية والنوبات العصبية التي تصفرُّ فيها الوجوه، وتبرد الأطراف، وتتكشف العورات، بل كانت مبعث نمو في قوة البدن، وإشراق في اللون، وارتفاع في درجة الحرارة، ثم يصدر عنها من العلم ما تخضع العقول لحكمته.
فلو كان القرآن من قول محمد لقاله في حال يقظته، لا في تلك اللحظات التي تغشاه سحابة رقيقة قد تشبه الإغماء. فلا بد أن يكون وراء هذه السحابة مصدر يزوده بالعلوم.
ولعل قائلاً يقول: إن ما أصاب محمداً هو اضطراب في أعصاب البصر خيل إليه أنه يرى شيئا غير حقيقي، أو لعله اضطراب عقلي جسّد له بعض الأوهام، وقد أوضحنا في مقال “مصادر المعرفة” أن المعرفة الحقيقية لا تُكتسب بالضرورة عبر الحواس فقط، وأثبتنا في مقال “وجود الله” أن الوجود لا يقتصر على الجانب المادي دون غيره، وقد كان مشركو قريش يشككون في نزول الملاك بالوحي على محمد مع أنهم لا ينكرون وجود الغيبيات أصلا، بل كانت ثقافتهم مليئة بقصص الجن والعفاريت وغيرها من الأساطير.
ولا يمكن القول أيضاً إن محمداً كان يتلقى القرآن من مصدر غيبي آخر غير الله، فالقرآن نفسه كان شديدا في تقريع إبليس وجنده من الشياطين، ولو كان القرآن من وسوسته لكان يأمر باتباع إبليس وليس بطرده ولعنه والتحذير منه، كما لا يصح القول إن محمداً كان يتصنع حالة الشدة التي يتعرض لها عند نزول الوحي كما يفعل الدجاجلة من المشعوذين والشامانات الذين يزعمون الاتصال بعوالم خفية، فمحمد كان صريحاً في محاربة هؤلاء، وكان صادقاً في تعامله مع الناس قبل البعثة وبعدها، حتى سمته قريش قبل نزول الوحي بالصادق الأمين [انظر مقال نبوة محمد].
إن الوحي قوة خارجية لا تتصل بنفس الرسول إلا على فترات متقطعة، وهي قوة أعلى من قوته لأنها تحدث في نفسه وبدنه آثاراً عظيمة لا يمكن لأحد أن يتصنعها حتى لو كان دجالاً، وهي أيضاً قوة خيّرة معصومة لا توحي إلا بالحق ولا تأمر إلا بالرشد، فلا يمكن لها أن تكون من مصدر بشري ولا جني.
كيف حُفِظَ القرآن؟
كان العرب قبل الإسلام، وفى صدر الإسلام من ذوي المَلكات في الحفظ، ومن يعرف الكتابة والقراءة فيهم قليل، فكانوا يحفظون عن ظهر قلب ما يريدون حفظه من منثور الكلام ومنظومه.
وقد ساعد نظم القرآن، بألفاظه ومعانيه وإيقاعه الصوتي على حفظه، لا سيما وأنه نزل مفرقًا خلال ثلاثة وعشرين سنة.
ولا شك أن حفظ القرآن في الصدور من الأمور الشائعة، فحتى في عصرنا الذي نعتمد فيه كثيرا على الذاكرة الإلكترونية قياسا إلى الذاكرة العقلية كما في عصور سابقة، حيث نجد في بلاد المسلمين الملايين من حفظة القرآن، وما زالت هناك مسابقات عالمية تثبت اهتمام المسلمين بحفظ القرآن وضبطه بدقة شديدة.
ولم يكن الحفظ مخصوصاً بالعرب دون غيرهم من المسلمين، فمئات الألوف ممن يحفظونه اليوم ليسوا من أهل العربية، بل ربما يحفظه من لا يكاد يعرف شيئاً عن لغة العرب ومعانيها، ومع ذلك يقرؤه بلسان عربي مبين كما يقرؤه العربي سواء بسواء، وهذا أمر يستحيل أن نراه في نصوص أخرى بأي لغة كانت.
وما دام الحال هكذا في القرن الحادي والعشرين، فإن التشكيك بحفظه في الصدور في قرون الإسلام الأولى تتبدد، فالحفظ كان العلاقة الأولى بين المسلمين وبين القرآن، وكان للحفظ وسيلة واحدة هي السماع، والسماع لم يكن عشوائياً بل كان يتبع منهجا لتكريس الحفظ، حيث تنوعت أساليب حفظ القرآن بين ختمه في صلوات الليل، وتقسيمه إلى أحزاب، وقراءة بعضهم على بعض، وفي ذلك أخبار وأحاديث موثقة في الكتب.
مصحف عُثر عليه في مكتبة جامعة برمنغهام الإنجليزية عام 2015 وهي تعود إلى عصر الصحابة
وبالتوازي مع عملية الحفظ كانت عملية التدوين قائمة، حيث كان من الصحابة كتَّاب للوحي، فكان إذا نزل الوحي دعاهم النبي فأملى على مسامعهم ما نزل فيكتبونه على الفور، وكانت هذه الكتابة مفرقة في الرقاع والورق، ولم تكن مرجعا للمسلمين في حال الخلاف، إذ كانوا يعودون إلى الرسول ليصحح لهم، واستمر الحال في الاعتماد على الحفظ حتى في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر.
وكان حفظ الصحابة للقرآن متفاوتا، فمنهم من كان يحفظ القدر اليسير، ومنهم من يحفظ الكثير، ومنهم من يحفظ القرآن كله. ومات في موقعة اليمامة في خلافة أبي بكر سبعون حافظًا ممن كانوا يسمون بـ”القُرَّاء”.
وعلى هذا؛ لم يُجمع القرآن في مصحف واحد في حياة النبي ولا في صدر خلافة أبي بكر، وكان حفظه في الصدور هو المتبع، رغم أنه كان مكتوباً في رقاع متفرقاً، وبإملاء من النبي صلى الله عليه وسلم، وظلت هذه الرقاع كما هي لم يطرأ عليها أي تغيير، ولما حدثت واقعة اليمامة اقترح عمر على أبي بكر أن يجمع القرآن المدون في مصحف واحد، وكان الجمع يتضمن تنسيق وثائق كل سورة مرتبة آياتها على نسق نزولها، والقصد منه أن يكون مرجعًا موثوقًا به عند اختلاف الحفاظ، فتم بذلك جمع كل الوثائق الخطية التي سجلها كتبة الوحي في حضرة النبيسماعا مباشرا منه.
وبعد وفاة أبي بكر تسلَّم عمر المصحف، وبعد وفاته ظل المصحف في حوزة ابنته حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي خلافة عثمان بن عفان حدثت مرحلة الجمع الثانية، وكان عثمان حافظًا للقرآن كله، فأوكل مهمة جمع المصحف إلى الأنصاري زيد بن ثابت وثلاثة من قريش، هم عبد الله بن الزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، على أن يرأس زيد الفريق لكونه حافظًا متقنًا بالسماع المباشر من فم رسول الله، وكان هو الذي جمع القرآن في المرة الأولى.
اشترط زيد أن تكون كل آية محفوظة حفظًا مطابقًا لما في المصحف عند رجلين من الصحابة على الأقل، وأن توجد في مصحف أبي بكر.
المصحف الذي أرسله عثمان إلى الكوفة ما زال معظمه محفوظا اليوم في طشقند (Wiggum)
وقد أجمع جميع أصحاب رسول الله على المصحف الذي اعتمده عثمان ولم يعارضه منهم أحد، حتى عبد الله بن مسعود الذي كان له مصحف خاص كتبه لنفسه، ثم تلقت الأمة هذا العمل الجليل بالقبول في جميع الأقطار والعصور ونسخت مصاحفها من هذا النص الموثق على أعين الصحابة، حيث أرسل الخليفة عثمان نسخة منه إلى كل قطر من أقطار الدولة، وأمر بحرق كل النسخ الأخرى خشية أن يكون في بعضها أي جملة تفسيرية على الهامش فيُعتقد في عصر لاحق أنها من النص نفسه.
المستشرقون والقرآن
الشبهات المثارة حول صحة القرآن قديمة قدم الإسلام، لكن بعض الشبه متهافتة ويمكن لأي مهتم أن يرجع لكتب علوم القرآن ويجد فيها الإجابات الشافية، لذلك فأننا سنستعرض أبرز الشبه المعاصرة التي أنتجتها جهود المستشرقين، الذين استعاروا بدورهم طريقة دراسة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ودرسوا الإسلام بذات الطريقة، فدرسوا “تاريخ القرآن” كما دُرِس “تاريخ الكتاب المقدس” وبالمنهج الذي تم تطويره في الغرب لنقد الكتاب المقدس، بالرغم من التباين بين حال الكتابين.
فعلى سبيل المثال، احتاج العهد القديم إلى مرور نحو ألف عام حتى استقر تأليفه وتدوينه، وظلت مضامين هذا العهد بدون كتابة وتنتقل شفهياً مئات السنين بعد وفاة موسى عليه السلام، حيث ينسبون إلى عزرا الكاتب (عزير) بداية التدوين، مع أنه جاء بعد موسى بحوالي 750 سنة، كما تحولت الكتابة في عصر تدوين التوراة من الخط الكنعاني إلى الخط العبري واستُخدمت الحروف الساكنة دون المتحركة، ما تسبب باختلافات في النطق، وذلك فضلا عما أدخله كتبة التوراة من التعديلات، حيث عملت أيدٍ كثيرة في المخطوط الواحد [انظر مقال اليهودية]، بينما اكتمل نزول القرآن وتدوينه في حياة صاحبه، وهو استثناء على كل القواعد، وحظي بفرصة غير مسبوقة في الحفظ بالصدور، فضلا عن المنهج الفريد في التحري أثناء الجمع والتدوين كما أوضحنا سابقا.
من جهة أخرى، عُنيت الموسوعات العالمية بدراسة القرآن، بدءا بمصدره، ومرورا بكيفية جمعه وقراءاته وأسلوبه وموضوعاته وترجماته، ومع أن هذه الموسوعات تحظى بقبول في دوائر الباحثين في الغرب والشرق، غير أنها تحفل بالكثير من الشبهات والأخطاء، ومن أشهرها دائرة المعارف الإسلامية-الطبعة الجديدة The Encyclopaedia of Islam- New Edition.
وتخرج مقالات دائرة المعارف الإسلامية عن كونها مجرد إشارات سريعة تتيح للباحث تكوين رأي خاص في الموضوع، بل تتضمن هذه المقالات الكثير من التقرير والحسم، فعلى سبيل المثال تتضمن الطبعة الثانية من الموسوعة مادة ضخمة باسم “القرآن”، وقد حشد فيها الكاتب A.T.Welch آراء كبار المستشرقين في كل جزئية، ما يدفع الباحث المبتدئ وغير المتخصص -ولا سيما غير المسلم- إلى تبني تلك الآراء التي سار أصحابها في دراستهم للقرآن على نفس قواعد نقد الكتاب المقدس.
مناهج نقد الكتاب المقدس
1- النقد الأعلى: حيث يُفرض على الناقد فيه اعتماد قاعدة الشك المنهجي، فلا يجزم بشيء يتعلق بالراوي إلا بعد التثبت من ذلك، حيث يتحقق الباحث من سيرته وأخلاقه وغايته، ثم يتحقق من زمن كتابة كتابه ولمن كتبه، ويدرس البيئة السياسية والاجتماعية والأحداث التاريخية والصراعات العقدية ومدى انعكاسها على الكاتب ونصه، ويبحث في كيفية جمع النص والأيدي التي تناولته والنسخ التي اشتمل عليها.
2- النقد الأدنى: وهو يشبه النقد الداخلي في مناهج الدراسة الأدبية، ويشترط فيه إتقان لغة “الكتاب المقدس” (العبرية) لفهم المعنى المقصود دون تدخل من المترجمين، ثم يعمل الباحث على تحليل النص إلى أجزاء وإدراك كل جزء على حدة، ويفرز العبارات الواضحة من المبهمة مع تطبيق قاعدة الحقيقة والمجاز اللفظي لا المعنوي، كما يحلل النص تحليلا داخليا دقيقا للعثور على الأخطاء والاختلافات والتناقضات، كالأخطاء الطبيعية والرياضية، أو اختلاف زمان ومكان الأحداث التاريخية، أو إثبات شيء في موضع ونفيه في موضع آخر، أو ذكر قاعدة شرعية في موضع ونفيها في موضع آخر، أو ورود لفظ لا يمكن أن يكون قد استعمل بهذه الدلالة إلا في عصور لاحقة، أو تباين الأسلوب الأدبي بين أجزاء النص.
وقد بدأ المستشرقون بتطبيق قواعد النقد الأعلى والأدنى على القرآن الكريم في شأن ترتيبه حسب النزول، فبحث المستشرق الألماني تيودور نولدكه النص القرآني لترتيبه زمانيًّا حسب نزوله، وقسم السور المكية إلى ثلاث فترات يتميز أسلوب النص القرآني في كل منها عن الآخر، كما يزعم.
ولا شك أن نولدكه كان متأثرا بمنهج نقد “الكتاب المقدس”، والذي كتبت أسفاره على مدى قرون، فيعلّق الدكتور عبد الرحمن بدوي على نولدكه بالقول إن “كل الفترة المكية لا تزيد عن 12 سنة، فبأي حق ندعي إذًا التمييز بين أسلوب كاتب خلال 12 سنة فقط؟ ناهيك عن استطاعتنا التمييز في تلك الفترة بين ثلاث فترات قصيرة”. [عبد الرحمن بدوي. دفاع عن القرآن، ص 107-108]
آربري
وقد أدرك عدد من كبار المستشرقين عدم جدوى تطبيق هذه القواعد على النص القرآني، ومنهم الإنجليزي آرثر جي آربري الذي يقول إن “عملًا خالدًا كالقرآن لا يمكن أن يفهم بصورة أحسن لو أخضعناه لتجربة النقد الأدنى… إن منطق الوحي ليس منطقًا مدرسيًّا، فليس هناك قبل وبعد في رسالة النبي، وعندما تكون هذه الرسالة صادقة فإن الحقيقة الدائمة لا يمكن أن تُحصر داخل إطار زمني أو مكاني” [من مقدمة أربري لترجمة القرآن الإنجليزية، انظر: أحمد سمايلوفيتش، فلسفة الاستشراق، ص 173- 174]، كما يقول السويدي تور أندريه صاحب كتاب “محمد: حياته وعقيدته” إن جوهر النبوة لا يمكن تحليله إلى مجموعة من آلاف العناصر الجزئية.[ التهامي نقرة: القرآن والمستشرقون، ج1 ص 21-57].
وبالرغم من هذا النقد، لم يعترف آربري وأندريه بأن تطبيق هذا المنهج على القرآن الكريم فاسد، لأنهم يدرسونه باعتباره نصًّا من تأليف محمد أصلا، فمناهج النقد قد تصلح لدراسة العهدين القديم والجديد وبقية النصوص البشرية، لكن معاييره لا يمكن أن تطبق على نص لا يخضع للحدود البشرية. ومن المعروف أن المنهج العلمي يتطلب من الباحث ألا يدخل على الموضوع بفكرة سابقة، بينما ينطلق جميع المستشرقين من منطلق الحكم على القرآن بأنه نص بشري.
ذكر العديد من المستشرقين في مؤلفاتهم أنهم كانوا يجدون في قراءة القرآن تجربة روحية غير مسبوقة، وذلك بالرغم من عدم اعتناقهم للإسلام وعدم إيمانهم بأن القرآن وحي منزل من الله.
ونذكر منهم البريطاني المتقن للغة العربية آرثر جي آربري الذي كان يقول إنه حينما يستمع إلى القرآن يتلى بالعربية فإنه يشعر بأنه يستمع إلى نبضات قلبه.
كما يقول “فريدرك ديني” إنه يشعر بتجربة عجيبة غير طبيعية عندما يقرأ القرآن، واصفا تلك التجربة بأنها “حضور شيء غامض وأحيانا مرعب”، ويضيف أنه بدلا من قراءته هو للقرآن فإنه يشعر وكأن القرآن هو الذي يقرؤه.
[جيفري لانغ، حتى الملائكة تسأل، دار الفكر، ص 206].
ويتضح لمن يطلع على نتائج أبحاث المستشرقين أن عدم إلمامهم باللغة وبلاغتها كان حائلا رئيسا أمام قدرتهم على استيعاب إعجاز لغة القرآن، فالقرآن الذي كان على مدى قرون مقياسا العربية، حتى لدى غير المسلمين من العرب، لا يمكن أن يُكتفى في البحث فيه بمعايير النقد التي يطبقها باحث أجنبي.
نتائج التحيز وبما أن المستشرقين قد بدأوا أبحاثهم منطلقين من نفي المصدر الإلهي للقرآن، فقد نتجت عن ذلك عدة نتائج غير موضوعية، وأهمها:
1- الشك في الراوي نفسه، أي أن الرسول محمد الذي يؤكد أن القرآن وحي، لا بد أن يكون كاذبا، وهذا يستلزم المضي قدما في تصديق الاتهامات وتضخيمها، وصولا إلى اختلاق الأكاذيب حول سيرته وأخلاقه وغايته.
2- حصر النص القرآني قسرا في حدود التصورات البشرية، فما يخرج فيه عن دائرة قدرة العقل والحواس يؤول فورا على أنه أسطورة، ويُحكم بذلك على القرآن بمعايير الفلسفة المادية التي تستثني كل الغيبيات من الوجود.
3- تضخيم أثر البيئة ومحاولة البحث عن أي مؤثرات يهودية ونصرانية ووثنية محتملة في النص القرآني، وقد يلجأ الباحث في سبيل ذلك إلى تجاوزات ومبالغات، كما يحكم مسبقا على أي تشابه بين القرآن وما سبقه من الكتب بأن المتأخر قد نقل عن المتقدم، لأنه جزم مسبقا بأن القرآن لم يأخذ من المصدر نفسه وهو الوحي.
4- الطعن في قيمة الروايات التاريخية القرآنية، فمع أن الباحث لا يشكك في أي رواية يجدها في لوح طيني أو مخطوط أثري، ويعتبرها مصدرا تاريخيا موثوقا، إلا أنه يحكم مسبقا على روايات القرآن وقصصه بأنها موضع شك، فإذا لم يجد لها أصلا في الكتاب المقدس شكك في وجودها، مثل قصص عاد وثمود، حيث شك بعضهم في وجود هذين القومين، بينما عدّها آخرون من الأساطير الشعبية التي كانت رائجة في البيئة العربية قبل النبوة، ولا دليل لهم على هذا الفرض.
5- ربط آيات القرآن بظروف البيئة والعصر الذي نزلت فيه، وتجاهل ما أجمعت عليه الأمة الإسلامية من كونها أحكامًا نهائية مطلقة خارجة عن إطار الزمان والمكان.
6- تطبيق مفاهيم غربية غير ملزمة في النقد الأدبي، كاشتراط “وحدة الموضوع” في كل سورة وضرورة أن يكون لكل سورة موضوعًا واحدًا، ومن ثمّ دراسة البناء الداخلي لكل سورة بمعزل عن غيرها، وهو شرط تحكمي غير موضوعي اضطر بعض المستشرقين للاعتراف بعدم جدواه، وقد أقر كاتب مقال القرآن بدائرة المعارف الإسلامية (سبق ذكره) بأن طبيعة القرآن وترتيبه تجعل من الصعب تصنيف صيغه الأدبية أو تنظيم موضوعاته الرئيسة وفق النماذج الأدبية المعيارية. علما بأن “وحدة الموضوع” تختلف جذريا عن مسألة “النظم القرآني” وترتيب الآيات ترتيبًا توقيفيًّا (أي أمر به الوحي)، فهذا الترتيب يعد من أبرز دلائل الإعجاز القرآني.
7- التشكيك في أي توافق يحدث بين النص القرآني وما يثبته العلم المادي الحديث، أو مما يُكتشف حديثا من الوقائع التاريخية التي كانت أخبارها مدفونة في ألواح ومخطوطات غير مُكتشفة بعد.
وكان من أبرز أمثلة النقد الاستشراقي للقرآن التشكيك بأصالة ألفاظ القرآن، وهي من الشُبه التي لاقت رواجاً، وانتشرت مؤخراً بين بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي، فبالعودة لمادة “القرآن” التي أشرنا لها من قبل والمنشورة في موسوعة دائرة المعارف الإسلامية، نجد أنهم بدأوا في:
أصل كلمة القرآن ومرادفاتها، حيث يعرض الكاتب لكلمة “القرآن” والتي ترددت في القرآن نفسه -كما يشير الكاتب- أكثر من سبعين مرة بمعان مختلفة. ويقول: إن المستشرقين قبلوا النظرية التي قال بها شفالي في كتابه “تاريخ القرآن” أن “القرآن” قد اشتق من كلمة “قرياءنا” السريانية، ومعناها القراءة المقدسة. أما النظرة الغالبة لدى الدوائر الإسلامية فهي أن الكلمة اسم من قرأ. ثم يقول “ولعل أنسب النتائج وأقربها قبولًا هي أن مصطلح القرآن قد أصّل في القرآن نفسه لكي يمثّل كلمة قيريانا السريانية، ولكنه أسس على مصدر عربي بصيغة فعلان من قرأ”.
وهكذا حاد كاتب المقال عن الحقيقة بعد أن تبينت له، فالكلمة العربية اشتقت من القراءة، كما أن أول سورة من القرآن -حسب الترتيب الزماني للسور والذي أعده المستشرقون أنفسهم- تبدأ بكلمة اقْرَأ، فعل أمر من قرأ، وهي نفس المادة العربية التي اشتقت منها كلمة القرآن.
ويضيف كاتب المقال قائلًا: “ولا يمكن لمعنى كلمة القرآن ومصدر الكتاب المقدس للمسلمين أن يتضحا تمامًا دون أن نضع في الاعتبار استخدام عدد آخر من المصطلحات الوثيقة الصلة بالموضوع”، زاعماً أن معنى لفظ “آية” مطابق للكلمة الشبيهة في العبرية “أوث”، والسريانية “آثا”، وبالطريقة نفسها يعتبر أن كلمة “سورة” مشتقة من “صورطا” أو “سورثا” السريانية، ومعناها الكتاب المقدس، ويواصل هذه الافتراضات في كلمات أخرى كثيرة.
وإذا تأملنا النتائج التي توصل إليها المستشرقون في هذا البحث نجد أنها لم تأت بجديد، فهي أقرت بما أعلنه المسلمون من أن ألفاظ: قرآن، آية، سورة، كتاب إنما تمثل وحدات من التنزيل، وأن الكتاب يعني كتاب الله.. إلخ، ومن ثم لا يشتمل هذا المبحث إلا على ما أثاره بعض المستشرقين من شبهات حول اشتقاق بعض ألفاظ القرآن الكريم وردها إلى أصول عبرية أو سريانية، واستدراج للقارئ لإقناعه بأن القرآن من اختراع محمد وتأليفه، وأنه قد تعلم هذه الألفاظ من اليهود والنصارى.
ويناقش الدكتور عبد الرحمن بدوي هذه المزاعم بقوله “ولكي نفترض صحة هذا الزعم فلا بد أن محمدًا كان يعرف العبرية والسريانية واليونانية، ولا بد أنه كان لديه مكتبة عظيمة اشتملت على كل الأدب التلمودي والأناجيل المسيحية ومختلف كتب الصلوات وقرارات المجامع الكنسية وكذلك بعض أعمال الآباء اليونانيين وكتب مختلف الكنائس”.
على أن اللغات العربية والعبرية والسريانية تنتمي إلى سلالة لغوية واحدة هي سلالة اللغات السامية، ولا بد من أجل ذلك أن يكون بينها الكثير من التشابه والتماثل، ومن ثم فإن القول بأن إحدى اللغات استعارت ألفاظًا بعينها من أخواتها هو تعسف لم يقم عليه دليل.
ويمكن أن تكون هذه الألفاظ قد وجدت في العربية قبل زمن النبي بوقت طويل واستقرت في اللغة العربية حتى أصبحت جزءًا منها وصارت من مفرداتها التي يروج استخدامها بين العرب، كما أن من المستحيل الآن بسبب غموض تاريخ اللغات السامية أن نحدد من اقتبس هذه الألفاظ المشتركة من الآخر.
القرآن والبيان كان العرب قوم تعجبهم العبارة البليغة، ويرون المثل الأعلى للنبوغ في قصيدة جيدة، أو كلمة حكيمة، وقد أرادوا إبراز آثارهم التي تكشف عن نواحي العظمة فيهم، فكانت المعلقات السبع، لذلك تعد صناعة الكلام لديهم من أرقى الصناعات التي تنتجها الأمم، وتقام لها المعارض، ويدعى لها الزائرين، ولقد كانوا مولعين بالأدب درجة تثير العجب، فيذكر عن الصحابي ابن عباس، إنه استمع إلى الشاعر الماجن عمر بن أبي ربيعة في قصيدة غزل له تربو على السبعين بيتاً وحفظها، فقيل له: أوقد حفظتها؟! فأجاب: أومنكم يسمع شيئا ولا يحفظه؟!
وروي عن التابعي سعيد بن المسيب أنه فاضل بين شاعرين وتلا أبياتا يحتج فيها لرأيه في ترجيح أحدهما، فلما انقضى الكلام استغفر الله مائة مرة، حيث غلبته فطرة العرب فصنع ما صنع، وهو لم يرتكب إثماً، وإنما رأى أنه شغل نفسه بغير ما يُنتظر من مثله، ونستنتج من ذلك أن حالة ولع العرب أيام الرسالة بالآداب العليا، وحفظهم لها، وتنويههم بأصحابها.
وقد مثَّل لهم القرآن المعجزة الأدبية الخالدة في لسان العرب، فما إن ظهر حتى بهر، وقد استمع له البلغاء فنفذت بلاغته إلى شغاف قلوبهم، فتلقوه مسحورين، يستوي في ذلك المؤمنون والكافرون منهم، فمنهم من يُسحر فيؤمن، ومنهم من يُسحر فيهرب ويكابر، ثم يصف هؤلاء وهؤلاء عما مسهم منه، فإذا هو حديث لا يعطيك أكثر من صورة المبهور، الذي لا يعلم موضع السحر فيما يسمع من هذا النظم العجيب.
فهذا عمر بن الخطاب يقول في رواية: “فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام”، وهذا الوليد بن المغيرة يقول وهو كافر بمحمد وبالقرآن: “والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه يعلو وما يعلى”.
ولعل قائلاً يقول: إنني لا أدرك بيان القرآن، ولا أستطيع الإتيان ببيان مثله –لأن لغتي ضعيفة- لكن في الناس من هم متخصصون، وقد يستطيعون الإتيان ببيان مثله، أو أنهم لا يرون جودة بيانه. والرد بالرجوع إلى أفصح أدباء العصر، وسؤالهم إن كان بالإمكان الإتيان بمثل بيان القرآن، فإن ادعوا قدرتهم على الإتيان بمثله، فليأتوا به حقاً، وإن عجزوا، فأي شهادة أدل على هذا الإعجاز؟ لقد سجل التاريخ هذا العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن، وهم الذين عاشوا في أزهى عصور البيان العربي.
كما أن الدعوة لهؤلاء قائمة بالرجوع إلى التاريخ والنظر في القرون الطويلة التي أعقبت نزول القرآن، والنظر إن كان بها من استطاع الإتيان بمثل بيان القرآن، غير بضعة أشخاص حاولوا فصارت محاولاتهم أضحوكة للناس.
موريس بوكاي
القرآن والعلم
في عام 1976، أخرج الطبيب الفرنسي موريس بوكاي نتائج دراسته التي استمرت لعقود في كتاب بعنوان “التوراة والإنجيل والقرآن والعلم”، حيث درس معالجة الكتب المقدسة في الأديان الثلاثة للمواضيع العلمية، ولا سيما فيما يتعلق بعلوم الفلك والجيولوجيا والأحياء والكون (كوزمولوجي) وغيرها، وبما أنه لم يكن مسلما ولا عربيا فقد بدأت علاقتة بالقرآن دون أدنى تعاطف مسبق، فيقول: كنت أعرف قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، ولكن معرفتي كانت وجيزة، وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن الكريم لا يحتوى على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث.
وبنفس الموضوعية، فحص المؤلف نصوص العهد القديم والأناجيل. حيث لم يجد حاجة للذهاب إلى أبعد من السفر الأول في العهد القديم، أي سفر التكوين، والذي يتضمن مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخا في عصرنا، فعلى سبيل المثال كان العلماء يعلمون في عصر المؤلف أن أقدم آثار أعمال بشرية يعود تاريخها إلى ما قبل 12 ألف سنة، ثم اكتُشفت آثار أقدم من ذلك بعد عصره، وعليه فإننا لا نستطيع علمياً قبول صحة نص سفر التكوين الذى يعطى أنساباً وتواريخ تحدد بداية الإنسان بسبعة وثلاثين قرناً فقط قبل المسيح [انظر مقال اليهودية].
ويقول أما بالنسبة للأناجيل فما نكاد نفتح الصفحة الأولى منها حتى نجد أنفسنا دفعة واحدة في مواجهة مشكلة خطيرة، وهي شجرة أنساب المسيح، فنص إنجيل متى يناقض بشكل جلي انجيل لوقا، والأخير يقدم لنا بصراحة أمرا لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض [انظر مقال المسيحية].
وينهي المؤلف عمله بهذه الخلاصة: “ولا يستطيع الإنسان تصور أن كثيراً من المقولات ذات السمة العلمية كانت من تأليف بشر بسبب حالة المعارف في عصر محمد. لذا فمن المشروع تماماً أن ينظر إلى القرآن على أنه تعبير الوحى من الله وأن تعطى له مكانة خاصة جداً، فصحته أمر لا يمكن الشك فيه”، وقد كان المؤلف وفياً للبحث الذي أنفق معظم عمره في خدمته، فاعتنق الإسلام -بحسب ترجيح بعض الباحثين- لما تبينت له صحة هذا الوحي.
أهم المراجع
محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم، دار القلم، الكويت.
أحمد سمايلوفيتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، 1980م.
محمد السعيد جمال الدين، الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم. مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الطبعة الأولى، 1421هـ.
محمد خليفة حسن، دراسة القرآن الكريم عند المستشرقين في ضوء علم نقد الكتاب المقدس.
عبد الرحمن بدوي، دفاع عن القرآن ضد منتقديه، ترجمة كمال جاد الله، الدار العالمية للكتب والنشر، 1998م.
موريس بوكاي، التوراة والإنجيل والقرآن والعلم. ترجمة حسن خالد، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1990م.
محمد الغزالي، نظرات في القرآن. نهضة مصر للطباعة، الطبعة السادسة، 2005م.
سيد قطب، التصوير الفني في القرآن. دار الشروق، الطبعة السابعة عشرة، 2004م.
التهامي نقرة، بحث “القرآن والمستشرقون” ضمن كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، الجزء الأول، مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1985م.
يقول كبار منظّري التشيع إن مذهبهم يعود في جذوره إلى آدم نفسه، وإنه ما من نبي إلا وعرض عليه الإيمان بولاية علي، حيث ينقل الكليني في كتابه “الكافي” عن أبي الحسن قوله “ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله رسولاً إلا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله، ووصية عليّ عليه السلام” [1/437]، وليس هناك أي نص قرآني يدعم هذه الدعوى.
ويقول بعضهم إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع بذرة التشيع، وذلك قبل وفاته وبدء الصراع بين معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب، فيقول القمي إن الشيعة كانوا معروفين في زمان النبي ويقولون بإمامته، ومنهم المقداد بن الأسود وسلمان الفارسي وأبو ذر وعمار بن ياسر. وهم أول من سُمّوا باسم التشيع من هذه الأمة [المقالات والفرق، ص15].
وقد وافق عدد من كبار أئمة الشيعة على هذا الرأي، ومنهم النوبختي في كتابه “فرق الشيعة”، لكن هذا الرأي لا يؤيده أي نص قرآني أو حديث نبوي، كما أنكر بعض من مشايخ الشيعة هذا الاعتقاد، فقال محمد حسين آل كاشف الغطاء إنه لم يكن للشيعة والتشيع وجود في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما [أصل الشيعة وأصولها، ص 48]، كما قال ابن المرتضى إن عمار بن ياسر كان عاملا لعمر بن الخطاب في الكوفة وإن سلمان الفارسي كان عاملا له أيضا في المدائن، فكيف يُعقل أن يكونا متمردين على خلافته؟
والأرجح أن إرهاصات التشيع بدأت في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك على يد عبد الله بن سبأ وجماعته، وهو يهودي من اليمن أظهر إسلامه بالمدينة المنورة في عهد عثمان، ثم خرج على الفور إلى العراق لينشر فكرة الغلو بعلي بن أبي طالب ويزعم أن ابن عم رسول الله يستطيع أن يعرف الغيب، فطرده عبد الله بن عامر، فتوجه إلى الشام وحرّض بعض الصحابة فيها على الثورة ضد الأغنياء، فأخرجه معاوية الذي كان واليا على الشام، ليتوجه إلى مصر ويبدأ بتوسيع خطته من هناك.
وكما حرّف اليهودي شاؤول (بولس) دين التوحيد الذي جاء به عيسى عليه السلام [انظر مقال المسيحية] عن طريق نشر أسطورة رفع عيسى إلى السماء وحلول الإله فيه، وذلك لتضليل أتباع المسيح بدلا من ملاحقتهم، فقد حاول اليهودي ابن سبأ أن يفعل الشيء نفسه بالإسلام بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ يقول في عهد عثمان إنه يعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ولا يصدق أن محمدا يرجع، واستدل بالآية الكريمة {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}، كما بدأ بنشر فكرة أن يكون لكل نبي وصيّا، داعيا إلى جعل علي بن أبي طالب ابن عم النبي وصيا له.
وكان نشاط ابن سبأ على الأرجح جزءا من مشروع لجمعية منظمة [انظر مقال الجمعيات السرية]، فكان معاونوه يُظهرون الإسلام في البصرة والكوفة وينشرون فكرتي الوصية والرجعة، حتى صدّقهم الكثير من العوام والأعراب والعبيد والموالي.
ويقول العديد من المؤرخين السنة إن علياً تصدى لابن سبأ وأنصاره الذين تكاثروا بسرعة، حتى أقنع الكثيرين منهم بالتراجع، فقرر السبئيون (كما يسميهم المؤرخون) أن يختصروا طريق الفتنة بقتل رأس الأمة، وبدأوا بإثارة الشبهات للطعن في عثمان وعدالته بحجج واهية، كما تفعل وسائل الإعلام الرسمية اليوم في الدول الدكتاتورية.
تحققت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الفتنة، وتسلق بعض المتمردين سور دار عثمان وقتلوه وهو يقرأ القرآن، لتبدأ بذلك سلسلة من الفتن التي ما زالت آثارها قائمة في يومنا هذا، حيث يُنسب إلى السبئيين أيضا دور في إشعال فتن أخرى مثل معركة الجمل وإفشال المفاوضات بين علي وطلحة والزبير ونشر فكرة تأليه علي.
ومع أن الصحابة والتابعين كانوا خير القرون في التاريخ، فقد نجح الشيطان وحزبه جزئيا في تفريقهم ودفعهم للاقتتال فيما بينهم، بينما ظل ابن سبأ حياً يرزق إلى ما بعد مقتل علي رضي الله عنه، ليمارس فتنة أكبر بادعائه أن علياً إله لا يموت بل رُفع وسيرجع لينصر أتباعه، وهي فكرة “الرجعة” نفسها التي كان يتحدث ابن سبأ عنها في حق النبي قبل ذلك. وهذا النجاح الجزئي ليس مؤشرا على فشل الإسلام نفسه، فالصحابة والتابعون بشر عاديون لم يتكفل الوحي بعصمتهم ولا بحفظهم، وكما تفرق أتباع الأنبياء السابقين ووقعوا في الشرَك الذي نصبه أعداؤهم فقد وقع كثير من الصحابة فيه أيضا، بينما تنبه آخرون وبذلوا كل جهدهم لرأب الصدع وقطع رؤوس الفتنة.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قومه بأنهم سيتفرقون ويُفتنون كما حدث لتلك الأمم فقال: لتتبعن سَنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه، فقال الصحابة: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟! [البخاري: 3269، ومسلم: 2669].
سلمان المرشد
نجح ابن سبأ نجاحا باهرا في زرع أسطورة الغيبة والرجعة في عقول الكثيرين، حتى أصبحت من أهم عقائد المذاهب الباطنية التي خرجت من تحت عباءة التشيع، فكان من السهل على الكهنوت استغلال هذه الأسطورة كلما توفي أحد الأئمة الكبار لإقناع العوام بأنه لم يمت، وأنه سيرجع ليملأ الأرض عدلاً في آخر الزمان.
فبعد موت علي رضي الله عنه، طُبقت الأسطورة نفسها في حق محمد بن الحنفية ومحمد بن الحسن العسكري وإسماعيل المبارك وابنه محمد والحاكم بأمر الله والطيب أبو القاسم، وفي العصر الحديث طبقها النصيريون (العلويون) في حق سلمان المرشد الذي ادعى الألوهية ثم قُتل شنقا، ويقال إن كثيرا من النصيريين اعتقدوا بها أيضا في حق الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد.
ويجدر بالذكر أن التشيع لعلي في البداية لم يكن أكثر من وجهة نظر في مسألة سياسية بشأن الخلافة، فغالبية الصحابة والتابعين رأوا أن علياً أحق بالخلاقة من معاوية لاجتماع كلمة الناس على بيعته، لكن السبئية كانوا قد استبقوا بيعة علي ببث الأفكار الباطنية بشأن الغيبة والرجعة لتمهيد الطريق أمام ربطها بفكرة الوصية، وعندما وقع الخلاف بين علي ومعاوية ألصق السبئيون أفكارهم العقائدية هذه بالخلاف السياسي، فتبعهم بذلك فئة من المتشيعين لعلي، وكان هؤلاء هم أوائل الشيعة الذين ابتدأ على أيديهم مذهب ديني له أصوله ومعتقداته وتأويلاته الخاصة للنصوص.
ابن سبأ.. حقيقة أم خيال؟ لم يشك قدماء المؤرخين المسلمين بوجود ابن سبأ وجماعته واستغلالهم للخلافات السياسية لبث أفكارهم العقائدية، ومع أن البعض يُشيع اليوم أن المؤرخ والمفسر ابن جرير الطبري (توفي عام 310هـ) كان أول من أبرز هذه الشخصية، إلا أن اسم ابن سبأ وجماعته (السبئية) ذُكرا في عشرات المراجع والأشعار التي ظهرت قبل الطبري، فتحدث عنه الفرزدق والشعبي وابن سعد والجوزجاني وابن قتيبة والبلاذري وغيرهم. أما في العصور اللاحقة فنجد ذكر ابن سبأ وعدّه على رأس الزنادقة لدى كبار الأئمة، أمثال الذهبي والسمعاني وابن تيمية وابن عساكر والشاطبي والمقريزي.
علاوة على ذلك، تكاد تجمع كتب منظري الشيعة الأوائل على وجود ابن سبأ، مثل مؤلفات القمّي والنوبختي والكشّي، حتى “أجمع القدماء على وجوده بلا استثناء” كما يقول الدكتور علي الصلابي [سيرة عثمان بن عفان، دار ابن كثير، ص 316].
وفي العصر الحديث، أقر غالبية المستشرقين بوجود ابن سبأ، أمثال يوليوس فلهاوزن وفان فولتن وليفي ديلافيدا وجولد تسيهر ورينولد نيكلسن، بينما شكك في وجوده البعض، أمثال كيتاني وبرنارد لويس وفريد لندر، وتبِعهم في ذلك الدكتور طه حسين والعديد من العلمانيين، ثم دعم هذا الطرح غالبية الشيعة المحدثين، لينفوا علاقة التشيع باليهودية، وزعموا أن سيف بن عمر التميمي اخترع تلك الشخصية، وأن الطبري نقلها عن مصادر غير موثوقة في القرن الثالث الهجري، مع أننا نجد روايات كثيرة عند ابن عساكر تذكر ابن سبأ من طرق أخرى ليسب فيها سيف بن عمر، وقد حكم الألباني على بعضها بأنها صحيحة. [سيرة عثمان بن عفان، ص 317].
وللأسف، أيد باحثون من السّنة هذا الرأي، انطلاقا من فكرة مفادها أنه لا يليق بالصحابة أن يُخدعوا من قبل شخص واحد يوقع بينهم كل تلك الفتنة. لكن الروايات التاريخية تدل على أن ابن سبأ كان قائدا لشبكة تخريبية متوزعة على أقطار عدة، كما أن نفي أثره ليس ضروريا لتنزيه الصحابة عن الخطأ، بل سؤدي هذا النفي بالمقابل إلى إثبات تورط الصحابة في اقتتال داخلي وفتن كبرى دون أثر خارجي من العدو، وهذا هروب من قبيح إلى أقبح.
يقول الدكتور علي الصلابي “إذا كان ابن سبأ لا يجوز التهويل من شأنه كما فعل بعض المغالين في تضخيم دوره في الفتنة، فإنه كذلك لا يجوز التشكيك فيه أو الاستهانة بالدور الذي لعبه في أحداث الفتنة كعامل من عواملها، على أنه أبرزها وأخطرها؛ إذ أن هناك أجواء للفتنة مهدت له، وعوامل أخرى ساعدته”. [سيرة عثمان بن عفان، 320].
كما اجتهد باحثون معاصرون من السنة والشيعة في الرد على دعوى نفي وجود ابن سبأ، ومنهم الصلابي ومحمد أمحزون وسليمان بن فهد العودة وعلي آل محسن.
أهم الأصول التي انفرد بها الشيعة 1- الإمامة أو الخلافة: تعد من أركان الإسلام، وهي تنص على أن الإمامة لعلي بن أبي طالب، وللأئمة الاثني عشر من ذريته، ولا يجوز للنبي أن يفارق الأمة دون تعيين الإمام من بعده لأنها لا تخضع للرأي والمشورة، وتعدّ الإمامة كالنبوّة من حيث العصمة من جميع الذّنوب منذ الولادة، ويجب أن ينص الإمام السابق على اللاحق بالعين لا بالوصف ولا الانتخاب.
2- العصمة: يرى الشيعة أن الله أعطى العصمة للأنبياء ثم للأئمة الاثني عشر من أهل البيت ليكونوا دليلا للمسلمين، بحيث لا يقع منهم خطأ ولا سهو، بل بالغ بعضهم وجعل مرتبة الإمام فوق الأنبياء والملائكة، وحاول إثبات ذلك بأدلة فلسفية بقوله: “فإن للإمام مقامًا محمودًا ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولاياتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون، وإن من ضروريا مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملَك مقرب ولا نبي مرسل، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول الأعظم (ص) والأئمة (ع) كانوا قبل هذا العالم أنوارًا فجعلهم الله بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله” [الحكومة الإسلامية، الخميني، ص 52].
3- القرآن الكريم: لا يعتقد كثير من الشيعة بحفظ القرآن الكريم من التحريف والزيادة والنقصان، ومن أهم المصادر في ذلك كتاب المحدّث النوري الطبرسي: “فصْل الخِطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب”، الذي يضم أكثر من ألفي رواية تنص على التحريف، إضافة إلى أقوال الكثير من فقهاء الشيعة المتقدمين والمتأخرين الذين أقروا بذلك. وفي المقابل، ينفي الكثير من علماء الشيعة التحريف، ويعتبرون أن النوري الطبرسي نفسه كان يثبت ذلك في كتابه، ويرى الشيخ الشيعي محمد الحسيني الشيرازي أن كتاب “فصل الخطاب” تعرض للتدليس والإضافات من قبل المستشرقين وأن اسمه الحقيقي هو “فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب”. [انظر مجلد “السنّة المطهّرة” من موسوعة “الفقه”. ص 165].
4- انتظار المهدي: وهو لدى الاثني عشرية محمد بن الحسن العسكري، ومن أسمائه الحجة والقائم، ويقولون إنه ولد سنة 255هـ واختفى في سرداب مدينة سُرَّ منْ رأى (سامراء)، وسيخرج في آخر الزمان وينتقم من أعدائهم، كما سيُخرج الصحابة من قبورهم ويعذبهم ويحرقهم، وأولهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
ويترقب الشيعة الفرس أن ينتقم المهدي لهم من العرب أيضا، فيقولون “عن أبي عبد الله أنه قال: إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلا السيف” [بحار الأنوار للمجلسي، 52/355].
5- تكفير معظم الصحابة: مع أن هناك خلافا بين طوائف الشيعة بشأن موقفهم من الصحابة، إلا أن الكثير منهم يكفّرون معظم الصحابة ويصفونهم بالردة، وخصوصاً أبا بكر وعمر وعثمان، ويستثنون عددا قليلا من الصحابة “المنتجبين”، وقد لا يزيد عددهم عن ثلاثة فقط –عند بعضهم- وهم المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي.
6- الطعن في زوجات النبي: يرى الشيعة أن السيدة عائشة زوجة النبي صلى اله عليه وسلم خالفت الشرع وخرجت على الإمام علي ولم تحقن دماء المسلمين، وبما أنها كانت ابنه أبي بكر أيضا فقد وضع بعضهم قصصا تتهمها بالتآمر على النبي وإيذائه، بل وممارسة الفاحشة، مع أن القرآن الكريم برّأها في سورة النور.
يقول محمد بن حسين الشيرازي القميّ “مما يدل على إمامة أئمتنا الاثني عشر أن عائشة كافرة مستحقة للنار” [الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين للقمي، ص 615].
7- التقية: تعد من أصول الدين ومن لوازم الاعتقاد، بل لا دين ولا إيمان لمن لا تقية له عند الكثير منهم، حيث يروون عن جعفر الصادق قوله “إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له”، وهذا الاعتقاد يجعل من مذهب الشيعة عقيدة سرية، فهو من المعتقدات النادرة التي تدعو أتباعها إلى إخفاء معتقداتهم وإظهار نقيضها دون ضرورة.
8- زواج المتعة: يخالف الشيعة عامة المسلمين بإباحتهم لزواج المتعة، وينسبون إلى أئمتهم روايات عن فضله وثوابه، وكأنه نوع من العبادة، ومنها: “روى صالح بن عقبة عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام، قال قلت له: للمتمتع ثواب؟ قال: إن كان يريد بذلك وجه الله تعالى وخلافاً على من أنكرها، لم يكلمها كلمة إلا كتب الله تعالى له بها حسنة، ولم يمد يده إليها إلا كتب الله له حسنة، فإذا دنا منها غفر الله تعالى له بذلك ذنباً، فإذا اغتسل غفر الله له بقدر ما مرّ من الماء على شعره، قلت: بعدد الشعر؟ قال: نعم بعدد الشعر” [من لا يحضره الفقيه، الصدوق، 3/302]. وهذا النوع من النكاح كان محل خلاف بين الصحابة، لكن الإجماع استقر في عصر التابعين على تحريمه، ولا يخالف في ذلك أحد من علماء السنّة بعدهم.
أهم الأصول التي يخالف فيها الشيعة السنة
1- الإمامة منزلة يؤتيها الله لرجل من آل بيت النبي وتنتقل بالتعيين.
2- الإمام معصوم وقد يكون أعلى منزلة من النبي.
3- القرآن ليس محفوظا.
4- الإمام الثاني عشر هو المهدي وسيعود ليحكم العالم.
5- معظم الصحابة مرتدون.
6- بعض زوجات النبي معرضات للطعن.
7- التقية مستحبة أو واجبة.
8- زواج المتعة مباح.
الإمامة والمهدوية تعد الإمامة بمثابة العمود الفقري للتشيع، ففي حين يعتبر المسلمون السنة مسألة الخلافة أمرا فقهيا يخضع للاجتهاد وظروف السياسة الشرعية، فإن الشيعة يجعلون من الإمامة ركنا أساسيا من العقيدة نفسها، وبذلك ربط الفقهاء المؤسسون عقيدة عوام الشيعة بمدى ولائهم للأئمة، كما كان يربط الكهنوت الوثنيون إيمان كل فرد من الشعب وخلاصه بمدى ولائه للملك الذي يقدم نفسه في صورة إله أو نصف إله.
وإذا كانت الخلافة لدى المسلمين السنة تخضع للمشورة، فإن الإمامة الشيعية لا رأي فيها للناس، بل هي حسب اعتقادهم حق منصوص عليه لسلالة آل البيت، ولا يتم إيمان الفرد إلا بالاعتقاد بحق كل إمام فيها، ما يقطع الطريق على محاولات التمرد قبل ظهورها.
والإمام طبقا للمفهوم الشيعي معصوم واجب الطاعة، وحقه بالإمامة منصوص عليه من الله على لسان النبي أو لسان الإمام الذي قبله، لذا تجب طاعته على جميع المسلمين في شؤون الدين والدنيا، وهو الوحيد الذي يحق له أن يفسر القرآن الكريم ويؤوّله، وقد جعله البعض في مرتبة أعلى من الأنبياء كما ذكرنا أعلاه نقلا عن الخميني.
مقام الإمام الرضا بمدينة مشهد الإيرانية
ويرى الشيعة الاثنا عشرية أن الأئمة هم على الترتيب التالي: علي بن أبي طالب، الحسن بن علي، الحسين بن علي، علي زين العابدين، محمد الباقر، جعفر الصادق، موسى الكاظم، علي الرضا، محمد الجواد، علي الهادي، الحسن العسكري، محمد المهدي.
وقد وقع الشقاق بعد موت العديد من الأئمة، فكانت تنشأ بعض الفرق التي تنكر موت الإمام وتظن أنه رُفع إلى السماء كما رفع عيسى عليه السلام، فزعم بعضهم على سبيل المثال أن الإمام السادس جعفر الصادق قال لهم “إن جاءكم من يخبركم عني أنه مرّضني وغسلني وكفنني ودفنني فلا تصدقوه، فإني صاحبكم، صاحب السيف”، فاعتقدوا أنه هو المهدي وأنه لم يمت، وسميت هذه الفرقة بالناووسية، نسبة لقائدهم الناووس.
لكن فريقا آخر رأى أن جعفر مات حقا وأوصى بالإمامة لابنه الأكبر إسماعيل المبارك، بينما رأى فريق ثالث أن الإمام هو موسى الكاظم الابن الثاني لجعفر، وذلك لثبوت موت إسماعيل في حياة أبيه، فتمسك الفريق الأول برأيه منكرا موت إسماعيل ونشأ عنه مذهب الإسماعيلية الذي تغلغلت فيه العقائد الباطنية وانتهى به الحال خارج الإسلام، حيث ما زال جزء من الإسماعيلية يؤمنون بأن إسماعيل حي لم يمت، بينما يؤمن جزء آخر بأن محمد بن إسماعيل هو الإمام والمهدي المنتظر. أما الفريق الذي يضم معظم شيعة اليوم فهو الذي آمن باستمرار الإمامة في سلالة موسى الكاظم، وسمي بالشيعة الاثني عشرية لأن الإمامة في عقيدتهم توقفت عند الإمام الثاني عشر.
وفي عام 260هـ توفي الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (نسبة إلى مدينة عسكر قرب بغداد) دون أن يترك ولدا خلفه كما يذكر المؤرخون السنة، فوجد الشيعة مخرجا للمأزق بالقول إن العسكري كان له ولد اسمه محمد، إلا أنه أخفى وجوده عن الناس خوفا عليه من العباسيين، وقالوا إن الطفل محمد دخل سردابا في سامرّاء، ولسبب غير مفهوم قالوا إنه ظل متخفيا هناك فيما يسمى بالغيبة الصغرى التي امتدت 72 عاما، ثم وجدوا حلا لغيبته بابتكار مفهوم السفراء الذين يقومون بمهمات الإمام الغائب ويقودون الشيعة، وقيل إن المهدي يتواصل مع سفرائه مباشرة ويوجه أوامره من خلالهم، فظهر أربعة سفراء هم عثمان بن سعيد العمري ومحمد بن عثمان العمري والحسين النوبختي وعلي السَّمَري.
وبوفاة السمري بدأت الغيبة الكبرى عام 329هـ، حيث قيل إن الإمام المهدي أرسل رسالة للناس يقول فيها إنه لن يكون هناك نائب عنه، وإنه سيغيب فترة غير محددة بانتظار الظروف المواتية لخروجه، وأوصى الناس بالعودة للفقهاء الحافظين والعلماء العارفين حتى يخرج إليهم في آخر الزمان.
وبحسب هذه الأسطورة فإن المهدي تسلم الإمامة وعمره خمس سنوات فقط، وهو ما زال حيا ويتصل بكبار الفقهاء، وقد تجاوز عمره الآن 1170 سنة.
وتزخر كتب أئمة الشيعة بقصص ونبوءات وصفات المهدي، وهي تشبه في الكثير من ملامحها وتفاصيلها الآثار الفارسية الزرادشتية التي تنبأت بقدوم المخلّص “سوشيانت المنتصر” في آخر الزمان، كما يشير بعضها إلى أنه يجمع في دمه أقدس سلالات الأنبياء والملوك، فهو ينحدر من سلالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه، أما أمه فهي بنت يشوعا بن قيصر ملك روما، وأمها من بنات حواريي المسيح وتُنسب إلى وصيه شمعون [بحار الأنوار للمجلسي، ج 51].
مسجد جمكران قرب قم الذي يعتقد الشيعة أنه بني بأمر المهدي
يطلق على الشيعة الإمامية أيضا مسمى الرافضة، حيث يقول العالم السنّي ابن تيمية إن الشيعة افترقوا إلى رافضة وزيدية في زمن خروج زيد بن علي زين العابدين، فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر ترحم عليهما، فرفضه بعضهم فسُمّوا بالرافضة، بينما سُمّي من لم يرفضه من الشيعة زيدياً لانتسابهم إليه، وهؤلاء ما زالوا على مذهبهم القريب من السنة في اليمن. أما الشيعة فيرفضون تلك القصة، ويعتبرون أن مصطلح الرافضة أطلق عليهم لأنهم رفضوا الباطل وتمسكوا بالحق.
مصادر المذهب بما أن التشيع نشأ في ظل الإسلام فإن فقهاءه يلتزمون بالعودة إلى القرآن والسنة بصفتهما مصدر الوحي والتشريع، لكن نقطة الافتراق عن بقية المسلمين تبدأ من حيث الاعتقاد بعصمة الأئمة واعتبارهم مصدرا إضافيا للتشريع، حيث لا تقتصر السنة لدى الشيعة على أقوال وأفعال الرسول بل تشمل أيضا كل ما يُنسب إلى الأئمة.
ويترتب على الاعتقاد بالعصمة أيضا فتح الباب أمام احتمالات شتى لفهم القرآن الكريم تحت مسمى التأويل الباطني الذي لا يعرف سره إلا الإمام “المعصوم”، لا سيما وأن المدونين الأوائل لأقوال الأئمة ليسوا موضع ثقة لدى علماء الجرح والتعديل المعتمدين لدى المسلمين من غير الشيعة، بل لم يكونوا كذلك حتى لدى بعض الفقهاء الشيعة الكبار، الأمر الذي يضع معظم أصول المذهب في موضع التشكيك عندما تُنقد الروايات بضوابط النقل والتثبت.
علاوة على ذلك، أدت عقيدة تكفير الصحابة -أو تكذيبهم على الأقل- إلى نبذ مؤسسي التشيع للمصادر المعتمدة للأحاديث النبوية (السنة) [انظر مقال السنة النبوية]، ومن ثم فإن المصادر الحديثية المحققة كصحيحي البخاري ومسلم لا يُعتد بها لديهم، ليس لأنها موضع شك من حيث ثبوت النقل، بل لأنها روايات منقولة عن الصحابة الذين تم تكفيرهم أصلا، فضوابط قبول الروايات أو رفضها لدى الشيعة تقوم أساسا على الجانب الاعتقادي (التسليم) وليس على البحث العلمي.
ونظرا لتشتت الشيعة إلى فرق شتى بناء على ولاء كل فرقة لإمام معين، فقد كانت كل فرقة تدون رواياتها المنسوبة لإمامها بعد موته، علما بأن الانقسام لم يقتصر على الخلاف بشأن خليفة جعفر الصادق، بل انقسم أتباع الحسن العسكري بدوره إلى ما يقرب من عشرين فرقة بعد موته، وكل فرقة منها كانت تضع من الأخبار والروايات ما يؤيد عقيدتها الجديدة، لكن فرقة الإمامية الاثني عشرية هي الوحيدة التي آمنت بإمامة محمد بن الحسن المهدي، ولم تضع الروايات المتعلقة بالاثني عشر إماما إلا بعد موت العسكري، أي في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، بالرغم من دعوى بدء التدوين قبل ذلك.
يقول فقهاء الشيعة إن تدوين الأحاديث والأخبار يعود إلى “الأصول الأربعمئة”، وهي أربعمئة كتاب يقولون إنها دونت في القرن الثاني الهجري على يد أصحاب الإمامين جعفر الصادق وموسى الكاظم، ومع أن هذه الكتب غير موجودة حاليا، فإنهم يقولون إن الشيخ محمد بن يعقوب الكُليني رحل إلى العديد من البلدان الإسلامية لجمع أكبر قدر ممكن مما جاء في هذه الأصول ووضعها في كتابه “الكافي”، ثم جاء من بعده عالمان آخران ووضعا كتبا مشابهة، وهما الطوسي مؤلف “التهذيب” و”الاستبصار”، والصدوق مؤلف “من لا يحضره الفقيه”، وتعد هذه الكتب الحديثية الأربعة المصدر الأساسي المعتمد لدى الشيعة اليوم، مع أنها كانت جميعا كتبا فقهية وليست متخصصة في الحديث.
يؤمن الشيعة بأن الكليني عرض كتابه الكافي على المهدي الغائب في السرداب وأنه أقره عليه، ويعتقدون أن جميع ما ورد في الكتب الأربعة صحيح ولا شك فيه، حيث يقول عنها الشيخ الحر العاملي “قد عرفت أن أكثرها متواتر لا نزاع فيه، وأقلها -على تقدير عدم ثبوت تواتره- فهو خبر محفوف بالقرينة القطعية” [وسائل الشيعة، 20/107].
مع ذلك، انتُقدت تلك الكتب الأربعة كثيرا، فشيخ الطائفة الطوسي قال في كتابه “عدَّة الأصول” إن أحاديث “التهذيب” تزيد على خمسة آلاف، بينما تبلغ أحاديثه في النسخة المتوفرة 13950 حديثا، ما يعني أن معظم ما فيه قد تمت إضافته بأيد مجهولة، ولا يمكن لأحد في عصرنا أن يُميز ما وثقه الطوسي عن غيره.
أما موسوعة الكافي فقد ذكر الطوسي في “الفهرست” أنها كانت مكونة من ثلاثين كتابًا (جزءا)، ومع ذلك فقد وصل إلينا مجزءا في خمسين كتابا، ولا يُعرف من أين جاءت الزيادة، كما شكك بعض فقهاء الشيعة بأحد أهم هذه الأجزاء، وهو كتاب “الروضة”، الذي يختص بالقضايا العقائدية التي تقوم عليها أهم عقائد الشيعة ومنها الإمامة، حيث يُعتقد أن مؤلفه ليس الكليني نفسه.
ويقر الباحث اللبناني الشيعي المعاصر هاشم الحسني بأن وثوق الكليني بالروايات التي جمعها “لم يكن مصدره بالنسبة إلى جميعها عدالة الرواة؛ بل كان في بعضها من جهة القرائن التي تيسر له الوقوف عليها… بالإضافة إلى عنصر الاجتهاد الذي يرافق هذه البحوث في الغالب” [دراسات في الحديث والمحدثين، ص 134]، ويضيف الحسني أن الكليني أقر بنفسه بأن كتابه لم يجمع الروايات الصحيحة ذات السند المتصل بالإمام، بل قال الكليني إنه بذل جهده في الجمع والتحقق دون أن يكون متأكدا، ومع ذلك فإن الفقهاء الذين جاؤوا بعد الكليني وحتى اليوم يُجمعون على أن الكافي صحيح بكل ما فيه، وإلا فإن أركان مذهبهم كلها معرضة للانهيار.
علاوة على ذلك، لم يجد مؤلفو الكتب الأربعة مانعا من الرواية عمن يُطعن في دينهم بالرغم من إقرارهم بضرورة التمحيص، فقال الطوسي “فإذا ذكرتُ كل واحد من المصنفين وأصحاب الأصول، فلا بد من أن أُشير إلى ما قيل فيه من التعديل والتجريح، وهل يُعوَّل على روايته أو لا؟ وأبين عن اعتقاده، وهل هو موافق للحق أو هو مخالف له؟ لأن كثيرًا من مصنفي أصحابنا وأصحاب الأصول ينتحلون المذاهب الفاسدة، وإن كانت كتبهم معتمدة” [الفهرست للطوسي، ص 32]، والإقرار بضرورة الجرح والتعديل أمر جيد، لكن المحير أن الطوسي يعترف بعد ذلك فورا بأن انتحال بعضهم لمذاهب فاسدة لا يطعن في كون كتبهم معتمدة.
ومن الملفت أيضا أن العلماء الذين تلقوا كل ما نُسب للأصول ليس لديهم دليل على صحة انتساب كل واحد من أولئك الأربعمئة للفرقة التي يعتبرون أنها على صواب، فقد بينّا سابقا أن الشيعة كانوا ينقسمون إلى فرق عدة بعد موت عدة أئمة، حتى إنهم تفرقوا إلى ست فرق بعد موت جعفر الصادق الذي نُسبت الأصول إلى أصحابه، كما أن العديد من الأخبار الواردة في تلك الأصول يتحدث عن الأئمة الذين جاؤوا بعد الصادق، فلا يُعرف متى كُتبت تلك الأخبار والأحاديث.
يقول الوحيد البهبهاني إن “معاصري الأئمة وقريبي العهد منهم كان عملهم على أخبار الثِّقات مطلقًا، وغيرهم بالقرائن، وكانوا يردون بعض الأخبار أيضًا؛ لما ثبت بالتواتر من أن الكَذَبَة كانوا يكذبون عليهم، لكن خَفِيَ علينا الأقسام الثلاثة، ولا يمكننا العلم بها كما مرَّ في الفوائد، كما أن نفس أحكامهم أيضًا خفيت علينا كذلك، وانسدَّ طريق العلم، فالبناء على الظن في تمييز الأقسام” [الفوائد الحائرية، ص 490].
رسم لمدينة قم الإيرانية من مجموعة الرحالة الفرنسي جان شاردان في القرن الثامن عشر
ولاية الفقيه والدولة الصفوية وقع التشيع في أزمة منذ بدء الغيبة الكبرى للمهدي، فلم يعد هناك مبرر للعمل السياسي طالما كان الحكم محصورا في سلالة الأئمة، وفي القرن الرابع عشر الميلادي حاول الفقيه الشيعي محمد بن جمال الدين الجزيني العاملي (من جبل عامل بلبنان) وضع حل لهذه المعضلة بابتكار نظرية ولاية الفقيه العامة، التي تعني قيام أحد الفقهاء المجتهدين الكبار بمهمة النيابة عن الإمام الغائب (المهدي) في قيادة الأمة وإقامة حكم اللّه على الأرض.
صفي الدين أردبيلي
تزامن مع طرح العاملي لنظرية ولاية الفقيه في لبنان صعود عائلة تركمانية صوفية تدعي الانتساب لآل البيت في شمال إيران، حيث يقال إن الشيخ صفي الدين أردبيلي (توفي عام 1334م) كان يخفي تشيعه تقيّةً ويظهر للناس أنه سني شافعي حتى تمكن من استقطاب الإيرانيين حوله، حيث كانت الغالبية الساحقة من الإيرانيين تتبع المذهب الشافعي السني آنذاك.
وفي عام 1501م، سيطر إسماعيل حفيد صفي الدين على الحكم وأسس الدولة الصفوية، معلنا بصراحة قيام الدعوة الشيعية. وينقل عبد العزيز بن صالح المحمود الشافعي في كتابه “عودة الصفويين” عن مصادر شيعية أن إسماعيل كان مع أتباعه الصوفية في الصيد بمنطقة “تبريز”، فعبر نهرا لوحده ودخل كهفاً ثم خرج متقلداً بسيف وأخبر رفاقه أنه التقى داخل بالمهدي الغائب، وأن المهدي قال له “لقد حان وقت الخروج”، وأنه أمسك ظهره ورفعه ثلاث مرات ووضعه على الأرض، ثم شدّ حزامه بيده ووضع خنجراً في حزامه وقال له: “اذهب فقد رخصتك”.
وبهذه الأسطورة طبق إسماعيل نظرية ولاية الفقيه عمليا، كما أنه لم يكتف بادعاء نسبته إلى آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وبحصوله على إذن الإمام المهدي الغائب، بل ابتكر أسطورة جديدة تضفي عليه شرعية أخرى للحكم من خلال استحضار “حق الملك الإلهي” لسلالة الأكاسرة الفرس، حيث تقول الأسطورة إن عمر بن الخطاب -عند فتحه لبلاد فارس- سبى نساء الشاه يزدجرد، آخر ملوك الفرس، وجاء بهن إلى المدينة، فثار ضده علي بن أبي طالب وقام بتزويج شهربانو ابنة يزدجرد من ابنه الحسين، فجاء الأئمة من سلالة آل البيت ويزدجرد، ما يمنحهم بذلك “حق الملك الإلهي”، وذلك على شاكلة سبط يهوذا من بني إسرائيل الذي يدعي لنفسه هذا الحق حتى يومنا هذا. وقد دحض هذه الرواية عدد من علماء الشيعة أنفسهم، وعلى رأسهم مرتضى مطهري وعلي شريعتي.
يقول المفكر الإيراني الشيعي المعاصر علي شريعتي إن الدولة الصفوية قامت على مزيج من القومية الفارسية والمذهب الشيعي، حيث تولدت آنذاك تيارات تدعو لإحياء التراث الوطني والاعتزاز بالهوية الإيرانية، وتفضيل العجم على العرب، وإشاعة اليأس من الإسلام، وفصل الإيرانيين عن تيار النهضة الإسلامية المندفع، وتمجيد الأكاسرة. [التشيع العلوي والتشيع الصفوي لشريعتي، ص 119].
الشاه إسماعيل
وبما أن الأساطير وحدها لا تكفي بدون قوة، فقد حشد الشاه إسماعيل من حوله كتائب عسكرية تدعى “قزلباش” لتكون بمثابة الحرس الشخصي والقوة الضاربة، وجعلها تظن في نفسها أنها الجيش الممهد لظهور المهدي، حتى زعم كبار فقهاء الدولة، وعلى رأسهم العلامة المجلسي، أن الدولة الصفوية ستكون بالفعل مقدمة لخروج المهدي الوشيك.
وبهذه العقيدة انطلق جنود الشاه لمحاولة ابتلاع الأمة الإسلامية كلها، فبدأوا بتصفية قادة السنة في إيران والعراق، وارتكبوا مجازر في غاية البشاعة، حتى قيل إنهم قتلوا مليون مسلم، وكان إسماعيل يأمر بنبش قبور العلماء وحرق عظامهم وحرق كتب المسلمين السنة، وإذا قتل أميراً أباح زوجته وأمواله لأحد أتباعه، وكان الكثير من أتباعه يعتقدون أنه بلغ درجة الألوهية. [عنوان المجد للبغدادي، ص 120].
ولاستكمال مخططه الإمبراطوري، وضع الشاه إسماعيل تدمير الدولة العثمانية نصب عينيه، مع أن العثمانيين كانوا في أوج قوتهم وفي أخطر مراحل تصديهم للأوروبيين الذين كانوا يستأنفون غزواتهم الصليبية في مرحلة ما يسمى بعصر الاكتشافات الجغرافية، بينما كان العثمانيون يشنون هجمات مضادة ويتوغلون في شرق أوروبا.
احتل إسماعيل العراق وعقد تحالفات مع الدول الأوروبية ضد العثمانيين، ومع أنه كان يحاول إظهار الود للسلطان العثماني سليم ياوز الأول إلا أن الأخير لم يثق به، وسرعان ما بدأت المناوشات التي كشفت عن نواياه.
راسل إسماعيل البرتغاليين ووعدهم بالاعتراف بسلطتهم على جزيرة هرمز التي احتلوها عام 1507م، وهي منطقة استراتيجية لإشرافها على مضيق هرمز الفاصل بين الخليج العربي وخليج عُمان، وطلب إسماعيل منهم في المقابل مساعدته على غزو البحرين والقطيف وتعهدهم بمساندته ضد القوات العثمانية، كما تضمن مشروع التحالف البرتغالي الصفوي تقسيم المشرق العربي بينهما لاحقا، بحيث يحتل الصفويون مصر والبرتغاليون فلسطين، وما زالت المراسلات المتبادلة بين الشاه إسماعيل وأفونسو دلبوكيرك نائب الملك البرتغالي على الهند محفوظة حتى اليوم.
وجد البرتغاليون في العرض الصفوي كنزا لا يقدر بثمن، فقد كانوا يخشون الجبهة الإسلامية القوية التي يمثلها العثمانيون والمماليك في البحر الأبيض المتتوسط، ويحاولون أن يجدوا موطئ قدم لهم في المنطقة، فأتاح لهم الصفويون فرصة البقاء في الخليج العربي، ثم أخذ إسماعيل يهدد باجتياح حلب ودمشق بينما كان دلبوكيرك يتسلل بأسطوله إلى البحر الأحمر لتخويف المماليك في مصر.
راسل إسماعيل أيضا بابا الفاتيكان ليو العاشر ليحظى بتأييد أوروبا المسيحية كلها، ونصح دلبوكيرك الملوك الأوروبيين بالتحالف مع إسماعيل وإرسال خبراء صناعة المدافع إليه لضرب المسلمين من الخلف، وهنا أدرك السلطان سليم أنه لا بد من مواجهة الصفويين، فاشتبك الجيشان في معركة “جالديران” سنة 1514م التي انتصر فيها العثمانيون انتصاراً كبيراً، فبدأ دلبوكيرك بالتخلي عن إسماعيل الذي خسر معظم قوته.
ازداد حقد إسماعيل فقرر أن يبحث عن قوة أخرى تنتقم له من العثمانيين، وأغرى السلطان المملوكي الغوري بالخروج من مصر إلى حلب ليشهد صلحا بين إسماعيل والسلطان سليم، لكن المماليك فوجئوا هناك بأن الخطة كانت تهدف إلى توريطهم في الحرب، فاصطدموا مع العثمانيين بمعركة مرج دابق عام 1516، والتي انتصر فيها العثمانيون أيضا. ومع أن الدولة العثمانية تجاوزت كل هذه المحاولات إلا أن مؤامرات إسماعيل شغلت العثمانيين وأوقفت تقدمهم الذي كان قد بلغ وسط أوروبا.
انتهت دولة الصفويين سنة 1736م على يد نادر خان الذي عينه الشاه طهماسب الثاني قائداً لجيشه، فبعد تحقيقه عدة انتصارات ضد منافسي الدولة نصّب نادر خان نفسه ملكاً على إيران، وأعلن سقوط الدولة الصفوية وقيام الدولة الأفشارية الشيعية محلها، التي استمرت حتى القضاء عليها من قبل الزنديين سنة 1795م. وقد حاول نادر شاه إحداث تقارب بين السنة والشيعة، الأمر الذي أدى إلى قتله من قبل الشيعة المتعصبين.
من أهم النتائج التي خلَّفتها الدولة الصفوية انقسام العالم الإسلامي إلى معسكري السنة والشيعة، وتحويل إيران من دولة سنية إلى شيعية متعصبة، وإحياء النزعة القومية الفارسية، مع ربط التشيع الديني بالأهداف السياسية للحكومات الإيرانية المتعاقبة التي ما زالت قائمة حتى اليوم.
الخميني يعود من فرنسا إلى إيران في فبراير 1979 بعد 14 سنة من النفي والطيار الفرنسي يساعده على النزول
الثورة الإيرانية في القرن العشرين، تولى الفقيه روح الله الخميني مهمة إحياء فكرة ولاية الفقيه، داعيا إلى إنشاء دولة شيعية جديدة تمهد لخروج المهدي وقيادة العالم. ومع أن الملك الإيراني الشاه محمد رضا بهلوي كان من أقوى حلفاء الغرب وإسرائيل، إلا أن الخميني المنفي في فرنسا كان قد عقد تحالفاته السرية هناك لينشئ نظاما دينيا يرفع شعارات معاداة الغرب، كما يقول العديد من المؤلفين ومنهم مؤلف كتاب “رهينة بقبضة الخميني” روبرت دريفوس.
يقول دريفوس في كتابه إن مشروع زعزعة استقرار حكم الشاه تمتد جذوره لقرن من الزمان قبل قيام الثورة الإسلامية الخمينية عام 1979م، حيث عملت المخابرات البريطانية على زرع بذورها عبر رجال الدين الشيعة والجمعيات السرية لتهيئة الأجواء وشحن الشعب بالتمرد، ثم جاء تقرير لمنظمة العفو الدولية في نوفمبر ١٩٧٦ ليكون “الطلقة الأولى” التي أشعلت نيران الثورة بعد ثلاث سنوات، فبدأ من ذلك الحين تسليط الضوء داخليا وخارجيا على انتهاكات حقوق الإنسان في نظام الشاه [ص 34، 39].
ويسرد المؤلف تفاصيل الاستنفار الذي قامت به منظمات المجتمع المدني الغربية لحشد الرأي العام ضد الشاه ونظامه، إلى جانب دعم منظمة فدائيي الإسلام (فدائيان إسلام) التي كانت قد انتقلت إلى العمل السري تحت قيادة آية الله خلخالي وآية الله الخميني، والتي كانت تدير نحو 200 ألف من الملالي المنتشرين في أنحاء إيران لتنفيذ خطة الانقلاب عبر التهييج الشعبي الديني [ص 40].
في يناير عام 1978، كان الرئيس الأميركي جيمي كارتر يحتضن الشاه ويمتدح إيران بأنها “جزيرة الاستقرار” في الشرق الأوسط المضطرب، بينما كان معاونوه قد بدؤوا بتدبير مؤامرة إسقاطه [رهينة بقبضة الخميني، ص 24]، ويقول مؤرخون إن الرجل الثاني في جهاز السافاك “منظمة المخابرات والأمن القومي” حسين فردوست كان هو المسؤول عن تدبير الانقلاب لصالح الخميني والملالي بإشارة من الغرب، وإن الخميني كافأ فردوست لاحقا بعد إسقاط الشاه بحل جهاز السافاك وتأسيس جهاز “السافاما” بدلا منه بقيادة فردوست نفسه.
ويرى دريفوس أن استحداث الحكم الإسلامي الشيعي في إيران من قبل الغرب كان بحجة التصدي للتمدد الشيوعي بالمنطقة، مستشهدا بتصريح رئيس مجلس الأمن القومي زبيغنو بريجينسكي (الذي كان القوة المحركة في إدارة كارتر) عندما قال لصحيفة نيويورك تايمز إنه يجب على واشنطن أن ترحب بانبعاث قوى الإسلام في الشرق الأوسط لأنها تعارض كعقيدة تلك القوى الكامنة في المنطقة الموالية للاتحاد السوفيتي [رهينة بقبضة الخميني، ص 25]، لكن باحثين آخرين يرون أن هذا الدعم كان بالأحرى لزرع بذور الفتنة الطائفية في المنطقة وإشعال فتيل الحرب التي سرعان ما اندلعت بين السنة والشيعة ومازالت تتوسع حتى اليوم.
أنصار الخميني في وسط طهران أثناء الثورة
تصدير الثورة في كتاب تصدير الثورة الذي نشرته “مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني”، نجد مئات المقتطفات من خطب ورسائل الخميني التي يعتبر فيها أن تصدير الثورة سيكون بمثابة رسالة لدحر الطغيان وإسقاط عروش الجبابرة والانتصار للمظلومين، مع التركيز على أن رسالة الثورة هي رسالة الإسلام العالمية وتجنب الإشارة للبعد المذهبي الشيعي.
ففي إحدى رسائل الخميني الموقعة بتاريخ 28 أبريل 1986 يقول إن رسالته الأخيرة هي أن يعملوا على “إعداد الأرضية لظهور منقذ البشرية وخاتم الأوصياء ومفخرة الأولياء” [تصدير الثورة، ص 20].
وكما فعل الشاه إسماعيل، وضع الخميني -عقب سيطرته على إيران- عينه مباشرة على المملكة العربية السعودية بصفتها أرض الحرمين ومن أهم الدول السنّية، فحاول التمدد عبر بوابة الشرق حيث يتركز الوجود الشيعي في السعودية، وبدأ بدعم حركات الاحتجاج في مدينة القطيف عام 1981 ضد الحكومة السعودية.
ويقول مؤرخوه إن النظام الإيراني أنشأ منظمة شيعية سرية داخل إيران لنشر فكر الثورة في دول الخليج، وعهد إلى الشيخ حسن الصفّار بزعامتها الروحية، وأُطلق عليها اسم “منظمة الثورة الإسلامية لتحرير الجزيرة العربية”، لتصبح لاحقا “منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية”، وفي عام 1987 تشكل جناح عسكري للمنظمة تحت اسم “حزب الله الحجاز”، ويشير باحثون إلى انفصال الجناح العسكري عن المنظمة ليصبح تابعا مباشرة للحرس الثوري الإيراني. [مقال “حزب الله” الخليج، لخالد المشوح]
ويقول مؤرخو تلك المرحلة إن غالبية السعوديين الشيعة الذين كانوا في قم آنذاك كانوا يؤيدون المدرسة الشيرازية التي ترى أن الحكومة الإسلامية الشيعية تدار من قبل تجمع من الفقهاء وليس الولي الفقيه الواحد، لكن الحرس الثوري أجبر العديد منهم على الالتحاق بالفكر الخميني، بينما اضطر آخرون للجوء إلى دمشق ودول أخرى. [دراسة حزب الله الحجاز “السعودي”، بوابة الحركات الإسلامية].
صورة من الإعلام السعودي لمظاهرات الإيرانيين بمكة عام 1987
وفي موسم الحج بأواخر يوليو 1987، بدأ الصدام الفعلي عندما قادت مجموعة من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله الحجاز المئات من الحجاج الإيرانيين والشيعة السعوديين للتظاهر في مكة المكرمة ودعوة المسلمين لمؤازرة ثورة الخميني، ما أسفر عن صدام دموي مع السلطات السعودية، ذهب ضحيته 402 قتيلا و649 جريحا، أكثر من نصفهم من الإيرانيين، كما تجددت المظاهرات في موسم الحج التالي وأسفرت عن سقوط ضحايا.
اتهمت السلطات السعودية “حزب الله الحجاز” بالمسؤولية عن أعمال “إرهابية” عدة، من أهمها تفجير شركة صدف البتروكيماوية في مدينة الجبيل عام 1988، وتفجير مبنى للحرس الوطني في الرياض عام 1995، وتفجير أبراج الخبر عام 1996 الذي أسفر عن مقتل 19 أميركيا بمدينة الخبر.
ويرى الباحث السعودي خالد المشوح أن “انكشاف مخططات إيران” دفع العديد من الناشطين الشيعة في الخليج للتراجع عن موالاتهم لنظام ولاية الفقيه، كما اضطروا للوقوف إلى جانب سلطات بلادهم أثناء حرب الخليج الثانية جراء اختلاط الكثير من الأوراق في المنطقة. وفي عام 1993 تم الاتفاق بين الحركة الإصلاحية الشيعية والحكومة السعودية على إنهاء النشاط السياسي في الخارج وقطع العلاقات مع طهران.
لكن هذه المصالحة لم تنه الأزمة، فما زال الشيعة في السعودية والخليج متهمون بإثارة القلاقل إبان اندلاع احتجاجات البحرين عام 2011، كما ظهر جليا الطموح الإيراني في تصدير “الثورة” عبر السيطرة غير المباشرة على العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003.
ويرى باحثون أن التقارب الإيراني الأميركي لم يكن وليد الصدفة، إذ صرح محمد علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني السابق في عام 2004م بقوله “لولا إيران لما سقطت كابل وبغداد”، [نبيل البكيري، في عمق التقارب الأميركي الإيراني، الجزيرة نت، 19/10/2013].
وبعد تورط إيران في قمع الثورة السورية منذ عام 2011، أصبح من الشائع الاعتقاد بأن النظام الذي أقامه الخميني يمزج بين العقيدة الشيعية والقومية الفارسية، حيث يقول الباحث المتخصص في التشيع السياسي الدكتور عبدالله النفيسي -وهو الرئيس السابق لقسم العلوم السياسية بجامعة الكويت- إن إيران الآن دولة صفوية، وإن ساسة إيران “فرس أساسا وليسوا مسلمين، وليسوا حريصين على الإسلام، بل على هدم الإسلام بصيغته التي نفهمها”.
ويضيف أنه التقى كل القيادات التي تحكم إيران ورموز النظام فوجد أن خيطا واحدا يجمعهم هو احتقار العرب، وأن لديهم الآن فرصة تاريخية للثأر من العرب على اعتبار أن الفتح الإسلامي لبلاد فارس كان “غزوا” حطم إمبراطوريتهم.
وينقل النفيسي عن حسن روحاني -قبل أن يصبح رئيسا لإيران- أنه قال لأعضاء البرلمان الكويتي خلال زيارة رسمية لإيران “كل الساحل الغربي من الخليج سيعود إلى رحم بلاد فارس، وأنتم لا حق لكم كعرب فيه، وسنستولي عليه عندما تحين الفرصة”. [موقع بوابة الأهرام الرقمي، 19 يناير 2013].
ويؤكد هذا تصريح لقائد الحرس الثوري الإيراني السابق اللواء محمد علي جعفري خلال خطاب جماهيري بتاريخ 7 مايو 2015، حيث قال «عندما یتم الحدیث عن نمو الهلال الشیعي فإن ذلك بمثابة السیف الذي یتم غرسه في قلب إسرائیل… الهلال الشیعي یعني تضامن ووحدة المسلمین في دول المنطقة مثل إیران وسوریة والیمن والعراق ولبنان والدول الأخری في المنطقة التي تعتمد نهج المقاومة».
كما أكد في خطابه أن تشكيل الهلال الشيعي يدل على تحقيق أهداف الثورة الإسلامية عام 1979 [موقع قناة برس الإيرانية ووكالة تسنيم]. ويجدر بالذكر أن الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني نفى في منتصف أغسطس 2015 سعي إيران لتشكيل “الهلال الشيعي” أثناء كلمة له في المؤتمر العالمي السادس لمجمع “أهل البيت” في طهران، وذلك بعدما أثارت تصريحات جعفري جدلًا واسعًا [روحاني ينفي تأكيد قائد الحرس الثوري حول “الهلال الشيعي”، العربية نت].
أهم المراجع
سعد بن عبد الله الأشعري القمّي، المقالات و الفِرق، تعليقات: محمد جواد مشكور، مركز انتشارات علمي، طهران، الطبعة الثانية 1360هـ.
محمد حسين آل كاشف الغطاء، أصل الشيعة وأصولها، تحقيق محمد جعفر شمس الدين، دار الأضواء، بيروت، 1993.
أبو جعفر القمّي الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1986.
محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه، مؤسسة المجتبى، كربلاء، ط3، 2015.
محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، إحياء الكتب الإسلامية، طهران.
محمد بن حسين الشيرازي القمي، الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين، مطبعة الأمير، طهران.
مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، تصدير الثورة كما يراه الإمام الخميني، http://www.arabic.irib.ir، بدون تاريخ.
روح الله الخميني، الحكومة الإسلامية، بدون ناشر، 1389هـ.
الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية،مجمع الفكر الإسلامي، قم، 1995.
أبو جعفر الطوسي، الفهرست، مؤسسة نشر الفقاهة، قم، 1997.
عبد الرسول الغفاري، الكليني والكافي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، 1996.
محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى أصول الشريعة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1983.
هاشم معروف الحسني، دراسات في الحديث والمحدثين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1978.
سليمان بن حمد العودة، عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام، دار طيبة، الرياض.
محمد أمحزون، تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، دار السلام، 2007.
علي شريعتي، التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ترجمه حيدر مجيد، دار الأمير للثقافة والفنون، ط1، 2002.
علي محمد الصلابي، سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه: شخصيته وعصره، 2006.
روبرت دريفوس، رهينة بقبضة الخميني، ﺩﺍﺭ ﻧﻴﻮﺑﻨﺠﺎﻣين ﻓﺮﺍﻧكلين للنشر، 1980.
نبيل البكيري، في عمق التقارب الأميركي الإيراني، الجزيرة نت، 19/10/2013.
خالد المشوح، “حزب الله” الخليج.. تاريخ من المؤامرات باسم المقدّس والطائفة، مجلة المجلة، 15 نوفمبر 2011.
أحمد محمد سرحان، كتب الحديث والرواية عند الشيعة الإمامية الاثنى عشرية، موقع الألوكة، 2009.
لبثت الفلسفة دهراً طويلاً تسبح في سماء الفكر المجرد، بعيدةً عن الحياة العملية التي تعج بأصدائها أرجاء الأرض جميعاً، فقد حصرت معظم جهودها في البحث عن جوهر الأشياء في ذاتها، حتى جاء زمن صعود الولايات المتحدة وهيمنة ثقافتها على العالم، فبدأت تفرض نظامها ونظرتها في جميع مرافق الحياة، بما فيها الفلسفة التي لم تنج من تأثيرها.
مدينة نيويورك الأمريكية مطلع القرن العشرين
والفلسفة بصبغتها الأمريكية تمقت البحث النظري وتراه مجدباً عقيماً، فهي تريد أن تنحو بالفكر منحى جديداً لا يكون من شأنه البحث في حقيقة الشيء ومصدره؛ بل نتيجته وثماره. وهكذا ظهرت الفلسفة البراغماتية، وهي أكبر تجسيد للنظرة الأمريكية للفكر والمعرفة.
ومصطلح البراغماتية مشتق من اللفظ اليوناني “براغما” ومعناه العمل، وهي مذهب فلسفي يحاول تطبيق الأساليب العملية على الفلسفة، وتتركز فكرته الأساسية على أن معنى فكرة ما أو حقيقتها تتحدد بتأثير تلك الفكرة على الممارسة والسلوك، وأن حقيقة كل المفاهيم لا تثبت إلا بالتجربة العملية.
وتقرر البراغماتية أن العقل لا يبلغ غايته إلا إذا قاد صاحبه إلى العمل المفيد. فالفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة، أي الفكرة التي تحققها التجربة، وكل ما يتحقق بالفعل فهو حق، ولا يقاس صدق القضية إلا بنتائجها العملية.
ومعنى ذلك كله أنه لا يوجد في العقل معرفة أولية نستنبط من خلالها نتائج صحيحة بصرف النظر عن نتائجها؛ بل الأمر كله رهن بنتائج التجربة العملية التي تقطع الشك باليقين. وإذا كانت النظريات التي تدعي الوصول إلى الحقائق العلمية تتغير بتغير العصور، فالنظرية الصادقة اليوم قد تصبح غير صادقة في المستقبل، ونتيجة ذلك واضحة جداً وهي أن صدق القضايا يتغير بتغير الاكتشافات، وأن الأمور بنتائجها، وأن الحق “نسبي” أي منسوب إلى زمان معين ومكان معين ومرحلة معينة من مراحل العلم. وهكذا لم يعد المهم أن يقودنا العقل إلى معرفة الأشياء؛ بل أن يقودنا إلى التأثير الناجح فيها.
التأثر والبيئة
تعد الولايات المتحدة الأمريكية موطن البراغماتية الأم، حيث ظهرت هناك ثم لقيت انتشاراً عالمياً واسعاً، وقد تبلورت الخطوط العريضة لهذه الفلسفة في سبعينيات القرن التاسع عشر، في مؤلفات عالم المنطق الأمريكي تشارلز بيرس، ثم تطورت على يد وليم جيمس، وجاء بعده جون ديوي الزعيم الروحي للبراغماتية المعاصرة في أمريكا.
والأمريكيون مغرمون بالعلم والتفكير والبحث وراء القضايا والنظريات العلمية، ولهم في كل مجال رأي ونظر، ويتميزون عن غيرهم بغرامهم للتطبيق، وبافتتانهم بالنتائج الواقعية للأشياء. فنجدهم يسارعون إلى تطبيق أي نظرية علمية تُكتشف؛ بغية معرفة صدقها وماهية الآثار الناتجة عنها وفائدتها في الحياة الراهنة، فإذا لم تكن لها نتائج في الحياة والبيئة التي يعيش فيها الأمريكي، فهي مجرد نظرية تضاف إلى سابقاتها وتوضع جانباً.
ويتميز الشعب الأمريكي بحب المجازفة والاستهتار بالمخاطر، وليس ذلك عن شجاعة بالضرورة؛ بل لمجرد الرغبة في مشاهدة النتائج العملية التي تترتب على هذه المخاطرة، كما يحب الأمريكيون الاستمتاع بالحياة الراهنة، ويشكل النجاح المادي لديهم غاية في ذاتها.
تشارلز داروين
ومع أن الفلسفة الأمريكية اتخذت مسارها التاريخي من خلال متابعة الفلاسفة الأمريكيين للتراث الفلسفي العالمي عبر التاريخ؛ إلا أن تطورها تميز بميزة أساسية هي شمولها لكل جوانب الحياة بما فيها السياسة والاقتصاد والثقافة والدين والأخلاق.
وقد تأثرت أيضاً تأثراً بالغاً بتطور العلوم عامة، وعلم الأحياء والنفس خاصة، لا سيما أبحاث عالم الأحياء الإنكليزي تشارلز داروين ونظريته في النشوء والارتقاء المعروفة بـ”نظرية التطور”، وتقوم على الاعتقاد بأن أشكال الحياة المختلفة تعود إلى أصل واحد مشترك، حيث بدأت من خلايا بسيطة تكونت عن طريق المصادفة عبر عمليات كيميائية مركبة، ثم تطورت إلى كائنات كبيرة معقدة.
واستنتجت نظرية التطور ما يعرف بقانون الصراع بين الكائنات، أو التنازع من أجل البقاء، الذي نتج عنه تعبير “البقاء للأصلح” أي أن الأفراد الذين يتمتعون بصفات تميزهم عن غيرهم، ستكون لهم فرصة أفضل للبقاء بعد صراعهم مع بقية الكائنات الأضعف منهم، حيث يبقى القوي وهو الأصلح ويهلك الضعيف.
ويذكر أيضا أن البراغماتية تستمد الكثير من مبادئها من المقولة الشهيرة للفيلسوف الإيطالي ماكيافيلي: “الغاية تبرر الوسيلة”، لذا تسمى البراغماتية أيضاً باسم “الذرائعية”.
نشوء البراغماتية
تشارلز بيرس
كانت الخطوة الأولى مع الفيلسوف الأمريكي تشارلز بيرس، الذي اهتم بدراسة نظرية النشوء والتطور الداروينية، ودور المصادفة في نشأة الكون، وهو أول من صاغ اصطلاح البراغماتية في مقالة نشرت عام 1878 بعنوان “كيف نوضح أفكارنا”، ووضع فيها أساس فلسفة البراغماتية، محدثاً انقلاباً على كل ما سبق من نظريات فلسفية.
اعتمد بيرس في مقاله على ما ذكره الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر من أن معظم معتقدات الإنسان التي يؤمن بها ليست لها صور حسية يستطيع أن يردها إليها، فالحرية مثلاً لا يمكن للذهن أن يجد لها صوراً أو شكلاً ذهنياً نستطيع أن نوضحها به. وبعبارة أخرى لا معنى لهذا الاصطلاح في حياتنا التي نحياها، وعلى هذا نستطيع أن نوفر على أنفسنا عناء البحث في وجود هذه الأشياء.
وإذا لم يكن لهذه المصطلحات صور وأشكال ذهنية فإننا نستطيع أن نزعم باطمئنان -كما يرى سبنسر- أن هذه المصطلحات ليس لها وجود ذاتي مستقل في الكون، فهي حديث خرافة يمكن إلقاؤه في سلة المهملات؛ أما المصطلحات التي لها معنى أو تصل بنا إلى أشياء وحقائق نشاهدها في حياتنا اليومية فلها مدلولات حقيقية أو معنى حقيقي، حتى وإن كنا لا نستطيع أن نجد لها صوراً وأشكالاً ذهنية عندنا.
وضرب مثالاً لذلك بالكهرباء، فهي لا تمتلك شكلاً يمكن لعقولنا أن تتخيله، ومع ذلك فمدلولها له وجود ذاتي مستقل وواضح في نظام الكون، والدليل آثارها وعملها في الحياة اليومية. فانطلق بيرس من هذه المقولة ليجعلها مبدأ يتسع ليشمل جميع المصطلحات التي ليس لها صور حسية في أذهاننا، وبهذا وضع الأساس لفلسفة البراغماتية.
يرى بيرس أن معنى أي اصطلاح أو فكرة ليس لهما صورة حسية هو في أثر الاصطلاح أو الفكرة على حواسنا. فنحن نعيش في عالم مادي ونفسي، ولا يكون للأشياء وجود حقيقي إلا إذا أدت إلى تغيير ما في عالمنا ونتجت عنه آثار واضحة نلمسها ونحس بها ونشاهدها.
ويقول إنه لا يمكن التدليل على الموجودات بالمنطق أو بالقضايا العقلية؛ بل بالآثار الحسية. والواقع أن كثيراً من الألفاظ والكلمات التي لها حظ من الصور المحسوسة ما هي إلا دلائل للعمل، أو اتجاهات إلى النشاط، وقد ننسى صورها أو أشكالها ولا يبقى منها شيء إلا قدرتها على التوجيه العملي في الحياة.
“إن البحث في الميتافيزيقيا (الغيبيات) محض هراء، ويجب ان يستبعد تماماً، وما يجب أن يبقى من الفلسفة هو سلسلة من القضايا القابلة للتمحيص أو الاختبار بواسطة مناهج العلوم الحقيقية القائمة على الملاحظة”.
تشارلز بيرس
وليام جيمس
الخطوة الثانية لتطور البراغماتية جاءت مع وليام جيمس الذي ولد في نيويورك، وتلقى العلم والفلسفة في المدارس الأمريكية، ثم سافر إلى فرنسا لمتابعة دراسته في علم النفس، وعاد إلى أمريكا ليصعد إلى ذروة الشهرة سريعا. وقد نال درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد عام 1870، وعمل بالتدريس فيها حتى وافته المنية سنة 1910.
وكان جيمس حامل لواء البراغماتية حتى مطلع القرن العشرين، وقد زاد على ما جاء به بيرس بأن كل عقيدة تؤدي إلى نتيجة مرضية أو حسنة تعتبر عقيدة حقيقية، فليست الفكرة مشروعاً للعمل فقط؛ وإنما العمل أو النتائج هو الدليل على صحة الفكرة، بحيث إنه لا يرى أهمية لحقائق الأشياء في ذاتها، لأننا نستطيع أن نفرض هذه الحقائق كيفما اتفق، وجميع الأحاسيس تقود العقل إلى التصرف والسلوك.
ومع أن الصورة الذهنية للأشياء قد لا تتفق مع حقيقة الأشياء ذاتها؛ لكن هذا لا يهم البراغماتيين، فهم لا يضيعون وقتهم في بحث الوجود المستقل للشيء بل النتائج المترتبة عليه، وكان جيمس يقول إن هدفه هو أن يتخذ الإنسان من أفكاره وآرائه ذرائع يستعين بها على حفظ بقائه أولاً، ثم على السير بالحياة نحو السمو والكمال ثانياً. وكان يرى أن من الغفلة أن يؤتى الإنسان قوة عقلية فيبددها في البحث عما وراء الطبيعة (الغيبيات) من قوى، فالعقل لم يخلق إلا ليكون أداة للحياة ووسيلة لحفظها وكمالها، ومن الأجدى له أن ينصرف إلى أداء واجبه في الحياة العملية، وحين تتضارب الأفكار وتتعارض يكون أحقها وأصدقها هو أنفعها وأجداها، كما يزعم.
وبالغ جيمس بتطبيق هذه الفلسفة على كل شيء بما في ذلك مسألة وجود الله، فمع أن كل النظريات الفلسفية تقول إن الله موجود إذا تبين منطقياً وجوده لكن جيمس كان يقول إن صواب هذه الفكرة يتوقف على صلاحيتها في حياتنا الراهنة وتصرفاتنا اليومية، فإذا أدت إلى نتائج مُرضية فهي صحيحة وصائبة، وبذلك يكون الله موجوداً حسب رأيه. وهذه مغالطة منطقية تدعى الاحتكام إلى النتيجة [انظر مقال “المغالطات المنطقية“]، وهي مغالطة تتكرر في كل مناقشات البراغماتية.
جون ديوي
أما الخطوة الثالثة لتطور البراغماتية فكانت على يد جون ديوي الذي عمل رئيسا لقسم الفلسفة في جامعة كولومبيا، حيث تجول في أنحاء أمريكا ودرس إمكانياتها وقواها وثقافتها المتنوعة، لذا يُعد واضع فلسفة القارة الأمريكية كلها، وقد توفي عام 1952 بعد أن رسخ دعائم البراغماتية في أمريكا، وساهم بنشرها في العالم.
تأثر ديوي بنظرية النشوء والارتقاء الداروينية، فسمّى نظريته في البراغماتية بـ”نظرية الأداة”، وانتقد النظرية العقلية القائمة على اعتبار العقل أداة للمعرفة، وأنه وحده الذي يستطيع الوصول إلى الحقائق في ذاتها والنفاذ من الظواهر الطبيعية إلى الحقائق التي تكمن وراءها، على عكس الحواس التي لا يمكنها الوصول إلا إلى الظاهر.
وكان بيرس وجيمس يقولان إن الدليل على حقيقة أي شيء هو أثره؛ لكنهما وافقا على أن العقل أداة للمعرفة. أما ديوي فزعم أن العقل نفسه أداة تطورت في مسيرة النشوء والارتقاء لكي تتيح للإنسان إعادة تشكيل بيئته، فهو ليس أداة للمعرفة بل أداة لتطوير الحياة، وليست وظيفته أن يعرف بل عليه فقط خدمة الحياة لكي تنمو وتستمر.
وبهذا أصبح العقل (ويقصد به الدماغ) كأي عضو آخر في الجسم، فإذا كانت وظيفة العين هي تحذير الإنسان من مواضع الخطر فتجنبه المهالك وليست وظيفتها نقل الألوان؛ فالعقل أيضاً أداة للحياة مثل العين. ومن هنا سميت هذه النظرية بنظرية “الأداة” أو “الآلية”.
وفي خطوة أكثر تطرفا، انبثقت عن البراغماتية مدرسة اسمها “البشرية”، وهي تزعم أن أي حق من وجهة نظر الإنسان يجب أن يخدم مصلحة هذا الإنسان دون غيره. فمقياس الحقائق ليس في التطابق بين الاصطلاح وبين الأشياء الخارجية؛ وإنما مقياس الحق هو في خدمة الجنس البشري، ودون التفات إلى ما يؤكده العقليون من أن الحكم على وجود الشيء صواب متى كانت الضرورة المنطقية تتطلب وجوده. وإذا أخذنا فكرة وجود الجنة كمثال، فإن هذا الحكم حق إذا كان العقل يرى بالمنطق أن وجودها ضروري، في حين لا تقبل البراغماتية ومشتقاتها بهذا الحكم، لأنها تزعم أنه إذا كان من فكرة الجنة نفع للبشرية فهي موجودة حقاً.
النظرة المختلفة للأشياء
تختلف البراغماتية عن النظريات الفلسفية الأخرى في نظرتها للحواس والعقل، ودورهما الأساسي في حياة الإنسان، كما تختلف في تعريفها للحقيقة والإيمان.
فحسب البراغماتية، ينحصر دور الحواس في كونها أدوات للحياة والعيش، فهي وسائل مباشرة لدفع الضرر وجلب المنفعة وليست أبواباً للمعرفة، فلم تكن وظيفة عين الإنسان (أثناء تطورها المزعوم) أن تنبهه إلى الحقيقة الموضوعية لطلوع الشمس بل أن توجهه للعمل في الصباح.
فرضية تطور الدماغ
أما العقل والتفكير فتطورا -حسب البراغماتية- مع تطور الحياة وفقا للنظرية الداروينية، وهذا التدرج الذي رافق نشأة العقل وعمله بدأ بتلقي مؤثرات البيئة عن طريق الحس، حتى وصل إلى إدراك العلاقات بين الأشياء، والتصرف وفق ما تمليه الحالة الراهنة، وهو لا يزال يتطور إلى ما لا نهاية. والإنسان بدأ بالتفكير بقصد البقاء على قيد الحياة وتحسين معيشته، لكنه لا يفكر إلا إذا كانت لديه مشكلة يحاول التغلب عليها، فالفكرة هي الخطوة التمهيدية للعمل.
والنتيجة التي تخلص إليها البراغماتية هي أن التعامل بالأفكار هدفه تحسين تصرفات الإنسان وجعلها أنجع للحياة، وحين يتبين لنا عدم نفعيتها نمتنع عن التفكير بها؛ أما إذا كان من المحتمل نجاحها فلا بأس حينها أن يشرع العقل في إخراج الفكرة إلى حيز الوجود، وبقدر ما تكشف الأفكار أنها فعالة في حل المشاكل فإنها تكون أوفر حظاً في البقاء.
أما الحقيقة في الفكر البراغماتي فلا تكون حقيقة إلا إذا ساهمت في إنجاح الحياة، وهي تتحقق بملائمة حياة الإنسان الداخلية مع الظروف الخارجية، ولا يهم أن تكون الصورة الذهنية التي رسمها العقل عن الأشياء الخارجية مطابقة لأصلها أو مشوهة ومحرفة، فالحقيقة العليا في الوجود هي الاحتفاظ بالبقاء أولاً، ثم الارتفاع بالحياة نحو الكمال.
وهكذا تتضح النظرة البراغماتية للحقيقة القائمة على الفائدة والمنفعة، فكل ما يحقق المنفعة والفائدة للإنسان هو “الحق”، وكل ما عداه “باطل”، بغض النظر عن كونه حقاً من الناحية العقلية.
وبعد أن كانت الحقيقة تتميز بثباتها مع مرور الزمن أصبحت لدى البراغماتيين عرضة للخطأ، فالظواهر التي تثبت حقيقتها اليوم قد تصبح غير نافعة في المستقبل فيعتبرها البراغماتيون خاطئة، ويبحثون عن حقيقة أخرى تظهر لاحقاً.
وإذا كانت مسألة الإيمان بالله هي أهم مسألة شغلت الفكر الإنساني منذ وجوده، فقد أعاد وليام جيمس بناءها كما أسلفنا على أساس المنفعة المحضة دون أي اعتبار للحقيقة، فرأى أن الإنسان يتمتع بـ”تجربة دينية” لأنه يشعر مِن حوله بحضور “تجربة أخرى” تواسيه وتقف معه ضد الشر، وتعمل في صالح الخير؛ لهذا يفوض أمره لها ويطلب منها العون. وهي تجربة مختلفة عن التجارب الحسية؛ لكنه يوجب تفسيرها وفق المنهج المتبع في التجربة الحسية، أي حسب المنفعة، فإن كانت تقدم لأنفسنا الطمأنينة والسعادة والسلام فهي صحيحة.
ولا تهتم البراغماتية بالجدال المتركز على تفسير حقيقة الكون والحياة وخالقهما، ولا تتساءل عما إذا كان العالم قد وُجد بالصدفة أم بتدبير قدير، فهي ترى أن العالم وُجد ولا تهم نشأته. ثم تنظر البراغماتية في الاحتمالين من زاوية المنفعة، فترى أن إنكار وجود إله مدبر للكون يجعل العالم مرهوناً بنشاط قوى عمياء، مما يضر بالاستقرار النفسي؛ أما الاحتمال الثاني فيضع زمام الأمور بين يدي قوة عاقلة حكيمة ذات أهداف سامية، وهذا يزودنا باليقين والطمأنينة والأمل.
ويدافع جيمس في كتابه “إرادة الاعتقاد” عن حق الإنسان في اعتقاد ما يراه مفيداً له في حياته، ويقرر أن في وسع الناس أن يؤمنوا بأمور لأسباب عاطفية رغم انتفاء الدليل العقلي عليها، فهو لم يقصُر بحثه على مسألة وجود الله بل شمل كل الأمور التي تفتقر إلى دليل واضح برأيه، ومنها مسألة خلود النفس التي دافع عن الاعتقاد بها لما في ذلك من فوائد عملية.
أثر البراغماتية في الحياة
تدخلت البراغماتية في جميع مناحي الحياة في أمريكا، ووجهت قواها إلى تكوين الأهداف الإنسانية وتنسيقها والنهوض بالحياة وفق منهجها ونظرتها الخاصة. ومن أهم المجالات التي تركت بصمتها عليها نذكر الأمثلة الآتية:
1- التربية والتعليم:
برع في تطوير هذا المجال جون ديوي، الذي ذاع صيته كعالم تربية أكثر من شهرته كفيلسوف، حيث عرض أفكاره في كتب أسماها “عقيدتي التربوية” و” المدرسة والمجتمع” و”الديمقراطية والتربية”.
وإذا كان سبنسر قد طالب بزيادة تدريس العلوم على حساب الآداب في برامج التعليم، فإن ديوي تبنى تلك المقولة وأضاف عليها وجوب تدريس العلوم بطريقة عملية تأتي عن طريق الممارسة الحقيقية النافعة للحرف والمهن، لا عن طريق تعليم الكتب.
وهاجم ديوي الاعتقاد السائد في المدارس الأمريكية أوائل القرن العشرين بأن الطفل كائن سلبي، وأن مهمة التربية والتعليم هي فرض المعارف على ذهنه، كما هاجم أيضا التوجه المضاد في أوربا والقائم على ترك الطفل يختار بنفسه ما يهوى من معلومات ودراسات.
ورأى ديوي أن النظرية الأولى أفرطت في الاستهانة بذكاء الطفل الفطري، وأن الثانية غفلت عن أن الطفل لا يزال غير ناضج، ونصح بأن تتولى التربية مهمة إنضاج الطفل بناء على ذكائه ومهاراته، ووضع شعاراً لمذهبه يقول “تعلم بأن تعمل”.
وبما أن المجتمع المعاصر قائم على الصناعة، فقد طالب بأن تكون المدارس أشبه بالمصنع الصغير، بحيث تقدم التعليم بطريقة عملية وتدرس الفنون والنظم اللازمة في الحياة العملية، كما طالب ديوي بألا يكون التعليم مجرد إعداد للنضوج بل خطة للنهوض المستمر في الحياة، ولعل هذه الفلسفة هي التي تقف وراء مصطلح “التعليم المستمر” في أمريكا، والذي نجده متجسدا في الدورات التدريبية التي يتلقاها الناس بمختلف تخصصاتهم مدى الحياة.
2- الاقتصاد:
ساهمت البراغماتية النفعية في ترسيخ النظام الرأسمالي بقوة، حيث يحرص كلاهما على تحقيق كل ما من شأنه جلب المنفعة الشخصية، وباستخدام شتى الأساليب المشروعة وغير المشروعة، وفق المبدأ الماكيافيلي “الغاية تبرر الوسيلة”.
الانفجار الذي خلفه إلقاء قنبلة نووية على مدينة ناغازاكي اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945
3- السياسة:
تقوم البراغماتية على جعل “المحافظة على البقاء” الغاية التي يسعى إليها الإنسان بشتى الوسائل، وهذه الفكرة نفسها هي المحرك الأساسي لكثير من الصراعات والحروب التي خاضتها القوى الكبرى في العصر الحديث بعد تبنيها للمبادئ الماكيافيلية والبراغماتية.
وقد أدت العلاقة الوثيقة بين الرأسمالية والبراغماتية لاحتلال الشعوب تحت مسمى “الاستعمار”، وذلك لنهب ثرواتها وتسخيرها اقتصادياً وثقافياً، وكذلك لتحقيق المصالح العقائدية المدفوعة بأساطير توراتية لغزو العالم الإسلامي والسيطرة على “أرض الميعاد” في فلسطين “انظر مقال “المسيحية الصهيونية“].
وتناصر البراغماتية الديمقراطية لأنها ترى أن هدف النظام السياسي مساعدة الفرد على التطور والنهوض بنفسه تطوراً تاماً، وترى أنه لا يمكن الوصول إلى ذلك إلا إذا اشترك كل فرد -على قدر وسعه- في تقرير سياسة جماعته ومصيرها، إلا أنها تخضع للمعيار البراغماتي ذاته الذي يجعل الديمقراطية حقاً للشعوب الغربية (البيضاء المسيحية)، وحراماً على شعوب أخرى، ووفقاً لحسابات المنفعة.
انتقادات
توجه إلى البراغماتية انتقادات عديدة، فهي توصف غالباً بأنها فلسفة انتهازية لا تلتزم بمبدأ معين إلا المنفعة، ومن أهم المساوئ التي تؤخذ عليها ما يلي:
1- تؤدي البراغماتية إلى التنافر بين الناس وعدم انسجامهم في سلك المجتمع، لأن كل فرد سينتقي لنفسه الرأي الذي ينفعه بغض النظر عما يتخذ سواه من آراء، فهي فلسفة تعتمد على مزاج الإنسان ومنفعته الشخصية.
2- تبالغ البراغماتية في احترام حرية الإنسان الفردية وتقديمها على القيم الدينية والأخلاقية، مما أدى إلى انتشار الإباحية والرذيلة.
4- تفتقر البراغماتية إلى الموضوعية في بحثها عن الحقيقة، لأنها تخضعها لعامل المنفعة الشخصية. فتطبيقها في مجال العلم يعني أن القضايا العلمية لا تصبح حقيقية إلا بكونها مفيدة عملياً، وهذا ينسف الحقائق العلمية من أساسها ويناقض الموقف العلمي تماماً.
5- لا تستثني البراغماتية في سبيل تحصيل المنفعة أي وسيلة مهما كانت قذرة، ونرى مصداق ذلك باستعراض تاريخ السياسة والاقتصاد ومنهج الحياة المتبع في الحضارة الغربية عامة والأمريكية خاصة.
7- أكثر ما يثير الانتباه في البراغماتية هو نظريتها المتعلقة بالإيمان والدين، لافتقارها إلى أبسط القواعد العقلية البديهية، فالعقل السليم يرفض الالتزام بعقيدة لا يمتلك دليلاً على صحتها، كما أنه يرفض تجاهل عقيدة تدل كل البراهين على صدقها حتى لو كانت نتائجها سيئة على الفرد في هذه الحياة الدنيا، فقد يكون الإيمان بالله محفوفا بالمخاطر لتسلط الطغاة على المؤمنين (كما في عصر فرعون مثلا) لكن هذا لا يعني أن الإيمان بالله خاطئ وأن العبودية لفرعون حق، ولو أن البراغماتية اقتصرت على القول إن الإيمان غير نافع في المرحلة الحالية لكان هذا مقبولا لكنها تقول إنه باطل وغير حقيقي، فهي تخلط بين المنفعة والحقيقة نفسها.
8- اعتبار العقل أداة للبقاء وليس أداة للمعرفة هو أمر يحطٌّ من قدر العقل الذي يتميز به الإنسان، فالحيوانات يمكنها الصراع بفضل غريزة البقاء التي يمتلكها الإنسان أيضاً؛ إلا أنه يمتلك فوق ذلك العقل الذي يوصله إلى المعرفة والحقيقة، لاسيما الحقيقة الأسمى وهي وجود الله. لكن البراغماتية تفقد الثقة بقدرات العقل وتعتبر الإنسان مكرها على العيش في عالم لاعقلاني، وعلى أنه لن يدرك الحقيقة الموضوعية، مما يستدعي النظر إلى مختلف النظريات العلمية والأفكار الاجتماعية والقيم الأخلاقية نظرةً أداتيةً، أي بمقدار منفعتها في تحقيق أهدافه، وهذا يفقد الإنسان جوهر تميزه عن الحيوانات.
9- تتميز البراغماتية بأنها فلسفة لاأخلاقية رغم تقيدها ببعض الفضائل كالأمانة والانضباط والدقة ومراعاة المواعيد، فهذه الفضائل ليست مقصودة لذاتها؛ بل تفيد البراغماتي في تعامله مع الغير من باب المنفعة فقط.
10- قصر اهتمام الإنسان على تحصيل منفعته الخاصة يدفعه إلى مسايرة الأحداث في سبيل البقاء، وهذا يؤدي للتفريط بكثير من الثوابت التي لا تعترف البراغماتية بها أصلاً ، فنراه يضحي بكرامته وإنسانيته، وقد يفقد الإحساس بالغاية من وجوده واستمرار حياته.
11- ترتكز البراغماتية في جزء كبير منها على النظرية الداروينية التطورية، وهي نظرية لم تثبت علميا بعد، فالاعتقاد بتطور الجسد البشري عبر ملايين السنين هو الأساس النظري لتبرير المواقف البراغماتية من العقل والحواس، لذا فإن نقض الداروينية يعد طريقا مختصرا لنسف البراغماتية من جذورها.
مزايا
مع كل ما سبق، لا تخلو البراغماتية من بعض المزايا التي تحسب لها، حيث أدت خدمات مختلفة نذكر منها ما يلي:
1- أنزلت البراغماتية الأبحاث الفلسفية إلى مستوى تفكير الرجل العادي، بعد أن كانت وقفاً على شريحة النخبة.
2- أدت إلى اتصال وثيق بين العمل والفكر، كما بينت أثر التفكير في النظم الاجتماعية للإنسان، وأكدت على ضرورة أن تؤدي الفلسفة خدمة لحياة الإنسان الاجتماعية من سياسة واقتصاد وتربية وتعليم.
3- قلبت البراغماتية نظم التعليم رأساً على عقب في أنحاء العالم، ووضحت الغاية من التعليم، فهي ترى أن كل نظام تعليمي نظري لا يؤثر في الحياة الراهنة هو نظام عقيم.
4- أدت إلى تطور علمي غير مسبوق؛ كنتيجة حتمية لعشقها للتجربة والتطبيق ولربط الفكر بالعمل.
الإسلام والبراغماتية
إذا نظرنا إلى البراغماتية بمنظور إسلامي فسنجد خللاً واضحاً في رؤيتها يدفع إلى رفض نظرتها القائمة على النفعية، فهي تغض الطرف عما يمكن أن يجلبه الجري اللاهث وراء المنفعة من كوارث على البشرية، وتتناقض تماما مع أبسط بديهيات الإيمان. ويمكن توضيح معالم الخلاف معها من خلال النقاط التالية:
1- حسب الإسلام، لم يترك الخالق عقل الإنسان يتخبط في متاهات الفكر بحثاً عن حقيقة وجود الله؛ بل بيَّنها له بالأدلة العقلية والحسية عن طريق إرسال الرسل، وتأييدهم بالوحي والمعجزات والعقل والمشاهدات. وهذه الحقيقة ليست نسبية بل ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والمصالح.
2- الحق والخير هما ما يحدده الخالق، فالأمر ليس رهناً بمنفعة مؤقتة، بل يستمدان شرعيتهما من معرفة الإنسان بالإله ومن الإيمان بأنه خالق الكون والإنسان والأعلم بما فيه صلاحه، مع التأكيد على عدم تعارض هذا الحق مع العقل السليم، ولا مع ما فيه مصلحة الإنسان وسعادته.
3- يقر الإسلام بأن حصول المنفعة والنجاح في الحياة مطلوب، وأن السعي والتنافس لأجلهما مرغوب لتحقيق معنى استخلاف الإنسان في الأرض؛ ولكن ينبغي أن يتخذ هذا السعي وسائل وذرائع تلتزم بأوامر الشرع وآدابه في سبيل الوصول إلى الغايات النبيلة. ومع أن الإسلام يرتب تشريعاته وفقا للمقاصد وترتيبها من حيث الحاجة والضرورة وتقديم المصلحة العامة على الخاصة، فإنه لا يقبل بالمبدأ الماكيافيلي التبريري.
4- يتميز المجتمع الإسلامي بالإيثار وحب الخير للآخرين، فالمؤمن لا يتم إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وقد يضحي بمنافعه الشخصية في سبيل مصلحة أمته وسعادتها؛ بل يحث الإسلام على التضحية بالنفس والمال أيضاً لبلوغ أعلى الدرجات، وهذا أمر تفتقده المجتمعات البراغماتية، فحتى لو حثت على التضحية فإنها تضعها في إطار المنفعة لما تقدمه أعمال الخير من شعور بالراحة والسعادة، ولما تنعكس به من مصلحة على الفرد بتحسين المجتمع الذي يعيش فيه.
5- لا يُقبل من المسلم الإيمان بالله إن لم يكن عن اقتناع كامل، فالمطلوب هو إيمان يهيمن على القلب والعقل والجوارح، ولا ينفع فيه التقليد أو الاعتماد على المنفعة فقط، فقد يضحي المؤمن بأغلى ما لديه في سبيل خالقه، وهذه عقيدة مخالفة تماماً للإيمان البراغماتي الذي يدعو الإنسان إلى ترك عقيدته في حال تعارضها مع منفعته الشخصية.
أهم المراجع
يعقوب فام، مذهب الذرائع (البراغماتزم) النظرية الأمريكية في المنفعة، مركز دراسات المستقبل، حمص.
بيتر كاز، تاريخ الفلسفة في أمريكا خلال 200 عام، ترجمة حسني نصار، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1980.
هربرت شنايدر، تاريخ الفلسفة الأمريكية، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، القاهرة، 1964.
ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت، 1985.
عبد الرحمن البدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1984.
أحمد أمين وزكي نجيب محمود، قصة الفلسفة الحديثة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1983.
جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982.
سنتعرض في هذا المقال لتيار فكري قديم للغاية، حيث لا يُعرف بالضبط تاريخ نشأته، وهو أشبه بإطار فكري عام تنبثق من داخله عشرات الأديان والمذاهب والفلسفات والتقليعات التي ما زالت تتوالد حتى اليوم، فهو ليس دينا أو فلسفة واحدة بل تيار يؤثر على أتباع أديان ومذاهب متنوعة فيعاد من خلاله تأويل تلك الأديان لتظهر في إطار جديد.
تيار عام
مصطلح الغنوصية (Gnosticism) مشتق من كلمة يونانية تعني المعرفة أو العرفان، ويُقصد بها المعرفة الكشفية الإشراقية (الحدسية) التي يكتشف صاحبها المعارف العليا مباشرة بالحدس دون استدلال وتفكير عقلي، ودون حاجة إلى الوحي [انظر مقال مصادر المعرفة]. لذا فهي فلسفة تضع نفسها موضع الدين من حيث اهتمامها بالإجابة على الأسئلة الثلاثة الأساسية للأديان، وهي: المبدأ (من أين جاء العالم؟)، الغاية (لماذا يوجد العالم؟)، والمصير (إلى أين نحن ذاهبون؟)، حيث يزعم أصحابها أنهم يتوصلون عبرها إلى معرفة الحقيقة واكتشاف غاية الحياة وطريق الخلاص، وذلك عبر الطرق السرية الباطنية.
يزعم الغنوصيون أن عقيدتهم هي أقدم العقائد البشرية، وأنها وصلت إليهم مباشرة من كائن خفي يسمونه “المطلق”، وهو ليس بالضرورة إلهاً خالقاً منزهاً كما يعتقد أتباع الديانات التوحيدية، بل هو كائن غامض قد تختلف تفسيراتهم وتسمياتهم له، فقد يسمونه “الكلي” أو “الطاو” أو “الطاقة الكونية” أو “القوة العظمى”.
أما مصطلح “الباطنية” فيعود لغويا إلى الباطن، أي إلى ما يخفى من الشيء، فهو الجانب المقابل للظاهر، ويقال في اللغة “بطنت الأمر” أي عرفت باطنه، أما كلمة “الباطني” فقد تطلق على ثلاثة أشخاص، الأول هو الشخص الذي يكتم اعتقاده ولا يظهره، والثاني هو المختص بمعرفة أسرار الأشياء، أما الثالث فهو الذي يعتقد أن لكل شيء ظاهر وباطن، أي أن لكل نص تأويل خفي، ولكل كلمة معنى سري.
يعد كتاب الزوهار من أبرز الكتب الباطنية المعتمدة لدى القبالاه اليهودية
وعندما نتحدث عن العقائد والفلسفة، فالباطنية هي تيار فكري يعتقد أصحابه أن هناك علوماً خفية تختص بها النخبة من علمائهم الذين يتلقون علمهم بالكشف والإشراق، أي بالحدس وليس الوحي، ونجد لهذا التيار انتشارا داخل معظم الأديان، فهو موجود منذ القدم لدى أتباع الأديان الشرقية كالهندوسية والبوذية والطاوية حيث نجد أثره واضحا في كتاب “الفيدا” المقدس، ويظهر أيضا في اليهودية تحت اسم القبالاه التي تزعم أن للتوراة معنى خفيا يُستخرج من أسرار الحروف والأرقام، حيث يعد كتاب “الزوهار” من أبرز الكتب الباطنية، كما تغلغلت الغنوصية في المسيحية المبكرة على يد مارقيون في أواخر القرن الميلادي الأول، أما في الإسلام فنشأت طوائف باطنية كثيرة داخل المذهب الشيعي على يد الإسماعيليين والدروز، وما زال الأثر الباطني واضحا لدى الشيعة في علم الجفر، بينما نجد بين ظهراني المسلمين السنة مذاهب متعددة من التصوف الفلسفي المتطرف التي تؤمن بأفكار مشابهة، ولا سيما لدى محيي الدين بن عربي وعبد الحق بن سبعين. [أصول الفلسفة الإشراقية، ص119]
يقول الإمام أبو حامد الغزالي (توفي عام 505هـ) في كتابه فضائح الباطنية “إن الباطنية إنما لقبوا بها لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورا جلية، وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة” [فضائح الباطنية، ص11].
إذن فالباطنية والغنوصية يدلان على معتقد واحد، فالباطنيون يتشابهون في المعتقد الأساسي مهما كان دينهم الذي ينتمون إليه، ويؤمنون بأن المعرفة الباطنية “الغنوص” هي الغاية وأن الوصول إليها يتم بالإشراق (الحدس)، وذلك عبر التحرر من الماديات حتى تتجلى على العقل الحقيقة المطلقة. ويزعمون أن ذلك يحصل لكل من يسلك طريق العرفان، وأنه ليس بحاجة إلى الوحي الذي يأتي به الأنبياء، ويتم ذلك بالمجاهدات والرياضات الروحية، وبتعلم علوم خاصة لكشف أسرار الحروف والأرقام التي يتم بها كشف التأويل الباطني لنصوص الكتب المقدسة واكتشاف الحكمة السرية المخفية فيها، كما يتم ذلك بتوارث التعاليم والتقاليد التي توصل إليها الحكماء العارفين القدماء ممن توصلوا إلى بعض جوانب الحقيقة باجتهادهم وكشفهم وإشراقهم، فهم يقدسون ما يتركه هؤلاء الحكماء من تأويلات، ويعتبرون أنها تحتوي أيضا بذاتها أسرارا تحتاج إلى الكشف، وأن مؤلفيها لم يكشفوا ما فيها من أسرار لتبقى خفية عن عامة الناس.
تزعم المذاهب الغنوصية أن الوجود الإنساني هو نوع من الموت الروحي، فالشخص الذي يحقق الكشف والاستنارة ينتقل إلى عالم جديد. والأرواح تتناسخ من جسد إلى آخر بحثا عن رحلة خلاصها، فالموت بوابة قد تؤدي إلى القبر أو إلى دورة تناسخ جديدة، وليس هناك بعث للأجساد في القيامة كما تبشّر الأديان السماوية، بل تُبعث الأرواح فقط وتتخلص من الأجساد، فالبقاء في عالم المادة هو أكبر الخطايا، أما التوبة والخلاص والفلاح فلا تتحقق إلا بخلاص الروح من الجسد. [الغنوصية في الإسلام، ص7-11].
كما ترى الغنوصية أن مبدأ الأمر والنهي في القضايا الأخلاقية لدى الأديان السماوية لا يؤدي إلى نشوء أخلاق حقيقية، فالسارق يتوقف عن السرقة كي لا يتعرض بنفسه للسرقة من سارق آخر أو يتعرض للعقوبة، لذا يقترحون ربط الأخلاق بالخير الكامن في النفس الإنسانية بدلا من الخوف. وقد تأثر بهذا المفهوم بعض أتباع الأديان السماوية، ومنهم بعض المتصوفة في الإسلام الذين طرحوا مفهوم الحب الإلهي، بمعنى أن يعبد المسلم الله ويلتزم بأوامره لأنه يحب الله ويتعلق قلبه به، وليس طمعا في جنته أو خوفا من عذابه، لكن علماء مسلمين آخرين يرون أن هذه الدرجة المثالية من الحب ليست ممكنة عمليا.
عصا هرمس كانت رمزا للهرمسية في روما ثم أصبحت رمزا للطب في العصر الحديث
الهرمسية تعرضنا في مقال “الوثنية” بالتفصيل إلى التداخل الذي حصل بين قصة النبي إدريس وشخصيات عدة تحمل اسم هرمس، حيث يبدو أن الكتب السماوية التي أنزلت على النبي قد تعرضت لتحريف وتحوير وإضافات كبيرة، ولعل أهم المؤلفات التي تُنسب إليه هي “متون هرمس” المؤلفة من 18 فصلا، وقد تُرجمت هذه المتون إلى الإنجليزية في العصر الحديث نقلا عن اليونانية، والتي ربما تكون قد تُرجمت بدورها عن المصرية القديمة، أو كُتبت على يد اليونان ما بين القرنين الثاني والثالث الميلادية.
صيغت المتون على هيئة حوار يجريه الحكيم المصري تحوت أو اليوناني هرمس مع تلاميذه. ومع أنها تتضمن عقيدة التوحيد وعبادة الإله الواحد ففيها أيضا أصول الفكر الغنوصي الذي انتقل من الهرمسية إلى عدد لا يحصى من الفلسفات والأديان لاحقا.
نجد في متون هرمس شرحا واضحا لعقيدة الهرمسية في حقيقة الإله والشيطان، حيث تزعم أن هناك إلها خالقا يتجسد في الشمس، وأن الشياطين مخلوقات شريرة إلا أنها هي التي تحكم البشر وكأنها واسطة بين الإله والبشر، لأنها تستوطن الأفلاك والكواكب. وفي أحد النصوص يسمي هرمس الشياطين بالملائكة الشريرة، فهي بالأصل ملائكة غضب عليها الإله وسقطت من السماء، وهي أشبه ما تكون بأنصاف آلهة، تتحكم بالقدر ولا تخضع له، ومع أن الإله (الشمس) هو الذي أوجدها إلا أنه غير قادر على دفع ضررها أو التحكم بالبشر دون المرور بالشياطين.
وفيما يلي نص مترجم من متون هرمس يوضح ذلك: إن العالم المعقول برتبط بالله، والعالم المحسوس بالعالم المعقول، وتقود الشمس عبر هذين العالمين نفحة الله، أي الخلق. حولها الأفلاك الثمانية التي ترتبط بها، فلك النجوم الثابتة. والأفلاك الستة للكواكب والفلك الذي يحيط بالأرض. الشياطين مرتبطة بهذه الأفلاك والبشر بالشياطين، وهكذا كل الكائنات ترتبط بالله، الذي هو الأب الشمولي.
الخالق هو الشمس، والعالم هو أداة الخلق. الجوهر المعقول يوجه السماء، والسماء توجه الآلهة، وتحتها صنفت الشياطين التي تحكم البشر.
تلك هي تراتبية الآلهة والشياطين، وذلك هو العمل الذي يكمله الله بواسطتها ومن أجله ذاته.
[هرمس المثلث العظمة، ص254]
نسخة من اللوح الزمردي تعود للقرن السابع عشر
ومع توسع حجم الأساطير وتراكمها، يبدو أن الكثير من الكتب السحرية والغنوصية والعلمية صارت تُنسب إلى هرمس، حتى قال الفيلسوف الأفلاطوني إيامبليكوس إن هرمس ألّف عشرين ألف كتاب، أما المؤرخ المصري مانيثو الذي عاش في عصر البطالمة فقال إن هذا العدد وصل إلى أكثر من ستة وثلاثين ألف كتاب. وقد نسبوا إليه كتبا في الموسيقى والكيمياء والطب والفلسفة والجغرافيا والهندسة والسحر وفي مختلف مجالات المعرفة التي كانت متداولة.
أما كليمندس الإسكندري فينسب إلى هرمس 42 كتابا فقط، ويُعتقد أن معظمها فُقدت أثناء حريق مكتبة الإسكندرية الكبرى عام 30 قبل الميلاد وخلال حملة المسيحيين الأوائل على بقايا الوثنية، لكن هناك اعتقادا واسعا بأن ما بقي من كُتبه قد تم حفظه لدى الجمعيات السرية، وهي التي حافظت على وجودها عبر فرسان الهيكل وجمعية الصليب الوردي ثم الماسونية وجمعية الحكمة الإلهية و”المتنورون”.
لوحة تخيلية للوحة الزمردية رسمها هينرش خونراث عام 1606
ومن الكتب التي مازالت تُنسب إلى هرمس نص موجز يدعى اللوحة الزمردية، لكن المؤلف الماسوني مانلي هول يقول إنه ظهر للمرة الأولى باللغة العربية ما بين القرنين السادس والثامن الميلاديين وإن كاتبه نسبه إلى هرمس “إدريس”. وعندما بدأ الأوروبيون بالاهتمام بالخيمياء اعتبروا هذا النص مرجعهم الأساسي، ومن أهم المبادئ الواردة فيه “الذي في الأرض يساوي ذاك الذي في السماء”، ما يعني تأليه الإنسان وحلول الإله فيه، وهو معتقد تقوم عليه فلسفة القبالاه اليهودية والجمعيات السرية. [THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, 114]
في القرن التاسع عشر رسم الساحر الفرنسي إليفاس ليفي الشيطان بافوميت معبود الحركات السرية وهو يشير للأعلى والأسفل
في عام 2014 أنتجت هوليود فيلم رعب بعنوان “كما هو فوق كذلك هو تحت” وتجاوزت إيراداته 40 مليون دولار
“كما هو فوق، كذلك هو تحت”
هذه الجملة ترجمة حرفية للجملة المتداولة بكثافة في الغرب As Above, So Below، وقد أصبحت متداولة أيضا في مقررات التنمية البشرية وتطوير الذات بالدول العربية، حيث يتم من خلالها إقناع المتدرب بأن الإنسان مسؤول عن قدره، فكما تكون تصرفاته في الأرض يُكتب قدَره في السماء، وهذا منطق يتعارض مع الإسلام والأديان السماوية، فالقدَر ليس تابعا دائما لتصرفات الإنسان وقد يكون خارجا عن إرادته.
يسمى المتن الثاني من متون هرمس باسم بويماندريس Poimandres، ويطلق عليه أيضا اسم “سفر الرؤيا”، وقد تعرضنا له في مقال “الوثنية“، لكن ما يهمنا منه هنا هو أنه يعد من أوائل المراجع التي وضعت أصول الرؤية الغنوصية في خلق العالم، فالخالق عقل يفيض عنه النور، وعندما اندمجت الأرض مع السماء خرج منهما سبعة إنسيين تجتمع فيهم الذكورة والأنوثة، وبطريقة ما تم توالد البشر عن هؤلاء بعد فصل الجنسين، ويمكن للباحث أن يكتشف أصول القبالاه أيضا في هذه النظرية لخلق العالم والإنسان، كما نجد فيها فكرة التقمص وتناسخ الأرواح التي تبنتها البراهمية والهندوسية.
هناك تداخل كبير بين الوثنية والهرمسية والجمعيات السرية، إلى درجة يصعب فيها التمييز بين هذه المشارب الثلاث، فالديانات الوثنية الأولى كانت تتضمن في قلب كهنوتها منظومات سرية وتفسيرات باطنية غامضة، وكانت تنشأ من داخلها باستمرار أديان جديدة تعمل على إعادة تأويل الأساطير الكبرى في روايات باطنية أخرى، ولا يشذ عن هذا التقليد أي دين وثني قديم سواء في بلاد الرافدين أو مصر أو اليونان أو الهند أو الصين، وحتى الأديان الأفريقية والأمريكية.
وما بقي اليوم من آثار الهرمسية لم تعد له صلة بالوحي والنبوة، حيث يرى مؤرخون أن “الحكمة الهرمسية” تتضمن ثلاثة فروع، أولها الخيمياء التي تخلط بين الجانب الروحي-الخرافي وبين الكيمياء التجريبية، فتهتم مثلا بتجارب مزعومة لتحويل المواد الرخيصة إلى الذهب، والفرع الثاني هو التنجيم الذي يخلط بدوره بين الشعوذة والسحر وبين علم الفلك، ويؤمن أصحابه بأن الكواكب كائنات مقدسة وأن حركتها تؤثر على الأرض والإنسان، أما الفرع الثالث فهو السيمياء الذي يعد ضربا من ضروب السحر للتواصل مع الشياطين، مع أن أصحابه يزعمون التواصل مع الآلهة. [THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, 144]
ويُعتقد أن الهرمسية تقدس شكل المثلث بسبب هذا التقسيم الثلاثي، وهو الأمر الذي انتقل لاحقا إلى الجمعيات السرية المتأثرة بالهرمسية وصولا إلى الماسونية وجمعية المتنورين التي تتخذ المثلث شعارا لها.
نظرية الفيض هناك تياران فلسفيان كبيران لمحاولة تفسير الصلة بين الإله والعالم (الكون)، أي بين الخالق والمخلوقات، ونتج عن كل منهما نظريات ومذاهب فرعية. وباختصار شديد يرى أصحاب التيار الأول أن هناك صلة سببية بين الإله والعالم مثل ارتباط المسبب بسببه والمعلول بعلته، أي أن العالم حادث (مخلوق) والإله هو الذي أحدثه (خلقه) من عدم، وهذا ما يعتقد به معظم المؤمنين بالأديان السماوية، مع بعض الاختلافات الصغيرة.
الفيلسوف اليوناني أفلوطين
أما فلاسفة التيار الثاني فيعتقدون أن هناك مشكلة في الارتباط السببي بين الإله والعالم، لذا يفترضون أن الكون قديم (أزلي بلا بداية) مع أنه مخلوق، ويضعون لتبرير هذا التناقض افتراضات مختلفة، وقد تبنّى هذه النظرية بعض فلاسفة اليونان، وتبعهم في ذلك فلاسفة منتسبون للإسلام مثل الفارابي وابن سينا.
وضمن هذا التيار ظهرت نظرية الفيض على يد الفيلسوف اليوناني أفلوطين الذي عاش في الإسكندرية بالقرن الثالث الميلادي ويُنسب إليه مذهب “الأفلاطونية الجديدة”، وقد استقى آراءه من خليط يوناني وبوذي ويهودي ومسيحي، ثم تأثر به الكثير من الباطنيين في أديان مختلفة. [من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، ص102]
اضطر أتباع هذا المذهب إلى القول بآراء غير منطقية وغير ضرورية لأنهم سلموا من البداية بأنه لا ينبغي أن يكون هناك ارتباط سببي بين الخالق والكون، فابتكروا أيضا مبادئ فلسفية يرى معظم الفلاسفة أنها باطلة، مثل اعتقادهم بأن الكثرة لا يمكن أن تصدر عن الواحد من جهة واحدة وإلا صار الواحد كثيراً، أي أنه لا يمكن للخالق الواحد أن يخلق مخلوقات متعددة، وأن الشيء لا يوجد من غير جنسه، وأن الشيء المتغير (الكون) لا يصدر مباشرة عن غير المتغير (الإله) بل لا بد من واسطة. وبالنتيجة اضطر هؤلاء إلى القول إن الإله الواحد يصدر عنه مباشرة شيء واحد سموه “العقل الأول”، ثم صدر عن العقل الأول عقل ثان، وصدر عن الثاني عقل ثالث، وهكذا إلى العقل العاشر (واهب الصور) والذي قالوا إنه صدر عنه العالم السفلي وهو الكون المادي الذي نعيش فيه. وبمقارنة بسيطة يمكن أن نرى أثر الهرمسية -التي تعبد الشمس وتقدس الكواكب- في هذه الفلسفة.
انتقلت نظرية الفيض كما هي من أفلوطين إلى الفارابي وابن سينا بالرغم من كونهما مسلمين، حيث افترضا أنهما تمكنا بهذه النظرية من نفي النقص عن الله، وأنهما جعلا بين الإله والكون مسافة تتخللها عشرة “عقول” خيالية وهمية. وللمزيد من التنزيه -الذي تخيلاه دون ضرورة- قالوا إن الإله علِم بذاته وعلم أنه مبدأ الخير في الوجود ففاض عنه العقل الأول، وكأن أصحاب هذه النظرية يتخيلون أنه من النقص أن يقصد الله تعالى خلق العالم وأن يقول له كن فيكون، وهذا الافتراض لا داعي ولا مبرر له. وقد رد الإمام الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة” على هذه الافتراضات الخيالية فلسفيا وأثبت أن المبادئ التي استندت إليها لم تكن ضرورية أصلا.
علاوة على ما سبق، تأثر أصحاب هذه النظرية بالغنوصية، وقالوا إنه لا يمكن الوصول إلى الألوهية بالعقل، لأنه قاصر عن ذلك، وإن معرفة الإله تتم عن طريق العرفان، وذلك بعد القضاء على الغرائز والأحاسيس المادية، ثم الوصول إلى ما أسموه حالة الفناء في الواحد (فقدان الإحساس بالذات)، وهي حالة من الوجد والنشوة والذهول، وتكاد تتطابق تماما مع حالتي “النيرفانا” لدى البوذية و”الموكشا” لدى الهندوسية.
أهم المراجع
أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، تحقيق عبد الرحمن بدوي، وزارة الثقافة المصرية، 1964.
أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة.
لويس مينار، هرمس المثلث العظمة أو النبي إدريس: ترجمة كاملة للكتب الهرمسية مع دراسة عن أصل هذه الكتب، ترجمة عبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق، 1998.
عبد الرحمن مرحبا، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات، بيروت، باريس، 1981.
محمد أبو ريان، أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السهروردي، مكتبة الأنجلو المصرية، 1959.
هاينس هالم،الغنوصية في الإسلام، ترجمة رائد الباش، دار الجمل، ألمانيا، 2003.
هدى درويش، نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهودية والإسلام، دار السلام، القاهرة، 2009.
فراس سواح، الرحمن والشيطان، دار علاء الدين، دمشق، 2000.
خزعل الماجدي، كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد، المركز الثقافي العربي، 2014.
عبد الله مصطفى نومسوك، البوذية.. تاريخها وعقائدها وعلاقة الصوفية بها، مكتبة أضواء السلف، الرياض.
Manly P. Hall, THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, H.S. CROCKER COMPANY INCORPORATED, SAN FRANCISCO, 1928.
بعد أن تبين لنا في المقالين السابقين صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق نسبة القرآن الذي جاء به إلى الله تعالى، نواصل بحثنا في هذا المقال للتحقق من إرث هذا النبي القولي والعملي، والذي يشكل بدوره جزءا مهما من الوحي نفسه، ومصدرا أساسيا من مصادر التشريع.
مفهوم السنة السنة النبوية تشكل مصلطحا من أهم المصطلحات التي يدور عليها الدين ويبنى عليها الفقه والأحكام الشرعية، وبنظرة بسيطة إلى أي كتاب من الكتب الدينية نرى أنه مليء بتعابير “سنة الرسول” و”سنة النبي”، أو أن هذا الأمر” مسنون”، وما شاكل ذلك من العبارات والمصطلحات.
ولو بدأنا بتعريف السنة لغويا لرأينا أنها تعني “الطريقة والمنهج”، سواء أكان ممدوحا أو مذموما، وقد ورد تعبير السنة في القرآن الكريم قريبا من هذا المعنى: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} [الفتح: 23] وسياق الآية يدل على الشيء المتَّبع والمطبق، أي أن السنة هي الشيء الذي استمر العمل على منواله.
أما تعريف السنة اصطلاحا، أي المُعتمد في كتب الفقه والأصول والحديث، فهناك خلاف حوله، لكن هذا الاختلاف راجع إلى زاوية النظر، حيث نظر علماء كل فرع من فروع العلم إلى جانب معين في السنة وعرّفوها بناء عليه.
فأهل الحديث يعرفون السنة بأنها كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، والمقصود بالتقرير أن يُفعل أمام النبي أمر أو أن يبلغه شيء فيسكت ولايعلق، فسكوته دليل على رضاه وموافقته إذ لو كان حراما لوجب عليه التنبيه. فالمحدِّثون نظروا إلى كون السنة صادرة عن النبي عليه الصلاة والسلام وهي تمثل كل تصرفاته القولية والفعلية والتقريرية، التي لها علاقة بالتشريع.
أما الفقهاء فقد عرفوا السنة بأنها ما يجب فعله من غير وجوب، أي ما يثاب الإنسان على فعله ولا يعاقب على تركه، فالسنة هي مقابل الفرض والواجب، وأما علماء أصول الفقه فعرفوا السنة على أنها مصدر من مصادر التشريع، ومصادر التشريع الأساسية هي القرآن والسنة والإجماع والقياس.
ولو أردنا أن نقدم تعريفا شاملا للسنة لأمكننا القول إن السنة هي الطريقة المتبعة من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام في جميع عباداته وسلوكياته وتصرفاته، وبطبيعة الحال فإن من هذه الأمور ما يمكن أن نصفه بواجب أو غير واجب.
وبناء على مفهوم السنة هذا، يظهر لنا خطأ من يقول بترك السنة إلى القرآن، لأن السنة ليست مجرد شيء يندب فعله أو يثاب عليه، وليست مجرد قول صادر عن النبي بل هي طريقة في السلوك الديني، والغاية منها بيان التطبيق العملي للدين كما سأل رجل السيدة عائشة عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام فقالت له: “كان خلقه القرآن”.
ويظهر لنا مما سبق أن العلاقة بين التعريفين اللغوي والاصطلاحي هي أن السنة تتضمن المواظبة على فعل أمر ما، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما يواظب على فعل ما مبينا أنه فعل تشريعي للأمة، فعلى المسلمين الاقتداء به.
وجوب الاقتداء بالسنة إنه لا يُتصور فهم القرآن دون اللجوء إلى حديث الرسول الذي جاء به، فحديثه هو الشارح للقرآن، وعلى ذلك كثير من الأدلة، فبواسطة السنة أخذ الصحابة أفعال الصلاة ومواقيتها، إذ لا يوجد في القرآن تفصيل لمواقيت الصلاة أو أحكامها، إنما اكتفى القرآن بإيجاب الصلاة على المؤمنين فقال {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا}، بينما نجد تفصيل أحكامها في السنة وفقا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “صلوا كما رأيتموني أصلي” [أخرجه البخاري].
كما اكتفى القرآن بالإخبار عن فرضية الحج، أما أحكامه التفصيلية فتولت السنة النبوية شرحها، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “خذوا عني مناسككم”، وكذلك الحال في الصيام وبقية العبادات، وعلى ذلك نقول إننا لا نستطيع أن نفهم القرآن بدون السنة، وما يقال من أن القرآن اشتمل على كل شيء فالمقصود بهذا الاشتمال هو القواعد والمبادئ الأساسية، أي أن القرآن يعرض القواعد العامة التي ينبني عليها الدين، أما التفصيلات والتطبيقات فهي متروكة للسنة بدليل قوله تعالى {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]، فالآية واضحة الدلالة على مهمة الرسول في شرح القرآن وتفصيله.
وقد اتفق علماء الأمة على أن السنة بمجموعها حجة ومصدر من مصادر الأحكام واستدلوا على ذلك من القرآن، وإجماع الصحابة الذين عاشوا في عصر النبي وتلقوا عنه مبادئ الدين.
أما أدلة القرآن التي توجب اتباع النبي فنذكر منها الأمثلة الآتية:
قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4]، فالآية دليل على أن أقوال النبي صادرة عن وحي إلهي.
وقال أيضا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [الحشر: 7]، ودلالة الآية واضحة على وجوب الأخذ بكل ما أمر به النبي وما نهى عنه دون تفريق بين كونه قرآنا أو سنة.
وقال أيضا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فالآية جعلت علامة محبة الله في اتباع النبي والتأسي به، ومثلها قوله تعالى {من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقوله {فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وقد دلّ كثير من الأحاديث ومواقف الصحابة على مثل ما دلت عليه آيات القرآن الكريم، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم “فعليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المَهْدِيِّين” [أخرجه أبو دادود وغيره]، كما حذر النبي من ترك سنته فروي عنه أنه قال: “يوشك أن يقعد الرجل متكئاً على أريكته يحدَّث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله” [أخرجه ابن ماجه والدارمي]. فالتحذير في هذا الحديث واضح من ترك سنته والعدول عنها والقول بأن القرآن وحجه يكفي.
وأما دليل إجماع الصحابة فيتضح في مواقف عديدة تثبت أنهم كانوا يبحثون عن أحكام للمسائل التي تواجههم في القرآن، فإن لم يجدوها بحثوا في سنة النبي بعد وفاته، ومنها قصة أبي بكر في ميراث الجدّة، حيث جاءت جدّة إليه في خلافته وسألته ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة ، فأنفذه لها أبو بكر”.
علاقة السنة بالقرآن تكتسب السنة أهميتها من صدورها عن الرسول بصفته الرسولية، أي بصفته مبلغا عن الله، فإذا كان المشرع هو الله بصفته الإله الخالق فما يصدر عن الرسول بصفته الرسولية هو في الحقيقة صادر عن الله تعالى، أما التصرفات التي تصدر عن الرسول بحكم طبيعته البشرية فليست داخلة في تعريف السنة، والاقتداء بها ليس واجبا، فعلى سبيل المثال كان الرسول يحب أكل الدبّاء (أي القرع)، وهذا لا يجعل من أكل الدباء سنة مُتبعة.
أما علاقة السنة بالقرآن من جهة التشريع فتتنوع على ثلاثة أنواع، هي:
1- تأكيد السنة للقرآن الكريم: بمعنى أن يأتي ذكر أمر في القرآن ثم تؤكده السنة، من ذلك أيضا قول الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فهذا المعنى جاء تأكيده في أحاديث كثيرة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم “المسلم أخو المسلم” [أخرجه البخاري]، وقوله: “مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له باقي الأعضاء بالحمى والسهر” [أخرجه مسلم].
2- بيان السنة لما جاء في القرآن الكريم: أي أن تفصّل السنة أمراً جاء في القرآن مجملا أو عاما، كتفصيل السنة لأحكام الصلاة، فالله تعالى يقول في كتابه: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، ويقول {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النور: 56]، كما يمتدح تعالى المؤمنين من حيث محافظتهم على الصلاة فيقول {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]، أما بيان أوقات الصلاة وعدد ركعاتها وأركانها وواجباتها وشروطها فلا نجد له تفصيلا إلا في السنة الشريفة، فلولا بيان السنة ما عرفنا كيف نصلي.
3- تشريع أحكام جديدة ليست في القرآن: مثال ذلك صدقة الفطر، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة [أخرجه البخاري]، فهذا الحكم ليس موجودا في القرآن، ومع ذلك فحكمه واجب بإجماع المسلمين بناءً على هذا الحديث الصحيح.
مناقشة آراء الرافضين لحجية السنة يطرح بعض المفكرين العرب والمستشرقين حججاً للتشكيك في السنة من حيث كونها مصدراً للتشريع، وسنناقش بإيجاز فيما يلي أهم هذه الحجج:
القرآنيون يطلق مصطلح القرآنيين على تيار ديني يدّعي أن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع الإسلامي، وأن السنة كانت خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده دون أتباعه، ويطلقون على أنفسهم اسم “أهل القرآن”. ويُعتقد أن بداية ظهور هذا الرأي كانت على يد الخوارج، ثم تبلور في الهند خلال القرن التاسع عشر عندما أنكر السنة بعضُ المفكرين الذين حظوا برعاية الاحتلال البريطاني، وتوسعت فلسفة هذا التيار في باكستان ومصر خلال مرحلة الاحتلال أيضا.
1- يدعي منكرو السنة أن القرآن اشتمل على كل الأحكام ولم يترك شيئا للسنة، ويستدلون على ذلك ببعض الآيات مثل قوله تعالى {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] وقوله {وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} [النحل: 89]، والواقع العملي يرد هذه الدعوى، فهناك عدد لا يحصى من النوازل والأمور التي تحدث كل يوم وليس لها ذكر في القرآن، ما يعني أن كلمة “شيء” في الآيتين لا تدل على الشمول، وبيان ذلك أن القرآن الكريم يشتمل على القواعد والأسس العامة التي نحتاج إليها في حياتنا، أما التفصيلات فمتروكة للسنة أو للاجتهاد، وشمولية القرآن كاشتمال الدستور على المبادئ العامة وتركه التفصيل للوائح القانونية والتفصيلية، فالسنة هي التي تفصل قواعد القرآن العامة، وسبق أن استشهدنا بمثال تفصيل السنة لأحكام الصلاة واكتفاء القرآن بالأمر بها، وكذلك الحال مع بقية العبادات.
2- يرى منكرو السنة أن القرآن محفوظ بحفظ الله فلا تداخله شبهة ولا شك ولا تحريف بخلاف السنة التي يوجد فيها الموضوع والضعيف، وعليه فالاحتجاج بالمحفوظ أولى في رأيهم من الاحتجاج بما دخلته الشبهة. إلا أن هذا الرأي يتجاهل منهج النقد الذي وضعه علماء الحديث لتمييز الصحيح من الضعيف كما سيأتي، فوجود الضعف في بعض روايات التاريخ مثلاً لا يبرر نسف علم التاريخ وما تقوم عليه من علوم إنسانية شتى.
3- يدّعون أن السنة ليست إلا اجتهادا من الرسول، وبما أن الاجتهاد ليس وحيا فليس بلازم الاتباع، ويستدلون على ذلك ببعض الحوادث كمسألة تأبير النخل ونزول الجيش في بدر. لكن هذا الادعاء مردود بآيات القرآن التي تأمر باتباع النبي في كل ما جاء به، مثل قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، والوقائع التي استشهدوا بها جاءت في غير محلها، فتصرفات الرسول وحي عندما تكون في مجال التشريع وليست من الأمور الدنيوية، وقد ذكر علماء الأصول كثيرا من الضوابط للتفريق بين أعماله الرسولية والبشرية، ولا يسمح هذا المقام بذكرها.
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “نضّر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلّغه، فرُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبّ حامل فقه ليس بفقيه” [رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني].
4- يستدلون بوجود تناقض بين بعض الأحاديث، فيجعلون من ذلك مبرراً لإنكار السنة بالجملة، لكن وجود أحاديث متناقضة في الظاهر ليس دليلا كافيا لرد العمل بالسنة، فالخطأ ليس من الرسول وإنما من الرواة الذي قد يخطئون في النقل أو الحفظ، أو قد يكون الخطأ في فهم القارئ للحديث، وبما أن علماء الحديث قد بذلوا جهودا جبارة في تمحيص الروايات وبيان التناقضات وأسبابها والراجح منها فما زال بالإمكان العمل بما وصلنا من سنة النبي، ولم تسقط بذلك حجيتها عنا.
5- يقولون إن السنة لو كانت لازمة الاتباع لأمر الرسول بكتابتها كما أمر بكتابة القرآن، ويرد هذه الحجة عمل الصحابة أنفسهم ومن جاء بعدهم من حيث مركزية السنة في فتاواهم وقضائهم وسائر أحكام عباداتهم، أما عدم أمر النبي بكتابة السنة عنه فليس دليلا بذاته على كون سنتة غير ملزمة، فقد كان يخشى اختلاط سنته بالوحي القرآني، إلا أنه كان يدرك أن العرب أمة أميّة وأنها ستنقل عنه سنته شفوياً، ومع أنه لم يأمر بكتابة هذه السنة فإنه لم ينهَ عنها، بل سمح لمن طلب منه ذلك من الصحابة كعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما، وسنتابع تفصيل هذا الأمر بعد قليل.
روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “تسمعون، ويُسمع منكم، ويُسمع ممن يَسمع منكم” [رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح].
6- يرون أن ضخامة عدد الأحاديث الموجودة في الكتب الحديثية مبرر للاعتقاد بأن غالبيتها غير صحيحة، استناداً إلى كون الرسول صلى الله عليه وسلم قليل الكلام بحيث لو أراد العاد عدَ كلامه لاستطاع. لكن الاستدلال بضخامة العدد ليس دقيقاً، فالمحدثون يعدون كل طريق (سند) حديثا بذاته ولو كان المتن واحدا، ومثال ذلك لو فرضنا أن حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام “بني الإسلام على خمس” روي من خمسة وجوه فهذا يعني أن لدينا خمسة أحاديث وليس حديثا واحدا، فعندما نقول إن عدد الأحاديث المدونة يتجاوز المئة ألف فالمقصود هو عدد الأسانيد وليس متون الأحاديث.
تاريخ السنة سنوجز فيما يلي تطور انتقال السنة من مصدرها عبر رواتها من الصحابة والتابعين، وصولاً إلى تدوينها وتوثيقها، وذلك عبر ثلاث مراحل:
المسجد النبوي في المدينة المنورة بمنتصف القرن التاسع عشر
1- الحديث في عهد النبوة: نزل القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام في ظرف 23 سنة منجّما (مفرقاً) على حسب الحاجة، وكان للنبي كتّاب من الصحابة يكتبون ما نزل عليه من الوحي بأدوات بسيطة مما يتوفر لهم من الورق والحبر، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يشجع صحابته على حفظ القرآن في الصدور، فالعرب كانوا أمة شفوية تحفظ أشعارها وأنسابها وتاريخها دون تدوين.
لم يُظهر النبي عليه الصلاة والسلام حرصاً على كتابة سنته كحرصه على تدوين القرآن الكريم، فالوحي كان ينزل بشكل متقطع ببضع آيات تسهل كتابتها على الفور، أما السنة فتتضمن ما كان يتحدث به النبي مع أصحابه أو يفعله في حضورهم يوميا، حيث كانوا يوجهون له الأسئلة عن شتى الأمور، كما كان يخطب فيهم عند حدوث بعض المناسبات، أو يقدم لهم النصائح والمواعظ والأخبار والنبوءات أثناء استقباله الوفود أو خلال تجوله في السوق أو في أي حالة يكون عليها خلال حياته اليومية، ما يجعل من كتابة هذه التفاصيل في وقتها أمراً متعذراً.
علاوة على ما سبق، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى اختلاط القرآن بالحديث، ولا يعني ذلك بالضرورة اختلاطا لا يُستطاع معه التمييز، فالصحابة كانوا قادرين على التمييز لغويا وبيانيا، لكن المقصود على الأرجح هو الاختلاط من الناحية التشريعية وعدم إدراك البعض مكانة كل منهما فيظن أن الحديث في مرتبة مساوية للقرآن.
لذا يمكن القول إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه كان إجراءً احترازياً معللاً وليس نهياً تعبدياً من غير علة، والحكم المعلق على علة يدور مع علته وجودا وعدما فإذا انتفت العلة في مكان ما فإن الحكم ينتفي هو الآخر، وعلى ذلك نستطيع فهم بعض الأحاديث المتعارضة في هذا الصدد، فنجد أن بعض الأحاديث تنهى عن كتابة ما يقوله النبي وبعضها يبيح ذلك، ففي حالات الأمن من وقوع الالتباس والاختلاط عند بعض الصحابة كان يأذن لهم بالكتابة، ومن ذلك قول عبد الله بن عمرو بن العاص: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؛ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه (أي أشار بإصبعه إلى فمه) فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق” [أخرجه أحمد]، وفي حجَّة الوداع خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة جامعة فقال له أبو شاه (رجل من اليمن): اكتب لي يا رسول الله، فقال لصحابته: “اكتبوا لأبي شاه” [أخرجه أحمد والبخاري].
2- الحديث في عهد الصحابة: كان الصحابة يحرصون على حفظ كل ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيق كل ما يأمر به، بل كانوا من شدة حرصهم يتناوبون في ملازمة الرسول عندما لا يكون في مقدور أحدهم ترك أعماله، ثم يخبر بعضهم بعضا بما جرى مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان بعضهم يتخذ لنفسه صحيفة يدون فيها بعضا من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كتب لنفسه بعض أحكام الإسلام في صحيفة، ووردت الإشارة إلى صحيفته في حديث رواه البخاري. كما أن عددا ليس بالقليل من الصحابة كانوا يكتبون الحديث، فقال أبو هريرة: “ما كان أحد أكثر حديثا مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب” [أخرجه البخاري].
وكان الصحابة يتخذون مجالس في عهد رسول الله وبعد وفاته يتدارسون فيها ما حفظوا من أحاديث ويروونها لبعضهم، وكانت قلة حديث الرسول وتمهله في الحديث أثناء كلامه عاملان مهمهان في حفظ الصحابة للحديث ورسوخه في أذهانهم، وقد تبين لنا قبل قليل من قضية ميراث الجدة أنهم الصحابة لم يتركوا الاحتجاج بالسنة في كل ما يعرض لهم من شؤون دينهم.
وقد يحتج بعض منكري السنة أو منكري خبر الآحاد (أي ما نقله شخض واحد عن آخر كما سيأتي لاحقاً) ببعض تصرفات الصحابة، كطلب عمر بن الخطاب من أحد الصحابة شاهدا على حديثه الذي رواه وكذلك فعل أبي بكر، وكطلب علي بن أبي طالب من رواي أحد الأحاديث أن يُقسِم يمينا على روايته، وكطلب عمر من بعض الصحابة أن يقللوا من الرواية، لكن إنعام النظر في سياقات هذه الحوادث تكشف أنها كانت تنبع من الاحتياط للسنة وليس تقليلا من الاعتماد عليها، وبيان ذلك أن أبا بكر وعمر كانا يطلبان شاهدا من الراوي في حال الشك في حفظ الراوي، وهذا مطلب منهجي، أما طلب عمر بالإقلال من الراوية فجاء في سياق معين، وهو أنه أرسل بعض الدعاة إلى قوم أسلموا جديدا، وكانت الحكمة تقتضي أن يعلموهم القرآن وقواعده الأساسية أولاً ثم يروون لهم أحاديث النبي وسنته.
3- الحديث في عهد التابعين: عندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الأموية ازدادت حاجة الناس للاطلاع على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وازدادت أيضا ظاهرة وضع الحديث (أي نسبة أحاديث مكذوبة إلى النبي)، لا سيما مع دخول أتباع ديانات أخرى في ظل الدولة وميل البعض إلى التحريف في الدين، فضلا عن الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمذهبية لطوائف من البشر تسعى كلٌ منها لإيجاد نص ديني يدعم رأيها ويحقق مصالحها، ما حمل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في نهاية القرن الهجري الأول على الأمر بتدوين السنة النبوية رسمياً وبإشراف الدولة وتوجيهها، فكتب إلى أمراء الأقاليم ليكلفوا حفاظ الحديث بجمع السنة من أهل العلم الموثوقين مثل ابن شهاب الزهري وتدوينها، وتابع ابن جريج وسفيان الثوري ومالك بن أنس هذه المهمة الصعبة.
كانت طريقتهم في التدوين تتضمن جمع كل ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن وبيان شرائع الإسلام من العقائد والعبادات والمعاملات والغزوات والأقضية دون تفريق أو تصنيف، ثم بحثهم عن أحوال الرواة وإسقاط ما يتبين لهم أنه موضوع, ويقول أبو داود إنهم في تلك المرحلة المبكرة كانوا يجتهدون غاية الاجتهاد فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث، ومن أهم كتب هذه المرحلة كتاب “الموطأ” للإمام مالك.
قال الأوزاعي (وهو من أئمة تابعي التابعين): “كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا (أي التابعين) كما يُعرض الدرهم الزائف على الصيارفة, فما عرفوا منه أخذنا، وما تركوا تركنا” [الموضوعات لابن الجوزي: 1/103].
وبعد هذه المرحلة العامة في الجمع بدأت مرحلة التصنيف، حيث تم تصنيف الأحاديث تحت الأبواب الفقهية وغيرها كما سنذكر لاحقاً، ومن أهم أعلام هذه المرحلة بقيّ بن مخلد وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل، وقد بذل هؤلاء أيضاً جهوداً جبارة في تمحيص الروايات ونبذ الموضوع، إلا أنهم كانوا كسابقيهم يمزجون الصحيح بغيره من حسن وضعيف، حيث لم تكن قد ظهرت بعد تصنيفات الحديث من حيث الصحة والضعف، فجاء من بعدهم من قام بهذا العبء ووضع أصول علوم النقد، وتمكن بذلك الإمامان البخاري ومسلم من تأليف أول كتابين مخصصين للأحاديث الصحيحة، وتابع بقية العلماء من بعدهم مهمة النقد والتصنيف وفقاً لتلك القواعد المعتمدة.
نقد الحديث والتأكد من صحته طوّر العلماء ونقاد الحديث منهجا دقيقا لنقد الحديث والتأكد من صحته، فعلْمُ رواية الحديث النبوي قائم على عنصر مهم وهو راويه، والرواي هو الشخص الذي يسمع الحديث ممن فوقه وينقله لمن بعده، وللتأكد من أن الراوي لم يدخل في روايته أي خطأ ولم يقع فيه سهو اشترط علماء الحديث شروطا خمسة، وقالوا إنها إذا اجتمعت كان الحديث صحيحا، ويتعلق اثنان منهما بالراوي وثلاثة بالمروي (الحديث).
أما الشرطان المتعلقان براوي الحديث، فأولهما أن يتصف بـ”العدالة”، أي يكون ملتزما بالدين غير كاذب ولا فاسق، والثاني أن يتصف بـ”الضبط”، أي يكون حافظا للحديث الذي سمعه وأن يرويه كما سمعه دون خطأ ولا تغيير، أو يكون قد دوّنه بدقة، ويعبر عن اجتماع هذين الشرطين في الرواي بمصطلح “الثقة”.
يتكون كل حديث من عنصرين:
1- السند أو الطريق: وهو سلسلة الرجال الذين رووا الحديث.
2- المتن: هو ما ينتهي إليه السند من الكلام، أي نص الحديث.
ومع تطور علوم الحديث في عصور التدوين الأولى نشأ تحت مظلته علم “الجرح والتعديل”، وهو يُعنى بالبحث في حال الراوي من حيث عدالته وضبطه، فكان مؤلفو كتب هذا العلم يبينون بدقة حالة كل راوٍ من حيث التزامه بالدين والآداب العامة والمروءة ومقدار ضبطه وحفظه وقدراته العقلية، وذلك للحكم عليه في النهاية بكون أهلاً للثقة والاحتجاج بروايته أم لا.
وطوّر علماء الحديث كثيرا من المصطلحات التي تدل على مستوى الراوي من حيث العدالة والضبط، فطبقة الصحابة كلهم عدول بتعديل النبي لهم، وقد يخطئون في الضبط من حيث النسيان أو الغلط في الرواية الحديث، حيث كان بعضهم يصحح لبعض، ثم يتدرج التابعون وتابعوهم في طبقات عدة، فعلى سبيل المثال وضع ابن حجر اثنتي عشرة طبقة للرواة في كتابه “تقريب التهذيب”، تبدأ بالثقة الثقة، أو أوثق الناس، وتتدرج إلى الثقة أو المتقن أو الثبت، ثم الصدوق، ثم الصدوق سيئ الحفظ، وهكذا حتى يصل إلى المتروك فالمتهم بالكذب فالكذاب.
وألّف العلماء في الجرح والتعديل كتبا متنوعة لسرد سير الرواة وما قيل فيهم، مثل “تهذيب التهذيب” لابن حجر، و”الثقات” لابن حبان، كما خصصوا كتبا للضعفاء والمتروكين والوضّاعين (الكذابين) من الرواة، مثل كتب “الضعفاء” التي ألفها كل من البخاري والنسائي وابن حبان، وكتاب “الكامل” للجرجاني الذي ذكر فيه كل من تُكلم فيه، بينما وضع آخرون موسوعات أكثر شمولا مثل “ميزان الاعتدال في نقد الرجال” للحافظ الذهبي الذي قال فيه “قد احتوى كتابي هذا على ذكر الكذابين والوضاعين، ثم على المحدثين الصادقين أو الشيوخ المستورين الذين فيهم لين ولم يبلغوا رتبة الأثبات المتقنين، ثم على خلق كثير من المجهولين”.
أما الشروط المتعلقة بالمروي (المتن) فهي ثلاثة، ولا يُنظر فيها إلا بعد ثبوت قدر كاف من عدالة وضبط الراوي، والشرط الأول في المروي ألا يكون شاذا، أي لا يكون مخالفا للقرآن أو لحديث آخر أو لرواية رجل أقوى حفظا. والشرط الثاني ألا يكون الحديث معلولا، فلا يكون فيه خطأ خفي، وتفصيل ذلك أن بعض الرواة نالوا درجات عليا في الضبط والإتقان، لكنهم مع ذلك بشر يخطئون ويصيبون، لذا فليس كل ما يروى عنهم صحيح بالمطلق، حيث لم يكتف علماء الحديث بكونهم متقنين ضابطين بل اشترطوا ألا يكون في أحاديثهم خطأ خفي من العلل التي لا يكتشفها إلا المتمرس في الحديث ورواياته، وعلى هذا نشأ علم مستقل يسمى بعلل الحديث.
وأما الشرط الثالث فهو “اتصال السند”، حيث اشترط العلماء أن يكون كل راو قد سمع الحديث ممن فوقه (شيخه)، حتى يتسنى للعلماء والنقاد التأكد من حال الرواة، وإذا حدث انقطاع لشخص واحد في السند فقدَ الحديث درجة الصحة، وقد برع العلماء في تسجيل تاريخ الرواة وشيوخهم وسيرهم، حتى أصبح بالإمكان التحقق مما إذا كان أحدهم قد التقى راوياً آخر فروى عنه أم لا، وذلك بالتحقق من رحلات كل منهما وتاريخ حياته ومماته.
من أهم ملامح الدقة العلمية لدى علماء الحديث ابتكارهم لمفهوم الرحلات، حيث كانوا يشترطون على كل طالب علم في بداية نشأته أن يُنهي الاستماع والرواية لكل ما يرويه شيوخ بلدته من أحاديث ثم يخرج في رحلات علمية قد يبلغ بها كل أقطار العالم الإسلامي مترامي الأطراف، فيسمع ويدوّن ما يرويه شيوخ البلدان الأخرى، حتى كان بعضهم يقطع آلاف الكيلومترات من الصحاري والجبال للتأكد من حديث سمعه في بلده نقلا عن شيخ في بلد آخر، فيقول الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنه إنه سار شهراً إلى الشام ليسأل الصحابي الآخر عبد الله بن أنيس رضي الله عنه حديثاً سمعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم [علوم الحديث لابن الصلاح، ص8]، كما كان التابعي سعيد بن المسيب يقول: “إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد” [الرحلة في طلب الحديث، ص127]، أما في المراحل التالية على الصحابة والتابعين فقد أصبحت الرحلات شرطا أساسيا من شروط طلب العلم.
لم تُبدع أي حضارة أخرى علماً مماثلاً لتمحيص النصوص والروايات التاريخية كالذي أبدعه العلماء المسلمون في تمحيصهم لأحاديث نبيهم، ويقول الدكتور مصطفى السباعي إن عالماً معاصراً من علماء التاريخ -وهو أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت أسد رستم- كان قد ألف كتاباً في أصول الرواية التاريخية, اعتمد فيها على قواعد مصطلح الحديث، واعترف بأنها أصح طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات، وأطلق على كتابه اسم “مصطلح التاريخ” [السنة ومكانتها للسباعي، ص 126].
أنواع الحديث سنوجز فيما يلي أنواع الحديث من حيث عدة عوامل:
من ناحية تعدد الطرق: 1- متواتر: وهو ما نقله جمع عظيم عن جمع عظيم لا يُتصور أن يتفقوا على الكذب، وكان ما نقلوه متعلقا بأمور خبرية (فيقول أحدهم عن الآخر أخبرني)، أو حسية (فيقول رأيت أو سمعت)، وليست أمورا عقلية.
2- آحاد: وهو ما عدا المتواتر، أي أن كل طبقة من طبقات الرواة يكون عدد الناقلين فيها أقل من أن يبلغ جمْعا عظيما.
من حيث القائل: 1- الحديث المرفوع: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً عنه, سواء كان متصلاً أو منقطعاً أو مرسلاً (كما سيأتي).
2- الحديث الموقوف: هو ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم وأفعالهم.
3- الحديث المقطوع: هو ما يروى عن التابعين من أقوالهم وأفعالهم، والتابعون هم الذين شهدوا الصحابة ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، ومثاله قول التابعي الحسن البصري في الصلاة خلف المبتدع: “صلّ وعليه بدعته”.
من حيث الصحة: 1- الحديث الصحيح: هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه, ولا يكون شاذاً ولا معللاً.
2- الحديث الحسن: هو الذي يحقق شروط الصحيح إلا أن في رجاله من هو خفيف الضبط, ويُحتج به.
3- الحديث الضعيف: هو ما لم تتوافر فيه شروط الصحة أو الحُسن.
وهناك أنواع كثيرة للحديث الضعيف بحسب السبب الذي أدى إلى تضعيف كل منها، وأهمها:
1- المجهول: ما كان في رواته راوٍ غير معروف الهوية أو غير معروف الحال.
2- المنقطع: ما سقط من وسط إسناده رجل، وقد يكون الانقطاع في موضع واحد, وقد يكون في أكثر من موضع.
3- المرسل: هو حديث التابعي إذا قال: قال رسول الله أو كلمة نحوها دون أن يذكر الصحابي الذي رواه له, وأطلق بعض أهل العلم المرسل على ما سقط من إسناده رجل من أي موضع كان.
4- المتروك: هو الذي يرويه من يُتهم بالكذب, ولا يعرف ذلك الحديث إلا من جهته, ويكون مخالفاً للقواعد العامة.
5- المعلق: ما حُذف من مبتدأ إسناده راو واحد فأكثر، ولو إلى آخر الإسناد.
6- المعضل: ما سقط من وسط إسناده اثنان فأكثر على التوالي.
7- المعلول: هو الحديث الذي اطُلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن الظاهر سلامته منها.
8- الموضوع: هو المكذوب على رسول الله صلى الله عليه و سلم، وتحرُم روايته مع العلم بحاله إلا للبيان والتحذير.
مخطوطة لكتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام من القرن الرابع الهجري
وهناك أنواع مشتركة بين الصحيح والحسن والضعيف، وهي: 1- المسند: هو ما اتصل إسناده إلى رسول الله.
2- المتصل: هو الخالي من الإرسال والانقطاع, ويشمل المرفوع إلى النبي والموقوف على الصحابي، فعليه يكون المتصل هو الذي سمعه كل راوٍ من الذي قبله, ويشمل المرفوعَ إلى رسول الله والموقوفَ على الصحابي.
3- الغريب: هو الذي تفرد به راويه، سواء تفرد به عن إمام يُجمع حديثه أو عن راو غير إمام.
ويجدر بالذكر أن نقد أي حديث لا يعني بالضرورة ترك العمل به والاستفادة منه، فالحكم على حديث بأنه ضعيف لا يعني بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، ومخالفة حديث ما لآية قرآنية في الظاهر لا يوجب الحكم بضعفه أو كذبه، كما أن الحكم بصحة حديث ما لا يوجب العمل بظاهره كما هو، فاستخراج الحكم من الحديث مهمة الفقيه لا المحدث، فقد يترك الفقيه الأخذ بحديث لترجيحه حديثا آخر أو لتخصيصه أو تقييده بحديث أو آية من القرآن، ولا يلزم من ذلك أن يُحكم على الحديث بالضعف أو يُتهم الراوي بالكذب، وقد ذكر ابن حزم في كتابه “مراتب الديانة” أنه أحصى الأحاديث التي رواها الإمام مالك بن أنس في كتابه “الموطأ” ويقول “فيه نيف وسبعون حديثا قد ترك مالك نفسُه العمل بها”. وسنفصل في مقال “الشريعة الإسلامية” بعض أصول الفقه وقواعد التشريع التي يستخدمها الفقيه في استنباط الأحكام وترجيحها من نصوص القرآن والسنة.
كتب الحديث وأنواعها كان لكل إمام من أئمة الحديث منهج في كتابة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من اشترط أن تكون الأحاديث التي سيدونها صحيحة، كالإمام البخاري والإمام مسلم والإمام ابن خزيمة.
ومنهم من جمع الصحيح والقريب منه (نسميه الحسن)، ولكنه لم يتشدد كثيراً في قضية الضبط، فاشتمل كتابه على الأحاديث الصحيحة والحسنة وقليل من الضعيف المقبول، وفيما يلي تعريف بأهم أنواع هذه الكتب:
1- كتب الجوامع: هي الكتب التي رتبت فيها الأحاديث في ثمانية أبواب أساسية، وهي العقائد والعبادات والمعاملات والغزوات والتفسير والفضائل والأطعمة والأشربة، سواء التزم أصحابها بالصحة أم لم يلتزموا، فهي إذن تشتمل على كل ما يتعلق بالدين من العقيدة والفقه والتفسير، وتقتصر على الأحاديث النبوية دون آثار الصحابة والتابعين: ومن أمثلة هذه الكتب:
الجامع الصحيح للإمام البخاري (ت 256هـ): التزم فيه الصحة، وهو أصح كتاب بعد القرآن الكريم، وسيأتي الحديث عنه مفصلا إن شاء الله.
الجامع الصحيح للإمام مسلم (ت261هـ): التزم فيه الصحة، ولكن شروط التصحيح عنده أخف من شروط البخاري، فهو في المرتبة الثانية بعد كتاب البخاري.
الجامع الصحيح للإمام الترمذي (ت 279هـ): لم يلتزم فيه بالصحة.
الجامع الصحيح للإمام ابن خزيمة (ت 311هـ): التزم فيه الصحة، ولكن شروطه في التصحيح غير شروط الشيخين البخاري ومسلم.
2- كتب السنن: هي الكتب التي رتبت الأحاديث على أبواب الفقه، فتبدأ الأحاديث فيها بكتاب الطهارة، ثم كتب الصلاة والصوم والزكاة والحج والنكاح، وهكذا. ومن أشهرها:
سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت275هـ): جمع في كتابه الصحيح والحسن، ولم يورد الضعيف إلا قليلا.
سنن النسائي للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ): فيه الصحيح والحسن والضعيف المقبول.
سنن ابن ماجة للإمام محمد بن يزيد بن ماجة القزويني (ت273هـ): فيه الصحيح والحسن والضعيف وبعض الضعيف المردود.
ويطلق على صحيحي البخاري ومسلم مع السنن الأربعة تعبير “الكتب الستة”، وهذه الكتب لها مكانة خاصة في الاحتجاج الفقهي والتشريعي.
3- كتب المسانيد: هي الكتب الحديثية التي جمع أصحابها أحاديث كل صحابي على حدة، ومن أشهرها:
مسند الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241هـ، ويعد من أضخم كتب الحديث.
مسند الحميدي (أبي بكر عبدالله بن الزبير الحميدي) المتوفى سنة 219هـ.
مسند الطيالسي (أبي داود بن سليمان بن داود الطيالسي) المتوفى سنة 204هـ.
مسند أبي يعلي المصولي (أحمد بن علي المثنى الموصلي) المتوفى سنة 307هـ.
مسند عبد بن حميد المتوفى سنة 249هـ.
4- المصنفات: هي الكتب التي رتبها أصحابها على أبواب الفقه، واشتملت على الأحاديث المرفوعة (الأحاديث المضافة إلى النبي) والموقوفة (الأحاديث المضافة إلى الصحابة) والمقطوعة (الأحاديث المضافة إلى التابعين)، فهي لم تقتصر على الأحاديث النبوية بل ذكرت أقوال الصحابة وفتاوى التابعين وتابعي التابعين، ومن أشهر المصنفات:
المصنف لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى 211هـ.
المصنف لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي المتوفى 235هـ.
المصنف لبقي بن مخلد القرطبي المتوفى 276هـ.
المصنف لأبي سفيان وكيع بن الجراح الكوفي المتوفى 196هـ.
المصنف لأبي سلمة حماد بن سلمة البصري المتوفى 167هـ.
5- إلى جانب الكتب السابقة، اعتنى العلماء أيضا بجمع الكتب الضعيفة والموضوعة وتصنيفها في كتب مستقلة، مثل كتاب “الأباطيل” للجورقاني، و”الموضوعات” لابن الجوزي، و”اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة” للسيوطي.
نماذج لأهم علماء الحديث ومؤلفاتهم
الإمام أحمد ومسنده ولد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله على الأرجح سنة 164هـ، ونشأ في بغداد، بدأ بطلب الحديث في سن مبكرة فرحل إلى البصرة والكوفة واليمن، كما رحل إلى الحجاز خمس مرات، أولاها سنة 187هـ حيث التقى بالشافعي واستفاد منه كثيرا، واستمر جِدُّه في طلب الحديث وروايته حتى بعد أن بلغ مبلغ الإمامة، فيقال إن رجلا رآه وهو يحمل المحبرة لكتابة الحديث فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين! فقال: مع المحبرة إلى المقبرة.
تعرض ابن حنبل لمحنة عظيمة عندما أكره الخليفة العباسي المأمون الفقهاء والمحدثين على القول برأي المعتزلة في قضية خلق القرآن، فحُبس وضُرب وأوشك على الموت. وتوالى على تعذيبه من بعد المأمون كل من المعتصم والواثق، ثم أفرج عنه المتوكل وأكرمه، وبلغت شهرته في الصمود والتضحية الآفاق، حتى يقال إن نحو من مائة من بيت الخلافة حضروا غسله يوم وفاته، أما عدد الذين شيعوه فاختلف في تقديره المؤرخون، حيث روى البيهقي أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحزر الناس فوجدوا ألف ألف وثلثمائة ألف (مليون وثلاثمئة ألف)، بينما قال ابن أبي حاتم أن المتوكل أمر بمسح الموضع الذي وقف الناس فيه عندما صلوا على ابن حنبل فبلغ مقاسه ألفي ألف وخمسمائة ألف (مليونين ونصف)، حتى قال الوركاني إن عشرين ألفا من غير المسلمين أسلموا في ذاك المشهد الرهيب.
ويعد مسند أحمد من أشهر كتب الحديث وأوسعها، ففيه الكثير من الأحاديث الصحيحة التي لا توجد في الصحيحين، وقد جعله مرتباً على أسماء الصحابة من الرواة، وبلغ عدد أحاديثه أربعين ألفاً تقريباً، تكرر منها عشرة آلاف حديث، ومن أحاديثه ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد (أي بين راويها وبين النبي ثلاثة رواة فقط).
الإمام مسلم وصحيحه هو الإمام الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجّاج بن مسلم، وُلِد بنيسابور سنة 206هـ، ونشأ في بيت تقوى وصلاح وعلم، فقد كان والده من محبي العلم، وقد بدأ الإمام مسلم رحلته في طلب العلم مبكرًا.
يعد صحيح مسلم من أهم كتب الحديث الجامعة للصحيح فقط، حيث اقتصر مؤلّفه على ما صحّ من الحديث وترك كلّ ما كان في إسناده ضعف أو وهن، وافتتح صحيحه بمقدمة ذكر فيها سبب تأليفه الكتاب، ومنهجه العلمي الذي سار عليه، ثم بيّن بعض الأمور المتعلقة بالحديث.
جمع مسلم في صحيحه روايات الحديث الواحد في مكان واحد وفق الموضوعات الفقهية، وذلك لإبراز الفوائد الإسنادية في كتابه؛ فكان يروي الحديث في أنسب المواضع له، ويجمع طرقه وأسانيده في ذلك الموضع، بخلاف البخاري الذي كان يفرق الروايات في مواضع مختلفة، وتلك ميزة لصحيح مسلم، ما يجعل كتابه أسهل تناولا بحيث يجد القارئ طرق الحديث ومتونه جميعها في موضع واحد.
الإمام البخاري وصحيحه هو محمد بن إسماعيل البخاري، ولد في مدينة بخارى 194هـ، ونشأ يتيما فربّته أمه على الأخلاق وطلب العلم، فبعد أن أتم حفظ القرآن التحق بحلقات المحدثين، وظهرت بوادر نبوغه المبكر فكان يصحِّح للشيخ خطأه في الإسناد وهو ابن إحدى عشرة سنة.
سئل البخاري: كيف كان بدء أمرك؟ فقال: أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب، فقيل: كم كان سِنك؟ قال: عشر سنين أو أقل، فلما طعنتُ في ست عشرة سنة كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي إلى مكة، فلما حججت رجع أخي بها، وتخلَّفتُ (أي بقيت) في طلب الحديث.
وقال محمد بن أبي حاتم الورَّاق: سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان: كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يوما بعد ستة عشر يوما: إنكما قد أكثرتما عليَّ وألححتما فاعرضا عليّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نُحْكِم كتبنا من حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدرا وأضيِّع أيامي؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.
وفي سن الثامنة عشرة، بلغ البخاري درجة العلماء وبدأ بتصنيف الكتب التي يقوم بدراستها اليوم الباحثون لنيل درجات الدكتوراه.
ذكر المؤرخون أنه دخل بغداد وكان أئمة الحديث فيها يسمعون عن قوة حفظه، فأرادوا امتحانه، فجاء إليه عشرة من حفَّاظهم مع كل واحد منهم عشرة أحاديث خلطوا أسانيدها، فقرأوها على البخاري حديثًا حديثًا، وهو يقول: لا أعرف هذا الحديث؛ حتى أنهوا المائة حديث، ثم أعاد عليهم المائة حديث بخطئهم (أي حفظها بالخطأ لمجرد سماعها مرة واحدة) وأعادها مرة أخرى مصحَّحة؛ فأقرّوا له بالحفظ والفضل [وفيات الأعيان: 4/190].
ومما قيل أيضا عن سرعة حفظه وقوة ذاكرته أنه كان يطّلع على الكتاب فيحفظه من نظرة واحدة [سير أعلام النبلاء: 12/416]، كما كان عجيبا في حرصه على العلم حتى قال محمد بن يوسف “كنتُ مع البخاري بمنزله ذات ليلة، فأحصيتُ عليه أنه قام وأسرج (أي أضاء السراج ليكتب)؛ يستذكر أشياء يعلِّقها في ليلة ثماني عشرة مرة” [تهذيب الكمال: 3/1170].
وعندما اجتمعت الذاكرة العجيبة مع الانضباط الشديد بالمنهج العلمي والجلَد في الارتحال لطلب الحديث، كانت الثمرة بظهور أهم كتب الحديث وأصحها المعنون بـ”الجامع الصحيح المختصر من سنن رسول الله وأيامه”، فلم يقتصر جهد البخاري في صحيحه على جمع الأحاديث الصحيحة وتمحيصها، بل برع أيضاً في إبراز فقه الحديث واستنباط الفوائد منه.
ويبلغ عدد أحاديثه مع المكررات 7275 حديثًا، وبحذْف المكررات ينخفض العدد إلى أربعة آلاف حديث صحيح. وقد قال الإمام النّووي “اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على أن أصحّ الكتب بعد القرآن العزيز الصّحيحان: البخاري ومسلم، وتلقَّتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما، وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صحَّ أن مسلمًا كان ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث”.
ولم يبلغ كتاب البخاري هذه المنزلة عند العلماء والنقاد إلا لحرص مؤلفه الشديد، حيث اشترط البخاري شروطا دقيقة أثناء اختياره الأحاديث، فعلى الرغم من حفظه لعشرات الآلاف من الأحاديث لم يصحح منها إلا أربعة آلاف كما ذكرنا.
وإذا أردنا تبسيط شروطه قلنا إنه اشترط أن يكون الراوي الذي يروي الحديث قد حاز أعلى درجات الحفظ والإتقان وسمع الحديث من شيخه مباشرة، فكان شديدا في التحقق من اتصال السند وسماع الرواي من شيخه.
قال إمام الحرمين الجويني: “لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق، ولا حنثته، لإجماع علماء المسلمين على صحتهما” [صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح، ص 86].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن” [مجموع الفتاوى: 18/74].
ومن شدة حرصه، قال البخاري إنه بعد انتهائه من دراسة كل حديث على حدة للتحقق من موافقته للشروط، كان يغتسل ويستخير الله ويصلي ركعتين قبل إضافته للكتاب، وعندما أنهى هذه المهمة الجبارة قال “صنَّفت الجامع من ستمائة ألف حديث، في ست عشرة سنة، وجعلته حُجَّة فيما بيني وبين الله” [مقدمة فتح الباري، ص513].
ونظرا للأهمية الاستثنائية التي يتمتع بها كتاب البخاري في المكتبة الإسلامية، فقد تعرض أكثر من غيره للنقد من قبل الإسلاميين وخصومهم على حد سواء، فأجمع الفريق الأول على منحه المرتبة التي يستحقها لما يتمتع به من المصداقية والالتزام بشروط الصحة والضبط، بينما تتردد منذ القرن الماضي شبهات كثيرة على يد المستشرقين وغيرهم بشأن صحة أحاديث هذا الكتاب، وفيما يلي إيجاز لأهم هذه الشبهات ومناقشة سريعة لها:
الطفل جهاد المالكي لم يمنعه فقد البصر من حفظ القرآن الكريم وصحيحي البخاري ومسلم وكتب السنن الأربعة وكتبا أخرى كاملة.
1- يقال إن البخاري عندما جمع أحاديث كتابه لم تكن أصوله (مراجعه) متوفرة بين يديه، ما يشكك في صحة ألفاظه، لكن المؤرخين الذين وثقوا سيرة البخاري أجمعوا -كما ذكرنا- على نبوغ وعبقرية هذا الرجل وقدرته الاستثنائية في الحفظ وقوة الذاكرة، وهذه الموهبة على ندرتها ليست مستحيلة، فقد كان أئمة آخرون مثل الشافعي وابن تيمية يتمتعون بمثل هذه الموهبة، بل نجد مثيلا لها في عباقرة معاصرين يمتلكون قدرة عجيبة على الحفظ والتذكر بالرغم من حداثة السن، وربما أيضا كانوا من فاقدي البصر، كما يتمتع البعض بما يسمى بالذاكرة الفوتوغرافية التي تمكنهم من تذكر أدق التفاصيل بنظرة واحدة.
يعد الشاب البريطاني ستيفن ويلتشير من أشهر العباقرة المعاصرين الذين يتمتعون بالذاكرة الفوتوغرافية، حيث يمكنه أن يحفظ تفاصيل أي شيء ينظر إليه من مرة واحدة، فعلى سبيل المثال تمكن من رسم لوحة مفصلة لأربعة أميال مربعة من مدينة لندن، بكل ما فيها من تفاصيل المباني وحتى عدد نوافذها وطوابقها، وذلك بعد رحلة بطائرة مروحية واحدة فوق تلك المدينة.
2- يستشهد بعض النقاد اليوم بالنقد الذي سبق أن طرحه بعض أئمة الحديث لصحيح البخاري، مثل الدارقطني في كتابه “الإلزام والتتبع”، كما ضعّف الشيخ الألباني في عصرنا الحديث بعض أحاديث البخاري، لكن اتفاق معظم الأئمة في مختلف العصور على صحة الكتاب لم يكن نابعاً من تقديس لشخص البخاري، بل نتيجة لتمحيص كتابه وإعادة التدقيق في كل ما جمعه ورواه، وقد أجاب الإمام ابن حجر في مقدمة “فتح الباري” عن الأحاديث التي تعرضت للنقد وبيّن صوابية تصحيح الإمام البخاري لها.
وجميع الانتقادات الموجهة لصحيح البخاري تتعلق بالأسانيد ورسومها أو ببلوغ درجة أصح الصحيح، أو تتعلق بكلمة أو كلمتين من الحديث، وهي لا تتجاوز العشرات من بين أكثر من سبعة آلاف حديث، أما الانتقادات المتعلقة بأمور تؤثر في صحة المتن فلا تتجاوز الثلاثة أحاديث.
3- ينتقد البعض اعتماد البخاري على رواة لم يحققوا شروط الصحة المطلوبة، لكن ضعف راوٍ ما لا يعني بالضرورة أن كل أحاديثه ضعيفة بالمطلق، بل قد يكون فيها ما يصح إذا حقق شروط الصحة، فقد كان البخاري ينتقي من أحاديث الرواة الضعفاء ما كان قويا ويورد له شواهد من رواة آخرين ليرتفع إلى درجة الصحيح.
4- يروّج مستشرقون وباحثون معاصرون فكرة وجود بعض الأحاديث التي تخالف العقل في صحيح البخاري، لكن فهم سياق تلك الأحاديث أو حملها على محمل المجاز قد يرفع عنها صفة التعارض مع العقل، لا سيما وأن العرب اشتهروا بالمجاز وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أفصح العرب.
أهم المراجع جلال الدين السيوطي، تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تحقيق عزت علي عطية وموسى محمد علي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1980م.
عبد العظيم المطعني، الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية، مكتبة وهبة، القاهرة، 1999م.
أحمد عمر هاشم، دفاع عن الحديث النبوي، مكتبة وهبة، القاهرة، 2000م، ط1.
محمد محمد أبو شهبة، دفاع عن السنة، مكتبة السنة، القاهرة، 2007م، ط2.
جمال الدين القاسمي، قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، دار العقيدة، القاهرة، 2008م.
مصطفى السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، دار السلام، مصر، 2006م، ط3.
نور الدين عتر، السنة المطهرة والتحديات، دار المكتبي، سوريا، 1999م.
بداية غامضة بدأت التجمعات البشرية بالظهور في شبه القارة الهندية بمنطقة دلتا نهر السند الواقعة في البنجاب بباكستان اليوم، وتطورت إلى نشوء حضارة بمدينة “هرابا” تزامنا مع وجود الدولة الأكادية في بلاد الرافدين (العراق)، وكانت الشعوب الأولى تتحدث بلغتي الموندا والدرافيدية، ثم غزت قبائل الآريين الهند قادمة من وسط آسيا وبلاد فارس (إيران) في وقت غير محدد بالضبط ويعتقد أنه ما بين عامي 1800ق.م و1200ق.م.
ابتكر الآريون نظام العبودية الطبقي ليبقى سكان البلاد الأصليين في الطبقة السفلى (شودرا) كي لا يتمردوا، أما الآريون فقسموا أنفسهم إلى كهنة (براهما) ومحاربين وطبقة عاملة، وتم ربط هذه العبودية بالأساطير الدينية. ويجدر بالذكر أن بعض المؤرخين يقولون إن التقسيم الطبقي كان موجودا قبل الغزو الآري.
كانت الكتابة نادرة في الهند حتى بين الكهنة، لذا لا نملك معلومات واضحة عن عبادات الهنود قبل الغزو الآري، وهناك من يعتقد أنه كان لدى الهنود الأوائل كهنة وتقديم قرابين دون وجود لمعابد وأصنام، ثم أصبحت الأساطير الوثنية أساسا للمؤسسة الدينية والسياسية على يد الآريين.
مخطوط ريغ فيدا
تُنسب إلى الكهنة الآريين مجموعة من الترانيم والأساطير باللغة السنسكريتية (أي الكاملة المقدسة) التي لم يكن يتقنها إلا هم، وكان أولها وثيقة تدعى “ريغ فيدا”، وهي تتضمن أكثر من ألف ترنيمة لآلهة الفيدا، كما تُنسب إليهم ثلاثة كتب أخرى هي سامافيدا (أغاني تتلى خلال الصلوات) وياجورفيدا (عبارات نثرية تتلى عند تقديم القرابين) وأتهَرفافيدا (طلاسم سحرية)، وتشكل هذه الكتب الأربعة الضخمة ما يسمى بالفيدات، ويُعتقد أنها إلهامات تلقاها الكهنة الأوائل عبر اتصالهم بمصدر المعرفة المتعالية، وهي حسب زعمهم أزلية وأبدية. وهناك من يضيف كتابا خامسا يدعى البورانات ويعتبره الفيدا الخامسة، كما يضيف البعض إلى الفيدات كتاب مهابْهارات الذي يتضمن أناشيد تدعى بْهاغافاد غيتا، وكذلك كتابي بنْشراترا ورامايان. وسنورد في مقال “نبوة محمد” نصوصا مقتبسة من بعض هذه الكتب وهي تُبشر بنبوته، وبعضها يذكر اسمه الصريح، ما يرجح أن أصولها تعود إلى الوحي السماوي.
مخطوطات من البهاغافاد غيتا
يعد كتاب بْهاغافاد غيتا من أكثر الفيدات تداولا، لأنه مختصر ويجمع خلاصة الدين الهندوسي، ويمكن للعوام قراءته، كما يعد محل إجماع جميع الطوائف والمذاهب الهندوسية.
ووفقا لكتاب “مدخل إلى الأسفار الفيدية” فإنه يمكن اعتبار أي كتاب على أنه من الفيدات طالما أنه يحفظ فحوى النصوص الأصلية للفيدات “حتى إذا لم يكن من جملة النصوص الأصلية الفيدية” [ص 1]، وهذا يكفي للاعتراف بأنها ليست كتبا موحى بها من الإله، حيث يقر باحثو الهندوس أيضا بأن كاتبي تلك النصوص غير معروفين على وجه التحديد.
ويختتم كتاب “مدخل إلى الأسفار الڤِدية” بسرد بعض ما يقال على لسان الباحثين والقارئين للفيدات من نقد، لا سيما بشأن تناقضاتها وإغراقها في الأساطير الخرافية عن العوالم الغيبية، حيث تتناقض أساطير البورانات مع أساطير الفيدات نفسها، لكن المؤلف يكتفي بالقول إن هذا الموقف لا يعكس سوى تحيز القراء غير المختصين لتراث الهند مطالبا الباحثين بأن يقرؤوا الفيدات بأنفسهم من دون فكر مسبق.
في عام ٨٠٠ ق.م تقريبا ظهرت سلسلة كتب أخرى تسمى “البراهمانا”، وهي مجموعة شروح للترانيم والأساطير والتأملات الباطنية (الغنوصية)، وتلاها ظهور كتب “أرانياكا” و”أوبانيشاد” التي استمرت كتابتها حتى عام 300ق.م. وفي هذه الكتابات الأخيرة بدأ ظهور الأثر اليوناني والروماني في الأساطير الهندية، وهو بالأحرى أثر القبّالاه اليهودية المحرفة للوحي كما سنرى لاحقا، مثل تأليه السماء المشرقة في آلهة تدعى “ديفاز” المشتقة من مصطلح “ديوس” اليوناني، وعبادة “هوديوس بيتر” الذي يقابل زيوس اليوناني وجوبيتر الروماني [راجع مقال الوثنية].
ويعد كتاب الفيداس Vedas المرجع الرئيس للهندوسية اليوم، فهو يضم مجموعة النصوص التي وضعها الكهنة والفلاسفة والشعراء خلال ثلاثة آلاف سنة، ويقع في نحو ثمانمئة مجلد تقريبا، حيث يضم الفيدات الأساسية والبراهمانات إلى جانب الأوبانيشادات التي تعد بمثابة تلخيصات وإضافات وتنويعات على الأصل.
وواقع الهندوسية اليوم يضع الباحث في حيرة من أمره، فهي طيف من الديانات والعقائد وليست دينا واحدا، حيث نجد تحت مظلتها من يؤمن بالتوحيد والتثليث وتعدد الآلهة والإلحاد في آن واحد. ومن الملفت أنه لا يُعرف على وجه التحديد من الذي وضع تلك الأساطير والنصوص، فمئات الملايين من الهنود مازالوا حتى اليوم يدينون بدين لا يُعرف من الذي أسسه. ويقول المؤرخ جون كولر في كتاب “الفكر الشرقي القديم” إنه من الصعب تتبع تاريخ الهندوسية لأنه يتسم بالغموض فيما يتعلق بالأسماء والتواريخ والأماكن، فالهندوسية تركز على العقائد والمبادئ أكثر من أي شيء آخر. [الفكر الشرقي القديم، ص 33].
تنص الكتب البراهمية المقدسة على أن أسرارها لا يمكن أن يفهمها سوى المنخرطون في سلك الرهبنة، فالسرية لا تقتصر على كونها مكتوبة باللغة السنسكريتية التي لا يعرفها عامة الناس، بل لا تُكشف المعاني الباطنية للنص إلا لمن يفني حياته في خدمة الدين، وهذه هي بالضبط فلسفة الجمعيات السرية والحركات الباطنية الغنوصية.
ينسب واضعو كتاب البهاغافاد غيتا إلى الإله كريشنا قوله “لا داعي لشرح هذا العلم الخفي لغير المرتاضين في الحياة أو غير المتتيمين، أو غير المنشغلين بالخدمة التتيمية، ولا لمن يحسدني”، [الإنشاد 18، الآية 67]، وهذا كفيل باتهام كل من ينتقد أساطير الهندوسية بأنه لم يفهمها، بل والزعم مسبقا بأنه من المستحيل أن يفهمها طالما كان لا يؤمن بها، ما يقطع الطريق على كل النقاد من خارج المؤسسة الكهنوتية.
ولحسم الجدل بشأن تعريف الهندوسية، فقد قررت المحكمة العليا الهندية أن الهندوسي هو الذي تتحقق فيه الصفات الست التالية:
1- يؤمن بالفيدات (نصوص كتاب الفيداس) ويحترمها.
2- يحترم عقائد الآخرين، على اعتبار أن للحق أوجها مختلفة (وهذا يدل على أن الهندوسية مجرد محاولة فلسفية لفهم العالم وليست حقيقة مطلقة في نظر أصحابها).
3- يعترف بأن الكون يمر بدورات خلق وانحلال متكررة إلى الأبد.
4- يؤمن يقينا بفكرة تناسخ الأرواح (وهي أكثر العقائد رسوخا لديهم، بل هي الأساس الذي تقوم عليه الهندوسية وتجتمع عليه كل مدارسها المتناقضة).
5- يؤمن بوجود عدد كبير من الآلهة وأزواجهم دون عبادة الأصنام نفسها.
6- عدم الإيمان بمبادئ فلسفية خاصة دون الهندوسية.
الألوهية والخلق تدل الفيدات والأوبانيشادات على أن البراهمية القديمة آمنت بإله واحد مجرد عن التجسد، وكامل الصفات، وهو يشبه نسبيًّا في صفاته الإله الواحد الذي ينص عليه الوحي الإسلامي.
ففي الفيدات نجد هذه النصوص التي تتحدث عن الإله:
“لا صورة له” [ياجورفيدا، الإنشاد 32، الآية 3].
“هو غير متجسد وطاهر” [ياجورفيدا، الإنشاد 40، الآية 8].
“اهدنا الصراط القويم واغفر الذنوب التي تجعلنا نضل ونضيع” [ياجورفيدا، الإنشاد 40، الآية 16].
“أيها الأصدقاء لا تعبدوا سواه, القدوس, ادعوه هو وحده” [ريغفيدا، الكتاب 8، الإنشاد 1، الآية 1].
أما في الأوبانيشادات فنجد العديد من النصوص المماثلة، وهذه بعضها:
“واحد أحد لا ثاني له” [شاندوغيا، الكتاب 6، الإنشاد 2، الآية 1].
“لا والدين له ولا سيد فوقه” [سفيتاسفتارا، الإنشاد 6، الآية 9].
“لا يمكن رؤيته ولا تجسيده”. [سفيتاسفتارا، الإنشاد 4، الآية 19].
ويبدو أن تراكم النصوص والتأويلات والتحريفات على يد الكهنة الآريين قد حولت هذا المفهوم الواحدي المجرد للإله إلى مفهوم تعددي متجسد (وثني) حلولي باطني، ففي الكتب نفسها التي تجرد الإله وتوحده وتقدسه نجد نصوصا تتحدث عن مصدر أولي للكون يدعى براهمان، وهو كائن غامض انبثق عنه الكون بطريقة الفيض [انظر مقال الباطنية].
وكما هو حال الأساطير الوثنية الأخرى، تخيل مبتكر الميثولوجيا الهندوسية (غير المعروف) وجود عائلة إلهية ثلاثية، ثم توسعت الأساطير وتوسع معها مجمع آلهة الفيدا حتى أصبح يضم طبقات متعددة من الآلهة، وهي كثيرة ويصعب حصرها، وفي الطبقات الدنيا نجد عددا هائلا من الآلهة إلى درجة أن بعض المصادر تتحدث عن وجود 330 مليون إله، أي أن الآلهة باتت بمثابة السلالات التي تتوالد كالبشر، فهي تملأ السماء والأرض. وكأن الكهنة اقتبسوا هذه الفكرة من أصل موحى به، فالأديان السماوية المعروفة اليوم تتحدث عن عدد كبير من الملائكة والجن في عوالم غيبية.
يقول المؤرخ البريطاني ويل ديورانت في كتاب قصة الحضارة عن آلهة الهندوس “تزدحم بهم مقبرة العظماء في الهند، ولو أحصينا أسماء تلك الآلهة لتطلب ذلك منا مئة مجلد، وبعضها أقرب في طبيعته للملائكة، وبعضها هو ما قد نسميه نحن بالشياطين، والبعض الآخر أجرام سماوية” [قصة الحضارة، المجلد 2 الجزء 3، ص 27].
ومن بين هذه الحشود من الآلهة، يركز الهندوس اهتمامهم على ثلاثة آلهة فقط، يشكلون ثلاثة أقانيم في واحد بحيث لا يتقدم أي منهم على الآخر، وكأنهم إله واحد يتجلى في ثلاث صور، وهم:
1- براهما: الخالق ومانح الحياة وزعيم الآلهة.
2- فيشنو: إله الحياة والرحمة والحب، ويتم تجسيده على هيئة إنسان.
3- شيفا: إله الفناء والموت والدمار، وهو في صراع مع فيشنو.
ثالوث الآلهة الهندوسية، من اليمين إلى اليسار: براهما، شيفا، فيشنو
وتقول الأسطورة إن الإله الواحد “براهمان” هو الذي أوجد هذا الثالوث المقدس، وهو الذي يتجلى في صورهم، فهو حقيقة سرمدية أبدية لا تحدها زمان ولا مكان، ولا يعرف كنهه أحد، ويسمونه أيضا “أوم” Aum أي الكائن الأسمى.
وكانت البداية عندما رغب براهمان بأن تخرج الموجودات التي كانت في داخله، أي أن العالم كله كان متضمنا فيه وكان هو يحملها كالسفينة بحسب وصف الفيدا، فتأمل براهمان تأملا عميقا حتى انبثق عنه الماء، ثم صدرت عنه بذرة تحولت إلى بيضة صفراء (أو زهرة لوتس)، فانفجرت البيضة وخرج منه الإله الأول براهما الذي تابع مهمة التأمل حتى انبثقت عنه بطريقة الفيض الكواكب وتضاريس الأرض والإنسان وكافة المخلوقات، لكن هذا الفيض لم يكن ليتم سوى بمعونة عشرة آلهة وسيطة انبثقت بدورها عن براهما، كما انبثق عن براهما أيضا الإلهان الآخران فيشنو وشيفا.
وحسب الأسطورة أيضا فإن للآلهة الثلاثة الرئيسة طبيعتان، أنثوية وذكرية، حيث تجسد الطبيعة الأنثوية في صورة كائن يسمى “شاكتي”.
لوسيفر (إبليس) يظهر في الثقافة الأوروبية على هيئة ملاك سقط من الجنة كما في هذه اللوحة لغوستاف دوريه
وعندما نقارن هذه العقيدة بما انكشف لاحقا من خفايا العقائد الباطنية السرية، ولا سيما القبالاه اليهودية، نجد تطابقا ملفتا، فالإله براهما يقابل أدوناي في سفر التكوين، والإله شيفا يحمل صفات أدوناي الذي حرّم المعرفة على الإنسان، كما يحمل صفات الإله يهوه الذي يميل إلى معاقبة بني إسرائيل وتعذيبهم كما ورد في سفر الخروج، أما الإله فيشنو فليس سوى لوسيفر (إبليس) الذي تزعم القبالاه وكافة الجمعيات السرية الشيطانية أنه الإله الذي أحب الإنسان (آدم وحواء) وأراد أن يعرّفه على شجرة المعرفة التي حرمها عليه أدوناي.
وكما زعمت اليهودية المحرفة أن إبليس تجسد في هيئة ثعبان ليدخل إلى الجنة ويغوي حواء بالأكل من الجنة ويكشف للإنسان سر المعرفة، فقد قدست الهندوسية أيضا الثعابين وجعلتها رمزا للفحولة الجنسية، وأقامت لها معابد وطقوسا لعبادتها.
ويجدر بالذكر أن القبالاه تزعم أيضا أن الألوهية لها طبيعتان، وأن الإله (الذي تسميه عين صوف) يتضمن في ذاته الذكورة والأنوثة (شخيناه)، وأن الكون والوجود كله كان متضمنا في داخله قبل أن تنبثق عنه “البيضة الكونية”، وقد تجلى عين صوف في شجرة الحياة (سيفروت) لتكون وسيلته للخلق بتجلياتها العشرة كما هو حال الآلهة العشرة التي كانت وسيطة لبراهما، حيث تجسد القبالاه هذه التجليات العشرة ببلورات كروية نورانية.
ومع تراكم الأساطير والتعديلات والتفسيرات، يمكن القول إن الهندوسية الآن تتفرع إلى عدة مذاهب يقدس كل منها أحد تجليات شيفنو أو شيفا، بينما لم يعد براهما يحظى بالكثير من الاهتمام، كما لا يلتفت الكثيرون إلى الأصل براهمان الذي انبثق عنه كل شيء، أما الآلهة الأخرى التي تأخذ صفات الملائكة والشياطين فقد تحظى باهتمام عوام الهندوس في بعض الصلوات والأدعية طلبا لمساعدتها أو اتقاءً لشرها، لكن ما يوحد جميع هذه الطوائف بكهنتها وعوامها أنهم يهتمون بعقيدة التناسخ والاتحاد بالحقيقة المطلقة (أياً كان اسمها وصفتها) أكثر من اهتمامهم بطبيعة الإله.
الطبقات يتكون المجتمع الهندوسي من أربع طبقات بناء على أسطورة الخلق، حيث أقنع واضعو الأساطير شعوبهم بأن براهما خلق كل فئة من الشعب على هيئة مسبقة فلا يمكن تجاوزها ولا التمرد عليها، وهي كما يلي:
1- الطبقة البيضاء (البراهمة): ينتمي إليها رجال الدين والعلماء، حيث خلقهم براهما من وجهه.
2- الطبقة الحمراء (الكاشاتريا): الأمراء والفرسان، وهم الذين خلقهم براهما من ذراعيه.
3- الطبقة الصفراء (الفيشيا): المزارعون والتجار والحرفيون، الذين خلقهم براهما من فخذيه.
4- الطبقة السوداء (الشودرا): الأنجاس المنبوذون، الذين خلقهم براهما من قدميه.
ومع أن الحكومة الهندية أصدرت قانونا بإلغاء العنصرية ضد “الشودرا” عام 1950، لكن الواقع لم يتغير إلا قليلا، فما زال ملايين المنبوذين مضطرون حتى اليوم للانخراط في مهن يأنف منها الآخرون مثل أعمال التنظيف وحفر القبور، وما زال أبناء الطبقات الأخرى يرفضون الاقتراب منهم أو حتى مسّ أيديهم كي لا يصيبهم “الدنس”.
التأمل والارتقاء بما أن الإنسان قد انبثق عن الإله في الأسطورة الهندوسية، فهو إذن ليس مخلوقا طارئا بل كان موجودا أزليا كامنا داخل الإله، ما يعني أن الإله والكون والإنسان جوهر واحد، وأن هناك قنوات للاتصال فيما بينهم يمكن تنشيطها عبر شحذ الطاقة الروحية للإنسان، فمن خلال التأمل وممارسة طقوس اليوغا يصبح بمقدور الروح (آتمان) أن ترتقي وتتصل بالكون بكل ما فيه من كائنات حية وبحار وجبال، وأن تبلغ درجة الألوهية نفسها، وليس الاتحاد بالإله فقط، وهذه هي حالة الموكشا الهندوسية أو النرفانا البوذية، وهي أيضا تقابل حالة الدفيقوت لدى القبالاه اليهودية.
وإلى جانب الموكشا، تحدد الهندوسية ثلاث غايات أخرى لحياة الإنسان، أولها تسمى دراهما (أو دارما) وتعني أداء الواجبات اليومية للفرد العادي، والثانية هي أرثا وتعني السعي لتحقيق النجاح في العمل وجمع الثروة، أما الثالثة فهي كاما والتي تختص بالإشباع الجنسي.
وبما أن الثالوث الإلهي كان يتضمن الأنوثة في جوهره، ما يعني أنه كان ينكح نفسه بطريقة ما، فالجنس إذن جزء من العبادة ووسائل التطهر التي ترتقي بالإنسان ليصل إلى حالة الموكشا، لذا نجد أن خُلق الحياء الذي اعتاد عليها معظم البشر في مختلف الشعوب يكاد يكون غائبا في بعض مناطق الهند، فالإباحية هناك ليست مرتبطة بالثورة الجنسية المعاصرة التي انطلقت من الغرب الرأسمالي في القرن العشرين، بل هي جزء من معتقدات بعض الطوائف الهندوسية القديمة، حيث تمارس معابدها طقوس التطهر عبر ممارسة الجنس الجماعي العلني، وتجسد نقوشها هذه الطقوس بوضوح، مثل معبد الشمس فى كونارك الذي يرجع إلى القرن الثالث عشر، و85 معبدا آخر في قرية خاجوراهو تعود إلى القرن العاشر الميلادي.
وتسعى الحكومة الهندية في العصر الحالي إلى مكافحة الإباحية عبر شبكة الإنترنت، لكن البلاد تشهد مطالب من قبل بعض الكهنة الأصوليين بإعادة إحياء الطقوس الجنسية ونشرها بين المجتمع.
تانترا فلسفة التانترا الهندوسية تعد أوضح مثال على تغلغل الشيطانية في الأديان الوثنية، فهي تقوم على فكرة اقتباس الطاقة (برانا) من الكون عبر التجارب الصوفية التأملية (اليوغا)، للوصول إلى اتحاد جنسي مع التجسد الأنثوي للإله (شاكتي)، ويتم ذلك باتخاذ وضعيات محددة للجسم (مودراس)، وترتيل تعاويذ معينة، واستخدام مخططات ورسوم رمزية (ماندالا)، وهي ليست سوى طلاسم شيطانية. وقد حفظت لنا بعض المعابد من القرن العاشر الميلادي منحوتات تجسد ممارسات جنسية جماعية لاستنزال تلك الطاقة السحرية، وهي مقبولة لدى طائفة من البوذيين أيضا.
لكن الأمر قد لا يقتصر على هذه الطقوس التي لا تختلف كثيرا عما يمارسه عبدة الشيطان، فبعض الرهبان يستعينون بشريكات عاريات للوصول إلى تلك “الاستنارة”، فيحصل الاتصال الجنسي بذريعة كونه عبادة وليس زنا، ولا تكون تلك الطاقة التي يستشعرون حلولها في الجسد إلهية المصدر بل حلولا للشياطين في أجسادهم، فالمعابد الشيطانية الحديثة التي يعترف أصحابها بأنهم يعبدون فيها الشيطان تقوم بنفس هذه الطقوس (التي تسمى هيروس غاموس) للاتحاد بالشياطين دون تدليس، لأنهم يعتبرون الشياطين هي آلهة هذا العالم.
ومن الملفت أن طقوس الجنس المقدس موجودة لدى القبالاه أيضا، ويبدو أن الثورة الجنسية التي حملتها الحداثة إلى العالم ليست سوى إحدى نتائج هذه العقيدة.
التشابه بين الهندوسية والقبالاه لا يعني بالضرورة أن الأولى هي أصل الثانية، حتى لو كانت مدونات القبالاه وعلى رأسها الزوهار لم تظهر سوى في الألف الثاني بعد الميلاد، فمن المعروف أن القبالاه أقدم من ذلك، حيث تقول القبّالية هيلينا بلافاتسكي في كتابها العقيدة السرية “الحقيقة أن القبالاه قديمة قدم الشعب اليهودي نفسه، وظلت تنتقل تعاليمها شفاهة عبر الأجيال والعصور إلى أن تم تدوينها”.
العبادات يحتل التأمل رأس قائمة العبادات الهندوسية، كما يمارس الهندوس نوعا من الصلاة في المعابد أمام الأصنام والأيقونات التي تمثل بعضا من الآلهة، فيقدمون لها قرابين ونذورا ويرتلون أمامها نصوصا من الأناشيد المقدسة.
كما يمارس الهندوسي نوعا من الذكر عبر ترديد صيغ مقدسة تدعى “مانترا”، وهي عبارة عن مقاطع صوتية تتضمن في الغالب أسماء الآلهة، ومن أشهر المانترات كلمة “أوم” التي يرددها الهندوسي بطريقة ملحّنة ومتتالية، حيث يعتقد أن هذه الكلمة هي الصوت البدائي الذي تم به خلق الكون بالفيض عن براهمان، ويساعد ترتيل المانترا على التركيز أثناء التأمل.
لا تُفرض على الهندوس تأدية زكاة على أموالهم، إلا أنهم يستحسنون تقديم الصدقات للفقراء، كما يشجعهم الكهنة على التبرع للمعابد لتغطية نفقاتها وكي لا يضطر الكهنة المتفرغون للمسألة.
يصوم الكهنة في بداية كل فصل من الفصول الأربعة، كما يصومون اليومين الأول والرابع عشر من كل شهر قمري، ويصومون مدة كسوف الشمس، ويتضمن الصوم الإمساك عن الطعام والشراب والكلام والجماع، أما عامة الناس فلا يُفرض عليهم الصوم بل يتطوع بعضهم لممارسته بهدف الارتقاء الروحي.
كما لا يُفرض الحج على الناس، لكن الملايين منهم يتطوعون للحج إلى نهر الكانج المقدس كل عام، وبعضهم يحج إلى المعابد الكبرى والمعالم المقدسة، ويتبرع ببعض ماله طمعا في الارتقاء وتحقيق الأمنيات.
ومن الواضح أن هناك تشابها بين هذه الطقوس والعبادات التي أمر بها الوحي (الإسلام)، إلا أن الهندوس تخففوا من عبء الفريضة وجعلوها نافلة لمن يشاء.
التناسخ والمعاد تقوم عقيدة الهندوسية أساسا على مبدأ تناسخ الأرواح (سمسارا)، والذي يزعم انتقال الروح بعد موت الجسد إلى جسد آخر، سواء كان جسد إنسان أم آلهة أم حيوان.
ويستند هذا الاعتقاد إلى مبدأ آخر يسمى “الكارما”، وهو ينص على أن لكل فعل يقوم بها الكائن الحي عواقب أخلاقية تتناسب مع الفعل، وذلك وفق نظام شامل للعدالة التي لا تستثني أحدا، وهو مبدأ تلقائي قائم بذاته ولا يخضع للسلطة الإلهية، مع أن الكهنة لا يملكون أي حجة عقلية تبرر عمل هذا القانون من تلقاء نفسه ودون جهة واعية تشرف عليه.
وبما أن العدالة لا تتحقق في هذه الحياة الدنيا دائما، فقد قرر الكهنة أن الأمر يتطلب الانتظار للتناسخ والعودة في حياة ثانية لينال كل فرد حقه سواء بالثواب أو العقاب، ويبرر الكهنة بهذا المبدأ تفاوت الناس في ما ينالونه من جمال وذكاء وصحة وثراء ومركز اجتماعي، ويطالبون الناس بأن يجتهدوا في العمل وحسن الخلق كي يعودوا إلى الحياة بشخصيات أفضل، بل يزعمون أن المرء قد يعود إلى الحياة على هيئة آلهة إذا حقق درجة الكمال والاستنارة، ويحذرون من إمكانية العودة بعد الموت إلى الدنيا في جسد حيوان عقابا له، لذا يحرّمون ذبح الحيوانات وأكلها خشية أن تكون حاملة لأرواح البشر.
تؤمن الهندوسية بنهاية العالم، ولكنها تعتقد بأن كونا آخر سيُخلق من جديد بعد نهاية الحالي حيث يتناسخ الكون في دورات متتالية مثل البشر، وتقول الأسطورة إن فترة “كالي” التي ستحل قبل نهاية العالم تحمل عددا من العلامات، مثل كثرة القتل وتقارب الزمان وانشغال الناس بالملذات وفساد الأخلاق.
كالكي مع حصانه
تنتظر الهندوسية شخصية تدعى “كالكي” في آخر الزمان، وتقول إنه سيكون التجسد العاشر والأخير للإله فيشنو، حيث سيظهر أخيرا لإنهاء عصر الظلام والدمار، وتعتقد الهندوسية أن للإله تجسدات متعددة تسمى “أفاتار”، وهناك من يرى أن بوذا كان أحد هذه التجسدات، كما يرى أتباع بعض القادة الهندوس والبوذيين الكبار أن قادتهم يمثلون إحدى تلك التجسدات أيضا، مثل سري راما كريشنا الذي سيأتي ذكره لاحقا.
نجد في نصوص الهندوسية ما يدل على أن النيران ستشتعل لتحرق كل شيء في اليوم الذي ينتهي فيه العالم، لكن هذه النار ليست للعقاب، كما أنه لا يوجد هناك حشر ولا حساب، بل يعاد خلق الكون بعد فترة من فنائه، ويكون الثواب والعقاب بإعادة تجسد البشر وفقا لأعمالهم في الكون الجديد.
ويبدو أن الهندوسية لم تنف وجود الجنة نهائيا، بل جعلتها مكانا مؤقتا لا يخلد فيه الصالحون، فهي مكان جميل يحتوي على قصور وحدائق وأنهار، وتعيش فيه الآلهة، ويمكن لمن يعيش حياة صالحة أن يدخل هذه الجنة لفترة محدودة بعد موته، لكن دورة التناسخ ستعود لانتزاعه من هناك وإعادته إلى الأرض، فالخلود لدى الهندوس يقتضي الاتحاد مع الحقيقة العظمى وليس دخول الجنة.
الهندوسية والجمعيات السرية سنستعرض الجانب السري للهندوسية في مرحلتين تاريخيتين، الأولى تعود إلى عصر الملك أشوكا في القرن الثالث قبل الميلاد، والثانية هي العصر الحديث.
أسرة الموريا والملك أشوكا
تعد الهندوسية من أقدم الوثنيات الباطنية التي ما زالت حية حتى اليوم، وبالرغم من نشأتها الغامضة كما أسلفنا فقد دخلت عليها طوال قرون العديد من المؤثرات حتى أصبحت خليطا من العقائد، كما انبثقت عنها أيضا عقائد أخرى في نيبال والصين ومناطق أخرى بآسيا، لكن تغلغل القبالاه في الهند لعب دورا إضافيا في جعلها أرضا خصبا للجمعيات السرية الباطنية.
في عام 269 قبل الميلاد، ورث الملك “أشوكا العظيم” الحكم عن والده بندوسارا، وبعد سبع سنوات تقريبا خاض في كالينغا بشرق الهند معركة طاحنة راح ضحيتها نحو مئة ألف إنسان كي يؤسس إمبراطوريته الضخمة، والشائع في التاريخ المتداول عالميا اليوم أن الملك أشوكا شعر بالندم على الدماء التي أزهقها، فتحول من ملك محارب إلى رسول للتسامح والأخوة الإنسانية، واعتنق الديانة البوذية (المشتقة من الهندوسية) دون أن يتخلى عن الأصل الهندوسي، وقرر أن يجعل من البوذية ديانة تبشيرية عالمية بإرسال الدعاة إلى أنحاء إمبراطوريته، ودوّن مبادئه في التسامح على أعمدة أشوكا الباقية حتى اليوم، والتي تعلوها منحوتة لأربعة أسود، ما زالت تمثل شعار الهند الرسمي حتى اليوم.
لكن ثمة رواية أخرى لقصة أشوكا، فعلى سبيل المثال يرصد الباحثان لويس بولز وجاك بيرييه في كتابهما “صباح السحرة” The morning of the magicians الجانب المخفي من تاريخ البلاد الذي لا نكاد نجد له أثرا في المراجع التاريخية الكبرى، فيقولان إن أشوكا أدرك بعد ضمه السواحل الشرقية للهند إلى دولته أنه لن يتمكن من الإمساك بزمام دولة مترامية الأطراف إلا بامتلاك قلوب الشعب قبل رقابهم، فسعى إلى نشر الهندوسية والبوذية لأنهما تقدمان للشعوب مبررا للسعي وراء الثروة والانحلال الأخلاقي دون أعباء. ولكي يضمن نجاح المشروع أسس جمعية سرية من تسعة قادة -وهو أحدهم- تحمل اسم “جمعية الرجال التسعة” [كتاب شفرة سورة الإسراء، ص 341].
وكما هو حال معظم الجمعيات السرية الأخرى التي تتوالد من رحم واحد منذ آلاف السنين، فإن هدف أشوكا من تأسيس جمعيته السرية كان بحسب زعم بولز وبيرييه هو “حفظ المعرفة وتطويرها كي لا تقع في أيدي الرجال الأذكياء ممن قد يوظفون علمهم وذكاءهم في سبيل الشر”، وقد أوضحنا في مقال الجمعيات السرية أن هذه المعرفة التي يحرصون على احتكارها ليست سوى مزيج من الفلسفة الباطنية الهرمسية والخيمياء والرياضيات والهندسة مع أكثر علوم السحر والتعامل مع الشياطين خطورة.
وتنتشر اليوم الكثير من المؤلفات والمواقع الإلكترونية التي تتحدث عن تفاصيل (يصعب التحقق منها رغم احتمال صحتها) بشأن استمرار وجود هذه الجمعية السرية، والتي يتم استبدال رجالها التسعة جيلا بعد جيل حتى اليوم، حيث يُعتقد أنهم ما زالوا يحتفظون بمعارفهم السرية المتطورة، ويؤمن الكثير من أصحاب هذه الروايات فعلا بأن هدف الجمعية هو حماية تلك المعرفة من الوقوع بيد الأشرار بدلا من العكس.
تقر المراجع التاريخية الكبرى بأن أسرة موريا التي حكمت الهند، والتي أسهها شاندرا غوبتا جد أشوكا عام 321ق.م غير معروفة الأصل، فلم يذكر لنا التاريخ سوى أن شاندرا غوبتا ظهر على المسرح الهندي لتأسيس مملكة تتصدى للغزو المقدوني (اليوناني) الذي قاده الإسكندر الأكبر، كما لم يحفظ التاريخ الكثير من آثار وقصص شاندرا وابنه بندوسارا، بينما احتفظ أشوكا بتاريخه المنحوت على أعمدة تحمل اسمه وصار تاريخ البلاد العظيم يبدأ من عنده، حيث أخبر عن نفسه بأنه ارتكب مذابح كبرى لتحويل مملكته الناشئة إلى إمبراطورية عظمى، ثم تحول بعدها إلى رمز للتسامح.
لكن الباحث بهاء الأمير -في كتابه شفرة سورة الإسراء- يرى سرًا آخر وراء هذه الأسرة مجهولة الأصل، ويتساءل لماذا ظل تشكيل جمعية الرجال التسعة طي الكتمان؟ ومن أين جاءت تلك الأسرة التي أعادت كتابة تاريخ شعب يقدر تعداده اليوم بأكثر من مليار نسمة؟
ينقل الباحث عن هيلينا بلافاتسكي أن نصوص البورانا الهندوسية المقدسة تنبأت بأن الموريا ستحكم الهند حكما روحيا خالصا وستكون مملكة التجلي القادم للإله، لكنه يفسر مقولتها بأن هذا التجلي ليس سوى تحريف لتجلي الإله في الماشيّح أو الهامشيحاه (المسيح المخلص بالعبرية) الذي ينتظره القباليون اليهود في آخر الزمان، وأن الأسود الأربعة التي اتخذتها الأسرة شعارات ليست سوى نسخة عن أسد سبط يهوذا الذي لا يكون حُكمُ بني إسرائيل إلا منهم وفقا لمقولة “حق الحكم الإلهي”. أما اسم موريا فليس سوى اسم جبل الهيكل الوارد في النص التالي من التوراة: “وشرع سليمان في بناء بيت الرب في أورشليم، في جبل الموريا حيث تراءى لداود أبيه”، ما يرجح -وفقا للباحث- أن تلك الأسرة الغامضة التي أسست جمعية سرية لحماية الهندوسية والبوذية ونشرها وتسييسها ليست سوى إحدى سلالات سبط يهوذا من بني إسرائيل الطامحين إلى حكم البشرية عبر ما يرونه وعدًا إلهيًّا.
العصر الحديث
كما هو حال القبالاه التي تزعم احتكارها للحقيقة الباطنية لليهودية، فإن فلسفة “فيدانتا” الهندوسية تتناول تفسيرات باطنية لكتب الفيدا والأوبانيشاد المقدسة، وتزعم أنها تعلم التأويلات السرية للنصوص وأنه يمكن من خلالها فهم الطبيعة المطلقة للحقيقة (الإله براهمان).
راما كريشنا
وهناك جزء من الفيدانتا تتمحور تعاليمه حول الإله فيشنو تحديدا، الذي سبق أن أوضحنا أنه يقابل إبليس نفسه بصفته الإله الحامل للمعرفة والمحب للإنسان، وقد بدأت هذه العقيدة الشيطانية بتشكيل جمعيات سرية منذ القرن الثامن عشر.
ومن أهم هذه الجمعيات جمعية “راما كريشنا” التي أسسها عام 1894م الراهب الهندي سْري راما كريشنا (المولود باسم غاداذار تشاتوبادياي) وتلميذه سوامي فيفيكاناندا، حيث انتقل فيفيكاناندا إلى نيويورك وأسس هناك جمعية فيدانتا وأصبح الأستاذ الأعظم لها، وما زالت الجمعيتان تنشئان فروعا ومدارس لنشر طقوسهما في الهند وأوربا وأمريكا الشمالية، وإليهما ينسب أيضا انتشار حركة العصر الجديد وثقافة اليوغا في كل الدول الغربية.
وبما أن الجمعيات السرية الشيطانية تنهل من نبع واحد، فقد التقى الأستاذ الأعظم للماسونية في الولايات المتحدة ألبرت بايك بالأستاذ الأعظم للفيدانتا، وأخذ بايك منه تعاليم الباطنية الهندوسية وجعلها أصلا لطقوس الدرجة الثانية والثلاثين الماسونية، وهي الدرجة قبل الأخيرة في الطقس الأسكتلندي.
كان سوامي فيفيكاناندا عضوا بارزا في محفل الأمل والمرساة الماسوني، وقد حصل على درجة الأستاذية فيه عام 1884.
ومن الملفت أن مدينة مدراس الهندية احتضنت أول محفل ماسوني أقيم خارج أوروبا وأمريكا، حيث تأسس عام 1724، أي بعد سبع سنوات فقط من تأسيس الماسونية في لندن. وما زالت الماسونية ناشطة بقوة في الهند، وقد أجرت صحيفة “تايمز أوف إنديا” لقاء مع أستاذ الماسونية الأعظم في الهند فاسوديفا ماسوريكار بتاريخ 10 فبراير/شباط 2013، وزعم فيه أن الماسونية ليست جمعية سرية بل مجرد “أخوية” تضم 22 ألف عضو.
وبطبيعة الحال، كان فيفيكاناندا يقدم نفسه إلى الغرب على أنه قديس يحمل رسالة السلام إلى العالم كما كان يفعل الملك أشوكا قبل أكثر من ألفي سنة، حيث يوثق أتباعه اليوم من محاضراته وكتاباته ما يدل على انفتاحه على كافة الأديان ودعوته للتعايش مع الجميع، وهو ما نجده في مؤلفات الروائي الإنجليزي كريستوفر إيشروود الذي كرس الكثير من حياته وأدبه للترويج للفيدانتا وتوثيق أقوال فيفيكاناندا، لكن هذا الخطاب “المتسامح” يصب في مجرى الجمعيات السرية الحديثة التي تسعى جاهدة لإعادة صهر الأديان كلها في بوتقة دين عالمي واحد، وهو دين عبادة لوسيفر أو فيشنو (إبليس) حامل الضياء الذي يسعى لكشف غشاوة الجهل عن الإنسان كما يزعمون.
في عام 1893، أطلق سوامي فيفيكاناندا مع القاضي الأمريكي تشارلز بوني مبادرة لإنشاء “البرلمان العالمي للأديان” في مدينة شيكاغو الأمريكية، والذي استمر بمزاولة أنشطته حتى أصبح مجلسا عالميا يحظى بشهرة كبيرة، ومنذ عام 2014 أصبح ينعقد سنويا. ويعتبر هذا البرلمان منصة عالمية لنشر فكرة “وحدة الأديان”، حيث يسعى رجال دين من كافة الأديان لتقديم أطروحات تفسيرية لأديانهم بأقل قدر من الفوارق والحدود، ما يسمح لاحقا بدمج هذه الأديان كلها في ملة واحدة، وذلك بذريعة نبذ عوامل التفرقة بين البشر.
تتجلى هذه الرسالة بوضوح في كتابات هيلينا بلافاتسكي، فقد بدأت بتلقي تعاليم الجمعيات السرية عبر الهندوسية أولا عندما التقت بمعلمها كوت هومي في لندن، وهو أحد مؤسسي أخوية النور العظمى التي تدمج تعاليم جمعية المتنورين (إلوميناتي) بتعاليم الفيدانتا، وقد رحلت بلافاتسكي معه إلى الهند في منتصف القرن التاسع عشر وبقيت هناك عدة سنوات، ثم أسست في الولايات المتحدة عام 1875 جمعية الحكمة الإلهية (ثيوصوفيا)، التي تعد الآن من أهم الجمعيات الباطنية التي تلهم الكثير من صناع الرأي والقرار في الغرب، وقد افتتحت بلافاتسكي في مدينة مدراس الهندية فرعا لها أيضا قبل افتتاح المزيد من الفروع في أمريكا وأوروبا.
بلافاتسكي
وتعلن بلافاتسكي في كتابيها “إيزيس بلا حجاب” و”العقيدة السرية” ما تسعى إليه بكل وضوح، فهي تصرح بأن لوسيفر (إبليس) هو حامل النور والحياة والمعرفة والحضارة والحرية، وهو إله هذا الكون الذي يستحق أن يعبد بدلا من الإله الخالق الذي طرد الإنسان من الجنة، وبما أن الأرواح تتناسخ وفقا للعقيدة الهندوسية (والتي يؤمن بها الباطنيون) فإن الإنسان المخلّص (المايتريا) سيحل للمرة الخامسة والأخيرة في أحد الأجساد قريبا، ويتجلى فيه الإله براهمان، فيقود البشرية نحو الاندماج في أمة واحدة ودين واحد وهو دين عبادة لوسيفر.
وقد آمنت بهذه العقيدة أيضا سيدة أميركية يهودية تدعى أليس بيلي، وأسست منظمة عالمية تدعى “لوسيفر ترست” عام 1922، ثم تم تعديل الاسم إلى “لوسيس ترست” لدفع الشبهات عنها، وتلعب هذه المنظمة اليوم دورا مهما في دعم أنشطة منظمة الأمم المتحدة، وفقا للموقع الرسمي للمنظمة.
كانت بيلي أكثر وضوحا من أستاذتها، ففي كتابها “ظهور المسيح” تقول إن المسيح المنتظر سيكون من سلالة اليهود، وهو الماشيّح الذي ينتظرون ظهوره في آخر الزمان، وسيوحد الشرق والغرب ويحل به السلام في العالم كله. كما خصصت العديد من كتبها لشرح تعاليم “العصر الجديد” الذي تبشر به، [انظر مقال حركة العصر الجديد]، وجميع هذه الكتب متاحة للبيع على موقع “لوسيفر ترست” وليست سرية.
وهكذا تتقاطع الباطنية اليهودية مع الباطنية الهندوسية، فالماشيّح هو نفسه المايتريا، ولوسيفر هو فيشنو، والخلاص النهائي سيحدث عندما يخرج المخلّص إلى العلن ليوحد الناس جميعا في عقيدة واحدة بإخلاص العبادة لذلك الإله، وذلك مصداقا للنبوءات التي ينتظر المسلمون تحققها في آخر الزمان عندما يخرج الأعور الدجال.
أليس بيلي مع شعار منظمتها وغلاف كتابها
أما التلميذة الثانية لبلافاتسكي الكاتبة البريطانية آني بيزنت فكانت من أهم ملهمي المهاتما غاندي، مؤسس الدولة الهندية الحديثة، حيث التقى غاندي شخصيا بالسيدتين عام 1889، وكان يعلق صورة بيزنت في مكتبه بجوهانسبرغ في جنوب أفريقيا قبل أن يصبح قائدا للثورة ضد بريطانيا، ويقال إن بيزنت هي التي أطلقت عليه لقب مهاتما (الروح العظيمة)، وهو اللقب السنسكريتي المقابل للقب الأستاذ في جمعية الثيوصوفيا.
آني بيزنت مع غاندي
اشتهر غاندي عالميا بأنه كان منفتحا على كل الأديان ورافعا لراية السلم ومناهضا للعنف، وينقل عنه قوله “إن للأديان روحا واحدة، إلا أنها تتجلى في أشكال متعددة، والجوهر سيبقى حتى النهاية، والرجال الحكماء سيتجاهلون القشور ويهتمون بالروح الحية التي تحتها… أما الحقيقة فليست ملكا حصريا لأي كتاب مقدس على حدة”، وهذا ما كان يقوله المعلم راما كريشنا الذي اعتبر أن كل الأديان بما فيها الإسلام والمسيحية تؤدي إلى نتيجة واحدة.
والحقيقة أن هذه الدعوات للانفتاح لا تعدو كونها شعارات لتمييع الحقيقة حتى تتماهى مع الباطل، وليصبح الوحي السليم مكافئا للدين الأسطوري المحرف، فالأديان الباطنية وحركاتها التي مازالت تتوالد باستمرار لا تخوض في الأسئلة الوجودية الكبرى، وتكتفي بالدوران حول المسلّمات التي تتفق عليها كافة الأديان مثل وجود الإله ومحبته وضرورة التعايش في وئام وسلام، بينما تدعو بشكل غير مباشر إلى نبذ الأصول الأخرى التي لا يكتمل أي دين إلا بها ولا يصح جمعها مع أصول الأديان الأخرى.
وهذا التمييع يقع في قلب أهداف الجمعيات السرية كلها، وهو ما تعلنه جمعية بلافاتسكي وتلميذاتها بوضوح، وهذا يفسر تبجيل الغرب -بما فيه بريطانيا التي كانت تحتل الهند- لغاندي، حتى أصبح أيقونة عالمية يراد تعميمها واستنساخها، فهناك جانب غير معلن من قصة المهاتما واستقلال الهند وتقسيمها على حساب المسلمين.
منظمة أشوكا العالمية تأسست هذه المنظمة في الهند عام 1981 لدعم أصحاب المشاريع الاجتماعية الرائدة في العالم ممن يسعون للتغيير الاجتماعي، وذلك على يد المدير المساعد للوكالة الأمريكية لحماية البيئة بيل درايتون. وتمنح المنظمة أعضاءها لقب زمالة أشوكا للدلالة على التميز والريادة، وتعلن في موقعها الرسمي أنها استمدت اسمها من “الإمبراطور أشوكا الذي تخلى عن العنف وأصبح واحدا من أكثر القادة تسامحا وانفتاحا وإبداعا في التاريخ”.
وإلى جانب المشاريع الخيرية والتنموية التي تدعمها، وهي مشاريع رائدة وتستحق التقدير، تولي المنظمة اهتماما كبيرا بالمشاريع التي تحث على التسامح والاندماج، وفقا للمفاهيم التي يتبناها دعاة اللاعنف مثل فيفيكاناندا وغاندي.
هاري كريشنا
أحد مهرجانات هاري كريشنا في موسكو
في عام 1965 قطع الهندوسي “أيه سي بهاكتي فيدانتا سوامي برابهوبادا” شوطا طويلا في دمج الهندوسية بالثقافة الغربية عندما أسس في نيويورك “الجمعية الدولية لوعي كريشنا”، والتي باتت تعرف باسم حركة هاري كريشنا، وهي تستمد أصولها من الكتب الفيدية التقليدية وتعتمد على تعاليم حركة “غوديا فاشينافا” التي سبق أن ظهرت في الهند عام 1486، وتركز جل اهتمامها على عبادة فيشنو وكريشنا.
استقطبت حركة هاري كريشنا اهتمام آلاف الشباب الأمريكيين تزامنا مع صعود حركات العصر الجديد، فكانت أشبه بموضة فكرية تضفي بعدا روحيا على حياة الهيبيين المليئة بالعبث والجنس والمخدرات، دون أن تحمّلهم أعباء أخلاقية أو تحرمهم من التمتع بالملذات الحسية، وذلك بالرغم من إصرار أدبيات الحركة على أنها تدعو للتقشف ومقاومة الشهوات، إلا أن فلسفتها الغامضة ظلت كما يبدو حبيسة الكتب، كما أن محاولتها إضفاء البعد الروحي على الممارسات الجنسية تكفي لجذب الشباب حتى لو اكتفوا بالبحث عن المتعة دون التفات إلى وصايا التقشف.
سرعان ما توسعت الحركة، وأصبحت اتحادا عالميا يضم مجتمعات مصغرة تكتفي بذاتها في الغابات، وذلك بعيدا عن ضجيج الحياة العصرية. وعندما انهار الاتحاد السوفيتي وسقط النظام الشيوعي الإلحادي؛ وجدت هذه الحركة أرضا خصبة في أوروبا الشرقية، لملء الفراغ الروحي لدى الشباب الباحث عن أي بوصلة.
ميهير بابا في عام 1925، بدأ شاب هندي من والدين إيرانيين زرادشتيين اسمه ميروان شيريار رحلته الروحية التأملية، وكان عمره آنذاك تسعة عشر عاما، وعندما أصبح جاهزا أسس جماعته الخاصة في بومباي مدعيا أنه “أفاتار” جديد يتجسد فيه الإله.
وكما هو حال الكثير من الزعماء الهندوس، لحق به الآلاف فأسس لهم قرية أسماها ميهيرأباد، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة التي باتت أرضا خصبة لحركات العصر الجديد، وأصبح من نجوم المجتمع إلى أن توفي عام 1969، وتحول مقره في مايرتل بتيش بولاية كارولاينا الجنوبية إلى متحف يستقطب المعجبين حتى اليوم، وهو شاهد على حياة الترف التي كان يعيشها.
مهاريشي ماهيش عام 2007 قبل شهور من وفاته (Global Good News)
التأمل التجاوزي بعد نجاح راما كريشنا و فيفيكاناندا في عولمة الهندوسية وربطها بالجماعات السرية الغربية، جاء دور مهاريشي ماهيش يوغي (المولود عام 1918 باسم ماهيش براساد فارما)، حيث انعزل في جبالا الهيمالايا ثلاثة عشر عاما حتى يصل إلى “الاستنارة”، ثم بدأ بتأسيس مشروعه عام 1959 محاولا تقديم الأساطير الغنوصية في ثوب علمي، فقدّم أبحاثا في مجال الوعي وعلاقته بهالات الطاقة المحيطة بالجسم، وأسس “جمعية التأمل التجاوزي الدولية” في لندن لتكون مظلة لأفكاره.
ذاع صيته في الستينات عندما بدأت فرقة البيتلز الغنائية الشهيرة بالتعلم على يديه، حتى أصبح من نجوم حركات العصر الجديد، مما منحه فرصة أكبر لترويج نظرياته التي كان يحاول من خلالها تقديم حلول لمشاكل العالم الاقتصادية والسياسية والتربوية والأخلاقية والصحية والإدارية، ثم أسس جامعات في الولايات المتحدة واليابان وهولندا وروسيا لتخريج أجيال من المعلمين الحاملين لأفكاره، والتي أصبحت جزءا من إمبراطوريته القائمة حتى اليوم.
في عام 1975 بدأ بالتبشير بما سماه “فجر عصر الإشراق”، وقام بجولة عالمية للترويج لبدء عصر جديد للإنسانية، وكان رئيس وزراء كندا بيير ترودو أحد الشخصيات المهمة التي استقبلته بحفاوة. وتتقاطع هذه الفكرة مع نظرية بلافاتسكي المذكورة أعلاه عن عصر جديد ونهائي يتجلى فيه لوسيفر “إبليس” حاملا الخلاص والنور والسلام إلى البشرية.
أوشو ولد تشاندرا موهان جين عام 1931، وبدأ بشق طريقه نحو الشهرة في الستينات من خلال انتقاداته للأديان والسياسة وحتى بعض الرموز لدى الشعب الهندي مثل المهاتما غاندي، وفي أواخر الثمانينات اتخذ اسم “أوشو” وأصبح من أكثر رجال الدين الهندوسي إثارة للجدل.
على عكس المعلمين السابقين الذين حرصوا على الظهور في صورة المتقشفين، لم يتردد أوشو في الانفتاح على كل الملذات ومظاهر الخلاعة. فبعد انتقاله إلى الولايات المتحدة عام 1981 أنشأ في ولاية أوريغون قرية خاصة بأتباعه تحت اسم “راغنشبورام”، والتي أصبحت محجّا للباحثين عن أساليب جديدة تدمج التأمل بالجنس، وتصل بالممارسين إلى حد الهلوسة، وهي لا تختلف في شيء عن طقوس الجماعات الشيطانية.
لم يكن أوشو يخفي عن أتباعه وعن الصحفيين الجانب المترف من حياته الخاصة، فكان يمتلك عددا كبيرا من سيارات رولز رويس ويعيش في قصر فخم، فضلا عن ممارساته الجنسية المتعددة. وقد دخل في صراعات مع جهات إعلامية وسياسية واجتماعية كثيرة في أميركا مما أدى إلى طرده، حيث منعته أكثر من عشرين دولة من اللجوء إلى أراضيها، فاضطر للعودة إلى بلدته بيونيه في الهند ليموت فيها عام 1990.
أتباع أوشو كانوا يصطفون يوميا في قريته الخاصة بأميركا لتحيته عند مغادرته بسيارته الفارهة
والملفت أن أفكاره لاقت رواجا بعد موته أكثر مما كانت عليه في حياته، وهي من أكثر أنماط العيش ملاءمة لحركات العصر الجديد المنفلتة عن قيود الأديان والأخلاق، حيث يجتذب منتجع أوشو الدولي في بيونيه نحو مئتي ألف زائر سنويا، وتعد مريم نور من أهم مروجي فلسفته في العالم العربي.
في هذا الفيديو يتبرّك أتباع أوشو بقدميه في عيد ميلاده عام 1972:
البوذية تقول الحكاية إن أميرا هنديا اسمه سدهارتا غوتاما ولد عام 560ق.م لملك كان يحكم مملكة صغيرة على الحدود الفاصلة بين الهند ونيبال، وعندما بلغ الأمير سن التاسعة والعشرين شعر بالملل من حياة الترف وانطلق في الغابات والجبال للتقشف والتأمل على طريقة اليوغا حتى بلغ حالة الاستنارة، وأصبح لقبه بوذا، أي المستنير.
انطلق بوذا للدعوة إلى مذهبه الذي يعد طريقة للخلاص تحت مظلة الهندوسية، فآمن به الناس وذاع صيته، ولم يترك بوذا لأتباعه كتابا يوثق تعاليمه، كما لم يرشح أحدا منهم ليخلفه، ويقال إن ثلاثة من كبار الرهبان الذين آمنوا به قرروا بعد وفاته تدوين فلسفته، وبعد نحو ثلاثة قرون وجد الملك آشوكا العظيم في هذه الفلسفة نسخة أكثر قابلية للتطبيق والتبشير، لا سيما وأنها تلغي الطبقية التي كانت موجودة في الهندوسية القديمة، فجعل منها دينا عالميا.
هناك من يشكك في وجود شخصية حقيقية اسمها بوذا ويرجح أنها مجرد أسطورة، وهناك من يرى في المقابل أن بوذا كان نبيا مرسلا من الله وداعيا إلى التوحيد الذي دعا إليه خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنه من الصعب التحقق من صحة هاتين المقولتين فسنتعامل مع شخصيته وآثاره وفقا لما يقوله أتباعه.
تمثال لبوذا في حالة تأمل
من الملفت أن بوذا لم يتحدث عن وجود إله على الإطلاق، مع أن الهندوسية الأصلية تعبد ملايين الآلهة وتجعل على رأسها إلها خالقا، لكن بوذا ركز اهتمامه كله على الاستنارة والتوحد بالحقيقة المطلقة ونبذ الطبقية ورفع الظلم عن المضطهدين، وعندما يُسأل الرهبان البوذيون اليوم عن مفهومهم لبدء الخلق وأصله ومصيره وما بعد الموت فإنهم لا يقدمون إجابات شافية، فالبوذي يقصر اهتمامه على الجانب الأخلاقي والسلوكي ويتهرب من التفكير في الأسئلة الوجودية، ما يدفع بعض الباحثين للتردد في تصنيف البوذية ضمن الأديان واعتبارها مجرد فلسفة باطنية.
ونظرا لغياب مفهوم الألوهية لديهم، رفع الكهنة بوذا إلى مرتبة الإله مع الإقرار بأنه مجرد معلم وليس خالقا، إلا أنهم يقصدونه بالعبادة والتقديس. وتقام اليوم في المعابد البوذية صلوات وتتلى أناشيد ملحنة أمام أصنام بوذا، كما يؤدي الكثير من أتباعه صلاتهم في منازلهم أمام أيقونات على هيئة بوذا.
تُفرض الزكاة على أموال عامة الناس، وقدرها تُسع المال، أما الصيام فيتطلب الامتناع عن الأكل والشرب باستثناء الحليب، وبعضهم يصوم ثلاثة أيام محددة في السنة، بينما يصوم آخرون اليوم الرابع عشر من كل شهر قمري، أما الحج فيتطلب السفر إلى أربعة أماكن مقدسة في الهند ونيبال، ويقر الكهنة أن هذه العبادات لم يأمر بها بوذا بل وُضعت بعد موته.
وكما هو الحال لدى الهندوسية، يؤمن البوذيون بمبدأ “الكارما” والتناسخ، ويزعمون أن المرء قد يعود إلى الحياة على هيئة آلهة إذا حقق درجة الكمال والاستنارة، ويحذرون من إمكانية العودة بعد الموت إلى الدنيا في جسد حيوان، لذا يعتقد البوذيون أن بعض الديدان والحشرات ليست سوى كائنات بشرية ممسوخة، فيمتنعون عن قتلها.
تعد البوذية أكثر مادية من الهندوسية، فهي ترى أن الخلاص حالة لا تخضع للتغير، وهو الخلود والمجد والمعرفة المتعالية، حيث يشعر الإنسان بالطمأنينة والسعادة عندما ينال هذه الدرجة. كما لا تقر البوذية بوجود الروح (الأتمان عند الهندوس)، بل تزعم أن الإنسان مركب من أجزاء مادية متغيرة، وآلية الكارما تؤدي إلى تمتع الإنسان بالملذات المادية بعد التناسخ، فلا وجود للآخرة بنهاية المطاف. وهذه الرؤية المادية تعطي البوذية ميزة القبول في الغرب، لا سيما ضمن إطار حركة العصر الجديد.
بعد نحو ألف سنة من خروج البوذية من رحم الهندوسية، قدّم بوذيدارما -الذي يعتقد أنه الخليفة الثامن والعشرون لبوذا- مذهبا جديدا تحت مسمى بوذية التشان، والتي تعد النسخة الصينية من البوذية، ثم انتقل هذا المذهب إلى اليابان تحت مسمى بوذية الزن. ولا يختلف هذا المذهب كثيرا عن الأصل، إلا أنه يحاول أن يجعل تعاليم البوذية أكثر التصاقا بالحياة اليومية، ما يعطيه أيضا ميزة الانتشار في الغرب.
التقاطع مع الإسلام
الهندوسية والإسلام تتقاطع الهندوسية مع الإسلام في الإقرار بالألوهية، لكن الإسلام يقوم على التوحيد والإيمان بأن للإله وجودا حقيقيا مطلقا، وبأن للمخلوقات وجودا حقيقيا نسبيا، ويتنافى هذا التوحيد مع وحدة الوجود واتحاد الخالق بالمخلوقات أو حلوله فيها.
أما الهندوسية فتقوم على تعدد الآلهة (الشرك)، وتقر بخلود الروح وتناسخها، وتعطي الأولوية للروح على الجسد، ما يؤدي إلى الزهد المتطرف، بينما يقول الإسلام بوحدة الروح والجسد وتحقيق التوازن بينهما مع الدعوة إلى الزهد المعتدل.
يرى كثير من المؤرخين أن الهندوسية لعبت دورا جوهريا في نشوء بعض الفرق الإسلامية أو التأثير عليها جزئيا، مثل الإسماعيلية وبعض الطرق الصوفية، غير أنه يجب التمييز بين نمطي التصوف الإسلامي لتحديد مدى تأثيرها عليه، ففي التصوف السني التعبدي ظل تأثيرها ثانويا ومحدودا، حيث أخذ عنها الزهاد بعض المظاهر كالسُّبحة والمخلاة، والقول بأولوية النفس على الجسد بصورة مخففة، أما التصوف الفلسفي فتأثر بها بقوة حتى كانت من مصادره الأساسية، ونرى ذلك واضحا في مقولة الحلول التي تُنسب للحلاج، وفي نظرية وحدة الوجود لدى ابن سبعين. [انظر: الباطنية والتصوف الفلسفي].
البوذية والإسلام تلتقي البوذية مع الإسلام في العديد من القيم الأخلاقية والاجتماعية، مثل الدعوة للمساواة التي نص عليها الحديث النبوي “ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى” [رواه البيهقي وصححه الألباني]، وكذلك في التوسط بين الإباحة المطلقة والزهد المطلق، والذي نجده في الآية {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77].
لكن الاختلاف يظهر في عقائد جوهرية، وأهمها تأليه بوذا الذي يتناقض مع التوحيد، وإنكار البوذية لخلود الروح رغم قولها بالتقمص، وهو تناقض واضح.
أهم المراجع:
أبو الريحان البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، 1958.
ويل ديوارنت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود ومحمد بدران، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد 2 الجزء 3.
كيم نوت، الهندوسية: مقدمة قصيرة جدًا، ترجمة أميرة الصادق، مكتبة هنداوي، 2022.
جون كولر، الفكر الشرقي القديم، ترجمة كامل حسين، سلسلة عالم المعرفة، 1995.
أمَة الرفيع محمد بشير، المعاد في الهندوسية (أطروحة دكتوراه)، الجامعة الإسلامية العالمية، إسلام أباد، بدون تاريخ.
عبد الرزاق الموحي، العبادات في الأديان السماوية، دار الأوائل، دمشق، 2001.
بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.
فيلون اليهودي الذي عاش في الإسكندرية معاصرا ولادة المسيح عليه السلام كان يعيد تأويل النصوص اليهودية رمزيا
بالعودة إلى اليهودي عبد الله بن سبأ الذي جاء ذكره في باب “الإمامية الاثناعشرية“، فقد أقر المستشرق جولد تسيهر بأن ابن سبأ وتلاميذه استطاعوا أن “يورثوا الإسلام تركة فيلون اليهودي” بتفسيرهم القرآن الكريم تفسيرا رمزيا لتحريف معانيه وتأويلها بما يناسب هواهم [العقيدة والشريعة، ص156]، وقد فصّل الكثير من باحثي العقائد في المقارنة بين ما فعله فيلون اليهودي من تحريف وتأويل للتوراة وبين جهود ابن سبأ لتكرار التجربة نفسها مع القرآن، وخصوصا أن الأدوات المعرفية والفلسفية التي استخدمها العرفانيون من اليهود والمسيحيين هي نفسها التي لجأ إليها السبئيون بعد استيرادها من فلسفة فيثاغورس وأفلوطين والغنوصية الهندية والفارسية.
وكان ابن سبأ قد بدأ بوضع بذور الباطنية خلال حياة علي بن أبي طالب، فأخذ يتحدث عن تقديس علي وأحقيته بالخلافة ثم نشر الاعتقاد بغيبته ورجعته بعد موته. وجاء بعد ابن سبأ المختار بن أبي عبيد ليدعي أن محمد بن الحنفية هو الإمام بعد أبيه علي، ونشأت بذلك فرقة الكيسانية التي اعتقدت بتناسخ الأرواح بعد موت الأجساد. ومع أن ابن الحنفية تبرأ منهم فقد تبنى ابنه عبد الله -كما يقال- أفكار الغلاة، ووضع رموزا سرية للأرقام كي يفسر بها النصوص الدينية بما يوافق هواه، فجاء بعده من يعطي الرقم 7 أسرارا خفية.
واستمرت السلسلة مع ظهور أبو الخطاب الأسدي الذي يُنسب إليه القول بألوهية النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبأن الإله –تعالى- حلّ في سلالته من الأئمة بدءاً من علي، حتى أسقط أبو الخطاب الشرائع والفرائض ودعا للإباحية وتعلم السحر، كما حاول إقناع جعفر الصادق بخرافاته فطرده.
ويقال إنه كان له دور في إقناع المفضّل الجعفي بأفكاره الباطنية، فأثّر بدوره على محمد بن نصير مؤسس النصيرية (العلوية)، وكذلك على محمد بن إسماعيل وابنه، وعلى ميمون القدَّاح وابنه، وهما أبرز مؤسسي الإسماعيلية.
وبعد وفاة الإمام السادس جعفر الصادق سنة 148هـ، رأى بعض الشيعة أن الصادق أوصى بالإمامة لابنه الأكبر إسماعيل المبارك، فانشقوا بذلك عن بقية الشيعة وسُمّوا بالسبعية أو الإسماعيلية، بينما قرر الآخرون أن موسى الكاظم هو الإمام الذي يخلف أخاه الصادق، واستمرت سلسلة الأئمة لديهم حتى الإمام الثاني عشر فسمّوا بالاثني عشرية.
اختلف الإسماعيلية أيضا في مصير إسماعيل، فقرر البعض أن والده أقام له جنازة وهمية مدعيا وفاته لحمايته من بطش العباسيين، وأنه بقي حيا يمارس الإمامة، بينما وافق آخرون على أنه مات كما قال الاثناعشرية لكنهم فضلوا أن تكون الإمامة في ابنه محمد بن إسماعيل المكتوم بدلا من الكاظم. وقد تفرقت الإسماعيلية أيضا إلى فرق عدة لاحقا لتنوع التأويلات والخلاف على الأئمة والدعاة اللاحقين، ولتداخل الدين بالسياسة أيضا.
يختلف الإسماعيلية أيضا عن الشيعة بالميل نحو التأويلات العرفانية والإشراقية الصوفية، وقد كتب الكثير من الباحثين عن الأصول الفكرية المستوردة التي أثرت في عقائدها، بدءا ببعض الأفكار اليهودية والمسيحية، والعقائد الغنوصية المجوسية (الفارسية)، كما يظهر جليا تأثرها بمدرسة الأفلاطونية المحدثة، حيث كان رواد هذه الفلسفة في المشرق الإسلامي من الإسماعيليين.
العقيدة تأثر الإسماعيليون في اعتقادهم بالله تعالى وفي خلقه وصفاته بالفلسفة الإشراقية المسماة بالفيض، وهي من نتائج المدرسة الأفلاطونية المحدثة، فيرون أن الله لم يخلق العالم مباشرة بل يفيض عنه العقل الكلي الذي هو محل لجميع الصفات الإلهية ويسمونه الحجاب، ثم يحل العقل الكلي في النبي وفي آل بيته من الأئمة الذين يخلفونه، فمحمد هو الناطق وعلي هو الأساس الذي يفسر الأسرار الباطنية للوحي. كما يُعد الإسماعيليون من “المعطلة” عند بقية المسلمين، أي أنهم ينفون الأسماء والصفات عن الله للمبالغة في تقديسه ولأنه في نظرهم فوق متناول العقل مما يوقعهم في تعطيل صفاته، فلا ينسبون إليه صفات العلم والقدرة والخلق وغير ذلك، كما لا ينفونها عنه، بل يضيفون هذه الصفات للعقل الكلي الذي يفيض عنه.
وتنطلق عقيدتهم من فكرة جوهرية -ذات أصول عرفانية صوفية- تقول إن لكل شيء ظاهرا وباطنا، ومع أنهم يعتمدون القرآن الكريم مصدرا للتشريع والعقائد فلا يأخذون بظاهره، بل يرون أن الحقيقة في باطنه الذي لا يعرفه إلا الأئمة المعصومين والعلماء، ومن هنا جاءت تسميتهم بالباطنية التي تشمل كل من انشق عن الجماعة الإسماعيلية من طوائف أخرى.
يرفع الإسماعيليون درجة الأئمة أكثر مما يفعل الاثناعشرية، ويضفون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه صفات توحي بتأليهه، ففي كتاب كنز الولد لمؤلفه إبراهيم بن الحسين الحامدي نجد نصا منسوبا لعلي يقول فيه “أنا الأول وأنا الآخر، وأنا الظاهر وأنا الباطن، أنا بكل شي عليم، أنا الذي سمكت سماءها وسطحت أرضها وأجريت أنهارها وأنبت أشجارها”، والإمام الذي يخلف علي هو محور الدعوة الإسماعيلية ومحور العقيدة، وله حجة وداعية يدعو إلى البيعة له والإيمان به ويمرر المعلومات السرية من الإمام لأتباعه.
يحتل العقل عندهم منزلة رفيعة، فإذا تضارب النص مع فهمهم له أوكلوا الأمر للأئمة ولمن يخلفهم لإعادة تأويله بما يناسب العصر والمصلحة. ونظرا لاعتقادهم بجوهرية الباطن الخفي فإنهم يحتفون بالمعاني التي يمكن استنباطها من الأرقام.
الدعوة السياسية تابع الإسماعيليون مهمة تطوير الأفكار الباطنية التي ترددت على لسان ابن سبأ ومن بعده ليجعلوا منها فلسفة متكاملة في الدين والحياة والسياسة، وأقاموا تصورا لمجتمع مثالي وصفه خمسة من فلاسفتهم في كتاب “رسائل إخوان الصفا”، وأسسوا مدارس دينية سرية لاستقطاب الكفاءات الفكرية كي تنطلق بالدعوة بين الناس لهذا الدين.
واعتمدت الإسماعيلية على الدعوة السرية لنشر التشيع وتنصيب الإمام خليفة على المسلمين، وظلت تبرر مبدأ التقية بالخوف على حياة الإمام وسلالة آل البيت من بطش العباسيين طوال قرون حتى أصبح العمل السري والتخفي والكذب والتشفير أمورا معتادة بدلا من أن تكون مجرد وسائل لمرحلة انتقالية، والأصل أن الأنبياء الذين اضطر بعضهم إلى التكتم في مراحل الدعوة الأولى سرعان ما جهروا بدعوتهم لاحقا، وتحملوا في سبيل ذلك كل أصناف العذاب، ولم يلجأوا إلى التقية والكذب حتى أثناء مرحلة التكتم.
وبالعودة إلى البدايات، يؤكد بعض المؤرخين السنة أن نشأة الفكر الباطني المقترن بالدعوة الإسماعيلية قد حيكت خيوط مؤامرته في سجن العراق، حيث اجتمع عبيد الله (أو عبد الله) بن ميمون القداح -الذي كان والده ميمون بن ديصان مولى لجعفر الصادق- مع حمدان بن قرمط وأحمد بن الحسين ومحمد بن الحسين الملقب بدندان، واتفقوا على تحريف دين المسلمين بنشر الأفكار الباطنية ذات الأصول اليهودية والمجوسية.
ويقول عبد القاهر البغدادي إن ميمون نفسه وليس ابنه عبيد الله هو الذي كان في السجن وخطط للمؤامرة، وإنه خرج من السجن الذي حبسه فيه الخليفة المهدي ليرحل إلى المغرب ويعلن من هناك انتسابه لآل بيت النبي وأنه من ولد إسماعيل بن جعفر الصادق، حيث كان ميمون وصياً على محمد بن إسماعيل من قبل جده جعفر الصادق فانتسب إليه، ويضيف البغدادي أن هؤلاء كانوا “دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم، وينكرون الرسل والشرائع كلها”، والدهرية هم الملحدون الذين لا يؤمنون بالله حسب التعريف القديم، وقد اختلف المؤرخون على رأيين في أصل ميمون فبعضهم جعله يهوديا بينما رأى آخرون أنه مجوسي.
ويؤكد مؤرخو السنة أن سلالة الأئمة الإسماعيليين -الذين أصبحوا خلفاء فاطميين لاحقا- ليسوا سوى أبناء القداح اليهودي، وأنهم لا يمتون إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم بصلة. ومن أهم من وثّق الطعن في نسبهم ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان، والباقلاني في سير أعلام النبلاء، وأبو شامة في كتابه الروضتين في أخبار الدولتين، وابن تغري بردي الأتابكي في كتابه النجوم الزاهرة، كما وافقهم في ذلك بعض المستشرقين مثل دوزي، وماسنيون.
وبالرغم من خطورة هذه المؤامرة فقد كانت الأجواء مهيئة لنجاح خدعة القداح مسبقا، إذ ساعد الاضطهاد الأموي والعباسي لآل البيت على تعلق كثير من العوام بالدعوة للتشيع، وتعمد أصحاب هذه الدعوة نشرها في اليمن والمغرب لانقطاعهما عن مركز الدولة في بغداد، كما ظل الأئمة المزعومين متخفين عن عيون أتباعهم فيما سمي بمرحلة الستر تذرعا بالخوف من بطش العباسيين مما ساعد على إخفاء حقيقتهم التي لا يعرفها إلا أقرب المقربين إليهم.
يكشف لنا التاريخ عن دورة حياة واحدة لمعظم الأديان والجماعات، حيث يتفانى المؤسسون بإخلاص لنشر دعوتهم وترسيخ أركانها ومؤسساتها، وقد يدفعون في سبيل ذلك أموالهم وأرواحهم، ثم تأتي الأجيال اللاحقة وتطمع في المناصب والمكاسب ليبدأ الشقاق والخلاف والتفرق إلى مذاهب عدة، ويبدو أن الباطنية الإسماعيلية لم تكن استنثاء.
وبعد كل ما بذله الدعاة الأوائل من جهد لنشر دعوة الإمام محمد بن إسماعيل بالسر وتأليف قلوب أتباعهم بما أسموه نظام الإلفة والإخاء، ومع كل ما عانوه من صعوبات بسبب ملاحقة العباسيين لهم، فقد بدأ الشقاق وفقا لرواية مؤرخي الإسماعيلية في عهد الإمام الحسين بن أحمد بن عبيد الله بن ميمون القداح (والذي كان يُعتقد أنه حفيد عبيد الله بن محمد بن إسماعيل) وسرعان ما تطور الخلاف إلى حروب طاحنة، حيث تشكك الداعي عبدان بأن الإمام كان مزيفا عندما زاره في بلدة سلَمية قرب حماة (مقر الدعوة الإسماعيلية الأول) ووجده شابا صغيرا مختلفا عما سمعه من أوصافه، وبدأ يشيع بأن الإمام قُتل وأن أولاد ميمون القداح استولوا على الإمامة.
في الوقت نفسه، كان زكرويه الفارسي (الذي يعتقد أنه مجوسي) قد بدأ بتنفيذ مخطط مماثل لمخطط أبناء القداح، فادعى ابنه يحيى أيضا أنه هو نفسه محمد بن عبيد الله بن محمد بن إسماعيل وخرج لاكتساب الأنصار في العراق والشام، أما أخوه الحسين بن زكرويه فادعى أنه أحمد بن عبيد الله وخرج لقتل عبدان الذي كان يشكك في نسب ابن القداح، ثم أخذ يتقرب من سلالة القداح ليستغلها وهو يطمع بما لديها من السلطة، مع أنه هو وعائلته ينافسهم على الانتساب المزعوم لآل البيت.
وبمقتل عبدان بدأ الصراع بين أولاد زكرويه والجنابي من جهة وبين حمدان بن الأشعث صديق عبدان من جهة ثانية، وأخذ الفريق الأول يقود معارك في البحرين والعراق لإجبار الناس على التشيع والخضوع لسلطتهم، بينما كان حمدان يحذر الناس من الطموح الدنيوي لآل زكرويه وآل القداح تحت شعارات نصرة آل البيت، إلى أن تمكن يحيى بن زكرويه من قتل حمدان خنقا في منزله، فرضخ الإسماعيليون لحكم الأقوى.
صار ليحيى بن زكرويه أتباع في العراق فحشد جيوشه من المرتزقة وحاصر دمشق، فهزمته جيوش ابن طولون وقتلته، فحمل الراية من بعده أخوه الحسين وانطلق في بلاد الشام ينشر مذهب التشيع الإسماعيلي ويجبر المدن على الولاء للإمام (من سلالة القداح) بدلا من الخليفة العباسي، وعندما وصل إلى الرقة (في وسط سورية حاليا) أرسل رسالة إلى الإمام بأن يدعمه عسكريا ليغزو حلب ثم المعرة وحماة وحمص، ومع أن الدعوة الباطنية كانت تصر في بدايتها على نبذ العنف ونشر التشيع بالمحبة، فقد وافق الإمام على ذلك وبارك له أسلوب “الفتح” العسكري لنشر المذهب، كما تقول مصادرهم.
عبيد الله المهدي سمى نفسه خليفة وأميرا للمؤمنين وأسس دولة شيعية موازية للدولة العباسية السنية
بعد موت الإمام الحسين بن أحمد وتولي ابنه عبيد الله المهدي (القداح) الإمامة، كانت الإسماعيلية قد تحولت إلى مشروع سياسي وعسكري لا يمت بصلة إلى مبادئ الإلفة والإخاء التي تأسس عليها المذهب، حيث كان الداعي أبو عبيد الله العسكري ينشر المذهب بقوة السلاح في تونس والجزائر، بينما يسابق آل زكرويه الزمن للسيطرة على العراق والشام وشرق الجزيرة العربية بقوة السلاح أيضا، مما أجبر الإمام للإعلان عن تنحية آل زكرويه عن كل المناصب وفقا لمؤرخي الإسماعيلية، مع أنه لم تكن له أي سلطة عليهم.
ومع أن عبيد الله المهدي (القداح) كان إمام زمانه “المعصوم”، ولكن يبدو أن قوة السلاح كانت أنفذ من صوت الإمامة، حيث لم يجرؤ الإمام على الرد على رسائل آل زكرويه الغاضبة التي تستنكر عزلهم، وعندما قرر أولاد زكرويه الانتقام منه هاجموا البصرة وقتلوا أهلها بما فيهم من نساء وأطفال، ثم انتقلوا إلى الفرات لحشد القبائل والبدو معهم في طريقهم لغزو الشام. وبدلا من أن يواجههم الإمام فقد قرر الفرار من مقره في السلَمية إلى المغرب، وما إن وصل إلى الرملة حتى جاء إليه الحسين بن زكرويه وحدثه عن خدمات عائلته للمذهب مستنكرا ما فعله الإمام بعزلهم.
ويبدو أن حجة الحسين كانت أقوى من الإمام “المعصوم” كما نقرأ في كتبهم، إذ كان الإمام ينصح الحسين بأن يعود إلى مبادئ الإخاء والمحبة والدعوة السلْمية، بينما يصر الحسين على أن جنوده البدو ليسوا سوى وسيلة لنشر الدعوة، فرضخ الإمام له وبارك له حملاته العسكرية، ووعده بأن يعود إلى السلَمية بدلا من الذهاب إلى المغرب، فخرج الحسين سعيدا بهذه المصالحة، وتابع حملاته فحاصر دمشق وأخضعها ثم توجه إلى حمص.
أما الإمام الذي يفترض أن يكون معصوما ومُلهما، فلم يفِ بوعده للحسين ولم يعد إلى السلَمية لشعوره بأن آل زكرويه سيخونوه مجددا وظل ينتظر في الرملة. وعندما خضعت حمص للحسين بعد خمسة أشهر، أرسل للإمام يسأله عن سبب تأخره في العودة إلى مقره بالسلَمية، فوعده الإمام الخائف مرة أخرى بالعودة إلى مقره ثم كذب، وتوجه إلى مصر.
يقول مؤرخو الإسماعيلية -ومنهم مصطفى غالب- إن الإمام “المعصوم” عبيد الله المهدي -الذي خرج هاربا من سلَمية خوفا من غدر الحسين بن زكرويه- اضطر إلى الكذب (تحت مسمى التقية) لإخفاء هويته طوال رحلته إلى تونس، فكان يدعي أنه تاجر، بينما يقول كل من رآه من أهل البصيرة -حسب غالب- والله ما هذا تاجر وإنما ملك من الملوك، لشدة هيبته.
الدولة الفاطمية يتجاهل مؤرخو الإسماعيلية دور أبي عبد الله العسكري في تأسيس دولتهم الفاطمية بتونس في مطلع القرن الرابع الهجري، حيث حشد جيوشا من قبيلة كتامة البربرية للقضاء على الأدارسة والأغالبة قبل أن يصل الإمام المعصوم الهارب من مدينة سلَمية.
خريطة لمدينة المهدية تعود إلى القرن السادس عشر (Braun and Hogenberg)
وعندما وصل الإمام عبيد الله المهدي (القداح) إلى تونس وأعلن عن تأسيس أول دولة للباطنيين في الإسلام، اجتمع رجال الدعوة الإسماعيلية في مؤتمر كبير وقرروا انتهاء دور الستر والتخفي الذي بدأ بالإمام السابع محمد بن إسماعيل، وبدء مرحلة جديدة يتولى فيها الإمام المعصوم السلطتين الزمانية والروحية، ثم أسس المهدي عاصمة دولته وهي مدينة المهدية التي ما زالت تحمل نفس الاسم بتونس. وقد أسهب المؤرخون السنة في وصف الجرائم التي ارتكبها المهدي لإكراه الناس على اتباع مذهبه، حيث أعدم نحو أربعة آلاف عالم، وأباح الخمور والفواحش وعطّل الشريعة.
بذل أبو عبيد الله العسكري جهودا جبارة للقضاء على الأغالبة عسكريا وتأسيس دولة الفاطميين، لكن الإمام المعصوم تخلص فور انتهاء مهمته، إذ يقول مؤرخو الإسماعيلية أنفسهم إن الإمام المهدي -الذي أصبح خليفة- بدأ يلاحظ تغيرا في سلوك أبي عبيد الله وميله إلى التمرد وسعيه إلى قتل الخليفة بتحريض جنوده من قبائل الكتامة البربرية عليه، فلاطفهم الخليفة وفرّقهم في البلاد، وطالب قادته بملاحقة أبي عبيد الله واثنين من زملائه حتى قتلوهم.
ويقولون إن الإمام كان رحيما بعد ذلك، فصلى على أبي عبيد الله ودفنه بجنازة كريمة، وقال “رحمك الله يا أبا عبيد الله وجزاك خيرا بجميل سعيك”.
وبالرغم من أن الدولة العُبيدية الفاطمية أصبحت قوية ولها أساطيل وجيوش، لكن التقية ظلت قائمة في الدين الإسماعيلي وفي الأديان التي تفرعت عنه، وما زالت حتى الآن.
القرامطة وفقا لمؤرخي الإسماعيلية، شعر الحسين بن زكرويه بأن دمشق لن تنفعه في دعوته الباطنية وأن حمص ستكون أكثر ولاء له، فذهب بجيوشه البدوية إلى حمص واحتلها وأجبر خطباء الجمعة على الدعاء للإمام عبيد الله المهدي.
ثم شعر بأن الإمام لن يفي له بوعده بالعودة من الرملة إلى سلَمية لأنه لا يثق به، وكان الإمام بالفعل قد هرب إلى مصر ثم تونس لتأسيس الدولة الفاطمية، فذهب الحسين إلى سلَمية ودخل قصر الإمام وجمع من كان فيه من الخدم وأقارب الإمام الهارب وطلب منهم تسليمه كل أموال الإمام فلم يجيبوه، فقتلهم جميعا، ولم يخرج من المدينة التي كانت مركز الدعوة المقدسة وفيها عين تطرف.
وعاد الحسين إلى حمص ودعا الناس لتقديسه بوصفه الإمام المهدي المنتظر بدلا من الإمام الذي هرب لتونس، ولما سمع أهل دمشق بإرهاب الحسين بن زكرويه لقبوه بالقرمطي، وصار أتباعه هم القرامطة.
بعد مقتل الأخوين يحيى والحسين بن زكرويه على يد الخليفة العباسي المكتفي، لم يبق إلا أخاهم أبا الفضل بن زكرويه الذي اجتمع معه أتباع أخويه وصار زعيم القرامطة، فكان يغزو قرى الشام وينهبها جميعا ويقتل كل من فيها، حتى لقي حتفه.
وبعد مقتل أولاده الثلاث، قرر زكرويه بن مهرويه أن يقود بنفسه جيوش القرامطة، وأن يغزو الكوفة صباح العيد، فأمر رجاله بفتح السجون وإخراج المجرمين قبل اقتحامها، ثم دخل مع جيوشه وهو يصرخ “يا لثارات الحسين” أملا بأن ينتفض الكوفيون معه ضد العباسيين، لكنهم حملوا السلاح ضده وطردوه.
بقايا مبنى الكعيبة (شرق الجزيرة العربية) التي يعتقد أن الجنابي حاول أن يجعلها كعبة بديلة للمسلمين بعد اقتحامه للكعبة المشرفة في مكة المكرمة وسرقة الحجر الأسود وبقية كنوز الكعبة
عندما فشل زكرويه في احتلال الكوفة وإسقاط الدولة العباسية، حاول أن ينال دعم آل الجنابي الإسماعيليين في البحرين لكنهم لم يجيبوه، فاستقر مع جيوشه ومرتزقته القرامطة في صحراء الجزيرة العربية وبدؤوا بوضع الكمائن لقوافل الحجاج، وارتكبوا من المجازر ما يعترف به مؤرخو الإسماعيلية، حتى تمكن منه العباسيون وقتلوه وطافوا بجثته في البلاد.
بعد مقتل زكرويه تفرق الكثير من القرامطة وضعفت قوتهم، لكن العديد من القادة حاولوا إحياء هذه الجيوش واستثمارها مستغلين ضعف العباسيين وثورة الزنج وسيطرة الأتراك على سدة الخلافة ببغداد.
وبالرغم من تبرؤ مؤرخي الإسماعيلية من آل زكرويه لانحرافهم عن مسار الدعوة وتمردهم على الإمام، فإنهم يمتدحون آل الجنابي الذين أقاموا في البحرين دولة إسماعيلية “مثالية” تقوم على نظام الإلفة والإخاء، ثم يعترفون بأن أبا طاهر الجنابي الذي استولى على السلطة وعمره 17 سنة قد أصبح نفسه متوحشا، حيث جمع حوله القرامطة وأخلف وعده مع الخليفة العباسي بألا يتعرض لجيوشه فهاجم البصرة ونهبها، ثم خرج لمهاجمة الحجاج وفعل بهم ما لم يفعله آل زكرويه.
رسم تخيلي لحسن الصباح
الانقسام وظهور الحشاشين
بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر عام 487هـ/1094م قرر الوزير بدر الجمالي صرف نص تولية الإمامة من الابن نزار إلى أخيه المستعلي الذي كان ابن أخت الوزير، فانقسمت الطائفة إلى مستعلية ونزارية، ومع أن وزير المستعلي الأفضل بن بدر الجمالي تمكن من قتل نزار في الإسكندرية فقد قرر الحسن بن الصباح أحد دعاة الإسماعيلية الدعوة لنزار، وبهذا حُفظ هذا التيار من الاندثار وأصبح يطلق عليه اسم الدعوة الجديدة أو الإسماعيلية الشرقية، كما يسميها بعض الكتاب المعاصرين بإسماعيلية إيران.
يؤكد بعض المؤرخين أن نزار لقي حتفه قبل أن يُرزق بولد يخلفه، لكن أتباعه ادعوا أن له نسلا للحفاظ على الطائفة، وكان الحسن بن الصباح قد وجد في نزار فرصة ليحقق به طموحه لتأسيس دولة قوية تتجاوز العباسيين والفاطميين معا، فأيد أحقية نزار بالإمامة واستولى على قلعة ألموت (قرب طهران حاليا) واتخذها عاصمة له، فاكتسب ابن الصباح بذلك شرعية تأسيس دولته الخاصة التي كان قوامها فرقة سُميت بالحشاشين، وهي تسمية يتبرأ منها أصحابها، لكن بعض المراجع (وخاصة الاستشراقية الغربية) نسبتها إليهم بناء على رواية الرحالة الإيطالي ماركو بولو الذي قال إنه زار قلعة ألموت عام 1237م، وأكد أن ابن الصباح كان يستخدم الحشيش في تخدير أتباعه الجدد، ثم يضعهم في حديقة غناء ملأى بأشجار الفاكهة والقصور والأنهار الصناعية والجواري الجميلات، فيغترفون من الملذات وهم تحت تأثير المخدر، وبعد استيقاظهم يوهمهم بأنهم كانوا في الجنة، مؤكدا أنهم لن يعودوا إليها حتى ينفذوا أوامره، فيتحولون إلى فدائيين مهرة، ويتم استغلالهم لتنفيذ العمليات الانتحارية واغتيال كبار السياسيين في الدول المجاورة، ويقول مؤرخون إن قوائم الاغتيال التي احتفظ بها الحشاشون في ألموت كشفت عن خمسمئة شخصية نجحوا في قتلها.
حاول برنارد لويس وسيلفستر دي ساسي ومستشرقون آخرون التشكيك برواية ماركو بولو زاعمين أن كلمة الحشاشين لم تكن سوى شتيمة اخترعها السنة السوريون لتحقيرهم، غير أن باحثين آخرين قالوا إن الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله أرسل سنة 1123م رسالة إلى الإسماعيليين في سورية مستخدما مصطلح الحشيشية مرتين، وليس لدى مؤرخي الشيعة اليوم ما يدعم رأيهم بأن السنة هم من حقروهم بهذه التسمية طالما استخدم هذا الوصف أحد الأئمة الفاطميين.
اتخذ ابن الصباح لنفسه لقب شيخ الجبل، وكانت قلعته حصينة ومنيعة على الجيوش لوقوعها على رأس جبل صخري وعر، وتمكن أتباعه من السيطرة على قلاع عدة في شمال إيران وجنوب بحر قزوين وصولا إلى نهر جيحون. وبعد محاولات عديدة تمكنوا من انتهاز فرصة انشغال المسلمين بالحروب الصليبية وحققوا حلمهم بإيجاد موطئ قدم في سورية باحتلال قلعة أفامية.
ومع أن الصليبيين انتزعوا منهم القلعة وأسروا قائدهم أبو الطاهر الصائغ فإن الحشاشين لم يناصبوا الصليبيين العداء، بل ظل تركيزهم على معاداة المسلمين السنة دون غيرهم كما تقول الباحثة الشيعية أميرة الشيخ رضا فرحات في كتابها “الحشاشون.. بين الثورة والإرهاب”، وكان الحشاشون مهتمين بالتحالف مع بعض الأمراء السنة في سورية مقدمين لهم خدماتهم كفرق اغتيال محترفة لقتل خصومهم من أمراء السنة ومن الصليبيين أحيانا، وتمكنوا بذلك من اكتساب قلاع أخرى مقابل خدماتهم.
وقد أشرنا في مقال فرسان الهيكل إلى العلاقة التي نشأت بين هذه الجماعة السرية -ذات الأصل اليهودي الخفي- وبين الحشاشين أثناء الحروب الصليبية، حتى إن بعض المؤرخين المحققين يرون أن فرسان الهيكل اقتبسوا من الحشاشين بعض أسس العمل السري قبل أن يعود الفرسان إلى أوروبا ويشكلوا نواة الماسونية. وما زال مصطلح الحشاشين Assassin يطلق اليوم في اللغات الأوروبية على القتلة المأجورين الذين يقومون بمهمات الاغتيال.
قلعة مصياف
شن السلاجقة بقيادة ألب أرسلان وابنه بوري حملة لتصفية الحشاشين في سورية، وعندما حاول الفاطميون التقرب من ألموت لتوحيد الصف الإسماعيلي اكتشفوا وجود مؤامرة لاغتيال الخليفة الفاطمي الآمر ووزيره المأمون على يد الحشاشين، فنشر الفاطميون جواسيسهم لملاحقة الحشاشين وقتلهم أينما وُجدوا. لكن الحشاشين واصلوا جهودهم للبقاء والتحالف مع أي قوة تحقق مصالحهم إلى أن استولوا على قلعة مصياف العملاقة بعد تسع سنوات وجعلوها عاصمة لهم، كما سيطروا على قلاع أخرى في بانياس ومصياف والقدموس والكهف والخوابي وسلمية، وظهر سنان راشد الدين الذي استحق لقب “شيخ الجبل”، وهو لقب لم يُطلق من قبل إلا على أحمد بن عطاش والحسن بن الصباح.
في الفترة نفسها اضطر الخليفة الفاطمي الرابع عشر العاضد لتعيين عدوه السلجوقي شيركوه وزيراً له ليحمي عرشه من الانهيار، فغضب الوزير السابق “شاور” وحاول الاستنجاد بالقائد الصليبي “أملرك الأول” دون أن يفلح، وصعد صلاح الدين الأيوبي ليخلف عمه شيركوه، وخلال سنتين نجح في القضاء التام على الدولة الفاطمية وتحويل جامعتها الأزهرية إلى منبر للإسلام السني، منهيا بذلك أول “خلافة” شيعية في العالم الإسلامي، وهو تغيير لم يلقَ مقاومة تذكر كما يقول ابن الأثير.
وقد وصف ابن كثير انهيار الدولة في كتابه البداية والنهاية بقوله “وقد كانت مدة ملك العبيديين مائتين وثمانين سنة وكسرا، فصاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكامله”.
نهاية دولهم ومع أن الحشاشين النزاريين كانوا أعداء أقحاح للإسماعيلية المستعلية الفاطمية، لكن انتصار صلاح الدين السني عليها أثار حنق شيخ الجبل سنان الذي يتزعم كل قلاع الحشاشين في سوريا، وتقول روايات الإسماعيلية إن سنان أرسل أحد فدائييه إلى قصر صلاح الدين في القاهرة، فدخل مخدعه وهو نائم ووضع بجانب رأسه خنجرا مغموسا بالدم ومعه رسالة تهديد، لكن هذه الواقعة لم تُذكر إلا في كتب الإسماعيليين والشيعة وقد شكك فيها مؤرخون آخرون مثل قدري قلعجي.
وسواء كانت الواقعة حقيقية أم لا، فقد شن صلاح الدين حملة كبيرة على الإسماعيليين في سوريا خلال حربه ضد الصليبيين، ويقال إن اثنين من الفدائيين حاولوا طعنه بين جنوده فنجا منهما وتم قتلهما على الفور، ثم حاصر قلعة مصياف التي يتحصن فيها سنان وبدأت بينهما المراسلات والتهديدات.
وأثناء الحصار، تقول روايات الإسماعيليين إن صلاح الدين استيقظ ذات صباح في خيمته فوجد خنجرا مسموما قرب رأسه وبجانبه رسالة تهديد أخرى من سنان، وتضيف الرواية أن صلاح الدين أدرك عندئذ أن سنان رجل شريف نبيل لأنه لم يقتله بالرغم من قدرته عليه، واقترح عليه خاله شهاب الدين الحارمي وهو والي حماة أن يكون وسيطا بينهما لعقد الصلح. لكن المؤرخ السني ابن الأثير يروي القصة بطريقة مختلفة، فيقول إن صلاح الدين حاصر قلعة مصياف حتى أرسل سنان إلى شهاب الدين يطلب منه أن يشفع فيهم عند صلاح الدين، بل قرن طلبه بتهديد الحارمي بالقتل إن لم يسارع لإنقاذه، فحضر شهاب الدين عند صلاح الدين وشفع فيهم فأجابه إلى ذلك ورحل عنهم.
كونراد دي مونتفرات
ويذكر المؤرخون أن الحشاشين تحولوا من أصحاب دعوة إلى مرتزقة، فكانوا ينفذون عمليات الاغتيال التي اشتهروا بها لمن يدفع لهم أكثر، ففي سنه 546هـ اغتالوا ريموند الثاني أمير طرابلس بتحريض من زوجته، ثم اغتالوا كونراد دي مونتفرات ملك مملكة بيت المقدس عام 588هـ بطلب من الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد.
ولم تمض مئة سنة على وفاة الحسن بن الصباح حتى بدأت جحافل المغول باقتحام بلاد فارس، وعندما وصل هولاكو إلى قلاع الحشاشين أدرك الحاكم الثامن لقلعة ألموت ركن الدين أنه لا جدوى من المقاومة، فعرض على المغول الاستسلام، فطلب هولاكو أن يأتي إليه ركن الدين بنفسه فذهب إليه وطلب من جميع أتباعه النزول من القلاع، فأحرق المغول قلعة ألموت في أواخر عام 1256م، ويقول الإسماعيليون إنهم دمروا مكتبتها الضخمة، لكن مؤرخين آخرين يؤكدون أن المؤرخ السني الجويني تمكن من الدخول للمكتبة قبل حرقها بساعات وإنقاذ حمولة عربة واحدة من الكتب التي ساعدته على التأريخ لهذه الطائفة ونقد عقيدتها.
أما ركن الدين فطلب مقابلة الإمبراطور المغولي في بكين، وفي الطريق طلبوا منه أن يأمر أتباعه في قلعة كوهستان بالاستسلام مقابل وعد من هولاكو بالأمان ففعل واستسلموا، ولكن المغول فتكوا بهم على الفور، ثم قتلوا ركن الدين وأسرته.
ويقول برنارد لويس إن المغول لم يكتفوا بهذا، إذ جمعوا من تبقى من الإسماعيليين بحجة إحصاء عددهم وقتلوهم جميعاً، ولم ينجُ منهم إلا من اعتصم بجبال فارس، وكأن الله تعالى سلّط عليهم من يفوقهم مكرا وغدرا ليجتثهم ويدمر قلاعهم التي أرهبت الناس، حتى لم يبق من ألموت اليوم إلا أطلال يزورها السياح.
أطلال قلعة ألموت في إيران (wikipedia/Payampak)
أما الحشاشون في سوريا فلم يطل بقاؤهم كثيرا، حيث انتزع الظاهر بيبرس قلاع الحشاشين في كل من مصياف والقدموس والكهف والخوابي، فرضخوا لسلطان المماليك وأصبح عدد كبير منهم رهن أوامره، حتى يقال إن الظاهر بيبرس كان يهدد كونت طرابلس بالاغتيال بعد أن أصبحوا جزءا من جنده، وإنه استخدمهم لاغتيال إدوارد الإنجليزي.
ومع أن بيبرس لم ينتقم من الحشاشين بالقتل والطرد كما فعل بعض السلاجقة من قبله، فقد قبض على اثنين منهم قيل إنهما حاولا اغتياله مما دفعه لاعتقال شمس الدين الذي قيل أيضا إنه كان يخطط لمؤامرة مع الصليبيين، لكن والده العجوز نجم الدين شفع له عند السلطان فعفا عنه. وتتحدث بعض الروايات عن استمرار خيانة شمس الدين بعد أن تركه السلطان ليحكم قلعة الكهف، إذ حاول تدبير عملية اغتيال لبعض قادة المماليك، ومع ذلك لم يقتله بيبرس بل نفاه إلى مصر واستولى على آخر قلاع الحشاشين في سورية عام 672هـ/1270م.
الإسماعيلية في العصر الحديث يمكننا القول إن الأيوبيين والمماليك أجهزوا بالفعل على مفاصل القوة لدى الدعوة الإسماعيلية بكل طوائفها بحيث لم تتمكن من العودة إلى سابق عهدها حتى الآن، ولعل أهم محاولات استعادة تلك القوة ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر، عندما ظهر في إيران رجل شيعي يدعى حسن علي شاه وقام مع أتباعه بأعمال هدد بها حكم الأسرة القاجارية الحاكمة، فاستغل الإنجليز نفوذه وشعبيته وشجعوه على إعلان الثورة عام 1840، إلا أنه فشل وقبض عليه، فتدخل الإنجليز للإفراج عنه ونُفي إلى أفغانستان، ويقال إنه طُرد منها إلى الهند، فشجعه الإنجليز هناك على إعلان نفسه إماما للطائفة الإسماعيلية النزارية وخلعوا عليه لقب آغاخان.
ويشكك كثيرون بصحة انتساب الآغاخان للإمام نزار كما يزعم، فهناك روايات قديمة تؤكد أن نزارا قد قُتل دون أن يخلفه أحد، لكن الإسماعيليين وجدوا في زعيمهم الجديد استمرارية للطائفة، ومازالوا حتى الآن يقدمون الهبات والعطايا لسلالته.
ويتزعم الطائفة النزارية اليوم الآغاخان الرابع شاه كريم الحسيني المقيم في فرنسا، وينتقده الإعلام الغربي لنمط معيشته المغرق في الترف والذي لا يختلف عن حياة نبلاء أوروبا، حيث يعتاد أفراد أسرته على إقامة الحفلات الباذخة والزواج من نجوم الفن، بينما يصر أنصاره على ضرورة انفتاح زعيمهم على متطلبات العصر، مشيرين إلى حصوله على شهادة البكالوريوس في التاريخ من جامعة هارفارد، وإتقانه للغات العربية والإنجليزية والفرنسية، فضلا عن إدارته لمنظمات تنموية عالمية.
وفي سورية، يتركز الوجود الإسماعيلي (النزاري) بمدينتي سلَمية ومصياف، لكن بعض الكتّاب الإسماعيليين يؤكدون أنه لم يبق من الإسماعيلية في سورية إلا القليل جراء الاختلاط والاندماج، ويقولون إن أهالي مصياف والقدموس تخلوا عن الإسماعيلية والتحقوا بالشيعة الجعفرية خلال الحكم العثماني، كما يؤكدون أن العائلات الإسماعيلية في سلمية والقدموس باتت مختلطة مع السنة بطريقة تجعل الفرز مستحيلا، حتى أصبح ثلث سلمية أو نصفها سنياً ومتشبثا بدينه، حيث تجد في البيت الواحد من هو إسماعيلي ومن هو سني.
انضوى الكثير من الشباب الإسماعيليين تطوعيا في حرب 1948 عندما أعلن عن قيام إسرائيل، وازداد انخراطهم أكثر في المحيط العربي مع انضمامهم للحركات القومية العروبية. ونظرا للعداء التاريخي بين الإسماعيليين والنصيريين (العلويين)، فلم يكن من الصعب على الشباب الإسماعيليين الانخراط في الثورة السورية عام 2011.
أما الطائفة المستعلية فلعل أبرز من يمثلها اليوم هم البهرة، وهم بقايا الفاطميين الذين رحلوا من مصر واليمن إلى الهند، وينقسمون إلى بهرة داوودية ومقرها في بومباي الهندية، وبهرة سليمانية يتبعون قائدهم المقيم في اليمن. ويصر الإسماعيليون البهرة اليوم على أنهم مسلمون، ومع أن لهم مساجدهم الخاصة فإنهم يشاركون عامة المسلمين في الحج إلى مكة، كما يؤكدون على مسالمة المسلمين السنة والابتعاد عن السياسة أينما وجدوا، ويندر اختلاطهم بالآخرين في الزواج والمعاملة خارج حدود التجارة التي يشتهرون بها، كما يعتقدون بضرورة خروج إمامهم الأخير المستتر “الطيب” وهو حفيد المستعلي، بينما يختلف علماء السنة المعاصرون في الحكم على أتباع هذه الطائفة من حيث انتسابهم للإسلام أو خروجهم منه.
يتمتع شيوخ البهرة بالكثير من السطوة والتعظيم بين أتباعهم، وفي الصورة يظهر الداعي المطلق للبهرة الداوودية بين أتباعه في مدينة فادودارا الهند عام 1968
أهم المراجع تاريخ الدعوة الإسماعيلية، مصطفى غالب، دار الأندلس، بيروت, 1965.
القرامطة بين المد والجزر، مصطفى غالب، دار الأندلس، بيروت, 1979.
تاريخ الإسماعيلية، عارف تامر، دار رياض الريس، لندن، 1991.
الحشاشون بين الثورة والإرهاب، أميرة رضا فرحات، دار المحجة البيضاء، بيروت، 2012.
أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية، برنارد لويس، دار الحداثة، 1980.
التاريخ الإسلامي، محمود شاكر، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة السادسة، 2000.
دراسة عن الفِرق في تاريخ المسلمين.. الخوارج والشيعة، أحمد جلي، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، 1986.
الكامل في التاريخ، ابن الأثير الجزري، تحقيق أبو الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، 1987.
فضائح الباطنية، أبو حامد محمد الغزالي، تحقيق عبد الرحمن بدوي، وزارة الثقافة المصرية، 1964.
التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، طاهر بن محمد الإسفراييني، تحقيق كمال يوسف الحوت، عالم الكتب، بيروت، 1983.
الفرق بين الفِرق وبيان الفرقة الناجية، عبد القاهر البغدادي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1977.
اليهودية مصطلحٌ يُطلق على الديانة التي تُنسب إلى العبرانيين المنحدرين من إبراهيم عليه السلام، والمعروفين بالأسباط من بني إسرائيل وهم اثنا عشر سبطاً، وقد أُرسلت إليهم مجموعة من الأنبياء بدءاً بموسى عليه السلام مؤيداً بالتوراة. ويُعرف أتباعها بأسماء عدة ولكل منها مدلول خاص به، ومنها:
1- اليهود: واختلفت الأقوال في سبب التسمية وأشهر الأقوال فيها عند المسلمين: من التهوّد، وهي التوبة لأنهم تابوا عن عبادة العجل فنقل القرآن الكريم حكايةً عن موسى عليه السلام قوله: {إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ}، أما عند اليهود: فالتسمية جاءت نسبةً إلى يهوذا أحد أبناء إسرائيل (يعقوب)، وقلبت الذال دالاً على لغة العرب، وسبب اختياره من بين إخوته لأن من نسله ظهر داود، ومن داود سيظهر المسيح المنتظر كما يعتقدون فهو المفضَّل عندهم.
2- الإسرائيليون: نسبةً إلى بني إسرائيل (أبناء يعقوب) مع أن معظم أتباع هذه الديانة اليوم لا يجمعهم نسب بإسرائيل، والموسويون أي: أتباع موسى عليه السلام.
3- العبرانيون ومفردها عبري وهم: البدو الرُّحل، وقيل نسبةً إلى النبي إبراهيم وهو إبرام أو عبرام في العبرية وهو التفسير المفضل عند اليهود لتوثيق ارتباطهم به.
أما في الغرب فيطلق عليهم Jewish أو Juif وهي من جوشوا أو يوشوا أي يوشع بن نون، وهو فتى موسى (مرافقه) والنبي الذي تولى قيادة بني إسرائيل بعد وفاته وهو ذو شأن عظيم عندهم.
تاريخ بني إسرائيل لعل أهم مراحل تاريخ اليهودية هي تلك الحقبة الزمنية الممتدة لألفي عام منذ عهد إبراهيم إلى ما قبل ظهور المسيح، ومع أن تاريخ اليهودية كدين يبدأ مع بعثة موسى في قومه الذين لم يسموا باليهود إلا بعد بعثته، إلا أنهم حريصون على ربط تاريخهم بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
وأهم مصادر تلك الحقبة الطويلة من الزمن: ما ورد في التوراة وبقية أسفار العهد القديم على ما فيها من تناقضات وأساطير يقرُّ بها علماء اللاهوت من اليهود والنصارى فضلاً عن علماء التاريخ والآثار، وما وجده علماء الآثار من مدونات تاريخية مكتشفة حديثاً في مصر والعراق وبلاد الشام، وما اتضح من الحفريات، ونقله الإخباريون من مسلمين وغيرهم مع أن معظم رواياتهم لا يمكن الوثوق بها لمناقضتها لبعض وقائع التاريخ المسجلة وامتلائها بالأساطير والخرافات، إضافة إلى ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة عن بني إسرائيل وأنبيائهم.
وإبراهيم عليه السلام هو الجد الأعلى للعدنانيين (أولاد إسماعيل) كما أنه الجد الأعلى لبني إسرائيل، وله ولدان، الأول إسماعيل الذي خرجت من سلالته القبائل العربية وخاصة قريش التي ظهر منها النبي محمد، والثاني إسحاق الذي ولد له ولدان، هما عيسو ويعقوب.
أما يعقوب فهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل، وقد وُلد له اثنا عشر ولداً من زوجتيه ليئة وراحيل وجاريتيهما، منهم يوسف النبي ويهوذا الذي ظهر داود من نسله، وكل واحد من هؤلاء أعقب سبطاً من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر.
عاش يعقوب مع أبنائه في أرض فلسطين ثم فُقد يوسف بمكيدة من إخوته، وقصته ذُكرت في القرآن الكريم والكتاب المقدس، حيث وصل به المطاف إلى مصر التي تعرض فيها لسلسلة من المحن، فنجّاه الله منها ليتولى بحكمته وسياسته عملية إنقاذ مصر وما حولها من القحط الشديد الذي أصابها، ما دفع إخوته إلى المجيء إليه ثم استقرارهم مع أبيهم في مصر، وكان ذلك في عهد الهكسوس في القرن السابع عشر قبل الميلاد.
وبعد طرد الهكسوس من مصر وتولي الفراعنة المصريين الحكم بدأت مرحلة اضطهاد شديدة لبني إسرائيل لعلاقتهم السابقة مع الهكسوس الغرباء، وازداد العنت والظلم في عصر رمسيس الثاني الذي ترجح بعض المصادر أنه فرعون الذي أمر بقتل ذكورهم واستحياء إناثهم واستعبادهم حتى هلك منهم الكثير.
وفي زمانه الذي امتد بين سنتي 1304 ق.م و1237 ق.م يُعتقد أن موسى وُلد من سبط لاوي بن يعقوب، وقبله بثلاث سنوات وُلد أخوه هارون. وقصته مع فرعون وقومه وخروجه بهم ومواجهته لانحرافاتهم العقدية المتجددة ذُكرت أيضا في القرآن الكريم والكتاب المقدس، وقد أدت إلى بقائهم في مرحلة التيه أربعين عاماً في صحراء سيناء وحرمانهم من دخول الأرض المقدسة (فلسطين) لأنهم رفضوا أمر نبيهم موسى بمقاتلة الكنعانيين وفتح فلسطين.
لوحة تخيلية ليوشع بن نون وهو يأمر الشمس بالتوقف عن الحركة حتى لا تغرب قبل أن يتم له النصر
وبعد وفاة موسى خلفه تلميذه يوشع بن نون، وهو أول نبي بعده، وهو الذي قاد بني إسرائيل وتمكن من فتح بعض المدن الكنعانية، وبوفاته انقطعت القيادة الاجتماعية لبني إسرائيل وتفرقت الأسباط إلى مجموعات يقود كلا منها قاضٍ أو كاهن، وهو بمثابة الحاكم العسكري، وبدأ بذلك ما يعرف بعصر القضاة، وهو عهد يتصف بالتوتر والضعف والانحراف عقدياً، حيث ارتد فيه بنو إسرائيل عن عبادة الله إلى عبادة بعل وعشتاروت وغيرها من الأوثان وشيدوا لها المعابد وقدموا القرابين وانتشرت فيهم الفاحشة انتشاراً كبيراً، وتسلط عليهم الكنعانيون والفلسطينيون الوثنيون، وفي آخر عصر القضاة ظهر فيهم نبي ترجح المصادر أنه صموئيل، وقد ورد ذكره مبهماً في القرآن الكريم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا، قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246].
وقد طلب بنو إسرائيل من نبيهم أن يختار لهم ملكاً عليهم ليوحدهم في مواجهة أعدائهم، فأوحى الله إليه أنه سيولي عليهم طالوت (أو شاؤل كما ورد في أسفارهم)، فجمعهم للقتال وانتصروا على الفلسطينيين الوثنيين، وذلك بعد أن قام داود -والذي كان ضمن الجيش شاباً صغيراً- بقتل جالوت (جليات).
وبعد موت طالوت تولى داود قيادة بني إسرائيل، وفيه اجتمعت النبوة والملك، ثم خلفه من بعده ابنه النبي سليمان، والذي كان عصره أزهى العصور لبني إسرائيل، فنعمت مملكته برخاء وسلام لم تعرف له مثيلاً من قبل ومن بعد. وبعد وفاته انقسمت مملكته بين ابنه رحبعام وأحد عبيده يربعام، وانقسم معها الأسباط إلى مملكتين:
مملكة إسرائيل: بقيادة يربعام في الشمال وعاصمتها السامرة (نابلس)، ومعبدها على جبل جرزيم وكانت تضم عشرة من أسباط بني إسرائيل، واستمرت إلى أن قضى عليها الآشوريون سنة 722 ق.م.
مملكة يهوذا: بقيادة رحبعام بن سليمان في الجنوب وعاصمتها أورشليم (القدس)، وتضم سبطي يهوذا وبنيامين، واستمرت إلى أن حطمها نبوخذ نصر ملك بابل سنة 586 ق.م.
رسم تخيلي لتدمير القدس على يد البابليين
انتشرت المفاسد وعبادة الأوثان في المملكتين وظهر فيهم الكثير من الأنبياء، وذكر القرآن اثنين منهم هما إلياس واليسع، بينما تعدد المصادر اليهودية والمسيحية أسماء أنبياء آخرين مثل إشعيا وعاموس وغيرهم، وقد حاولوا تصحيح انحرافات قومهم ولقوا منهم عنتاً واضطهاداً، حتى يقال إن الإسرائيليين قتلوا مئات الأنبياء ونشروا بعضهم بالمناشير كما حدث للنبي إشعيا. وقد أدى فسادهم هذا إلى تسلط أعدائهم عليهم حتى قضي على الدولتين تماماً ودمَّر نبوخذ نصر أورشليم وهدم أسوارها وما فيها وسبى ثلث شعبها وساقهم عبيداً إلى بابل في العراق، كما يقال إنه قتل الثلث منهم.
وفي المنفى بالعراق، عاش اليهود مرحلة جديدة اتسمت بالانعزال والذل، مع الشعور بأنهم شعب الله المختار، وظهر في مرحلة السبي هذه أنبياء آخرون، ونقرأ في مصادرهم أسماء بعضهم ومنهم عزير (عزرا) ودانيال وحزقيال.
استفاد اليهود من تسلط الفرس على الدولة البابلية، واستغلوا نساءهم الجميلات (وأشهرهم إستير) للتقرب من حكَّام الفرس حتى استطاعوا إقناع الملك الفارسي قورش بعودتهم من السبي إلى فلسطين وإعادة بناء أورشليم و”هيكل الرب” كما يسمونه سنة 538 ق.م، وتزعَّم النبيان عزرا ونحميا -حسب مصادرهم- حركة العودة من المنفى.
رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)
ورغم الدعم والتعاطف الشديد الذي قدمه الفرس لليهود، إلا أن اليهود سرعان ما تحوّل ولاؤهم للقوة الجديدة الصاعدة في المنطقة والمتمثلة في الإمبراطور اليوناني الإسكندر المقدوني الذي تمكن سنة 330 ق.م من القضاء على الحكم الفارسي لبلاد الشام، وخضع اليهود لحكمه وقدموا له المساعدات فعاملهم معاملةً حسنة.
بعد وفاة الإسكندر اقتسم قوّاده إمبراطوريته الواسعة وظهر البطالسة في مصر مع تولى بطليموس الأول حكم مصر وفلسطين، وفي عهده بدأ اليهود تمردهم الأول على اليونان والذي كان نتيجته اقتياد أكثر من 100 ألف منهم أسرى إلى مصر، ثم عاد قسم كبير منهم إلى فلسطين في عهد خليفته بطليموس الثاني الذي أسس مكتبة الإسكندرية الشهيرة، وقد أبدى تعاطفاً كبيراً معهم، كما تمت في عهده ترجمة النسخ المعتمدة آنذاك من التوراة إلى اللغة اللاتينية بواسطة 72 حبراً من أحبار اليهود وخلال 72 يوماً كما يزعمون، مع أن الكثير من الباحثين -ومن بينهم الرهبانية اليسوعية- يشككون في هذه القصة.
ومع انتصار السلوقيين على البطالسة وسيطرتهم على فلسطين بدأ عصر الاضطهاد والإذلال لليهود حوالي سنة 200 ق.م، وجرت محاولات لإجبارهم على ترك دينهم واعتناق الوثنيات اليونانية مما أدى إلى انفجار ثورة المكابيين سنة 166 ق.م على يد يهوذا ابن الكاهن ميتاس ولُقِّب بالمكابي أي: المعيَّن من الرب يهوه.
الحصار الروماني على يد تيطوس وتدمير القدس بريشة ديفيد روبرتس عام 1850
وبحو نحو قرن، خضع اليهود لحكم الرومان الذين سيطروا على القدس سنة 63 ق.م، وبدأت سلسلة من الثورات على حكمهم من قبل اليهود، انتهت بإقدام الحاكم الروماني تيطوس على تدمير أورشليم تدميراً كاملاً سنة 70 م، ففرَّ من اليهود من بقي حياً إلى الجزيرة العربية (تيماء وخيبر والمدينة) ومصر وليبيا وغيرها، وذهب قسم منهم إلى روما وبيعوا عبيدا، ومن هنا بدأت قصة وجودهم في أوربا.
أما في الشرق فاعتنقت إحدى القبائل التركية الوثنية المعروفة بالخزر دين اليهودية في القرن التاسع الميلادي، أي بعد ظهور الإسلام، وكانت قد استوطنت المعبر الحيوي بين بحر قزوين والبحر الأسود ومنها انحدر يهود شرق أوربا (الإشكناز) الذين يشكلون نحو 90 بالمئة من يهود العالم اليوم، وهم الذين يقوم عليهم الكيان الصهيوني في فلسطين.
ومن الملاحظ أن السرد التاريخي لمسيرة اليهود المدوَّن في العهد القديم يتوقف قبيل بعثة المسيح عيسى عليه السلام.
العـقائـد: أولاً- الإله: تعد قضية الألوهية في اليهودية من القضايا المشكلة للباحثين، فقد كانت اليهودية في أصلها ديانة توحيدية تدعو إلى عبادة إله واحد لا شبيه له، لا تدركه الأبصار وتعتمد عليه المخلوقات كافة ولا يعتمد على أيٍّ منها بل يسمو عليها. وكثرة الأنبياء فيهم كان هدفها تنقية عقيدتهم باستمرار مما أصابها من شوائب الوثنية المتكررة والتي أدت- إضافةً إلى عوامل أخرى- إلى تطور مفهوم الألوهية عندهم إلى الحلول والمشابهة، فالإله في اليهودية وكما تصفه أسفار العهد القديم كائن يتصف بصفات البشر فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي، غضوب متعطش للدماء متقلب الأطوار، ويأخذ الأبناء والأحفاد بذنوب الآباء، بل ويحس بالندم ووخز الضمير، وهو ليس عالماً بكل شيء لذلك نجده مثلاً يطلب من أبناء إسرائيل أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم المصريين عن طريق الخطأ.
وباستعراض نماذج مما ذكرته التوراة والتلمود من صفات الرب يمكن استنتاج الملامح التالية لعقيدتهم فيه:
1- يعتقد اليهود أن آدم هو ابن الله لأن الله خلقه من روحه فبثّ فيه جزءاً من ذاته، فهم عندما يدّعون أنهم أبناء الله وأحباؤه لا يقصدون البنوة المعنوية كما يتبادر للذهن للوهلة الأولى لكنهم يقصدون أن أرواحهم جزء من ذات الله لأنهم وحدهم يمثلون نسل آدم وحواء في نقائه وهم أبناؤه حساً ومعنىً على الحقيقة، فآدم وحواء -عندهم- زنى كلٌّ منهما مع عشاق لهما من الجن وأنجبا ذرية ينحدر منها باقي البشر أما اليهود فهم من أبناء آدم وحواء وحدهم.
2- الرب عندهم هو رب الأرباب الأخرى التي يدخل في صراع معها ويدمرها، وهو لا يهتم بأن تعبد الشعوب الأخرى غيره لكنه يهتم اهتماماً شديداً بأن يعبده أبناؤه وشعبه إسرائيل ويغار غيرة شديدة عندما يتجهون لغيره لأنه اصطفاهم وجعلهم أحباءه وأبناءه، لذلك نجده يحجب الهداية عن فرعون ويقسِّي قلبه مع أنه قال لموسى وهارون “صلّيا لأجلي”، أي أنه أراد الهداية ولكن الرب لا يهمه ذلك. وقد استخدم كاتب التوراة أسلوباً بذيئاً حين صوّر الرب وكأنه قد تزوج إسرائيل التي ذهبت تزني مع أوثان وهو يغار عليها ويرجوها أن ترجع إليه كعهدها السابق، فيقول: “حاكموا أمكم -أي إسرائيل- لأنها ليست امرأتي وأنا لست رجلها، لكي تعزل زناها عن وجهها.. ولا أرحم أولادها لأنهم أولاد زنى، لأن أمهم زنت، التي حبلت بهم صنعت خزياً لأنها قالت: أذهبُ وراء محبيَّ الذي يعطون خبزي ومائي وصوفي.. لكن هأنذا أتملقها وأذهب إلى البرية وألاطفها وأعطيها كروماً هناك وهي تغني هناك كأيام صباها.. يكون في ذلك اليوم يقول الرب: إنك تدعينني رجلي ولا تدعينني بعلي” [سفر يوشع 2/ 2- 21]، فالرب -حسب زعمهم- ينفر من كلمة بعل لأن إسرائيل عبدت بعل فأصبح يكره هذه الكلمة، وقد اضطررنا للاجتزاء من النص السابق لأنه يتضمن أوصافا غير لائقة.
3- الله حسب زعمهم لا يريد للإنسان أن يكتسب المعرفة بل أن يبقى جاهلاً حتى لا ينافسه لذلك منعه من أكل الشجرة، بل كان أيضا جاهلاً ولم يعرف أن آدم أكل منها إلا عندما أخبره هو بذلك، ثم طرده من الجنة ومنعه من دخولها خوفاً من يأكل من شجرة الخلد فيشاركه الخلود.
4- الرب في التوراة متجسد على هيئة البشر ويمكن رؤيته في الدنيا وقد رآه كل الأنبياء، ومنهم إبراهيم الذي زاره الإله على هيئة رجل مع اثنين من الملائكة وجلسوا ليستريحوا تحت شجرة وغسلوا أرجلهم وأكلوا وشربوا. كما ظهر لبني إسرائيل على شكل عمود سحاب في النهار وعمود نار في الليل ومشى أمام شعبه ليهديهم الطريق، ويتكرر نزوله إلى الأرض مرات ومرات ويمكن أن يتكلم مع غير المؤمنين أيضاً ليهددهم إن أرادوا إيذاء شعبه المفضل.
5- تنسب التوراة له الندم والبكاء واللطم على وجهه، وقد ظهر ذلك منه بعد أن شرد أبناءه اليهود وخرب بيت المقدس، فخصص ساعات من النهار ليبكي على تشريدهم وصرخ قائلاً “تباً لي لأني صرّحت بخراب بيتي وإحراق هيكلي ونهب أولادي”، وعندما سمع أبناءه يمجدونه بالرغم مما فعله بهم بكي ولطم وجهه وقال “طوبى لمن يمجده الناس.. وويلٌ للأب الذي يمجده أبناؤه مع عدم استحقاقه لذلك لأنه قضى عليهم بالتشريد”.
تابوت العهد كما جاء وصفه في الأسفار والذي يعتقدون أنه يحتوي على الألواح التي أنزلت على موسى وهو مفقود اليوم
6- يعتقدون أنه أمر موسى وهارون ببناء خيمة الاجتماع ليسكن فيها ثم جعل التابوت مقراً له ليكون على مقربة من أبنائه يرعاهم ويدبر أمورهم، ويسمونه “رب الجنود الجالس في التابوت”، وبما أن التابوت وقع في أيدي أعدائهم مراراً فقد سُجن الرب فيه، فقرر أن يسكن في جبل صهيون في أورشليم، وأخيراً بنى له سليمان الهيكل العظيم ليستقر فيه ويرتاح من التجوال، لكن الهيكل نفسه هُدم فانتقل الرب إلى السماء، ومن هنا يتبين حرص اليهود على بناء الهيكل ليعود الرب إليه بزعمهم فهم لا يستطيعون التخلي عن نزعتهم المادية المحسوسة التي تصوروا الإله من خلالها والتي لازمتهم طوال تاريخهم رغم الجهود المضنية التي بذلها الأنبياء لتخليصهم منها.
7- الرب عندهم يحب القرابين واللحم المشوي، وبمجرد أن يتنسم رائحته تنبسط أساريره ويفعل لهم ما يشاؤون من تعذيب الأمم الأخرى وقتلها وحرقها ولا يهم بعد ذلك إن عبدوا الأوثان أو سرقوا الأموال، كما لا يهمه ما إذا كانت اللحم المشوي نفسه من أغنام مسروقة أم لا، فقد زعموا أن يعقوب سرق أغنام خاله وقدّم اللحم المشوي للرب فرضي وقبله بعد أن تنسم رائحته وأعطى يعقوب العهد له ولأولاده، ويقال إن هذه الفكرة تطورت حتى أصبحت طقساً راسخاً يقتلون لأجله في كل سنة طفلاً غير يهودي ويستخدمون دمه لصناعة الفطير المقدس الذي يعتقدون أن الرب يحبه كثيراً ويأكل منه كبار الأحبار والكهنة، بينما يردّ اليهود بالنفي ويعتبرون أن “فرية الدم” افتراء أُلصق بهم بلا دليل.
وعلى أي حال، يظهر التاريخ غلبة الطبيعة المادية على الكثير من بني إسرائيل، فحتى مع وجود موسى بينهم وما جاءهم به من الآيات كانوا يطلبون منه أن يجعل لهم رباً مادياً كغيرهم من الوثنيين، ثم امتد أثر هذه العقيدة ليخالط تصورهم للإله، ويقول عباس محمود العقاد: “إن الوحدانية التي يدركها اليهود لم تكن وحدانية تفكير لكنها وحدانية تغليب لرب من الأرباب على سائر الأرباب.. لليهود إله يعلو على آلهة غيرهم من البشر” [إبراهيم أبو الأنبياء، ص 112].
وللإله في اليهودية أسماء متعددة وهي:
1- يهوه: وهو أكثر الأسماء قداسة ولا يُعرف اشتقاقه بشكل مؤكد، وأكثر ما قيل فيه إنه مشتق من مادة الحياة أو من مصدر الكينونة في العبرية (أهييه آشر أهييه) أي أكون الذي أكون، أو هي نداء لضمير الغائب أي “يا هو”، وقيل إن معناه سيد ورب في العبرية واستخدمه اليهود في الإطلاق على الخالق سبحانه. ولم يعرف هذا الاسم تاريخياً كما نصت التوراة قبل موسى كما جاء في سفر الخروج [6/2- 3] عندما كلم الرب موسى قائلاً “أنا الرب ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء وأما باسمي يهوه فلم أُعرف عندهم”.
ولقداسة الاسم كان اليهود لا يتفوهون به بل يستخدمون كلمة “أدوناي” العبرية بمعنى سيدي أو مولاي للإشارة إلى الإله. وبما أنه مكون من أربعة أحرف فقد استعاضوا عن التلفظ به بكلمة “تتراجراماتون” أي الرباعي، ولا ينطق اسم يهوه إلا الكاهن الأعظم فقط داخل قدس الأقداس بهيكل سليمان في يوم الغفران. [المجتمع اليهودي، ص 293]
وقد نسب العهد القديم إلى يهوه صوراً عديدة للقسوة، فكان يأمر شعبه بالغدر والقتل كما أنه محدود المعرفة وتنسب إليه صفات النقص في البشر.
2- إلوهيم: اسم من أصل كنعاني وهو بصيغة الجمع لكلمة “إيلوَّه” أي إله، وعدّها بعض الباحثين دليلاً على إيمان اليهود في مرحلة من مراحلهم بتعدد الآلهة، إلا أن المدقق في أوصاف إلوهيم عندما يأتي الاسم في العهد القديم يلاحظ أن صفات إلوهيم تختلف عن صفات يهوه، فإلوهيم إله رحيم خلق السماوات والأرض ولا يشبه مخلوقاته، لذا رجح البعض أن الاسم يدل على الإله مع إضافة لاحقة الجمع (يم) العبرية التي تدل على التفخيم، وظهور هذا الاسم فيهم يشير إلى مرحلة شهدت تنقية عقائدهم من كثير من الشوائب، وهو الاسم الذي شاع استخدامه علماً على الإله في مملكة إسرائيل الشمالية.
3- إيل: لا يعرف أصل هذا الاسم أيضاً، فقيل هي كلمة أكادية وتعني الإله على وجه العموم، وكثيراً ما تستخدم مع لقب من ألقاب الإله مثل “إيل عليون” أي الإله العلي، كما تستعمل كجزء من أسماء عديدة مثل “إيلعازر” أي الإله قد أعان، وهو أسلوب مستخدم حتى يومنا هذا.
وتُذكر للإله في العهد القديم أسماء أخرى كثيرة، منها رب الجنود، ومقدِّس يسرائيل، وإله إسرائيل الذي يتكرر مئات المرات ويترتب عليه أن أبناء إسرائيل وحدهم هم البشر ولهم إله خاص بهم أما باقي الخلائق فليسوا كذلك.
ثانياً- الأنبياء: من يقرأ الكتب المقدسة عند اليهود يجد أنهم يثبتون بعثة عدد كبير من الأنبياء المتفق على نبوتهم في الإسلام كنوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن جاء من بنيه من رسل، ومنهم موسى وهارون ويوشع بن نون وداود وسليمان وإلياس واليسع وغيرهم.
ويلاحظ الباحث اختلاف مصطلح النبوة عند اليهود عما هو عليه لدى المسلمين، فهو لا يقتصر عند اليهود على من اصطفاهم الله لهذه المهمة العظيمة بل يتسع ليشمل أصنافا متعددة، ومن قراءة أسفار التوراة والكتب الملحقة بها يمكن رسم ملامح مفهوم النبوة كما يفهمه اليهود ويدينون به من خلال النقاط التالية:
1- جاء التصريح في العهد القديم بنبوة بعض النساء مثل مريم أخت موسى وهارون (وهي ليست مريم أم عيسى)، ودبورة التي جمعت بين القضاء والنبوة، وخلدة التي جمعت بين الكهانة والنبوة أيضاً، كما أنها ممكنة للكبار والصغار والعبيد والإماء.
سفر إشعيا
2- النبوة ممتدة في بني يعقوب (إسرائيل) إلى الآن، ففي التوراة نقرأ “قال الرب (لأشعيا): روحي الذي عليك وكلامي الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك ولا من نسلك قال الرب من الآن وإلى الأبد”. [أشعيا 59/21].
3- قد يجتمع فيهم مئة نبي في مكان واحد مما يدلُّ على كثرتهم فيهم.
4- دلت الأسفار على أن النبوة تُكتسب اكتساباً وليس اصطفاءً من الله، فزعموا بذلك أن بعض الأنبياء سلكوا طرقاً ملتوية للحصول عليها، كما فعل يعقوب حين خدع أباه إسحاق وانتزع حق خلافته في النبوة من أخيه البكر عيسو بخطة دبرها مع أمه، وعندما علم إسحاق بذلك سُقط في يده ولم يستطع تغيير الأمر الواقع، بل حتى الرب نفسه بزعمهم رضي بالخديعة وقبل نبوة يعقوب الذي سيصبح أباً لشعبه المفضل.
5- قد يرسل الرب أنبياء لإرشاد الأنبياء أنفسهم، “وكان إلى كلام الرب قائلاً يا ابن آدم تنبأ على أنبياء إسرائيل” [حزقيال: 13/2-3]، ما يعني أن الأنبياء قد ضلوا فتطلب الأمر إرسال أنبياء آخرين ليردوهم إلى جادة الصواب، وهذه الفكرة تؤدي بالضرورة إلى رفع العصمة عن الأنبياء، ومن ثم فلا يلزم الناس اتباع أي منهم لاحتمال كذبهم وضلالهم في أي شيء.
6- الباحث في العهد القديم يجد أن الأنبياء المذكورين في أسفاره لا يختلفون عن بقية البشر في شيء، فيجوز عليهم الكذب والغش والخداع والمعاصي كبيرها وصغيرها في حال نبوتهم، كما يجوز عليهم الإشراك بالله ودعوة الناس إلى الشرك أيضاً، كما تذكر الأسفار أنبياء للأوثان كأنبياء بعل وعشتاروت مما يصعب على الباحث مهمة التمييز بين النبي الصادق والكاذب في نظر التوراة، وقد ذهب الحَبر اليهودي موسى بن ميمون إلى أن النبي هو كل مُخبَر بغيب من جهة التكهن والشعور أو من جهة الرؤيا الصادقة ولعل هذا هو سبب تسمية أنبياء البعل وعشتاروت بذلك.
7- ذهب الحبر سعديا الفيومي إلى تعريف النبوة بأنها اصطفاء من الله، وتعريف الرسول بأنه مؤيد بالمعجزات، فيقول: “فأي رسول اختاره الله الخالق لرسالته جعل سبيله أن يعطيه علامة من هذه الأعلام: إما قهر طبائع كمنع النار أن تحرق أو حبس الماء أن يجري أو قلب عين كما يقلب الحيوان جماداً والجماد حيواناً… فإذا دفع إليه علامة من هذه وجب على من رآها من الناس أن يفضلوه ويصدقوه فيما يقول”، وهذا التعريف يخالف ما نجده في التوراة من إثبات نبوة كثير من أنبيائهم.
وعد بلفور
8- استفادت الصهيونية من سعة مصطلح النبوة في العهد القديم وجعلته أكثر سعةً وامتداداً حتى جعلتها في متناول كل من يقوم بدورٍ مهم لخدمة الشعب اليهودي في كل زمان، حتى أصبح كل يهودي مخلص في مصافِّ الأنبياء، فقالوا عن ديفيد بن غوريون إنه النبي المسلح وعن جابوتنسكي نبي محارب، بل يزعم البعض أن رئيس وزراء بريطانيا آرثر بلفور (صاحب وعد بلفور) هو الآخر نبي.
ومضامين الوحي تشمل أوامر الله ونواهيه وتعاليمه لبني إسرائيل، كما تشتمل في رأيهم أيضاً على أمور لا تتناسب مع تنزيه الإله وكرامة أنبيائه، ومنها:
1- الرب يأمر أنبياءه بالفواحش، فيقول “اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى” [يوشع: 1/2]، كما يطلب من نبيه أشعيا أن يتعرى تماماً ويدعو بني إسرائيل لثلاث سنوات ويمدحه على ذلك [أشعيا: 20/2]، وفي المقابل يقول القرآن الكريم {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 28].
2- يطلب الرب من أنبيائه أن يقضوا له حاجاته، فيطلب من داود مثلا أن يبني بيتاً له لأنه كان يسكن في خيمة: “في تلك الليلة كان كلام الله إلى ناثان قائلاً اذهب وقل لداود عبدي هكذا قال الرب أنت لا تبني لي بيتاً للسكنى لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت إسرائيل إلى هذا اليوم بل سرت من خيمة إلى خيمة ومن مسكن إلى مسكن” [صموئيل الثاني: 7/ 6].
3- تتضمن التوراة التي يعتقدون أنها من الوحي سرداً تاريخياً لحياة بني إسرائيل، فأغلب الأسفار هي حكاية تاريخية وبيانٌ لحروبهم وصراعاتهم وتنقلاتهم وأسماء أماكنهم ورجالهم.
4- تحتوي الأسفار على صفات قبيحة للأنبياء يتنزه عنها الرجل العادي فضلاً عن الصالح، فتزعم أن سليمان مال إلى عبادة الأصنام بسبب حبه لنسائه الوثنيات وأنه ختم عمره بعبادتها وبالسحر، وتتهم هارون بأنه هو الذي صنع العجل الذهبي وأمر بني إسرائيل بعبادته في غياب موسى، وتورد قصصا عن محاججة الأنبياء للرب واعتراضهم على أحكامه كما فعل إبراهيم وموسى وإلياهو (إلياس)، أما يعقوب فقالوا إنه علم بزنى ابنه راؤبين بزوجته ومع ذلك سكت عن فعله، ونسبوا إلى لوط الزنا بابنتيه بعد سكره معهما، أما داود فقد شاهد -حسب زعمهم- امرأة عارية تستحم فأعجب بها وزنا بها وتخلص من زوجها (أحد قادة جيشه) بإرساله في معركة وجعله في مقدم الجيش ليضمن قتله، ثم ضم هذه الزوجة إلى نسائه فكانت نتيجة هذا الفعل ولادة ابنه سليمان.
ثالثاُ- الكتب المقدسة: الكتاب الأول- العهد القديم أو التوراة: هو كتاب اليهود المقدس وشريعتهم المكتوبة، وسمي بالعهد القديم للتمييز بينه وبين العهد الجديد الذي يؤمن به المسيحيون، فقد كُتبت أسفاره قبل عهد المسيح، وهو “عهد الرب” الذي تكرر لإبراهيم ثم إسحاق ثم يعقوب ثم تكرر على لسان موسى والأنبياء من بعده.
ويضم حسب رأي اليهود الأسفار التي جاء بها موسى وأنبياء بني إسرائيل من بعده، ويطلق اسم التوراة على الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، كما يطلق على الكتاب بكامله لأن أسفارها هي الأقدس عندهم ومن باب إطلاق اسم الجزء على الكل، والأسفار جمع سِفر وهو الكتاب، أما الأسفار الخمسة فهي:
1- سفر التكوين: يبدأ من خلق الكون مروراً بقصة آدم وتعرضه للإغواء وخروجه من الجنة، وقصة نوح والطوفان وما كان من أمر أبنائه بعد الطوفان سام وحام ويافث، ثم قصة إبراهيم وسلالته والعهد الذي قطعه الرب معه، ويذكر بالتفصيل قصة أبناء يعقوب الإثني عشر وقصة يوسف وينتهي بوفاة يوسف.
2- سفر الخروج: يتضمن قصة موسى منذ ولادته أثناء اضطهاد فرعون لبني إسرائيل، ونشأته في قصر فرعون وتحركاته وخروجه إلى مدين وصحراء سيناء وكلام الله له فيها ونبوته، وترد في هذا السفر الوصايا العشر وقانون العهد وهي مجموعة من الشرائع والقوانين، كما ترد في السفر قصة ارتداد بني إسرائيل وعبادتهم العجل وتفاصيل رحلتهم شرقاً.
3- سفر اللاويين (أو الأحبار عند المسيحيين): لاوي هو أحد أبناء يعقوب، ومن نسله تحدر السبط الذي ولد فيه موسى وهارون، وفي نسله تنحصر الكهانة حسب ما جاء في السفر، إلا أن أحبار اليهود تعاونوا فيما بعد على إلغاء هذه القاعدة. وفي هذا السفر يتوقف السرد التاريخي ويبدأ التركيز على التعاليم الخاصة بالحياة الدينية حتى سماه علماء الشريعة الإسرائيلية “القانون الكهنوتي”.
4- سفر العدد: سمي بذلك لبروز ظاهرة التعداد الدقيق فيه، حيث ترد فيه إحصاءات تفصيلية لتعداد بني إسرائيل الراحلين مع موسى في التيه وعدد المدن والذبائح، ويُذكر فيه أن مدة التيه أربعين سنة، ويعود فيه السرد التاريخي لقصة موسى وقومه ويكثر فيه تذمرهم منه والاحتجاج عليه وعلى ربه حتى يصل إلى التآمر عليه من إخوته هارون ومريم أنفسهم.
5-سفر التثنية: هو آخر الأسفار الخمسة، ومعناه تثنية الشريعة أي إعادتها وتكرارها على بني إسرائيل مرة ثانية عند خروجهم من صحراء سيناء ووصولهم إلى سهول النقب وجنوب الأردن، وتضمن نسخاً لبعض تعاليم الشريعة الأولى أو إضافة أشياء لم ترد من قبل، ويتحدث عن وفاة هارون واستخلاف يوشع بن نون تلميذ موسى وخادمه، ثم وفاة موسى في جبل مؤاب وعدم معرفة قبره إلى الآن. فيقول في الفقرتين 5 و6 “فمات هناك موسى.. وتم دفنه في الوادي في أرض مؤاب تجاه بيت فاعور ولم يعرف أحدٌ قبره إلى يومنا هذا”.
أما القسم الثاني من العهد القديم فهو كتاب “الأنبياء”، ويضم بدوره قسم الأنبياء الأول وقسم الأنبياء الآخر، ويتضمن الأول أربعة أسفار يتتابع فيها السرد التاريخي لمسيرة الاسرائليين وهي: يوشع بن نون، والقضاة، وصموئيل، والملوك. ويتضمن الثاني أسفار خمسة عشر نبياً عندهم تولوا قيادتهم الروحية في ظروف سياسية واجتماعية حالكة، ومنهم عاموس وإشعيا وإرميا وحزقيال.
والقسم الثالث من العهد القديم هو “الكتب” أو “أسفار الحكمة”، وهي أسفار يغلب عليها الطابع الأدبي شعراً ونثراً وتتضمن قصصاً وحكماً تواترت لديهم وتحتوي تمجيداً لبطولاتهم في الاستقرار في فلسطين أو الرجوع إليها بعد السبي البابلي، وعددها اثنا عشر سفراً وأهمها: مزامير داود (وهو الزبور)، وأمثال سليمان، وأيوب، ونشيد الأناشيد، ودانيال، وإستير، وعزرا.
كان علماء اليهود واللاهوت المسيحي يعتقدون أن موسى هو الذي كتب الأسفار الخمسة، وأن الذي نزل من السماء مكتوباً هو لوحان فقط، وأن موسى كسرهما عندما رأى بني إسرائيل يعبدون العجل. كما اعتقدوا أن بقية أنبياء بني إسرائيل كتبوا الأسفار المنسوبة إليهم، وأن معظمها كُتب باللغة العبرية وبعضها بالآرامية، ثم تُرجمت في عهد بطليموس الثاني (246ق.م) إلى اليونانية، وذلك على يد 72 حبراً من أحبار الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد، فسميت بالترجمة السبعينية، وهي الترجمة المعتمدة لدى معظم الطوائف اليهودية والمسيحية.
الفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ إسبينوزا كان من أوائل الباحثين الأوروبيين الذين اجترأوا على نقد العهد القديم وكشف تناقضاته في القرن السابع عشر
لكن هذه الاعتقادات بدأت بالتلاشي في القرن الثامن عشر، حيث أكدت أبحاث كثيرة أن الأسفار الخمسة كتبها مئات الأحبار على مدى القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، أي بعد وفاة موسى بقرابة ألف عام، وأنها جُمعت بشكلها الحالي بعد ذلك بكثير، كما وجدوا أنها عبارة عن كتب تجمع أساطير وأشعار وتراث شعوب وحضارات الشرق الأدنى المتنوعة، وأن قيمتها تقتصر على الجانب الأدبي فقط
كما أثبتت الدراسات أن الأسفار المنسوبة للأنبياء لم يكتبها الأنبياء بل اشترك في كتابتها عدد كبير من المؤلفين والأحبار الذين لم تُعرف أسماؤهم، وكذلك بقية أسفار العهد القديم.
وبالنتيجة اضطر الكثير من علماء اللاهوت والأحبار لتغيير موقفهم، فقالوا إن الأسفار لم يكتبها موسى والأنبياء إلا أن روح الرب كانت تظلل الكتَّاب المجهولين على مدى ألف عام، وبهذا فقد أسقطوا المعنى الحقيقي للوحي، كما رأوا أن وجود الأخطاء التاريخية في الأسفار لا ينفي عنها صفة الإلهام لأن الوحي من الله لا يمنع الوقوع في أخطاء وتناقضات -حسب تصورهم- ورتبوا على ذلك ضرورة فهمها بالمعنى الإجمالي، وتأويل ما يناقض العلم والتاريخ وإن كان تأويلاً متعسفاً
وأرجع الباحثون في العهد القديم أسفار موسى الخمسة إلى أربعة مصادر رئيسية هي:
1- المصدر أو النص اليهَوي: حيث يُذكر الله باسم (يهوه) الذي كان شائعا في مملكة الجنوب يهوذا في القرن التاسع قبل الميلاد، ويتحدث هذا النص عن بدء الخليقة وينتهي بموت يعقوب، ويتميز بأنه تصويري وساذج ومليء بالأساطير، حتى أنه يجسد يهوه بصورة بشرية.
2- المصدر الإلوهيمي: حيث يذكر اسم الله باسم (إلوهيم) الذي كان شائعا في مملكة الشمال إسرائيل وعاصمتها السامرة، وزمان كتابته متقدم على النص اليهوي في القرن الثامن قبل الميلاد. وموضوعه الأحداث الخاصة بإبراهيم وذريته، وأسلوبه أكثر اعتدالاً لا سيما في تصويره للرب الذي يتحدث عنه بتنزيه أكبر، وأنه رب العالمين وليس خاصاً بإسرائيل وحدها. ويمتاز هذان المصدران بكثرة الروايات والقصص وندرة التشريعات، وقد أدمجا في مجموعة واحدة في القرن السابع قبل الميلاد.
3- مصدر سفر التثنية (تثنية الاشتراع): وهو سفر تتكرر فيه الشرائع والقوانين، وقد أعلن العثور عليه في زمن الملك يوشياهو ملك يهوذا سنة 620 ق.م، وأسلوبه مختلف عما سبق ويتميز بالإنشاء الخطابي.
4- النص الكهنوتي: وهو يتألف من فصول كتبها الكهنة في عصر النفي إلى بابل وما بعد النفي، أي في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد في زمن عزرا (عزير في القرآن الكريم)، ويتميز هذا النص بالتكرار والتشدد والميل إلى كل ما يتعلق بالذبائح والطقوس والكهانة.
وبعد كتابة الأنواع الأربعة السابقة، جمعها الأحبار في كتاب واحد أسموه “التوراة” أو أسفار موسى الخمسة، وذلك في عصور متأخرة جداً تصل إلى ما بعد ظهور المسيح عيسى. وهذا يفسر التناقض الكبير بين الأسفار نفسها.
ويقول الباحث اليهودي إدمون جاكوب في كتابه “العهد القديم” إنه لا يوجد نص واحد للعهد القديم بل نصوص كثيرة، ففي القرن الثالث قبل الميلاد كان هناك -على الأقل- ثلاث مدونات للنص العبري للأسفار الخمسة وهي: النص الماسوري أي المحقق الذي تم اعتماده بعد عصر موسى بحوالي 2300 سنة، والنص السامري الذي تؤمن به طائفة يهود السامرة، والترجمة السبعينية إلى اليونانية [موريس بوكاي، ص39]
وثمة شكوك أيضا حول الترجمة السبعينية، حيث ترى المسكونية الفرنسية أنها تمت خلال فترة زمنية طويلة بواسطة كتَّاب لم يلتزموا بدقة الترجمة، بل كان لهم حق الإضافة والحذف. كما صرحت دائرة المعارف البريطانية (الطبعة 15: 2/879) بأن النص اليوناني يختلف عن النص العبري اختلافاً بيناً، وفيه زيادات كثيرة في مختلف الأسفار.
ويقول جاكوب إن ما يرويه العهد القديم عن موسى والأنبياء لا يتفق إلا بشكل تقريبي مع المجرى التاريخي للأحداث، لكن الرواة كانوا يعرفون كيف يضفون الأناقة والخيال على مروياتهم بحيث يربطون بين أحداث شديدة التنوع، وقد نجحوا في تقديم هذه الأحداث في شكل حكاية لما حدث في أصل العالم والإنسان، أي أن كتَبة التوراة أضافوا بخيالهم إلى النص أشياء كثيرة لم تحدث.
وهذا يؤكد ما جاء في القرآن الكريم عن تحريف اليهود للتوراة الأصلية تحريفاً كبيراً، حيث يتفق علماء الإسلام على وقوع هذا التحريف بيد أنهم يختلفون في معناه على قولين، هما:
القول الأول: التحريف والتبديل وقع في التأويل والنص ولكن في أجزاء محدودة من التوراة، مثل زعم الأحبار أن الله صارع يعقوب طوال الليل ولم يستطع أن يتغلب عليه، وأنه سبحانه تعب بعد خلق السماوات والأرض فاستراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، وأن النبي لوط زنى بابنتيه بعد أن شرب الخمر، وغيرها مما رأى النقاد الأوروبيون أنفسهم -في عصر النهضة وبعده- أنه لا يمكن أن يكون من الوحي الإلهي.
القول الثاني:التوراة التي أنزلت على موسى بُدِّلت كلها أو أكثرها، ولا يوجد تطابق بين توراة موسى والتوراة الموجودة اليوم في شيء، والشذرات الصحيحة المنبثَّة في الأسفار الحالية نادرة جداً. وهذا القول هو الأرجح الذي ذهب إليه المتبحرون في دراسة الأسفار ومقارنة الأديان، مثل ابن حزم الأندلسي، وأبي حامد الغزالي، وإمام الحرمين الجويني، وابن تيمية، وابن القيم، والقرطبي صاحب التفسير، ورحمة الله الهندي وغيرهم.
أما أنواع تحريف التوراة التي نبَّه إليها القرآن فهي: تحريف بالتبديل ويكون بوضع كلمة مكان كلمة أو جملة مكان جملة، وتحريف بالزيادة والنقصان ويكون بزيادة أو حذف كلمة أو جملة، وتحريف بتغيير المعنى دون تغيير اللفظ. وهناك قسمٌ من أصل التوراة نسيه اليهود وفُقد منهم بسبب بذنوبهم، كما بيّن ذلك القرآن بقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13].
ويرجع الباحثون أسباب ضياع التوراة إلى عوامل عدة منها: الحروب التي خاضها بنو إسرائيل مع أعدائهم، وما تعرضوا له من سبي وشتات، وانحرافاتهم العقدية وارتدادهم المتكرر عن دينهم حتى عبدوا البعل وعشتروت ومولوخ وغيرها من الأوثان كما تذكر أسفار العهد القديم، فضلا عن اضطهادهم لأنبيائهم إلى درجة قتل بعضهم.
ويرى باحثون مسلمون معاصرون أن أحبار اليهود كتموا ما بقي لديهم من التوراة وأخرجوا للناس نقيضها لإفسادهم وحجبهم عن معرفة الحق، لأن انتشار الإلحاد والفساد بأنواعه يضمن لهم السيطرة على العالم، ويرجح الباحث بهاء الأمير في كتابه “الوحي ونقيضه” أن العائلات اليهودية الكبرى التي تسيطر على إمبراطوريات المال والإعلام في العالم تحتفظ بالتوراة وتبث نقيضها عبر أذرعها في الجمعيات السرية المسيطرة على مفاصل القوة في الدول العظمى. ويقول إن أحد أبرز مظاهر إفسادهم هو تحريفهم لقصة خلق الإنسان في التوراة، وما ترتب على هذا التحريف من فساد عقدي وتمكينٍ لسطوة الشيطان على الإنسان الذي يضمن سيطرتهم ونفوذهم.
تناقضات وتساؤلات في أسفار العهد القديم يذكر سفر التكوين قصتين للخلق، ففي الأولى [1: 20- 27] خلق الله النباتات والحيوانات أولاً ثم خلق الإنسان، وفي الثانية [2: 7، 19] خلق الإنسان أولاً ثم خلق النباتات والحيوانات.
المدة الفاصلة بين خلق آدم وطوفان نوح تبلغ في النسخة العبرية 1656 سنة، وفي النسخة اليونانية 2262 سنة، أما في النسخة السامرية فتبلغ 1307 سنة.
في سفر الخروج [6: 2] يخبر الله نبيه إبراهيم بأن اسمه ليس “يهوه”، إلا أنه يؤكد له في سفر التكوين [22: 14] أن اسمه “يهوه”.
يقول سفر العدد إن النبي هارون توفي في جبل هور [20: 28]، بينما يقول سفر التثنية إنه توفي في موسير (موسره) [10: 6].
في سفر صمويل الأول [18: 19]: ابنة شاؤول اسمها ميراب، أما في سفر صموئيل الثاني [21: 8] فاسمها ميكال، ويقول السفر إن داود أخذ بني ميكال الخمسة وأسلمهم للصلب مع إثنين آخرين حتى يرضى الرب ويمنع استمرار المجاعة، لكن نسخا أوروبية حديثة للسفر عدّلت النص وجعلتهم أولاد ميراب.
يقول سفر التثنية “فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مواب… ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم” [34: 5- 6]، فلو كان موسى هو كاتب العهد القديم فكيف يكتب عن وفاته واختفاء قبره؟
جاء في سفر حزقيال [18: 20] أن الأبناء لا يحملون ذنوب الآباء، وفي سفر التثنية [24/ 16]: “لا تقتل الآباء بالبنين ولا تقتل البنون بالآباء، بل كل امرئ بذنبه يُقتل”، بينما ينص سفر الخروج [20: 5] على أن الرب ينتقم من الأبناء حتى الجيل الثالث والرابع بسبب ذنوب الآباء.
الكتاب الثاني- التلمود: يأتي في المقام الثاني بعد التوراة، وهو الشريعة الشفوية، ويتألف من قسمين هما المشناة والجمارا.
أحبار يتدارسون التلمود بريشة كارل تشيلشر
أما المِشناة فهي مجموعة من الشرائع اليهودية المروية على الألسنة، حيث يعدها اليهود مصدراً رئيسياً من مصادر التشريع، ويظنون أنها تعود إلى موسى نفسه، فيسمونها “التوراة الشفوية”. ولم يبدؤوا بتدوينها إلا بعد السبي البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد واستقرت كتابتها على الوضع الذي نعرفه في نهاية القرن الثاني بعد الميلاد.
تقسم المشناة إلى ستة أقسام تتضمن التعاليم الدينية الخاصة بكل من: الأرض والزراعة، الأيام والأعياد المقدسة، النساء وأحكامهن، القصاص والعقوبات، القرابين وخدمة الهيكل، أحكام الطهارة والحلال والحرام. وقد كتبت بلغة عبرية حديثة قياساً إلى عبرية التوراة.
وبعد الانتهاء من تدوينها انكب أحبار اليهود على شرح المشناة، وأودعوا في شرحهم كل ما أرادوا إشاعته بين عوام اليهود من شرائع وحكايات في كل مجال، فسمي هذا الشرح “جمارا” أي التكملة، وكتب بالآرامية، ومن اجتماع المِشناة والجمارا تكون “التلمود”.
تركزت مدارس الشرح في العراق خلال السبي البابلي كما ظهر لها شرّاح في فلسطين من فلول اليهود التي بقيت هناك بعد السبي، وأدى ذلك إلى ظهور تلمودين: تلمود بابلي شرح المشنة كاملةً، وتلمود أورشليمي ناقص شرح فصولاً منها، وعندما يُطلق التلمود يقصد به التلمود البابلي.
رابعاً- عقيدة يوم الرب وعقيدة الماشيَّح المنتظر: يعتقد اليهود أن الرب اختار إسرائيل شعباً له ووعدهم بإخضاع شعوب الأرض لهم. ومع أن ذلك لم يحدث دائماً، ومع أنهم يقرّون بإصرارهم على التفريط في عهدهم معه وأن الدنيا تبدو بعيدة عن الكمال المطلوب وفق تصورهم لها، فإن ذلك يقتضي أن يُنزل الرب عقابه الصارم وينتقم لشعبه المختار ويكون له مع الدنيا يومٌ عظيم.
وقد ذُكر “يوم الرب” على لسان النبي عاموس في السفر المنسوب له محذراً من الانتقام الإلهي من المخالفين، وخلط اليهود بدهاء قضيتهم بقضية الإله، فهم ينتظرون يوم الرب ليحمل لهم انتصار شعب الرب المختار على الأمم الأخرى التي ستدين لهم بالخضوع فيه، أما كلمات عاموس نفسه فتشير إلى أنه يومٌ تنتصر فيه العدالة الإلهية التي سيرتعد منها الشعب اليهودي رعباً مما اقترفه من آثام. [عاموس 5/18-20].
أما “يوم الرب” بالمعنى الذي قصده الأنبياء من وعيد وانتقام من العصاة، سواء من اليهود أو غيرهم، فهو موضع تهكم وسخرية لديهم حيث أطلقوا عليه اسم “أحَريت هَيَّاميم” أي آخرة الأيام أو اليوم الآخر، ويقصدون به معنىً مختلفاً تماماً عن المعنى المتعارف عليه عند المسيحيين والمسلمين الذين يؤمنون بالآخرة، فهو عندهم اليوم البعيد جداً الذي لن يأتي مما اضطر نبيهم حزقيال إلى تقريعهم وتحذيرهم كما جاء في سفره [12/21 وما بعدها].
أرض الموتى كما تخيلها الرسام جون مارتن في القرن الثامن عشر
كانت النصوص الإسرائيلية القديمة تتحدث عن أرض الموتى (شيول)، وهي مكان أسطوري محايد يذهب إليه الموتى وغير مرتبط بالثواب والعقاب أو البعث والحساب. ثم اختلف مفسرو التوراة وأحبار التلمود في تفسير معنى “جهنم”، فقال البعض إنه “الوادي الملعون” الذي يُعاقب فيه المذنبون داخل الزمان، ودون تحديد لمدى العقوبة، حيث قيل إن الآثمين من بني إسرائيل سيُعاقَبون عاما واحدا ثم تباد أرواحهم، وقيل إنهم سيذهبون إلى الجنة بعد قضاء فترة العقوبة، ورأى آخرون أن كل بني إسرائيل سيبعثون بعد الموت وينقذهم إبراهيم من دخول جهنم، كما أنكر بعض الحاخامات وجود جهنم وقالوا إن أرواح الأشرار ستباد ولن تخلد في العذاب، وفي العصر الحديث أسقط كثير من اليهود فكرة جهنم نهائيا، وما تزال مفاهيم البعث والآخرة غامضة في فكرهم الديني. [موسوعة المسيري: 14/289].
وأما قضية المسيح المنتظر فهي من أهم قضايا اليهود على الإطلاق، والمسيح أو الماشيَّح أو المسيّا هو الممسوح بالزيت، وهو رجل من نسل داود سيأتي حسب زعمهم ليعيد دولة اليهود في فلسطين ويقيم بناء الهيكل المهدم، وبواسطته سيحكم اليهود العالم.
وقد زاد الحديث عنه بكثرة في مرحلة النفي، وفي كل مرحلة ضعف تعرضوا لها ازداد تعلقهم بالمسيا الذي سيأتي ليخلصهم وينتقم لهم من العالم، وتكررت نبوءات الأنبياء بقدومه حتى ملأت معظم أسفار العهد القديم والتلمود البابلي خاصة.
ولا بد من علامات تسبق ظهور الماشيح، فيقولون إنه لن يظهر إلا بعد تجمع اليهود من الشتات في الأرض المقدسة، وتجمع الثروة في أيدي اليهود وسيطرتهم على العالم اقتصادياً بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة، كما أنه لا يظهر إلا بعد قيام حرب عالمية رهيبة يهلك فيها ثلثا سكان العالم ويؤمن به الثلث الباقي، وتسمى هذه الحرب عندهم “حرب التنين” وهي التي يطلق عليها المسيحيون المتصهينون معركة “هرمجدون” [انظر مقال المسيحية المتصهينة]، فيظهر الماشيح عقبها وتدين له شعوب الأرض كافة بالخضوع.
كما لا بد أن يسبق ظهوره هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه، ويزعم التلمود أنه بظهوره ستعم البركة والخير والعدل الأرض ويصبح اليهود سادة البشر. واختلف الحاخامات في مدة بقائه فمنهم من جعلها أربعين سنة، وقال بعضهم إنها سبعون سنة، وزعم آخرون أنها آلاف السنين.
ومن أشهر الشخصيات المترتبة على تعلقهم بفكرة المسيح المنتظر وأشدها ارتباطاً به هي شخصية النبي إلياس الذي يسميه اليهود (إلياهو)، وأخباره كثيرة مشهورة في سفر الملوك الأول وكان معاصراً للملك آخاب في مملكة إسرائيل -عاصمتها السامرة- الذي عبد بعل إرضاء لزوجته الصيدونية الوثنية، وكانت له مواقف عديدة في مواجهة الملك وقومه الذين انحرفوا عن عبادة الله وشاع فيهم الفساد حتى رُفع إلى السماء في مركبة نارية كما يذكر العهد القديم.
ودوره الأهم عندهم يتمثل في عودته قبل ظهور الماشيح مبشراً به، كما يقولون إنه ينزل من حين إلى حين إلى هذه الدنيا ليطمئن على اليهود وإقامتهم لشعائرهم، لذلك اقتضت تقاليد عيد الفصح عندهم تخصيص كأس نبيذ ومكان فارغ على مائدة الفصح في كل بيت للنبي إلياهو لعله يحضر الاحتفال كما تصوره قصصهم الشعبية للأطفال كشخصية مماثلة لشخصية “بابا نويل” أو “سانتا كروز” عن المسيحيين.
ويسجل التاريخ ظهور كثير من اليهود الذين ادعى كل منهم أنه المسيح المنتظر، ومنهم داود الرائي (حوالي سنة 1163م) في العراق زمن الخلافة العباسية، الذي استفاد من علوم المسلمين المزدهرة في عصره وأتقن التنجيم والسحر ودعا للذهاب إلى القدس وانتزاعها من يد المسلمين وإعلان حكم يهودي فيها وأنه المسيح المخلص لليهود، ومن أشهرهم في العصر الحديث شبتاي صِبي (زيفي) الذي عاش في الدولة العثمانية حوالي عام 1647م، وقام بدور أساسي في نشوء ما عرف بعد ذلك بيهود الدونمة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا اليهودية، وكانوا العامل الأبرز في إسقاط الخلافة الإسلامية فيما بعد سنة 1908م.
بالرغم من إنكار الكثير من اليهود المعاصرين، فإن هناك أدلة تاريخية كثيرة على أن الإسرائيليين القدامى تقربوا إلى الإله الكنعاني “مولوخ”، والذي يُرجح أنه تجسيد للشيطان، عن طريق التضحية بالأطفال، وما زال البعض يمارسون هذه الطقوس السرية في العصر الحديث.
نصوص تأمر بالعنف في العهد القديم: “فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرّمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة” [سفر التثنية 18: 28].
“حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك” [سفر التثنية 20: 10- 15].
“فالآن أقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها” [سفر العدد 31: 17].
“فالآن اذهب واضرب عماليق وحرّموا كل ما له ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا” [سفر صموئيل الأول 15: 3].
“كما أثكل سيفك النساء كذلك تُثكل أمك بين النساء” [سفر صموئيل الأول 15: 33].
“طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة” [سفر المزامير 137: 9].
“تجازى السامرة لأنها قد تمردت على إلهها، بالسيف يسقطون، تحطم أطفالهم والحوامل تشقّ” [سفر يوشع 13: 16].
“وأطعمهم لحم بنيهم ولحم بناتهم فيأكلون كل واحد لحم صاحبه في الحصار والضيق الذي يضايقهم به أعداؤهم” [سفر إرميا 19: 9].
الشريعة اليهودية تعد الوصايا العشر التي وردت في سفر الخروج عصب الشريعة الموسوية، وقد تكررت في سفر التثنية للتأكيد على أهميتها وجاء فيها: ثم تكلم الله بجميع هذا الكلام قائلاً:
أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من دار العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمام وجهي.
لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة،… لا تسجد لها ولا تعبدها لأني أنا الرب إلهك إله غيور أتعقب ذنوب الآباء في الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع من أعدائي، وأصنع إحساناً إلى أولف من أحبائي وحافظي وصاياي.
لا تحلف باسم الرب إلهك باطلاً، لأن الرب لا يبرئ من ينطق باسمه باطلاً.
اذكر يوم السبت لتقدسه في ستة أيام تعمل وتنجز كل أعمالك واليوم السابع سبت للرب إلهك… لأن الرب خلق السماوات والأرض والبحر وكل ما فيها في ستة أيام، وفي اليوم السابع استراح ولذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه.
أكرم أباك وأمك كيي يطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك.
لا تقتل.
لا تزن.
لا تسرق.
لا تشهد على قريبك شهادة زور.
لا تشتهِ بيت قريبك، لا تشتهِ امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك.
عرس يهودي في أوروبا الشرقية في القرن التاسع عشر
كما تتصف الشريعة اليهودية بأحكام تميزها عن غيرها من الشرائع، ففي الزواج مثلاً يعد بقاء اليهودي في العزوبة أمراً منافياً للدين، لأنه يتسبب في أن يتخلى الرب عن شعبه إسرائيل، ويحرم الزواج بين اليهود وغيرهم الذين يسمون في كتب الشريعة عندهم كفاراً أو (الغوييم) أي الأمم الأخرى أو الأغيار، ويستوي في ذلك المسلمون والمسيحيون والوثنيون، ومنهم من تشدد فأكد على ضرورة وحدة المذهب أيضاً، والأولاد الناتجون عن زواج مخالف هم أولاد زنا، ويصح عندهم أن يعقد بين اثنين كان أحدهما أجنبياً ثم اعتنق الدين لكن أولادهما لا يصح أن يكون منهم كهنة في إسرائيل تأكيداً للنزعة العنصرية التي تصبغ أكثر شرائعهم الفقهية. ويجوز للإسرائيلي الزواج من ابنة أخته أو ابنة أخيه ولكن العكس محرم فلا يحل للمرأة الزواج من ابن أختها أو ابن أخيها، ثم حرم كثير من أحبارهم الزواج ببنت الأخ. كما أن تعدد الزوجات كان جائزاً شرعاً ولم يرد نص بتحريمه أو تحديد حدٍّ أقصى له، وكانت عادة اليهود باتخاذ أكثر من زوجة إلى أن أفتى الحاخام جرشوم بن يهودا الفرنسي (توفي عام 1040م) بتحريم تعدد الزوجات، وذلك نتيجة ما لاقاه يهود أوروبا في العصور الوسطى من اضطهاد واحتقار لأسباب منها تعدد الزوجات المحرم عند المسيحيين، لكن فتواه لم تطبق واستمر التعدد سراً وعلناً لاسيما في بلدان آسيا وأفريقيا.
عرس تقليدي لابن أحد الحاخامات
ومن خصائص الشريعة اليهودية مسألة اليِبُّوم، وهي أرملة اليهودي الذي مات ولم ينجب فيجب عندئذ تزويجها لأخيه الأعزب، فإذا أنجب منها فإن المولود لا يحمل اسمه بل اسم أخيه الميت وينسب إليه، وإذا امتنع أخو المتوفى عن هذا الزواج فإنه يشهر به ويخلع من المجتمع الإسرائيلي.
كذلك تهتم الشريعة اليهودية بالابن البكر فهو خليفة أبيه في السلطة والثروة، وكثيراً ما كانت تشتعل المنافسات بين الإخوة الصغار وأخيهم الأكبر بسبب هذا وتنسج المؤامرات، وأوضح الأمثلة قصة يعقوب وتآمره مع أمه على انتزاع حق البكورية من أخيه عيسو المذكورة في سفر التكوين. والعبارة التالية توضح الغاية من هذا التشريع، فقد نص بن شمعون في قانونه على أن: “البكر من الجارية أو الأجنبية لا يمنع البكورة من الإسرائيلية” والمقصود نزع حق النسبة وميراث النبوة من إسماعيل جد العرب من أبيه إبراهيم وإثباتها لإسحاق ونسله فقط، فمع أن إسماعيل وُلد قبل أخيه إسحاق إلا أنه ابن هاجر الجارية المصرية، أما إسحاق المتأخر في الولادة فكان سليل الزوجة سارة التي توصف بأنها عبرية، وكان لا بد من هذا التشريع لتستقيم نظريتهم في شعب الله المختار.
أما بالنسبة للأموال والممتلكات فنجد أن الرِّبا محرم بين اليهود فقط، وعقوبة المخالف لذلك التكفير والخلع، بينما يباح الرِّبا إذا أقرض اليهودي لغير اليهودي. لكن الأحبار تحايلوا على هذا التشريع فيما بينهم أيضاً.
وباستعراض تقاليد اليهود في الطعام والشراب، نجد أنه يحلُّون من الحيوانات كل ما له ظلف مشقوق وليست له أنياب ويأكل العشب ويجتر، وبذلك يحرم عليهم الخيل والبغال والحمير وكذلك الجمل، والخنزير لأنه ذو ناب والسباع بأنواعها كما يحرم عليهم الأرنب وما يتصل به من قوارض آكلة للعشب لأنها ذات أظافر لا أظلاف مشقوقة، كما يحرم من الطيور كل ما له منقار معقوف أو مخلب أو كان ممن يأكل الرمم، وتذبح الحيوانات الصالحة للأكل من منحرها بالطريقة الشرعية وبعد تلاوة بركة تتضمن اسم الرب. أما صيد البحر فكله حرام عليهم باستثناء السمك الذي له زعانف وعليه قشور فقط، كما أن الدم محرم عليهم كتحريمه على المسلمين، ويحرم عليهم الجمع بين اللحم واللبن الحليب أو أي شيء يمت له بصلة في طعام واحد، لذلك يحرم طبخ اللحوم في السمن والزبد بل تطبخ بزيوت نباتية. كما يحرم أن يوضع اللحم في إناء كان قد وضع فيه لبن أو جبن من قبل.
ويولي اليهود اهتماماً شديداً بأعيادهم الدينية لارتباطها بتعاليم التوراة من جهة وبتاريخهم من جهة أخرى، وأكثر أعيادهم أهمية في توضيح عقيدتهم:
طقوس يوم السبت في لوحة من القرن الرابع عشر
1- السبت: هو العيد الأسبوعي لدى اليهود، ويبدأ من غروب يوم الجمعة إلى غروب السبت، وأهم شعائره الكفُّ عن أي عمل في ذلك اليوم لأن الرب -كما زعم كتبة سفر التكوين- استراح فيه بعد أن تعب من خلق السماوات والأرض، حيث يقول “وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع وبارك الله اليوم السابع وقدسه” [التكوين: 2/ 3]. وتقدم ذبيحة في هذا اليوم لأن الرب “يحب اللحم المشوي”، وتتشدد الشريعة اليهودية في أحكام السبت فمن يعمل عملاً فيه يحكم بالإعدام، حيث زعم كتبة التوراة أن موسى قتل رجلاً لأنه احتطب يوم السبت [الخروج: 31/ 14- 15]، وتطبيق شعائره من أهم بنود الوصايا العشر التي جاء بها موسى كما يقولون.
ومن الأمور المحرمة في السبت استدعاء طبيب لمعاينة مريض مهما كانت حالته حرجة، وعدم صنع طعام أو إيقاد نار، لذلك يصنع اليهود المتدينون طعامهم قبل غروب الجمعة، والامتناع عن الكتابة والتعاقد والبيع والشراء والخروج من البيوت والقتال وإبرام عقود الزواج. لكن الأحبار أبدعوا طرقاً للتحايل على هذه القيود، حيث ذكر القرآن نموذجاً منها في قصة أصحاب السبت [البقرة: 65]، وللتحايل على مسألة الحروب والقتال أباحوا للكاهن الأعلى أن يعلن الحرب على أساس أنها حرب دفاعية، ولهذا يسمى جيشهم اليوم بجيش الدفاع الإسرائيلي.
2- عيد الفصح أو عيد العبور أو الفطير: هو أهم الأعياد اليهودية على الإطلاق، فيحتفلون فيه بإخراجهم من مصر ونجاتهم من فرعون، والفصح كلمة عبرية تعني العبور أي عبور البحر، وسمي عيد الفطير لأنهم لا يأكلون فيه إلا فطيراً قبل أن يختمر كما فعل آباؤهم عند خروجهم من مصر حيث أخذوا معهم عجينهم قبل أن يختمر، وتستمر الاحتفالات بهذا العيد سبعة أيام ويقع في شهر أبيب العبري الموافق لشهر أبريل/نيسان، وعلى كل عائلة أن تذبح استعداداً له خروفاً وأن تلطخ بدمه باب بيتها وعتبته وقائمتيه، وذلك إحياءً لما نص عليه سفر الخروج الذي جاء فيه أن الرب عندما قرر إهلاك كل المصريين -وليس فرعون وجيشه فحسب- نزل وتمشى في أرض مصر ليقتل كل المصريين وأبناءهم وبهائمهم، وحتى لا يخطئ الرب ويقتل أحداً من شعبه المختار فقد جعل لهم علامة تيميز بيوتهم عن بيوت المصريين، فأمرهم بأن يذبح كل منهم شاة ويغمس عتبة بيته بدمها كي يتعرف الرب على بيوتهم فلا يمسها بسوء، وفي هذا التصور للإله يبدو واضحا أنه لا يعلم كل شيء.
شوارع تل أبيب فارغة في يوم الغفران (Roy Boshi)
3- يوم الغفران (يوم كِبُّور): هو يوم من كل سنة حددته الشريعة اليهودية للتكفير عن الخطايا ويسمى يوم الكفارة، ويوافق اليوم العاشر من الشهر السابع من السنة العبرية، وينبغي فيه الامتناع عن العمل، مع الصوم والاعتراف بالخطايا وإقامة الطقوس المستمدة من التوراة، حيث ينص سفر اللاويين على أن الرب أمر موسى وهارون بأن يحضرا تيسين، الأول يقدمانه للرب بعد أن يتلو هارون على رأسه كل خطايا بني إسرائيل ويذبحانه ليحملها عنهم، ويلطخان بدمه قدس الأقداس في خيمة الاجتماع وغطاء التابوت الذي فيه الرب، أما الثاني فيحمل خطاياهم ويرسلونه في البرية، وهو مقدم لعزازيل (إبليس نفسه) في طقوس أقرب ما تكون من عبادة الشيطان وتقديم القرابين له، ما يؤكد تسلل عقيدة ثنوية (ثنائية) الآلهة لدى اليهود، انطلاقا من مفهوم ازدواجية الخير والشر في العالم. وبما أن ذنوب الشعب المختار كلها تُكفّر في هذا اليوم فقد أصبح لدى البعض يوماً لارتكاب جميع الموبقات ونكث العهود، بل وإنكار الحقوق والديون والتحلل من الالتزامات، وبعد انتهاء الطقوس تذهب كل الذبائح والقرابين إلى بيت الكاهن.
4- عيد الفوريم أو البوريم أو عيد المساخر: له ارتباط وثيق بسفر أستير الذي يحكي قصة غانية فاتنة من بي إسرائيل اسمها أستير نجحت في الوصول إلى قلب الملك الفارسي أحشويروش أو قورش الأول (الذي حكم بلاد فارس من 485 إلى 465 ق. م) بعد أن علمت أن وزيره هامان يزمع استصدار أمر من الملك بإعدام طائفة من اليهود في مملكته لجرائمهم، فدبرت مكيدة بمساعدة عمها مردخاي بن يائير، وبعد أن أغوت الملك وأسكرته اتهمت هامان بأنه يتآمر عليه، فصدقها وأعدم هامان وأولاده وجنوده، وجعل عمها أحد وزرائه وقرب اليهود، وعندما تولى ابنه (ربيب أستير) العرش وحطم الدولة البابلية استصدرت أمراً بإعادتهم إلى فلسطين. وكلمة “بوريم” الفارسية تعني القرعة، حيث كان هامان قد أجرى قرعة لتحديد اليوم الذي سينفذ فيه الإعدام، فوقعت القرعة على يوم 13 آذار قبل أن تنقلب الأمور عليه ويقتل. وكتب أحبار اليهود سفرا كاملا باسمها في العهد القديم، وما زالوا يتعبدون بتلاوة هذا السفر مع أنه يتضمن قصة إغوائها للملك، ويعتبرونها من أبطال إسرائيل التي أنقذت شعبها. وفي الثالث عشر من آذار من كل سنة يحتفلون بهذه المناسبة بالإكثار من شرب الخمور والفجور، ويلبسون الأقنعة والملابس التنكرية في أجواء احتفالية (كرنفالية)، فاشتهر هذا العيد -وخاصة لدى المؤرخين المسلمين الذين عاش اليهود بينهم- باسم “عيد المسخرة أو المساخر”.
أشهر الفرق اليهودية: ينقسم جمهور اليهود عرقيا إلى طائفتين كبيرتين هما:
أولاً- الإشكناز: هم من سلالات شعوب “الخزر” التي استوطنت حوض نهر قزوين وشمال أوربا وشرقها، حيث تخلوا عن الوثنية واعتنقوا اليهودية في القرن التاسع الميلادي، أي بعد ظهور الإسلام أيضا، فهم ليسوا من بني إسرائيل ولا يمتون إليهم بصلة، ومع ذلك فهم يشكلون اليوم غالبية يهود العالم الذين يطالبون بعودة بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة.
كانت كلمة “إشكناز” تدل في العصور الوسطى على الأراضي الأوربية التي يسكنها الجنس الجرماني ثم أصبحت تدل على ألمانيا، وكذلك شمال فرنسا وشرقها والنمسا وبولونيا وسائر أوربا الشرقية ودول الاتحاد السوفييتي السابق. ونتيجة البعد الجغرافي عن فلسطين لم يستخدم الإشكناز اللغة العبرية، فحلّت محلها رطانة خاصة بحارات اليهود (غيتوهات) أساسها لهجة ألمانية قديمة ممزوجة بألفاظ عبرية، ومستقاة من المصطلح الديني عند اليهود، فلما عادوا للاهتمام بالعبرية في العصر الحديث ظهرت بينهم لهجة خاصة محرفة، ولهم طقوس خاصة في الأعياد وبعض التقاليد المختلفة في المأكل والمشرب والملبس، وذلك بتأثير الأمم التي عاشوا في كنفها والمناخ البارد الذي اعتادوا عليه قروناً، ومن الإشكناز خرج أقطاب الصهيونية المعاصرة في بدايات القرن العشرين الميلادي.
ثانياً- السفارد (سفارديم): هم اليهود الذين استقروا في حوض البحر الأبيض المتوسط المتحدرون من يهود شبه جزيرة إيبيريا (إسبانيا والبرتغال)، فبعد دخول المسلمين إلى الأندلس تمتع اليهود هناك بحرّية دينية وثقافية واجتماعية كبيرة مما سمح لهم بالمحافظة على استعادة عبريتهم التي فقدوها لقرون، وعندما تعرض اليهود مع المسلمين للاضطهاد في محاكم التفتيش الكاثوليكية بعد سقوط الأندلس عام 1492م، هاجر عدد كبير منهم إلى فرنسا وإنجلترا وإيطاليا واليونان وتركيا وأطلق عليهم اسم سفارديم. ومع تأسيس الكيان الصهيوني نزح معظمهم إلى هناك وشكلوا أغلبية السكان، لا سيما وأنهم كانوا يحافظون على اللغة العبرية التي أصبحت اللغة الرسمية للدولة الناشئة، لكن قادة الصهيونية من الإشكناز سارعوا إلى الضغط على الاتحاد السوفييتي لترحيل ملايين اليهود الإشكناز كي يشكلوا غالبية سكان إسرائيل ويطبعوا الدولة بطابعها الغربي العنصري.
تشير دراسات مختلفة إلى أن اليهود الإشكناز يمثلون 83.33% من مجموع اليهود في العالم، أما السفارديم فنسبتهم حوالي 5.3%، بينما تصل نسبة يهود العالم الإسلامي والشرق إلى 11.39% من مجموع اليهود في العالم والبالغ 13.2 مليوناً.
ويعتبر الكثيرون اليوم أن الإشكناز هم اليهود الغربيون وأن السفارديم هم الشرقيون، وهذا ليس صحيحا، فهناك الكثير من السفارديم اليوم في دول أوربا الغربية، كما ينبغي التمييز بين السفارديم واليهود الشرقيين (المزراحيين)، فمصطلح “اليهود الشرقيين” كان يُطلَق على بني إسرائيل الذين غادروا أورشليم بعد هدمها إلى العراق وإيران وأفغانستان والجزيرة العربية وشمال أفريقيا وجورجيا.
مجموعة من نساء الفلاشا عند حائط البرقاق بالقدس (سبوتنيك)
ومن الصعب أيضا الإقرار بأن كل المزراحيين ينحدرون من سلالة بني إسرائيل، فبالرغم من حرص اليهود على نقاء عرقهم إلا أن الكثير منهم تزوج وصاهر أعراقا أخرى في المشرق العربي والإسلامي، وهناك سلالات يهودية اليوم في الهند، وكذلك سلالة أخرى في الحبشة (الفلاشا).
ويجدر بالذكر أن يهود المشرق يختلفون عن السفارديم بخلفياتهم الثقافية والتاريخية مع أنهم يتبعون النهج السفاردي في العبادة.
وتتسم العلاقة بين الإشكناز الغربيين والسفرديم الشرقيين بتوتر شديد وصراع دائم في الكيان الصهيوني بسبب التمييز العنصري، إذ يعتبر الإشكناز أنفسهم أعلى رتبة من الآخرين، ويحتكرون لأنفسهم أهم مناصب السياسة والامتيازات الاقتصادية، مما يولد أحقاداً بين الطرفين.
وإلى جانب التصنيفات العرقية السابقة، والتي تتبعها فوارق مذهبية وثقافية أيضا، فهناك فرق أخرى انبثقت عن التطور المستمر في الفكر الديني اليهودي، وقد عاشت بعضها لمدة قد تطول أو تقصر بحسب الأحوال والملابسات، بينما اندثر أكثرها، ونذكر من هذه الفرق ما يلي:
السامريون
1- السامريون: هي فرقة صغيرة لا يزيد عدد أبنائها عن المئات، تعيش بجوار مدينة نابلس الفلسطينية التي قامت على أنقاض مدينة السامرة التي ينتسبون إليها، ويزعمون أنهم البقية الباقية على الدين الصحيح، ولا يؤمنون بنبوة الأنبياء الذين جاءت أسفارهم بعد توراة موسى في العهد القديم ويعدونها من صنع البشر باستثناء سفر يوشع بن نون، فيرفضون التلمود وغيره من كتابات الأحبار. ولهم نسختهم الخاصة من التوراة التي تختلف اختلافاً محسوساً عن التوراة الشائعة، ويقدسون جبل جرزيم قرب نابلس ويسمونه جبل الطور تيمناً بالطور الذي كلم الله عليه موسى، ويعيشون في عزلة عن بقية اليهود، وينفون عن عامة اليهود الانتساب إلى إسرائيل أو الإيمان بإله إسرائيل.
2- الفريسيون: هم طائفة علماء الشريعة (الأحبار) قديماً الذين كانت لهم الكلمة العليا في توجيه المجتمع اليهودي على عهد المسيح، كما كانوا من ألدّ خصومه وأكثرهم تعصباً، وامتازوا آنذاك بمنزلتهم عند الولاة الرومان. واسمهم مشتقٌ من كلمة “فروشيم” التي تعني “المفروزون” أي الذين امتازوا على الجمهور وعزلوا أنفسهم عنهم وأصبحوا لعلمهم ومعرفتهم بأسرار الشريعة الصفوة المختارة، ويعتبرون بقية اليهود من “عوام الأرض”. وإذا كان اليهود عامة يرون أنفسهم شعب الله المختار فإن الفريسيين عدّوا أنفسهم “خاصة الخاصة”.
رسم تخيلي لبولس
والفريسيون هم الذين وضعوا التلمود وتعاليمه التي تقرر “أن مخافة الحاخامات هي مخافة الله، وأن أقوالهم أفضل من أقوال الأنبياء، وتعاليمهم لا يمكن نقضها ولا تغييرها ولو بأمر الله تعالى نفسه”. واشتهروا بوضع الحيل للتخلص من قوانين الشريعة التي كانوا يتظاهرون بالتقيد بها، لذا ناصبهم المسيح عيسى بن مريم وابن خالته يحيى بن زكريا عليهما السلام العداء، وامتلأ الإنجيل -الذي أنزل على عيسى- بذمِّهم وفضح نفاقهم حتى أصبحت كلمة “فريسي” تدل على العار.
وكان بولس -وهو أول من بدَّل دين المسيح كما سنرى في مقال المسيحية– يهودياً فريسياً، إلا أن تغلغل اليهود التدريجي في الثقافة الغربية المعاصرة بلغ من القوة أن يقنع المسيحيين البروتستانت -ولاحقا الكاثوليك- بتبرئة اليهود مما ذمهم به المسيح نفسه والنبي يحيى (يوحنا المعمدان)، مع أن اليهود هم الذين اتهموا السيدة مريم بالبهتان وقالوا في المسيح إنه ابن زنا [انظر مقال المسيحية المتصهينة].
3- القنّاؤون: كلمة قنّاء العبرية تعني الغيور أو صاحب الحميّة، والمقصود هو الحميّة الدينية، وتشبه هذه الفرقة بعقائدها وطقوسها الفريسيين إلا أنها أشد تعصباً منهم، فأتباعها يتهمون الفريسيين بالجبن والخيانة لأنهم رضوا بحكم الرومان وتعاونوا معهم فلا يُقبل أن يحكم وثني يهودياً. وقد ظهروا بعد هزيمة المكابيين على يد الرومان وكانوا يقومون بعمليات اغتيال للرومان واليهود المتعاملين معهم، ما دفع السلطات الرومانية الحاكمة إلى قمعهم بقوة، الأمر الذي رد عليه القناؤون بمزيد من التشدد وتشكيل الجماعات السرية.
وكان القناؤون يقتلون كل من يخالف الشريعة اليهودية حتى أطلق عليهم الفريسيون اسم “سيقارين” أي السفاح، وكانوا شديدي العداء للمسيح عليه السلام.
هرتزل
4- الصهيونية: إذا كانت كثير من الفرق اليهودية قد اندثرت وانتهى وجودها فإن آثارها الفكرية امتدت في الحركات اليهودية المعاصرة التي تتشكل منها مجتمعات اليهود اليوم، وأشهرها الحركة الصهيونية التي جمعت بين فكر الفريسيين وتعصب القنائين وأساليبهم.
فالصهيونية حركة سياسية عنصرية متطرفة ترمي إلى إقامة دولة لليهود في فلسطين تحكم من خلالها العالم كله، وقد اشتقت اسمها من جبل صهيون في القدس الذي تطمع إلى أن تشيد فيه “هيكل سليمان” ليكون مركز مملكتها.
وإذا عدّ معظم الباحثين في الصهيونية النمساوي اليهودي تيودور هرتزل (توفي 1904م) الداعية الأول للفكر الصهيوني فإن جذورها الفكرية والتاريخية تعود إلى ثورة المكابيين ومعظم الحركات اليهودية التي أُججت فيها الروح الدينية والقومية، فهي تنظيم وتجديد للصهيونية القديمة.
تقوم الصهيونية على تعاليم التوراة والتلمود، ومع ذلك يوجد من زعمائها من يوصف بالملحد، وهي التي تقود ما يسمى بدولة إسرائيل وتخطط لها، كما أن الماسونية تتحرك بتعاليمها وتوجيهاتها، ويخضع لها الكثير من زعماء العالم ومفكريه، ولها مئات الجمعيات في أوروبا وأمريكا في مختلف المجالات، والتي تبدو متناقضة في الظاهر لكنها في الواقع تعمل كلها لمصلحة اليهودية العالمية.
واليهود اليوم ينقسمون إلى فرق على أساس انتمائهم الديني: فمنهم المحافظون والإصلاحيون والأرذثوكس، إضافة إلى معتنقي فكر القبالاه والحسيدية.
وهناك من يبالغ في قوة اليهود مبالغة كبيرة جداً، كما نجد آخرين يقللون من شأنهم ودورهم في صنع المؤامرات، والرأيان يحتاجان إلى تقويم وتوجيه لتحديد مواطن قوة اليهود ومدى تأثيرهم في العالم وكشف خفايا مؤامراتهم، على أن استقراء الواقع يدل على أن اليهود الآن يحيون فترة علوٍ استثنائية تحتاج من المهتمين إلى الدراسة والبحث [انظر خاتمة مقال الماسونية].
يهود أرثوذكس يتجمعون للصلاة عند حائط البراق (المبكى) وهو جزء من الجدران الخارجية للمسجد الأقصى
أهم المراجع بولس الفغالي وأنطوان عوكر، العهد القديم العبري: ترجمة بين السطور، الجامعة الأنطونية والمكتبة البولسية، 2007م.
زالمان شازار، نقد العهد القديم، ترجمة أحمد محمود هويدي، رؤية للنشر والتوزيع، 2014م.
د.م. دنلوب، تاريخ يهود الخزر، ترجمة سهيل زكار، دار قتيبة للنشر: دمشق، 2005م.
حسن ظاظا، الفكر الديني اليهودي: أطواره ومذاهبه، دار القلم: دمشق، 1999م، ط4.
محمد علي البار، المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم، دار القلم: دمشق، 2011م، ط2.
زكي شنوده، المجتمع اليهودي، مكتبة الخانجي، القاهرة، بدون تاريخ.
عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق: القاهرة، 1999م، ط1.
عبد المنعم فؤاد، قضية الألوهية في الأسفار اليهودية، مكتبة الثقافة الدينية: القاهرة، 2004م.
سليمان بن قاسم العيد، النبوة والأنبياء في العهد القديم، جامعة الملك سعود: الرياض، 2003م.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي: الرياض، 1989م، ط1.
طارق سويدان، اليهود الموسوعة المصورة، شركة الإبداع الفكري: الكويت، 2009م، ط1.
Jean Schorer, Das Christentum in der Welt und für die Welt, Wien 1949.