مقالات

مصادر المعرفة

تعريفات
المعرفة: مصطلح يدل على إدراك صور الأشياء أو صفاتها أو إدراك المعاني المجردة (مثل الصدق والحرية) سواء كان لها وجود موضوعي أو في الذهن فقط.

العلم: حسب تعريف أهل المنطق هو إدراك الشيء أو المعنى على ما هو عليه في الواقع، أي أنه المعرفة الصحيحة التي تتطابق فيه الصورة الذهنية للشيء مع واقع هذا الشيء. أما “العلم” بالاصطلاح الشائع اليوم فهو ترجمة غير دقيقة لكلمة science التي تتعلق بنتائج العلم التجريبي فقط.

الخبرة Experience: هي تراكم المعارف التي يكتسبها الإنسان في حياته عبر نشاطه الذاتي وتفاعله مع عناصر البيئة المحيطة به، فهي مجموع المعارف العملية لكل فرد على حدة، وتعد لدى المدرسة البراغماتية المصدر الأساسي للمعرفة الإنسانية.

اليقين: هو الجزم بأن معرفة الشخص لأمر ما هي مطابقة للواقع قطعا (أي علم) مع وجود الدليل القاطع على ذلك. واليقين يورث الطمأنينة في القلب لأنه لا يحتمل وجود النقيض، وهو ما طلبه إبراهيم عليه السلام عندما قال {رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260].

الاعتقاد: هو الجزم بأن المعرفة مطابقة للواقع قطعا ولكن دون تقديم دليل قاطع، وهذا هو “الإيمان”. وفي حال كون الاعتقاد خاطئا أصلا فهو “اعتقاد فاسد”، ولكنه قد يكون صحيحا بالرغم من عدم تقديم الدليل.

الظن الراجح: هو الذي يكون أقل وثوقية من اليقين، فتتراوح نسبة الوثوق فيه ما بين 99% و51%.

الشك: هو الذي تتساوى فيها الاحتمالات تساوياً تاماً، فلا يكون لبعضها رجحان على بعض، وتكون نسبة الوثوق فيه 50%.

الظن المرجوح: هو الظن الوهمي، ويسمى “وهماً”، وهو ما كانت نسبة الوثوق فيه أقل من 50%، وإذا وصلت النسبة إلى الصفر فهو باطل بيقين.

هل المعرفة ممكنة؟
قبل بحثنا عن المعرفة وأدواتها، يجدر بنا التعرف على آراء الفلاسفة في إمكانية الوصول إلى المعرفة أولا، حيث اختلفت العقول كعادتها في الإجابة عن هذا السؤال إلى درجة تقديم أطروحات في غاية الغرابة.

ربما كان السفسطائيون في اليونان هم أول من شكك في إمكانية تحصيل المعرفة، وكانوا على ثلاثة آراء، هي:

1-  اللاأدرية: هم الذين يشكّون في إمكانية معرفة وجود الأشياء وخواصها، فهم يعتبرون أن التوصل إلى اليقين أمر مستحيل ويقدحون في كون الحواس والعقل مصادر موثوقة للمعرفة، وهكذا يمتنعون عن الجزم بأي شيء.

2- العِنادية: هم الذين يقولون إن أي قضية بديهية أو نظرية لا بد أن يكون هناك ما يعارضها، فيجزمون بأنه لا توجد حقائق في الكون.

3- العِندية: هم الذين أنكروا حقائق الأشياء، وزعموا أنه لا توجد حقيقة موضوعية، فما يراه أي شخص موجوداً فهو عنده موجود، ولا يصبح موجودا عند غيره حتى يراه كذلك، فالوجود والعدم والحق والباطل والمعايير كلها نسبية تتعلق بكل شخص على حدة، وهو ما يلخصه بروتاغوراس بقوله “الإنسان هو معيار كل شيء”.

بيرون

يعد الفيلسوف بيرون من أشهر الشكاك في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، فقد رحل مع جيش الإسكندر الكبير إلى الهند، وتلقى الفلسفة هناك على يد طائفة من الهندوس تسمى “الفلاسفة العراة”، الذين ما زال لهم وجود حتى اليوم في الهند وهم لا يرتدون أي ملابس تستر عوراتهم، ويُعتقد أنه أخذ عنهم بعض آرائهم عن التشكك ثم نقلها إلى اليونان.

رأى بيرون أن جميع الأديان والأساطير من حوله غير مقنعة، فقرر بذلك أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها وأنه ينبغي على الفيلسوف أن يبحث عن الطمأنينة لا الحقيقة، وكي لا يبقى الإنسان بلا عقيدة نصح أتباعه بأن يقبلوا الأساطير السائدة في بلادهم وزمانهم دون اكتراث لمدى صحتها.

انتهى الأمر بفلسفة بيرون إلى السلبية، حيث قرر أن أفضل ما يفعله الإنسان هو أن يقبل الحياة كما هي دون أن يحاول إصلاح العالم، وحتى دون أن يبذل جهدا في تجنب الأخطار ومعالجة الأمراض.

ومع أن النزعة الشكية انتشرت في اليونان وكادت أن تخرب العقول إلا أن الفيلسوف سقراط تمكن من الرد عليهم وتسخيف منهجهم، ثم تصدى لهم من بعده أفلاطون وأرسطو، فأنقذوا بلادهم من السقوط في العدمية، إذ يمكننا أن نتخيل مصير أي مجتمع ينتشر فيه هذا النوع من الشك الذي ينفي اليقين ويجعل المعرفة أمرا مستحيلا، بل ويترك معيار الحكم على الأخلاق والمعارف إلى الفرد ذاته بنسبية مطلقة.

السفسطائية “sophism”
هي حركة فكرية انتشرت في اليونان، وتحديدا في مدينة أثينا، خلال النصف الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد، واشتهرت بنقل اهتمامات الفلاسفة من التأمل في القوانين الطبيعية والكونية إلى شؤون الإنسان الأخلاقية والسياسية، حيث كان الإنسان موضع اهتمام الأدباء وليس الفلاسفة، وتزامن ذلك مع قيام حروب دامية بين اليونان والفرس وبين أثينا وإسبرطة، وتزعزع الحكم الديمقراطي الأثيني، وتسلط الأرستقراطيين على الحكم مما جعل الأخلاق والسياسة وحقوق الناس هي القضايا المصيرية التي تستحق اهتمام الفلاسفة.

هنا ظهر فلاسفة الجماعة السفسطائية، وعلى رأسها “بروتاغوراس” و”غورجياس”، الذين سخِروا من الاهتمام بالقضايا الميتافيزيقية (الدينية والأسطورية) وركزوا اهتمامهم على السياسة والفصاحة والنجاح الدنيوي، وأصبح معيار الحق والعدل لديهم مرتبط بمدى قدرة الإنسان على المناظرة والجدل والمواهب الخطابية في إقناع الجماهير.

ميشيل دي مونتين

في القرن السادس عشر، أعاد الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين إحياء مذهب الشك، وكان له أثر كبير في إدخال الشك في فكر الحداثة، حيث تأثر به بعض المفكرين الذين انتهى بهم الحال إلى العدمية، ثم طوّر الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (توفي عام 1777م) فكرة الشك وقال إن المعرفة ليست مؤكدة بل مبنية على تصور الإنسان وإدراكه للأشياء.

استبعد هيوم مفهوم المعرفة الفطرية والمبادئ العقلية (البديهيات) وزعم أنها مكتسبة من العادة والتجربة وليست فطرية، كما أنكر الرابطة الضرورية بين السبب والمسبب (السببية) وحولها إلى رابطة ظاهرية ناتجة عن الألفة والعادة، فيقول مثلا إننا نعتقد بأن قطعة الفحم تشتعل عندما تُلقى في النار لأننا اعتدنا على رؤية ذلك كلما جربناه، ولكن ما الذي يضمن لنا أن التجربة ستنجح في المرة التالية؟

ومن الواضح أن نفي السببية يعني السقوط في نسبية مطلقة واستحالة الوصول إلى معرفة حقيقية أو يقينية، ما دفع بعدد من كبار الفلاسفة للرد على هيوم، وعلى رأسهم الألماني إيمانويل كانط (توفي عام 1804م) الذي يُعتبر اليوم بمثابة المنقذ للعقل الغربي من السقوط في الشك العدمي.

وفي مناقشة طويلة ومعقدة، أقام كانط حجته على أن شكية هيوم لن تؤدي إلى الشك في قيام عالم موضوعي بل إلى زعزعة اعتقادنا بضرورة السببية فقط، فينبغي أن ننطلق من مسلّمة بوجود تعاقب موضوعي بين الحوادث مستقلا عن إدراكاتنا الحسية، ثم نسأل: كيف نميز بين التعاقب في أفكارنا والتعاقب في الحوادث الموضوعية؟

الرد على الشك الفلسفي
وللرد على الشكاك والريبيين، نقتبس بإيجاز من كتاب الدكتور راجح الكردي “نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة” النقاط التالية:

1- ركز الشكاك طعنهم في الحواس كمصدر وحيد للمعرفة وأنها أساس البديهيات، وقد رد عليهم أفلاطون بأن أخطاء الحواس لا يصح الإستناد إليها في إنكار العلم لأنه يمكن تصحيحها، سواء باستخدام حاسة أخرى أو بالتجربة مع العقل والبرهان. كما أنه من الممكن جدا تصحيح أخطاء الحواس والتمييز بين حواس كل شخص على حدة بمنهج عقلي سليم تمحص فيه الحقيقة، فما تقدمه الحواس المختلفة من نتائج قد تكون مختلفة ولكنها ليست متناقضة، بينما يزعم الشكاك أنها متناقضة.

2- اختلاف الآراء جائز ولكن اتفاق الناس على أمور أساسية من البديهيات والمسلمات المعقولة والمبادىء ليس مستحيلا، مثل الاتفاق على الفضائل الأخلاقية والحقائق الرياضية.

3- هناك قضايا تتضح صحتها في العقل بمجرد تصورها بدون برهان، وهي قضايا بديهية أولية ومطلقة، فمن ذا الذي لا يصدق أن الكل أكبر من الجزء؟ ومن الذي يطلب دليلا عليه؟

أما الشك المطلق الذي ينفي إمكانية التعرف على الحقيقة نهائيا، فيردّ عليه الدكتور الكردي بما يلي:

1- إذا أراد الشاك إثبات مذهبه والبرهنة على صحة قوله فهذا يتطلب منه الاعتراف بأنه يستطيع أن يعلم شيئا علما يقينيا، وهذا يناقض دعواه بامتناع اليقين.

2- الشاك إما أن يعلم وجوب الشك في كل شيء وهذا يعني أنه يعلم علما يقينيا بأنه ينبغي أن يشك في كل شيء، ويعلم من ثم علما يقينيا بأنه لا ينبغي الشك في كل شيء، وإما أن يعلم علما يقينياً أن مذهبه راجح فقط، فلديه مرجح يأخذ به. وإما أن يعترف بأنه لا يعلم علما يقينيا ولا راجحا وحينئذ فهو لا يضع الشك كمذهب ويقر بالعجز.

3- الشك نفسه يتضمن ثلاث بديهيات يأبى العقل الشك فيها، وهي: وجود الذات المفكرة (ذات الشخص الشاك نفسه فهو يعلم يقينا أنه موجود ويفكر)، وعدم جواز التناقض (لأنه يعلم ما الشك وما العلم وما الجهل وما اليقين وما الإنسان… إلخ، فهو يقر أن اليقين غير الشك وأنه من غير المستطاع أن يجمع بين الإثبات والنفي معا)، وكفاية العقل لمعرفة الحقيقة (فهو يعول على عقله في طرح مذهبه).

لودفيغ فتغنشتاين

يقول الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين إن الشك يستلزم مرجعاً، ما يعني أن الشك المطلق لغو، فهو استخدام خاطئ لكلمة الشك التي يستخدمها الشخص العادي عند المقارنة مع اليقين. وعندما كان يتحدث هيوم عن الشك مستخفاً بوجود العالم المادي وبالمعرفة الإنسانية فهو لم ينتبه إلى أنه قد تعلّم الشك نفسه من لغة الإنسان العادي، وكان عليه أن يستخدم لغة أخرى خاصة لا يفهمها إلا هو بناء على مفهومه المطلق للشك.

الشك المنهجي
إذا كان الشك الفلسفي -الذي تحدثنا عنه أعلاه- مذهبا مستقلا يقوم على إنكار المعرفة فإن الشك المنهجي يجعل من الشك مجرد وسيلة للوصول إلى اليقين، ويتطلب ذلك من الباحث أن يجرد عقله عن كل المعلومات والأفكار والمعارف، وينطلق تدريجيا بالتأمل والتفكير نحو اكتساب الحقائق المجردة.

أرسطو

أوصى أرسطو (توفي عام 322ق.م) في وقت مبكر بضرورة الشك المنهجي، وقال إن هناك علاقة ضرورية بين الشك والمعرفة الصحيحة، لأن المعرفة التي تعقب الشك أقرب إلى الصواب.

كان أبو حامد الغزالي (حجة الإسلام المتوفى عام 1111م) أيضا من رواد هذا الشك، ففي كتاب “المنقذ من الضلال” تحدث عن تجربته مع الشك عندما بدأ بالشك في الحواس لعدم قدرتها على كشف الكثير من مظاهر الزيغ، ثم أخذ يشك في العقل نفسه إزاء نتيجة خوضه في المناظرات الفكرية العميقة مع شتى التيارات الفكرية السائدة، حتى وصل به الأمر إلى المرض النفسي والجسدي (الاكتئاب)، حيث كان يعاني من صعوبة في الكلام وفقدان الشهية للطعام، واستمر على هذا الحال ستة أشھر، ولم ينته إلا بعد أن قذف الله في صدره نور الحقيقة، فاستعاد عقله الثقة بالبديهيات والحقائق الأولى، ورجع إليه إيمانه بالمحسوسات والمعقولات. وقد دفعته هذه التجربة إلى الميل نحو الكشف الصوفي بعد أن كان من المؤيدين للمنهج العقلاني، لكن الأرجح أنه تخلى عن المنهج الصوفي في المرحلة الأخيرة من حياته.

في القرن السابع عشر سار الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت على خطا الغزالي، وقال إنه ينبغي علينا أن نطرح كل ما في داخل عقلنا من معارف، ونشك في جميع طرق العلم وأساليبه، حتى نصل إلى العقل مجردا خالصا. وقد مارس بنفسه هذا النهج في التأمل وطرح الاعتقاد بوجود كل شيء، حتى وصل إلى حقيقة واحدة يجب الإيمان بها وهي أنه يفكر، واستنتج منها المقولة الأولى للمعرفة “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، ثم استنتج من تلك الحقيقة حقيقة وجود الله وبقية الحقائق الأخرى.

طبيعة المعرفة
بعد الانتهاء من نقض الشك الفلسفي المطلق، والاعتقاد بإمكانية المعرفة واليقين، تفرعت مذاهب الفلاسفة في طبيعة معرفة الإنسان للأشياء وكيفية إدراكه لها إلى تيارين رئيسين، ثم حاول البعض إنشاء تيار توفيقي ثالث، ونوجزها بما يلي:

1- الواقعية: هو تيار يشمل مذاهب عديدة، وتعتقد جميعها بوجود عالم خارجي للموضوعات (الأشياء) مستقل عن الذات العارفة (الإنسان)، فمعرفة العقل للأشياء مطابقة للاشياء كما هي في الواقع، وهذا يعني أن المعرفة هي الصورة المنعكسة للعالم الخارجي في العقل.

ومن مذاهب هذا التيار الاعتقاد بصحة إدراك الحواس بشكل تام، وهو ما ثبت خطؤه بالتجربة، فالحواس قد تكون خادعة أحيانا مثل خدعة السراب.

ومن مذاهبه أيضا الواقعية النقدية التي تخفف من غلو الاعتقاد بصحة مدركات الحواس وترى أن المعرفة ليست مطابقة لهذه المدركات بل هي صورة معدلة في العقل، وهذا هو مذهب “الوضعية” الذي يرفع من قيمة العلم التجريبي ويجعل الفكر مجرد انعكاس للوجود المادي.

2- المثالية: أصحاب هذا التيار لا يرون وجودا إلا للفكر وتصوراته، فالمادة والأشياء كلها تابعة لما يفكر به العقل، ولا وجود للشيء إذا لم يدركه العقل، حتى أصبح العالم الموضوعي لدى بعضهم مجرد أفكار وخواطر، وهو تطرف غير منطقي وتنكره التجربة، فهناك أشياء موجودة في الكون ولا يدركها أي عقل، وهناك أشياء كانت موجودة منذ ملايين السنين ولم تُدرك إلا في وقت متأخر، ما دفعهم إلى القول إن تلك الأشياء كانت موجودة في “عقل إلهي” ثم استقبلها العقل البشري منه.

إيمانويل كانط

3- التيار النقدي: وضع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط مذهبا نقديا للتوفيق بين الواقعية والمثالية، فميز بين الظواهر العقلية السابقة على التجربة وبين الظواهر التي تكتسب بالحواس، وقال إن المعرفة لا تكتسب إلا بالحس والعقل معا، فنحن لا نعرف الأشياء كما هي بل كما تظهر لنا فقط، ومعرفتها تتم عبر نقلها بالحواس إلى الذهن ثم مطابقتها للمقولات والمبادئ العقلية.

منذ بداية القرن التاسع عشر، أصبح مذهب كانط بمثابة المرجع الأساسي للفكر الغربي، حيث أعاد للعقل بعض التوازن باتخاذه موقفا وسطيا والاعتقاد بوجود مبادئ فطرية وضرورية في العقل، لكن مذهبه لم يتمكن من إلغاء النظرة الوضعية لأنه جعل استخدام المبادئ الفطرية في غير المحسوس أمراً مستحيلاً، مما جعل إدراك العقل للحقائق الجزئية بمثابة حقيقة كلية، فقد ميّز كانط بين ما أسماه بالعقل النظري والعقل العملي، وأنكر قدرة العقل النظري (الخالص) على الوصول إلى “معرفة راسخة للحق العلوي”، فالعقل حسب رأيه لا ينتج معرفة ما لم يتصل بالأشياء المادية والتجارب الحسية التي تمدُّه بالمادة والمضمون عبر قوة الفهم، ومع ذلك فقد رأى كانط أنه لا بد من الاعتقاد بوجود إله ويوم آخر لتأسيس فعل أخلاقي.

وهذا يعني أن كانط لم يكن متوازنا ووسطيا بالفعل، بل أعطى المادة قيمة أكبر ولم يعترف بقيمة المبادئ الفطرية العقلية إلا بشكل تابع للمادة، حتى لم يجد مبررا لوجود الإله إلا من حيث الضرورة لتبرير الأخلاق، وهكذا أصبح الدين في العقل الغربي مسألة نفسية ذاتية خارجة عن مفهوم الحقائق، وأصبحت الوقائع تابعة لمصلحة الإنسان بدلاً من اعتماد العقل للبحث عن حقائق الأشياء [انظر مقال البراغماتية].

والمفارقة أن العقل الغربي الوضعي، الذي يعتقد أن المعرفة الدينية تحتاج إلى إيمان غيبي غير عقلاني، لا ينتبه إلى أن معرفته الوضعية المادية ليست أقل غيبية، فهو يجزم بمرجعية المادة وحدها دون برهان مع أنها مجرد خيار واحد من بين خيارات أخرى ممكنة.

ويجدر بالذكر أن المذاهب الحداثية كلها فقدت الكثير من بريقها في القرن العشرين مع ظهور تيارات ما بعد الحداثة وفيزياء الكم، بما فيها المذهب النقدي لكانط، حيث أدرك الكثيرون أن الأسس التي صاغت المعرفة الغربية نشأت داخل حركة تاريخية متأثرة بتسلط الكنيسة السياسي ومحاربتها للعلم، وهناك اعتقاد شائع اليوم بين فلاسفة العلم والعلماء التجريبيين أن المعرفة الكلية مستحيلة، وأن المعرفة العلمية المادية ليست يقينية.

مصادر المعرفة

بعد استعادة الإنسان ثقته بإمكانية التوصل إلى المعرفة، سيجد نفسه أمام عدة تيارات فكرية يؤمن كل منها بأولوية أحد المصادر أو الوسائل المؤدية للمعرفة، فهناك من يرى أن المعرفة لا تتحقق إلا بوسيلة واحدة، وهناك من يؤمن بمصادر أخرى غير أنه يثق بواحدة منها للتوصل إلى اليقين.

وسنتحدث فيما يلي عن خمسة مصادر رئيسة للمعرفة، وهي الإلهام والحدس والكشف، العقل، الحس، الإجماع، والوحي. ويجدر بالذكر أن مدارس الفلسفة الحداثية وما بعد الحداثية والعلماء التجريبيون لا يعترفون بالوحي والكشف، دون أن يمنع ذلك عشرات الملايين في الغرب من التمسك بإيمانهم بالوحي المسيحي-اليهودي وبالكشف على الطريقة الباطنية الغنوصية. وسنستعرض فيما موجزا لهذه المصادر الخمسة.

المصدر الأول: الإلهام والحدس

الإلهام هو ما يلقيه الإله في الروع، وبحسب المتصوفة فهو الإيقاع في القلب من العلم غير القائم على الاستدلال، أما أتباع المذاهب الباطنية الغنوصية الذين يؤمنون بوجود ما يسمى بالعقل الفعال، مثل ابن سينا، فيقولون إن الإلهام هو ما يلقيه العقل الفعال في نفس الإنسان المؤيدة بشدة الصفاء.

وحدوث الإلهام يسمى بالإشراق والكشف والذوق لدى المتصوفة، أما الجزء البشري الذي يحدث فيه هذا الإشراق فيسمونه بالبصيرة، وهو يرى حقائق الأشياء وبواطنها كما يرى البصر ظواهر الأشياء المادية.

أما الحدس فهو الانتقال السريع للذهن من المبادئ إلى المطالب، ويعرّفه ديكارت بأنه عمل عقلي يدرك به الذهن حقيقة ما بشكل تام وبزمن واحد، أي بدون تدرج في الاستدلال، فهذا النوع من المعرفة يحصل تلقائيا في الذهن بمجرد تصور أمر ما ودون استدلال منطقي، ويضرب أهل المنطق على ذلك مثالا بقولهم إن مجرد رؤية أحدنا لشعاع ضوء يتسلل من ثقب في جدار يدفع الذهن للاعتقاد مباشرة بأن هناك مصدرا للضوء وراءه دون تفكير ولا تأمل.

هنري برغسون

أما الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (توفي عام 1941م) فقد وضع مذهبا فلسفيا جديدا في القرن العشرين على مفهوم الحدس، معتبرا أن الحدس عند الإنسان يشبه الغريزة عند الحيوان، وهو أمر لا يمكن التعبير عنه بالكلمات بل يجب تذوقه ومعايشته واختباره من قبل كل شخص على حدة حتى يكتسب به المعرفة. وبما أنه فيلسوف غربي من أصل يهودي فلم يكن ميالا إلى الإيمان بالإله المجرَّد بالرغم من أفكاره التي تبدو صوفية للوهلة الأولى، بل جعل الحدس معرفة منبثقة من داخل الإنسان وليست مصدرا للمعرفة التي تهبط عليه من الإله.

كان هنري برغسون يرى أن الحياة انطلقت من خزان كبير وانتشرت بين الكواكب، ثم اتخذت أشكالا متنوعة على شكل مادي، ومن الواضح أن هذه الفكرة الميتافيزيقية (الغيبية) لتفسير نشوء الكون والحياة لا يؤيدها أي دليل.

يضع برغسون المادة والحياة في موقعين متقابلين، فالحياة انطلاق وحرية، والمادة سكون وخضوع للقوانين الفيزيائية، وكلما اكتسب الشيء قدرا أكبر من الحياة كان أسمى، وهو ما يفسر سمو الإنسان على بقية الموجودات، وهو يختلف عن التطوريين (أتباع نظرية داروين) في أن لكل كائن حي قدره الخاص من الحياة والمادة منذ البداية، وإذا كان الحيوان يمتلك غريزة للتوصل إلى معرفته الخاصة فإن الإنسان يمتلك عقلا بالمقابل، كما يمتلك أيضا وجدانا أو بصيرة يتوصل بها إلى الحدس الذي هو أسمى أنواع المعرفة.

يضع برغسون أيضا الزمان والمكان في موقعين متقابلين، فالزمان متغير وحر، والمكان جامد ومقيد. والزمان هو الواقع الحقيقي وهو الحياة، وبما أن الكائنات الحية تعيش في حالة صيرورة دائمة بالانتقال من حال إلى آخر فإن علاقتها بالزمان هي “الديمومة”.

والتغير المستمر للأحياء هو حالة من التطور الخلاق، وهذه الحياة المبدعة هي الإله نفسه برأيه، فهي التي توجد الأشياء وتتابع تتطورها، وهي نفسها في حالة تطور. أما المعرفة الحقيقية لهذا الواقع الحي المتطور فهي الحدس، لأن العقل لا يستطيع أن يدرك الحياة بخصوصيتها، وعلى كل حي أن يندمج مع الحياة الباطنة ليتوصل إلى هذه المعرفة اليقينية المطلقة.

ويرى بعض المفكرين أن برغسون لم يأت بجديد، وأنه أعاد صياغة الباطنية اليهودية (القبالاه) في صورة جديدة تناسب العصر، وأنه تأثر أيضا بكل من أفلاطون وديكارت ومالبرانش وباسكال [مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا، ج. بنروبي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص 176].

ويبدو أن طغيان الاتجاه المادي في القرن التاسع عشر على الفكر الغربي كان له أكبر الأثر في جنوح برغسون نحو الحدس، ليضع فلسفة معاصرة تعيد الاعتبار للروح، إلا أنه تطرف أيضا في اتجاهه الروحي كتطرف الوضعيين في المادية، فألغى الواقع العملي وقلل من شأن المعرفة العقلية المجردة، كما أن فلسفته لا تعدو قدر الفلسفات الغربية الأخرى في تناولها للقضايا الميتافيزيقية (الغيبية)، فالحدس ليس سوى جزء من الإنسان ومحدود بدائرتي المكان والزمان كمحدودية الإنسان نفسه، ولن يستطيع تجاوزهما حتى في خياله.

من جهة أخرى، يرى الباطنيون أن الحدس هو قبول الإلهام الذي يلقيه العقل الفعال في النفس، ويرى المتصوفة أن الحدس (الكشف) لا يتم إلا بعد رياضة روحية ومجاهدة نفس بطرق مدروسة وممنهجة، وهو ما اقتبسوه كما يبدو من الديانات الباطنية كالهندوسية والبوذية، أما عند الفلاسفة العقليين فالحدس والإلهام مصطلحان لشيء واحد، وهو حسب رأيهم المعرفة المباشرة دون استدلال وتجربة.

ويؤمن الباطنيون والمتصوفة بأن البصيرة لا تعمل عملها باكتساف المعرفة (سواء من الإله أو العقل الفعال أو الحقيقة الكونية) إلا بعد الاعتقاد بأن الجانب المادي من الإنسان هو عائق للروح والبصيرة، كما يعتقدون أن الحواس والعقل لا تتوصل إلا إلى حد معين من المعرفة لا يمكنها تجاوزه، وأن الحقائق لا تُكتسب إلا بالحدس والإلهام بعد القضاء على المادية. وقد يختلف الباطني مع المتصوف في الطريقة لكن الهدف واحد.

هل يكفي الحدس للمعرفة؟
سنناقش في مقال “الصوفية” مبدأ الإلهام كمصدر رئيس للمعرفة في مجال العقائد والشرائع لدى المتصوفة المسلمين، ونكتفي هنا بتوضيح ما يراه ابن تيمية من أن الإلهام مصدر معتبر، وأن إنكار كونه طريقا من طرق المعرفة هو خطأ يماثل خطأ الذين جعلوا طريقا شرعيا على الإطلاق، فيقول إن مذهب السنة الوسطي هو أن يكون الإلهام في الأحكام الشرعية محصورا بما لم تأت فيه أدلة شرعية نقلية أو عقلية، فيكون الإلهام هنا من باب الترجيح والفهم المنضبطين بالقواعد المتفق عليها [فتاوى ابن تيمية 10/473]، وهذا الفهم هو ما تؤيده حوادث الإلهام التي وقعت للصحابة والتابعين، وتدخل فيه الكرامات التي لا تخالف النص.

أما أهم الانتقادات الموجهة للحدس والإلهام كمصدر للمعرفة فنوجزها في النقاط التالية:

1- البصيرة لدى الإشراقيين ليست سوى إحدى ملَكات الإنسان، فهي محدودة القدرة والمدى ولا يمكن بأي حال أن تحصر العلوم بها.

2- حتى في حال عدم اعتماد البصيرة مصدرا وحيدا، والاكتفاء بالقول إنها المصدر الرئيس للمعرفة، فليس هناك أي ضمان لسلامة البصيرة من الزيغ والضلال، فالمعرفة المستفادة من الكشف تخص صاحبها فقط ولا يمكنه شرحها ولا نقلها للآخرين فضلا عن إثباته صحتها لهم.

3- يعترف كبار الإشراقيين بأن إلهاماتهم جاءت متاثرة بثقافتهم العامة، فكان فلاسفة الإشراق في اليونان ومصر يرون في مكاشفاتهم ما يؤيد أساطيرهم الوثنية، وهو ما حدث أيضا لفلاسفة الإشراق المسلمين (مثل الفارابي وابن سينا) الذين كانوا يشاهدون ما يسمى بالعقول العشرة التي اقتبسوها من نظرية الفيض اليونانية [انظر مقال الباطنية]، بينما يرى المتصوفة المسلمون ما يوافق عقيدتهم أثناء استغراقهم في الذكر، فلو كانت البصيرة مجردة عن هوى النفس وتأثيرات الثقافة كان ينبغي ألا ترى إلا الحقيقة المجردة التي يشترك فيها كل البشر.

4- ليس هناك أي ضمان عقلي أو نقلي أو حتى كشفي يثبت لنا أن ما يستقر في نفس الإنسان من مكاشفات هو من مصدر موثوق، سواء كان إلهًا أو حقيقة كونية أو الزمان الحيوي (لدى برغسون) أو حتى خيال الإنسان وأوهامه، فما الذي يمنع أن تكون الجهة التي تتصل بالعقل الباطن للإنسان هي شيطان خبيث؟

وفي الإسلام نصوص صريحة تحذر من اللبس الذي قد يحدث لدى البعض في الخلط بين الإلهام الرباني ووساوس الشياطين وأوهام العقل الباطن، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم “الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة” [صحيح البخاري: 8/72، صحيح مسلم 4/1773]، وسيأتي تفصيل هذا النقد في ظل المفهوم الإسلامي ضمن مقال “الصوفية“.

ديفيد آيك بين أنصاره

5- بدأت تظهر في العقود الأخيرة ادعاءات كثيرة من قبل شخصيات باطنية غربية تزعم أنها تتصل بالتخاطر مع كائنات فضائية، وأقيمت بناء على هذه المزاعم أديان ومذاهب وتيارات فكرية يتبعها الملايين من الناس، ومن أهم المنظّرين لهذه الفكرة البريطاني ديفيد آيك الذي زعم في كتابه “السر الأكبر” وجود كائنات فضائية من الزواحف العاقلة تعيش تحت قشرة الأرض وأنها تسيطر على البشر بطرق عدة، وقال إن الكثير من تفاصيل هبوط الكائنات إلى الأرض قد تلقاه بالإشراق الباطني الذي يتلقاه منها مباشرة، ودون أن يقدم أي دليل على صحة وجود هذا الإشراق الذي لم يختبره أحد سواه، ودون أن يثبت لنفسه -فضلا عن غيره- أن تلك الإشراقات التي يتلقاها صحيحة وصادقة فعلا وليست من قِبل شياطين يعبثون به.

المصدر الثاني: العقل

يصنف العقل لدى الفلاسفة القدماء إلى صنفين: الأول غريزي، وهو الملَكة التي يعلم بها الإنسان الضروريات، فهو غريزة تمتلك علوما أولية أو مبادئ ثابتة. أما الثاني فهو مُكتسب، وهو الذي يفهم به الإنسان ويفكر.

ويتفق الفلاسفة الحداثيون مع هذا التصنيف، فيقول الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند إن العقل ينقسم إلى عقل منشئ وعقل مُنشأ، فالأول قوة فطرية تجريدية ثابتة، أما الثاني فيتكون على يد الأول بعد إعداد طويل، وبتراكم الحقائق المكتسبة والمقولات التي كرسها الاستعمال والقيم المقبولة من قبل المجتمع. [المعجم الفلسفي: 2/87].

إسبينوزا

وبحسب اعتبار بعض الفلاسفة لأولوية العقل، ظهر المذهب العقلي الذي وُجد داخل الكثير من الأديان، ففي المسيحية واليهودية يؤمن العقليون -مثل سبينوزا وشتراوس- بأن العقل مقياس لحقائق الوحي، في مقابل أتباع مذهب خوارق الطبيعة الذين يرون أن حقائق الوحي لا يمكن عرضها على العقل لأنها ليست في متناوله. وفي الإسلام نجد أيضا أن المعتزلة والفلاسفة يصرون على بناء عقيدة قائمة على العقل ورفض ما يرونه مناقضا له مما يرد في الوحي من نصوص، بينما يقول أهل الحديث وعلماء الكلام إن النقل أولى من العقل عند التعارض، كما يؤكد من تخصص منهم في العقائد أنه ليس هناك تعارض أصلا، وهذا ما قرره ابن تيمية في كتابه المشهور “درء تعارض العقل والنقل”.

أما أتباع المذهب العقلي من العلمانيين فلا يلتفتون إلى الوحي، ويجعلون المفاضلة بين العقل والحس والحدس فقط، بحيث يكون العقل هو الأولى باليقين، أو يكون هو المصدر الوحيد للمعرفة.

وعند دراسة أقوال ومناقشات هذه المذاهب، نرى أن مفهوم العقليين للعقل ليس خاصا بالعقل الغريزي بل يتعلق بالعقل المكتسب، فهو عقل تشكل في ظل التأثيرات الثقافية لكل عصر، حيث نرى أن العقليين داخل الأديان اليهودية والمسيحية والإسلامية متأثرين بالمنطق اليوناني وفلسفته العقلية، بينما يتشكل عقل المعاصرين بما أحدثته الثورة العلمية من اكتشافات.

الأوليات العقلية
تنقسم الأوليات إلى قسمين، الأول هو التصورات: وهي الإدراكات البسيطة مثل اللون والحرارة، والمركبة مثل تصور جبل من ذهب. والثاني هو التصديقات: وهي الإدركات التي تنطوي على حكم، أي تتضمن نسبة بين طرفين، مثل قولنا إن النار محرقة.

ويؤمن بعض أتباع المذهب العقلي بأن الأصول الأولى للمعرفة تعود كلها إلى التصورات، بينما يؤمن آخرون من العقليين بأنها تعود للتصديقات، حيث يرى الفريق الآخر أن التصورات قد تكون مجرد خواطر ووساوس وليست مبادئ أولية.

ويقول الفلاسفة إن العقل مفطور على أربعة مبادئ أولية، تنبثق منها المبادئ الأخرى، وهي:
1- مبدأ الهوية: الشيء لا يكون غيره، وبلغة المنطق يقال “ما هو هو، وما ليس هو ليس هو”.

2- مبدأ عدم التناقض: الشيء الواحد لا يمكن أن يكون وألا يكون في وقت واحد.

3- مبدأ نفي الثالث (الوسط المرفوع): أي شيء هو إما (أ) أو ليس (أ) ولا يمكن أن يكون لا هذا ولا ذاك، فمثلا إما أن يكون العدد زوجيا أو فرديا ولا يمكن أن يكون إلا أحدهما.

4- مبدأ العلية: لا يمكن أن يحدث شيء دون علة محددة، سواء كانت علة واحدة كافية للتفسير أو بالاشتراك مع علل أخرى.

تتصف المبادئ الأولية بصفتين رئيستين هما:
1- الفطرية: فالعقل البشري يولد وهي مفطور عليها، وقد تغيب عنه بفعل التربية أو الغفلة أو لقلة الذكاء، لكن تذكير العقل بها يساعد على استحضارها والتيقن بصحتها، وهذا يستلزم أيضا أن تكون بدهية فهي بارزة في العقل دون مقدمات وبراهين، ويصفها بعض الفلاسفة أيضا بأنها قبلية وأولية لأنها لا تحتاج إلى تجربة تؤكدها.

2- العمومية: حيث يرى العقليون أن تلك المبادئ معروفة لدى كل العقول، فكان ديكارت يقول إن العقل أحسن الأشياء توزعا بين الناس بالتساوي، حتى جعل معيار الحقيقة هو وضوحها في الذهن، وهو ما قاله أيضا بعض علماء الكلام المسلمين من الأشاعرة والمعتزلة، لكن آخرين يرون أن الناس يتفاوتون في العقول، فيقول الغزالي “أما الأصل وهو الغريزة فالتفاوت فيه لا سبيل إلى جحده” [إحياء علوم الدين 1/88]، ويرى ابن تيمية أيضا أن المبادئ الفطرية قد تضمر في العقل بسبب تفاوت الناس في قوة الذهن مثل تفاوتهم في قوة البدن.
ويمكن القول إن هذا التفاوت لا يعني أن المبادئ نفسها نسبية في دلالتها على الحقيقة بل من حيث صلة الناس بها، وذلك نظرا لتفاوت قدراتهم العقلية وغفلة بعضهم، فلا يمكن لعقل سليم أن ينكر مثلا أن النقيضين لا يجتمعان.

هل يكفي العقل وحده؟
اختلفت آراء العقليين بحسب الثقافة السائدة على مر العصور، فعندما سادت ثقافة الباطنية في الهند وفارس وبعض المناطق اليونانية كان الكهنة يزعمون عدم الحاجة للوحي، على اعتبار أن العقل الذي يتلقى الفيض من الإله (الحقيقة الكونية بحسب مفهومهم) في غنى عن تلقي المعرفة نفسها بالوحي المباشر على يد الأنبياء، وتأثر بهذا المفهوم الفلاسفة العقليون الذين نشأوا في البيئة نفسها، كما لحق بهم بعض فلاسفة الإسلام مثل الطبيب الرازي المتوفى عام 313هـ.

ومن الأمثلة المشهورة لهذا المنهج في البيئة الإسلامية، رواية “حي بن يقظان” للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، التي تحكي قصة طفل ينشأ وحيدا في جزيرة نائية، حيث يبدأ بالتأمل في ذاته وفي الكون والحقائق الوجودية دون تربية ولا توجيه، فيصل إلى المعرفة بعقله دون حاجة للوحي.

وعندما بدأت ترجمة الفلسفة اليونانية العقلية وشبيهتها الإسلامية إلى اللغات الأوروبية ظهرت أفكار مماثلة لدى الأوروبيين، فاعتبر سبينوزا أن العقل أوثق من الوحي لأن دلائل صدقه متضمنة فيه بينما يحتاج الوحي إلى المعجزة لإثبات صدقه، كما سار لايبنتز على نفس النهج، وحاول الاثنان في القرن السابع عشر إقامة دين جديد تحت مسمى دين الطبيعة، بحيث يُحتكم فيه إلى العقل دون الوحي، ثم دعم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط هذا التوجه في القرن التاسع عشر.

ديكارت

ويبدو أن الفلاسفة العقليين في عصر النهضة الأوروبية كانوا يسعون إلى رد الاعتبار للعقل ضمن صراعهم مع كهنوت الكاثوليكية من جانب، وضمن صراعهم أيضا مع فلاسفة المذهب الحسي، ولكن ديكارت نفسه (وهو رائد هذا المذهب) اعترف بأن هناك حقائق ميتافزيقية (غيبية) لا يمكن للعقل الخوض فيها، ثم جاء أتباعه من بعده ليحصروا المعرفة في العقل وحده.

لم يكن هناك فصل آنذاك بين الفلسفة وعلوم الاجتماع والنفس والطب، ما سمح للعقليين بمنح العقل تلك المنزلة العالية، لكن الكثير من الدراسات الاجتماعية التي ظهرت في القرن العشرين أكدت أن الفطرة لا يمكن أن تبقى مصونة عن الزيف بعد وقوعها تحت تأثير الوراثة والبيئة [محمد تقي الأميني، عصر الإلحاد، ص74]، فمن شبه المستحيل التوصل إلى نتائج عقلية مجردة في العلوم الضرورية التي تقوم على الأوليات العقلية (الفطرة)، وهو ما يؤكده الفليسوف الألماني كولبه بقوله “إنه من الصعب أن نضع حدا فاصلا بين الأحكام الأولية للعقل وبين الأحكام المكتسبة من التجربة”.

وصعوبة تجرد العقل البشري تنبع من طبيعة الإنسان، حيث يستحيل عليه التحول إلى آلة صماء كأجهزة الحاسوب المبرمجة على التسلسل المنطقي، فالتداخل بين العقل والنفس هو جوهر الإنسان منذ بدء خلقه.

كما أن وضع منهج معرفي متكامل للعقل من خلال العقل نفسه أمر متعذر، فلا يمكن للآلة أن تدرك ذاتها والمؤثرات المحيطة بها على وجه التمام، وأن تحدد بدقة حدود قدراتها ومنتهاها، ثم تضع منهجا يضبط عملها ويصحح مسارها فيه دون حاجة لمرشد خارجي. لذا اضطر ديكارت منذ بداية وضعه لمنهج المعرفة العقلي أن يسلّم بوجود إله خالق ومرشد كخطوة ضرورية وتلقائية بعد تسليمه بالحقيقة الأولى، وهي أن يعقل ذاته، وكأن العقل لا يستطيع أن يخطو خطوته الثانية دون مصدر علوي يستند عليه.

نتيجة لذلك، تعاني جميع المناهج العقلية من عيوب ونواقص لا تزال تظهر عمليا بعد إخضاعها للتطبيق، ومن أبرزها منطق أرسطو الذي تعرض للنقد على يد عدد من كبار العلماء المسلمين قبل أن يُنقد لاحقا في أوروبا، ومن أبرزهم ابن تيمية الذي أبرز في كتابه “الرد على المنطقيين” عجز المنطق عن التوصل إلى حقائق يقينية في الميتافيزيقيا، فالاستدلال بالقياس ينطلق من المقدمة الكلية إلى النتائج، مع أن الكلي لا يدل إلا على القدر المشترك من الأشياء الكلية، بينما تكون قضايا العقيدة معيّنة ولا يمكن للقياس الكلي أن يدل عليها.

ومن عيوب المنطق أيضا “قياس الغائب على الشاهد”، فمن خلال البحث في العلة المشتركة بينهما يمكن فقط للعقل أن يستنتج الحقائق، وهذا يؤدي إلى قياس الإله على الإنسان، وهو افتراض غير مبرر أصلا. يقول ابن تيمية إنه لا يجوز أن يدخل الإله مع غيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها، وعندما فعل علماء الكلام والفلاسفة ذلك تناقضت أدلتهم ولم تبلغ اليقين.

وهذا القصور في المنهج، وفي الأداة نفسها (العقل)، تظهر آثاره في كل الفلسفات العقلية التي بحثت في الإلهيات والميافيزيقيا بلا استثناء، بل نجده واضحا أيضا في المدارس العقلية التي نشأت داخل الأديان، سواء لدى علماء الكلام (المتكلمين) والفلاسفة المسلمين أو لدى فلاسفة اللاهوت المسيحي في القرون الوسطى، حتى تراجع بعضهم عن التزام المنهج العقلي كله في الإلهيات بعد أن بلغ غايته في البحث والتبحر، مثل الرازي والآمدي والشهرستاني والغزالي.

ويُنقل عن أفضل الدين الخونجي (توفي عام 646هـ) قوله “أموت وما عرفت شيئا”، كما ينقل عن معاصره شمس الدين الخسروشاهي أنه قال عند موته “والله ما أدري ما أعتقد”، وقد سبقهما بذلك سقراط عندما قال “لا أعرف سوى شيء واحد، وهو أني لا أعرف شيئا” [العقيدة الطحاوية، ص 227-228].

ومع ذلك، فلا نقول إن العقل أداة عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة، بل ينبغي التفريق بين وجود حقائق العقيدة وبين كنهها وتفاصيلها وما هي عليه، فالعقل قادر على إثبات وجود الحقائق الكبرى والبرهنة عليها، لكن التخبط يبدأ عندما يخوض في محاولة تعقل الكيفيات التي تكون عليها الحقائق الغيبية لأنها غائبة عنه وعن الحواس، ولا يستطيع النفاذ إلى عوالمها المفارقة للزمان والمكان مهما اشتط به الخيال، لذا قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن أثبت للناس وجود الخالق وصفاته “تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا” [صححه الألباني]، وهذا ليس حَجرا على العقل بل حفظ له من الخوض في ما لا يقدر عليه.

أبيقور

المصدر الثالث: الحس والتجربة

يفرق علماء المنطق بين القضايا الحسية التي يجزم العقل بوجودها لمجرد تصورها، مثل وجود الشمس عند الإحساس بحرارتها أو رؤية ضيائها، وبين القضايا التجريبية التي يدخل فيها الحس ولكنها تتطلب المزيد من الملاحظة والتجربة.

والمذهب الحسي في الفلسفة هو الذي يقول أتباعه إن المعرفة محصورة بما تتلقاه الحواس الخمس، فكل التصورات العقلية مقتبسة من المعلومات التي تقدمها له الحواس، أما المنهج التجريبي فيقول أصحابه إن التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة من خلال توظيف المدرَكات الحسية في التجربة، ومن المعلوم أن التجربة تتطلب تدخل الباحث في الموضوع لاختباره ولا تكتفي بالملاحظة.

ابتدأ التيار الحسي بالظهور في اليونان على يد أبيقور خلال القرن الثالث قبل الميلاد، ووافقه على ذلك الرواقيون الذين حصروا المعرفة بالحس مع أنهم لم ينفوا فاعلية العقل تماما.

وفي أوروبا، تأثر الفيلسوف الإنجليزي روجر بيكون (توفي عام 1349م) بأفكار الحسن بن الهيثم وابن رشد بعد ترجمتها، وحاول نقل المنهج العلمي التجريبي عن ابن الهيثم (توفي عام 1040م) رغم رفض الكنيسة له، ثم تبنى هذا الاتجاه من بعده فرانسيس بيكون.

فرنسيس بيكون

ويعد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (توفي عام 1704م) من رواد المذهب الحسي، حيث انطلق في وضع نظريته للمعرفة دون الالتفات إلى ما أقره ديكارت ومعظم الفلاسفة من ثنائية النفس والجسم، وأنكر وجود الفطرة والأوليات العقلية بناء على ملاحظته لتنوع الخبرات البشرية، فقال إن ما هو فطري لدى البعض ليس كذلك لدى البعض الآخر، وهكذا أخذ يبحث في انعكاس المعرفة على الذهن من إحساسات وإدراكات وأفكار وكلمات، وانتهى إلى القول إن العقل البشري يولد كصفحة بيضاء خالية من أي علامات موروثة أو فطرية، ثم تكتب عليها الخبرة التجريبية ما تتلقاه من المعرفة من خلال الحواس.

ظهر ديفيد هيوم بعد وفاة لوك ليأخذ المذهب الحسي إلى غايته القصوى، فأنكر فاعلية العقل تماما حتى وصل إلى الشك كما ذكرنا في موضع سابق من هذا المقال، فبعد أن كان لوك يعترف بأن للعقل دور في المضاهاة والجمع والتجريد للمعرفة التي يتلقاها عن الحس لم يقر هيوم بأي دور للعقل بل جعه مجرد موطن للانفعالات الحسية.

ديفيد هيوم

وفي أواخر القرن الثامن عشر، وضع أوغست كونت الفلسفة الوضعية على أساس الثقة المطلقة بالعلم التجريبي، فقد ساد في تلك المرحلة الاعتقاد بأن الإنسان بلغ ذروة التقدم مع تكاثر الاختراعات والاكتشافات بأسرع وتيرة عرفها التاريخ، ما دفع بأنصار هذا المذهب إلى الاعتقاد بأن العلم التجريبي هو المصدر المعرفي الوحيد الذي سيجيب على كل الأسئلة.

تصور كونت أن البشرية تطورت طوال تاريخها عبر ثلاث مراحل، الأولى هي المرحلة اللاهوتية التي كان الإنسان يفسر فيها ظواهر الطبيعة بإعادتها إلى موجودات غيبية، سواء كانت إلهاً واحدا أو عدة آلهة، والثانية هي المرحلة الميتافيزيقية التي صار الإنسان يتوهم فيها وجود علل ذاتية داخل الظواهر بدلا من الآلهة، وفي المرحلة الثالثة صار الإنسان يفسر كل شيء بمنطق العلم التجريبي.

وقد رد كثير من الفلاسفة على هذه النظرية بأنها مجردة من البرهان التجريبي أصلا، فهي ليست سوى رواية ميتافيزيقية لتطور المجتمعات البشرية، واستقراء التاريخ يثبت عكسها، فالأوضاع الثلاثة التي تخيل أنها مراحل متعاقبة ما زالت قائمة حتى اليوم، وكانت متعايشة أيضا في مراحل قديمة من التاريخ.

تفسير مبدأ العلية والاستقراء
يقول العقليون إن السببية (العلية) مبدأ فطري كلي، فهو موجود في العقل بالفطرة ويمكن تعميمه على كل التجارب والأحداث في الكون بحيث يجزم العقل بأن لكل حادثة سببا ولكل معلول علة، لكن الحسيين انقسموا في تفسير العلة إلى ثلاثة اتجاهات، هي:

1- اتجاه الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل الذي آمن بمبدأ السببية والعلية إلا أنه ردّه إلى الحس والتجربة بدلا من العقل، فرأى أن الإنسان يتعلم من التجربة أن كل حادثة في الطبيعة تسبقها أسباب وعلل، واعتبر هذا الارتباط ضروريا مع أن الضرورة لا ينبغي أن تكون إلا بالعقل، وهو يرفض منح العقل أي فاعلية. وقد وافقته الفلسفة الماركسية المادية في هذا التفسير.

2- الاتجاه الذي أخذ به فلاسفة الوضعية المنطقية يرى أن تعميم الاستقراء لا يعطي حكما يقينيا، فتكرار التجربة والحوادث لا يتجاوز دوره تقديم احتمال بالوصول إلى النتيجة المطلوبة، مثل احتراق الخشب كلما تعرض للنار.

3- رأي هيوم الذي ينفي أي قيمة موضوعية للاستقراء، والذي يعتبر أن الربط بين العلة والمعلول مجرد انطباع نفسي ناشئ عن العادة دون أي ضرورة، فالسببية بين النار واحتراق الخشب ليست ضرورية ولا حتمية بل موجودة داخل نفوسنا بسبب تكرار العادة. وقد سبقه الغزالي إلى القول بهذا الرأي، كما أخذ به علماء النفس في المدرسة السلوكية الحديثة.

هل تكفي الحواس والتجربة مصدرا للمعرفة؟
لا يمكن لنا أن نسلّم للتجريبيين بحصر مصدر تصورات العقل كلها بالحس والتجربة، فقد يتصور الذهن تصورات مفارقة للمادة تماما مثل الوحدة والكثرة، لكن هذا لا يعني بالمقابل أنها تصورات عقلية محضة، لأنها ليست من البديهيات، بل هي نتيجة لتفاعل الحس والعقل.

ويظهر خلل الحسية التجريبية أكثر في مجال الميتافيزيقيا والأخلاق، فقد رد أصحاب هذا المذهب كل الأخلاق إلى التجربة وحاولوا دراستها سلوكيا كما يدرس العالم المخبري أي ظاهرة طبيعية، إلا أنهم لم يتمكنوا من تقديم تفسير مقنع، فالشكاك هيوم اعتبر أن الأحكام الأخلاقية لا تعبر عن حقيقة موضوعية بل تنشأ عن مشاعر الاستحسان والاستياء، ودون أن يقدم تفسيرا مقنعا لأصل هذه المشاعر. وعندما حاول الماركسيون ربط الأخلاق بالاقتصاد والصراع الطبقي داسوا على قيم العدالة تماما وحوّلوا الإنسان إلى جزء مسحوق في آلة المجتمع الجارفة.

جون لوك

ويبدو أن جون لوك قد وضع كل أتباع المذهب العقلي في خانة واحدة واعتقد أنهم يرون المبادئ العقلية صورة عن عالم المُثل الخيالي الذي تخيله أفلاطون، حيث كان الأخير يفترض أن الإنسان يحتاج فقط إلى تذكر الحقائق بعد ولادته لأنها موجودة كلها في عقله، لكن معظم العقليين كانوا يعترفون بدور الإدراكات الحسية بعد أن تعود إلى الأصول الثابتة في العقل، لتتحول إلى معرفة علمية.

من جهة ثانية، ينتقد التجريبيون الخطأ الذي يقع فيه بعض العقليين عندما يخلطون بين العقل الغريزي والعقل المكتسب (سبق توضيحهما)، وهو الخطأ الذي بدأ في اليونان وانتقل إلى الكثير من المتكلمين والفلاسفة المسلمين عندما اعتبر كل منهم أن مذهبه هو العقيدة الصحيحة التي يتوافق فيها العقل والنقل. وإذا كان هؤلاء قد ظنوا أن العقل كله غريزي فقد رد عليهم التجريبيون باتخاذ الموقف المعاكس والقول بأن العقل كله مكتسب، ومن ثم فهو يتأثر بالبيئة والمشاعر والخواطر النفسية، ولا يستحق أن يكون مصدرا للمعرفة. والواقع أن كلا الرأيين تطرف في موقفه.

ومن نتائج هذا التطرف المادي المتصاعد حتى بداية القرن العشرين، ساد في الغرب الاعتقاد بأن الإنسان نفسه ليس سوى مادة متطورة، فبعد أن وضعت الحسية التجريبية في عصر النهضة الإنسان بمركز الكون ليحتل موقع الإله نفسه، انزلق الإنسان المادي تدريجيا تحت ضغط الاكتشاف المتزايد لأسرار الكون المادي، لتصبح المادة هي الأساس والمركز، ويتحول الإنسان إلى موضوع تافه وهامشي، حتى ظهرت مدارس ما بعد الحداثة التي أنكرت كل مصادر المعرفة العقلية والحسية وأعلنت نهاية المدارس الفلسفية الكبرى والعودة إلى شك السفسطة، وهي نتيجة طبيعية لتفكيك الإنسان وتشييئه (تحويله إلى شيء مادي).

واللافت أن الحسيين والتجريبيين في عصر النهضة كانوا يؤمنون بالميتافيزيقا وبوجود الله، بل كان بعضهم من رجال الدين مثل جورج باركلي (توفي عام 1753)، إلا أن حصرهم للمعرفة بالحواس فتح الباب أمام الوضعيين والماركسيين إلى حصر الوجود كله بالمادة، وإذا كان موقف الحسيين الأوائل مجرد افتراض فلسفي ولم يرق إلى درجة العلم؛ فلن يجد الوضعيون والماركسيون والماديون دليلا علميا على إنكار وجود الغيبيات [انظر مقال “وجود الله“].

هل يجيب العلم التجريبي على كل الأسئلة؟

أينشتاين

شهدت بداية القرن العشرين ثورات علمية هائلة، ومن أبرزها نظرية النسبية لألبرت أينشتاين، ثم مجموعة نظريات شكلت مفهوما جديدا للفيزياء تحت مسمى الكمّ (كوانتم)، فضلا عن التطور في الطب وعلوم الأحياء، وكان لهذه الفتوحات وآثارها العملية التكنولوجية دور كبير في ظهور العالِم التجريبي في صورة خارقة وكأنه الوحيد القادر على الإجابة على الأسئلة الوجودية بدلا من الفلاسفة، فضلا عن “رجال الدين”، لذا طالب العالم الفرنسي المعروف لويس باستور السلطات برعاية المؤسسات العلمية بصفتها “مؤسسات مقدسة” وقال إنها ستكون “معابد المستقبل”، كما وافقه على ذلك الفيلسوف الفرنسي ليكومت دي نوي عندما قال “إن ثقة الناس بعلماء الطبيعة اليوم هي ثقتهم بالكهنة في العهد القديم” [دي نوي، مصير الإنسان، 1967، ص275].

يقول الفيزيائي البريطاني المعاصر ستيفن هوكنغ في كتابه التصميم العظيم “الفلسفة ماتت… وعلماء الطبيعة باتوا هم حملة شعلة الاكتشاف في رحلتنا نحو المعرفة” [ص 13]، ويقول الفيزيائي الأميركي لورنس كراوس “إن الفلسفة حقل يذكرني للأسف بالنكتة القديمة لوودي آلن (ممثل كوميدي): أولئك الذين لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا يدرّسون، والذين لا يستطيعون أن يدرّسوا يدرّسون الرياضة”.

وبالرغم من إنكار الكثير من العلماء -الذين يحظون بالاحتفاء الإعلامي- أهمية الفلسفة وتنديدهم بها، فإن نظرياتهم الكبرى تقوم أساسا على مواقف أيديولوجية مفلسفة. فعلى سبيل المثال، يقول الفلكي البريطاني كارل ساغان في افتتاحية برنامجه “الكون” Cosmos -الذي حقق أعلى نسب المشاهدات بدعم من شبكة بي.بي.سي- إنه “لا يوجد ولم يوجد ولن يوجد شيء سوى الكون (أي المادة فقط)”، وهذا تعبير فلسفي وليس تصريحا علميا، فليس في وسع العلم التجريبي أصلا أن يجري تجربة مادية تنفي وجود عوالم أو كائنات غير مادية طالما أنها لا تخضع لأدواته، ومقولة ساغان هي تعبير صريح عن جوهر الفلسفة الطبيعية، والتي يعرّفها ستيرلنغ لامبرت بأنها موقف فلسفي ومنهج تجريبي يعتبر أن الوجود محكوم بعوامل عشوائية داخل نظام شامل في الطبيعة.

يقول عالم الوراثة في جامعة هارفارد ريتشارد ليونتن إن “استعدادنا لقبول المزاعم العلمية التي تخالف الحس السليم هو مفتاح فهم الصراع الحقيقي بين العلم وما هو ميتافيزيقي (غيبي)، فنحن نميل إلى صف العلم رغم ما يشوب بعض أفكاره من عبث… والمجتمع العلمي يتسامح مع القصص التي تُقبل دون برهان لأننا ملتزمون مسبقا بالفلسفة المادية، فمناهج العلم لا تجبرنا على قبول تفسير مادي للعالم بل التزامنا البديهي بالمادية هو الذي يجبرنا على إنتاج تفسيرات مادية مهما كانت مناقضة للحدس” [العلم ووجود الله، ص 62].، وليس هناك ما هو أوضح من هذا الاعتراف بتعصب العلماء الماديين للفلسفة المادية على أساس أيديولوجي بحت.

هوكنغ

ومن نتائج تبني هذه الفلسفة -المنكرة للتفلسف أصلا- أن التصورات الفلسفية للكثير من العلماء التجريبيين لم تعد تجد أي حرج في خرق المنطق، وهو ما يؤكده الاقتباس السابق عن ليونتن نفسه، كما يقول هوكنغ “إن الكثير من المفاهيم العلمية الحديثة تخالف المنطق السليم المبني على التجربة اليومية، أما طبيعة الكون فتكشف عن نفسها من خلال عجائب التكنولوجيا” [التصميم العظيم، ص 15]، كما يكرر الفيزيائي ميشيو كاكو في صفحات عدة من كتابه “فيزياء المستحيل” أن نظرية الكم تغير قوانين العقل الأساسية، وإلى درجة إسقاط مفهوم المستحيل من الوجود.

ويأتي الإشكال أولا من خرق نظرية النسبية لما هو مألوف ومعتاد، فقد كان يُعتقد أن الزمن ثابت كوني لا يتأثر بأي عامل من العوامل، لكن المعادلات الرياضية أثبتت أن سرعة الضوء هي الثابتة وأن الزمن نسبي، فعندما يتحرك جسم ما بسرعة كبيرة جدا فإن الزمن الخاص به يتمدد (يتباطأ)، فمثلا تقيس الساعة الموضوعة على صاروخ خارق السرعة مدة زمنية أقصر مما تقيسه ساعة أخرى على الأرض مثلا، وهذا أمر لم يكن ليخطر على بال أحد، وقد أثبتته التجارب العملية بالفعل.

ونتيجة لذلك بدأ كتّاب الخيال العلمي بالتجرؤ على خرق المنطق وطرح رؤى خيالية، فظهرت روايات السفر عبر الزمن كنوع من الخيال ثم لحق بهم الفيزيائيون النظريون (فئة من العلماء تدرس الآثار الفلسفية للعلم) على اعتبار أن الرياضيات لا تنكر تلك التخيلات، وظهرت معضلات فلسفية في العديد من الكتب العلمية “الرصينة” لتتساءل ما الذي سيحدث إذا عاد شخص بالزمن إلى الوراء وقتل والده مثلا، فهذا يعني أنه لن يُخلق أصلا، ثم ظهرت نظريات عدة لمناقشة هذه المشكلة دون أن ينتبه كثير من العلماء إلى التناقض العقلي في هذه العودة إلى الماضي.

والحقيقة أن نظرية النسبية العامة ليست معنية بما هو أبعد من دراسة تباطؤ مرور الزمن على اﻟﺠسم اﻟﻤتحرك بالنسبة ﻟﺠسم آخر ثابت، وهي لا تتعلق بالبنية اﻟﻤادية ﻟلجسم اﻟﻤتحرك كما هو اﻟﺤال ﻓﻲ نظرية الكم، ومن ثمّ فإن “منحنى الزمكان” ليس أكثر من مفهوم مثاﻟﻲ تخيلي، وتعبير “انحنائه” لا يعني أكثر من انحناء مسار حركة الجسم مع تمدد الزمن اﻟﻤقاس عليه بالنسبة إﻟﻰ ﻤراقب خارجه، وحتى ﻓﻲ حال انغلاق منحنى الزمكان فهذا لا يعني أن يدخل اﻟﺠسم ﻓﻲ مرحلة زمنية سابقة، بل غاية الأمر أن يعود للتحرك ﻓﻲ خط سيره من النقطة التي انغلق عندها اﻟﻤسار مع الاستمرار ﻓﻲ تباطؤ تغير حركته إﻟﻰ درجة الانعدام والدخول ﻓﻲ حالة “التفردية اﻟﻤركزية” التي لا يمكن اختبارها ﺗﺠريبياً، فضلاً عن ثبوت استحالة تحقق هذا الانغلاق فيزيائياً.

وعندما ظهرت فيزياء الكم التي تدرس أبسط عناصر الوجود على المستوى دون الذري (مكونات الذرة) كان فهمها أكثر صعوبة، لكن غموضها المشابه لغموض النسبية دفع بعض العلماء للمضي في وضع المزيد من السيناريوهات الخيالية. فيقول جون ويلر “إذا لم تكن حائرا إزاء مكانيكا الكم فإنك لم تفهمها”، ويؤيده روجر بينروس بقوله إن “ميكانيكا الكم لا معنى لها إطلاقا”، كما يقول ريتشارد فينمان “يمكن القول بثقة إنه لا أحد على الإطلاق يمكنه أن يفهم فيزياء الكم”.

ومن الأمثلة التي يطرحها الفيزيائيون لنقض المنطق العقلي أن تجارب فيزياء الكم أثبتت إمكانية وجود الإلكترون في مكانين في وقت واحد، وهذا يخالف بوضوح أحد أهم مبادئ العقل الأولية. وأن الإلكترونات والفوتونات وغيرها من المكونات تبدي سلوكا مغايرا في التجارب، فتبدو أحيانا في صورة جسيمات بينما تظهر على أنها موجات في أحيان أخرى.

والجواب أنه لم يثبت أصلا أن الإلكترون يوجد فعلا في مكانين معا كما هو حال الأجسام التي نعرفها، بل تظهر التجارب أن هذا الكائن الذي لا يُمكن أن يُرى بأي مجهر حتى الآن (لأنه أصغر من الموجة الضوئية) والذي يبدي سلوكا متقلبا بين الجسيمات والموجات يترك أثرا في مكانين معا، كما أن فيزياء الكم تنص وفقا لنظرية عدم التأكد على أنه لا يمكن فصل عملية المشاهدة عن سلوك المُشاهَد، فالإلكترون يتأثر برصدنا له أثناء خضوعه للتجربة ولا يقدم لنا سلوكا طبيعيا، فلسنا متأكدين إذن من حقيقة نقضه للمنطق عندما نرصد سلوكه العجيب.

ومن المغالطات التي نتجت عن سوء فهم فيزياء الكم وجود تعارض بين السببية وميكانيكا الكم، والحقيقة أن السببية موجودة أيضا في العالم دون الذري، لكن الجسيمات الذرية لا تقدم ردود الفعل المتوقعة دائما بل يكون سلوكها قائما ضمن احتمالات الدوال الموجية، حيث يقول الفيزيائي الألماني ماكس بورن في كتابه “ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﻁﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﻌﻠﺔ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ” إن فيزياء الكم لا تنقض السببية بل الحتمية فقط، أي أن كل الموجودات –حتى دون الذرية- تخضع للسببية والاطراد .

ويبدو أن تزامن الفتوحات العلمية وظهور نتائجها التكنولوجية مع سقوط النظريات الفلسفية الكبرى في عالم ما بعد الحداثة قد شجع العلماء على تجاوز لعب دور الفلاسفة إلى النكوص للسفسطة والشكوكية العدمية، حتى دعا كثير منهم إلى اعتبار صورة العالم عند الإنسان العادي صورة وهمية، مثل قول العالم البريطاني آرثر إدينغتون إن تصور الرجل العادي للمنضدة يختلف عن تصور العالِم لها، فالأول يراها جسما له لون وملمس وشكل وصلابة وثبات مكاني وديمومة زمنية، بينما يراها العالِم مجموعة ذرات بينها خلاء وتصدر عنها شحنات كهربية خاطفة. لكن الخلط بين اللغة التي تستخدم استخداما سليمًا للتعبير عن الأشياء التي نتعامل معها وبين اللغة المستخدمة لغرض المناقشة الفلسفية والعلمية لن يؤدي سوى إلى الفوضى.

ومن الأمثلة المشهورة على القصور الفلسفي لدى بعض كبار الفيزيائيين، نذكر النظرية التي طرحها النمساوي إرفين شرودنغر لقطة نضعها (فرضيا) في صندوق مغلق، ومعها عداد غايغر (لحساب الإشعاع) وكمية من مادة مشعة، بحيث يكون احتمال تحلل ذرة واحدة خلال ساعة ممكنا وغير مؤكد، فإذا تحللت الذرة سيطرق عداد غايغر مطرقة تكسر زجاجة تحتوي غازا خانقا فيقتل القطة، ويقول شرودنغر إننا لن نعرف وضع القطة حتى نفتح الصندوق بعد ساعة، وهي قبل ذلك من وجهة نظر ميكانيكا الكم تعتبر في حالة مركبة من الحياة والموت، أي أنها تجمع حالتين متناقضتين.

وكان شرودنغر يقصد بهذا المثال السخرية من اعتقاد بعض علماء الفيزياء النظرية أنه يقدم “دليلا” على اجتماع النقيضين، فهذه ليست سوى سفسطة.

رسم توضيحي لتجربة قطة شرودنغر (Dhatfield)

يقول أليستر راي في كتابه “فيزياء الكوانتم: حقيقة أم خيال؟” إن القارئ عندما يقرأ أن فيزياء الكوانتم تقول بأن القطة نصف حية ونصف ميتة، سيستنتج أن هذه سخافة تافهة، وسيلقي بالكتاب وينسى كل هذا الجنون. والحقيقة أن استعارة المصطلحات والمفاهيم من عالم ما دون الذرة لضرب الأمثلة على العالم المحسوس هو أصل المشكلة، فالفيزيائي بالكاد يستطيع أن يرصد آثار سلوك الجسيمات غير المرئية فتبدو له في لحظة ما وكأنها تجمع نقيضين، ولكن هذا لا يعني أنها كذلك في الحقيقة [فيزياء الكوانتم: حقيقة أم خيال؟، مركز براهين، ص 126].

ويسعى بعض فلاسفة العلم المعاصرين اليوم إلى تبني اتجاه يدعى بالأداتية، يطالبون من خلاله بإعادة النظر ﻓﻲ الكثير من التصورات العلمية الناشئة عن نقل المفاهيم الرياضية اﻟﻤجردة إلى الحقائق المتشخصة على أرض الواقع، مثل تخيل “نسيج الزمكان” على هيئة حقيقية يمكن لها أن تنحني وتتداخل.

وبالنتيجة، إذا حاولنا الإجابة على سؤال هذه الفقرة “هل يجيب العلم على كل الأسئلة؟” فسنوجز الجواب بنقطتين:

النقطة الأولى: الملاحظة العلمية ليست مستقلة، حيث أثبت العالم فرنسي بيير دويم أن التجربة الفيزيائية ليست مجرد ملاحظة، بل هي أيضا تأويل للظاهرة التي تدرسها، ويقول مؤلف “نظريات العلم” آلان شالمرز إن ما يلاحظه العالِم يتوقف في جانب كبير منه على تجربته الماضية ومعارفه [شالمرز، نظريات العلم، دار توبقال، ص 36]. كما أن وضع الفرضيات لتأويل الظواهر الفيزيائية يخضع بدوره في الكثير من الأحيان لخلفية الباحث وتوقعاته. فعلى سبيل المثال، كان الفيزيائي ماكس بورن يقر بأن ما أنجزه في حقل اكتشافات المكونات الذرية كان مجرد تعميمات فلسفية لا فيزيائية، وما زالت الفرضيات المعتمدة اليوم لفهم عالم الذرة غير مثبتة تجريبيا إلا أنها مقبولة كأحد التأويلات الممكنة، والأمر ذاته ينطبق على نظرية التطور الدارويني.

والاستقراء مبدأ فطري، وتبريره فطري، لكن تحديد لحظة الانتقال من الخاص إلى العام قابل للخطأ، والكثير من العلماء المعاصرين يرفضون ذلك بسبب سوء فهمهم لمعنى الفطرة، فغالبية كتب فلسفة العلوم لا تناقش التبرير الفطري أصلا، فهو أمر مستبعد من العلم المادي التجريبي، وهو خلل في مفهوم “المعقولية” أو التأسيس لها. [الإجماع الإنساني، ص 139].

ويقول جون هوت “عند نقطة معينة في سلسلة التحقق من كل فرضية، لا بد من قفزة إيمانية تُعد مكونا أساسيا في العملية، وعنصر الثقة هو عنصر أساسي في كل بحث بشري عن الحقيقة، وإن وجدت نفسك تشك فيما قلتُه الآن فهذا لأنك في هذه اللحظة بالذات تثق في عقلك بما يكفي للتعبير عن شكك في كلامي، فلا يمكنك التخلص من الثقة في عقلك حتى عندما تساورك الشكوك، وأنت لا تطرح أسئلتك النقدية إلا لأنك تؤمن بأن الحق يستحق البحث، فالإيمان بهذا المعنى، وليس بمعنى الخيال الجامح، يكمن في جذور كل دين حقيقي، وكذلك في جذور العلم… وهذا يؤكد أن محاولات الإلحاد الجديد لتخليص الوعي البشري من الإيمان هي مجرد محاولة عبثية” [العلم ووجود الله، ص 107].

وبما أن العلم التجريبي قائم على الملاحظة والتجريب والاستقراء ثم تعميم النتائج على الظواهر الكونية، فهو إذن قائم على الاحتمال، حيث لا يمكن للعالِم أن يجزم بأن الشمس ستشرق غدا كما كانت تشرق كل يوم، ويقول بول ديفيز إن التقدم العلمي يتطلب “فعلا إيمانيا” للاعتقاد بوجود انتظام في الطبيعة، كما يقول الفيلسوف الإنجليزي روجر تريغ “من أجل أن يتولى العلم مهمة تقديم التفسيرات لجميع الأشياء فنحن بحاجة إلى ما يبرر لنا الوثوق بالعلم” [Rationality and Science, p. 9].

“مع أن التزوير مخالف لأهداف العلم كنشاط ثقافي، إلا أنه متوطن بنيويًا في العلم المؤسس لمجتمعاتنا المعاصرة”.
أستاذة علم الاجتماع دينا فينشتاين.

كما يؤكد مبدأ “عدم اليقين” للفيزيائي فيرنر هايزنبرغ استحالة الحصول على نتائج دقيقة مئة بالمئة عند دراسة خاصيتين معا لشيء واحد من بين جملة خواص كمومية، أي أن معرفتنا للعالم ستبقى منقوصة حتما.

وبالرغم من جنوح خيال ميشيو كاكو في كتابه “فيزياء المستحيل” نحو ما يشبه تأليه العقل البشري، فإنه يعترف بأن “نظرية الكم مبنية على رمال من المصادفة والحظ والاحتمالات، وأنها لا تعطي أجوبة محددة” [العلم ووجود الله، ص276].

يعتبر الكثير من العلماء اليوم أن العلم هو الطريق الوحيد للحق وأنه قادر على تفسير كل شيء، وهذا ليس سوى موقف أيديولوجي مسبق اصطلح الفلاسفة المعاصرون على تسميته بالمذهب العلمي scientism، فليس هناك دليل علمي يثبت أن الوجود مادي بحت وأن التجربة هي المصدر الوحيد لاكتشافه.

يقول الفيلسوف البريطاني برتراند رَسل إن كل ما لا يمكن للعلم اكتشافه لا يمكن للبشرية أن تعرفه، وهذه عبارة متناقضة، فكيف عرف رَسل ذلك طالما أن عبارته ليست مثبتة علميا أصلا؟ ما يعني أنها ليست صحيحة بناءً على موقفه نفسه [العلم ووجود الله، ص106].

النقطة الثانية: حتى إذا اعتبرنا أن الرياضيات هي المصدر العلمي الموثوق للأجوبة على الأسئلة الوجودية، طالما أن الملاحظة الفيزيائية ليست نزيهة بالمطلق، فقد أثبت النمساوي كيرت غودل في عام 1931م أن هناك مقولات صادقة في الرياضيات لا يمكن البرهنة عليها، فعلى سبيل المثال ما زالت حدسية غولدباخ الموضوعة منذ عام 1742م غير مبرهنة، وبات الرياضيون يؤمنون اليوم بأن حلم فيثاغورس بفهم العالم كله عبر الأرقام والحساب مستحيل.

واستنتج الأمريكي المعاصر فريمان دايسون من نظرية “عدم الاكتمال” لغودل أن عالم الفيزياء والفلك غير قابلين للاكتمال أيضا، فمهما ابتعدنا في المستقبل فسيكون هناك دائما أشياء جديدة تحدث ومعلومات ترد وعوالم جديدة تُكتشف. ويلخص الفلكي جون بارو هذه الحقيقة بقوله إن العلم مبني على الرياضيات، ولا يمكن للرياضيات أن تكتشف الحقيقة كلها، فلا يمكن للعلم أن يكتشف الحقائق كلها.

لذلك اقتنع هوكنغ أخيرا باستحالة اكتشاف “نظرية كل شيء” التي تجمع النسبية مع الكم وتلخص كل ظواهر الوجود في معادلة واحدة، فالأمر لا يتعلق بنقص الأدوات وضيق الوقت فقط، بل لأن الملاحِظ (الباحث) سيظل أبدا جزءا من الكون نفسه ومن موضوع البحث، ولن يصبح “إلهاً” منفصلا عن الكون ليكتشفه على حقيقته التامة.

يقول البروفسور بيتر مدوّر في كتابه “نصائح لعالم شاب”: إن أسرع طريقة يسيء بها العالِم إلى سمعته هي أن يصرح بكل جرأة ودون مبرر بأن العلم يعرف أو سيكتشف قريبا الأجوبة على كل الأسئلة، وأن الأسئلة التي لا تقبل الأجوبة العلمية هي أسئلة زائفة وساذجة… لكن محدودية العلم تتضح في عجزه عن الإجابة على الأسئلة البدائية الوجودية، مثل البحث في كيفية بدء الخلق وغاية الوجود ومغزى الحياة. [Advice To A Young  Scientist, harper & row, 1979, p. 31].

ويقول في كتابه “حدود العلم”: من المحتمل أن هناك أسئلة يعجز العلم عن تقديم إجابات عنها نظرا لمحدوديته، كما لا يمكن لأي تطور علمي متوقع أن يؤهله لذلك. إنها الأسئلة التي يطرحها الأطفال، والأسئلة النهائية لكارل بوبر، ولدي أيضا أسئلة من قبيل: كيف بدأت الأشياء، لماذا نحن موجودون هنا؟ من أي شيء تم خلقنا؟ ما هي غاية الحياة؟… فليس في وسع العلم أن يجيب على اسئلة تتعلق ببدايات الأشياء ونهاياتها، والذي يجيب عليها هو الميتافيزيقيا والأدب والدين. [The Limits of Science, Oxford, 1984, p. 60].


المصدر الرابع: الإجماع
ربما لا تعتبر الكثير من المراجع الإجماع الإنساني بمثابة مصدر مستقل للمعرفة، إلا أننا ارتأينا تخصيصه كمصدر على أساس بعض الأبحاث الحديثة التي تعطي المجتمع دورا جوهريا في بلورة المعطيات الحسية والنفسية التي يتلقاها الإنسان منذ طفولته لتتحول إلى معرفة.

اهتم المفكر الإسلامي ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميلادي بالمعنى الاجتماعي لتعريف “العادة الإنسانية الصحيحة”، فكان يرى أن تصحيحها يستند إلى انتشارها بين كافة المجتمعات البشرية، وكونها عادة نفسية واجتماعية أصيلة في البشر، فضلا عن تعبيرها عن حاجة ضرورية.

وعندما أعاد هيوم نشر فلسفة الشك السفسطائية في القرن الثامن عشر الميلادي، تصدى له الفيلسوف الأسكتلندي توماس ريد وأكد أن إجماع الأمم من العامة والمتعلمين ينبغي أن يكون له على الأقل سلطان كبير، إلا إذا استطعنا أن نثبت وجود تحيز ما من العموم لإجماع ما، فالأصل في الإجماع أن يكون مبررا بنفسه وأن المشكك هو الذي ينبغي أن يثبت وجود التحيز.

واعتبر ريد أن خصائص المشتركات الإنسانية هي: الإدراك بالحدس، الميل النفسي للتصديق بها في بنية الإنسان، الشعور بالحيرة عند الشك فيها، وأن تكون ضرورية للتعامل مع العالم بنجاح.

وأيضا تصدى كانط لشكية هيوم كما أسلفنا أعلاه، ورأى أن التعاقب الموضوعي ناشئ عن مبدأ عقلي أولي، فأعطى بذلك لما أسماه بالعقل الفعال دورا جوهريا في المعرفة.

وفي بداية القرن العشرين أحيا الفيلسوف البريطاني جورج مور فلسفة ريد وانتصر للفطرة السليمة، كما تصدى لمن يشكك بوجود العالم الخارجي بمناقشات شهيرة، ومن أشهر ردوده عليهم: حين أرفع يدي إلى أعلى وأقول: هذه يد، ثم أرفع يدي الأخرى وأقول: هذه يد أخرى، فبذلك أكون قد برهنت على وجود العالم الخارجي.

جون سيرل (FranksValli)

ثم أصدر الفيلسوف الأمريكي جون سيرل كتاب “العقل واللغة والمجتمع” الذي يعد من أهم الكتب المتخصصة في الانتصار لموقف الإنسان العادي، وقال فيه إن معيار المواقف التلقائية هو الثبات البشري العام على التمسك بها خلال التاريخ الطويل المليء بالدواعي الكاشفة للحقيقة، فطالما أن هذه القضايا لم تُكذب مطلقا فهذه قيمة موضوعية، كما اعتبر أن المواقف التلقائية سابقة على أي رؤية ذوقية فهي تتمتع بالكثير من الموضوعية.

ويعد الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين (توفي عام 1951م) من أهم المفكرين الذين لفتوا النظر إلى أهمية المجتمع في تكوين المعرفة من خلال دراساته في اللغة، وقد أكدت العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة نظريته، فكان ينكر إمكان تمييز المعطيات الحسية والحالات النفسية دون ربط مجتمعي لكل حالة بلفظ معين، فالإنسان يتعرف على نفسه وعلى العالم من خلال علاقة إشارية موضوعية، ومن المستحيل عليه أن ينشئ لغة خاصة به من خلال المعطيات الحسية. والمعيار الأصلي هو الجماعة لا الذات، فالجماعة توفر له المعرفة الصحيحة بعلاقات واضحة ورمزية بشكل أفضل بكثير من المعيار الفردي الذي يفهم به الطفل الوليد قبل أن يتعلم اللغة، .

لودفيغ فتغنشتاين

وبحسب فتغنشتاين فنحن نتصور الألم من خلال اللغة، وبدون لغة سنتألم دون وعي بالألم. وبالخلاصة فلا يمكن الحديث عن أي “معقولية للعالم” بدون قواعد معيارية نكتسبها من الجماعة، ولا يمكن لأحد أن ينشئ لغة خاصة به (استبطان) دون استناد إلى معايير عامة يفهمها الناس.

ويقول فيلسوف العلم الأميركي المعاصر إرنست ناغل إن اللغة التي نستخدمها لوصف تجاربنا المباشرة هي اللغة المعتادة للتواصل الاجتماعي، فتطابق المباني اللغوية الأساسية في كافة المجتمعات مع اختلاف التجارب والمناخ والمعتقدات يبرهن على أن هناك بنية إنسانية عامة.

وهذا يعني أن المجتمع هو الذي يحدد شروط معرفتنا، ويوجه حواسنا منذ طفولتنا لنرى العالم كما نراه، والحاجة النفسية العميقة (الفطرية) هي التي تدفع الطفل للمسارعة في اتباع القواعد الإنسانية العامة وتعلم طرق التصنيف الإنساني والإيمان باطراد الحوادث. وقد لخص ناغل شروط تحقق الفطرة في نقطتين: أن تكون شرطا للعبة الجماعة البشرية، وأن تعبر عن حاجة اجتماعية ونفسية.

ويستنتج العالم البريطاني “ألفرد جول آير” أن حواس الإنسان ليست خاصة به بل محكومة بالتجربة الجماعية العامة، ولذلك لا نقول عن شيء إنه قابل للإدراك إلا إذا كان من الممكن وصفه من خلال مجموعة أشخاص على الأقل [The problem of knowledge, p.85].

وبناء على هذه المعطيات الحديثة، يمكن أن نجري بعض التعديلات على نظرية كانط بشأن “العقل الفعال” التي تعرضنا لها سابقا، فقد كان يرى أن المبدأ الكلي الضروري لا يصدر عن حس خالص أو معطيات حسية بل هو من طبيعة العقل الإنساني الفردي، والتجارب الحديثة تثبت أن القاعدة لا يمكن أن تنشأ من عقل واحد ولو كان فعالا، وأن الطفل لا يكتسب اللغة من ذاته بل في إطار اجتماعي تقبله الغريزة بمجرد الاحتكاك بالقواعد.

ومن الخطأ الخلط بين مغالطة الاحتكام إلى الأكثرية [انظر مقال المغالطات المنطقية] وبين استنباط البنية الطبيعية لإدراك البشر من خلال اتفاقهم الفطري رغم اختلاف الظروف والعادات بين المجتمعات.

المصدر الخامس: الوحي

يعرّف ابن فارس في “معجم مقاييس اللغة” الوحي بأنه أصل يدل على إلقاء علم من أحد لغيره، وقيّده البعض بأنه خفي وسريع. ونجد في القرآن الكريم صورا للوحي لا تتقيد بالمعنى الديني، فهو يشمل الإلهام الغريزي للحيوان: {وأوحى ربك إلى النحل} [النحل: 67]، والإلهام الفطري للإنسان: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7]، والإشارة السريعة من شخص لأشخاص آخرين: {فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا} [مريم: 11]، ووسوسة الشياطين: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} [الأنعام: 121].

لكن المقصود بالوحي هنا هو الذي يوحي به الله إلى أنبيائه ورسله: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به} [الأنعام: 19]، وهو الوسيلة التي أبلغ الله بها رسله برسالتهم وطالبهم بتبليغها للناس: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163].

وإذا تجاوز الإنسان مرحلة الشك وآمن بوجود الله، سواء عن طريق العقل أو الكشف، أو بالتحقق من صدق الأنبياء ومعجزاتهم، فمن البدهي أن يعتبر الوحي الإلهي أعلى درجات مصادر المعرفة، وأن يعتبر كل ما يصدر عنه بمثابة العلم اليقيني. وبما أننا ما نزال في بداية طريق البحث عن الحقيقة فسنؤجل الحديث عن ضرورة اللجوء إلى الوحي بعد أن نتحقق من وجود الله أولاً، ثم سنتعرض في مقال “نبوة محمد” وما يليه لتفاصيل هذا المصدر المعرفي.

وما يهمنا بالدرجة الأولى في مصدرية الوحي للمعرفة هو الجانب الميتافيزيقي، فبعد أن ثبت لنا عجز العقل عن الخوض في عوالم الغيب، وعدم امتلاكنا لأي برهان يضمن صدور المكاشفات الحدسية -بشأن الغيبيات- عن مصدر موثوق، واستحالة التوصل إلى العالم الغيبي بالحواس لأنه مفارق للحس أصلا، وعجز التجربة والرياضيات عن الإحاطة بحقائق الكون المادي نفسه فضلا عن العالم الغيبي، فلن يبقى لدينا سوى اللجوء إلى الوحي بعد التحقق من صدق نسبته إلى الله.

ويجدر بالذكر أن الوحي بوصفه مصدرا للمعرفة يُصنف لدى علماء المسلمين تحت باب أوسع هو النقليات أو الخبريات، والذي يشمل كلا من: الخبر الصادق القطعي المثبت بالتواتر (القرآن الكريم والسنة والأخبار المتواترة)، والخبر الظني (روايات التاريخ والأحاديث التي لم تبلغ درجة التواتر)، والأساطير.

أما الفلاسفة المنكرين للوحي فيعتدون بمصدرية الخبر عندما تتحقق شروط الثقة في نقل الرواية، وإلا فلا قيمة لعلم التاريخ ولكل ما يصل إلينا من معارف وأخبار غابت عن حواسنا. فعلى سبيل المثال لا يمكن لأحد في العالم أن يرى بعينه كل مدن العالم بما فيها من سكان ومنازل وأسواق، إلا أنه يصدّق بوجود أي منها إذا تواترت الأخبار التي يتداولها الناس بوجود تلك المدينة ولو كانت في أقصى أصقاع الأرض ويصعب عليه التحقق شخصيا من وجودها.

ولم يخل تاريخ الفلسفة من منكري قيمة النقل، فالتيار السفسطائي الشكي في اليونان ممثلا بغورجياس كان يرى أنه لا يمكن معرفة شيء، وإن أمكن فلا يمكن نقل المعرفة للآخرين.

تمثال زيوس كبير الآلهة اليونانية

مواقف الفلاسفة من الوحي
إذا اعتبرنا اليونان مهداً للفلسفة، فسنبدأ عرضنا التاريخي من مواقف فلاسفتها تجاه الوحي، وسيأتي ذكر نشأة الأديان والأساطير هناك في مقال الوثنية، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن ما وصلنا من تراث فلاسفة اليونان قد لا يدل في الظاهر على أن الوحي بلغهم في ظل سيادة الأساطير على المشهد، ولذلك لم يصلنا من تراثهم الفلسفي شيء عن البحث في مسألة الوحي، سواء في المرحلة العقلانية الأولى على يد طاليس وأنكسيماندر، أو في مرحلة السفسطة، أو حتى في مرحلة سقراط ومن بعده ممن أعادوا الاعتبار للعقل، وذلك بالرغم من إيمانهم بوجود إله خالق من منطلق الضرورة العقلية. لكن التحقيق يرجح أن الأساطير الإغريقية نفسها لم تكن سوى تحريف لرسالة الوحي، حتى انقلبت الملائكة إلى آلهة تسكن جبل الأوليمب، ومع ذلك فالأثر الباقي في تراث الفلاسفة يبدو خاليا من آثار الوحي لأنه لم يبق لديهم منه شيء.

وقد أدى افتقار الإغريق للوحي إلى تخبط واضح في المسائل الميتافيزيقية، فيقال إن سقراط ناقش مع مجموعة من أتباع فيثاغورس قضية خلود النفس البشرية، حيث حاولوا أن يدافعوا عن نظريتهم في التناسخ انطلاقا من خلفيتهم الباطنية، فاثبت لهم سقراط تهافت النظرية، فاقترحوا القول بخلودها بعد موت الجسد، فناقشهم أيضا في هذا الطرح ولم يتمكنوا من البرهنة عليه، وعندئذ سكت الجميع برهة، وقال أحدهم ويدعى سيمياس إن العلم بحقائق هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا، ومن الجبن اليأس في البحث حتى الوصول إلى آخر حدود العقل، وإذا لم نستوثق من الحق فعلينا أن نكتشف الدليل الأقوى ما دام أنه لا سبيل لنا إلى بلوغ اليقين بالوحي الإلهي [يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص91].

وعندما انتشرت المسيحية في أوروبا، رأى قسم من الفلاسفة أن الفلسفة والدين متغايران ولا يمكن جمعهما، وأن الدين لا يُعتنق إلا بالإيمان الأعمى دون تعقل، بينما رأى غالبية فلاسفة القرون الوسطى أن الوحي والعقل كلاهما من الله فلا يمكن أن يتعارضا، وقالوا إن ما جاء في الأناجيل من غيبيات لا يمكن للعقل أن يدركه بنفسه، فعليه أن يصدّق به كما جاء في تلك الكتب.

وفي القرن الثالث عشر بدأت فلسفة أرسطو العقلانية بالانتشار، واستفاد منها القديس الإيطالي توما الأكويني في محاولة إثبات ما جاء في الأناجيل بالمنطق، ثم ظهر من الفلاسفة من يقدم العقل على النقل ويرى أنه في حال تعارضهما فلا بد أن يكون العقل هو الأولى، ومن هؤلاء جون سكوت وآلان ديليل. وعندما انطلق عصر النهضة في القرن الرابع عشر كان الفلاسفة قد حسموا أمرهم في الفصل بين الفلسفة واللاهوت، واعتبروا أن “الوحي” مناقض للعقل ولا يدعمه الدليل العلمي.

ويجدر بالذكر هنا أن الوحي الذي كان موضع البحث لم يكن هو إنجيل عيسى عليه السلام، بل مجموعة الأناجيل الأربعة التي أقرها مجمع نيقية في القرن الرابع الميلادي، وقد فقد فلاسفة عصر النهضة الثقة بها عندما شرعوا في نقدها تاريخيا وتبين لهم احتواؤها على الكثير من التناقضات، فضلا عن عدم وجود أي دليل على صحة نسبتها إلى عيسى نفسه [انظر مقال المسيحية]، لذا أقر بعض الفلاسفة في القرن السابع عشر وما بعده -مثل سبينوزا- بأن هناك وحيا نزل بالفعل على النبيين موسى وعيسى عليهما السلام إلا أن الكتاب المقدس المعترف به من قبل الكنيسة ليس سوى نسخة محرفة، بينما قرر فلاسفة نزعة “التنوير” التخلي عن الإيمان بالوحي والاكتفاء بمصدرية العقل أو الحس أو الحدس.

ومن الواضح أن نقد فلاسفة الغرب للوحي صادر عن اعتقادهم بأنه يقتصر فقط على الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، بينما لا يكاد يتعرض أحدهم للقرآن في بحثه، وقد وضعوا الأديان كلها في سلة واحدة من خلال منظورهم للدين من زاوية تراثهم اليهودي-المسيحي فقط، ولم يميزوا بين القرآن وغيره لانطلاقهم في دراسته -إن فعلوا- من أبحاث المستشرقين الذين أقر معظمهم أن القرآن ليس وحيا إلهيا أصلا.

وفيما يتعلق بالإسلام، فسنبحث في مقال مستقل مرجعية الوحي الإسلامي ومصداقية نسبته إلى الله، ونكتفي هنا في سياق العرض التاريخي بالإشارة إلى أن مواقف فلاسفة الإسلام من مصدرية الوحي للمعرفة تنوعت كتنوع المواقف في أوروبا، فكان المعتزلة يحاولون إثبات حقائق الوحي بأدوات المنطق مع تقديم العقل عند “التعارض” مع النقل، بينما كان الأشاعرة يستخدمون الأدوات نفسها لإثبات عدم التعارض، كما وضع ابن رشد كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” لإثبات توافق العقل والنقل من خلال مفهومه الخاص للعقل والذي يقتصر على المنطق الأرسطي، ثم وضع ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميلادي كتاب “درء تعارض العقل والنقل” ليثبت أيضا عدم التعارض، ولكن دون قصر العقل على فلسفة أرسطو.


أهم المراجع
برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1967.

يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي.

عبد الرحمن حبنكة الميداني، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دار القلم، دمشق، 1993.

عبد الرحمن الزنيدي، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي: دراسة نقدية في ضوء الإسلام، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992.

علي سامي نشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، 1984.

محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، مكتبة الأنجلو المصرية، 1949.

ميشيو كاكو، فيزياء المستحيل، ترجمة سعد الدين خرفان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، أبريل 2013.

رضا زيدان، الإجماع الإنساني، مركز براهين، 2017.

لؤي صافي، إعمال العقل من النظرة التجزيئية إلى النظرة التكاملية، دار الفكر، دمشق، 1998.

طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2012.

راجح الكردي، نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1992.

جون لينوكس، العلم ووجود الله، ترجمة ماريانا كتكوت، الناشر خدمة كريدولوغوس، 2015.

عبد الله العجيري، ميليشيا الإلحاد: مدخل لفهم الإلحاد الجديد، مركز تكوين، 2014.

عبد الرحمن الحاج، مقال “أزمة المعرفة في سياق الحداثة”، موقع إسلام أونلاين، 23 نوفمبر 2002.

إسماعيل عرفة، مقال “خائنو الحقيقة.. كيف يخدع علماء الطبيعة الجماهير؟”، موقع ميدان، 2 سبتمبر 2017.

J. Ayer, The Problem of Knowledge, Penguin, New York, 1956.

Sterling Lamprecht, The Metaphysics of Naturalism, Appleton Century Crofts, New York, 1960.

Roger Trigg, Rationality and Science, Oxford: Blackwell, 1993.

http://www.almasalik.com

فرسان الهيكل

فرسان الهيكل هو اختصار لاسم أول منظمة عسكرية وأشهرها في تاريخ أوروبا، وهي المنظمة الأم التي كانت كل المنظمات العسكرية في تاريخ أوربا فرعاً منها أو تقليداً لها، واسمها الكامل هو “الجنود الفقراء من أتباع المسيح وهيكل سليمان” The Poor Fellow Soldiers of Christ and of Temple of Solomon، ولا توجد معلومات موثقة عن نشأة المنظمة ولا بداية تكوينها، وكل الذين أرخوا لفرسان الهيكل لجأوا إلى مصدر وحيد كُتب بعد سبعين سنة من إنشائها على يد وليَم الصوري. وقبل أن نستعرض نشأة المنظمة وتطورها وصولا إلى أفولها وتفتتها إلى عشرات المنظمات السرية القائمة حتى اليوم، يجدر بنا الحديث عن الجذور التاريخية التي تعود إلى بني إسرائيل.

رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)

الجذور الإسرائيلية
يقول مؤرخون إن هيكل سليمان في بيت المقدس كان يضم مدرستين إحداهما للصبيان والأخرى للفتيات، وكانت الأولى تخرج كهنة الهيكل والربانيين والأحبار ليكونوا صفوة المجتمع اليهودي، وكانوا يُختارون من العائلات الثابت انحدارها من سبط لاوي المتحدر من هارون، بينما يختص سبط يهوذا المتحدر من داوود بالمُلك.

وعندما هدم الإمبراطور الروماني فسباسيان الهيكل سنة ٧٠ تفرق رؤساء السبطين وأسرهم ومن تبعهم في أرجاء الأرض، واستقر عدد كبير منهم في أوربا الغربية. وكانت تقاليدهم تقتضي الاندماج في المجتمعات الأخرى والتظاهر باتباع الدين السائد وإخفاء أنسابهم الحقيقية، بخلاف عوام اليهود ممن يعلنون أنسابهم ويمارسون شعائرهم.

وطوال قرون حرص سبط المُلك وسبط الكهانة على التوغل في المجتمعات والصعود إلى قمتها، فأحد فروع أسر الملك الإلهي صار هو صلب الأسرة السكسونية الحاكمة في إنجلترا، كما امتزج فرع آخر مع الأسرة الميروفنجية التي حكمت فرنسا مابين القرنين الخامس والثامن الميلاديين، بينما وصل فرع آل سيتوارت إلى عرش اسكتلندا.

ومن هذه الأسر أيضا آل سان كلير التي حكمت نورماندي شمال غرب فرنسا، وتزاوج أبناؤها مع أسر الملك الإلهي الأخرى في فرنسا وهي شومو وجيزور وكونت وكونت شامبان وبلْوا وبولون.

ووفقا لكتاب “المُلك الإلهي” Rex Deus الصادر عام 2000 للمؤلفين الثلاثة غراهام سيمانز وتيم والاس ميرفي وماريلين هوبكنز، فإن مجموعة أسر الملك الإلهي كانت قد سيطرت على معظم أوربا الغربية مع مطلع القرن العاشر الميلادي بتغلغلها في الأسر الحاكمة، وهو أمر لم يلاحظه معظم المؤرخين التقليديين.

ونتيجة لهذا النفوذ نجحت الأسرة الميروفنجية في التغلغل إلى داخل الكنيسة الكاثوليكية وصولا إلى تعيين ستة بابوات من أصول ميروفنجية، كان أولهم البابا سلفستر الثاني سنة ٩٩٩، وآخرهم هو أوربان الثاني الذي أعلن بدء الحروب الصليبية عام 1096 باسم الكاثوليكية، وذلك بعد استكمال خطة حشد أوربا المسيحية وراء أسر الملك الإلهي التي تجري فيها الدماء الإسرائيلية.

هوج دي بايان

تشكيل المنظمة
مع وصول الصليبيين إلى الأراضي المقدسة وسيطرتهم على بيت المقدس، انتقلت خطة أسر الملك الإلهي إلى المرحلة التالية، ففي سنة ١١١٨ سافر إلى القدس تسعة فرسان من السلالة الإسرائيلية وعلى رأسهم هوج دي بايان وأندريه دي مونتبارد، والتقوا بالملك بلدوين الثاني الأخ الأصغر لأول ملوك مملكة أورشليم اللاتينية الصليبية جودفروا دي بويون وخلفه عليها، وأسفر اللقاء عن تكوين منظمة فرسان الهيكل تحت مسمى “الجنود الفقراء من أتباع المسيح وهيكل سليمان”.

وكان الهدف المعلن للمنظمة هو حراسة طرق الحج المسيحية من سواحل يافا إلى أورشليم وحماية الحجاج المسيحيين القادمين من أوربا من قطّاع الطرق.

وذهب بعض الباحثين إلى أن هذا الهدف لم يكن سوى غطاء لأهدافهم الحقيقية، وذلك لسببين، الأول هو أن تأمين طرق الحج الطويلة من يافا إلى أورشليم مهمة يستحيل أن يقوم بها تسعة فرسان في الأربعينيات من العمر، والثاني أنهم جعلوا مقر قيادتهم في المسجد الأقصى وليس على طريق الحج كما يُفترض.

فبعد استيلاء الصليبيين على القدس وتحويلها إلى مملكة أورشليم اللاتينية، حوّلوا المسجد الأقصى إلى “هيكل الرب”، وفي السنوات العشر الأولى من عمر المنظمة لم تفعل شيئا له علاقة بالمهمة التي ادعتها بل كانت مشغولة فقط بالحفر والتنقيب تحت المسجد الأقصى، حيث اكتشف الكابتن البريطاني وارين في سنة ١٨٦٧ الأنفاق التي حفرها فرسان الهيكل وفيها بعض آثارهم من تروس وصلبان.

دي كليرفو

في مجمع طروادة سنة ١١٢٩ م تمكن برنارد دي كليرفو -كبير مستشاري البابا وابن أخ مونتبارد- من الحصول على اعتراف الكنيسة بفرسان الهيكل. وبما أن الكنيسة لم تكن تقبل فكرة أن يكون الرهبان مقاتلين، فقد كتب دي كليرفو عدة رسائل ومقالات، كان أشهرها رسالة كتبها سنة ١١٣٥ بعنوان “في مدح فرسان الهيكل” ووصف فيها فارس الهيكل بأنه “فارس لا يعرف الخوف الطريق إلى قلبه، وما يحرسه ويقوم على حمايته آمن ومصون، قوة الإيمان تحرس روحه، كما أن الحديد يحمي جسده، ولأن سلاحه في جسده وفي روحه معاً، فلا خوف يعتريه ولا يتمكن منه إنسان”.

وفي سنة ١١٣٩ تمكن دي كليرفو من استصدار مرسوم بابوي من البابا الجديد إنوسنت الثاني يمنح فرسان الهيكل حق المرور عبر حدود الممالك والإمارات الأوربية كافة بحرية تامة ودون دفع ضرائب عبور، كما استثناهم من الالتزام بالقوانين المحلية في كل أوربا، بحيث لا يخضع فرسان الهيكل إلا لأستاذهم الأعظم، بينما لا يخضع هو سوى للبابا نفسه. وهي امتيازات لم يحصل عليها أحد في كل أوربا.

وهكذا انهالت على المنظمة العطايا والهبات من النبلاء والملوك، فبعد انتهاء الفرسان التسعة من حفرياتهم تحت المسجد الأقصى وحصولهم على الشرعية عادوا إلى فرنسا سنة ١١٢٩، ثم رحل الأستاذ الأعظم دي بايان ومعه دي مونتبارد إلى إنجلترا ثم اسكتلندا، فحصلوا من آل سنكلير على أرض واسعة تحولت لاحقا إلى مقر قيادة.

ارتبط تكوين فرسان الهيكل ثم صعودهم بالحروب الصليبية، فهي التي جلبت لهم الشرعية وأجبرت الكنيسة الكاثوليكية على غض الطرف عن الجمع بين الرهبنة والقتال. ونظرا لكفاءتهم في القتال فقد أصبحت المنظمة القوة الأولى في مملكة أورشليم الصليبية، ففارس الهيكل الذي يجمع بين الرهبنة والفروسية يتصف بصفات لا يناظره فيها أي جندي آخر، كقوة البنية والتدريب العالي والتسليح الجيد.

ويُقسِم الفارس ألا يفر من القتال أو يخرج من الميدان إلا بإذن قائده أو إذا واجهه ثلاثة مقاتلين معاً على الأقل، والموت في الميدان هو أسمى صور الموت عنده. كما كانت خيول فرسان الهيكل مدربة على أجواء القتال، وكانت كتائبهم أشبه بقوات الصاعقة في الجيوش الحديثة، حيث تساند الجيوش الكبيرة بأعداد قليلة تنقض على العدو في سرعة خاطفة لخلخلة الصفوف.

القوة الاقتصادية

كنيسة تابعة لفرسان الهيكل في لندن وتبدو كالقلعة

مع الوقت طور فرسان الهيكل مهاراتهم ليصبح استثمار الأموال وإدارة المزارع وتربية الخيول وإقراض الأموال والتجارة من أبرز أنشطتهم، بل تقدمت على القتال الذي صار واجهة الفرسان لجلب الشرعية فقط .

كان النبلاء المتجهون إلى الأرض المقدسة للمشاركة في الحروب يتغيبون سنوات طويلة، فيضعون ثروتهم كلها تحت سيطرة فرسان الهيكل لحمايتها، فإذا مات أو لم يعد نقلوها إلى ورثته أو إلى المنظمة إن رغب في ذلك، ويقال إن ملك فرنسا فيليب أوجست أودع ثروة التاج الفرنسي بمقر فرسان الهيكل في باريس وفوضه في إدارة الأملاك الملكية، وطوال فترة غيابه كانت عوائد إدارة هذه الثروة تذهب إليهم.

وأقام فرسان الهيكل شبكة بنكية داخل أوربا، وبينها وبين الأرض المقدسة وعبر الطرق الممتدة بينهما، فإذا أراد أوربي الحج ذهب إلى أقرب مقر لهم ليودع أموالا تغطي تكاليف الرحلة ويأخذ ما يشبه الصك ليقدمه عند كل مرحلة في رحلته إلى مقر لفرسان الهيكل فيمنحوه ما يشاء من مال، وقد أكسبت هذه التقنية فرسان الهيكل قوة سياسية ونفوذاً اقتصادياً حتى انخرطوا في تمويل التجارة ونقل البضائع، فأنشأوا أسطولاً حربياً تجارياً يتكون من ثماني عشر سفينة، ولم تكن أي دولة أوربية في حينه تملك أسطولاً بمثل سرعته وكفاءته.

صار الفرسان بمثابة شركات متعددة القوميات وعابرة للبحار تستثمر أموال الأمراء والنبلاء وتدير أراضي الإقطاعيين وتؤجر ما تمتلكه من أراض للمزارعين، وبعد خمسين عاماً من تكوينها صارت قوتها الاقتصادية تفوق قوة دول غرب أوربا مجتمعة.

وكان من أبرز أنشطة فرسان الهيكل الإقراض بالربا، حيث التفّوا على حكم الكنيسة بتحريم الربا عبر تسميته بالأجرة بدلا من الفائدة، واضطرت الكنيسة للتغاضي عن الأمر لحاجتها إلى تمويل الجيوش، فمنذ النصف الثاني للقرن الثاني عشر أصبحت المنظمة هي الممول الأبرز للحملات الصليبية.

وفي عام 1200 زاد البابا إنوسنت الثالث من قوتهم بإصدار مرسوم ينص على عدم خضوع الأفراد والأموال والبضائع داخل مقرات فرسان الهيكل ومنازلهم للقوانين المحلية الأوروبية.

إحدى قلاع فرسان الهيكل بالبرتغال
(DanielFeliciano)

وبالإضافة إلى قوتهم الاقتصادية، كان فرسان الهيكل أعظم البنائين في القرون الوسطى، فشيدوا لمنظمتهم خمسة عشر ألف مقر خلال قرنين، وكانت مقراتهم تتضمن مزارع وطواحين وحظائر خيول وكنائس وأديرة وحصونا، ومن أشهر آثارهم قلعة صفد في فلسطين.

وكان إنوسنت الثاني قد سمح لهم سنة 1139 ببناء كنائس خاصة بهم لا تخضع لسيطرة الأبرشيات والأسقفيات المحلية، فكثفوا عملية البناء، واختاروا لمقراتهم مواقع مرتفعة للإطلال على طرق الحج والتجارة، وابتدعوا تصميما جديدا للكنائس هو الطراز الدائري القوطي، والذي تعمدوا فيه محاكاة تصميم هيكل سليمان.

وخلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر تمايز البناؤون في أوربا إلى ثلاث طوائف، الأولى هي أبناء الأب سوبيس التي تتولى بناء الكنائس على الطراز الروماني، والثانية أبناء ميتر جاك المختصة بتشييد القناطر والجسور، أما الثالثة وهي المرتبطة بفرسان الهيكل فاسمها أبناء سليمان، وكانت تهتم ببناء الكنائس والأديرة الضخمة على نمط العمارة القوطية، وهي تنسب نفسها للنبي سليمان بن داوود باني الهيكل، وقد وضع فرسان الهيكل في عام 1145 لائحة قواعد تنظم شؤون الحياة اليومية لأبناء سليمان، بما فيها طريقة الأكل والنوم والثياب، فهي تجعل من بناء الكنائس رسالة خالدة ولها طقوس وشروط ونمط حياة خاص، وكانت هذه الطائفة هي بذرة الماسونية كما سنرى لاحقا.

العلاقة بالباطنيين
يقول ول ديورانت في موسوعة “قصة الحضارة” إن الإسماعيليين استخدموا أعضاء جماعاتهم السرية في التجسس والدسائس السياسية، ثم انتقلت طقوسهم إلى بيت المقدس وأوربا، وكان لها أكبر الأثر في أنظمة فرسان الهيكل ومنظمة النور البافارية (إلوميناتي)، وغيرها من الجماعات السرية التي قامت في العالم الغربي، كما كان لها أكبر الأثر أيضًا في طقوسها وملابسها.

أما مؤلف كتاب “تاريخ الماسونية” كلافل –وهو من أقطاب الماسونية- فيؤكد أن منظمة فرسان الهيكل كانت على علاقة وثيقة بالإسماعيلية [ويقصد جماعة الحشاشين تحديداً]، فكلاهما اختارتا اللونين الأحمر والأبيض شعارًا لهما، واتبعتا النظام نفسه والمراتب نفسها، فكانت مراتب الفدائيين والرفاق والدعاة تقابل المراتب نفسها لدى فرسان الهيكل وهي المبتدئ والمنتهي والفارس، كما تآمرت المنظمتان على “هدم الدين” الذي تظاهرت باعتناقه، وشيدتا الحصون العديدة للاحتماء بها.

ويتفق معه الباحثان الماسونيان كرستوفر نايت وروبرت لوماس في كتابهما الشهير “مفتاح حيرام” بتأكيدهما على أن أصل الماسونية يرجع إلى فرسان الهيكل.

وتحدث مؤرخون عدة في الشرق والغرب عن زيارة قام بها دي مونتبارد إلى قلعة شيخ الجبل سنان بن سلمان ليتلقى على يديه أصول العمل السري والاغتيالات، ما دفعهم إلى القول إن الحشاشين الإسماعيليين لعبوا دورا جوهريا في تطوير أنظمة الجمعيات السرية لتصل إلى وضعها الحالي في العصر الحديث.


الأفول
كانت موقعة حطين سنة 1187 التي كسرت الممالك الصليبية هي بداية أفول الفرسان، حيث ارتكب الأستاذ الأعظم للمنظمة جيرار دي ريدفورد أخطاء فادحة، إذ خرج بثمانين من نخبة فرسانه لمباغتة صلاح الدين الأيوبي قائد جيوش المسلمين، لكن هذا الأخير أحاط بهم وقضى عليهم، فأخطأ دي ريدفورد مجددا واستسلم ليقع أسيرا مخالفا دستور الفرسان، ثم أطلق سراحه بعد حطين بفدية باهظة.

يؤكد مؤرخون أوروبيون أن صلاح الدين أطلق سراح معظم الأسرى بعد حطين باستثناء فرسان الهيكل وفرسان مالطة، ويرى الأستاذ بجامعة نونتنغهام ديفيد نيكول في كتابه “حطين 1187” أن إعدامهم لم يكن عملاً قاسياً إذا ما أخذ بعين الإعتبار أن صلاح الدين يعلم استعداد هؤلاء الفرسان للموت بشكل دائم، فكان القضاء عليهم وعدم القبول بالفدية وسيلة ناجعة للقضاء على القوة الضاربة للصليبيين.

حاول فرسان الهيكل دفع أوروبا إلى معركة أخرى مع صلاح الدين لاستعادة القدس، لا سيما بعد سقوط إمارة صفد التي كانت تضم أمنع قلاع فرسان الهيكل، وانضم الفرسان إلى الحملة الصليبية الثالثة التي يقودها ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد وملك فرنسا فيليب الثاني، لكن الصليبيين عجزوا عن استعادة القدس بالرغم من محاولاتهم المتكررة، فركزوا جهودهم على المدن الثلاث المتبقية لديهم وهي أنطاكية وطرابلس وصور، ونجحوا أخيرا في السيطرة على ميناء عكا عام 1191.

وبعد قرن كامل من احتلال الصليبيين لعكا، فتحها المسلمون المماليك عام 1292، وسقطت بذلك آخر قلاع فرسان الهيكل في الشرق الإسلامي، فنقل أستاذهم الأعظم جاك دي مولاي مقر قيادتهم إلى جزيرة قبرص، وقام بجولات واسعة في أوربا لتحريض البابا والملوك على شن حملة صليبية جديدة ففشل، لكنه تمكن من الحفاظ على امتيازات منظمته.

حاول فرسان الهيكل عام 1300 استعادة طرطوس على الساحل السوري، فنقلوا أسطولهم إلى جزيرة أرواد، لكن المماليك طردوهم منها بعد سنتين. ومن حينها صارت فرسان الهيكل منظمة عسكرية بلا هدف وجيشاً بلا معركة، ولم يعد في حوزتها سوى السيطرة المالية والنفوذ الاقتصادي.

وفي سنة 1305 صعد البابا كليمنت الخامس إلى الفاتيكان، وبناء على رغبة ملك فرنسا فيليب الرابع طلب من جاك دي مولاي وفولك دي فيلاريه الأستاذ الأعظم لفرسان مالطة الحضور إلى فرنسا لمناقشة دمج المنظمتين، وعندما وصل دي مولاي بدأ التحقيق معه باتهامات فيليب الرابع له بالهرطقة وممارسة السحر والخروج عن المسيحية، حيث أكد الملك أنه تمكن من اختراق منظمته باثني عشر جاسوساً تحققوا من تلك الاتهامات.

أمر فيليب الرابع باعتقال دي مولاي مع سبعين من قياداته، فاعترفوا تحت التعذيب بالاتهامات، وخلال السنوات الخمس التالية اعتقل مئة وخمسة وثلاثون آخرون واعترفوا جميعاً.

إحراق بعض فرسان الهيكل بالنار

أصدر البابا مرسوماً باعتقال فرسان الهيكل في كل أوربا ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم والتحفظ عليها، وفي عام 1310 أمر فيليب الرابع بإحراق أربعة وأربعين فارساً منهم أحياء وعلناً في باريس، وقرر البابا حل المنظمة وتحويل ممتلكاتها إلى منظمة فرسان مالطة.

وفي السنة نفسها انتهت اللجنة التي كونها البابا لمتابعة قضية فرسان الهيكل وتقديم تقرير عن المنظمة وممارساتها، وكانت النتيجة هي الحكم على دي مولاي بالإعدام على الخازوق عام 1314.

وانتهت بذلك (ظاهريا) قصة الصعود الاستثنائي لأحد أكثر التنظيمات العسكرية نفوذاً، والتي نجحت خلال قرنين فقط من السيطرة على أكثر من 900 مستوطنة، وامتلاك عشرات القلاع والحصون، فضلا عن ابتكارها لأحدث أساليب التسليح والتخطيط العسكري والأعمال المصرفية والنقل والزراعة والتجارة، والتي كان لها فضل في تطور المجتمع الغربي لاحقاً.

منظمة فرسان مالطة
ما زالت هذه المنظمة قائمة حتى اليوم، بل تحولت إلى دولة ذات سيادة ومعترف بها من قبل المجتمع الدولي، فهي الدولة الوحيدة في العالم التي ليس لها وجود جغرافي على الأرض ولا حدود، بل هي منظمة تتخذ من قصر مالطة بمدينة روما مقرا لها، وأعضاؤها الذين يعيشون في شتى أنحاء العالم هم مواطنوها.

الأسد (يسار) يُمنح الوشاح الأحمر لإعلان قبوله عضوا ومواطنا في منظمة ودولة فرسان مالطة عام 2008

وكما هو حال الجمعيات السرية القائمة اليوم، فإنها تزعم أن نشاطها يقتصر على الأعمال الخيرية والطبية، حيث تدير مئات المستشفيات وتساعد في عمليات الإنقاذ والإسعاف في أكثر من 120 دولة حول العالم، إلا أنها تعلن أيضا أن هدفها الأساسي هو حماية الحق المسيحي في الحج إلى القدس، وهو الهدف الظاهري الذي أنشئت من أجله إبان الحروب الصليبية.

وتضم قوائم أعضاء المنظمة عددا من كبار السياسيين والمتنفذين في العالم، مثل رونالد ريغان وتوني بلير والملكة إليزابيث، إضافة إلى عدد من المسؤولين العرب، مثل رئيس النظام السوري بشار الأسد.

وقد أنتجت قناة الجزيرة في عام 2008 فيلما وثائقيا يبحث في علاقة دولة فرسان مالطة بعمليات عسكرية قذرة في العالم الإسلامي، وأهمها المشاركة في غزو العراق عبر شركة “بلاك ووتر” الأمنية.


اتهامات خطيرة
هناك ثلاثة أنواع من التهم التي وجهت لفرسان الهيكل وهي:

1- الهرطقة: إهانة المسيح وإنكار ألوهيته، البصق على الصليب والتبول فوقه، احتقار القداس ورجال الكنيسة، وإنكار المقدسات.

2- الجرائم الأخلاقية: الشذوذ الجنسي الجماعي والمنظم، وابتكار طقوس للترقي داخل المنظمة تتضمن ممارسة الشذوذ وتقبيل أعضاء التناسل.

3- الوثنية: عبادة رأس حجري لكبش ذي قرون اسمه بافوميت، عبادة وثن العذراء السوداء، وعبادة وثن لساحرة على شكل قطة سوداء.

بافوميت بريشة إليفاس ليفاي

وهذه الأفعال كانت تمارس في سرية تامة، فلم يكن للمنظمة سجلات علنية بل تحفظ كل أوراقها داخل كنائسها وقلاعها بسرية بالغة.

انقسم المؤرخون بشأن هذه الاتهامات إلى قسمين، الأول يرى أنه تم تلفيقها لفرسان الهيكل بعد أن حقد عليهم الملوك لتزايد قوتهم، وأن اعترافهم جاء تحت التعذيب.

أما الفريق الثاني فيرى أنها منظمة مهرطقة غايتها القضاء على المسيحية، حيث اعترف الفرسان بالتهم كلها في دول أخرى غير فرنسا دون تعذيب، بل كان بعضهم في حماية ملوك إنجلترا وإسبانيا والبرتغال ومع ذلك اعترفوا بالهرطقة والشذوذ الجنسي وهي جرائم تستحق الإعدام في أوربا البابوية.

كما أن عبادة أوثان محددة هي ليست من ذلك النوع من التهم الذى يختلقه أحد ويقر به تحت وطأة تعذيب، فهذه تهم لم يقر بها أحد غيرهم، وكان يمكنهم أن ينكروها بعد اعترافهم بما هو أخطر من الهرطقة والشذوذ.

ما هو معبودهم؟
تعددت النظريات لتفسير رمزية بافوميت، فرأى البعض أن هذه الرأس الحجرية ترمز لرأس يوحنا المعمدان (النبي يحيى) التي قطعها هيرود، فكان فرسان الهيكل يرون أن يوحنا المعمدان هو المسيّا الحقيقي وأن عيسى المسيح نبي كذاب. وقال آخرون إن الفرسان عثروا حقا على رأس يوحنا المعمدان في الحملة الصليبية الرابعة، بينما ذهب رأي ثالث إلى أن رأس بافوميت ترمز إلى رأس دي بايان مؤسس فرسان الهيكل، كما فسره آخرون بأنه يرمز إلى أزموديوس الجني الحارس الذي ساعد سليمان في بناء الهيكل.

رسم لطقس عبادة بافوميت التي اقتبسها الماسون من فرسان الهيكل أورده الماسوني الفرنسي ليو تاكسيل في كتاب نشره عام 1884 لفضحهم

أما هوج شونفيلد فقام بتحليل كلمة بافوميت Baphomet وفقا لشفرة أتباش اليهودية القديمة واستنبط أنها تعني كلمة صوفيا Sophia، أي ربة الحكمة الإغريقية وكل ربات الحكمة الأخريات ومنهن إيزيس المصرية، ويدل على ذلك أن فرسان الهيكل قدسوا رموزا وأفكارا مصرية قديمة تختلط بالتقاليد اليهودية.

وتشير الرسوم والتماثيل إلى تشابه رأس بافوميت مع “كبش مِندِس” الذي كان يُعبد في مصر وبابل على أنه تمثيل للشيطان إبليس، حيث قالوا إن إبليس دخل الجنة في جلد أفعى ليشجع الإنسان (آدم وحواء) على اكتساب المعرفة بالأكل من الشجرة، وإن إبليس عندما يهبط إلى الأرض فإنه يتجسد في هيئة كبش له قرون.

وكانت الأساطير المصرية تقول إن إيزيس تعلمت السحر من والدها “سِب”، فجسدها الكهنة في صورة امرأة لها تاج على هيئة قرنين تتوسطهما الشمس. وإذا أعدنا قراءة هذه الرمزية في ظل الوحي الإسلامي فسنجد تطابقا عجيبا مع الأحاديث النبوية التي تحظر على المسلمين الصلاة في وقتي الشروق والغروب لأن الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان، مما يقوي اعتقادنا بأن إيزيس هي إحدى تجسدات الشيطان نفسه.

وتقول أساطير الفراعنة إن “حورس” الذي يُصور على هيئة صقر قد نتج عن تزاوج إيزيس مع أخيها أوزيريس، وإنه سعى للانتقام من جده “سب” الذي قتل أباه، فأصيبت إحدى عينيه ليبقى أعوراً بعين واحدة تمثل الشمس [انظر مقال الوثنية].

ولا نجد لهذه الأساطير في مناهج البحث الغربية تأويلات أبعد من الربط فيما بينها وفي ضوء ما قاله كتبة الأساطير نفسها، كما لا نجد لدى المؤرخين والفقهاء المسلمين في القرون الماضية سوى محاولات لفهم ما رواه لهم أهل الكتاب بعد إخفاء وتحريف الكثير، وذلك قبل أن تُكتشف في العصر الحديث الكثير من الأساطير إبان الفتوحات الكبيرة في استخراج الآثار واكتشاف أسرار اللغة الهيروغليفية.

كما نجد تشابها كبيرا بين حورس ذي العين الواحدة وبين الأعور الدجال الذي ورد ذكره فيه الحديث النبوي لدى المسلمين: {لم يُبعث نبي قبلي إلا حذر قومه من الدجال الكذاب} [رواه أحمد].

ويمكن القول إن إيزيس المصرية تحل أيضا سر العذراء السوداء، فهي تُجسد بتمثال لسيدة سوداء تحمل بين يديها رضيعًا أسود، لكن الكاثوليك في أوروبا كانوا يظنون أن فرسان الهيكل أرادوا بذلك تحقير العذراء والمسيح، وظل هذا الاعتقاد سائداً حتى القرن الثامن عشر عندما اكتشف باحثون في الآثار المصرية أن العذراء السوداء ليست سوى أم الحكمة والمعرفة ومصدر الخصوبة (إيزيس) وهي تحمل وليدها حورس، وهو الرأي الذي دافع عنه المؤرخ إيان بيغ والبروفيسور ستيفان بينكو، كما أثبته بالوثائق والصور المؤلفان لين بيكنيت وكلايف برنس في كتابهما المنشور عام 1994 “كفن تورينو: صورة من؟ كشف الحقيقة الصادمة”.

واحد من بين نحو 180 تمثالا للعذراء السوداء المتبقية حتى اليوم في فرنسا

ورجح باحثون -ومنهم إيان بيغ في كتابه “وثن العذراء السوداء”- أن دي كليرفو هو الذي ابتكر هذه العبادة عندما نظم مئتين وثمانين أنشودة، يتضمن كثير منها مقولة مأخوة من نشيد الأنشاد التوراتي تقول “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم” [1: 5-6]، وهي عبارة تم نقشها على كثير من تماثيل العذراء السوداء، وما زال نحو خمسمئة تمثال منها قائما وتؤدى عندها طقوس العبادة المسيحية في كنائس أوروبا.

بناء على ما سبق، يمكن القول إن العقيدة التي كان يخفيها فرسان الهيكل وكل من تبعهم لاحقا في الجمعيات السرية المتعددة هي قريبة جدا من الديانة المانوية الفارسية القديمة، والتي تدور حول ثنائية الآلهة، بحيث يكون الشيطان نداً للإله وأجدر منه بالعبادة والتعظيم، لذا نرى في بعض طقوسهم رموزا تبدو على النقيض من الطقوس الدينية للكاثوليكية، كالقداس الأسود والعذراء السوداء. ونظرا لممارسة الجمعيات السرية في درجاتها العليا طقوس السحر والاتصال بالشياطين فلا يُستبعد أن تتلقى “مكافأتها” من الشياطين بمزيد من النفوذ والملذات.

ولادة الجمعيات السرية
لم يكن عدد المعتقلين والمحاكَمين سوى بضع مئات، بينما يقدر باحثون أن عدد الفرسان كان يتراوح ما بين 20 و50 ألفا، وقد اختفوا فور إعلان حل المنظمة، كما اختفت جميع وثائقهم وبياناتهم المالية وحتى ثرواتهم سفن أسطولهم.

قرر باحثون أن فرسان الهيكل انضموا إلى فرسان مالطة، بينما رأى آخرون أنهم اختفوا في جبال الألب السويسرية كما اندمج بعضهم في الحياة المدنية بدول أخرى وخصوصا اسكتلندا التي كانت خارج سلطة البابا، أما في البرتغال فاحتفظوا بكيانهم بعد تغيير اسمه إلى فرسان المسيح وظل قائما حتى أواخر القرن السادس عشر، وقد ساهمت هذه المنظمة في حركة الكشوف الجغرافية التي انطلقت من إسبانيا والبرتغال، فكان منهم هنري الملاح وفاسكو دي غاما، كما أبحر كريستوفر كولمبوس على متن سفن تحمل شعارهم لاكتشاف أميركا، وهو يحمل أحلاما توراتية لاستعادة أورشليم وبناء الهيكل بعد اكتشاف العالم الجديد ونهب ثرواته.

“أصول الماسونية تعود إلى عهد الحملة الصليبية الأولى، والذي أسسها في فلسطين هو أول ملوك أورشليم جودفروا دى بويون”. [كتاب الجمعيات السرية والحركات الخفية للمؤرخة نستا وبستر، نقلا عن نشرة أصدرها لمؤرخ الماسوني شيفالييه دي باراج عام 1747].

أما مؤرخو الماسونية والجمعيات السرية فيقولون إن محافل الماسون -التي كانت في الأصل أماكن لتجمع البنائين- أصبحت ملاذاً مثالياً لفرسان الهيكل، فهي الفرع الوحيد من المنظمة الذي نجا من الحل والتدمير والملاحقة، وهكذا بدأت نشأة الماسونية على يد فرسان الهيكل.

ويقول الأستاذ الأعظم للماسونية في القرن التاسع عشر الجنرال الأمريكي ألبرت بايك في كتابه “عقيدة الطقس الأسكتلندي القديم وآدابه” المنشور عام 1872: “إن هدف فرسان الهيكل الظاهر الذي أسبغ عليهم الشرعية ومنحهم الهبات وأكسبهم السلطة كان حماية الحجاج الكاثوليك، لكن الهدف الحقيقي الذي انخرطوا من أجله في الحملات الصليبية هو العمل على إعادة بناء هيكل سليمان كما وصفه النبي حزقيال وصفاً مفصلاً في السفر المسمى باسمه، فالهيكل حين يعاد بناؤه باسم الكاثوليكية وتحت راياتها سيكون قبلة العالم ومركز ومصدر أمنه وسلامه، وسيحكم بنو إسرائيل من خلاله كل الشعوب”.

ألبرت بايك

أما الهدف الثاني كما يقول بايك فهو إزالة الكاثوليكية وتأسيس عالم جديد له ديانة جديدة تستمد عقائدها من “التقاليد المسيحية الأولى والنقية” التي يمثلها يوحنا المعمدان. فالقديس يوحنا هو الأب الروحي لكل الحركات الغنوصية التي تؤمن بأن خلاص البشر في المعرفة والأفكار وليس في مطلق الإيمان، وهي الحركات التي يمتزج فيها نموذج يوحنا المعمدان بالتراث الشفوي اليهودي الباطني وما يحويه من معارف وأسرار القبّالاه، وفقا لكتاب بايك.

ويضيف بايك أنه كانت توجد في الشرق إبان الحملة الصليبية الأولى طائفة من المسيحيين من أتباع يوحنا وكانت تعرف التاريخ الحقيقي للمسيح والتقاليد اليهودية وروايات التلمود والقبالاه، وهي طائفة تعارض كنيسة القديس بطرس ومسيحها (عيسى) المتمثلة في الفاتيكان.

وتعد هذه الكنيسة سرية للغاية، ويقودها أحبار عظام يتسلسلون إلى يوحنا المعمدان، وفي زمن الحروب الصليبية كان الحبر الأعظم لها يدعى ثيوكليتس، وقد تعرف على دي بايان وأطلعه على أسرار كنيسته ونصّبه خلفاً له على رئاسة الطائفة، وهذا اعتراف من بايك بأن منظمة فرسان الهيكل لم تكن سوى واجهة مسيحية لكنيسة تعادي الكاثوليكية نفسها وتنتسب إلى يوحنا وتؤمن بعقيدة غنوصية قبالية يهودية.

ويقول بايك إنه حين كان دي مولاي ينتظر حكم الإعدام في السجن أمر بتكوين أربعة محافل مركزية، الأول في نابولي لقيادة فرسان الهيكل في شرق أوروبا، والثاني في إدنبره من أجل قيادتهم في غربها، والثالث في ستوكهولم لفرسان الشمال، والرابع في باريس لفرسان الجنوب .كما انشطرت المنظمة إلى عشرات الجمعيات السرية والمنظمات الخفية وجماعات السحر والشعوذة، وتحولت مقاطعة لانجدوك جنوب فرنسا -وهي معقل فرسان الهيكل- إلى مأوى للملحدين والمهرطقين واليهود والوثنيين. ويؤكد بايك أن الماسونية الاسكتلندية هي الوريث الأقدم لفرسان الهيكل والامتداد الشرعي لها.

وكان من أبرز الجماعات الإلحادية والشيطانية التي نشطت في مناطق نفوذ فرسان الهيكل جماعة “الألبيين”، والتي حكمت عليها الفاتيكان عام 1139 بالهرطقة وبدأت بمطاردتها، ثم انضمت إلى الجمعيات السرية المشابهة التي انبثقت عن فرسان الهيكل بعد حلّها.

بيل كلينتون كان عضوا في تنظيم دي مولاي الدولي أثناء شبابه (demolay.org)

وتوجد في أوربا والقارة الأمريكية اليوم عشرات المنظمات السرية التي تقول إنها وريثة فرسان الهيكل، وكثير منها تضع في اسمها الهيكل أو فرسانه أو اسم أحد أساتذة فرسان الهيكل العظام، كما تحاكي في تنظيمها ودرجاتها ورموزها وطقوسها فرسان الهيكل.

ومن أهم هذه المنظمات تنظيم دي مولاي الدولي المخصص للشباب في الولايات المتحدة، الذي كان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون من أعضائه [حسب موقع المنظمة]، ومنظمة فرسان الهيكل الاسكتلندية، وعصبة فرسان الهيكل الاسكتلندية، ومنظمة هيكل الشمس، ومنظمة دير صهيون التي سيأتي ذكرها بالتفصيل لاحقاً.

ومن أكثر المنظمات انتشارا اليوم “التنظيم العسكري السامي لهيكل أورشليم” OSMTH، وهي تؤكد أنها امتداد لفرسان الهيكل وأن دي مولاي عهد بالأستاذية إلى يوهانس لارمينيوس ثم توالى الأساتذة العظام دون انقطاع، إلى أن أخرجها الماسوني الفرنسي برنارد ريموند فابري بالابرا إلى النور سنة ١٨٠٤، وأن نابليون بونابرت كان أباً روحياً لها. وفي سنة 2001 اعترفت الأمم المتحدة بهذا التنظيم كمنظمة عاملة من أجل السلام ووضعتها في قائمة الجمعيات المدنية التي تحظى باستشارة منظمات الأمم المتحدة لها في الأزمات وتفويضها في فض النزاعات. بينما تعلن المنظمة أنها تهدف إلى الحفاظ على الأراضي المقدسة في أورشليم وحولها، وإجراء البحوث الأثرية، ودعم السلام. وكثيرا ما يتم إرسال وفودها تحت غطاء الشرعية الدولية من الأمم المتحدة إلى أماكن النزاعات في العالم الإسلامي.

كتاب أصدره “التنظيم العسكري السامي لهيكل أورشليم” عام 2017 بمناسبة “مرور خمسمئة عام على التأسيس”.

منظمة دير صهيون
طبقاً للوثائق السرية التي نشرها الفرنسي بيير بلانتار في ستينيات القرن العشرين فإن جذور دير صهيون تعود إلى جمعية سرية غنوصية لا يعرف تاريخها، حيث أسسها رجل اسمه أورمس ومزج فيها المسيحية مع الوثنية، ثم أعيد بناؤها -حسب بلانتار- سنة 1070 عندما اجتمع عدة رهبان في إيطاليا لتأسيس منظمة سرية اسمها دير أورفال، وشاركوا بأنفسهم في الحملة الصليبية الأولى. وبعد سقوط بيت المقدس في يد الصليبين ساهموا في انتخاب دي بويون ليكون أول ملوك مملكة أورشليم الصليبية، لأنه سليل الأسرة الميروفنجية المتحدرة من الملك داوود.

وفي السنة نفسها أسس هؤلاء الرهبان ديرًا في جبل صهيون حسب رواية بلانتار، وكانت مهمتهم الأولى هي البحث عن كنز هيكل سليمان الذي نهبه الرومان أثناء اجتياحهم أورشليم إبان ثورة اليهود عليهم سنة 70م، ثم إعادة تكوين الأسرة الميروفنجية وإعادتها إلى حكم فرنسا وصولا إلى حكم أوروبا كلها، وكانت منظمة فرسان الهيكل جناحاً عسكرياً لدير صهيون طوال مائة عام تقريباً.

اصطدم ملك فرنسا فيليب الثاني مع ملك إنجلترا هنري الثاني عام 1188 في معركة عند قلعة جيزور بفرنسا في صراع على شرعية الحكم، حيث تنافس كلاهما على أحقية تمثيل السلالة الميروفنجية، وكان النصر من نصيب فيليب الثاني، لكن المعركة تسببت بانشقاق فرسان الهيكل المؤيدة للإنجليز عن دير صهيون المنحازة للفرنسيين، وهكذا اندثرت آثار الجمعية السرية وظلت خفية ثمانية قرون كاملة، وفقا لمزاعم بلانتار.

وفي عام 1989 نشر بلانتار قائمة بأسماء أساتذة دير صهيون العظام، زاعما أنه كان هو نفسه أستاذها الأعظم ما بين عامي 1981 و1984، كما ادعى أن كلا من إسحق نيوتن وروبرت بويل وكيجان كوكتو وليوناردو دافنشي وفيكتور هوغو كانوا في القائمة، واشتهرت هذا الجمعية باسم أخوية صهيون (أخوية سيون)، ولا سيما بعد ظهورها مؤخرا في الرواية الشهيرة “شفرة دافنشي” للبريطاني دان براون، والتي تحولت إلى فيلم هوليودي.

وبعكس المنظمات التي انحدرت من فرسان الهيكل أو زعمت أنها هي فرسان الهيكل أو أحد فروعها، فقد قدمت دير صهيون نفسها على أنها هي الأصل وأن فرسان الهيكل فرع منها. ويعد بلانتار هو المصدر الوحيد لهذه الوثائق والمعلومات، ما دفع الكثيرين للتشكيك فيها، حيث يقول المؤرخ أحمد دراج في كتابه “وثائق دير صهيون بالقدس الشريف” إن المراجع الأوروبية تجمع على أن بناء دير صهيون في القدس لم يتم إلا بعد أن اشترى ملك صقلية روبرت أنجو المنطقة من السلطان محمد بن قلاوون عام 1335، كما أن وجود الدير هناك لا يعني بالضرورة ارتباطه بجمعية سرية.


أهم المراجع
بهاء الأمير، اليهود والحركات السرية في الحروب الصليبية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2012.

ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة وتحقيق سهيل محمد ديب، مؤسسة الرسالة، 2002.

محمد عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، دار الهلال، 1925.

أحمد دراج، وثائق دير صهيون بالقدس الشريف، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1968.

Charles G. Addison, The History of the Knights Templar, Longman, Brown Green, London, 1842.

Nesta Webster, Secret societies and submersive movements, Boswell Publishing Co. Lltd, London, 1924.

Christopher Knight and Robert Lomas, The Hiram Key, The Century Books, 1996.

Albert Pike, Morals and dogma of the Ancient and Accepted Scottish Rite of Freemasonry, published by the authority of The Supreme Council of the thirty third degree, Charleston, 1871.

M.p. Hall, The secret teachings of all ages, H.S. Crocker Company, San Francisco, 1928.

David Nicolle, Hattin 1187: Saladin’s Greatest Victory, Osprey Publishing, 1993.

حركة العصر الجديد

تعد حركة العصر الجديد امتدادا حديثا لمذاهب الباطنية (الغنوصية) التي تغلغلت في العديد من الأديان والفلسفات الشرقية من الهندوسية والبوذية والطاوية والأفلاطونية الجديدة، وكذلك في الطوائف الباطنية التي ظهرت من داخل الأديان السماوية مثل القبالاه اليهودية والغنوصية المسيحية والتصوف الفلسفي والإسماعيلية الإسلامية.

ولئن كانت جذور فكر الحركة تعود إلى تلك الجذور البعيدة، إلا أن نشأتها باعتبارها حركة معاصرة تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي عندما تبنى عدد من مفكري الغرب الفكر الباطني للتمرد على الدين النصراني، ومحاولة لتفسير طبيعة الإنسان والخلاص بطريقة أخرى تركز على “الغنوص والحكمة” كنموذج للخلاص الفردي بدلا من انتظار مخلص كوني مبعوث من مصدر خارجي (المسيح حسب اعتقادهم).

أنشأ هؤلاء المفكرون أربع حركات دينية متزامنة تبنت الأصول الفلسفية الباطنية وأسهمت فيما بعد بنشوء حركة العصر الجديد ، وفيما يلي تعريف بهذه الحركات:

1- حركة “الفلسفة المتعالية” Transcendentalism: وتُعد أول حركة فكرية في أمريكا الشمالية تتأثر بالديانات الشرقية وتعتمد على ترجمات الكتب الهندوسية المقدسة، وتقوم على أربع أفكار أساسية هي: أن العلاقة بين الإله والإنسان والكون هي علاقة وحدة الوجود، وأن المعرفة الحدسية الداخلية التي تأتي من خارج نطاق الفكر والحواس عن طريق (العرفان الغنوصي) مقدسة لكونها فيض من العقل المقدس، وأن للإنسان قدرات كامنة غير محدودة تمكنه من التعامل مع العالم الغيبي، وأن التناغم مع الطبيعة هو طريقة الحياة الفضلى. ويعد “رالف إمرسون” المتوفى عام 1882م الشخصية القيادية لهذه الحركة التي وصلت ذروة انتشارها في أربعينات القرن التاسع عشر.

2- حركة “الفكر الجديد” New Thought: ظهرت على يد فينياس كويمبي المتوفى عام 1866، وهي امتداد لفلسفة فرانز مزمر الطبيب الألماني النمساوي الذي اشتهر بالعلاج الروحي الجماعي وفق ما أسماه التنويم المغناطيسي، معتقدا بوجود طاقة حيوية تتسبب بالشفاء والسعادة، فمزج فينياس هذه الفكرة مع الفلسفة المثالية التي تعتبر العقل أصل الحقيقة.

3- حركة الأرواحية Spiritualism: في القرن الثامن عشر الميلادي اهتم عالم الجيولوجيا السويدي إيمانويل سويدنبرغ بالتعامل مع الأرواح –بحسب الاعتقاد الباطني- وحاول تفسير الغيبيات كالموت والجنة والنار تفسيرًا يجمع بين الدين والعلم حسب ادعائه، محاولا تفسير الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى تفسيرا باطنيا، حيث اعتقد أن الجنة والنار حالات وعي ذهنية يمكن الوصول إليها من خلال “السفر خارج الجسد” وحالات “التأمل الروحاني”، وانتشرت من خلاله جلسات استحضار الأرواح.

4- جمعية الحكمة الإلهية “الثيوصوفيا” Theosophy: أسستها في نيويورك سيدة من أصل روسي تدعى هلينا بلافاتسكي (توفيت عام 1891م)، وقالت إنها تهدف إلى اكتشاف القوانين التي تحكم الكون والقوى الكامنة في الإنسان، والدعوة إلى الأخوة الكونية بتناغم الإنسان مع الكون، ودراسة الأديان والفلسفة والعلوم دراسة مقارنة.

“اتحاد العصر الجديد” كان يعقد اجتماعات لمناقشة القضايا السياسية خلال السبعينات

واعتبرت أن “دين الحكمة” أو “الفلسفة الباطنية” هو أصل كل الأديان، وأن الإسلام واليهودية والنصرانية لم تكن سوى تحريفات لهذا الدين من قبل الأنبياء والحكماء الذين أرادوا تبسيط الحكمة للعامة، فأعلنت أنها تريد تدريب الناس على الوصول إلى العرفان (الغنوص) بأنفسهم، وزعمت أنها أخرجت إلى العلن أسرار المذاهب الباطنية التي كانت ممنوعة على العوام، وهي ليست سوى تعاليم القبالاه السحرية.

وقد مهدت هذه الحركات الباطنية الأربعة بمعتقداتها وممارساتها ومطبوعاتها لظهور حركة العصر الجديد “New Age Movement” في ستينات القرن العشرين، وكانت البداية في معهد “إيسالن” بأمريكا الشمالية المختص بالفكر الباطني، والذي أجرى أكثر من عشرة آلاف دراسة للفرضيات في القدرات الكامنة خلال العقود الماضية، استنادًا إلى المبادئ الباطنية.

ومن أهم أسباب إقبال الغربيين على الطوائف الروحانية الشرقية أنها قدمت لهم روحانيات خالية من أي التزامات أخلاقية أو شرعية، فبعد تخليهم عن الدين النصراني لم تعد لديهم رغبة في التقيد بالضوابط الأخلاقية التي تردع شهواتهم، إضافة إلى رغبة كثير من الغربيين في التلاعب بالوعي دون تعاطي العقاقير بعد ثبوت أضرار المخدرات، إذ دلت الإحصاءات على أن 96,4٪ من أتباع الطوائف الروحانية الشرقية سبق لهم استخدام المخدرات قبل انضمامهم إليها. [The New Age: The History of a Movement, Drury, Nevill].

أهم روافد حركة العصر الجديد

في العصر الجديد تصبح جميع الأديان متساوية وتؤدي إلى نتيجة واحدة لأنها تُجرد من عقائدها الأصلية

أهم المبادئ والمعتقدات

من خلال ملاحظة برامج الحركة وفحص أدبياتها نجد أن الوصول إلى الإشراق والعرفان الباطني هو غايتها، أما الطريق المؤدي إلى ذلك فيعتمد على ثلاث أفكار رئيسة، هي:

1- الكل واحد (وحدة الوجود)، فكل شيء هو الإله والإله هو كل شيء، على اختلاف تصوراتهم عن الإله وحقيقته وأسمائه، والتي تتراوح بين المطلق والكلي والوعي الكلي والعقل الكلي والطاو والقوة العظمى وغيرها، وهذا يعني أن كل ما هو موجود إنما هو انطباع لذلك الكلي وتجلٍ له فليس في الوجود شيء غيره، وهي فكرة مأخوذة من فلسفات شرقية عدة مثل الطاوية والهندوسية والبوذية وعدة طوائف غنوصية، ثم تبناها بعض أقطاب التصوف الفلسفي مع أنها تتناقض جوهريا مع الإسلام.

2- الإنسان هو الإله أو جزء من الإله (تأليه الإنسان)، وهذه الفكرة نتيجة للفكرة السابقة، فعندما يتوحد الإنسان مع “المطلق” يتأله الإنسان نفسه.

3- الإنسان لا يموت وإنما يستمر في الحياة من خلال التقمص والتناسخ، أي بانتقال الروح بعد الموت من جسد بشري إلى كائن أعلى للتنعم أو أدنى للتعذّب، وذلك بدلا من دخول الجنة أو النار، ويستمر التناسخ حتى تتطهّر النفس فتنعتق من تكرار المولد. وتعود هذه الفكرة إلى الطاويين وقدماء الفراعنة واليونانيِّين والفرس قبل أن يستوردها فلاسفة الهند ثم بعض المتصوفة والباطنيين الدروز.

4- الإنسان يخلق واقعه الخاص وقيمه ومعتقداته ويحقق مراده من خلال حالات الوعي المتغيرة التي يدخل فيها، وهو بذلك لا يحتاج إلى الوحي للإجابة على الأسئلة الكبرى التي يقدمها الدين، كما أن الإنسان هو الذي يخلق بزعمهم محيط حياته ويتحكم بمستقبله وصحته وسعادته عن طريق قوة عقله الباطن.

وبالعودة إلى ما ذكرناه عن رؤية بلافاتسكي للأديان السماوية، فإن حركة العصر الجديد تؤمن أيضا بوحدة الأديان، لأن الباطنيين يرون أن جوهر دين الحكمة هو ما ينص عليه المنقول الباطني في جميع الأديان، فيزعمون أن الغيبيات من قبيل الإله (المعبود في الأديان السماوية) والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر هي أمور لا تتعدى كونها تصورات ذهنية بحتة قد تفيد من يعتقد بها، إلا أنه ليس لها في الواقع حقيقة ثابتة، بل ذكرها الأنبياء ليسهل فهمها من قبل العامة، وهم يزعمون أنهم بدؤوا بنشر الحقيقة التي ظلت مخفية عن العامة طيلة قرون وكانت خاصة بالنخبة، ما يزيد من تشوق عامة الناس للاستماع إلى مروّجي هذه الحركة.

تعتمد جمعيات العصر الجديد على الأساليب المتبعة في كل الحركات السرية من حيث التدرج الهرمي في طريق المعرفة، بحيث لا يرتقي العضو إلا بعد استيعابه لقدر ما من المعلومات السرية، وإثبات اقتناعه بها وتقبّله لتصديق ما سيأتي بعدها. لذا فهي تعلن في الظاهر أن الغيبيات ليست سوى تصورات ذهنية خرافية، كي يجنح جميع المؤمنين بهذه الحركات إلى الإلحاد واللادينية، لكن العضو الذي يترقى إلى أعلى المراتب تُكشف له في النهاية حقيقة الإيمان بالشياطين وعبادة إبليس نفسه.

فيلم “لوسي” الذي أنتجته هوليود عام 2014 يقوم على فكرة عدم استخدامنا لأكثر من عُشر طاقتنا العقلية

وتستمد حركة العصر الجديد بعض أفكارها أيضا من العقائد الهرمسية Hermticum، وهي اعتقادات مسجلة في كتابات ورسائل مشكوك في مصادرها تعود إلى القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، وفيها تلفيق بين الفلسفات الأورفية والفيثاغورية والأفلاطونية والرواقية والفيزياء الأرسطية والتنجيم الكلداني، وتكوّن في مجموعها معرفة خاصة يزعمون أنها وصلتهم عن وحي إشراقي، وهي تقر بوجود إله لا يمكن وصفه ولا معرفته، ويصفونه أحيانا بأنه الكون نفسه أو الإنسان، كما يرون أن النفوس الإنسانية هي أرواح هبطت من الأفلاك السماوية ويمكنها التحرر والعودة إلى هناك عبر قوة المعرفة (الغنوص). ونجد أن الكثير من تطبيقات حركة العصر الجديد تعتمد منهج الهرمسية دون أن تذكرها بصراحة، مثل بعض برامج الماكروبيوتيك والهونا والفونغ شوي.

ونظرا لاعتقادهم بتعظيم الذات الإنسانية وتأليهها، فإن الكثير من برامجهم التدريبية وكتبهم تدور حول القدرات الخارقة المزعومة للإنسان، وقد يستندون في ذلك إلى معلومات غير مؤكدة علميا، مثل القول بأن 90% من قدرات العقل البشري لا يتم استخدامها مدى الحياة، ومع ذلك فإن خطابهم التحفيزي يستقطب اهتمام الكثير من الناس عبر إقناعهم بوجود قدرات كامنة تنتظر الاكتشاف والتفعيل.

يظهر تأثير الصوفية اليهودية الباطنية (القبالاه) في جميع الحركات الباطنية الحديثة، فالقبالاه تبني أساس فلسفتها على تأليه الإنسان باعتبار أنه فاض عن الإله ويمكنه الاتحاد به، فالإنسان إذن يمتلك قدرات كامنة خارقة تحتاج إلى من يبحث عنها وينميها ويطلقها من القمقم.
كما يزعم القبّاليون أن أسرار “الحكمة” التي نُقلت إليهم بالسر عن الأنبياء هي الحقيقة الوحيدة لجوهر العالم، وأن ظاهر الوحي المذكور في التوراة ليس سوى غطاء للحقيقة الكامنة في باطنه.

في هذا الكتاب الذي يسوّقه معهد إيسالن على موقعه يشرح قصة انطلاقته واستمراره على مدى أكثر من خمسة عقود في ظل تراجع إيمان الأمريكيين بالأديان

طرق النشر والتطبيق

بدأت حركة العصر الجديد بالظهور في الغرب وتشكلت بما يتناسب مع متطلبات الناس هناك، فتم تصميم برامجها بعناية وربطها بمجالات الحياة المختلفة كالصحة والرياضة وتطوير الذات والعلاج وهندسة الديكور وتصميم المنازل وغيرها؛ لتوافق احتياجات معظم الناس بما يحقق الانتشار، وسرعان ما انتشرت في أنحاء أمريكا ثم وصلت إلى بريطانيا وبقية أوربا، وفي بداية القرن الميلادي الحالي تغلغلت في البلاد الإسلامية تحت ستار الطب البديل والتدريب المعتمد بنظام المستويات المتعددة.

ولا يزال معهد إيسالن (المذكور سابقا) يطور أبحاثه، ويغيّر إطار أفكاره بما يوافق متطلبات الناس، حيث يعيد اليوم دمج الفكر الإلحادي مع عقائد الحلول والاتحاد بدلا من الإلحاد المادي لتناسب اعتقاد الناس المؤمنين بوجود إله، كما يتبنى المعهد أبحاثا في المؤثرات الغيبية ضمن ممارسات الأديان الشرقية ووثنيات القبائل البدائية في أستراليا وغيرها، حيث تُنشر النتائج على أنها أبحاث علمية، حتى أصبح أتباع الحركة يعتقدون بأن الممارسات الخرافية والسحرية تتمتع بصبغة العلم التجريبي الرصين، ومع أن العلماء والجامعات ترفض هذه الأبحاث إلا أن الاتجاه العام في الغرب بدأ بتقبل الروحانيات والاعتراف بتأثيرها ووجودها ومحاولة فهمها علميا، وتساهم عولمة وسائل الإعلام وسهولة الولوج إلى شبكة الإنترنت في نشر تلك الأفكار.

ويمكن القول إن انتشار معتقدات حركة العصر الجديد يعود إلى غناها بالروحانيات الغامضة التي جاءت لتروي الجفاف الروحي عند أصحاب الأديان المحرفة والملحدين في الغرب، ولا سيما في فترة الستينات من القرن العشرين التي شهدت تضخم الرأسمالية المتسارع والمفاجئ على حساب العقل والروح، وتسارع وتيرة الاستهلاك إلى درجة إفراغ الإنسانية من قيمها الروحية، فضلا عن انهيار القيم الأخلاقية وشيوع العدمية والفلسفة الوجودية بعد ما رآه العالم من دمار في الحربين العالميتين وإبان الحرب الأمريكية على فييتنام وكوريا الشمالية، فانتشرت في الوقت نفسه موضة “الهيبيز” مع ما لازمها مع انحلال أخلاقي غير مسبوق. وبما أن روحانيات العصر الجديد لم تكن تلزم الشباب الغربي بأي عبادات دينية أو مناقشة أي عقائد يريدون الاقتناع بها فضلا عن أن تلزمهم بضوابط أخلاقية تحد من شهواتهم، فقد كانت الخيار الأنسب لكل من يبحث عما يملأ به فراغه الروحي.

ومع انتشار الفوضى وسقوط العديد من المجتمعات المسلمة في الحروب والعنف في السنوات الأخيرة، بدأت بعض برامج حركة العصر الجديد بإعادة انتشارها مجددا في أوساط الشباب، حيث يقدمها أصحابها تحت مسميات متنوعة من البرامج التدريبية، والتي تختلط بنسب مختلفة مع أمور أخرى مثل تنمية المهارات وفنون الإدارة والعلاجات البديلة، ونجد لها أثرا واضحا في دورات البرمجة اللغوية العصبية والتفكير الإيجابي والعلاج بخط الزمن، وفي جلسات التنفس التحوّلي والتأمل الارتقائي والاسترخاء وشحن الطاقة وقانون الجذب.

يرصد الباحث السويسري باتريك هايني في كتابه “إسلام السوق” -الصادر عام 2005- مظاهر محاولة أسلمة مفاهيم العصر الجديد تحت مسميات جديدة، وعبر مداخل التنمية البشرية وإدارة الأعمال وعلم النفس، ويرى أن من أهم خصائص هذه الظاهرة الانفتاح على العالم على حساب الهوية، وشيوع النزعة الفرادنية وسيولة المبادئ، والتخلي عن المبادئ الكبرى التي كانت تشغل الحركات الإسلامية مثل إحياء الخلافة والحاكمية.

البرامج التدريبية

فيما يلي تعريف موجز بأشهر عناوين البرامج التدريبية والاستشفائية التي تغلغلت فيها أفكار حركة العصر الجديد وبطرق خفية قد لا ينتبه لها معظم الناس، بما فيهم المؤمنون بالأديان السماوية:

1- الطاقة: وهي مسمى واحد يشمل مفاهيم متعددة في الفلسفات الشرقية القديمة، مثل كي ki وتشي chi-Qi وطاو Tao وماكرو Macro وبرانا Prana ومانا Mana، أما في برامج العصر الجديد فأصبحت تحمل أسماء إضافية مثل “قوة الحياة” و”الطاقة الكونية”، وهي مجرد فكرة فلسفية لا علاقة لها بالطاقة الفيزيائية التي يتم قياس آثارها بالعلم التجريبي، فالمؤمنون بها يعتقدون أنها قوة عظمى تقابل الاعتقاد بالإله عند أتباع الديانات السماوية.

وهي أول ما ينبغي أن يؤمن المتدرب به، وبأهميته وقوته، ويمارس كيفية الشعور به، واستمداده، وفعل ما يساعد على تدفقه في جسده، واتحاده به، ويتجنب ما يبعده عنه.

الين واليانغ

وتشتمل جميع البرامج المقدمة باسم الطاقة على نسب متفاوتة من أصول الفلسفة الباطنية، حيث يتم في بعضها شرح الغنوصية الشرقية على أنها حقائق كونية تفسر أصل الكون ونشأته وانقسامه لثنائيات عظيمة يسمونها (ين/يانغ)، وأنها مؤثرة في كل جوانب الحياة، ثم تُصاغ الدورات التدريبية في العلاقات الاجتماعية والإدارة والعلاج الجسدي والنفسي على أساس التوازن بين الين واليانغ.

ويظهر أثر هذه الفلسفات أيضا في نظرية “الأجسام السبعة”، والتي يتم خلالها إقناع المتدربين بوجود سبعة أجسام لكل الكائنات، ومنها الإنسان. أولها الجسم البدني، وأهمها الأثيري الذي تنفذ من خلاله الطاقة الكونية للأجسام الأخرى وتمنحها السعادة والصحة، كما يتم التدريب من خلال الدورات المختصة بهذه النظرية على تقوية “الحاسة السادسة” لاكتساب قدرات خارقة في التأثير والعلم، وغير ذلك من الممارسات التي تتقاطع مع السحر والمقتبسة من القبالاه اليهودية.

رسم من مطلع القرن التاسع عشر لتوزع الشاكرات على الجسد

وتقدم برامج الطاقة التدريبية تمارين تزعم أنها تفتح منافذ الطاقة (الشاكرات) Chakras في أجساد المتدربين، بهدف الحصول على كميات أكبر من طاقة قوة الحياة، أو الاتحاد بها، ومن ذلك التدرب على تمارين وترانيم ووضعيات خاصة هي في حقيقتها عبادات وطقوس وثنية وشيطانية، بالرغم من أنها تُقدم في إطار منفصل عن الدين من دون أن ينتبه لذلك كثير من الناس، وكثيرا ما تتقاطع مع تدريبات اليوغا.

ومن الملاحظ أن تقديم هذه الفلسفة باسم “الطاقة” الذي يشتبه بالمصطلح العلمي المعروف في العلوم الطبيعية جعل المتدربين يعتقدون أنها علم لا ديناً وثنياً، كما أن الكثير من الناس ينجذبون إليها لأنهم يرون في الشرق الآسيوي تقدماً بمجالات الصحة والطب البديل.

2- التنفس التحولي والعميق Transformational Breathing: هو برنامج تدريبي أو علاجي يهدف إلى تجميع “طاقة البرانا الكونية” واستشعار تدفقها في الجسم، للدخول في حالة من الاسترخاء العميق والنشوة، ويعد أحد طرق التنويم للدخول في حالات الوعي المغيّرة وإطلاق قدرات “اللاوعي”، عبر التواصل مع “العقل الكلي” أو “اللاوعي الجمعي”.

ويعتبر المدربون هذه الحالة بداية التغيير والانطلاق والفتح، وهي تقابل ما يُعرف عند البوذيين والهندوس باسم “النرفانا”، وعند المتصوفة بـ”الفناء”، بينما يسميها بعض المروجين المعاصرين من المسلمين بحالة “الخشوع”.

3- التأمل الارتقائي والتجاوزي Trancsendental Meditation: يعود أصل هذا البرنامج إلى مذهب مهاريشي ماهيش (انظر مقال الهندوسية والبوذية)، ويهدف إلى الاسترخاء الكامل والدخول في حالة من اللاوعي والنشوة “النرفانا”، وفق طرق محددة من تركيز النظر في الأشكال والرموز وترديد الترانيم أو الاستماع إليها، إلى جانب الالتزام بتعليمات محددة في الطعام واللباس والكلام.

باندلر

4- البرمجة اللغوية العصبية Neuro Linguistic Programming: وضع أسس هذا الفن الباحثان الأمريكيان جون غريندر وريتشارد باندلر، وبدعم وتنظير من غريغوري بيتسون (توفي عام 1980م) أحد أبرز الباحثين في معهد إيسالن والذي عاش على المبادئ البوذية في أمريكا، كما اعتمد المؤسسان على ثلاثة من المتأثرين بالباطنية، وهم ميلتون إريكسون (توفي عام 1980م) الذي تميز في التدريب على تقنيات الخروج من العقل إلى “حالات الوعي المتغيرة” تطبيقاً مباشراً لبوذية زن، وفرتز بيرلز (توفي عام 1970م) أحد الباحثين في معهد إيسالن المهتمين بفلسفة “وحدة الوجود”، وفرجينيا ساتير (توفيت عام 1988م) المعالجة التي عملت بمعهد إيسالن وأسست أحد أكبر مراكز حركة العصر الجديد في أمريكا ويدعى مركز آفانتا.

وتتضمن البرامج التدريبية لهذا الفن خليطا من العلوم والفلسفات الهادفة لإعادة صياغة صورة الواقع في الذهن بحيث تنعكس على تصرّفاته، وهي برامج انتقائية تجمع نظرياتها من علم النفس السلوكي والمعرفي وفنون الإدارة وغيرها؛ لذلك تشمل بعض التمارين النفسية أو العلاجية الصحيحة، غير أنها تحتوي كذلك على فرضيات غير مثبتة ونظريات مرفوضة علمياً بينما تُقدم على أنها حقائق علمية. كما تكمن خطورتها في تسريب بعض مفاهيم الفلسفة الباطنية، وإقناع المتدربين بالإمكانات غير المحدودة التي يمكن تحصيلها عن طريق العقل الباطن، وتدريبهم على الدخول في حالة اللاوعي لإحداث التغيير الإيجابي في النفس من دون قيود العقل.

5- الماكروبيوتيك Macrobiotics: هو فلسفة باطنية تقدم في شكل برامج للتثقيف الصحي والعلاج البديل، وتُشرح فيها بشكل صريح فلسفة الحياة بالاعتماد على الإيمان بالطاقة الكونية، وضرورة إعادة نظم الحياة والمأكل والملبس والرياضة وتصميم المنزل بما يوصل إلى التناغم مع الطاقة الكونية والوصول للسمو الروحي والشفاء الجسدي.

يصف هنري تينك في مجلة لوموند [العدد مارس/آذار 2000] حركة العصر الجديد بأنها أفكار ضبابية تخلط مخلفات الروحية الباطنية القديمة مع الطرق الحديثة في التركيز والاسترخاء وشحن طاقة الإنسان، وتضعها جميعا في إطار وثني معاصر، مع إبقاء فكرة الإله غامضة وفتح الباب لتقبّل وجود كائنات غيبية غير مرئية مثل الأرواح والأشباح والكائنات الفضائية. ونضيف على هذه القائمة الشياطين من عالم الجن.

وتركز المستويات الأولى من برامجها على الغذاء عبر مفاهيم الطاقة الكونية وثنائية الين واليانغ، وما يتعلق بذلك من اعتماد خصائص غيبية للأطعمة مثل ربط الخواص الروحانية المزعومة للنبات بروحانيات مماثلة للكواكب، وهي أفكار كانت تُعرف قبل قرون بأنها داخلة في باب السحر لكنها تُقدم اليوم على أنها علم. ثم تترقى برامج الماكروبيوتيك التدريبية ليتعمق المتدرب في الفلسفة الباطنية بشمولها ويمارس تطبيقاتها في كل مجالات حياته، بهدف استجلاب الطاقة الكونية لتحقيق الصحة والسعادة.

______________________________________________

أهم المراجع

– Historical Dictionary of New Age Movements ,Michael York.

– New Age encyclopedia, Belinda Whitworth.

– The New Age: The History of a Movement, Drury, Nevill.

-Christian Responses to the New Age Movement, John A. Saliba.

– Taoism: Growth of a Religion, Isabelle Robinet.

اليوغا

اعتبر كثير من الفلاسفة القدماء أن العناصر الخمسة التي تتكون منها كل المواد في العالم (الماء، النار، الأرض، الهواء، السماء “الأثير”) أو (الماء، النار، التراب، المعدن، الخشب) تتحرك باستمرار وبتناغم دائري داخل الجسم، ففسيولوجيا الجسم الإنساني ليست سوى صورة مطابقة للكون، ولذا أكد حكماء اليوغا على ضرورة معرفة هذه العناصر داخل الجسم والعمل بها.

وطريقة تفكيرهم هذه تفترض أن كل ما يوجد في الخارج له ما يقابله في الداخل؛ أي أن كل عنصر من العالم الروحي يجب أن يكون له صداه في العالم المادي، وهذا يفسر إمكانية وجود تطور روحي يتم من خلال الجسم.

انتشرت الدعوة إلى اليوغا في بعض البلاد الإسلامية وغيرها، وأقام بعض دعاتها مجموعات ومدارس لتعليمها، وألفوا أو ترجموا في سبيل نشرها والدعوة إليها العديد من المؤلفات. فكثير من الناس يعتقد أن اليوغا ليس لها أساس في الديانتين الهندوسية والبوذية، أو أنها غير متعلقة بهما، وأنها ليست سوى رياضة تعتمد على التأمل والتفكير، لكي توصلهم إلى الراحة النفسية والفكرية والجسدية، ويتجاهلون بذلك الأسس الثمانية التي وضعها الحكيمان باتنجالي وسوامي شيفاناندا، وغيرهما من الحكماء الهنود سواء من الهندوس أوالبوذيين.

ولمعرفة المزيد عن اليوغا والتحقق من كونها مجرد تمارين رياضية روحية أم شعائر تعبدية فلسفية، ينبغي أن نتعرف على نشأتها وعلاقتها بالديانات الأخرى.

التعريف والنشأة
نشأت اليوغا في وادي السند (شمال الهند وباكستان حاليا) خلال الفترة 3300 –1700 قبل الميلاد، وهي مستمدة من جذور كلمة “يوغ” السنسكريتية التي تتألف من عدة معان، منها المراقبة والعبودية لأنَّها تخلّص النفس من قيود الجسد والعبودية للشهوات.

تمثال لبوذا في حالة تأمل

وفي الأدبيات البوذية، يستخدم مصطلح “التأمل” بدلا من “يوغا”، إلا أن مصطلح “يوغا” أصبح شائعا حول العالم، ولم يعد من السهل اعتماد مصطلح آخر بنفس المعنى .

واليوغا هي طريق لتسهيل الاتحاد بالنفس الكلية، عن طريق رياضة روحية وجسدية، أو عن طريق القرابين. وتذهب اليوغا إلى أنَّه لا تكفي حياة واحدة لإدراك هذا الاتحاد، فحسب مبدأ “الكارما” قد تتطلب أفعال الإنسان السيئة ولادات متتالية في صور إنسانية أو حيوانية [انظر مقال الهندوسية والبوذية].

فاليوغا تعني تجميع القوى وتركيزها وممارسة التمارين العملية التي تؤدي إلى الاتصال بين الروح والآلهة. وبما أن نظام اليوغا يضع التأمل في محور تعليمه وممارسته، فهو يولي أهمية بالغة لكل طرق الخلاص التي ترتكز على التأمل والاستغراق.

يقوم محتوى الخلاص على تطهير الروح تطهيرا كاملا من كل الأدناس الأرضية، بحيث تكتشف ذاتها في شكلها الصافي، أو توضع في حالة تمكّنها من أن تعيش مع المطلق (الإله) وتصل إلى الاتحاد به. وهذه الحالة التي تتجاوز الوجود الأرضي تجاوزاً “لامتناهيا” تعجز الكلمات البشرية عن وصفها.

وفي الخلاصة، يمكن القول إن اليوغا هي مجموعة من الشعائر الروحية القديمة التي نشأت في الهند، وإنها كمصطلح عام في الهندوسية تشير إلى منهج عملي وممارسات محددة تجمع بين التصوف والزهد والتأمل، وهي تسعى للحصول على خبرة روحية خاصة وفهم عميق جداً للحقائق الكبرى في الوجود والتحكم الواعي في الكثير من مناحي الحياة.

أهم طرق اليوغا
تتنوع طرق ومدارس اليوغا المعتمدة حاليا، وهي أشبه ما تكون بالمدارس والمذاهب في الديانات، وتعود في الأصل إلى يوغا ساتراس التي أسسها الحكيم باتنجالي. وتعتمد هذه المدارس على الجانبين الفكري والعملي، حيث يهتم الأول منهما بالتحرر الروحي دون أن يشترط الإيمان المطلق، بل يحذر المعلمون منه. أما الجانب العملي فيتضمن التمارين البدنية والتحكم بالتنفس، بالإضافة إلى الفنون الأخرى، وفيما يلي موجز عن طرق اليوغا الأساسية الأربعة:

1– بهاكتي يوغا: تؤكد هذه الطريقة على استثمار المحبة للوصول إلى حالة الكمال الروحي من خلال عبادة الإله مباشرة، وذلك بتنقية العقل وتكرار اسم الإله وذكر صفاته العديدة مثل راما وكريشنا، وذلك من خلال شعائر تسمى “جابا”.

2– غنانا يوغا: تهتم هذه الطريقة بطرح الأسئلة الفلسفية الوجودية والإجابة عليها من المنظور البوذي، حيث تحاول الإجابة على أسئلة من قبيل: من أنا؟ ومن أين أتيت؟ كيف وُجِدت ولماذا؟ وإلى أين أمضي؟ ومن خلال سلوك هذا الطريق العقلاني والتجرد عن كل أنواع التعلق المادي في الحياة يحاول الممارس الحصول على الخلاص الروحي واكتشاف المُطلق والتوحد به.

وحسب الفلسفة البوذية فإن المطلق يحمل صفات الإله نفسه، فهو العلة التي لا علَّة لها، وهو كُلي القدرة والمعرفة والحضور، لذا فهو يتجلى للإنسان في صور ثلاث، هي المادة (صفة الحضور الكلِّي)، الطاقة (صفة القدرة الكلِّية)، والوعي (صفة المعرفة الكلِّية)، ومن خلال هذه الصفات يحاول الممارس إدراك المطلق بالتأمل في باطنه هو.

وتتضمن هذه العقيدة أيضا الاعتقاد بنظرية الفيض التي نجدها عند الأفلاطونية الحديثة، والتي تقول إن الوجود كله ليس سوى فيضًا من المطلق وصدورًا عنه وتجليًا له، فالإله لا يخلق مباشرة بل يفيض. كما نجد في هذه العقيدة فكرة وحدة الوجود التي يعتقد صاحبها أن بإمكانه الاتحاد بالمطلق (الإله)، ولا يتحقق هذا الاتحاد إلا بعد التخلص من الأنانيات الفردية (الأنا) التي تعد مؤقتة وغير حقيقية، والتأمل في جوهر الإنسان وهو النفس (أتمان)، والارتباط بالأتمان الجماعية الموجودة في كل الأشخاص وفي النفس الأزلية للإله. [انظر مقال الباطنية].

3- كارما يوغا: تركز هذه الطريقة على الجانب العملي من الحياة، فالتوازن العقلي والتخلص من الأنانية الفردية والاتحاد بالمطلق هي أهداف لا تتحقق سوى بالعمل، ولا يقصد بالعمل هنا المهنة التي يُكسب بها الرزق، بل العمل لأجل الحياة، فينبغي على الممارس أن يعمل من أجل العمل وحده دون التفات إلى ما سيجنيه من ثمار.

4- راجا يوغا: وتعني “اليوغا الملكية”، وهي أرقى الطرق وأكثرها تعلقا بالعقائد والأساطير البوذية، حيث تهتم بتحصيل الحقائق الروحية من خلال التأملات والسيطرة على الأفكار والأفعال ومقاومة الغرائز واعتبار العقل سلطانا على الحواس. وغالباً ما تعرف هذه الطريقة باسم “اليوغا سوترا”، ويسعى الممارس لها إلى الوصول للمعرفة الذاتية ومعرفة الإله والحقيقة المطلقة.

وتعود هذه الطريقة إلى الحكيم باتنجالي الذي يعد المؤسس الأول لليوغا، حيث وضع قبل 2300 سنة خطوات ثمانية يجب على كل تلميذ ومعلم التقيد بها لتنقية جسمه وعقله والسير بهما في طريق الاستنارة، ويمكننا اختصارها كالآتي:

1- ياما (المحرمات)، وتتضمن خمس خطوات هي: عدم العنف، الصدق، عدم الاشتهاء، العفة، عدم السرقة.

2- نياما (الأوامر)، وتتضمن: نظافة الهيئة والعقل، القناعة، التقشف، محاسبة النفس، الاستسلام لله.

3- أسانا (هيئات الجسم)، ويصفها الحكيم باتنجالي بأنها الوقفات أو الوضعيات المستخدمة لجلسات التأمل، وهي تساعد على توفير الطاقة والعلاج من الأمراض والمرونة، وقد اشتقت منها الرياضات الأخرى، وتتضمن 84 وضعية تهدف إلى فتح الطاقة الكامنة تحت العمود الفقري والملتفة على هيئة أفعى.

4- براناياما (السيطرة على التنفس)، وتهدف إلى دعم قوة الحياة أو الطاقة الحيوية (البرانا).

5- براتياهارا (التجريد): وهي بداية التدرب على انسحاب الحواس من إدراك الأجسام الخارجية عبر السيطرة على العقل والتركيز على الحساسية الفائقة للعقل لجميع ما يحيط به.

ونستنج من الأسس الخمس السابقة أنها أسس خارجية، تهتم بالوضع الخارجي للجسم كتنظيفه وتعويده على التقشف وتدريبه على مساعدة الجزءالأصعب وهو الجسم الداخلي، وهو ما يأتي في الأسس الثلاث التالية التي تتطلب قوة التركيز وشدة التأمل، وتتطلب أيضا الاتصال الكلي بمكون الكون، ونلخصها فيما يلي:

1- دارانا (التركيز): هي الخطوة الأولى لتركيز الاهتمام بشيء معين، كضوء شمعة مثلا أو تمثال، ويتم عن طريق العين الثالثة.

2- دايانا (التأمل): تدعى هذه المرحلة بالتأمل الصامد، حيث يحاول المتدرب أن يوسع دائرة وعيه وحساسية عقله، فيتأمل في الطبيعة والكون كله وليس شيئا واحدا فقط.

3- سامادي (الاتصال بالإله)، وهي المرحلة الأخيرة التي يصل بها المتأمل إلى التحرر أو الوحدانية، وتتطلب دمج الوعي بموضوع التأمل، بما يحقق السيطرة التامة على العقل والجسم والروح.

من خلال ما سبق وعلى الرغم من أن اليوغا تُقدّم في كثير من النوادي الصحية والمستشفيات في العالم -ومنها بلاد المسلمين- على أنها رياضة للجسد واللياقة، ومع أن المدربين يحاولون غالبا قطع الصلة بين الفلسفة التي تقوم عليها اليوغا وبين حركاتها الرياضية، إلا أنها ليست مجرد رياضة يمكن لأي شخص ممارستها، حتى وإن بدت كذلك في مراحلها الأولى، بل تتضمن شعائر دينية تتوجه إلى الفكر والعقل من خلال الاعتقاد والتأمل والتركيز.

اليوغا والهندوسية
تهدف الشعائر الهندوسية إلى الاتحاد بالإله المطلق (براهمان)، وغايتها السموّ بالعقل والروح إلى حالة من السعادة القصوى، وذلك بإبعاد المرء نفسه عن الشهوات الجسدية والمادية وإنقاذه من كل النوازع الأرضية حتى يصل إلى حالة من القداسة والصلاح تسمى “الموكشا”.

ويتطلب الوصول إلى هذه الحالة الالتزام بالصلاة وترتيل الأناشيد المقدسة (مانترات) والتأمل الروحي، مع الصوم عن الطعام والشراب والكلام والجماع، والتركيز الذهني على شيء معيّن دون تشتت التفكير بالأمور المادية والدنيوية والجسدية العديدة. ويُسمى الناسك الممارس لليوغا بالقديس “المهاتما”، أو صاحب الروح الصالحة أو الروح الكبيرة.

لذلك يركز الهندوس اهتمامهم على النفس لأن النفس في معتقدهم يمكن أن ترقى إلى الكمال، أما البدن فسِمته النقص، ولكي يحقق الجسد درجة ما من التطهير ينبغي عليه أن يستغل وجود الروح فيه، ولهذا قالوا بحرق البدن بعد الموت، والموت عندهم نهاية لا تجدّد لها. ومع أن النفس عند الهندوس كاملة إلا أنها لا تخلد كجوهر مستقل، وإنما يتم خلاصها عن طريق ممارسة اليوغا، والتي تتضمن القسوة على البدن وتدريب النفس على الصبر والثبات.

ويصل المرء في ممارسة اليوغا إلى المشاعر والأحاسيس الداخلية في الأعماق للتخلص من الضغوط العصبية والنفسية، وإلى الالتحام الكامل بين العقل والجسد. والهدف بطبيعة الحال هو الوصول إلى حالة من السموّ الروحي والصفاء الذهني، بعيداً عن التأثيرات النفسية والعصبية اليومية، لذا تمارَس اليوم كعلاج لأمراض نفسية من قبل بعض الأطباء النفسيين في الغرب.

يؤمن الهندوس بوجود طاقة أزلية اسمها “برانا”، وهي منبثقة عن الأصل الأول للوجود “براهمان”، لكنها ليست مخلوقة بل هي قديمة بلا بداية. وبما أن الهندوسية دين حلولي يؤمن بحلول الإله (المطلق) في الكون والإنسان فإن البرانا بمثابة روح هذا المطلق التي تسري في الكون. وعليه فإن دور اليوغا يتلخص في استجلاب هذه الطاقة وشحن الجسد والنفس بها.

اليوغا والبوذية
ظهرت البوذية كمذهب تصحيحي في إطار الديانة البراهمية بدعوتها لنبذ الطبقية مع بعض التعديلات العقائدية، وهي تعتمد أيضا على اليوغا لإخضاع الإنسان لنظام تعبدي يحقق له تحرير النفس من الارتباطات الجسدية والمادية وبلوغ “الاستنارة”.

وتؤكد سيرة حياة مؤسس البوذية سيذهارتاغوتاما (بوذا) أنه درس اليوغا على يد الرهبان البراهمة كجزء من المقرر الفلسفي المفروض على التلاميذ، وذلك في الفترة التي قضاها في جبال الهمالايا قبل أن يصبح معلما، ويعتقد أنه صاغ مبادئ اليوغا على طريقته الخاصة قبل ظهور كتاب “بْهاغافاد غيتا” الذي يعد من أقدس الكتب الفيدية لدى الهندوس.

ويمكن القول إن اليوغا هي الجسر الذي يربط بين الهندوسية (الديانة الأم) والبوذية التي انشقت عنها في القرن السادس قبل الميلاد، بالرغم من وجود عوامل مشتركة أخرى بينهما، مثل مبدأ عدم العنف (أهيمسا) ومبدأ التركيز والاستنارة.

وتظهر في منطقة التيبت الصينية آثار اليوغا البوذية بوضوح أكبر، وذلك لتأثير التانترا الهندوسية -التي تتلخص في عبادة شاكتي (التجسد الأنثوي للآلهة)- على التقاليد هناك، ونجد آثار هذه الشعائر في السيطرة على النظام الخاص بالنبضات القلبية والحركات الجسدية التي تتضمن 108 وضعيات جسدية، وتستعمل هذه الأساليب اليوم من قبل الرياضيين للسيطرة على العقل، وكذلك في بعض الرياضات الروحية في الغرب، وحتى في جلسات تحضير الأرواح والسحر والشعوذة وعبادة الشيطان، ولا سيما تلك التي تدمج الأفعال الجنسية بالتأمل.

لا تتضمن البوذية شعائر للصلاة والتعبد كما في الهندوسية، ولكنها تحتوي على خمسة أنواع من التأمل التي يمكن أن تحل محلها، وهي:

1 ـ ميتاـ بهافتا (التأمل في الحب): وهو التأمل في الكائنات والدعوة إلى سعادتها.

2 ـ كاروناـ بهافاتا (التأمل في الشفقة): وهو المشاركة في حزن الآخرين.

3 ـ موديتاـ بهافاتا (التأمل في الفرح): وهو التأمل الذي يبهج الآخرين بالمشاركة في ما يفرحهم.

4 ـ أسوبهاـ بهافاتا (التأمل في المدنسات): وهو التأمل في أهوال المرض والموت.

5 ـ أبكاـ بهافاتا (التأمل في الهدوء): وهو التأمل في المتناقضات مثل الخير والشر، والغنى والفقر، والصحة والمرض.

تتطلب جلسات التأمل من الممارس أن يجلس وساقاه مضمومتان ومثنيتان، بحيث يكون الظهر منتصباً والرأس مرفوعاً ومحاطاً بهالة التفكير، وأن يبحث عن نقطة معيّنة ليركز فيها.

وتتلخص مراحل التأمل خلال الجلسة في البدء بتحقيق درجة كافية من الثقة عبر التحرر من الجسد، ثم بلوغ الصحوة بالتحرر من الرغبات والغرائز وتمني الخير لجميع الكائنات، ثم الاستغراق والتخلص من الألم وصولا إلى تعطيل الإحساس، ومع نجاحه في تنظيم التنفس والانفصال عن كل الأشياء باستثناء التنفس يحقق العقل سيطرته على الحواس، فتتركز الأفكار والحواس كلها في نقطة واحدة بما يسمح للممارس –حسب معتقدات اليوغا- العودة للماضي لاسترجاع الذكريات أو الإبحار في المستقبل للتنبؤ وغير ذلك.

وتسمى حالة الاستغراق والتحرر التام بالنيرفانا التي تقابل الموكشا لدى الهندوسية، وهي تعني التحرر من دائرة الحياة التي تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت. ويهدف الممارس من خلالها للوصول إلى ولادة ثانية، وذلك عبر كبت شهواته الجسدية وغرائزه النفسية والتخلص من آلامه ومعاناته في الحياة اليومية.

وتعود هذه الفكرة إلى أسطورة التناسخ في الديانة البوذية، والتي ترى أن روح الإنسان تتناسخ منذ ولادته وحتى موته، وأنه لا بد من التحرر الكامل من كل المعوقات لتحرير العقل والروح والوصول بهما إلى الحقيقة والاستنارة، وبذلك ينجح الإنسان في كسر قيود التناسخ.

اليوغا والطاوية والكونفوشية
تعد الطاوية (أو التاوية) بمثابة الوعاء للأديان والأساطير التي تراكمت في الصين على مدى قرون، وقد أعاد جمع وترتيب أصولها الفيلسوف لاوتسي في القرن السادس قبل الميلاد، ثم التقى به الفيلسوف كونفوشيوس وتلقى عنه الكثير من مبادئه قبل أن يضع فلسفته الكونفوشية الرائجة حتى اليوم في من الصين وأجزاء من  كوريا واليابان وفيتنام.

وتلتقي الطاوية والكونفوشية مع الهندوسية والبوذية (الهنديتان) في الكثير من المبادئ العقائدية، إلا أن الأديان والفلسفات الصينية تميل أكثر إلى الاهتمام بالجوانب الأخلاقية والسياسية والاجتماعية.

وكما تؤمن الهندوسية والبوذية بأن المطلق الأزلي براهمان صدرت عنه بالفيض والتأمل بيضة أو زهرة لوتس ثم خرجت منه بقية الآلهة وكل الموجودات، فإن الطاوية ترى أيضا أن الأصل المطلق (طاو) انبثقت عنه “بيضة كونية”، ثم انقسمت إلى نصفين، فتكونت الأرض من نصفها السفلي الثقيل المظلم (ين)، وتكونت السماء من نصفها العلوي الخفيف المضيء (يانغ)، ثم تشكل بينهما الإنسان الأول بان كو.

الين واليانغ

وتركز الطاوية جل اهتمامها على التوازن الافتراضي بين الين واليانغ، كما تزعم أن الطاقة الكونية “برانا” أو “تشي” ما زالت سارية في الكون كما تسري الروح في الجسد، ولكي تستمر حياة الإنسان فإن على الجسم أن يمتلك البرانا أو التشي، وإلا فإن أي نقص سيؤدي إلى خلل في توازن النقيضين الين واليانغ ومن ثم إصابة الإنسان بالأمراض الجسدية والنفسية.

يقول تشوا كوك سوي في كتابه “المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة” إن هناك ثلاثة مصادر رئيسية لطاقة الحياة، وهي طاقة الحياة الشمسية التي يمكن الحصول عليها عبر التعرض لأشعة الشمس، وطاقة الحياة الهوائية التي يمكن امتصاصها من الهواء عن طريق الرئتين، وطاقة الحياة الأرضية الموجودة في باطن الأرض وتُمتص عن طريق باطن القدم بالمشي دون حذاء. ووفقا للطب الحديث فإن هذه الافتراضات لا يدعمها أي دليل.

يقوم الطب الصيني التقليدي على فكرة إعادة التوازن الطبيعي للين واليانغ إلى الجسم، ويعتقد ممارسوه أن الوخز بالإبر الصينية يساعد على تفعيل مسارات الطاقة (شاكرات) التي تمر بالجسد وفقا لخريطة محددة، كما يعتقدون أن كل التمارين الرياضية والأدوية والأطعمة الصحية تستمد منفعتها من خلال علاقتها بالطاقة وبتوازن الضدين، وما زال الصينيون حتى اليوم عاجزين عن تقديم أدلة علمية على ارتباط هذه العوامل بالطاقة الكونية التي لم يثبت وجودها علميا.

لذا تُصنف تطبيقات الطاوية ومثيلاتها على أنها “علوم زائفة” حتى لو كانت نتائجها سليمة، لأن ربط النتائج المحسوسة بمسببات غيبية مزعومة هو مجرد افتراض وهمي لا يدعمه أي دليل حسي ولا عقلي ولا نقلي (وحي محفوظ مصدره الإله).

ومن أهم هذه التطبيقات المنتشرة اليوم الريكي والبرانا والبرانيك هيلنغ والتشي كونغ والتاي تشي والفانغ شوي والماكروبيوتك، وهي جميعا تلتقي مع اليوغا في الاعتقاد بوجود طاقة كونية انبثقت عن الإله الأول (براهمان) أو (طاو).

ويجب الانتباه إلى أنه لا يصح تفسير أي تغير محسوس (المرض أو الشفاء) بوجود عامل غيبي مفترض (طاقة كونية أو ين ويانغ) عندما تغيب العوامل الحسية، لأن احتمالات هذا التفسير مفتوحة بلا ضوابط، فعلى سبيل المثال إذا لم نستطع إيجاد سبب محسوس لألم أصاب أحدنا في يده، فيمكن لأي كاهن أن يزعم أن هناك وحشا خفيا يعضّ على هذه اليد بأنيابه، وإذا قام هذا الكاهن بطقوس لطرد الوحش المزعوم ثم زال الألم لسبب نجهله كما نجهل سبب الألم نفسه؛ فهذا لا يعني أن الوحش الخفي كان موجودا بالفعل وأن طقوس الكاهن كانت ناجعة. فعالم الغيبيات لا يمكن الحكم عليها إلا بمصدر مفارق، وهو الوحي الذي تثبت الأدلة الحسية والعقلية أنه صحيح وموحى به من الإله.

يستهل تشوا كوك سُوي مؤسس البرانيك هيلنغ كتابه “المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة” بقوله “أنت ممتلئ بأفكار وآراء مسبقة. لكي تتعلم، عليك أن تفرغ كأسك”. وهذا يعني أن تعلم فلسفات الطاقة لا ينجح سوى بتجريد المتعلم من عقيدته الدينية وقواعده العلمية أولا، لأن هذه الفلسفات تقوم على مسلّمات باطنية لا تقبل النقاش ولا يُستدل عليها بعقل ولا نقل، كما أنه لا يمكن الجمع بينها وبين الإيمان بعقائد أخرى.

الماكروبيوتك
هو أسلوب في تناول الطعام وطريقة الحياة يقوم على فلسفة الين واليانغ والعقائد الهندوسية والطاوية، وبما أن هذه الأديان تحرّم تناول اللحوم (انظر مقال الهندوسية والبوذية) لاعتقادها بأن الحيوانات تحمل أرواح الموتى، فإن الماكروبيوتك يحاول تقديم أسلوب المعيشة النباتي في إطار صحي، مع أن الطب الحديث يؤكد أن الاكتفاء بالمصادر النباتية لا يكفي لصحة الإنسان ونموه.

يصنف معلمو الماكروبيوتك كل النباتات والأطعمة من حيث كونها أقرب إلى الين أو اليانغ، ويطالبون مريديهم بموازنة الطعام وفقا لهذا التصنيف الغيبي على افتراض أنه الأكثر موائمة للطبيعة، ويرتبط هذا التصنيف بالقدر الذي يحتويه الطعام من الدسم والكثافة والحلاوة، وبالمكان الذي تنمو فيه النباتات من حيث الحرارة والبرودة، ومع أنهم لا ينصحون بتناول اللحوم إلا أنهم يصنفونها وفقا للبيئة التي تعيش فيها، أو حتى وفقا للارتفاع الذي تحلق فيه الطيور، وهذه العوامل كلها ليس لها علاقة بالعلم.

ومع أن بعض الأنظمة الغذائية التي يقدمها مدربو الماكروبيوتك تحقق فوائد معينة، ولا سيما في مجال الحمية وتخفيف الوزن، مما يكسبها رواجا لدى النجوم ومعجبيهم، إلا أن الجهات العلمية المعتمدة في أمريكا الشمالية وأوروبا تحذر من خطورة هذه الأنظمة ولا سيما على صحة الأطفال والنساء الحوامل والمرضى.

اليوغا والعبادات الشيطانية
سبق أن أوضحنا في مقالات القبالاه والباطنية والهندوسية والبوذية التداخل بين هذه الأديان وعبادة الشيطان، وبما أن اليوغا تتقاطع مع تلك الأديان في العقيدة والسلوك فهي في كثير من جوانبها ليست سوى إحدى وسائل الاتصال بين الإنسان والشياطين.

فعلى سبيل المثال، يعد تمرين “سوريا ناماسكارا” أحد أشهر التمارين التي عولمتها اليوغا في أنحاء العالم، وهو يعني باللغة السنسكريتية “تحية الشمس بثمانية أعضاء”، حيث يؤدي المتدرب عند شروق الشمس وغروبها حركات ووضعيات يلامس فيها الأرض بقدميه وركبتيه ويديه وصدره وجبهته، وهي تشبه طقوس عبادة الشمس في بعض الوثنيات القديمة.

وفي الإسلام، نهى النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن أداء الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، مع أن الصلاة الإسلامية تؤدى لله وحده، والسبب كما في الحديث النبوي أن الشمس “تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار”، وقد فسر علماء مسلمون ذلك -مثل النووي وابن قتيبة- بأن الشيطان يدنو من الشمس أو يقف في جهتها عند هذا الوقت فيسجد له أتباع تلك الديانات بسجودهم للشمس.

(yogasuggestion.com)

وكما هو حال طقوس القبالاه التي تسعى لما تسميه بالاستنارة، وهو الاتصال بحامل الضوء “لوسيفر” (الشيطان)، فإن الاستنارة التي يصل إليها الكثير من محترفي اليوغا ليست سوى اتصال بالشياطين، وكثيرا ما يحدث ذلك دون أن يعلموا بأن له علاقة بعالم الشياطين، ولا سيما من قبل الممارسين الذين يؤمنون بالأديان السماوية. ففي كتاب “معجزات الشفاء البْراني” يقول المعلم العالمي تشوا كوك سوي إن “أصحاب الجلاء البصري” يمكنهم أن يروا بأعينهم عمودا من نور، وإن الأشخاص الروحيين الذين مارسوا التأمل لمدة أطول يمكن أن يشعروا بأنهم غُمروا بنور يحير أبصارهم من شدة ضيائه، حسب تعبيره.

كتب سوي تحظى بترويج كبير في المكتبات العربية

وهناك الكثير من التجارب التي تعرض لها ممارسون مسلمون ومتدينون وقالوا إنهم بلغوا فيها درجة الاستنارة ورؤية الضوء الغامر، بل ورؤية كائنات شفافة (أرواح المعلمين كما يزعمون)، وهي ليست سوى كائنات شيطانية. ففي العقيدة الإسلامية لا يمكن لأرواح الموتى أن تعود إلى الدنيا للتواصل مع البشر الأحياء في عالم اليقظة، كما لا يمكن لروح الشخص الحي أن تفارقه بشكل إرادي -كما يزعم أصحاب نظرية الإسقاط النجمي- وأن تتجول في أي عالم كان.

يقول تشوا كوك سوي “إن هذا الشعور شائع عند معظم ممارسي اليوغا المتطورين والقديسين والصالحين في جميع الأديان”، وهذا يعني أنه لا يهم الانتماء الديني طالما كانت اليوغا توحد الجميع تدريجيا تحت مظلة وحدة الأديان وتمييعها، حيث يضيف الكاتب نفسه “مثل النحل حينما يجمع العسل من مختلف الأزهار، فإن الرجل الحكيم يقبل جوهر الكتب المقدسة المختلفة، ويرى الخير فقط في كل الديانات”.

وبينما تسعى حركات العصر الجديد إلى تهيئة العقول والنفوس للعصر الذي يتجلى فيه لوسيفر كما تقول مؤسسة جمعية الثيوصوفيا “الحكمة الإلهية” هيلينا بلافاتسكي [انظر مقالَي الجمعيات السرية والهندوسية والبوذية]، فإن اليوغا هي إحدى الوسائل الأكثر نجاحا في الانتشار العالمي. وهذا ما يبشر به تشوا كوك سوي عندما يتنبأ قائلا “في المستقبل القريب سيكون المعالجون وملائكة الشفاء أكثر فعالية وتعاونية لإحداث الشفاء الخارق أو المدهش و على أوسع نطاق”، وينقل عن غوستاف سترومبرغ قوله “سيأتي الزمن الذي ينجز العلم فيه التقدم الهائل، ليس بسبب تحسن الأدوات المساعدة على الاكتشاف وقياس الأشياء، بل بسبب وجود أشخاص قليلين يملكون تحت سيطرتهم قوى روحية كبيرة، والتي نادرا ما تكون في الوقت الحالي مستخدمة. وخلال عدة قرون، فإن فن الشفاء الروحي سيتطور بشكل متزايد وسينتشر استخدامه على مستوى الكون”.

ويمكن أن نرى في العالم الإسلامي بوضوح سرعة انتشار اليوغا خلال السنوات القليلة الماضية، حتى أصبح الكثير من المتدينين والمحجبات يمارسونه في الحدائق العامة ويتباهون به وكأنه أحد مظاهر الانفتاح، حيث أضيفت إلى اليوغا بعض التعديلات والمصطلحات في أساليب التطبيق، بل وصل الأمر بالبعض إلى محاولة تأصيله إسلاميا.

وقد صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 ديسمبر 2014 بالإجماع على اعتبار 21 يونيو من كل عام يوما دوليا لليوغا.


أهم المراجع
تشوا كوك سوي، معجزات الشفاء البراني: كتاب عملي للشفاء بالطاقة، ترجمة باسل ديب داود، دار الخيال، 2009.

تشوا كوك سوي، المعالجة المتقدمة بطاقة الحياة، ترجمة باسل ديب داود، دار الخيال، 2014.

ميشيو كوشي، أسلوب الماكروبيوتك، مكتبة جرير، الرياض، 2003.

هيفاء بنت ناصر الرشيد، التطبيقات المعاصرة لفلسفة الاستشفاء الشرقية (رسالة ماجستير).

أحمد شلبي، أديان الهند الكبرى، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.

حميد فوزي، عالم الأديان بين الأسطورة والحقيقة، دار حطين للدراسات والترجمة، 1993.

عادل تيودور خوري، مدخل إلى الأديان الخمسة الكبرى، المكتبة البولسية، بيروت، 2005.

ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود، دار الجيل، 2010.

Patanjali, The Yoga Aphorisms, An interpretation by William Q. Judge, The Theosophy Company, Los Angeles, 1973.

Gabriel Monod-Herzen, Le Yoga et les yoga, Éditions du Rocher, Monaco, 1978.

الوثنية وتعدد الآلهة

استعرضنا في مقال “الإنسان والدين” رواية الوحي والنظريات اللادينية لنشأة الدين، وأوضحنا أن الرواية الثانية تنطلق من منظور إلحادي في تفسيرها لنشوء كل العقائد والجوانب الروحية والشعائر والممارسات السحرية في حياة البشر، وسنتابع في هذا المقال تطور هذه العقائد والعبادات من منظوري الوحي والنظريات اللادينية بعد نشوء الحضارة وظهور الكتابة والتاريخ.

ولا بد لنا من مراجعة الفارق بين الروايتين والخلل في المنهج، حيث لا نجد في أي كتاب علمي حديث وصفا “علميا” يمكن الركون إليه عن نشأة الدين، والسبب ببساطة يعود إلى أن العلماء يبنون نظرياتهم بهذا الشأن على أساس من التخمين، فلم يترك لنا البشر الأوائل أي أثر مكتوب عن نشأة معتقداتهم، بل تركوا وراءهم وصفا أدبيا لأساطيرهم على هيئة ملاحم أدبية، بجانب ما بقي من المعابد والتماثيل والصور (الأوثان) التي كانوا يقدسونها، أما تفسير نشوء المعتقد نفسه ودوافعه فليس هناك أي دليل تاريخي عليه.

تعود هذه المشكلة إلى المنهج العلمي نفسه، حيث تقوم جميع الأبحاث العلمانية في نشأة الأديان ومقارنتها -وهي الأبحاث التي توسم وحدها بأنها علمية- على فكرة مفادها أن “العلم” يقتضي عدم البناء على أي نص ديني، ويمكن أن تُقبل هذه القاعدة طالما كان العلم التجريبي يبحث في أمور مجردة، بحيث يتوصل العلماء من كل الأديان على نتائج التجربة العلمية، إلا أن المشكلة تبدأ عندما يصر الباحث على اعتبار العلم التجريبي مصدرا وحيدا للمعرفة في كل شيء وأنه لا وجود للحقيقة إلا في إطار المادة والتجربة، ففي حال غياب أي معلومة علمية تجريبية عن نشأة الإنسان الأول ومعتقداته لن يكون “العلم” مفيدا ولا قادرا على تقديم أي جواب سوى التخمين، والمشكلة لا تكمن في التخمين فقط بل في افتراض أن أي تفسيرات غيبية لنشوء الكون والحياة والدين هي غير مقبولة طالما أنه لا يستطيع اختبارها بأدواته المحدودة، والمؤسف أن تصر المؤسسات العلمية حول العالم على منح “العلم” هذا الدور التخميني والمضي فيه إلى أبعد مدى، حتى باتت كتب الأكاديميين الكبار تخلط بين العلم والفلسفة.

انطلقت الأبحاث العلمانية لنشأة الدين من نظرية التطور (الداروينية) باعتبارها التفسير “العلمي” الوحيد لنشأة الإنسان [انظر مقال “وجود الله“]، وعليه فإن نظريات نشوء الدين تدور حول رغبة الإنسان الأولى في اكتشاف العالم والبحث عن أجوبة شافية للأسئلة الوجودية الكبرى وتفسير الظواهر الطبيعية، دون تطرق لاحتمال أن يكون هذا الإنسان قد خُلق من قبل إله واعٍ وأنه منحه المعارف الأولى منذ وجوده على الأرض ليتمكن من العيش وإعمار الأرض.

إدوارد تايلور

هيمنت أفكار الأنثروبولوجي الإنجليزي إدوارد تايلور التطورية على الفكر الأنثروبولوجي خلال القرن التاسع عشر، فكان يزعم أن “الإحيائية” Animisme هي الشكل الأولي الوحيد للدين الذي تطور عبر العصور خلافا لباقي الأشكال الأخرى، وصار شائعا لدى الباحثين في الأديان تفسير كل ما يتجمع لديهم من معلومات عن حياة المجتمعات غير الغربية –التي سموها بالشعوب البدائية- من منطلق التطور.

في الوقت نفسه، زعم جيمس فريزر أن الدين تطور مع ظهور الزراعة في عصور ما قبل التاريخ، وأن البشر تطوروا بتطور عقولهم عبر ثلاث مراحل، هي السحر البدائي ثم الدين وصولا إلى العلم. ووافقه في ذلك أوغست كونت وفريدريك هيغل، أما إميل دوركهايم فرأى أن الدين نشأ بتقديس القبائل “البدائية” لما يسمى بالطوطم، وهو رمز (أيقونة) حيواني كان يُشكل هوية القبائل ويحظى باحترامها، وتلاقى معظم الباحثين الغربيين على الإيمان بالتطور الدارويني في المجال الديني سواء عن طريق الصدفة أو بالحتمية الاجتماعية.

طوطم

تفترض تلك الأبحاث أن السحر هو الأصل، وأن الإنسان “البدائي” حاول السيطرة على الطبيعة عبر ادعاء حصوله على قوى السحر والشعوذة، ثم قرر بعد قرون من الفشل أن يتجه إلى الدين ويعبد الإله أو الآلهة المتعددة ليسترضيها. لكن هذا الزعم لا تسعفه الأدلة التاريخية لأن السحر والدين يعيشان جنبا إلى جنب في ظل الجماعات القديمة والحديثة، فالفارق بينهما في الوظيفة وطبيعة النظم وليس في التسلسل التاريخي. كما أن السحر نقيض الدين، فهو يتضمن الجانب العقائدي والشعائري لعبادة الشياطين في مقابل عبادة الإله أو الآلهة الوثنية، وليس هناك أي دليل تاريخي يؤكد فرضيات أسبقية السحر على الدين أو حتى يفسر نشوء السحر عن غريزة السيطرة أو الحاجة إليها في ظل غياب الدين.

كما أثبت روبرت شميت تهافت نظرية الطوطمية لدى دوركهايم، فهناك أمم عديدة لم تعرف شيئا عن الطوطم [The Making of Religion, 95]، بينما اكتشف جيمس فريزر وأندرو لانغ أن الطوطمية كانت تمثل منظومة اقتصادية مدنية وقومية وليست ذات بعد ديني. [العودة إلى الإيمان، 183].

وبحسب الرواية الإسلامية (الوحي) فإن الدين الحق الذي يقوم على عبادة الله هو الأصل منذ بدء البشرية في نسل آدم، أما ظهور السحر والأديان الوثنية فكان بعد عدة أجيال، ويقول ابن كثير في تفسيره للقرآن الكريم إن ظهور الملَكين هاروت وماروت -اللذين نسب إليهما القرآن تعليم السحر للناس- كان في زمن النبي إدريس، وهو أول الأنبياء بعد آدم، أي أن السحر أقدم من الوثنية نفسها، وهذا الرأي يتشابه جزئيا مع الرواية اليهودية -التي نعتبرها محرفة عن الوحي الأصلي- فهي تتهم الملائكة بارتكاب الخطيئة ومعصية الرب والسقوط إلى الأرض في زمن إدريس (أخنوخ) أيضا. ومع أن هناك الكثير من الروايات الإسرائيلية التي تداولها المفسرون عن حقيقة هاروت وماروت، وهي قصص أسطورية لا يدعمها دليل، ومع أن القرطبي استبعد أن يكونا من الملائكة أصلا ورأى أنهما شيطانين، فإن ما يهمنا هنا هو أن تعلم بعض الناس للسحر كان متزامنا مع نشوء العبادات الوثنية والأديان المحرفة، أو متقدما عليها بفترة وجيزة، ولكنه لم يكن متقدما على الدين الأصلي وهو عبادة الله.

 يقول ستيفن لانغدن في كتابه “الميثولوجيا الساميّة”: إن تاريخ الحضارة القديمة تزامن مع تدهور التوحيد إلى الوثنية والاعتقاد بالأرواح والأشباح، وهذا يشكل انحطاطًا للإنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
[Semitic Mythology].

ونظرًا لسيطرة الفكر الغربي بمدارسه المتعددة على العلوم الاجتماعية في أنحاء العالم، بما فيها العالم الإسلامي، فقد تغلغلت في عقول الكثير من العرب فكرة تطور الأديان التوحيدية عن الوثنية والأرواحية، وليس العكس، بل حاول بعضهم إيجاد طريقة ما للجمع بين هذه الفكرة مع الإسلام بالرغم من التناقض الجلي، وسيتبين لنا في ثنايا المقال بطلان هذه الفكرة وتناقضها مع الكثير من الأبحاث التي صدرت في القرن العشرين، حيث نستعرض أهم المحطات التاريخية لظهور العبادات الوثنية (تعدد الآلهة) بعد الانتقال المفترض للمجتمع الإنساني من النظام البدوي والعشائري إلى نظام المدن وتشكل الدول والحضارات، وما رافق ذلك من ظهور المؤسسة الدينية الوثنية (الكهنوت) وتحالفها مع المؤسسة السياسية الملكية. 

يقول الباحث آرثر كوستانس في كتابه “سلسلة أوراق المدخل”: مع اكتشافنا لألواح أثرية أقدم، ومع تقدم كفاءتنا في فك الرموز، تغيرت فكرتنا عن الوثنية القديمة، واستبدلنا بها تصورا آخر هو الترتيب الهرمي للأرواح التي يحتل قمتها كائن مطلق.
كما يرى أن نظرية التطور مبنية على اعتقاد مُسبق بأن الإنسان يرقى بتفكيره مع مرور الزمن، بينما تثبت الآثار أن ما حدث كان تدهورا وليس تطورا.
[The Doorway Papers Series, 3- 34].

 

يقول الباحث الألماني فيلهيلم شميدت في كتابه “أصل ونمو الدين” إن زعم هربرت سبنسر بأن البشر الأوائل قدسوا آباءهم وأجدادهم ثم عبدوهم وفق تراتب هرمي حتى ظهرت الآلهة والأديان هو تصور خاطئ، فالعالَم القديم كانت لديه صورة نقية عن الإله الواحد، ومع تقدم الحضارات زادت فكرة الإله تعقيدا حيث نُسبت له الزوجة، ثم تعددت الآلهة، حيث لم توجد عبادة الأسلاف في الكثير من قبائل وسط أفريقيا وجنوب شرق أستراليا وغرب أمريكا.
[The Origin And Growth of Religion, 61].

ستونهنج في بريطانيا من أشهر الأنصاب الميغاليثية

 

المعابد الأولى
ذكرنا في مقال “الإنسان والدين” أن الآثار المتبقية في تركيا ومصر والشام وأوروبا الغربية والشمالية ترجح ظهور المعابد الأولى على هيئة كتل صخرية ضخمة أطلق عليها اسم “الأنصاب الميغاليثية”، وهي تعود إلى العصر الحجري الحديث (النيوليت)، أي ما بين 9000 و4500 قبل الميلاد، ويُعتقد أنها كانت مخصصة لعبادة أرواح الموتى.

وفي عام 1994، اكتُشف موقع “غوبكلي تيبي” بولاية أورفة جنوب تركيا، وهو يضم 20 معبدا، ويعد أقدم معبد مكتشف حتى اليوم، ويعود تاريخ بنائه إلى ما قبل 12 ألف سنة تقريبا، ومازالت حجارته تحتفظ بنقوش لأشخاص ونساء عاريات وحيوانات أسطورية وبرية. [gobeklitepe.info].

تعود كل تلك المعابد إلى العصر الحجري الذي لم يترك لنا نصوصا مكتوبة عن تاريخها وعقائدها، لكن النقوش تؤكد أن الوثنية بدأت بتقديس الآباء والأجداد، وهو ما يتوافق مع ما جاء في الوحي الإسلامي، حيث أشرنا في مقال “الإنسان والدين” إلى أن بداية الانحراف عن عبادة الله كانت مع إيحاء الشيطان إلى الناس بصناعة أنصاب تحمل أسماء آبائهم الصالحين دون أن تُعبد، ثم جاءت أجيال أخرى فعبدتها.

وإذا كانت بقايا المعابد الأولى لا تكشف لنا شيئاً عن مساجد يُعبد فيها الله وحده دون وثنية ولا شرك، فهذا لا يعني أن الوثنية سابقة على التوحيد والوحي بالضرورة، فليس هناك ما يمنع تاريخياً ولا عقلياً أن تكون آثار المساجد الأولى قد اندثرت أو دُمرت عمداً، وأن المعابد الوثنية التي اهتم بها الطغاة والكهنة هي التي كُتب لها البقاء.

ويرى مؤرخون مسلمون -مثل القرطبي وابن حجر وابن الجوزي- أن آدم (أول البشر) كان قد بنى بنفسه أول المعابد على الأرض، وهو المسجد الحرام في مكة، فكان بذلك سابقاً على كل المعابد الوثنية، واستندوا بذلك إلى الحديث الصحيح الذي قال فيه أبو ذر: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ فقال صلى الله عليه وسلم “المسجد الحرام”، قال ثم أي؟ قال “المسجد الأقصى”، قال كم كان بينهما؟ قال “أربعون سنة” [البخاري: 3366، ومسلم: 520]. لكن أثر المسجد الحرام اندثر عدة أجيال، حتى أرشد الوحي إبراهيم إلى مكانه فأعاد بناءه.

قائمة ملوك سومر

 

بلاد الرافدين
بالعودة إلى بلاد الرافدين (العراق) التي ينسب إليها التاريخ المدوَّن أول الحضارات البشرية، نجد لوحا طينيا يدعى “قائمة ملوك سومر” وهو يقول إن أول الملوك بعد الطوفان كان يسمى “جشور”، وهو الذي أنشأ مدينة كيش (تل الأحيمر حالياً) في منطقة بين دجلة والفرات، لكن الباحث العراقي خزعل الماجدي يقول في كتابه “أصول الناصورائية المندائية في آريدو وسومر” إن الناصورائيين (المندائيين) أسّسوا أول مدينة في التاريخ وهي إريدو (تل أبو شهرين حالياً)، وهناك ظهر أول معبد في التاريخ (أي بعد العصر الحجري)، وكان لعبادة الإله (إيا)، ونجد في كتاب المندائيين المقدس “الكتاب العظيم” أن صفاته لا تكاد تختلف عن صفات الله المذكور في القرآن، ومنها على سبيل المثال العظيم، القديم، ملك النور، رب العوالم قاطبة، ذو الحول الشامل، الرؤوف التواب، الغفور الرحيم، العزيز الحكيم، البصير، الذي على كل شيء قدير. لكن السومريين الذين ورثوا مدينة إريدو لاحقاً حوّلوا هذا الإله إلى “إنكي”، والذي يجسد إبليس نفسه كما سنرى.

لا نجد في “قائمة ملوك سومر” اسم النمرود، إلا أنه ورد في نصوص أخرى، وأهمها الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل المتبقيان اليوم) الذي يقول إنه ابن كوش بن حام بن نوح، ويضيف أنه أول من أسس مملكة في تاريخ البشرية بتأسيسه مملكة بابل، وأنه كان طاغية جبارا كافرا بالله، كما يربط التلمود (كتاب يتضمن شروح التوراة) بين النمرود والملك إمرافيل الذي كان حاكما في عصر النبي إبراهيم، وفي القصص الشعبية التي جمعها مؤرخون في العصر الإسلامي نجد توجها عاما للاعتقاد بأن النمرود هو أول جبار في الأرض وأول من ادعى الألوهية، ويقول بعضهم إنه رأى حلما أوّله الكهنة والمنجمون بأنه سيولد ولد في قومه ويكون هلاكك على يديه، فأمر بذبح كل من يولد في تلك السنة، لكن إبراهيم نجى عندما نجحت والدته في إخفائه حتى كبر وتحدى النمرود، وعندما فشل الملك في محاججته بالعقل أمر بحرق إبراهيم بالنار، لكن المعجزة اقتضت ألا تمسه النار بسوء، وهي معجزة أكدها القرآن الكريم.

بقايا بناء يقال إنه بيت إبراهيم في أور (Aziz1005)

لا يذكر القرآن أيضا اسم النمرود، إلا أنه يورد بإيجاز المحاججة بين إبراهيم وملك جبار يدعي الألوهية [سورة البقرة: 258]، كما يذكر أن إبراهيم حاجج قومه في ألوهية الشمس والقمر [سورة الأنعام: 74- 79]، وسنذكر لاحقا أن السومريين والبابليين عبدوهما تحت مسمى شمش ونانا، وقد ذكرنا في حديث نبوي سابق أن بين نوح وإبراهيم عشرة قرون (مع احتمال أن يكون معنى القرن هو الجيل وليس مئة سنة)، وهذا يوافق ما ورد في التوراة عن كون إبراهيم العاشر في شجرة النسب من جده نوح.

نستنتج مما سبق أن إبراهيم بُعث في وقت مبكر من عمر الحضارة ببلاد الرافدين التي بدأت بالتشكل بعد الطوفان، وأنه حاول إعادة الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك والوثنية، وقام في سبيل ذلك برحلات طويلة انطلاقا من مدينة أور بجنوب العراق ومرورا بحرّان في جنوب تركيا ثم إلى مصر ومكة التي أعاد فيها بناء الكعبة التي بناها آدم (أول مسجد ومعبد على الإطلاق)، وانتهاء بفلسطين التي توفي فيها، حيث لم يجد سوى التحدي والصدّ من الملوك والجبابرة.

وقد تبع ظهور السومريين نشوء حضارات مماثلة في مناطق متفرقة من العراق، وهي الأكادية والبابلية والكلدانية والآشورية، وظهرت فيها جميعا أساطير وثنية على يد الكهنة المتواطئين مع الملوك وبطرق متشابهة.

بحسب القرآن الكريم، يخاطب الله المسلمين من أتباع آخر الأنبياء محمد بقوله {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} [الحج: 78]، ما يعني أن الإسلام كان ملة الأنبياء جميعا، وأن أتباع آخر الأنبياء سيشهدون على الناس يوم القيامة بأن ملة الإسلام كانت واحدة وأنها بقيت محفوظة حتى النهاية بالرغم من سعي الطغاة لتشويهها.

بالعودة إلى الأساطير التي نشأت في بلاد ما بين النهرين بعد الطوفان، نجد أن قصة الخلق وعقيدة الألوهية والإيمان بالغيبيات تختلف بحسب اختلاف المكان والزمان، وأيضا بحسب فهمنا المعاصر لما تركته تلك الحضارات من تاريخ مدون على الطين، فنجد تفسيرات وقراءات متعددة يصعب معها الجزم بما كانت عليه عقيدة العراقيين القدماء، إلا أننا نجد في تلك الأساطير نقاطا مشتركة وكأنها تقتبس من مصدر واحد، كما يبدو أن الحضارة المنتصرة كانت تضيف وتعدّل على أساطير الحضارة المندثرة، حتى وصلت إلينا أساطيرهم على هيئة تراكمية.

وبحسب الوحي الإسلامي، كان الإله الواحد موجودا وحده قبل وجود أي شيء آخر معه، ثم خلق الماء والعرش، ثم بدأ خلق الكون، ففي حديث رواه البخاري في صحيحه دخل ناس من أهل اليمن على النبي فقالوا “جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان”، فقال “كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض…”، كما تقول الآية في سورة هود {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7].

لكن المندائية أجرت كما يبدو تعديلاً طفيفاً على قصة الخلق، ففي نص التكوين من كتاب “الكنز العظيم” نجد أن الإله كان موجوداً في الأزل وكان الكون (الثمرة العظيمة) متداخلا بعضه مع بعض (الأثير بداخل الأثير)، وبأمر الإله تكونت المانات العظيمة وانتشر بريقها بما يشبه الانفجار العظيم للكون، فتكونت آلاف مؤلفة من الثمار بلا نهاية (المجرات)  وملايين الملايين من المواطن بلا عدد (الكواكب)، وهذا يعني أن الكون كان موجوداً في بذرته الأولى مع الإله في الأزل وأنه تشكل لاحقاً بأمر الإله وتوسع إلى ما لا نهاية. [mandaeannetwork.com].

وإذا كان السومريون هم ورثة المندائيين -كما يقول خزعل الماجدي- فقد أجروا تعديلاً آخر، إذ يبدو أن الذي وضع أسطورة الخلق السومرية أراد تحريف رواية الوحي فدمج الإله الخالق بالماء وجعله بداية الوجود، ثم افترض أن المخلوقات انبثقت منه مباشرة عبر مراحل متتالية. وقد أثرت أسطورة الخلق هذه على معظم الأساطير اللاحقة حول العالم، لا سيما من حيث ابتكار مفهوم تعدد الآلهة، حيث لم تعد الوثنية هنا مقتصرة على تقديس أرواح الموتى كما كان في الأقوام السابقة، بل تغلغلت الوثنية إلى قصة الخلق نفسها وجعلت للإله شركاء في كل شيء.

وبإيجاز، زعم مخترع أسطورة الخلق السومرية أن الوجود كان يقتصر على حالة غير مفهومة من العماء المائي الذي يسمى “نمو”، فهناك ماء ولكنه غير متشكل وغير مادي، وفي لحظة ما انبثق عنه إله السماء المذكر “آن” وإلهة الأرض المؤنثة “كي”، ومن زواجهما نتج الإله إنليل الذي أصبح رئيس مجمع الآلهة. أما البابليون فزعموا أن البداية كانت مع الأب أبسو والأم تعامة والابن ممو، وأنهم أنجبوا سبعة من الآلهة الأقل شأنا أو أنصاف الآلهة (الأنوناكي)، الذين أنجبوا بدورهم جيلا آخر يدعى “الإيجيجي”، ثم تم خلق السماء والكواكب والأرض وبدأت حياة الحيوانات والنباتات.

تقول ملحمة أتراحاسيس، وهي نص بابلي يعود تاريخه تقريبا إلى عام 1700 ق.م، إن الأنوناكي الذين في السماء حمَّلوا عبء العمل على عاتق الإيجيجي الذين في الأرض، مثل حفر نهري دجلة والفرات وتفجير الينابيع، لكن الإيجيجي قرروا التمرد، ومنعا لاندلاع الحرب قررت الأنوناكي خلق الجنس البشري ليحمل عبء العمل عن الآلهة. [الرحمن والشيطان].

جلجامش

وتقول الأسطورة إن الإنسان خُلق من تربة الأرض الممزوجة بلحم ودم إله قتيل قُدم قرباناً لهذه الغاية، لكنه مع ذلك سيظل بحاجة إلى الآلهة، فهو يقدم لها شعائر العبادة والقرابين، كما تظل الآلهة بحاجة له في علاقة تبادلية، إلا أن الآلهة تبدو غير منصفة ولها مشيئة غير مفهومة، كما أن تصرفاتها تتسم أحيانا بالعدوانية والقسوة وغير ملتزمة بالقواعد الأخلاقية، حتى إن قصة الطوفان الذي دمر المدن الإنسانية الأولى وردت في ملحمة جلجامش وفي النص السومري المعروف باسم “هلاك مدينة أور” على أنها قرار اتخذه الإله إنليل (وهو نظير الإله البابلي أبسو) بعد أن أزعجه ضجيج البشر بسبب تكاثرهم، حيث قرر في البداية تجويعهم بالقحط والطاعون لكنهم لم يموتوا، فقرر لاحقا إغراقهم بالطوفان، وأمر إنليل الحكيم “أتراحاسيس” (وهو نوح عليه السلام) ببناء سفينة وإنقاذ أهله وما يقدر على حمله من الحيوانات، وقد توسلت إلهة أور بقوة إلى إنليل للتراجع عن قراره، ولكن دون جدوى.

ويبدو أن واضعي هذه الأسطورة أرادوا وضع البشر في مواجهة الآلهة، فزعموا أن أتراحاسيس تمكن بذكائه من إقناع الآلهة بالنجاة من الطوفان والإبادة.

وهكذا تم ابتكار الفصل بين الدين والأخلاق طالما كانت الآلهة نفسها غير أخلاقية، لا سيما وأن هناك العديد من الآلهة الشريرة التي تشبه الشياطين، كما زُرعت في نفوس الناس عقيدة تحدي الآلهة التي خلقتهم أصلا ليكونوا في خدمتها.

ومع انتفاء العدالة في هذه العقيدة لم تعد هناك حاجة للبعث والقيامة والحساب، فالأسطورة تقول إن الأفراد ينالون ثوابهم وعقابهم في الدنيا فقط، مع أنهم يرون بأعينهم أن العدالة غير متحققة في الدنيا، لذا لم يكن المرء يرى لنفسه قيمة أعلى من البهيمة سوى في درجة الوعي، كما أن انتفاء مفهوم الخلاص والمحاسبة والعدالة أدى إلى سقوط القيَم بالجملة، وإلى عدم جدوى التفكير في الغاية من الوجود وقيمة الحرية والاختيار وجوهر الإنسانية.

وبالرغم من التعددية الواضحة في هذه الأساطير، نجد في التراتيل السومرية والبابلية والأكادية أن الأصل ينبع من الإيمان بإله واحد أعظم، ففي مدينية أوروك (الوركاء حاليا) كان الإله “آن” هو الإله الأعلى، ثم انتصرت عليها مدينة نيبور فأصبح ابنه إنليل هو الإله الرئيسي الذي لا شريك له، أما بقية الأنوناكي الذين يشكلون آلهة المجمع السماوي فليسوا أكثر من مجمع ملائكة وقديسين.

إنكي

وفي مقابل استعلاء آن وإنليل، قرر السحرة أن يرفعوا من مكانة إله آخر نجد فيه شبها كبيرا بإبليس، وهو “إنكي” الذي كان من الأنوناكي وأصبح إله العالم السفلي، فجعلوا منه إلهًا أقرب إلى البشر، وقالوا إنه كان يعلم جميع الأسرار التي أخفتها الآلهة فقرر أن يكشفها للإنسان الأول، لا سيما بعد أن اكتشف خطط الآلهة التي أرادت حرمان البشر من المعرفة، لذا كان الناس يعودون إليه ليستوضحوه بعض الأسرار، وهي ليست سوى خليط من علوم الهندسة والطب والرياضيات مع فنون السحر والتنجيم والشعوذة، فمنذ ذلك العصر القديم اختلطت العلوم بالسحر واحتكرها السحرة والكهنة. وباتت مدينة إريدو بجنوب العراق المركز الرئيسي لعبادته، كما جعلوا ابنه مردوخ رئيس مجمع الآلهة في بابل التي سيطرت على معظم بلاد ما بين النهرين وصارت العاصمة الكبرى للمنطقة.

عشتار

في الوقت نفسه، رفعت شعوب عراقية أخرى آلهتها إلى مستوى إنليل، كما فعل كهنة ربة القمر إنانا التي كانت تُعبد في كل معابد المدن السومرية، وقدّس آخرون كوكب الزهرة وأعطوه اسما أنثويا هو عشتار (فينوس)، ومن بين التراتيل البابلية الموجهة إليها نقرأ هذا الاستهلال “إليك أرفع صلاتي يا ربّة الربّات ويا إلهة الإلهات.. يا عشتار، يا ربّة البشر أجمعين ومسدِّدة خطاهم..”.

هناك أيضا تراتيل أخرى تعود إلى الدولة الأكادية تسمي الإله الأعلى بإله القمر نانا، وهو الإله الواحد الذي يجمع بين يديه كل صلاحيات الآلهة الأخرى، وهو “الذي أنجب نفسه بنفسه”، أي لم يوجده أحد. وفي إحدى الصلوات الآشورية تُوجه العبادة إلى إله الشمس “شمش”، وهو يمتلك بدوره كل الصفات التي تُطلق على الإله الواحد في الحضارات العراقية المختلفة.

إذن فهناك من تمسك بعبادة إله أعظم مطلق الصفات ولديه آلهة تساعده أقل شأنا تشبه الملائكة، وهناك من رفع الشيطان (إله العالم السفلي) إلى مرتبة الإله الأعلى وجعل من حوله أيضا آلهة تساعده، لكن سلطة الكهنوت في كل حضارة كانت تعيد صياغة الدين وتربطه بإحدى المظاهر الكونية كالكواكب والنجوم لتشخيص وتجسيد العوالم الغيبية (الميتافيزيقية)، ثم تربط تلك الآلهة المشخصة بالقوم والوطن حتى تختلط مفاهيم الدين والقومية والوطنية وتنصهر في بوتقة واحدة، فيُنزع عن الإله جزء من عظمته ويُضاف إلى الملوك والكهنة جزء من القداسة، ويصبح الولاء للملك والكهنة والدولة جزءا من الإيمان بالإله.

وعليه، نجد أن مفهوم الوثنية ارتبط ارتباطا وثيقا بالسياسة، حيث لم يظهر “مجمّع الآلهة” (البانثيون) pantheon في عالم الأديان والأساطير إلا بعد ترسيخ السلطة المدنية في دويلات المدن البشرية الأولى التي توسعت لتشمل القرى والأرياف ثم الدويلات المدنية الصغيرة الأضعف لتصبح كلها تحت سلطة مدينة (عاصمة) واحدة، إذ يبدو أن حلف السلطة الملكية مع الكهنوت ابتكر مفهوم مجمع الآلهة لتوحيد المجتمعات الصغيرة المتفرقة تحت لواء العاصمة، فيكون لكل إقليم إلهه الخاص الذي يمثله في مجمع الآلهة (الاتحادي) الذي يسوده الإله الواحد صاحب السلطة المطلقة. لكن مفهوم الإله الواحد (التوحيد) كان سابقا على تعددية الآلهة (الشرك)، وتجريد الإله وتنزيهه كان مقدما أيضا على تشخيصه وتجسيده في الأوثان والصور.

يقول الباحث ستيفن لانغدن في مقال بعنوان “الأسكتلندي” إن تتبع نقوش الحضارة السومرية يثبت وجود التوحيد أصلا عندهم، وإن أقدم النقوش والآثار التي بين أيدينا تشير بقوة إلى اعتناقهم توحيدا “بدائيا”، وإن ادعاء نشوء الدين اليهودي (الذي يعتبر لدى الغرب أصل الأديان التوحيدية) من أصل طوطمي (وثني) هو ادعاء كاذب. [The Scotsman, 18 November 1936].

 

الوثنية في الشام
تبدو أساطير بلاد الهلال الخصيب مستنسخة بعضها من بعض، وكأنها انتقلت من بلاد سومر إلى الكلدانيين والبابليين وصولا إلى الكنعانيين والآراميين والفينيقيين في سورية ولبنان وفلسطين، إلا أن واضعي تلك الأساطير كانوا يعيدون صياغتها بمنظورهم الخاص ليصبح أكثر مواءمة مع البيئة المحلية.

تمثال بعل مكتشف في أوغاريت

يُعتقد أن الكنعانيين هم أول الشعوب التي سكنت سورية، وأن مملكة إيبلا تزامنت مع وجود حضارة سومر العراقية، وكانت عاصمة إيبلا في إدلب بينما امتد نفوذها على معظم أراضي سورية الحالية، ويُعتقد أن تاريخها المكتوب بدأ في العام 3100 قبل الميلاد. وبحسب لوح طيني اكتشفته البعثة الإيطالية في أوائل الثمانينات فقد كان الكنعانيون الأوائل يعبدون إلها واحدا هو خالق كل شيء، إذ يقول الابتهال في اللوح المكتشف “رب السماوات والأرض، أنت… من خلقتها، لم تكن بعد قد صيَّرتَ الضوء في الوجود، أنت لم تضع الشمس بل خلقتها”.

لا يكشف النص السابق متى ظهر الشرك (تعدد الآلهة) في تلك المنطقة، لكن الألواح المكتشفة في ممالك ماري وإيبلا وأوغاريت تشير إلى وجود مجمع للآلهة (بانثيون) على شاكلة المجمع الأسطوري الذي وُجد في بلاد الرافدين. وكان على رأس الآلهة “إيل”، ثم يليه بعل أو حَدد الذي نُسب إليه المطر والسحاب والصواعق فكانوا يتوسلون إليه للحصول على مواسم زراعة جيدة، أما الإله “موت” فكان في مقابل بعل لكونه إله الجفاف والعالم السفلي.

كما عبد الكنعانيون “عشيرة” أو “إيلات” زوجة إيل، وعناة (التي تقابل عشتار أو عشتارت في بابل) وهي زوجة بعل، وأما إلهة الشمس فتسمى شبش وهي تقابل شمش في بابل. ويمكن للباحث المتعمق أن يكتشف التشابه الكبير بين الأساطير الكنعانية والفينيقية وبين سابقتها السومرية والأكادية والبابلية، كما يظهر أيضا أثر الأساطير السورية على ما ظهر لاحقا في بلاد الإغريق.

 

الوثنيات المصرية
بحسب كتاب نديم السيار “المصريون القدماء أول الحنفاء”، والذي يتضمن الكثير من الوثائق والصور، فقد تعلم المصريون الأوائل عبادة الإله الواحد من نبيهم هرمس (إدريس حسب أحد الأقوال)، وكانت الصلاة لديهم الركن الثاني بعد الشهادة، وكانوا يصلون خمس مرات في اليوم، ويُشترط لصحة صلاتهم التطهر وستر العورة واستقبال القبلة في الجنوب، كما تتضمن الطهارة لديهم غسل أعضاء الوضوء كما هو متبع اليوم في الإسلام بالضبط، بل إن نواقض الوضوء لديهم هي ذاتها المعروفة لدى المسلمين.

وبحسب تعاليم هرمس (إدريس) في مصر، كان هناك منادٍ ينادي للصلاة كما يفعل المؤذن، وقد أوردت الدكتورة هدى درويش في كتابها “نبي الله إدريس” تفاصيل التطابق بين صلاة أتباع إدريس وصلاة المسلمين اليوم، وذكرت أنهم عرفوا التسبيح وصلاة الجنازة وصلاة العيد وتقديم الأضاحي قبل الخروج للصلاة في العيد، كما أكد ابن العبري والقفطي أن إدريس أمر قومه بالزكاة، وأنه أمرهم أيضا بالصيام عن الطعام والشراب وإتيان النساء، ونقل السيوطي عن طائفة الصابئة المندائية (التي ما زالت تعيش في العراق) اعتقادهم بأن إدريس هو الذي بنى الكعبة في مكة وأنه كان يحج إليها هو ومن بعد من الأنبياء، إلى أن اندثرت فأعاد إبراهيم بناءها.

تؤكد د. هدى درويش أن ديانة النبي إدريس التوحيدية انحدرت لاحقا على أيدي الكهنة المصريين الذين جعلوا تعاليمه سرية حتى اندثرت وغابت عن عوام الناس، ثم نصبوا آمون إلها يُعبد بعد أن كان رمزا للشمس فقط، فأصبحت الوثنية المصرية بذلك أساسا للوثنيات الكلدانية والفارسية والإغريقية والرومانية، قبل ظهور اليهودية والمسيحية والإسلام.

منحوتة “تحوت” عند مدخل مكتبة الكونغرس بواشنطن

ومع تشوه رسالة إدريس، أعاد الوثنيون المصريون تقديمه في صورة إله أو حكيم يحمل صفات إلهية اسمه “تحوت” Thot (وقد يكتب أحيانا توت أو طوط)، وظهر في الرسوم الجدارية برأس طائر أبو منجل وهو يحمل لوح كتابة ويدوّن نتائج وزن أعمال الأموات في الحساب الأخروي داخل قاعة أوزيريس، وهذه الصورة انتقلت رمزيا إلى المحافل الماسونية لاحقا. ومن الملفت أن نجد لدى القبالاه اليهودية فكرة رفع إدريس إلى السماء ومنحه درجة الملائكة تحت اسم “مطاطرون” ليصبح مسؤولا عن محاسبة الناس في الآخرة، وقد ناقش المفسرون المسلمون احتمال أن يكون النبي إدريس قد رُفع فعلا إلى السماء (معراج) تكريما له حيث يقول عنه القرآن الكريم “ورفعناه مكانا عليا”، ومن المحتمل أن يكون قد رُفع بالفعل لكن الأساطير أعادت صياغة هذا الرفع لتمنحه درجات الآلهة والملائكة.

تُنسب إلى هرمس أيضا مجموعة مخطوطات تدعى “متون هرمس”، يُعتقد أنها كُتبت في مصر، أو في اليونان بعد الميلاد، ومع أنها تتضمن عقيدة التوحيد إلا أنها تضع أيضا أصول الفكر الباطني (الغنوصي)، وقد نُسبت إلى هرمس لاحقا آلاف الكتب المليئة بالفكر الباطني والسحر وشتى أنواع العلوم، لكن التشابه بين أجزاء من تلك الكتب وبين عقيدة التوحيد الواردة في الكتب السماوية يشير إلى أن هناك أصلا واحدا.

على سبيل المثال، يسمى المتن الثاني من متون هرمس باسم بويماندريس  Poimandres، ويطلق عليه أيضا اسم “سفر الرؤيا” فهو يتحدث عن نشأة الكون وخبايا الروح الإنسانية من وجهة نظر فرعونية، ويشبّهه بعض الباحثين بسفر التكوين في التوراة الذي يتحدث عن خلق العالم، ومع أن الكتاب يتضمن رؤية فرعونية باطنية وثنية للكون والخلق والإله، لكن أثر الوحي واضح فيه، وكأنه يحكي قصة نزول الملاك على النبي إدريس عندما اختاره الله نبيا، ليبدأ بتعليمه أسرار الكون.

يقول الكتاب إن هرمس كان يتأمل منعزلا في مكان مقفر بين الصخور، فظهر له كائن رهيب يسميه بالتنين العظيم وهو باسط أجنحته في الأفق والنور يشع منه، فنادى التنين العظيم هرمس باسمه وسأله عن سبب عزلته، ومع أن هرمس فزع من منظر هذا المخلوق فقد توسل إليه أن يكشف له أسرار العالم، فعُرج به إلى عالم نوراني لا مادي، وتلقى من الإله بويماندريس قصة الخلق التي بدأت بكلمة مقدسة فاضت عن النور، وهبطت على الماء ليتشكل منها عمود عظيم، ثم انبثق منها النار والهواء, ثم تم فصل ماء النور عن ماء الظلمة, وتشكلت بذلك العوالم العلوية والعوالم السفلية. ومن الملفت أن هذه القصة تشبه تماما مطلع سفر التكوين الذي يقول “في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة”.

وبعد جلاء الأصل التوحيدي لهذه العقيدة في “سفر الرؤيا”، نجد أثر التدخل الفلسفي الذي يحرفها باتجاه الغنوصية بوضوح، وفي النهاية يطلب بويماندريس من هرمس أن يعود إلى الأرض ويكون رسوله إلى الناس فيقول “آمرك بأن تنطلق وتكون هادياً لأولئك الذين يهيمون في الظلمة, لكل البشر الذين تكمن في دواخلهم روح العقل الكوني لعلهم ينجون مهتدين بعقلي الكامن فيك”. وهنا يعود هرمس إلى العالم المادي ويبدأ بنشر “الحقيقة” فيسخر منه معظم الناس، ثم يستأمن تلاميذه وأنصاره على الأسرار في هذا الكتاب لتصل إلى كل الأجيال اللاحقة.

وهكذا نرى أن تعاليم هرمس وعباداته تتشابه كثيرا مع ما جاء به نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، كما تتقاطع في بعض جوانبها مع ما ينسب إلى النبيين موسى وعيسى، ما يدل على التأثر والاقتباس، وسيتضح لنا في مقالات أخرى أن الوحي السماوي واحد ومنبعه واحد، وأن التحريفات التي طرأت عليه كانت تقتبس وتتأثر بأساطير سابقة.

“يلد ولم يولد، ينجب ولم ينجبه أحد.
خالق ولم يخلقه أحد، صنع نفسه بنفسه.
هو الوجود بذاته، لا يزيد ولا ينقص.
خالق الكون، صانع ما كان والذي يكون وما سيكون”.
جزء من ترتيلة مصرية تصف الإله الواحد، أوردها واليس بدج في كتاب “أوزيريس والبعث المصري”.

منذ مطلع القرن العشرين، تخصص الباحث البريطاني واليس بَدْج في دراسة معتقدات قدماء المصريين، واستنتج أنهم كانوا يؤمنون بإله واحد موجود بذاته، وأنه خفيّ، أبدي وأزلي، مطلق القدرة والعلم، لا تدركه العقول، وهو خالق الكون والقائم عليه، وأنه خلق كائنات روحانية لإيصال رسالته إلى خلقه ومساعدته في تصريف شؤون الكون، ورأى “بدج” أن المصريين الأوائل لم يشخصوا إلههم ولم يجسدوه في التماثيل والصور، لكن الملائكة التي كانت تساعده اكتسبت بعض صفات الألوهية مع أنها مخلوقة.

عائلة الآلهة المصرية (JeffDahl)

ابتدأت الحضارة عموما في مصر قبل سبعة آلاف سنة تقريبا، لكن تاريخها الأول مجهول لعدم تدوينه، فلا نعرف الكثير عن عقائدها الأولى وما زال هناك خلاف كبير بين من يرى أنهم كانوا موحدين ومن يرى أنهم عبدوا الحيوانات أو أنهم تخيلوا الآلهة كالبشر من البداية، لكن المؤكد أن التاريخ المدون ابتدأ مع ما يسمى بعصر الأسرات (السلالات الحاكمة) عبر توحيد البلاد المصرية على يد الملك مينا (نارمر) قبل الميلاد بنحو 3100 سنة.

وإذا صحت نظرية “بدج” فقد نُزعت القدسية عن الإله الواحد بالتدريج، فبعد أن أشركوا معه ملائكته، وبعد أن نُسي الإله وعُبدت الآلهة التي تشبه البشر في أهوائها وتعرضها للمرض والموت، صار لكل مدينة وبلدة في مصر إلهها الخاص،  ووضع الكهنة عقائدهم الخاصة بما يوائم الظروف ومصالح الطبقة الحاكمة، لكن بعض الآلهة الإقليمية خرج من دائرته الضيقة واكتسب صلاحيات آلهة أخرى حتى صار تجسيداً للألوهة المطلقة، مثل تيمو إله هليوبوليس، وبتاح إله ممفيس، وآمون إله طيبة. وبالرغم من كثرة الآلهة التي بلغ عددها الآلاف، فقد أكد العلامة الفرنسي جون فرانسوا شامبليون في القرن التاسع عشر أن “الدين المصري يقوم على معتقد توحيدي صافٍ، يعبر عن نفسه خارجياً بصيغ شِركية تعددية”.

يُعتقد أن الميثولوجيا الوثنية التي طرأت على المجتمع المصري كانت مستوردة في أصولها من العراق والشام، ويبدو أن هناك عدة روايات أسطورية لبداية الخلق في مصر، إلا أن أشهرها يفترض انبثاق الكون من كائن أولي غير محدد الملامح ويدعى “نون”، وهو ماء الأزل (يذكرنا بأساطير بلاد الرافدين)، تولدت عنه الشمس المتمثلة بالإله “رع” بطريقة مجهولة، وما إن أشرقت أشعة الشمس على الخواء حتى بدأ الكون بالتشكل، كما انبثق عن نون أبو الآلهة “آتوم” الذي نتجت عنه العائلة الأساسية كما في معظم الأساطير السابقة واللاحقة، وبما أن آتوم لم تكن له زوجة فقد استمنى لينتج عنه “شو” وأخته “تفنوت”، ثم تزوج الأخوان وأنجبا رب الأرض “جب” وربة السماء “نوت”، اللذين أنجبا بدورهما أربعة أبناء، ثم بدأ الصراع بين الإخوة الأربعة عندما غار الإله الشرير ست من أخيه أوزوريس وقتله، فعملت الأخت إيزيس على إعادة تجميع أشلاء حبيبها وأخيها القتيل بمساعدة أختهما نفتيس ورب الموتى أنوبيس، وأعاد رع الحياة لأوزوريس الذي أنجب من أخته إيزيس طفلا يسمى حورس، فخبأته الأم في مستنقعات الدلتا وتركته في عهدة الإلهة حتحور (على هيئة بقرة) حتى كبر، ثم عاد وانتقم من عمه ست، وهكذا أصبحت السيادة لحورس المتجسد في هيئة صقر، بينما هبط والده أوزوريس إلى عالم الموتى ليصبح إلهه السفلي.

شو في الوسط يرفع نوت (السماء) بينما يتمدد جب (الأرض)

لم تظهر أسطورة الصراع بين الآلهة إلا في عصر الأهرامات (حوالي 2600 قبل الميلاد) عندما احتاج الفراعنة لملحمة درامية على شاكلة ملاحم الإمبراطوريات المجاورة، وقد زعموا الاتحاد بالإله حورس الذي يحرس مصر كالصقر، واتخذوا من عينه شعارا مازال حاضرا في الوثنيات المعاصرة والحركات السرية، ثم زعم بعض الفراعنة أنهم أبناء “رع” المتمثل بالشمس.

أخناتون ونفرتيتي تباركهما الشمس

بعد نحو ألف سنة اندمج مع رع إله محلي كان يُعبد في مدينة طيبة واسمه “آمون”، ثم حاول الفرعون أمنحوتب الرابع (توفي عام 1334ق.م. تقريبا) نبذ الشرك وعبادة إله واحد، فغيّر اسم آمون إلى “أتون” واتخذ لنفسه اسم “أخناتون”، ومحى ملامح تعدد الآلهة الوثنية من المعابد، لكن كهنة آمون لم يسمحوا لهذه العقيدة بالبقاء، وأجبروا ابنه الصغير الذي خلفه “سمنخ كا رع” على العودة إلى عبادة الآلهة المتعددة، ثم توفي في ظروف غامضة بعد ثلاث سنين وخلفه أخوه “توت عنخ أتون” الذي كان عمره 9 سنوات، حيث أجبره الكهنة أيضا على الشرك وتغيير اسمه إلى “توت عنخ آمون”، ومُسح اسم أتون من كل المعابد، ثم توفي الفرعون الصغير في سن الثامنة عشرة في ظروف أكثر غموضا من وفاة أخيه، حيث يعتقد الكثيرون أنه قُتل وأن وزراءه الذين خلفوه في الحكم طمسوا الكثير من الأدلة.

بما أن الملوك اللاحقين طمسوا تاريخ أخناتون فلا ندري بالضبط ما إذا كان قد عبد الإله الواحد المنزه عن التمثيل والتجسيد الذي دعا إليه الأنبياء، أم أنه حاول فقط توحيد العبادة لرب واحد متمثل بالشمس، إلا أننا نعلم أن النبي موسى عليه السلام بُعث إلى أحد الفراعنة لدعوته إلى التخلي عن تأليه نفسه وعن استعباد قومه والسماح لبني إسرائيل بالخروج من مصر. وبحسب الكتاب المقدس فإن موسى نشأ في كنف أحد الفراعنة ثم عاد لدعوة ابنه الذي خلفه قبل أن يموت غرقا في خليج السويس أثناء المطاردة، ويُعتقد أن الأول هو رمسيس الثاني وأن ابنه هو مرنبتاح (توفي عام 1203 ق.م)، بينما لا يذكر القرآن الكريم سوى فرعون واحد، ومازال الخلاف قائما بشأن هويته، حيث يؤكد باحثون أن مومياءه تكشف عن وفاة طبيعية وأن آثاره تحكي عن غزوه لبلاد بني إسرائيل وانتصاره عليهم. ولم تترك المدونات المصرية أي ذكر لموسى ولخروج بني إسرائيل وهزيمة الفرعون بمقتله غرقا، إذ يبدو أن هذه النكبة التي حلت بمؤسسة السلطة والكهنوت قد طُمست كما طمست القصة الحقيقية لأخناتون، وأن الوثنية ظلت قائمة في مصر بعد خروج موسى وقومه إلى فلسطين دون أن تبقي على أثر يُذكر للوحي والتوحيد.

“وإني أرجح أن كثيرًا من فلسفة الأقدمين في مصر والصين والهند هي بقايا نبوات نسيها التاريخ فحُشر أصحابها في عداد الفلاسفة، ولعلهم من الرسل أو أتباع الرسل”. [نديم الجسر، قصة الإيمان، ص35].

رسم تخيلي لزرادشت من القرن الثالث الميلادي

 

الزرادشتية والمجوسية
في القرن السادس قبل الميلاد (على الأرجح)، ظهر في شمال إيران زرادشت الذي تتقاطع الكثير من تعاليمه مع عقائد الأنبياء كما نجدها اليوم في الإسلام. وتقول الروايات التاريخية التي دخلت فيها الكثير من الأساطير والتحريفات إن ولادته ترافقت بسلسلة من المعجزات، فاختبأ الشيطان خوفا من ظهوره المنتظر، وعندما أصبح شابا حاول الشيطان إغراءه بمنحه سلطة على الأرض مقابل تخليه عن الرسالة الدينية فلم يقبل، وتقول الروايات أيضا أن زرادشت كان كاهنا على دين قومه، ثم انشق عنهم ونزل عليه وحي النبوة في سن الثلاثين عن طريق أحد الملائكة، حيث عرج به إلى السماء للقاء الإله “أهورا مزدا”.

تنص هذه الديانة على أن الإله لم يكن سواه في الوجود، فاختار أن يخلق روحين توأمين هما سبينتا ماينيو وأنغرا ماينيو، ومنحهما حرية الاختيار، فاختار الأول الخير ودُعي بالروح القدس، واختار الثاني الشر ودُعي بالروح الخبيث، ثم بدأ الصراع بينهما، ومع أن الإله كان قادراً على سحق أنجرا ماينيو إلا أنه آثر عدم التناقض مع نفسه بالقضاء على مبدأ الحرية الذي أقره، فخلق ستة كائنات روحانية قدسية تدعى “الأميشا سبينتا” أي الخالدون المقدسون ليدعموا الروح  القدس، وذلك عن طريق “الفيض” من نوره، كما تقتبس الشمعة نورها من المشعل، وبالفيض أيضا أوجدت هذه الكائنات كائنات طيبة أخرى هي “الآهوريون”، بينما أخرج أنغرا ماينيو إلى الوجود كائنات روحانية متفوقة اسمها “ديفا” لمساعدته في التخريب، وهكذا تشكلت الملائكة والشياطين قبل خلق العالم المادي.

وكان أهورا مزدا يعلم أن القضاء على الشيطان أنغرا ماينيو وأتباعه لن يتيسر قبل خلق العالم المادي، فخلق هذا العالم ليكون ساحة الصراع، وذلك على ست مراحل زمنية، ثم أوجد آدم “ماشيا” وحواء “ماشو”، وبدأ الصراع بين بني آدم والشيطان، وسينتهي في آخر الزمان بدحر الشيطان وسيادة الخير على العالم بعد ظهور المخلّص المنتظر “ساوشيانط”.

ونصّت الزرادشتية على أن الإنسان يُحاسب بعد ثلاثة أيام من موته، فتوزن أعماله بالميزان، ويتم امتحانه بالعبور على صراط المصير، وهو جسر يتسع ويضيق بحسب أعمال الشخص فإما أن يتيح له الوصول إلى الجنة أو يلقي به في الجحيم.

وعلى صعيد العبادات، تتضمن النصوص القديمة الصلاة خمس مرات في اليوم، وتسبقها عملية تنظيف تشبه الوضوء، تتضمن غسل الوجه واليدين والقدمين، وهي تبدأ بالوقوف في حضرة الإله وتلاوة مقاطع خاصة من أناشيد الغاثا القديمة المنسوبة إلى زرادشت. وتنقل تلك النصوص عن زرادشت أن الصلاة تقام في أي مكان طاهر دون اشتراط وجود المعبد، وقد شدد كثيرا على طهارة الجسد والملابس، كما منع زرادشت صنع الصور والتماثيل للإله والملائكة.

ويشاع عن هذه الديانة أنها تعبد النار لذاتها، لكن تقديسهم لها لا يزيد عن اتخاذها رمزًا للإله، وفي عصور لاحقة شُيدت المعابد المليئة بالصور والتماثيل، وزودت بمواقد للنار المقدسة.

ومع توالي هذه التغييرات على الديانة في ظل الإمبراطورية الأخمينية، نشأت طبقة الكهنة المتفرغين لطقوس النار الذين عُرفوا باسم “موغان” ومفردها “موغ”، وهو مصطلح كان يُطلق على الكهنة في الأديان الفارسية السابقة لدى القبائل الميديّة، لكن الكهنة الزرادشتيين أصبحوا أكثر سلطة وتنظيما في العصر الأخميني، ثم ازدادت سيطرتهم في عصر الدولة الساسانية اللاحقة.

ومن هنا جاء مصطلح “المجوس” الذي تداوله العرب للدلالة على الكهنة “الموغان”، حتى نُسبت الديانة إليهم فسُميت بالمجوسية. كما اشتق الأوروبيون من هذه الكلمة مصطلح “ماجيك” magic باللاتينية، والتي تعني السحر، نظرا للإرث السحري القديم للكهانة الفارسية.

معبد النار في باكو عاصمة أذربيجان (السبيل)

أدخلت طبقة الكهنة الجدد (المجوس) على النصوص الزرادشتية القديمة (أناشيد الغاثا) شروحهم الخاصة التي جُمعت تحت اسم الأفيستا؛ ثم ظهرت شروح إضافية جُمعت في كتاب “زند أفيستا”، وانتهى الحال بالزرادشتية التوحيدية إلى المجوسية المثنوية (الثنائية) التي جعلت الشيطان ندًا للإله.

وفي القرن الثاني بعد الميلاد، كان مذهب الزورفانية قد أصبح مسيطرا في ظل الدولة الساسانية، وبتأثير من عوامل يونانية وبابلية قديمة -كما يرى بعض المؤرخين- أعيد تشكيل العقيدة الزرادشتية ليصبح الزمن اللامتناهي “زورفان أكاناراك” هو الأصل، ويُعدَّل اسم أهورا مزدا إلى أوهرامَزد، ويُبتكر إلهٌ جديد للشر اسمه “أهريمان” بدلا من أنغرا ماينيو، وهكذا زعم المجوس الجدد أن أهريمان وأوهرامَزد توأمين أزليين، وذلك بعدما كان الشيطان أنغرا ماينيو إلهًا حادثًا لا أزليًّا وموازيًا لإله الخير سبينتا ماينيو، وأصبحت هذه العقيدة هي الدين الرسمي للدولة الساسانية، كما تم ربطها بالقومية الفارسية بعد أن كانت ديانة عالمية تسعى لهداية كل البشر.

وبما أن التراث الأصلي لزرادشت لم يُحفظ دون تشويه وتحريف، فلا يمكن الجزم بما كان يدعو إليه، بل إن بعض المؤرخين يشككون في وجوده ويعتبرونه مجرد شخصية أسطورية نُسبت إليها الكثير من التعاليم، لكننا لا نستبعد أن يكون نبيا حقيقيا أوحي إليه كما أوحي إلى الأنبياء على مر العصور، لا سيما أن الكثير من تعاليمه وعباداته وتفاصيل عقيدته في الخلق والموت والبعث تتشابه مع ما جاء به آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.

منحوتة تصور الملك الساساني أردشير على حصانه وهو يطأ خصمه أردافان وينال البركة من أهورا مازدا الذي يطأ بحصانه خصمه أهريمان (MiladVandaee)

ومن المعروف أيضا أن الكثير من اليهود الذين أسرهم الملك البابلي نبوخذ نصر قد انتقلوا إلى بلاد فارس وحملوا معهم شيئا من آثار الوحي (التوراة)، فحدث بذلك نوع من التداخل بين الثقافتين.

كما نقلت كتب الحديث عن العديد من الصحابة بأسانيد صحيحة أنهم عندما فتحوا مدينة “تستر” الفارسية في عهد عمر بن الخطاب وجدوا جثة النبي دانيال الذي كان معاصرا لنبوخذ نصر عندما أسر بني إسرائيل مع نبيهم إلى بلاد العراق وفارس، حيث تُركت جثته محفوظة طوال تلك المدة ليتبرك بها الناس حتى دفنه الصحابة. [مصنف ابن أبي شيبة (7/ 4)].

وفي رواية للبيهقي في كتاب “دلائل النبوة” عن خالد بن دينار أنهم وجدوا عند رأس دانيال كتابا، فترجمه كعب بن مالك إلى العربية بأمر من عمر بن الخطاب، ووجدوا فيه وحيا سماويا يشبه القرآن الكريم، فكان يتضمن نبوءات عديدة مما جرى لاحقا بالفعل وخصوصا نبوة عيسى ومحمد. [دلائل النبوة: (1/ 381)].

أما ما يردّده المنصّرون في العصر الحديث عن اقتباس المسلمين من التراث الزرادشتي قصة صعود المخلّص الزرادشتي ويراذ إلى السماء، واعتبارها أصلا لقصة معراج النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء، فيُردّ على هذه المزاعم بأن القصة وردت في “نصوص أردا ويراذ ناماك” التي تعود إلى القرنين التاسع والعاشر الميلادي، أي بعد فتح بلاد فارس على يد المسلمين واندثار المملكة الساسانية، فالظاهر أن من بقي من الكهنة المجوس هم الذين اقتبسوا القصة من المسلمين وليس العكس، لذا نجد تطابقًا في بعض التفاصيل التي قيل إن ويراذ رآها في رحلته عند مقارنتها بما تحدث عنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

وبالرغم من التشويه الكبير الذي طرأ على الزرادشتية، فقد تركت آثارًا من الوحي السماوي في أديان ومعتقدات شعوب كثيرة في المنطقة وساهمت في تخليصها من عقائد تتناقض مع التوحيد، ونقتبس من كتاب “الرحمن والشيطان” لفراس سواح أهم هذه الآثار، كما يلي:

1- توحيد الإله وتنزيهه عن المخلوقات، وذلك وفق عقيدة أكثر وضوحا وتقديسا من الأديان الشرقية الأخرى.

2- كانت أديان العراق والشام تنظر للزمان على أنه مفتوح لانهائي، وكانت أديان الهند وشرق آسيا تقول إن الزمان يدور في حلقات، فالعالم يفنى في كل مرحلة من مراحل الزمن بكارثة كونية ثم يعود من جديد بدورة زمنية أخرى، لكن الزرادشتية أعادت للتاريخ معناه وغايته بحيث ينطلق من بداية الخلق ويتطور من خلال صراع الخير والشر قبل أن ينتهي وفقا لرؤية محددة مسبقا لآخر الزمان وقيام الساعة، وعندها تُبعث الأجساد من الموت ويبدأ زمن سرمدي جديد في عالم الآخرة.

3- التاريخ ينتهي بظهور المخلِّص، وهو إنسان طبيعي يولد من أبوين بشريين لكن ميلاده يحدث بمعجزة، وهو الذي سيقود الأشخاص الصالحين في آخر الزمان للانتصار على الشر.

4- لم تعد العبادات مجرد وسيلة للخضوع للإله، بل تهدف إلى تربية الإنسان وتنمية أخلاقه، ولم تعد الأخلاق مجرد سلوك نفعي “براغماتي” لتحقيق المصلحة بل هي قيمة ناجزة وطبيعة كامنة في الوجود لأن الإله نفسه إله أخلاقي كامل الأوصاف.

5- كان الإنسان في ديانات الشرق القديم يسعى إلى موافقة مشيئة الآلهة في حياة لا معنى لها، كما كان هدف الإنسان في شرق آسيا هو فهم العالم والتناغم معه فهو غير قادر على إصلاحه لأنه يسير وفق قوانين ثابتة في دورة حتمية، أما الزرادشتية فأعادت مفهوم الوحي السماوي القائل بأن العالم قابل للإصلاح، وأن الإنسان هو الذي يحمل هذه المسؤولية.

6- أعادت الزرادشتية للشيطان دوره وحجمه الطبيعي، فهو ليس إلهاً أزلياً ولا خالداً بالرغم من تحديه للإله، وسيكون مصيره خائبا في النهاية، وهو أصل كل الشرور في الوجود.

7- الإنسان يتمتع بالوعي ويتميز عن الكائنات الأخرى بحرية الاختيار دون جبر. وحريته هذه تستدعي المسؤولية والمحاسبة.

ومع أن بعض الأديان في مصر والمشرق آمنت بالحساب بعد الموت ثم بذهاب الأرواح إلى جنة أو جحيم، فهي لم تؤمن بيوم القيامة الذي ينتهي فيه الزمان الدنيوي ويبدأ زمان جديد مختلف جذريا، على خلاف الزرادشتية التي قالت إن الأرواح ستعود إلى الأجساد بعد البعث وستعيش في عالم أبدي ينقسم بين جنة وجحيم.

 

الوثنية اليونانية (الإغريقية)
تعود أصول الأساطير الوثنية اليونانية إلى الشاعر هوميروس الذي وضع ملحمتي “الإلياذة” و”الأوديسا”، وهناك من يشكك في وجود هذا الرجل أصلا ويرى أن أساطيره وضعت على يد جهة مجهولة ونسبت إلى شخص خيالي، وحتى في حال وجوده فهناك تضارب كبير بشأن الزمن الذي عاصره، لكن الأرجح أنه عاش (إن كان حقيقيا) ما بين عامي 1100 و850 قبل الميلاد.

رأس تمثال يعتقد أنه لهزيود

أما البناء المتكامل للوثنية اليونانية فكان على يد الشاعر هزيود، حيث يقول روبن هارد في كتابه “الميثولوجيا الإغريقية” إن هزيود هو الذي وضع قوائم معظم الآلهة في ملحمته وقسمها إلى مجموعات محددا أنسابها وأسماءها. [ص 36].

ويرجح المؤرخون أن هزيود عاش ما بين عامي 750 و650 قبل الميلاد، وقد تحدث عن نفسه في ملحمة “الأعمال والأيام” قائلا إن والده كان فلاحا في إيوليا بآسيا الصغرى (تركيا حاليا) فهاجر تحت ضغط الفقر والحاجة إلى اليونان، ثم عمل هزيود في عمل أبيه مزارعا وراعيا للغنم، وظل مجهولا إلى أن وضع في شبابه كبرى الملاحم التي شكلت ديانة الإغريق والرومان من بعدهم، وأهمها “الأعمال والأيام” و”مولد الآلهة”، كما وضع كتابا في التنجيم، ويرى مؤرخون أنه من أوائل المفكرين الاقتصاديين أيضا، وقد وضع كل هذه الأعمال الكبرى دون أن يذكر شيئا عن انتقاله من عالم الزراعة والرعي إلى الفكر، بل اكتفى بالقول إن ربّات الفنون “الموسيات” ظهرن له وأوحين له بتلك الأشعار الرائعة!

وفي كتابه أساطير إغريقية، يقول عبد المعطي شعراوي “وهكذا قدم لنا القروي الإغريقي البسيط هزيود تساؤلات وملاحظات حول كيفية حدوث كل شيء وحاول أن يصل إلى تفسير لكل ظاهرة أو عادة أو شعيرة أو تقليد، ولعله أول إغريقي يفعل ذلك، إذ إن هوميروس لم يفعل في الإلياذة والأوديسا مثلما فعل هزيود في قصائده، ومن هنا جاءت أهمية هزيود كصانع للأساطير الإغريقية”. [ج 1، ص 18].

لكن مؤرخي الحركات السرية يؤكدون أن هذه الأساطير لم تكن من وحي “الموسيات” الخرافيات، إذ يقول زعيم حركة الصليب الوردي في القرن السادس عشر فرانسيس بيكون في مقدمة كتابه “حكمة القدماء” إن تلك الأساطير لم تكن من ابتكار هوميروس ولا هزيود، بل انتقلت إليهما من أزمنة أقدم ومصادر أعرق، ويضيف “في اعتقادي أصولها واحدة، وليس هناك ما هو أعظم ولا أشرف من هذه الأصول”. [ص 320]. وهذا يعني أن بيكون -الذي لا يُعرف اليوم سوى بأنه مؤسس العلم الحديث- ينسب جميع الوثنيات إلى مصدر شيطاني واحد، وأن الشعراء الذين صاغوها في هيئة أعمال أدبية ونصوص دينية ليتعبد بها العوام لم يلجأوا إلى التأمل في غوامض الكون وأسرار الطبيعة أملا في إيجاد أجوبة وجودية لتفسيرها، بل وضعوا تلك الخرافات لتضليل البشر عن طريق الوحي.

تزعم أسطورة الخلق التي بثها هزيود في عقول الإغريق أن الربة كاوس هي الحالة الأولية للوجود فهي اللاشيء الذي انبثقت منه الأشياء، وكأنها كانت تجمع بين الوجود والعدم بطريقة غير مفهومة منذ الأزل، وقد تولّدت عنها ربة الأرض غايا، وربة الليل نيكس، ورب الظلام في العالم السفلي إيريبوس، ورب جهنم (العالم السفلي) تارتاروس، ورب الشهوة والرغبة إيروس. ثم ولدت غايا إلهًا يمثل السماء وهو أورانوس, و أصبح زوجا لها، أي تزوج الابن أمه, وأنجبا 3 سلالات مختلفة، الأولى عمالقة جبابرة (تيتان) وعددهم 12 ابنا، والثانية تسمى “السيكلوب” وهي مخلوقات بشعة لها عين واحدة في وسط الجبين, أما الثالثة فأكثر بشاعة وتسمى “ذوو المئة ذراع”، وعندما خاف الأب أورانوس من كثرة أولاده من السلالتين الثانية والثالثة خبأهم في أعماق الأرض أي في جسد أمهم غايا، فغضبت غايا على أورانوس وحرضت ابنها كرونوس (أحد الجبابرة) على الانتقام من أبيه وضربه بالمنجل، فقتل الابن أباه وورثه بأن أصبح إله السماء، ثم تزوج كرونوس أخته ريا, ونتجت عنهما السلالة البشرية الأولى المصنوعة من الذهب.

يقول عبد المعطي شعراوي في كتابه “أساطير إغريقية” إن الآلهة ليست هي التي خلقت الكون بل الكون خُلق أولا، ففي البدء كان الخواء ثم الأرض والبحار والجبال ثم السماء، ثم مجموعة العمالقة، ثم الآلهة وعلى رأسهم كبيرهم زيوس. [ج 2، ص 38].

وهذا يشير إلى أن أسطورة الخلق اليونانية التي ابتكرها هزيود هي أولى الخطوات التي مهدت للإلحاد في التاريخ المعروف، فقد مرّ بنا أن الأساطير الشرقية في العراق ومصر والشام كانت تؤمن بوجود الآلهة أولا ثم ينبثق عنها الكون والإنسان، أما هزيود فجعل الآلهة والإنسان ينبثقان معا من الكون نفسه. واللافت أن فلاسفة وأدباء عصر النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر عملوا على بعث الأساطير الإغريقية من جديد تمهيدا لنشر العلمانية والإلحاد السائدتين اليوم في الغرب.

رأس زيوس في الفاتيكان

ظهرت لكرونوس نبوءة تقول إنه سيلقى مصير أبيه على يد أحد أبنائه فقرر أن يبتلعهم, إلا أن ريا أخفت ابنها زيوس في مغارة بجزيرة كريت, حيث اعتنت به الحوريات وحرسته العفاريت حتى كبر، وعندها سقى والده دواء دفعه للتقيؤ فخرج من جوفه أبناءه الذين ابتلعهم، وانضم الإخوة إلى جيوش من الجبابرة والسيكلوب لمحاربة أبيهم كرونوس، وانتهت المعركة بمقتل السلالة الذهبية كلها وبانتصار زيوس وإخوته، فصار هو الإله الأعظم واستقر في قصر على قمة أعلى جبل باليونان (الأوليمب).

تزوج زيوس أخته هيرا ونساء أخريات، وكان شهوانيا لدرجة مفرطة، حتى صارت لديه سلالة جديدة الأبناء المصنوعين من الفضة، إلا أنهم لم يقدسوا الآلهة كما ينبغي فغضب منهم زيوس ونفاهم إلى العالم السفلي. ثم وُلدت السلالة البشرية الثالثة المصنوعة من البرونز, وكانت عدوانية وفاسدة فنفاها زيوس أيضا إلى العالم السفلي. وتبع هؤلاء جيل من الأبطال الذين نشأوا في العالم السفلي, ثم خلفتهم أخيرا السلالة الحديدية (البشر الحقيقيين).

وبطريقة تشبه أساطير بلاد الرافدين، يشقى الناس على الأرض ويكابدون مشقة الحياة لكي تعيش الآلهة الخالدة على قمة الأوليمب، بينما تمدهم تلك الآلهة بالدعم والنصر في الحروب وتمدهم بالقوت والمطر وتشفيهم من الأمراض بشرط أن يقدسوها ويتقوا غضبها ويقدموا لها القرابين.

وقد يبدو التداخل عجيبا بين الواقع والخيال لدى عوام الإغريق، إذ كانوا يصدّقون وجود قصور فارهة للآلهة على قمة الجبل، مع أنهم يرونه بأعينهم وهو جبل أجرد لا حياة فيه، كما كانوا يزورون مغارة في كريت لتقديم القرابين ويطرقون على قطع معدنية (مازالت محفوظة في المتاحف اليوم) بهدف التغطية على صوت زيوس الذي يتصورونه طفلا يعيش هناك، كي لا يسمع أباه كرونوس صوته ويبتلعه، مع أنهم لا يرون طفلا ولا يسمعون صوتا بل تقول الأسطورة إنه كبر وانتهى من قتل أبيه!

حرص هوميروس وهزيود على منح جميع الآلهة صفات بشرية، فهم يتصارعون على السلطة والنفوذ، بل يتعرض بعضهم للموت والبعث، ولهم خطايا أشد فداحة من خطايا البشر، وكأنهم أقرب إلى الشياطين من الملائكة، مما يبرر نزعات السيطرة لدى السلطات السياسية والكهنوتية التي وظفت هذه الأساطير لاستعباد البشر، كما كرست تلك الأساطير الطبقية الحادة في المجتمع ووجود العبيد والعمال والفلاحين الذين فُرض عليهم العمل بالسخرة لصالح الطبقات الأعلى وكأنه قدر محتوم.

وكما هو حال الوثنيات السابقة، تقدس الميثولوجيا اليونانية إلها واحدا أعظم وتجعله على رأس مجمع الآلهة وهو زيوس، وكل إله أو إلهة يمثل وظيفة أو قوة من قوى الطبيعة أو صفة ما من صفات الإنسان حتى لو كانت رذيلة، كما لكل قبيلة أو عشيرة أو دولة من دول البلقان المدينية الصغيرة إلهها الخاص، فكانت مدينة أثينا تعبد الإلهة أثينا، وإيلوسيس تعبد ديمتر، وساموس تعبد هيرا، وإفسوس تعبد أرتميس، وبوسيدونيا تعبد بوسيدون. وعندما تحارب دولة إحدى الدول الأخرى فإن أتباع الملك والكهنوت يربطون الأمر بصراع أعلى يجري بين الآلهة، فالشعب الغالب هو الذي يغلب إلهه إله العدو، وإذا قصّر الشعب في نصرة إلهه فعليه أن يتحمل تبعات غضبه.

لوحة تخيلية لمعبد أكروبوليس في أثينا من القرن التاسع عشر

 

الفلسفة والأسطورة
بالرغم من شيوع النظر العقلي الفلسفي لدى اليونان، وهو الأمر الذي يفخر به الغرب اليوم على اعتبار أنه وريث للفلسفة اليونانية التجريدية و”المنزهة” عن الدين والأسطورة، إلا أن معظم الفلاسفة الإغريق لم يتحرروا من البعد الغيبي، فالفيلسوف طاليس الملطي الذي وضع أسس الفلسفة العلمية في بداية القرن السادس قبل الميلاد حاول أن يقدم تفسيرات مادية لنشأة الكون، إلا أنه ربط تشكل الحياة من الماء بنزول زيوس عن عرشه وإحلال الدوامة محله.

والظاهر أن النزعة العقلية لدى الفلاسفة كانت تميل إلى رفض الوثنية وليس الدين نفسه، فانتقد إكزينوفان تشبيه الآلهة بالبشر، وكانت المدرسة الإيلية التي أسهها تعلم الناس العودة إلى التوحيد بدلا من الوثنية المتعددة، كما أنكر أنكساغوراس ألوهية الشمس وقال إنها مجرد حجر أحمر ملتهب وأكبر حجما من جبل البليونيز، أما كريتياس فتجرأ على القول إن البعض اخترعوا الآلهة ليرهبوا بها الأعداء، بينما رأى أويهيمروس أن الآلهة ﻟﻴﺴﻮا ﺳﻮى أﺑﻄﺎل وﻃﻨﻴين أدوا ﺧﺪﻣﺎت ﺟﻠﻴﻠﺔ ﻓﺮﻓﻌﻬﻢ الخيال اﻟﺸﻌﺒﻲ إﻟﻰ ﻣﺼﺎف اﻵلهة، وهذا يذكرنا برواية الوحي عن قصة قوم نوح الذين ابتدعوا بدعة الوثنية عندما جسدوا الأموات الصالحين على هيئة أصنام ثم عبدوها.

وعندما عجز الفلاسفة الأوائل عن تقديم أجوبة مقبولة على الأسئلة الوجودية الكبرى، نظرا لعجز العقل عن الخوض في الغيبيات، أو ربما للطمس المتعمد لآثار الوحي فلم يصلنا من بقاياه لدى الإغريق شيء، نشر السفسطائيون مذهبهم في الشك واعتقدوا أنه يستحيل على العقل أن يعرف شيئا، وأنه ينبغي على الفلاسفة الاهتمام بحياة الإنسان العملية فقط.

سقراط يتجرع السم راضيا بعد الحكم بإعدامه، لوحة للرسام جاك ديفيد

استعاد سقراط هيبة العقل بعد أن كاد السفسطائيون أن يغرقوا الإغريق في هوة الشك والعدمية [انظر مقال مصادر المعرفة]، إلا أنه لم يستطع أيضا أن يقدم أجوبة على الأسئلة الدينية التي لا يمكن التوصل إليها إلا بالوحي، وحُكم عليه بالإعدام بتهمة “عدم الإيمان بمعتقدات أثينا”. ثم تابع أفلاطون المهمة ما بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وكان يرى أن الدين ينقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول دين أسطوري اخترعه الشعراء والفنانون لتسلية العوام، والثاني صنعه كهنة السلاطين لضمان انقياد الشعب لهم بخوفهم من الآلهة وتقديسهم للملوك، والثالث هو دين الفلاسفة الذي يكشف الحقيقة. أما تلميذه أرسطو فهرب من أثينا قائلا إنه لا يريد للمدينة أن ترتكب حماقة أخرى عندما أعدمت سقراط.

لقد كان بإمكان الشعراء الكبار أن يعترفوا بأن الأساطير مجرد أعمال مجازية لا حقيقة لها، كما كان في وسع الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون أن يعدلوها لتتوافق مع العقل، إلا أن غياب الوحي (وربما طمسه وتحريفه في عصر هزيود) جعل المهمة مستحيلة، وهم مع ذلك لم يرضخوا للأساطير المفروضة بقوة السلطة، بل دعوا للتوحيد أو اقتربوا منه.

وحين طاف المؤرخ بوزنياس ببلاد اليونان بعد خمسة قرون من عصر أفلاطون وجد أن الأساطير ما زالت حية في قلوب الجماهير، حيث لم يجد الناس غيرها للإجابة على تساؤلاتهم الوجودية، وكما يقول ويل ديورانت في موسوعته “قصة الحضارة” فإن أساطير هزيود شكلت عقيدة اليونان وفلسفتهم وآدابهم وتاريخهم، واستمد منها الفانون (أي البشر غير الخالدين كالآلهة) زخارفهم التي زينوا بها الأواني، كما كانت هي المصدر الأساس لمواضيع النحاتين والرسامين في معظم أعمالهم التي عاشت آلاف السنين.

سيرابيس يتشكل من دمج أوزيريس وأبيس

ويرجح غلبرت موراي أن الديانة اليونانية مرت بعدة مراحل، وأن البداية كانت دينا سماويا موحى به من الله، ثم تحولت إلى ديانة بشرية أسطورية، ثم فلسفية. [فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط للأهواني، ص22].

اتفق المؤرخون على إطلاق تسمية الحقبة الهيلينية على الفترة الممتدة من أوائل القرن الرابع قبل الميلاد وحتى موت الإسكندر المقدوني عام 323 قبل الميلاد، وهي الفترة التي ازدهرت خلالها الحضارة الإغريقية وبلغت أوجها فكريا وعلميا.

وعندما احتل الإسكندر الأكبر مصر سارع إلى مزج معبود الإغريق “زيوس” الذي كان يُجسد على هيئة رجل كبير كث اللحية, مع معبود مصر “أمون” الذي يتخذ هيئة كبش ذي قرنين, فكانت النتيجة هي اختراع إله يوناني مصري اسمه “سيرابيس” مع تجسيده أحيانا على هيئة رجل له لحية وقرون كبش، بينما يرى مؤرخون أن “سيرابيس” مزيج من أوزوريس وأبيس وزيوس.

أما الحقبة الهيلينستية فتبدأ عند أغلب المؤرخين بموت الإسكندر، حيث تقاسم خلفاؤه مملكته المترامية الأطراف وظهرت بذلك آثار التلاقح بين فلسفة اليونان وغنوصية الشعوب الشرقية، وامتدت هذه الفترة إلى الغزو الروماني لقلب اليونان عام 146 قبل الميلاد أو حتى الهزيمة النهائية لآخر دولة لخلفاء الإسكندر في معركة أكتيوم عام 30 قبل الميلاد حيث سقطت فيها مصر البطلمية بيد الرومان.

 

الوثنية الرومانية
يُعتقد أن بداية الحضارة في إيطاليا تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد عندما انتقلت شعوب الأتروسكيين من ليديا (غرب تركيا حاليا) إلى شمال نهر التيبر، وعلى الأرجح أنهم تأثروا بالوثنيات المجاورة من اليونان ووسط أوروبا، لكن السيادة كانت لآلهة العالم السفلي المقتبسة عن المستعمرات اليونانية في الجنوب، حيث يعتقد أنهم كانوا يعظمون الشياطين ويمارسون السحر.

جوبيتر

ربما يصعب تقصي الإله الأعظم من بين الآلهة المتعددة التي عبدها الرومان، لكن يبدو أن جوبيتر (كوكب المشتري) كان هو الإله الأعظم، وبجانبه كل من مارس (المريخ) و كويرينوس (أحد أقمار زحل)، ثم في مرحلة لاحقة أصبح بجانب جوبيتر زوجته جونو وابنته مينيرفا.

استمتع أباطرة روما برفع مكانتهم الدينية حتى قدستهم شعوبهم وذبحت لهم القرابين، كما قرر كل من دوميتيان وكاليغولا ونيرون أن يتألهوا بأنفسهم وينافسوا الآلهة الخيالية على مناصبها، بينما تواضع آخرون واعتبروا أن الألوهية لقب ينالونه بعد موتهم.

بدأ عصر الرومان الذهبي بعد عام 30 قبل الميلاد الذي شهد سقوط آخر ممالك اليونان في أيديهم، وهي مملكة البطالمة في مصر، وأخذ الإمبراطور أغسطس في تلك المرحلة بتشييد الكثير من المعابد المكرسة للآلهة التي جسدها الكهنة في الكواكب، ثم أعلن أغسطس نفسه الكاهن الأكبر.

ومن الواضح أن الرومان اقتبسوا ميثولوجيتهم (أساطيرهم) من اليونان، حيث يؤكد المؤلف بي كوملان في كتاب “الأساطير اليونانية والرومانية” أن الدولة الرومانية “جعلت أغلب آلهة الإغريق أربابا لها، إلا أنها عندما أدخلتها في طقوسها الدينية وآدابها أطلقت عليها أسماء لاتينية”. [ص 7].

انتشر السحر في بلاد الروم على يد البابليين، ووجد له تربة خصبة مع عبادة النجوم والكواكب واهتمام الكهنة بالتنجيم، فالتنجيم يفترض وجود قوة روحية في الكواكب تؤثر على الإنسان الذي يعيش على الأرض، ومن خلال دراسة الأبراج المعقدة يتم التنبؤ بالمستقبل، وغالبا ما يتداخل هذا الفعل بالسحر القائم على التعامل مع الشياطين. وفي عصر الإمبراطور تبريوس (ابن أغسطس) حظي المنجمون بنفوذ أكبر من ذي قبل، وصار شائعا استخدام السحر بديلا عن الطب.

وكما هو حال الوثنيات السابقة، اهتم الرومان بأرواح الموتى وقدسوها، وجسدوا أجدادهم في التماثيل، وزعم السحرة أنهم قادرون على استحضار أرواحهم. كما قدسوا الشمس إلى جانب الكواكب الأخرى، حتى أصبحت عبادتها مهيمنة في عهد أسرة سيفروس في القرن الميلادي الثالث، لذا عندما قرر الإمبراطور قسطنطين تحويل ديانة روما إلى المسيحية تم دمج ديانة أتباع بولس بعبادة الشمس، وما زال حضور الشمس واضحا في الرموز المسيحية حتى اليوم.

الإله ثور يصارع العمالقة في لوحة من القرن التاسع عشر

 

الوثنية الإسكندنافية
يعود تاريخ الفايكنغ في المنطقة الإسكندنافية بشمال أوروبا إلى القرن التاسع الميلادي، ويُعتقد أن الأساطير الإسكندنافية (النوردية) هي أصل الوثنيات الجرمانية الأخرى في شمال ووسط أوروبا.

لا يُعرف أصل الميثولوجيا الإسكندنافية بالتحديد، فقد ظلت أشعارها متداولة شفهيا دون تدوين، ما يعني صعوبة تتبع مصدرها، ويبدو أن الذي صاغها قد استورد فكرتها الأساسية من الإغريق (هوميروس وهزيود)، ثم أعاد بناءها بما يناسب طبيعة حياة الفايكنغ القائمة على الإبحار والقرصنة، وبثها في وعي تلك الشعوب الأمية لتصبح مصدر ثقافتها وعقيدتها وفنونها.

تتعدد الآلهة في الأساطير الإسكندنافية كما هو حال الأساطير السابقة، ويتربع أيضا على رأسها إله عظيم يدعى أودِن Odin، وهو نفسه وودِن لدى الشعوب الأنغلوسكسونية، كما عرفه الجرمان باسم ووتان. وتتكرر في هذه الأساطير أيضا عادة تثليث الآلهة كمعظم الوثنيات حول العالم، فهناك الإلهة الزوجة فريغ (أو فرييا عند الجرمان)، والابن ثور Thor إله الرعد.

ونظرا لخطورة الأعاصير والعواصف على البحارة الفايكنغ، رأى مخترع الأسطورة أن يجعل “ثور” على هيئة شاب ضخم مفتول العضلات ويحمل بيده مطرقة ليهاجم بها العفاريت التي تسبب العواصف والأمواج العاتية، فكان البحارة يستبشرون بصوت الرعد الذي تصدره المطرقة معتقدين أنها تصرع الشياطين.

تتشابه الأساطير الإسكندنافية مع أصولها الإغريقية بافتراض وجود عوالم خفية تعيش فيها كائنات عدة، من آلهة وعمالقة وأنصاف آلهة وأقزام وبشر، لكن مبتكر هذه الأساطير كان فيما يبدو أوسع خيالا، كما يبدو أن العديد من الشعراء والأدباء أضافوا خلال قرون طويلة المزيد من الخرافات عن عوالم خفية تسكنها كائنات عجيبة، حتى أصبح العوام يعتقدون أن كل ما حولهم في هذا العالم من كائنات حية وجمادات مسكونة بأرواح، وأن لها نوعا ما من الحياة الخفية.

ثور كما قدمته هوليود في أحد أضخم أفلامها

آمن واضعو الأساطير بوجود جنة بعد الموت، وهي عالم الفالهالا، إلا أنها مجرد مرحلة مؤقتة، كما اشترط واضعو الأسطورة لدخولها التمتع بالشجاعة لتشجيع الناس على الانخراط في المعارك. وتشبه الفالهالا قصرا ضخما يحكمه الإله أودين، حيث يحتفل فيه مع ضيوفه كل يوم بذبح خنزير لأكل لحمه مع شرب الخمر.

وعندما يحين الوقت يخرج أودين مع جنوده هؤلاء لخوض المعركة النهائية “راغناروك” ضد العمالقة، وهي المصير المحتوم للآلهة والعمالقة والبشر، إلا أن هذه النهاية ليست سوى بداية عالم جديد تسوده الأراضي الخضراء ويعم فيه السلام، حيث يُبعث بعد المعركة الآلهة من الموت ويحكمون العالم، ويتوالد البشر مجددا من رجل وامرأة تمكنا من النجاة من المعركة باختبائهما في مكان ما.

وإذا كانت الأساطير اليونانية، وبعدها الرومانية والإسكندنافية، نسخة محرفة عن الوحي وتصورا مشوها لحقيقة الإله الواحد وأدوار مخلوقاته من الجن والملائكة، فإن هذه الأسطورة تبدو وكأنها تحريف للملاحم الكبرى التي تنبأ بوقوعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان.

مما يؤكد أن واضعي الأساطير جعلوا من الجن والملائكة آلهة، أن مؤسِّسة جمعية الثيوصوفية هيلينا بلافاتسكي صرحت في كتابها “العقيدة السرية” بأن سمائيل الذي يعتبره التلمود رئيسا للجن هو أحد الآلهة الذين تذكرهم التوراة (المحرفة) باسم إلوهيم، وتضيف أن سمائيل في القبالاه اليهودية هو شكل رمزي للعمالقة.

 

الوثنية في الجزيرة العربية
تحدثنا سابقا عن ظهور تعدد الآلهة (عبادة الأوثان) في الجزيرة العربية منذ فجر الحضارة وقبل بدء التاريخ، وذلك على يد عاد وثمود، وما تلاهم من الأنباط الذين اتخذوا من سلع (البتراء في الأردن) عاصمة لهم، إلا أن التوحيد عاد إلى العرب على يد النبي إسماعيل بن إبراهيم الذين نشأ في مكة واختلط بالعماليق (قوم من العرب الأوائل)، ثم ارتدوا مجددا إلى الوثنية على يد رجل يدعى عمرو بن لُحَيّ.

منحوتة للإلهة اللات عثر عليها في الطائف

يقول المؤرخ ابن كثير إن عمرو بن لحي كان أحد رؤساء خزاعة الذين تولوا زعامة البيت (الكعبة في مكة)، وإنه كان أول من غيّر دين إبراهيم الخليل بين العرب، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها.

واشتهرت في مكة عبادة أصنام كثيرة، وعلى رأسها “هُبل” الذي كان بمثابة كبير الآلهة، حيث نصبت قريش له صنما في جوف الكعبة، ثم تأتي من بعده ثلاثة آلهة مشهورة هن اللات والعزّى ومناة، حيث يشكلن ثالوثاً أنثوياً على اعتبار أنهن أبناء الله، كما خصصت كل قبيلة من القبائل الكبرى لنفسها واحدا من الأوثان لتشتهر بعبادته وتقديسه وجذب المتعبدين وقوافل التجارة إليه، فاختارت قبيلة ثقيف في الطائف عبادة اللات وجعلت لها بيتاً يضاهي كعبة مكة، وروي أن ابن لحي استغل وفاة رجل صالح من ثقيف كان يحمل اسم اللات فقال لهم إنه لم يمت بل حلّت روحه في صخرة، فنحتوا الصخرة وجعلوها وثنا يُعبد.

وبالطريقة نفسها، أرادت قبيلة غطفان منافسة قريش، فجعلت لنفسها معبدا يسعى فيه الناس بين حجرين كما يسعون بين الصفا والمروة بمكة، ونصبت صنم العزى في بيت مهيب يضاهي الكعبة.

أما مناة فكان لها صنم في موضع يقال له “المشلل”، وكانت مقدسة تحديداً عند قبيلتي الأوس والخزرج في يثرب (التي سميت لاحقاً المدينة المنورة بعد هجرة النبي محمد إليها)، ويقول المؤرخون إن العرب أصبحوا يقدسون هذه الأصنام الثلاثة ويحجون إليها ويذبحون عندها القرابين كلما حجوا إلى مكة في موسم الحج السنوي. وعندما نزل القرآن على النبي انتقد تلك الأصنام الثلاثة فقال {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 19-23].

وكما طرأ التحريف لدى العرب على العقيدة، فقد غيروا أيضا في شرائعهم، فيقال إن ابن لحي فتح الباب أيضا لوضع تشريعات جديدة في الأنعام (ذبح الحيوانات) وغيرها، فأصبح العرب يحرّمون على  أنفسهم أنواعا من الجمال والغنم دون أي مبرر أو اقتباس من مصدر آخر، والعجيب أن التشريع الجديد انتشر بين القبائل وكأنه دين موحى به من السماء. ويرى ابن كثير أن القرآن ذكر ابن لحي في سورة الأنعام بقوله {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا…} [الأنعام: 136] إلى آخر الآيات.

وقبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس برسالة التوحيد من داخل قبيلته قريش، كانت قريش قد نجحت في بسط سيادتها المعنوية على كافة القبائل في شبه الجزيرة العربية بحكم سيطرتها على البيت في مكة، فقد جمعت لنفسها الرئاسة الدينية والدنيوية وميّزت نفسها في شعائر الحج وتفاصيل شرعية أخرى مما كان قد بقي من شريعة جدهم إسماعيل، فبينما كانت قبائل العرب تقف في جبل عرفة تركت قريش الوقوف هناك والإفاضة، وكان سادتها يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس، حيث لقبوا أنفسهم بالحمس (جمع أحمس) لتحمسهم في دينهم.

رسم لمكة يعود إلى عام 1790

وابتدعوا أمورا أخرى مثل قولهم لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط (أي يتخذوا الأقط وهو لبن مجفف)، ولا يسلئوا السمن (أي يطبخوه) وهم حرُم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيود الأدم ما كانوا حرماً، وغير ذلك من الأحكام المُخترعة التي شددوا فيها على أنفسهم من باب الحماسة، ويبدو أنهم فعلوا ذلك ليثبتوا للعرب أنهم أولى بالزعامة كما يفعل الرهبان في أديان أخرى بانقطاعهم عن الزواج وملذات الحياة مقابل تقديس الناس لهم، وقد دانت العرب لقريش بالفعل وجعلتهم أشرف القبائل، فتركت قريش الغزو واشتغلت بالتجارة ووضعت شروطا لكل من يريد الزواج بإحدى بناتهن.

وعندما نزل الوحي على أحد أبناء قريش، وأمرهم بالتساوي مع بقية شعوب الأرض رفضوا دعوته بشدة، مع اعترافهم بأنه كان معروفا بينهم بالصدق والأمانة ولم يجربوا عليه الكذب، إلا أن معظم قادتهم وجدوا في دعوته انتزاعا للسلطة التي منحوها لأنفسهم.

وبعد سنوات طويلة من الصراع الشاق، تمكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من تبليغ دعوة التوحيد وإنهاء وجود الوثنية في أرض العرب وفي مناطق أخرى واسعة من العالم، وتؤكد الموسوعات التاريخية الحديثة أن انتشار الإسلام كان أسرع انتشار لأي حضارة عرفها التاريخ حتى اليوم.

فيديو يوضح كيفية انتشار الأديان ويثبت أن الإسلام كان الأسرع انتشارا في التاريخ

ويؤكد القرآن أنه جاء ليجدد الرسالة نفسها التي بُعث بها كل الأنبياء لمقاومة الوثنية والانحراف عن التوحيد، وأن دين الإسلام نفسه هو دين واحد منذ بدء البشرية وليس دينا خاصا بمحمد وأمته، حيث قال نوح لقومه {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، كما وصف القرآن إبراهيم بقوله {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، وكان الإسلام هو الدين الذي أقر به أبناء يعقوب الذين يُعتبرون أجداد بني إسرائيل، حيث تقول الآية {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]، وهذا ما أقره موسى أيضا في خطابه لبني إسرائيل: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس:84]، كما قال سليمان في رسالته لملكة سبأ {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30-31]، وقد أقر بذلك أيضا أتباع عيسى قبل تحريف رسالته عندما سألهم من أنصاري من الله؟ فقال الحواريون {نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52].

الكعبة في المسجد الحرام بمكة المكرمة

 

خلاصة
بعد هذه الجولة الموجزة في تاريخ تطور الأديان الوثنية، سنوجز في النقاط الآتية أهم الخلاصات التي يمكن استنتاجها والانطلاق منها إلى دراسة الأديان اللاحقة:

1- تنطلق الأبحاث الإنثروبولوجية اللادينية -كما أسلفنا في بداية المقال- من منطلق إلحادي/لاديني مسبق، وهذا يعني بطبيعة الحال افتراض أن أي تشابه بين النصوص الدينية وبين الأساطير والسحر يعني أن الأولى مقتبسة من الثانية، وذلك لاعتقاد الباحثين مسبقا بأنه لا وجود لمصدر إلهي للوحي أصلا.

لذا يجتهد الباحثون في محاولة إثبات اقتباس التوراة والإنجيل (بالنسخ المتبقية اليوم) والقرآن من الأساطير السابقة، ويفترض بعضهم أن وجود أي شبه بين شعائر الصيام والصلاة والحج الإسلامية اليوم وبين مثيلتها في بلاد الرافدين ومصر الفرعونية هو دليل على “وثنية” الإسلام.

وهذا الافتراض يتضمن مغالطة منطقية، فتلازم أمرين لا يعني بالضرورة نشوء أحدهما عن الآخر. وفي حال ثبوت تأثر أي منهما بالآخر فإن الافتراض اللاديني يتخذ مسبقا قراره بالانطلاق باتجاه واحد ويشترط عدم صحة الاتجاه الآخر، فما الذي يمنع أصلا أن يكون الإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، بدءًا من آدم أول البشر، وأن الوثنية العراقية والمصرية وغيرهما هي التي اقتبست وحرّفت وليس العكس؟

برستد

2- يضاف إلى الخلل في وضع الفرضيات أن بعض الأدلة التي يطرحها اللادينيون تفتقر إلى الصحة أصلا، حيث يزعم البعض -مثل المؤرخ جيمس هنري برستد في كتابه “فجر الضمير”- أن “الظاهرة الدينية” بدأت بأساطير قائمة على تعدد الآلهة، وأن أخناتون المصري هو أول من ابتكر مفهوم الإله الواحد ثم ترك أثره على الأديان التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، لكن هذه المقولة التي راجت طويلا في القرن العشرين ثبت تهافتها أخيراً كما يقول جون ولسن في كتابه “الحضارة المصرية”، فالتوحيد كان معروفاً وقديماً في العراق ومصر والشام قبل ظهور مفهوم “مجمع الآلهة” لدى السومريين ومن جاء بعدهم.

وفي حين يزعم البعض أن “الكتاب المقدس” اقتبس من الميثولوجيا اليونانية والمصرية قصتي إخفاء المسيح من الإمبراطور الروماني وإخفاء موسى من فرعون في تابوت وإلقائه بالنيل، يتبين لنا أن هزيود الذي ابتكر هذه الأسطورة في اليونان عاش بعد قصة موسى وأنه هو الذي اقتبس منها، وكذلك الحال في قصة أوزيريس وإيزيس التي ظهرت بعد ذلك، وسنستعرض المزيد من هذه الاقتباسات في مقالي اليهودية والمسيحية.

ملاحظة السميط في أفريقيا
للتحقق من آلية هذا التحريف للوحي، نجد مثالا معاصرا ما زال حاضرا أمام أعيننا في جزيرة مدغشقر المنعزلة بالمحيط الهندي، حيث قال الداعية الكويتي والعامل في مجال الإغاثة د. عبد الرحمن السميط إنه سمع أثناء وجوده هناك عن قرية نائية تدعى مكة وتقيم فيها قبيلة تسمى الأنتيمور، وإن الوصول إليها يتطلب الخوض في مستنقعات من الماء الراكد والروث لأربع ساعات، وعندما بلغها وتحاور مع أهلها أخبروه أنهم جاؤوا من مدينة في الشمال تدعى “جدا” وهي جدة في السعودية، وأنها قريبة من بلدة طيبة تدعى “مكا” أي مكة، كما قالوا إنه كان فيها جار طيب اسمه محمد، ومع أنهم لا يعرفون أنه نبي إلا أنهم يقرون بمحبته، وهم يوقرون أيضا أسماء رجال صالحين يعتقدون أنهم كانوا من أجدادهم، ومنهم “راماكاري” أي المبجل أبو بكر، و”راماأهي” أي المبجل عمر، و”راأوسماني” أي المبجل عثمان، أما أمهم فاسمها “رامونا” أي المبجلة آمنة، وهي والدة النبي محمد.

السميط

وعندما سألهم السميط عن دينهم قالوا إنهم “مسلمون بروتستانت”، وأضافوا أن أجدادهم أخبروهم قبل مئات السنين أنهم مسلمون إلا أنهم فقدوا طريقة التعبد لأن معظمهم لا يعرفون القراءة والكتابة، فجاءتهم بعثة تبشيرية من البروتستانت وأقنعتهم بأنها ستعلمهم الإسلام، وهكذا شيدت لهم كنيسة وأعطتهم نسخا من الإنجيل زاعمة أن هذا هو دين أجدادهم المندثر، فاختلطت لديهم تعاليم الأجداد بما جاءهم به المبشرون، ومع أنهم مازالوا يعظمون يوم الجمعة ويصرون على الذبح الحلال ويحرّمون على أنفسهم لحم الخنزير إلا أنهم باتوا يقدسون الكنيسة والإنجيل.

ومن المفارقات أن السميط وجد لديهم كتابا مقدسا يطلقون عليه اسم السورابي، أي الكتاب الكبير، وفيه بعض سور القرآن بالخط العربي، إلا أنها مشوبة بكثير من الأخطاء والتحريف، وإلى جانبها طلاسم سحرية وتوسلات بالموتى.

وحسب دراسة السميط، فقد بدأت هجرة هذه القبيلة من سواحل جدة قبل 1200 سنة، أي بعد نحو مئتي سنة فقط من بعثة النبي محمد، واستمرت دفعات المهاجرين بالوصول ستمئة سنة، ثم انعزلوا عن العالم ستة قرون، مُكتفين بما لديهم من خيرات الأرض والبحر، وليس لديهم سوى رجال الدين والسحرة الذين يحتكرون لأنفسهم القراءة والكتابة وأسرار الدين، وقد تمكن هؤلاء الكهنة من تحريف دينهم ودمج النصوص الأصلية للوحي القرآني بالأساطير والطلاسم، وبما أن عامة الناس كانوا أميين فقد نجح التحريف وضاعت الحقيقة خلال بضع قرون، ونتج دين وثني جديد يخلط بين الوحي والخرافة والسحر.
[المصدر: حوار مع الشيخ عبد الرحمن السميط في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة: http://goo.gl/cbIIaL]

3- علاوة على مغالطة الانطلاق من منطلق لاديني مسبق، ووضع الافتراضات الممنهجة والمؤدلجة، فإن المنهج اللاديني نفسه قائم منذ نشوئه في القرن الثامن عشر على الفلسفة المادية التي تفترض أن الوجود محصور في عالم الشهود (المادة والطاقة) أصلا، وأن عالم الغيب ليس موجوداً. فالمشكلة لا تقتصر على أن أدوات “العلم الحديث” لا تستطيع التحقق من وجود الغيب بل يفترض العقل المادي مسبقاً أن هذا العالم لا وجود له من البداية، لذا فإن أكثر العلماء انفتاحاً وتقبلاً للرأي الآخر يكتفون بالقول إن وجود الإله والملائكة والجن والوحي هي مقولات “غير علمية” وإن كونهم علماء يدفعهم إلى عدم الخوض في هذه المقولات الخارجة عن تخصصه، ولو أنهم وقفوا عند هذا الحد لكان موقفهم سليماً، لكن معظمهم يتجاوزون هذا الحد ويقدمون تفسيراً “علمياً” للكون والتاريخ والدين من داخل فلسفتهم المادية، ويعتبرون أن أي مقولة تعارض هذه التفسيرات المليئة بالتفاصيل الخيالية (الافتراضية) هي مقولة غير علمية، وبما أنها “غير علمية” فهي تعني في العرف العام والمقررات التعليمية ووسائل الإعلام أنها “غير صحيحة”.

لذا يصرح العلماء بأنهم مضطرون لاعتماد نظرية تطور الإنسان عن كائن شبيه بالقرد، بالرغم من افتقارها لأي دليل علمي [كما يوثق الفيلم الوثائقي مطرودون Expelled]، لأنها التفسير “العلمي” الوحيد الذي يتناسب مع فلسفتهم المادية، ولا بديل عنها سوى الإيمان بوجود عالم الغيب، مع أن وجود هذا العالم لا يتعارض مع وجود المادة ولا مع جدوى العلم المادي ونزاهته. ويتبع اعتمادهم لنظرية التطور وضع افتراضات لا نهاية لها عن نشأة الدين وتطوره، وهي جميعا سيناريوهات متخيلة لا يدعمها دليل.

على سبيل المثال، لا يملك العلماء المعاصرون أدلة علمية تكشف لهم حقيقة نشوء الدين فيما قبل التاريخ سوى آثار التماثيل الصغيرة وبقايا المعابد، وبما أن الإنسان في ذلك العصر لم يترك تاريخاً مدوناً، يلجأ علماء التاريخ والإنثروبولوجيا إلى الخيال لوضع نظريات “علمية”، تتحول لاحقاً إلى ما يشبه الحقائق والمسلّمات، حول دوافع إنشاء المعابد وتشكيل التماثيل وما قامت عليه من أسس تتعلق بدورات الخصب الزراعي وما دار حولها من طقوس، ثم يدعمون هذه الفرضيات بما تركه اللاحقون من أساطير مدونة بعد ظهور الكتابة، وقد لا يترك لنا مؤرخو تلك المراحل سوى مدونة واحدة، مثل ملحمة جلجامش، فيعتمدها العلماء بمثابة الدليل العلمي الوحيد لأديان وعقائد ذلك العصر، مع أننا نشاهد في عصرنا الحديث روايات متعددة للأفكار والمعتقدات والأحداث بالرغم من الانفتاح العالمي وسهولة الاتصال، فلا يمكن الجزم بأن رواية واحدة يكتبها مؤرخ أو كاهن مؤدلج هي الممثل الوحيد لما آمن به الناس في عصر ما.

واللافت أن العلماء الماديين يعتمدون أي نص منقوش على الطين والحجر أو مخطوطة مدونة على الجلد، ليكون بمثابة دليل علمي يؤرخ لتاريخ الأحداث وتطور الفكر والدين، إلا أنهم يعتبرون أن الكتاب المقدس (التوراة والزبور والإنجيل) لا يحظى بالمصداقية الكافية ليعتبر مصدرا تاريخيا موثوقا، ولا مشكلة في الشق الثاني من هذه المقولة لأن التحقيق العلمي يكشف عن أخطاء وتناقضات فادحة في الكتاب المقدس، لكن هذا يؤدي إلى التشكيك أيضاً في مصداقية النصوص الأخرى الأكثر قدماً، فإذا كان واضعو الكتاب المقدس قد حرفوا التاريخ لمصالحهم الدينية فيجدر أيضاً بمؤرخي العراق والشام ومصر القدماء أن يفعلوا ذلك. لكن المذهب المادي الذي انبثق عنه المنهج العلمي يدفع العلماء إلى السير في اتجاه واحد والحكم على الكتاب المقدس من خلال النصوص الطينية وليس العكس، وكأن تلك النصوص التي يؤسس عليها علم الآثار هي المرجعية “العلمية” الوحيدة التي يجب الرجوع إليها في كل الحقائق!

في عام 2014 تناقلت وسائل إعلام عدة نبأ اكتشاف نسخة قديمة لقصة آدم وحواء على يد عالمين هولنديين، وقيل إنهما فككا رموزا باللغة الأوغاريتية للوحين طينين عُثر عليهما في سوريا ويعودان إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حيث يذكران أن الإله الأعلى في الميثولوجيا الكنعانية إيل كان في صراع مع الإله الشرير حورون (إبليس)، وعندما عُوقب حورون بالطرد من الجبل سمَّم “شجرة الحياة”، فأرسل إيل إلى الأرض إلهاً آخر يدعى آدم ليضع حداً لتمرد حورون، فحوَّل حورون نفسه إلى ثعبان ولدغ آدم، فخسر الأخير طبيعته الخالدة. ولكي يسليه إيل أمر إلهة الشمس (حواء) بالنزول إليه والتزاوج معه.

احتفت المواقع الإلحادية بهذه القصة كثيراً، واعتبرت أنها كشف “علمي” يؤكد أسبقية هذه الأسطورة على القصة الواردة في الكتاب المقدس والقرآن الكريم، وأجمعت تلك المواقع أن القرآن ينقل القصة نفسها عن التوراة، وهي مغالطة شائعة، فالقرآن لا يتهم حواء بإغواء آدم ليأكل تفاحة، ولا يجعل نزول آدم وحواء من الجنة عقاباً على خطيئة، بل أكل كلاهما من الشجرة المحرمة (دون تحديد نوعها) بعد أن أغواهما إبليس معاً، وتاب الله على آدم عندما ندم، وأنزله إلى الأرض بعد ندمه وليس عقاباً له.

وإذا كانت هذه القصة قد وردت في نص طيني أسطوري قبل التوراة بثمانمئة عام فهذا لا يعني منطقياً أن التوراة والإنجيل والقرآن قد أخذا عنها، إلا إذا انطلقنا مسبقاً من مسلّمات الفلسفة المادية التي تنكر وجود إله غيبي يوحي إلى الأنبياء كلهم وحياً واحداً ويتم تحريفه بالأساطير مراراً قبل أن يعاود الأنبياء تصحيحه جيلاً بعد جيل. وهذا موقف فلسفي لاديني ولا علاقة له بالعلم المجرد.

4- إذا كان العلماء قد اتخذوا موقفا مسبقا واعتمدوا النقوش الطينية مصدرا للتاريخ بدلا من الكتاب المقدس بعد ثبوت تهافته، فإنهم لم يلتفتوا أصلا إلى القرآن الكريم، ولم يعتبروه مصدراً للتاريخ والمقارنة ولا حتى الأساطير، فالأوساط العلمية الغربية تتجاهل هذا الكتاب وتترك أمر دراسته للدراسات الاستشراقية التي نشأت أصلا في رعاية الإدارات السياسية الاستعمارية ولتحقيق مصالحها، والباحثون اللاحقون والمعاصرون ما زالوا ينهلون من المناهج والأفكار المسبقة التي وضعها رواد الاستشراق المؤدلجون [للمزيد: ينصح بالاطلاع على كتاب “الاستشراق: قراءة نقدية” للمؤلف صلاح الجابري]، ويتابعهم في ذلك الباحثون والمؤرخون العرب أنفسهم بحكم التبعية الحضارية للغرب، وهذه المواقف تضع مصداقية مناهج علوم الآثار والإنثروبولوجيا ومقارنة الأديان والتاريخ كلها على المحك.

5- في مقابل الرواية اللادينية التي يعتبر العلماء أنها الوحيدة المتوافقة مع “العلم”، ومن ثم تُقدم للطلاب في المدارس والجامعات على أنها الوحيدة الصحيحة، ثمة رواية أخرى يقدمها الوحي، ويتوقف الحكم بصحتها أولاً على التجرد من مسلمات الفلسفة المادية، والتسليم مبدئياً بأن الرواية التي يبنيها العلماء على افتراضات هي مجرد احتمال يقبل التكذيب (كما تؤكد فلسفة العلم الحديثة التي وضعها كارل بوبر).

وبناء على القصة المذكورة أعلاه للدكتور السميط في أفريقيا، يمكن القول إن التحقق من الرواية الأخرى يتوافق مع المنهج العلمي المجرد، لكن البدء بهذا التحقق يشترط أولاً الاعتراف بوجود الإله الذي أثبتنا وجوده يقيناً في مقال “وجود الله“، ومن ثم الاعتراف بإمكانية اتصاله بالبشر منذ بدء خلقهم عن طريق الأنبياء، وبإمكانية إنزاله وحياً يوضح لهم قصة الخلق الحقيقية، ويبيّن لهم طريق العبادة الصحيحة للتقرب إليه وكسب رضاه والنجاح في الابتلاء الذي خلقوا لأجله.

وإذا كان علماء الغرب اليوم يقرون بعدم مصداقية النسخ المتوفرة اليوم للكتاب المقدس، فمن المقبول علميا إذن أن نصدق بأن كل الكتب السماوية السابقة قد تعرضت للتحريف الذي كان الدكتور السميط شاهداً عليه، فالوحي كان يتنزل ويتلى على ألسنة الأنبياء ويُقدم في سلوكهم العملي، إلا أنه كان يُحارب دائما من قبل السلطات والمتنفذين وكهنة المعابد، كي يحتفظوا بسلطتهم وبالنظام الاجتماعي الطبقي الاستغلالي الذي أقاموه على أديانهم المحرفة، والذي مزجوا فيه النعرات القبلية وتبجيل الأوطان بقداسة الملوك والكهنوت، فصارت أي محاولة لإعادة تصحيح المسار بمثابة التمرد وإعلان العصيان لتخريب المجتمع وزعزعة الاستقرار، وسيتبين لنا في مقالات أخرى أنه من السذاجة الاعتقاد بأن واضعي القصص الأسطورية كانوا مجرد باحثين أبرياء عن تفسيرات غيبية لظواهر طبيعية غامضة، وهو الافتراض الذي تبتدئ به كل نظريات علوم الآثار والإنثروبولوجيا الحديثة.

وعندما نتابع مسيرنا مرورا بمحطتي اليهودية والمسيحية، ويتبين لنا أن الكتب المقدسة لدى هاتين الديانتين قد تعرضت للفقد والتحريف والتبديل، فلن يتبقى للرواية الأخرى (المفترضة حتى الآن) سوى التحقق من صحة القرآن نفسه، وهو ما سندرسه بالتفصيل في النهاية إن شاء الله.


أهم المراجع
ﺟﻔﺮي ﺑﺎرﻧﺪر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﺒﺪ اﻟﻐﻔﺎر ﻣﻜﺎوي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1993.

فراس سواح، الرحمن والشيطان، دار علاء الدين، دمشق، 2000.

فراس سواح، دين الإنسان، دار علاء الدين، دمشق، 1998.

فراس سواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق، 2002.

فراس سواح، مقال “معتقدات الشرق القديم: وثنية أم توحيد؟”، موقع معابر.

جون كيرتشر، كيف وُجدت الآلهة، ترجمة إبراهيم جركس، 1929، نسخة إلكترونية.

عبد المعطي شعراوي، أساطير إغريقية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982.

خزعل الماجدي، كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد، المركز الثقافي العربي، 2014.

هدى درويش، نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهودية والإسلام، دار السلام، القاهرة، 2009.

بهاء الأمير، شفرة سورة الإسراء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2016.

ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق عمر تدمري، دار الكتاب العربي، 1997.

كتب تفسير القرآن الكريم الكبرى، مثل تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي.

موقع الباحث آرثر كوستانس: http://www.custance.org

حوار مع الشيخ عبد الرحمن السميط في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة: http://goo.gl/cbIIaL

Manly P. Hall, THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, H.S. CROCKER COMPANY INCORPORATED, SAN FRANCISCO, 1928.

Wallis Budge, Osiris and the Egyptian Resurrection, Dover, New York, 1973.

Andrew Lange, The Making of Religion, Longmans Green, New York, 1909.

Arthur C. Custance, The Doorway Papers Series.

Stephen Langdon, Semitic Mythology, 1931.

Wilhelm Schmidt, The Origin And Growth of Religion: Facts and Theories, 1930.

المغالطات المنطقية

بالرغم من المزايا العظيمة لثورة المعلومات والاتصالات التي نعيشها، فإن الفوضى الفكرية هي إحدى أبرز ملامحها، فالأجيال التي نشأت في ظل هذا الانفتاح غير المسبوق في التاريخ باتت تتعرض يوميا لسيل هائل من المعلومات.

ومع تزايد الدفق المتواصل للأفكار والأخبار، يزداد نهم المتلقي للاطلاع السريع والسطحي على أكبر قدر من المحتوى المطروح، فيفقد الكثير من قدراته الدفاعية للمغالطات، ويمتلئ عقله لاشعوريا بالأفكار والمعلومات الخاطئة والمضللة التي قد تقلب عقيدته بالكامل.

وبما أن الشباب يعيش حاليا في ظل اضطرابات سياسية وتدهور اقتصادي في العديد من الدول العربية، فهو يشهد بعينه تزايد الاحتقان والاستقطاب بين أتباع الطوائف والأديان المختلفة، حتى بات الكثير منهم معرضا لضغط التمحيص في أفكاره ومعتقداته.

أرسطو

وإذا كان أرسطو قد لاحظ أن القادة السياسيين يكتسبون شرعيتهم وشعبيتهم من قدراتهم الخطابية وليس من التزامهم بقواعد المنطق، فقد لاحظ الفيلسوف غوستاف لوبون بعد دراسته للثورة الفرنسية أن القائد الذي يلجأ للمنطق في خطابه الجماهيري يضحي بشعبيته، مما دفع كبار السياسيين في الغرب خلال القرن العشرين للاستفادة من كتابه “سيكولوجية الجماهير” بطرح الجدل المنطقي جانبا والاهتمام بإلهاب حماس الجماهير وإثارة عواطفها.

المشكلة هنا لا تكمن في استغلال المشاعر بل في توظيفها لتحقيق مصالح ذاتية على حساب المنطق وبما يخالف العقل، ولا نقصد بالمنطق هنا المجادلات الفلسفية التي تقبل الأخذ والرد، بل القواعد العقلية المتفق عليها. ويقع هذا الاستغلال المغرض عندما يتعمد أحدهم ارتكاب مغالطات منطقية بهدف التضليل والإيهام.

تعود أصول المنطق الصوري إلى أرسطو في القرن الثالث قبل الميلاد، وهو منطق لم يسلم من النقد على يد بعض العلماء المسلمين، إلا أنه لعب دورا جوهريا في وضع أسس المنطق الرياضي والمنطق العملي في العصر الحديث، حيث يهتم بعض المختصين في المنطق اليوم بتطبيقات هذه القواعد في مجالات اللغة وعلم النفس والبرمجة ووسائل الاتصال والإعلام.

ويُعد مبحث “المغالطات المنطقية” من أهم تطبيقات المنطق العملي اليوم، فهو يساعدنا على كشف أساليب الخداع والتضليل التي نتعرض لها عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وحتى الكتب التي يفترض بها أن تكون أكثر عمقا، ما يجعل من دراسة هذه المغالطات وتعميمها ضرورة حتمية.

القضايا
يتكون كلامنا في العادة من نوعين من الجُمل هما:

1- الجُمل الإنشائية، كالتي تقوم على الأمر والنهي وإنشاء العقود، وهي لا تحتمل الصدق ولا الكذب، فلا يهتم بها المنطق.
أمثلة: اكتب لي رسالة، لا تذهب إلى السوق، زوجتُك ابنتي.

2- الجمل التامة الخبرية، وهي التي تتضمن أحكاما موجبة أو سالبة، فهي تحتمل الصدق أو الكذب، وهي التي يهتم بها المنطق لمعرفة حقيقتها، لذا يُطلق عليها في علم المنطق اسم القضية.
أمثلة: كتبتُ لك رسالة، ذهبتُ إلى السوق، فلان هو زوج فلانة.

وتتكون القضية من عدة عبارات، أولها المقدمة –وقد تتضمن القضية عدة مقدمات- وتليها النتيجة. وتنقسم القضايا إلى حمْلية وشرطية، ولكل منهما أشكال متعددة.

مراتب الحجج
صنّف علماء المنطق الحجج المنطقية إلى خمس مراتب بحسب قوة إلزامها، وهي كالآتي:

1- الحجة البرهانية: هي التي تفيد اليقين، ويتحقق ذلك إما بالاستدلال المباشر٬ أو بالقياس الصحيح على قضية يقينية أخرى.

مثال: العدد 4 ينقسم إلى عددين متساويين٬ وكل عدد منقسم بمتساويين هو عدد زوجي، إذن فالعدد 4 زوجي.

2- الحجة الجدلية: هي حجة تتكون من مقدمات مشهورة يعتقد عامة الناس بصحتها بدرجة تقترب من اليقين٬ أو تكون مقدماتها من المسلّم بها عند الآخرين ولكن لا ترقى إلى مرتبة اليقين التام، وهي تشمل معظم القضايا التي نتداولها في القوانين والمبادئ الأخلاقية والنظريات العلمية.

3- الحجة الخَطابية: هي حجة غير ملزمة ولكنها تفيد الظن الراجح٬ فهي تعتمد على مقدمات ظنية، ومن أمثلتها الأحكام الفقهية التي تكتسب عند صاحبها صفة الرجحان.

4- الحجة الشعرية: هي الحجة لا تفيد ظنًّا راجحا لاعتمادها على مقدمات وهمية، إلا أن صاحبها يتلاعب بمشاعر الآخرين فيتأثرون بها. ومن أمثلتها الحجج التي يطرحها الشعراء والخطباء والقادة السياسيون لإشعال الحماس في الجماهير، وكثيرا ما تنتشر في وسائل الإعلام لحشد الرأي العام بما يوافق مصالح السلطات.

5- الحجة الباطلة: هي التي تقوم على الغلط أو المغالطة: فإذا تضمنت مقدمات الحجة خطأ غير مقصود فهي “غلط” منطقي، ويجب على صاحب القضية أن يصححه. أما إذا تعمد صاحبها وضع هذا الغلط قصداً بهدف التضليل فيسمى عمله هذا “مغالطة”، ولا خلاف على أن هذا التعمد يُعد عملا منافيا للأخلاق والشرائع.

أشكال المغالطات

الاستدلال الدائري
هو أن يضع المغالِط حجته في حلقة مفرغة، فالمقدمة التي يطرحها لا يمكن إثباتها قبل إثبات النتيجة. وهي مغالطة شائعة جدا وتأخذ أشكالا عدة، حيث يتعمد المغالِط إيهام الناس بأنهم يصدقونه بتقديم ادعاءاته على أنها مسلّمات وأنهم لا يشككون فيها، فيضطر المتلقي تحت تأثير الوهم للتصديق، وربما يعتقد لاشعوريا بأن الجميع من حوله يصدقون.

مثال: يقول شخص ما إن “الكاهن فلان صادق، لأنه أكد أنه لا يكذب”، ويسمى هذا الاستدلال الخاطئ في المنطق بالدَّور، فنحن هنا أمام حلقة مفرغة.

المصادرة على المطلوب
هي من أشكال الاستدلال الدائري، حيث يجعل المغالِط النتيجة التي يريدها في المقدمة نفسها، أو يضمنها في المقدمة جزئيا بشكل غير صريح، وهو لا يبرهن عليها بل يفترض صحتها بإعادة صياغتها في النتيجة بطريقة توهمنا بأننا حصلنا عليها كنتيجة للمقدمة.

مثال: يقول أحدهم “إن الإسلام يجرّم المثلية الجنسية، والمثلية حق طبيعي لدى فئة من الناس، إذن الإسلام يدعو للتمييز ضد الأقليات”.

فالقائل هنا انطلق من مقدمة متفق عليها وهي تحريم الشذوذ الجنسي، إلا أنه أراد أن يضع النتيجة في المقدمة الثانية وهي أن الشذوذ ليس سوى حالة طبيعية تتعلق بالجينات فقط، وهذا ادعاء غير مبرهن عليه، فالنتيجة إذن لا يمكن التسليم بها.

التعميم المتسرع
تستند معظم معارفنا العلمية على التعميم الاستقرائي، فالنظريات العلمية تدرس تجريبيا حالات عشوائية للظاهرة وتستخرج منها نتيجة ما تعممها على بقية الحالات المشابهة، فيتفق العلماء على اعتمادها نظرية صحيحة مع بقاء احتمال تكذيبها يوماً ما في حال اكتشاف حالات مشابهة لا تخضع لهذا التفسير.

ولا تصح التجارب التي تُعتمد لصحة النظرية ما لم يكن اختيار الظواهر المدروسة عشوائيا وواسعا بحيث يشمل عددا كبيرا من كل أصناف الحالات المقصودة، لكن عندما يقوم الباحث بالانتقاء فلن تكون نتيجة تجاربه صحيحة، كأن يُجري بحثا في علم الاجتماع ويوزع استبيانات على طبقة معينة من المجتمع دون غيرها، فيحصل على نتائج لا تمثل المجتمع كله.

ومغالطة التعميم المتسرع هي تجسيد عملي لهذا البحث الفاشل، ومعظم الناس يمارسونها في حياتهم اليومية بناء على مشاهداتهم الشخصية.

أمثلة:
1- يرصد صحفي غربي وضع المرأة في أفغانستان فيجد أنها محرومة من التعليم ومن حقوق أخرى، فيكتب تقريرا صحفيا يقول فيه “إن شريعة الإسلام مطبقة في أفغانستان وإن المرأة الأفغانية مضطهدة، إذن فالإسلام يظلم المرأة”. فالكاتب هنا جعل من التطبيق الأفغاني للشريعة مقياسا وحيدا يعممه على الإسلام في العالم كله.

2- يقول كاتب أوربي: “إن رجال الكنيسة في القرون الوسطى كانوا يجبرون الناس على الإيمان الأعمى بالنص المقدس، لذا فالدين يقوم أساسا على معارضة العلم والعقل”. فالكاتب هنا يعمم خبرته بالدين المسيحي في عصر ما على مئات الأديان الأخرى دون أن يقدم الدليل.

التعميم المطلق
يرتكب البعض هذه المغالطة عندما يصرون على تعميم حكم ما ليشمل كافة العناصر المعنية به دون السماح بأي استثناء، وهذا غير مقبول منطقيا ولا علميا، فقد يكتشف الإنسان في المستقبل وجود استثناء للقاعدة.

أمثلة:
1- يقول أحد المعلقين “إن أتباع إحدى الطوائف الدينية مؤيدون لنظام دكتاتوري في جرائمه ضد الأكثرية من أتباع دين آخر، والمؤيدون لجرائم النظام تجب محاسبتهم، إذن علينا محاسبة كل من ينتمي لتلك الطائفة”.

2- يقول كاتب لاديني “إن حرية التعبير تعني حق الجميع بالإفصاح عن قناعاتهم، وأنا مقتنع بأن المقدسات الدينية ليست سوى خرافة، إذن يحق لي أن أشتم تلك المقدسات كما أشاء وعبر وسائل الإعلام”.

وقد تأتي هذه المغالطة بطريقة معكوسة، حيث يعمد المغالِط إلى تعميم حكم واحد سبق حدوثه استثنائيا، فيعتبره حكما عاما يطبق على جميع الحالات، وهذه من أكثر المغالطات فحشاً.

مثال: يقول أحدهم “إن أحد المسلمين في بلد ما فجّر نفسه داخل محطة قطارات وقتل العشرات، إذن فالإسلام هو الإرهاب”.

كارل ماركس

ويمكن أن نصنف ضمن هذه المغالطات بعض التطبيقات المتطرفة للنظريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث يرى أصحابها أن هناك تفسيرات حتمية لمسار التاريخ لا يمكن الخروج عنها، وتسمى النظريات التي تحكم على المستقبل بهذه الدرجة من اليقين بالنظريات الحديدية. ومن أوضح الأمثلة عليها نظرية كارل ماركس لصراع الطبقات وحتمية صعود الشيوعية في نهاية المطاف، ونظرية نهاية التاريخ التي أطلقها فرانسيس فوكوياما أواخر القرن العشرين وأكد فيها حتمية صعود الرأسمالية كنهاية للتاريخ البشري، ونظريات المؤامرة التي تنسب كل شيء إلى الكائنات الفضائية واليهود وأقطاب رؤوس الأموال في العالم وتستبعد وجود استثناءات خارجة عن معاييرها.

مغالطة التركيب
تتضمن هذه المغالطة نوعين:
الأول هو زعم أن الصفات المشتركة بين معظم أو بعض أشياء أو أشخاص ينتمون لفئة ما يجب أن تنطبق على كل شيء أو شخص ضمن هذه الفئة على حده.

مثال: “بما أن معظم أتباع الهندوسية لا يأكلون لحم البقر، إذن فهذا الشخص الذي يأكل لحم البقر لا يمكن أن يكون هندوسيا”، وهذا ليس ضروريا فقد يكون أحد الهندوس غير ملتزم بهذا الشرط الذي يفرضه عليه دينه.

النوع الثاني هو زعم أن صفات الأشياء أو الأشخاص يجب أن تطبق على المجموع، أي على الشيء الذي تتركب منه الأشياء أو على المجتمع الذي يضم الأشخاص.

مثال: “كل جنود الجيش الفارسي في معركة القادسية كانوا مسلحين ومدربين، إذن الجيش لن يهزم”، لكن الجيش هُزم أمام جيش المسلمين الذي لا يقارن حجمه الصغير أمام ضخامة جيش الفرس، لأن التدريب والتسليح على المستوى الفردي لا يكفي لتحويل الجيش بمجموعه إلى قوة ضاربة.

وهذين النوعين من المغالطة غير لازمين منطقيا في كل الأحوال لكنهما قد يصحا في أحوال أخرى عندما يكون هناك مسوغ منطقي، وذلك بناء على طبيعة الصفة التي نتحدث عنها، لذا علينا أن نميز بين الصفات المطلقة التي لا تتضمن مقارنة مثل اللون والخامة والجنس، في مقابل الصفات النسبية التي تتضمن المقارنة مثل الطول والمقاس والحجم وصفات الشخصية.

وتقع المغالطة عندما يتعمد المغالط تعميم صفات الأجزاء لجعلها صفة للمجموعة كلها في حال كونها صفات نسبية، لكن هذا التعميم مقبول في الصفات المطلقة، فيجوز مثلا أن نقول إن السرير خشبي لأن جميع أجزاءه مصنوعة من الخشب، ولكن لا يجوز القول إن السرير رخيص لأن كل قطعة منه على حدة رخيصة الثمن.

مغالطة التفكيك
هي عكس المغالطة السابقة بنوعيها، حيث يتم فيها الانتقال من الكل إلى الأجزاء.

مثال النوع الأول: “معظم الأديان تتضمن مؤسسة دينية كهنوتية، إذن كل دين يجب أن يكون كهنوتيا”.

مثال النوع الثاني: “إن المجتمع الإيماني هو مجتمع متكافل، إذن كل مؤمن يتكافل مع أقرانه”.

التحريف
يتعمد البعض تحريف الكلمات لتغيير معانيها بما يحقق أهدافه، وقد يكون ذلك بالتصرف في حركات الكلمة أو حروفها.

مثال: “إن العِلمانية مشتقة من العِلم فهي لا تصطدم بالدين بل تسعى للاحتكام إلى المنهج العلمي التجريبي بدلا من الاعتقاد بنفي السببية عن سنن الكون”.

تكمن هذه المغالطة في لجوء صاحبها إلى التحريف عندما زعم أن مصطلح العلمانية (بكسر العين) مشتق من العِلم، مع أنه يُنطق في الأصل بفتح العين اشتقاقا من العالَم الدنيوي كما هو الأصل في اللغات الأوربية التي تُرجم المصطلح عنها، فالعَلمانية تعني الدنيوية التي تقف على النقيض مع الدين.

الألفاظ الملغومة
يقول ابن جني في كتابه “‏الخصائص‏” إن الكلام لا يسمى لغة إلا إذا تم العقد (الاتفاق) على مصطلحاته الدلالية بين المتكلم والسامع‏، وبذلك تأخذ اللغة صفة‏ العقود الدلالية المتفق عليها بين طرفين.

وكثيرا ما تحمل الألفاظ معاني مترادفة تختلف مدلولاتها بحسب مقصود القائل، ‏فإذا كانت‏ لإحدى الكلمات احتمالات متساوية في المعنى المراد منها‏ وجب التوقف في تفسيرها‏ والرجوع في ذلك إلى معرفة مراد المتكلم، كما يقول ابن جني. وهذا أمر متفق عليه بين علماء اللغة والتفسير وأصول الفقه والمنطق.

وقد وضع بعض مفكري ما بعد الحداثة نظريات جديدة في العقود الأخيرة تعطي المتلقي الحق في التفسير والفهم كما يشاء، وما زالت هذه النظريات تلقى الكثير من النقد، وهي تبقى على أي حال ضمن دائرة الاجتهاد الأدبي في قراءة النص ولا تعني تغير المنطق العقلي وقواعده.

إذن فعندما يحاول المغالِط استخدام بعض الألفاظ “الملغومة” بما تحمله من معاني متعددة لصرف الانتباه عن الحجة فهو يرتكب مغالطة منطقية.

مثال: “الديمقراطية تعني حكم الشعب، أي منح الشعب سلطة التشريع، والتشريع لا يكون إلا لله، إذن فالديمقراطية كفر”، لكن مصطلح الديمقراطية في الأدبيات السياسية بات يحمل تطبيقات وأشكالا كثيرة، وهو لا يستلزم هذا المعنى بالضرورة.

السؤال الملغوم
يتعمد المغالِط في هذه الحالة طرح سؤال يتضمن بذاته اتهاما غير مبرَّر، فيضع خصمه أمام خيار صعب بحيث تصبح إجابته اعترافا ضمنيا بالتهمة، وهذه الصياغة يستخدمها المحققون في العادة لتوريط المتهم عملا بالقاعدة المغلوطة “المتهم مدان حتى تثبت براءته” بدلا من العكس، وينبغي لمن يشارك في مناظرة فكرية ألا يجيب على مثل هذا السؤال عندما يتعرض له وأن يكشف المغالطة التي تكمن فيه.

مثال: شخص يسأل خصمه لإحراجه “هل توقفت عن تأييد الإرهابيين؟”، فحتى لو أجاب الآخر بقوله “نعم” فهو يعترف ضمنيا بأنه كان يؤيدهم سابقا.

ويجب على المسؤول أن يوضح للسائل أن سؤاله مركب من سؤالين، هما: هل كنت تؤيد الإرهابيين؟ وإذا كنتَ تؤيدهم فهل توقفت عن التلقي؟ ويكفي أن يجيب عن السؤال الأول بالنفي ولا يوقع نفسه بمأزق.

استخدام المتشابِهات
الألفاظ والعبارات “المتشابهة” هي التي تحمل أكثر من معنى ويصعب التحقق من مراد قائلها، كما تُطلق على الألفاظ التي لا يمكن إدراك معناها وفقا لتعريف الجرجاني، ويقابلها في الضد الألفاظ المُحْكمة، أي التي تحمل معنى واحدا لا لبْس فيه.

وقد وردت بعض العبارات والألفاظ المتشابهة في النص القرآني الكريم، ولعل الحكمة من ورودها هي الامتحان والإعجاز، إذ تقول الآية الكريمة {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7].

وعندما يذكر المغالِط عبارة متشابهة كمقدمة وهو يقصد بها معنى ما، ثم يستخرج منها نتيجة بناءً على معنى آخر فقد ارتكب مغالطة منطقية.

وكثيرا ما يلجأ المنجّمون والدجالون لهذه الحيلة كي تبقى نبوءاتهم الكاذبة حمّالة أوجه، فيتمكنون من تأويلها لتتوافق مع مستجدات المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله، ولعل أوضح مثال على هذه الخدعة نبوءات نوستراداموس.

مثال: يقول شخص غير مسلم “إن القرآن يخاطب دائما المؤمنين بقوله يا أيها الذين آمنوا، والإيمان صفة عامة تشمل كل من يؤمن بالله، فلماذا يصر البعض على تكفيرنا لمجرد كوننا غير مسلمين؟”. فالمتحدث هنا استشهد بمقدمة صحيحة عن ورود صفة الإيمان في القرآن الكريم، ثم ادعى دون دليل أنها تشمل أديانا أخرى غير الإسلام، ليصل إلى نتيجة باطلة.

(Owain.davies,Wikimedia)

سمكة الرنكة الحمراء
هناك خلاف بشأن أصل هذه التسمية، ومن أرجح الأقوال أنها تعود لاستخدام سمكة الرنكة الحمراء من قبل الفارين من العدالة والصيادين بسحبها على الأرض وراءهم في البراري والغابات، وذلك لتضليل كلاب الحراسة برائحتها فلا تتمكن من تمييز رائحتهم وتعقبهم، ثم استُخدمت هذه الاستعارة في المنطق أوائل القرن التاسع عشر في بريطانيا.

ويتعمد مرتكب هذه المغالطة صرف اهتمام الآخرين بالحديث عن قضية أخرى وإثارة مشاعرهم بها للتغطية على قضيته التي يعجز عن إثباتها، وهذه مغالطة أكثر تضليلا من السابقة (تجاهل القضية) فالمغالِط هنا لا يسعى لإثبات قضية أخرى صحيحة بتجاهل قضيته بل يقفز إلى قضية مغايرة لإثارة المشاعر، وقد تكون أيضا خاطئة.

مثال: قد يُسأل شخص ما أثناء مناظرة دينية عن الأخطاء التي يمارسها الكهنة في دينه، وبدلا من الدفاع عنهم يحاول الحديث عن أخطاء الكهنة في دين خصمه، وذلك لإثارة حنق الخصم فقط وقلب الطاولة عليه، مع أن أخطاء الآخرين لا تبرر أخطاءه.

التفسير بالتسمية
يرتكب المغالط هذه المغالطة عندما يقفز فوق أسباب المشكلة ويكتفي بتسميتها بطريقة لا تخلو من التضليل، فقد تكون هناك أسباب عدة ولا يكفي الاقتصار على التسمية.

فمثلا عندما يقول أتباع الباطنية (الغنوصية) إن المرض النفسي أو الجسدي الذي يصيب شخصا ما ناشئ عن خلل في “الطاقة الحيوية”، فهذا مجرد افتراض قائم على اعتقاد غيبي، وإطلاق تسمية الطاقة على شيء غير مثبت هو مجرد مغالطة.

المغالطة البهلوانية (مهاجمة رجل القش)
كان الجنود الأوربيون في القرون الوسطى يتدربون على المبارزة والرمي بمهاجمة دمية كبيرة مصنوعة من القش، وقد اشتُقت هذه المغالطة من تلك المبارزة لأن المغالِط يهدف فيها إلى مبارزة خصم مزيف بدلا من خصمه الحقيقي، فهو يحيد عن القضية الأساسية ويناقش بعض أجزائها الضعيفة أو يضرب عليها أمثلة جزئية لا يصح تعميمها، ثم يصرف الانتباه إلى مجادلاته تلك بعيدا عن جوهر القضية.

وتعد هذه المغالطة من أكثر المغالطات شيوعا في الحوارات التلفزيونية والمناقشات المتبادلة في مواقع التواصل، حيث حاول الكثيرون تسليط الضوء على جانب أو مثال أو قصة ما ليسارعوا إلى التعميم واستدرار المشاعر تجاه قضية أكثر شمولا.

مثال: قد يقول أحدهم لشخص آخر إن جمعية الحكمة الإلهية (الثيوصوفيا) هي إحدى الجمعيات السرية الباطنية التي تقوم أساسا على عبادة الشيطان “لوسيفر”، وبدلا من أن يحاول الآخر نفي العلاقة بين الجمعية وبين عقيدة عبادة الشيطان، فإنه يبدأ بتعداد حسنات الجمعية مثل الدعوة إلى السلام وتجميع الشعوب تحت مظلة واحدة وغير ذلك، وهي أهداف قد تكون صحيحة ظاهرية إلا أنها قد تكون كذلك غطاءً لهدف آخر، أو يكون لها تفسير مختلف، وهي بكل الأحوال لا تنفي الافتراض الذي طرحه الشخص الأول والذي يجب أن يكون موضوع النقاش.

مغالطة وماذا عن؟
هذه المغالطة تشبه المغالطة السابقة، ويستهدف فيها المغالط صرف النظر عن الموضوع الأصلي إلى موضوع آخر مشابه للتهرب، وهي أيضا مغالطة شائعة للغاية في الحياة اليومية.

مثال: قد تجادل شخصا في المجازر التي ارتكبتها الشيوعية بحق شعوب الاتحاد السوفييتي، وخصوصا في عهد ستالين، فيرد عليك بسؤال: وماذا عن مجازر الأمريكيين بحق السكان الأصليين (الهنود الحمر)؟ فالمنطق يقتضي ألا نخلط بين الأمرين، فإقرارنا بالمجازر الأولى لا ينفي الثانية بالضرورة.

مغالطات الشخصنة
كثيرا ما يتعمد المغالِط الطعن في شخصية صاحب القضية بدلا من الانشغال بتفنيد القضية نفسها، وتأخذ هذه المغالطات ثلاثة أشكال معروفة وشائعة:

1- القدح: عندما يطعن أحد المتحاورين في الخصم مستحضرا تاريخه وأخطاءه، وقد يكون هذا مقبولا عندما يتعلق الطعن بالقضية نفسها ويشكك في مصداقية قائلها، ولا سيما عندما يكون هذا القائل ناقلا لرواية ما وهو شخص غير مؤهل للثقة في النقل، لذا اهتم علماء الحديث المسلمون بالجرح والتعديل في تصنيف الرواة حسب عدالتهم وقدرتهم على الحفظ والضبط.

2- التعريض بالانتماء: عندما يلجأ المغالِط للغمز واللمز بشأن انتماءات خصمه وميوله السياسية وخلفيته الطبقية أو الأيديولوجية.

مثال: يقول أحدهم لخصمه “كيف لي أن أصدق ما تقول وأنت تنتمي أصلا إلى دين يتضمن كتابه المقدس الكثير من الأكاذيب؟”، فالمتحدث هنا يحاول إثبات خطأ قضية ما بناء على انتماء قائلها مع أن القضية قد تكون صحيحة.

3- أنت أيضا تفعل ذلك: عندما يتهرب المغالِط من تهمة ما بمحاولة اتهام خصمه بها، فهو لا يناقش التهمة نفسها بل يكتفي بإثبات أنه ليس وحده المخطئ، مع أن خطأ الخصم لا يبرر خطأ المغالِط، كما أن الخصم قد يكون تائبا عن خطئه.

الاحتكام إلى السلطة
كثيرا ما نلجأ في أحكامنا وقراراتنا ومعلوماتنا إلى الخبراء والمتخصصين وأصحاب النفوذ، وهو أمر مقبول عندما يكون احتكامنا إليهم في مجال تخصصهم وخاليا من التقديس، لكن المغالطة تقع عندما يعمد أحدهم إلى القول بأن صحة القضية ترتبط فقط بصدورها عن سلطة ما سواء كانت علمية أو سياسية أو مشهورة، وذلك وفقا للحالات الآتية:

1- عندما يكون الاحتكام إلى السلطة في قضية تقع خارج اختصاصها: مثل الاستشهاد بآراء دينية شاذة يطرحها عالم كبير في مجال الطاقة النووية، فكونه مرجعا في الفيزياء لا يجعله مؤهلا للإفتاء في الدين.

2- عندما تكون السلطة مجهولة: كأن يقول أحدهم “إن الكثير من المؤرخين الكبار أنكروا وقوع حادثة ما”، فالمغالِط لم يذكر أسماء المؤرخين واكتفى بوصفهم بالكبار، دون أن يقدم دليلا على صحة قوله.

3- عندما تكون السلطة منحازة وغير محايدة: مثل الكهنة العاملين في سلك الكهنوتية الرسمي لدولة ما، فآراؤهم السياسية لا تكون نزيهة بالضرورة.

4- عند تجاهل الخلاف بين السلطة المُحتكَم إليها وسلطات أخرى مماثلة: فقد يلجأ شخص مثلا إلى فتوى لأحد الفقهاء في قضية خلافية بما يناسب رأيه، معتبرا أنها هي الحكم الشرعي الصحيح، ويتجنب الإشارة إلى آراء فقهاء أخرى مخالفة.

5- عندما يكون رأي السلطة قديما وبحاجة للتجديد: فعلى سبيل المثال قد تكون بعض الفتاوى الدينية المتعلقة بأنظمة سياسية واجتماعية اندثرت قبل قرون غير صالحة للتطبيق اليوم.

الاحتكام إلى الأكثرية
يلجأ المغالِط إلى رأي الأكثرية بدلا من الحجة، وقد يكون رأي الأكثرية صحيحا بالفعل، كما يمكن أن يكون خاطئا. وقد نُقل عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله “الجماعة ما وافق الحق؛ ولو كنت وحدك”.

والاحتكام إلى الأكثرية ليس خطأ بذاته، فالحكم الديمقراطي قائم على اختيار الأغلبية في صناديق الاقتراع، والتجارب العلمية تأخذ صفة النظرية عندما تتحقق بالتكرار، كما يُحتكم في الشريعة إلى رأي جمهور الفقهاء عادةً، وعندما يتحقق الإجماع (أي موافقة جميع الفقهاء في عصر ما) على أحد الآراء يُصبح ملزما، لكن هذا الاحتكام الذي يصح عادة في مجالات السياسة والعلم والقانون والفقه لا يعني بالضرورة أن يؤدي إلى نتيجة عقلية صحيحة، بل هو مجرد اتفاق على تطبيق نتائجه عمليا.

يتحدث الفيلسوف البريطاني جوليان باجيني في كتابه “هل تحكم على الكتاب من عنوانه؟” عما يسميه “خديعة الحكمة”، وينتقد الاستخدام اليومي للأمثال والمقولات المأثورة على أنها بمثابة حقائق يُجمع عليها الناس، مع أنها قد تكون خاطئة ومضللة.

الاحتكام إلى سلطة الآباء والتقاليد
هذا الغلط شائع جدا ولا يكاد ينتبه إلى ارتكابه معظم الناس، لذا أوضح القرآن الكريم في عدة آيات أن تقليد الآباء هو السبب المشترك للضلال بين الأمم، ومنها قوله تعالى {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف: 23].

التجريم بالتبعية
يرتكب البعض هذه المغالطة عندما يحكمون على قضية ما بأنها باطلة لمجرد أن إحدى الجهات تؤيدها، فقد تكون آراء تلك الجهة خاطئة في أمور كثيرة لكن هذا لا يستلزم أن يكون موقفها من القضية المعنية خاطئا بالضرورة.

مثال: “الحدث الفلاني ورد ذكره في الكتاب المقدس، وهذا الكتاب محرّف ومزيف، إذن فالحدث لم يحدث أصلا”.

ويجدر بالذكر أن سقوط مصداقية بعض المصادر قد يكون مبرِّرا لنفي صحة ما يصدر عنها، ولكن هذا يتطلب تقديم أدلة كافية لإثبات انعدام مصداقيتها في كل ما يصدر عنها مئة بالمئة، كي نحصل على نتيجة منطقية تفيد اليقين.

فإذا قال علماء الحديث على سبيل المثال إن شخصا ما “متروك الحديث” بعد أن تيقنوا من كذبه، فهذا يعني أنه لا يمكن اعتماد شيء مما يرويه من الأحاديث لوجود شك فيها، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن كل ما يقوله حتماً كذِب.

وقد تأخذ هذه المغالطة شكلا آخر، حيث يتهم المغالِط شخصا أو جهة ما بالانتماء لجهة أخرى لمجرد إثبات توافقهما بالآراء في قضية أو عدة قضايا، لكن هذا الاتهام يتطلب إثبات الانتماء نفسه وليس التوافق في الرأي.

مثال: “المؤرخ الفلاني أثبت وقوع ذاك الحدث، والكتاب المقدس تحدث أيضا عن وقوع نفس الحدث، إذن فالمؤرخ يؤمن بذلك الكتاب ويدين بدينه”.

مغالطة المنشأ
في هذه الحالة يحكم المغالِط بصحة أو خطأ القضية بناء على مصدرها، فإذا كان هناك رأي ما قد صدر عن جهة يبغضها سارع إلى الحكم ببطلانه، والعكس صحيح.

مثال: “إن فكرة ظهور المخلّص في آخر الزمان وردت في التوراة المحرّفة، إذن هي فكرة يهودية خالصة وتأثر بها أتباع أديان أخرى”.

الاحتكام إلى الحداثة
يحاول المغالِط في هذه المغالطة إيهام خصمه بأنه متخلف عن ركب الحداثة، كي يجبره لاشعوريا على الاقتناع بحجته، فيكتفي المغالِط بالقول إن رأيه هو الأحدث ومن ثم فهو صحيح، مع أن الحق لا يرتبط بالقِدم ولا الحداثة.

مثال: “نظرية التصميم الذكي (الخلق) تتعارض مع نظرية التطور الأكثر حداثة، إذن نظرية الخلق خاطئة”، فالمغالِط هنا لم يناقش أدلة النظريتين واحتكم إلى معيار الحداثة فقط.

الاحتكام إلى الاشمئزاز
يحاول المغالِط هنا اللعب على وتر الغرائز والمشاعر فيربط بين القضية التي يريد تفنيدها وبين أمور أخرى تثير الاشمئزاز أو النفور، دون أن يطرح حجة منطقية، وهذا ما تفعله الأعمال الكوميدية ورسوم الكاريكاتير أيضا.

مثال: “معظم المتدينين في مدينة ما من الطبقات الدنيا، ومعظم الملحدين أغنياء، إذن الدين مرتبط بالفقر”، فالمغالط لم يناقش الدين ولا الإلحاد، بل اكتفى بربط الدين بالفقر.

الاحتكام إلى الشفقة
يستند المغالِط في هذه الحالة إلى استدرار عطف الآخرين لإثبات قضيته بدلا من اللجوء للحجة العقلية، ومع أن التعاطف مع المظلومين والمنكوبين ضروري أخلاقيا إلا أنه ليس حجة لإثبات أو تفنيد أي قضية.

مثال: “الضحية الفلانية تعرضت للقتل على يد أقاربها في جريمة شرف، إذن يجب التخلص من مفاهيم الشرف والعار”، فالمغالط لم يناقش القضية بكل أبعادها، ولم يذكر ما فعلته الضحية قبل أن تتعرض للقتل، بل اكتفى باعتبارها ضحية لتسليط الضوء على جانب واحد وهو مفهوم الشرف.

الاحتكام إلى الأُمنية
قد نرتكب هذه المغالطة في حياتنا اليومية كثيرا دون أن نشعر، فنحن نرفض أو نقر بعض الخيارات بناء على أمنياتنا بدلا من تبريرها منطقيا، وإذا كان هذا مقبولا من الناحية النفسية أو العملية في بعض الأحيان فهو غلط منطقي لا يؤدي إلى نتائج عقلية صحيحة، وقد يصبح مغالطة عندما يتعمد أحدنا استغلالها للمحاججة.

مثال: “الله رحيم بعباده، ونحن بشر ناقصون، إذن الله لن يعذبنا”. وهذا ليس ضروريا بالمنطق، فرحمة الله لا تتعارض مع إنزاله العذاب بمن يستحق.

الاحتكام إلى الجهل
يزعم المغالِط أن قضية ما صحيحة أو خاطئة طالما لم يستطع خصمه أن يثبت العكس، فهو يحتكم بذلك إلى جهل الخصم بالدليل، مع أن الدليل قد يكون موجودا ولكن الخصم نفسه لا يعرفه. وربما يخيره بين أمرين فيقول: إما أن تسلّم بكلامي أو تأتي بأفضل منه، وهذا ليس ضروريا، فيمكنك أن تبطل حجة المغالِط وتبثت مثلا أنه دجال في ادعائه بأنه قد اخترع علاجا لمرض عضال دون أن يكون مطلوبا منك اختراع علاج بديل.

ومن القواعد المعروفة لدى علماء المنطق أن عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود، أي أن عدم علم أحد من الناس (أو الناس جميعا) بوجود شيء ما فهذا لا يعني أنه غير موجود، فقد تكون هناك عوالم غيبية لا نشعر بها ولم يُحدثنا عنها الوحي، لكن جهلنا بها لا يعني أنها ليست موجودة.

الاحتكام إلى القوة (التهديد)
يكتفي المغالِط باللجوء إلى منطق التهديد والتخويف، متجاوزا بذلك عبء البحث عن حجة، لذا تُسمى هذه المغالطة أيضا بمغالطة التلويح بالعصا.

وليام جيمس

الاحتكام إلى النتيجة
يتهرب المغالِط من مناقشة الحجة بالحديث عن نتائجها، محاولا إثباتها لأن نتيجتها جيدة، أو تفنيدها لمجرد أن نتيجتها سيئة.

والاحتكام إلى النتائج في الحياة العملية أمر مقبول، فالعاقل هو من يتعظ بغيره ويستفيد من التجارب، لكن النتيجة لا تكون حجة عندما يكون السؤال نظريا ويبحث في الحق والباطل.

مثال: كان الفيلسوف البراغماتي وليام جيمس يعتقد أن الإيمان بوجود الله يحقق نتائج مُرضية تُساعد الإنسان على تحسين وضعيته الواقعية وترتقي بحالته النفسية، لذا فالإله بحسب رأيه موجود.

وهذا احتكام إلى النتيجة فقط، مع أن وجود الله موضوعي وليس شأنا ذاتيا، لكن البراغماتية تقوم أساسا على ربط الحقائق بالنتائج.

التجربة الذاتية
يفترض المغالِط أن الطريقة الوحيدة لإثبات أي قضية هي التجربة الشخصية فقط، فيقول إنه لا يستطيع أن يؤمن بما يقوله الخصم ما لم يجربه هو بنفسه. ولو كان هذا الزعم صحيحا لما آمن الناس بغالبية حقائق الوجود، فنحن مثلا لم نحلّق في الفضاء لنشاهد كروية الأرض بأعيننا، ولم نرافق العلماء في مختبراتهم لنتحقق من صحة تجاربهم الفيزيائية والكيميائية.

المنزلق الحدِر
يتخيل المغالِط سلسلة من النتائج التي يؤكد أنها ستحدث تبعا للمقدمة، ليصل في النهاية إلى نتيجة مفادها إثبات أو تفنيد القضية، فهو يحتكم إلى النتيجة ولكن عبر سلسلة من الأحداث التي تترك انطباعا جيدا أو سيئا دون احتكام إلى الحجة المنطقية.

فعلى سبيل المثال، تكرس عدة وسائل إعلام غربية صورة نمطية للإسلام ترتبط بالعنف والتخلف، فنجد مثلا في الفيلم الهوليودي الكوميدي American Carol “ترنيمة أمريكية” (2008) تبريرا لما كان يسمى بالحرب على الإرهاب عبر تخويف المشاهد الأمريكي من احتمال سيطرة المسلمين “إرهابيين” على الحكم، وذلك في سلسلة مشاهد متخيلة تتضمن قمعا للنساء وفرضا للحجاب عليهن.

الحلول الكاملة
يصرّ المغالط على أن أي حل للمشكلة التي يتم بحثها يجب أن يكون كاملا ولا تشوبه شائبة، وإلا فهو حل مرفوض. وهذا غير منطقي لأن الحل الجزئي قد يخفف المشكلة، وقد يؤدي إلى انتهائها بعد زمن ما.

مثال: “إن انتشار الحجاب بين النساء في المجتمع لم يؤد إلى القضاء على ظاهرة التحرش، فلماذا يحاول الدعاة إقناعنا بجدوى الحجاب؟”، فالمغالط يفترض أصلا أن الحكمة من فرض الحجاب هي القضاء على المشكلة كلها، وبما أنه لن يحلها فهو يرفضه بالجملة.

الأبيض أو الأسود
يضع المغالِط خيارين لا ثالث لهما أمام خصمه، وكأنه يفترض مسبقا عدم وجود خيارات أخرى، وقد يكون المغالط أكثر تطرفا عندما يضع خصمه أمام خيار واحد فقط دون مبرر منطقي.

وكثيرا ما نسمع هذه المغالطات الديماغوجية في خطابات السياسيين، ولا سيما عندما يتحدث مسؤولون غربيون عن ضرورة “اندماج” الجاليات المسلمة بالثقافة الغربية، بما يتضمن أحيانا إكراه طالبات المدارس على خلع الحجاب، وقد يصل الأمر إلى درجة التصريح بمقولة “من لم يكن معنا فهو ضدنا”.

التماس المديح
قد يتعمد المغالط كيل المديح لخصمه أو للمتلقي عبر وسائل الإعلام بهدف إحراجه ودفعه لاشعوريا للاقتناع برأيه، دون أن يقدم الحجة والدليل.

وتكثر هذه المغالطة أيضا في الخطابات السياسية، مثل كيل المديح للشعب والأمة في سياق دفع الرأي العام باتجاه ما، وقد يستخدمها المغالط في الحوار فيقول لخصمه “أنت شخص عاقل ولا يليق بك أن تقول كذا”.

العلة الزائفة
يحاول المغالِط تزييف الحجة عبر ربط القضية بعلة غير صحيحة ليصل إلى نتيجة خاطئة، وذلك في أحد الأشكال الأربعة الآتية:

دير بحيرا الراهب في بصرى الشام

1- خلط السببية بالمصادفة: قد يتصادف وجود حدث ما مع حدث آخر في الزمان والمكان دون أي علاقة سببية بينهما، لكن المغالِط يتعمد الربط بينهما للتضليل.
مثال: اتهام بعض المستشرقين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنه تلقى قصص الأمم السابقة عن أهل الكتاب، ويمكن صياغة هذه المغالطة كالآتي “محمد التقى بحيرا الراهب أثناء صباه في بصرى الشام، وبحيرا الراهب كان حافظا للروايات التوراتية، إذن فمحمد تلقى عنه تلك الروايات ولم يأخذها عن الوحي”.

2- المغالطة البَعدية: قد يأتي حدث ما بعد حدث آخر فيربط المغالِط بينهما مؤكدا أن الأول لا بد أن يكون سببا للتالي، مع أن التعاقب الزمني لأي حدثين لا يستلزم بالضرورة وجود سببية بينهما.
مثال: “الآثار تؤكد أن الأساطير التي وصلتنا من القرون السابقة أقدم من الكتب الإبراهيمية، إذن فالأديان الإبراهيمية مقتبسة من الأساطير الوثنية وليست وحيا من السماء”. وهذا افتراض لا دليل عليه، فمن حيث المنطق يمكننا افتراض نزول الوحي على أنبياء قبل إبراهيم ثم حُرفت ووصلت إلينا على هيئة أساطير، بينما ظلت الكتب الأخيرة محفوظة من التحريف جزئيا أو كليا، وحتى في حال حدوث الأساطير أولاً فإن الباحث لم يقدم أي دليل على أن الأنبياء اقتبسوا عنها كتبهم.

3- إغفال أسباب أخرى مشتركة: قد يكون الربط بين السبب والنتيجة صحيحا لكن المغالِط يتعمد إغفال أسباب أخرى.
مثال: “نسبة مشاهدة الأفلام الخليعة مرتفعة في المجتمعات المحافظة، إذن التدين يؤدي إلى الهوس الجنسي”، فالمغالط قد يكون مصيبا في المقدمة، إلا أنه أغفل أسبابا أخرى أدت إلى ارتفاع نسبة المشاهدة، ثم توصل إلى نتيجة غير مثبتة منطقيا.

4- الاتجاه الخاطئ للسببية: يتعمد المغالِط هنا عكس العلاقة السببية بجعل السبب نتيجة والنتيجة سبباً.
مثال: “التشدد الديني ينتشر في الشرائح الاجتماعية الأقل تعليما، إذن فالتشدد يؤدي إلى الجهل”، فالمغالط لم يثبت الانتقال من السبب إلى النتيجة، فقد يكون الجهل هو الذي أدى إلى التشدد وليس العكس.

مغالطة المقامر
تعود هذه المغالطة إلى اعتقاد لاشعوري بأن الأمور تجري في الكون بما يجعل الأمور الاحتمالية تميل إلى التعادل تلقائيا، فإذا رمى شخص ما عملة معدنية تسع مرات مثلا وسقطت في كل مرة على أحد الوجوه فسيميل لاشعوريا للاعتقاد بأن المرة العاشرة ستأتي بنتيجة مختلفة، وهذه مغالطة منطقية، فليس هناك سبب منطقي يدفعنا للاعتقاد بأن سقوط العملة 99 مرة مثلا على أحد الوجوه سيجعلها في المرة التالية تسقط على وجه آخر، ففي كل مرة نرميها يكون احتمال سقوطها على أحد الوجهين هو 50 بالمئة، وليس واحدا إلى مئة.

الاحتكام إلى العادة
تستند هذه المغالطة أيضا إلى ميل نفسي لاشعوري يدفعنا للاعتقاد بأن الأمور تسير في الحياة على مجرى العادة، فنتوقع تكرارها دائما بالطريقة نفسها.

وقد يكون هذا الشعور مقبولا من الناحية العلمية في الظواهر الكونية الكبرى، فتكرار شروق الشمس من المشرق هو أمر اعتيادي مازال يتكرر منذ أقدم العصور، ومن الطبيعي أن نتوقع استمرار هذه العادة إلى ما شاء الله، لكن المنطق العقلي المجرد لا يجزم بأن يحدث شروق الشمس في اليوم التالي بالطريقة المعتادة نفسها.

وتقع المغالطة عندما يتعمد المغالِط استخدام هذا الميل النفسي في أمور لا تسير وفقا لأي قانون فيزيائي، كما يخلط الملحدون بين الجانبين العقلي والفيزيائي عندما يعتقدون أن سيرورة الكون وفقا لقوانين القوى الأربعة (بما فيها الجاذبية) المتواصلة منذ ملايين السنين تكفي للاستغناء عن الإله.

التشبيه والتشييء الخاطئين
نميل في العادة لتشبيه الكثير من الأمور بأمثلة نقتبسها من مشاهداتنا وتقاليدنا وتجاربنا السابقة، كما نقوم أحيانا بتجسيدها وتشييئها (تحويلها إلى أشياء مادية نتصورها في أذهاننا)، وقد يكون التشبيه والتشييء مفيدين للتبسيط والفهم والوعظ، حيث نجد للتمثيل الصوري أمثلة كثيرة في النصوص الدينية والأعمال الأدبية، لكن المغالطة تقع عندما يتحول التشبيه والتجسيد إلى مطابقة تامة، فيأتي القياس بنتائج خاطئة.

ومن الأمثلة الشائعة تشبيه “الطبيعة” بكائن حي، ثم وصفها بصفات الوعي والقدرة والإرادة لتقوم بانتخاب الأقوى كي يبقى ويتطور، ولتحافظ بنفسها على التوازن البيئي وتجدد الموارد.

إثبات التالي
تتكون القضية الشرطية من قضيتين تكون إحداهما شرطا للأخرى، ويسمى القسم الأول من القضية مقدَّماً (وهو الشرط)، بينما يسمى الثاني تالياً (وهو ما يلزم عن الشرط).

يعمد المغالِط إلى عكس المعادلة، فيبدأ بإثبات تحقق التالي ليستنتج منه صحة الشرط وتشير بعض الدراسات إلى أن ثلثي الناس لا ينتبهون إلى هذه المغالطة ويقعون ضحية لمرتكبها بسبب غموضها.

مثال: “إذا ارتكب فلان معصية كبرى فيحق للبابا أن يعاقبه بالحرمان الكنسي، وبما أن البابا طبق عليه الحرمان الكنسي، فلا بد أن فلانًا ارتكب المعصية”.

ويتضح التضليل هنا عندما نلاحظ أنه كان ينبغي إثبات أن الشخص ارتكب المعصية لنقتنع بحق البابا في معاقبته، إلا أن المغالط قفز إلى ما فعله البابا ليعتبره دليلا على معصية الشخص.

إنكار المقدَّم
في هذه المغالطة ينكر المغالِط المقدم (الشرط) ليستنتج من ذلك نفي التالي، وهذا غير لازم، فالقضية الشرطية تؤدي إلى إثبات التالي بناء على إثبات المقدم ولكنها لا تقول إن عدم إثبات المقدم سيؤدي بالضرورة إلى نفي التالي.

مثال: “إذا تحقق القصاص العادل من الطاغية الذي قتل ملايين البشر قبل موته فهناك إذن عدالة إلهية، ولكن الطاغية مات على فِراشه بسلام، إذن فكيف تقولون إن هناك عدالة؟”. فالشرط الذي وضعه المغالط في البداية صحيح، ولكن عدم تحقق الشرط لا يعني أنه سيحصل على نتيجة معاكسة بالضرورة، فقد يموت الطاغية دون قصاص في الدنيا ثم يقتص المظلومون منه في محكمة الآخرة، ويتحقق بذلك العدل بالتمام دون نقصان.


أهم المراجع
عبد الرحمن حبنكة الميداني، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دار القلم، دمشق، 1993.

عادل مصطفى، المغالطات المنطقية: طبيعتنا الثانية وخبزنا اليومي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2007.

م.نيل براون وستيوارت م.كيلي، طرح الأسئلة المناسبة: مرشد للتفكير الناقد، ترجمة نجيب الحصادي، ومحمد أحمد السيد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.

علي سامي نشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، 1984.

محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، مكتبة الأنجلو المصرية، 1949.

عبد الرحمن بدوي، المنطق الصوري والرياضي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1997.

أبو الفتح عثمان بن جني، ‏الخصائص‏، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999.

Stephen Downes Guide to the Logical Fallacies Website: https://fallacies.ca/welcome.htm

The Skeptics’ Guide to the Universe Website: https://www.theskepticsguide.org

Logical Fallacies Website: https://web.archive.org/web/20191121214240/https://www.logicalfallacies.info/

42 fallacies, Dr. Michael C. LaBossiere, A Philosopher’s Blog: http://aphilosopher.files.wordpress.com/

الماسونية

تعد الماسونية في العصر الحديث الجمعية الأم لمعظم الأخويات والمنظمات والجمعيات السرية في العالم، وهي بدورها الوريث الأهم لأخطر الحركات السرية التي تشكلت عبر قرون، وكان آخرها منظمة فرسان الهيكل التي نشأت في ظل الحروب الصليبية وتم حلّها في أوربا لاحقا.

تستمد الماسونية الكثير من أفكارها ومبادئها من الفلسفات الباطنية (الغنوصية) واليهودية المحرفة والسحر والقبالاه، وهي مرتبطة على الأرجح بعبادة الشيطان، وترمي في النهاية إلى تحقيق سيادة بني إسرائيل على العالم عبر بناء هيكل سليمان في القدس.

ومنذ إعادة هيكلتها عام 1717، يحاول الماسون إخفاء الكثير من أسرارهم وأهدافهم وإظهار منظمتهم في صورة جمعية خيرية وأخوية عالمية، إلا أن توالي حركات الانشقاق وانكشاف الكثير من الأسرار دفعهم في النهاية إلى فتح بعض الملفات لنفي تهم المؤامرة عن أنفسهم، وللظهور في مظهر الانفتاح، كما عمدوا في العقدين الأخيرين إلى ضخ عدد لا يحصى من الأفلام والكتب التي تخلط الحق بالباطل عن الماسونية ومؤامراتها، ليصل عامة الناس إلى نتيجة سطحية مفادها أن الأمر كله ليس سوى اتهامات باطلة وهواجس ذهانية تُصنف عالميا تحت مسمى “نظريات المؤامرة”، لا سيما وأن هناك الكثير من الاتهامات الباطلة فعلا في وسائل الإعلام وكثير من المؤلفات، إلا أن وجودها لا ينفي الحقيقة عن الأبحاث الجادة، فالبحث الموضوعي الرصين مازال قادرا على كشف الكثير من حقائق هذه الجمعية السرية، وهو ما يسلتزم عدم الانشغال بالكميات الهائلة من الأكاذيب التي تشجع الماسونية على نشرها للتغطية على الحقيقة.

أصل الماسونية
لا يمكن الجزم بأصل هذه الجمعية السرية طالما كانت وثائقها خفية، وطالما كان من الصعب التحقق من التسريبات والاعترافات ونتائج الأبحاث التاريخية بسبب تداخل الحقائق بالأباطيل، فقد تكون الوثائق والشهادات المتوفرة لدينا صحيحة إلا أن الشاهد عليها لا يكون سوى شخص واحد أو بضعة أفراد، ويكاد التحقق من موثوقيتهم شبه مستحيل.

لذا تظل الروايات المتعددة بشأن نشأة الماسونية وأصلها في مقام النظرية المعرضة للنقد والتمحيص، وهذا لا يمنع ترجيحنا لصحة أو ضعف أي منها دون جزم، كما لا يمنع أن نصل إلى نتيجة مؤكدة بشأن أهداف الماسونية الحالية وما تسعى إليه، بغض النظر عن لحظة نشأتها التاريخية.

وسنتعرض فيما يلي لأهم النظريات التي تتحدث عن أصل الماسونية، علما بأن الخلاف يقع غالبا في لحظة البدء والمؤسس الأول وليس في المراحل اللاحقة من تاريخ الماسونية الممتد لآلاف السنين، وصولا إلى لحظة ولادة محفل إنجلترا الأعظم عام 1717 في لندن التي تعد الإعلان الأول لنشأة الماسونية باسمها المتداول اليوم، مع أن وجودها السابق كان تحت أسماء وأنظمة وطقوس مختلفة.

أولا، الرواية الماسونية: هي ليست رواية واحدة، حيث نجد لدى الماسون أنفسهم روايات مختلفة، وقد يكون ذلك نتيجة العماء الذي تتعمد قيادة الجمعية العالمية أن تبقيه مسيطرا على أعضائها، بما فيهم أولئك الذين ترقوا إلى أعلى الدرجات، أو نتيجة التضليل المتعمد لعامة المجتمع بشأن نشأة جمعيتهم السرية.

ففي دستور الماسونية الأول الذي وضعه جيمس أندرسون عام 1723، قيل إن الجمعية بدأت في فجر البشرية على يد آدم عليه السلام، مرورا بالأنبياء نوح وإبراهيم وموسى وسليمان، ثم الملكين يوليوس قيصر وجيمس الأول.

غلاف الدستور الأول للماسونية

وحسب “مخطوطة الشوك” الماسونية (Thistle Manuscript) التي تعود إلى عام 1756، فإن الملك النمرود –الذي يقال إنه بنى مدينة بابل في العراق وكان معاصرا لإبراهيم عليه السلام- هو الذي أسس الماسونية قبل عصر سليمان عليه السلام، ووضع رموزها ومصطلحاتها ليميز أعضاءها عن بقية الناس.

ونجد في بعض المؤلفات من يزعم أن الماسونية سبقت البشرية نفسها، فينسبها إلى الكائنات الفضائية التي عرفت الحضارة قبل نشأة البشر على هذا الكوكب مثل الدكتور أوليفر [كتاب تبديد الظلام، ص 82]، ومع أن هناك من الماسون أنفسهم من يسخر من هذا الطرح، إلا أن له أصل مفهوم، فالجمعيات السرية تبث منذ سنوات أفكارا عن احتمال هبوط كائنات فضائية في المستقبل القريب لإنقاذ البشرية من حروب وكوارث محتمة، وقد عملت عشرات الأفلام والمسلسلات الهوليودية على تكريس هذه الفكرة، والتي يرى فيها البعض مقدمة لخروج الدجال Antichrist والشياطين التي تسير في موكبه.

ويقول مؤرخون ماسون آخرون إن سليمان عليه السلام هو الذي أسس الماسونية أثناء بناء الهيكل، وهو أول أستاذ أعظم.

المحفل الماسوني الأعظم بلندن

وفي كتابه “تاريخ الماسونية العام”، يستعرض الماسوني اللبناني الراحل جرجي زيدان تاريخ الجمعيات السرية القديمة التي يعتبرها الوسيلة الوحيدة لنشر العلم والخير، ثم يزعم أن الماسونية بدأت سنة ٧١٥ق.م على يد الملك الروماني نوما بومبيليوس الذي أسس أخويات للبنّائين وعهد إليهم مهمة بناء روما بهياكلها وأسوارها، ثم توسع نشاطهم وتراكمت خبراتهم الإبداعية مع تناقلهم لأسرار المهنة التي احتفظوا بها لأنفسهم على مر القرون، فالمؤرخ زيدان يشترك مع كافة زملائه الماسون بنسبة أصل الجمعية إلى العاملين في حرفة البناء، إلا أنه كان أكثر تظاهرا بالبراءة في الاعتقاد بأنها لم تكن سوى نقابة أو نادٍ اجتماعي للبنائين، ويعترف آخرون بأن حرفة البناء لم تكن سوى الجزء المعلن من عقائد وعلوم وطقوس الماسون الذين يخلطون الهندسة بالسحر والسياسة.

وتدّعي بعض المحافل الماسونية الكبرى الجهل بأصل الجمعية، فتجعل من تأسيس المحفل الإنجليزي عام 1717 هو نقطة البداية فقط، حيث يقول عوض الخوري في كتابه “تبديد الظلام” -الذي سيأتي ذكره لاحقا- إنه أرسل إلى كبار المحافل رسائل يسألها عن أصل الماسونية، فجاءه الرد من “الشرق المصري الأعظم” بأنهم لا يعرفون شيئا، في حين رد عليه “الشرق الأعظم في لندن” بقوله: “لا شيء عندنا ثابت عن تاريخ تأسيس الماسونية، فجل ما نعرفه هو أنها وجدت عندنا سنة 1717، ولا نعرف تاريخا ثابتا لتأسيسها”، ولكن لم ترد عليه كبرى المحافل العالمية التي طالبها بالتوضيح قبل أن يؤلف كتابه.

ثانيا، الأصل البابلي: بحسب هذه النظرية، يُعتقد أن الماسونية ظهرت في المرحلة التي بدأ فيها كتمان ما جاء فيها التوراة وإعادة كتابتها بعد ادعاء فقدها لطرح النسخة المحرفة المتداولة اليوم، فبعد غزو الملك البابلي نبوخذ نصر للقدس وسبي اليهود واقتيادهم عبيدا إلى بابل سنة 586 ق.م، حاولت نخبة من الأسباط الإسرائيلية الاثني عشر (سلالات أبناء النبي يعقوب) إعادة تشكيل الدين نفسه بتحريفه وبث نقيضه لتضليل البشرية، وذلك بوضع خطة محكمة لمحاربة الوحي وكل الأنبياء الذين سيعيدون إحياءه، واستفادوا في ذلك من تجارب الجمعيات السرية السابقة، فشكلوا جمعيتهم اليهودية السرية الخالصة التي كانت نواة الماسونية الحديثة، وقد حافظت على معظم طقوسها وأسرارها وأهدافها الجوهرية، وعلى رأسها إعادة اليهود إلى القدس وبناء هيكل سليمان.

ثالثا، القوة الخفية: لم نجد هذه الرواية لأصل الماسونية سوى لدى الكاتب اللبناني الراحل عوض الخوري، ففي كتاب “تبديد الظلام أو أصل الماسونية” الذي نشره عام 1926، يصف الخوري نفسه بأنه كاتم أسرار رئيس البرازيل برودنت دي مورايس، وهو ما يقابل اليوم مصطلح أمين السر أو السكرتير، ويقول إن الرئيس البرازيلي دبّر عام 1897 لقاءً يجمع بين الكاتب وتاجر مجوهرات روسي الأصل ويعمل في البرازيل اسمه لوران جورج صموئيل، حيث قدّم لوران للرئيس وثيقة باللغة الفرنسية مترجمة عن مخطوط قديم باللغة العبرية، مطالبا الرئيس بنشرها في أصقاع الأرض ليكتشف الناس حقيقة وأصل الماسونية، فطلب الرئيس من سكرتيره الخوري أن يترجمها إلى العربية لتُنشر أيضا في العالم الإسلامي عن طريق الدولة العثمانية التي كانت مؤسساتها تعاني آنذاك من التغلغل الماسوني، حيث كان الخوري قد هاجر سابقا من لبنان إلى البرازيل ولديه علاقات بالكثير من العرب والمسلمين في أقطار الدولة العثمانية.

يقول الخوري إنه ترجم الوثيقة إلى العربية تحت إشراف لوران الذي لم يسمح بخروجها من بيته، إلا أنه لم ينشر النسخة العربية عندئذ لسبب لم يذكره، ثم ضاعت منه الترجمة بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى كما يقول، فاسترجع نسخة ثانية من الترجمة كان قد تركها مع لوران، ونشرها أخيرا عام 1926.

وبحسب الكتاب، فإن لوران هو آخر أحفاد اليهود التسعة الذين أسسوا الماسونية في القرن الميلادي الأول، ويقول إن جده صموئيل أخبر ابنه جورج (والد لوران) بأن والد صموئيل الذي يدعى جوناس كان يهوديا واعتنق المسيحية بعد تعلقه بفتاة بروتستانتية تدعى جانيت، وعندما علمت زوجته المسيحية بالمؤامرة التي يتوارها أحفاد المؤسسين التسعة شجعته على نشر الوثيقة.

وتقول جانيت إن العالم كان قد هلك على يد امرأة (حواء حسب الرواية التوراتية) لكن الله يحب أن يكون خلاص العالم على يد امرأة أيضا، وتقصد بذلك نفسها بحرصها على نشر الكتاب وفضح الماسونية اليهودية. ويقول المترجم إنه بالرغم من كونها بروتستانتية، فلم تكن معادية للكاثوليكية والإسلام اللذين تناصبهما الماسونية العداء.

وعندئذ عهِد جوناس وجانيت لابنهما صموئيل -الذي نشأ نصرانيا- بنشر الكتاب، لكن صموئيل نقل المهمة إلى ابنه جورج بعد أن شعر بقرب موته بسبب المرض، ومات صموئيل بعد كشفه عن السر والوصية بأيام قليلة عام 1883. ثم بدأ جورج بترجمة المخطوط العبري إلى الفرنسية، ولم يستطع إكمال المشروع بالترجمة إلى الإنجليزية حيث مات بدوره بعد موت والده بسنة وهو في سن الرابعة والأربعين، إلا أنه كان قد استبق موته بثلاثة أشهر وأوصى ابنه لوران بمتابعة المشروع وترجمة المخطوط إلى الإنجليزية ثم نشر النسختين الفرنسية والإنجليزية حول العالم، وهو ما فعله حسب قوله.

وبحسب الوثيقة، فإن نشأة الماسونية تعود إلى عام 43 للميلاد، أي بعد السبي البابلي بمئات السنين، حيث يقول إن ملك فلسطين الروماني هيرودس أغريباس -وهو ابن هيرودس الأكبر الذي حاول قتل المسيح طفلا- شكّل مع ثمانية رجال يهود جمعية سرية اسمها “القوة الخفية”، وعلى رأسهم حيرام أبيود الذي اقترح الخطة على الملك. وكان هدفهم الوحيد هو القضاء على دعوة المسيح عيسى عليه السلام التي كانت قد أخذت بالانتشار بالرغم من صلبه كما يزعمون، وقد ظلت الجمعية تتوارث سرها الخطير وتمارس التآمر حتى قرر قادتها في منتصف القرن الثامن عشر إعادة تشكيلها وفق طقوس وهيكلية جديدة، وبعد منازعات وصراعات فيما بين القادة أنفسهم تم الاتفاق على تسميتها بالماسونية “فرماسون” أي البناء الحر، وتأسيس هيلكها الأول تحت مسمى محفل إنجلترا الأعظم عام 1717.

ويتضمن الكتاب حوارات مطولة لما جرى بين حيرام أبيود وهيرودس أغريباس منذ بدء التخطيط لتشكيل الجمعية، حيث يتم الاتفاق منذ البداية على أن يظل أمرها سرا لا يعرفه اليهود ولا أحد آخر سوى التسعة المؤسسين، كما لا يُكشف السر إلا للورثة ولمن يترقى في درجات الجمعية إلى أعلى المراتب، ولم يكن يسمح لأعضاء الجمعية بالبوح بسر انتمائهم لها أو وجودها حتى لعائلاتهم، وفي حال الشك بأن أحدا باح بشيء من الأسرار سرعان ما يحكم ثلاثة قضاة من الجمعية بقتله، وينفذون الحكم دون منحه فرصة الدفاع عن نفسه، ومع ذلك فقد قرر جوناس أن يكشف هذا السر بعد نحو سبعة عشر قرنا كما يقول.

ويقول عوض الخوري إن هدف الرئيس البرازيلي من نشر الكتاب هو خدمة الدين المسيحي، ويضيف أن الرئيس قال له أيضا إنه يسعى من نشره بالنسخة العربية في تركيا (العثمانية) لخدمة “الدين المحمدي”، على اعتبار أن اليهودية عدو مشترك لهما.

وبما أن هذه الرواية لا تملك أي شاهد آخر سوى شخص اسمه لوران، فلا يمكن التحقق من صحتها حتى لو بدت منطقية، مع أن لدينا شكوكا عديدة، فكيف تجرأ لوران على تحدي هذه الجمعية ونشر سرها الذي ظل خفيا مدة طويلة بالرغم من خطورتها، حيث لا يبدو في التفاصيل التي ذكرها الخوري أن هناك أي خطر أو تهديد فضلا عن اتخاذ إجراءات للحذر، كما يبدو أن الرواية تجعل من الكاثوليكية العدو الأساسي لليهود بل سببا لنشأة الماسونية كلها، ومع أننا نقر بهذا العداء إلا أنه في رأينا لا يقدم تفسيرا شاملا ووافيا.

ونحن نرجح أن التأسيس كان أثناء السبي البابلي، ولا نستبعد أن تكون جمعية القوة الخفية قد وجدت فعلا عام 43م، إلا أنها قد لا تكون هي الأصل.

مانلي هول

تاريخ الماسونية
تعرضنا في مقال الجمعيات السرية إلى توارث تلك الجمعيات علوم السحر والقبالاه على مر القرون منذ ما قبل التاريخ، ويقر كبار المؤرخين الماسون بالإرث الذي ورثوه عن تلك الجمعيات، ويعتبرون أنها كانت بمثابة الجامعات التي تحتفظ بأهم أسرار الوجود من الاندثار والتحريف.

يقول الماسوني الكندي الذي بلغ الدرجة الثالثة والثلاثين مانلي بي هول إن “العديد من المفكرين الكبار في العصور القديمة كانوا منتسبين إلى الجمعيات والأخويات السرية التي تمارس طقوسا غريبة وغامضة، وكان البعض منها قاسيا جدا”، ويعتبر أن العبادات الوثنية الباطنية لكل من إيزيس وسبازيوس وسيبيل وباخوس وإلوسيس من أهم الأمثلة على الإرث العقائدي الذي ورثته الماسونية.

يرى هول أن معظم الجمعيات السرية في العالم القديم كانت فلسفية ودينية، ثم بدأت في العصور الوسطى بالاهتمام بالسياسة، وأن هذا الاهتمام ظل قائما حسب قوله في الجمعيات السرية الحديثة في الغرب، فجميع المؤلفين الماسون ينفون عن أسلافهم القدماء أي طموح سياسي فضلا عن التآمر، لكن بعضهم -مثل هول- يقر بالدور السياسي للماسونية حديثا فيما يصر آخرون على النفي.

ويبدو أن هناك فترة انقطاع بين الجمعيات السرية الناشطة تحت غطاء الوثنيات القديمة وبين ظهور فرسان الهيكل في القرون الوسطى إبان الحروب الصليبية، وقد أشرنا في مقال “فرسان الهيكل” إلى أنهم كانوا الجمعية الأم للماسونية في أوربا، وهو ما يؤكده الكثير من الماسون حاليا مثل الباحثَين كرستوفر نايت وروبرت لوماس في كتابهما الشهير “مفتاح حيرام”.

ويبدو أن تاريخ أسلاف فرسان الهيكل والماسون في فترة الانقطاع تلك مازال غير موثق من قبل المؤرخين الماسون، وهي الفترة التي شهدت صعود الإسلام وتوسع دولته على حساب أقوى الإمبراطوريات في العالم، حيث لم يشهد التاريخ انتشارا لأي دين سابق أو لاحق بمثل تلك السرعة والاندفاع.

وإذا كانت الماسونية هي وليدة فكرة واحدة تتنوع أشكالها ومسمياتها عبر التاريخ منذ وضعها على يد محرفي التوراة وواضعي أسس القبالاه الشيطانية، فلا نستبعد أن تنسب إليها المؤامرات اليهودية والحركات الباطنية التي ولدت داخل جسد الدولة الإسلامية، بدءا من محاولات قتل يهود المدينة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، ببناء مسجد الضرار وتسميم الطعام، ومرورا بالفتن التي اشتعلت بين كبار الصحابة في عصر الخلافة الراشدة، وعلى رأسها محاولات اليهودي عبد الله بن سبأ وجماعته في تحريف الإسلام وبث بذور الباطنية فيه، [انظر مقال الإسماعيلية]، ووصولا إلى الفتن الكبرى التي قادتها حركة الحشاشين وتأسيس دولة باطنية كبرى كادت أن تقضي على الدولة العباسية، وهي دولة العبيديين الفاطميين.

فيثاغورس

ويبدو أن الجمعيات السرية المشكلة على طريقة فيثاغورس وتعاليمه كانت قد وجدت لها قبل ذلك موطئ قدم في قلب الدولة العباسية، حيث ينقل محمد الزعبي (الذي انشق عن الماسونية) نصا عن برهان الدين البقاعي يقول فيه إن قوما برئاسة شخص قرطبي يدعى محمد بن مسرة كانوا يلتقون بمكان يدعونه نادي فيثاغور، ويعلق الزعبي بقوله إنه كان يسمع داخل المحافل كلمة فيثاغور دون أن يدرك معناها حتى اطلع على هذا النص [الماسونية في العراء، ص 303].

كما يقول الزعبي إن نوادي الجمعيات السرية العباسية كانت تقوم بطقوس التكريس المعروفة اليوم مع بعض التعديلات، حيث يبدأ التكريس بقراءة آيات من القرآن الكريم للتضليل، ثم تتابع الطقوس الشيطانية مع تهديد المنتسب الجديد بالقتل إن كشف أسرار الجماعة [الماسونية في العراء، ص 336]، ولعل كتابَي ألف ليلة وليلة ورسائل إخوان الصفا -اللذين لا يُعرف مؤلفوهما يقينا- هما من أوضح الأمثلة الباقية إلى اليوم على نشاط الجمعيات السرية وتغلغلها في الجسد الإسلامي آنذاك.

ويعتقد البعض أن أسلاف الماسون كانوا حاضرين داخل الدولة الإسلامية على شكل جمعيات حرفية للبناء، وهو اعتقاد يدعمه اعتراف الماسون بنسبة جمعيات البنّائين عبر التاريخ لجمعيتهم، حيث يقال إن المهندسين الماسون كانوا يستوطنون القسطنطينية تحت حماية البيزنطيين، وعندما أراد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بناء المساجد الضخمة في دمشق والقدس والمدينة المنورة استدعى هؤلاء البنائين الكبار لتشييد تلك المباني العملاقة مقابل مكافآت مجزية، ثم تغلغل البناؤون في المنطقة أكثر على يد العباسيين عندما عهد إليهم أبو جعفر المنصور مهمة تشييد عاصمته بغداد، فأرسل إلى عماله في الكوفة وواسط والبصرة يطلب منهم إمداه بالبنائين والمهندسين، ومع أن ابن الأثير الذي يذكر هذه الرواية في كتابه “الكامل في التاريخ” لا يوثق سوى اسمي الحجاج بن أرطاة وأبي حنيفة لتخطيط بغداد وإنشائها، لكن المؤرخين الماسون مثل جرجي زيدان يؤكدون أن الماسون كانوا حاضرين آنذاك، لا سيما وأن ابن الأثير يقول “ومن عادة البنائين إذا اتفقوا على بناء بلدة أو سور أو معبد يجعلون منازلهم من الخشب بجوار البناء، يقيمون فيه للطعام والرقاد والاجتماعات السرية ومحاسبة العمال، وكانوا لا يسمحون لأحد أن يدخل عليهم أو يطلع على أعمالهم، وذلك حتى يتم البناء فينصرفون بعد أن ينال كل منهم حقوقه، ويضيف أن رسولا من ملك الروم جاء بغداد وطاف فيها مع ربيع، فقال له ربيع كيف رأيتها؟ فقال رأيت بناءً حسناً إلا أني رأيت أعداءك معك وهم السوقة، فأخرجهم ربيع خشية أن يكون فيهم جواسيس، ويقول أيضا “كان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط فضة والروزكاري بحبتين”.

واستنتج البعض من كلام ابن الأثير أن طبيعة عمل البنائين السرية وعدم السماح للغرباء بالانضمام إليهم ترجح أنهم كانوا بالفعل أتباع جمعية سرية تحتفظ بأسرار بناء الهياكل والصروح الضخمة، كما يقول زيدان إن استخدام ابن الأثير لفظ “أستاذ” يذكرنا بلقب الأستاذية لدى الماسون، وإن لفظ الروزكاري ربما كان معربا لكلمة “روزيكروشن” أي الصليب الوردي [جمعية سرية سنأتي على ذكرها لاحقا]، مع أن ابن الأثير تتوفي عام 1233 أي قبل مولد مؤسسها المفترض كريستيان روسنكروز. لكن باحثين آخرين يقولون إن روزكار كلمة فارسية تعني الدنيا أو الزمان، ما يعني أن الروزكاري قد يكون هو الشخص العامي في مقابل الأستاذ.

وبالعودة إلى مقال “فرسان الهيكل“، فقد ذكرنا جانبا من تاريخ سلالات بني إسرائيل التي يعتقد أنها هاجرت إلى أوروبا واحتفظت بما تراه أنه حق تاريخي لها في “الملك الإلهي”، على اعتبار أن الإله وعدها بالسيادة على العالم، فدبرت تلك العائلات مخططا طويل الأمد للتغلغل في العائلات الحاكمة وصولا إلى نجاحها في السيطرة على معظم أوربا الغربية مع مطلع القرن العاشر الميلادي، وهو ما يؤكده كتاب “المُلك الإلهي” للمؤلفين الثلاثة غراهام سيمانز وتيم والاس ميرفي وماريلين هوبكنز. وقد ربطنا في المقال المذكور بين هذا التغلغل الخفي وبين إطلاق شرارة الحروب الصليبية عن طريق السيطرة على الفاتيكان، للوصول إلى القدس تحت غطاء الكاثوليكية، ثم تأسيس جماعة فرسان الهيكل لتحقيق أهداف النخبة الإسرائيلية المتحدرة من سبط يهوذا.

ألبرت بايك

ويقول الأستاذ الأعظم للماسونية في القرن التاسع عشر الجنرال الأمريكي ألبرت بايك في كتابه “الأخلاق والعقيدة” Morals & Dogma إن هدف فرسان الهيكل الظاهر كان حماية الحجاج الكاثوليك إبان الحروب الصليبية، لكن هدفهم الحقيقي الذي انخرطوا من أجله في الحروب هو العمل على إعادة بناء هيكل سليمان باسم الكاثوليكية، ليحكم بنو إسرائيل من خلاله كل الشعوب، ومن ثم كانوا يسعون لاحقا إلى إزالة الكاثوليكية وتأسيس عالم جديد له ديانة جديدة تستمد عقائدها من “التقاليد المسيحية الأولى والنقية” التي يمثلها يوحنا المعمدان (النبي يحيى عليه السلام) [818 -Morals and Dogma, 817].

ومن المتداول بين الباحثين أن الحركات الغنوصية تعتبر القديس يوحنا المعمدان (النبي يحيى عليه السلام) أبًا روحيًا لها، حيث يُقدم في صورة أسطورية تجعله من أساتذة أسرار القبّالاه.

ويقول بايك إنه حين كان دي مولاي -أحد مؤسسي فرسان الهيكل- ينتظر حكم الإعدام في السجن عام 1310م؛ أمر بتكوين أربعة محافل مركزية في نابولي وإدنبره وستوكهولم وباريس، ثم انشطرت المنظمة إلى عشرات الجمعيات السرية والمنظمات الخفية وجماعات السحر والشعوذة، وتحولت مقاطعة لانجدوك جنوب فرنسا -وهي معقل فرسان الهيكل- إلى مأوى للملحدين والمهرطقين والقبّاليين والوثنيين، مضيفا أن الماسونية الاسكتلندية هي الوريث الأقدم لفرسان الهيكل والامتداد الشرعي لها [Morals and Dogma, 821].

وهذا يعني أن فرسان الهيكل -وجماعة فرسان مالطة أيضا- كانت هي حلقة الوصل بين النشأة الأولى للمخطط الإسرائيلي الذي نشأ على الأرجح إبان السبي البابلي، وبين الجمعيات السرية التي تشكلت في القرون الوسطى قبل ظهور الماسونية رسميا في القرن الثامن عشر.

ومن أهم تلك الجمعيات جمعية الصليب الوردي “روزيكروشن” التي تأسست في ألمانيا عندما نُشر بيانان حول أفكارها عامي 1614 و1615، ونُسب تأسيسها إلى شخص قد يكون خياليا ويدعى كريستيان روسنكروز، حيث يقال إنه قام برحلة قبل نحو 130 عاما إلى العالم الإسلامي، من المغرب وشمال أفريقيا مرورا بتركيا العثمانية إلى بلاد فارس، لتلقي العلوم الباطنية والهرمسية وأسرار القبالاه والسحر، ويقر معظم المؤرخين بأن هذه الجمعية احتفظت بأسرار الجمعيات السرية حتى انتقلت إلى الماسونية.

نشأة الجمعية
يقول جرجي زيدان إن “البنائين الأحرار” تابعوا انتشارهم في أوربا تحت رعاية الملوك، إلى أن اجتمعوا في مؤتمر بمدينة يورك الإنجليزية سنة 926 برعاية الملك إدوين الذي انتُخب أستاذا أعظم، وتم إقرار لوائح لتنظيم عملهم لتكون أول دستور ناظم لهم، وأصبحت يورك عاصمة البنائين.

ويتابع زيدان ربط تطور أخويات البنائين بتطور البناء طوال القرون الوسطى، وصولا إلى مرحلة “الماسونية الرمزية” التي انتقلت من صناعة البناء إلى “الفضيلة والعلم” –حسب قوله- مع الحفاظ على أدوات البناء وقوانينه كرموز لمعان تتعلق بالعمران البشري وليس المادي، وذلك مع إعلان لائحة قوانين لندن سنة 1717، وفي 24 يونيو من السنة نفسها –وهو عيد القديس يوحنا المعمدان (النبي يحيى)- اجتمع الماسون وانتخبوا أنطوني ساير أستاذًا أعظم لهم، وبدأت بذلك الماسونية الرمزية بطقوسها ورموزها ودرجاتها التي لم تعد مقتصرة على البنائين، لكن المؤرخين من خارج الماسونية يؤكدون أن اختيار هذا التاريخ كان للتغطية على أهداف الجمعية المعادية للأديان، فاليهود أصلا يعادون النبي يحيى، وأسلافهم سعوا في قتله على يد الملك هيرودس.

قاعة المحفل الإنجليزي الأعظم

ويرى الكثيرون أن التأسيس العلني للمحفل الماسوني الأول في لندن عام 1717 كان مجرد إشهار للخلايا الماسونية النائمة، حيث طُلب آنذاك من كل المحافل الصغيرة إحضار ما لديها من وثائق لتكون في يد المحفل الرئيس، وبعد ثمان سنوات أعلن الإيرلنديون بدورهم تأسيس المحفل الكبير في دبلن، ثم أعلن الاسكتلنديون عن محفلهم عام 1773، وفي الوقت نفسه خرجت مئات المحافل الفرنسية عن صمتها وانتشرت في المجتمع كالنار في الهشيم.

في عام 1723 كتب جيمس أندرسون أول دستور للماسونية، وعندما أصبح بنيامين فرانكلين (أحد مؤسسي الولايات المتحدة) أستاذا أعظم للماسونية في بنسلفانيا عام 1734 أعاد طباعته مضيفا إليه طقوسا جديدة ومرتبة ثالثة تدعى الخبير بعد مرتبتي المبتدئ وأهل الصنعة، وجاء الدستور في 40 صفحة تتضمن تاريخ الماسونية، وفي أواخر القرن التاسع عشر أعاد الجنرال الأمريكي والأستاذ الأعظم للطقس الاسكتلندي ألبرت بايك كتابة الكثير من الطقوس الماسونية المعتمدة حتى اليوم.

جورج واشنطن يضع “حجر أساس واشنطن” في احتفال ماسوني رسمي كأول حجر في مبنى الكونغرس، حيث تأسست العاصمة الأمريكية على الأسس الماسونية منذ نشأة الدولة

الانضمام للجمعية
تذكر المراجع الماسونية أنه يمكن لأي شخص الانضمام إلى المحافل وفق ثلاثة شروط، وهي أن يبلغ من العمر 21 عام على الأقل، وأن يكون مؤمنا بوجود إله دون اكتراث للعبادة التي يختارها، وأن يتحلى بأخلاق عالية.

وتنصح بعض المواقع الماسونية من يريد الانضمام بأن يبحث عن علامة “2B1Ask1” -وهي تعني إذا أردت أن تكون أحدهم فاسأل أحدهم- حيث يُطبع هذا الشعار على بعض القمصان والقبعات ويرتديها الماسون في تجمعات عامة لجذب الأعضاء الجدد ممن قرأوا عن معنى الشعار ويبحثون عنه فعليا.

وتقول تلك المواقع إنه إذا لم يحصل الباحث على هذا الشعار فليحاول الاتصال بأقرب محفل ماسوني إلى البلد الذي يقيم فيه ويسأله عن كيفية التقدم للعضوية. ومن المعروف أن معظم الدول الغربية ودولا أخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تحتضن محافل رسمية معلنة ويمكن العثور على عناوينها عبر الإنترنت بسهولة.

على سبيل المثال، الرابط التالي ينقلك إلى صفحة على موقع “معهد ماساشوستس للتكنولوجيا”، الذي يعد أهم جامعة في العالم للتقنية، وهي تشرح كيفية الانضمام للماسونية، مع إبرازها على أنها جمعية أخوية للأشخاص الطيبين فقط! http://web.mit.edu/dryfoo/Masonry/how-to.html

تضيف المواقع الماسونية أن المحفل سيستقبل طلب الانضمام ويجري المقابلة مع المتقدم، ثم سيتحرى الماسون عن حياته وسلوكه، ليتحققوا من أخلاقه الحسنة، وفي حال الموافقة يدفع المتقدم رسوما بسيطة ويتم التكريس والبدء بالارتقاء في درجات الماسونية.

في المقابل، هناك مراجع تقول إنه من المستحيل الانضمام للماسونية عبر التقدم بطلب الانضمام، فالمحافل هي التي تبادر بمراسلة من يتم ترشيحهم من قبل بعض الأعضاء لتدعوهم للانضمام وإغرائهم بأن يكونوا من نخبة المجتمع.

ويبدو أن لكل محفل سياسته، فبعض المحافل لا تقبل الطلبات وتهملها والبعض الآخر يدرسها بعناية ويقبل بعض المتقدمين، كما أن بعض المنظمات الأخرى المنضوية تحت لواء الماسونية -والتي سيرد ذكرها لاحقا- تأخذ شكل النوادي الاجتماعية النخبوية وليس الجمعيات السرية، وهي بالفعل لا تقبل طلبات الانضمام بل تراسل من تراهم من نخبة المجتمع ولديهم القابلية لخدمة أهدافها، ولكل من هذه النوادي شريحة ما تسعى لاستقطابها، مثل نخبة رجال الأعمال والنخبة الأكاديمية ونجوم الفن والرياضة، وما شابه ذلك.

وحسب شهادة أحد الأصدقاء العرب، وهو من نخبة المجتمع سياسيا واجتماعيا، فقد تلقى بالفعل رسالة دعوة من المحفل العربي الوحيد في المنطقة والموجود في لبنان، دون أن يبادر بنفسه بالاتصال بأي عضو ماسوني.

أما طقوس الانضمام والتكريس فقد ذُكرت في مراجع عديدة، ونسبها المؤلفون لأعضاء منشقين عن الماسونية ممن تحدثوا عما جربوه بأنفسهم. وأهم ما فيها أن الطقوس مليئة بالرموز التي تحمل معاني محتملة, بحيث لا يفهم العضو الجديد من ظاهرها سوى أنه مقبل على الانضمام لأخوية عالمية يحرص أعضاؤها على حماية بعضهم وحفظ أسرارهم الخيّرة وتكريس أنفسهم لصالح المعرفة والعلم وخدمة المجتمع، ثم يأتي التهديد بالقتل في حالة الانشقاق أو كشف الأسرار، وهو ما يُبرر بأنه مجرد حرص على المواثيق والعهود المقطوعة فيما بينهم وليس تهديدا على شاكلة ما تفعله العصابات الإجرامية.

ومن أهم المراجع التي وصفت تلك الطقوس كتاب “السر المصون في شيعة الفرمسون” لرجل الدين اليسوعي اللبناني الراحل الأب لويس شيخو.

الجزء الأول من الفيلم الوثائقي “حركة الماسونية” ضمن برنامج “سري للغاية”: في مطلع هذا الفيلم، تم تجسيد طقوس الانضمام بمشهد درامي. علما بأن المراجع الماسونية تنكر هذه الطقوس وتزعم أنها اتهامات باطلة وممنهجة (مؤامرة) ضدها.


الرموز والعقائد
يتضمن شعار الماسونية الأساسي صورة رمزية لمسطرة المعماري (الزاوية) بالتقاطع مع فرجار، وهي في معناها الظاهر من أدوات البناء، لكنها قد ترمز إلى علاقة الخالق بالمخلوق، وهي الرمزية التي يُشار إليها في النجمة السداسية التي اتخذها اليهود شعارا وأسموها نجمة داوود على اعتبار أنها ترمز إلى اتحاد الكهنوت مع رجال الدولة، وذلك من خلال سيطرة سلالة داوود على الحكم باتحادها مع الكهنة من سلالة هارون.

وتمثل الزاوية العنصر الثابت وهي أداة تحديد استقامة وصحة قائمية الحجر، أما الفرجار فيمثل العنصر المتحرك الذي يؤكد على ملكة الفكر وتحكمه بالمادة. وفي الدرجة الأولى توضع الزاوية فوق الفرجار الذي ما زال المريد يتعلم كيفية استعماله لصقل نفسه، وفي الدرجة الثانية يتداخل الاثنان ببعضهما، أما في الدرجة الثالثة فيوضع الفرجار فوق الزاوية.

ويتوسط الشعار حرف G الذي يزعم بعض الماسون أنه الحرف الأول من كلمة “God” أي الإله، كما يزعم البعض الآخر أنها أول حرف من كلمة هندسة Geometry، ولكن يذهب باحثون إلى أنه الحرف الأول من كلمة “Gematria” وهي تعني مجموعة القوانين التي وضعها أحبار اليهود لتفسير التوراة سنة 200 قبل الميلاد، أو ربما تكون دلالة على كلمة غنوصية Gnosticism وهي عقائد باطنية حلولية تداخلت مع أديان كثيرة بما فيها المسيحية واليهودية.

وتُستخدم أدوات البناء الأخرى لمعان رمزية مماثلة، حيث يمسك الأستاذ باليد اليسرى الإزميل الذي يُستخدم لنحت الحجر كرمز لاتخاذ القرار، كما يمسك باليمنى المطرقة كرمز للسلطة وتنفيذ القرار.

العمودان على مئزر ماسوني

أما العمودان اللذان لا يخلو منهما أي محفل فيرمزان إلى عمودين يزعم اليهود أن المهندس حيرام أنشأهما عند بوابة هيكل سليمان، حيث ورد ذكرهما في التوراة المحرفة تحت اسم ياكين (الملك الإسرائيلي الذي أسره نبوخذ نصر وقاده إلى بابل) وبوعز (أحد أجداد داوود)، ويقف مراقبا المحفل أمام كل منهما.

ويستحضر الماسون ذكرى حيرام الذي يقال إنه كان من أهم بنائي الهيكل، ويلقب بابن الأرملة، لذا يسمون أنفسهم بأبناء الأرملة، ويمثلون طقوس قتله على يد ثلاثة من البنائين الذين حاولوا أن ينتزعوا منه “الأسرار المقدسة لمرتبته المهنية الأعلى” فرفض. وتقول التوراة التي بين يدي اليهود اليوم “أرسل الملك سليمان فأخذ حيرام من صور وهو ابن أرملة من سبط نفتالي وأبوه رجل من صور صانع نحاس، وكان ممتلئًا حكمة وفهمًا ومعرفة في عمل كلِّ صنعة من النحاس”، وتدعي الأسطورة أن سليمان نفسه أوحى بفكرة قتله لأن حيرام أحب زوجته بلقيس، فالأساطير اليهودية لم تترك نبيا من أنبياء بني إسرائيل إلا وألصقت به تهمة شنيعة، ومع ذلك فقد أبقت على قداسته.

وبحسب كتاب “تبديد الظلام” الذي يروي قصة جمعية “القوة الخفية”، فإن حيرام الذي يقدسه الماسون ليس سوى شخص اسمه حيرام أبيود، وهو الذي أوحى للملك هيرودس أغريباس بفكرة الجمعية، وقد كان ابن أرملة يهودية فأطلق عليه الملك لقب ابن الأرملة، وصار اللقب شعارا لأعضاء الجمعية، ثم قُتل حيرام أبيود في جنوب لبنان دون أن يُعرف قاتله، فزعم زملاءه من مؤسسي الجمعية الآخرين أن هذا الاسم يعود إلى المهندس الذي صمم الهيكل واحتفظ بأسراره بنائه.

رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)

ويُعد المحفل Lodge بمثابة المعبد أو مقر الاجتماعات الذي يجتمع فيه الماسون، وهو يرمز لهيكل سليمان الذي يُعد النموذج الأعلى لمباني الماسون، حيث جاء في موسوعة الحركة الماسونية [طبعة فيلادلفيا 1906] أن “كل محفل هو في الحقيقة والواجب رمز للهيكل اليهودي وكل رئيس يعتلي كرسيه يمثل ملكا من ملوك اليهود وفي كل ماسوني تتمثل شخصية العامل اليهودي”. وينعقد الاجتماع في المحفل بما لا يقل عن سبعة ضباط يتولون مهام إدارة الاجتماع، وهم يرتدون مآزر وقفازات وقلادات خاصة بحسب درجاتهم.

ويسمى المحفل الرئيسي بالشرق الأعظم، وهناك عدة شروق عظمى حول العالم، فالمحافل كلها تجعل صدارتها في اتجاه المشرق، لأنهم يتجهون في طقوسهم باتجاه مشرق الشمس كما هو حال العبادات الشيطانية.

ويصرح الماسون في بياناتهم وخطاباتهم المعلنة والمتداولة بين الفئات الدنيا بمصطلحات تقديس “المهندس الأعظم للكون” على اعتبار أنه الإله الذي يؤمن به جميع أعضاء المنظمة على اختلاف أديانهم، لكن الباحثين في خفايا الماسونية يؤكدون أن الدرجات العليا لا تؤمن سوى بعقائد القبالاه، وأن هذا المهندس ليس إلا الشيطان “بافوميت” أو “لوسيفر” (حامل النور) الذي يُرجح المؤرخون أن فرسان الهيكل مارسوا عبادته بانتظام.

وتعد “العين التي ترى كل شيء” All Seeing Eye من أهم رموز الماسونية وأكثرها انتشاراً، ويزعمون أنها ترمز إلى عين المهندس الأعظم أو عين الكون العظيمة، كما يقول بعض مؤلفيهم إنها عين البصيرة، وهي تقابل العين الثالثة (شاكرا) لدى ممارسي رياضات التأمل واستجلاب الطاقة، ورُبطت تشريحيا في مصر واليونان بالغدة الصنوبرية الواقعة في تجويف الدماغ، حيث اعتبرها بعض الفلاسفة نقطة الوصل بين عوالم المعرفة، فالمتأمِّل يعمل على تشغيلها لبلوغ الاستنارة واستقبال المعرفة الكشفية العرفانية (الإلهام) في حين تبقى خاملة لدى عامة الناس، لذا يعمد الهندوس إلى رسم نقطة حمراء في وسط الجبهة لتحريض هذه الغدة على العمل.

أما أكبر قادة الماسونية في القرن التاسع عشر “ألبرت بايك” فيقول في كتابه “الأخلاق والعقيدة” إن العين كانت ترمز في العقائد الوثنية القديمة إلى عبادة الشمس، واعتُبرت في مصر رمزا للخالق أوزوريس [Morals and Dogma, 15].

ويشير المؤلف “رالف إبرسون” في كتابه “النظام العالمي الجديد” إلى أن العين ترمز لتوغل الماسونية في كل فئات المجتمع وقدرتها على مراقبته ومعاقبة من يفشي أسرارها.

ويرى بعض الباحثين في القبالاه والسحر أن هذه العين ليست سوى العين الشمال للشيطان، مشيرين إلى أنه لا يستخدم سوى العين الشمال واليد الشمال، وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه مسلم أن “الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله”.

شعارات الماسونية كانت معلنة في الثورة الفرنسية

ويمكن القول إن عبادة الشيطان تجسدت في الماضي على هيئة أوثان تخلط بين الشياطين والآلهة، وخصوصا في عبادة “بعل” و”حورس” و”رع” و”أوزوريس”، ولا نستبعد النظريات التي تقول إن هذه العين ليست سوى رمز قديم ومتجدد للأعور الدجال الذي أخبر عنه جميع الأنبياء.

إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أعلنته السلطة الثورية في فرنسا عام 1789 ويظهر في قمته شعار المتنورين الماسون

وفي منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، أدخل الرئيس الأميركي الماسوني فرانكلين روزفلت صورة هرم مصري تعلوه العين على تصميم الدولار. ويمكن للباحث أن يجد هذا الشعار أيضا في وثيقة حقوق الإنسان والمواطن التي أعلنتها الثورة الفرنسية عام 1789، في دلالة واضحة على الخلفية الماسونية للجهات التي أشعلت الثورة وسيطرت على البلاد بعدها.

ينفي الماسون تحالف منظمتهم مع اليهودية والصهيونية، ويزعمون أن كثرة الرموز والمصطلحات اليهودية فيها ليست سوى نتيجة للاقتباس عن “الدين التوحيدي الأول”، وذلك على اعتبار أنهم يؤمنون بالله ويحترمون كل الأديان السماوية، لذا فهم يفسرون تبجيلهم لهيكل سليمان بكونه المعبد الأول للإله الواحد في التاريخ. علما بأن المسلمين يؤمنون بأن الدين التوحيدي هو دين آدم وجميع الأنبياء بعده، وأن موسى عليه السلام لم يكن أول من جاء به.

رسم لطقس عبادة بافوميت (أحد أسماء إبليس) في محفل ماسوني أورده الماسوني الفرنسي ليو تاكسيل في كتاب نشره عام 1884 لفضح طقوسهم

وقد بات التحالف بين الماسونية واليهودية من الحقائق المتواترة التي لا يمكن لتصريحات الماسون ومبرراتهم التشكيك فيها، حيث أثبت ذلك الأستاذ في الفلسفة محمد علي الزعبي الذي انضم إلى محافل الماسونية في بيروت ثم انشق عنها وكشف علاقتها بالمشروع الصهيوني في كتابه “الماسونية في العراء”، وله أيضا كتاب آخر بعنوان “الماسونية منشئة ملك إسرائيل“، كما يقول الأب لويس شيخو في كتابه “السر المصون في شيعة الفرمسون” إنه بات من المقرر الثابت الذي لا يمكن أن ينكره عاقل لكثرة الدلائل على صحته أن العامل في الكبير في إدارة الماسونية وجمع كلمتها هو العنصر اليهودي.

كما وضع الكثير من المؤلفين المسيحيين في الغرب مؤلفات مرجعية تربط العقائد والرموز الماسونية بأصولها اليهودية والوثنية والشيطانية، ونذكر منها على سبيل المثال كتاب “الدستور السحري” Codex Magica للمؤلف الأميركي تيكس مارس Tex W. Marrs.

ينسب إلى ألبرت بايك قوله: “يجب أن نقول للجماهير إننا نؤمن بالله ونعبده ولكن الإله الذي نعبده لا تفصلنا عنه الأوهام والخرافات ونحن الذين وصلنا إلى مراتب الاطلاع العليا يجب أن نحتفظ بنقاء العقيدة الشيطانية”.
كما ينسب إلى الأستاذ الأكبر لمحفل لسينغ القول: “نحن الماسونيون ننتسب إلى أسرة كبير الأبالسة لوسيفر فصليبنا هو المثلث وهيكلنا هو المحفل”.
[المصدر: الماسونية، محمد صفوت السقا أمينى وسعدي أبو حبيب].

يميل كثير من الباحثين بعد تجميع الأدلة ومقارنتها أن الماسونية تعبد إبليس نفسه تحت مسمى “لوسيفر”، وذلك في معرض إيمانها بوجود الله تعالى كإله آخر يحمل الاسم العبري “أدوناي”، وبهذا يصبح العالم مسرحا لصراع بين إلهين.

وتتلخص هذه العقيدة في رسالة تُنسب إلى ألبرت بايك يُقال إنه أرسلها عام 1889 إلى عشرات المحافل العالمية، ونقتبس منها النص الآتي:

“ما يجب أن نقوله للعامة هو: نحن نعبد إلهاً، لكنه ذاك الإله الذي يُعبد دون خرافات. وإليكم أيها المفتشون العموميون (من الدرجة 33) نقول إنكم تستطيعون أن تكرروا لإخواننا في الدرجات 30 و31 و32 أن الديانة الماسونية يجب أن يحافظ عليها من قبلنا نحن الحاصلين على الدرجات العليا في إطار نقاء المذهب اللوسيفري.

لو أن لوسيفر ليس إلها، فهل أدوناي رب المسيحيين كذلك؟ والذي أثبتت أعماله عنفه وخيانته وحقده على البشر، وبربريته وتجاهله للعلم. فهل يفتري أدوناي وكهنته على نفسه؟

نعم إن لوسيفر إله، ومع الأسف فإن أدوناي إله كذلك. فالقانون الأبدي يقول إنه لا يوجد ضوء بدون ظل، ولا جمال بدون قبح، ولا بياض بدون سواد. لأن المطلق لا يمكنه إلا أن يتجسد في ثنائي، ولأن وجود الظلام ضروري ليكمل النور، كما أن القاعدة مهمة للتمثال، والمكبح مهم للقطار.

في الصراعات الكونية يعتمد المرء فقط على الذي سيقاوم، لذا فالكون متوازن بين قوتين تعملان على تحقيق التوازن، هما قوة التجاذب وقوة التنافر. وهما موجودتان في الفيزياء والفلسفة والدين. والحقيقة العلمية للثنائية في ظاهرة القطبية والقانون الكوني للتجاذب والتنافر. لهذا فإن الأتباع الأذكياء لزرادشت ومن جاء بعدهم من الغنوصيين وفرسان الهيكل اعترفوا بمفهوم غيبي عقلاني وحيد وهو نظام المبادئ الإلهية المتصارعة للأبد. ولا يصدق المرء بأن أحدهما أدنى من الآخر.

الأديان الفلسفية النقية والصحيحة تؤمن بلوسيفر، كندّ لأدوناي، لكن لوسيفر هو إله النور والخير، الذي يكافح من أجل الإنسانية ضد أدوناي إله الظلام والشر”.

ويجدر بالذكر أن الماسون ومؤيدوهم ينكرون صحة هذه الرسالة ويتهمون ليو تاكسيل (المذكور سابقا) بتلفيقها. [انظر مادة Luciferianism في موسوعة ويكيبيديا]

الدرجات الرئيسة
يشيع بين الباحثين في الجمعيات السرية أن الماسونية تنقسم من حيث التنظيم إلى ثلاث طبقات كبرى، لكن الماسون لا يعترفون إلا بالدرجات المتضمنة في الطبقة الأولى فقط وينكرون وجود الطبقتين الثانية والثالثة. ونلخص هذه الطبقات فيما يلي:

1- الماسونية الرمزية العامة: هي التي يتدرج فيها الناس من كل الأديان والأعراق، وتتفرع إلى درجات يتفاوت عددها حسب الطقس المُتبع، فهي 33 درجة في الطقس الاسكتلندي (الإيكوسي)، و12 درجة في طقس يورك، و95 في الطقس المصري. وكلما ازداد ترقي العضو ازداد قربه من اكتشاف أسرار الماسونية مع تنامي ثقة القيادة به.

ويُعد الطقس الاسكتلندي هو الأكثر شيوعا، وتشكل الدرجات الثلاث الأُول منها قاعدة الماسونية الرمزية (الزرقاء) وهي درجات المريد والرفيق والأستاذ، ويقول الماسوني الفرنسي جورج مارتان إن العضو يصبح ماسونيا تاما عندما يبلغ الدرجة الثالثة (الأستاذ)، ثم يتدرج في “الاكتمال” عبر الدرجات الثلاثين التالية [المنظمة الماسونية والحق الإنساني، ص 54].

وتسمى الدرجات من 4 إلى 14 بمشاغل الإتقان (الماسونية الخضراء)، ثم تأتي مجالس البطاركة ما بين الدرجتين 15 و18 (الحمراء)، ثم المجامع ما بين الدرجتين 19 و30 السوداء)، ثم أسياد المحاكم من الدرجة 31، والمجامع القيادية من الدرجة 32، وأخيرا المجلس الأعلى من الدرجة 33، وتسمى الدرجات الثلاث الأخيرة بالماسونية البيضاء، وهي تضم الأعضاء الذين بلغوا الدرجات العليا في فهم الطقوس وممارستها فضلا عن الولاء المطلق.

2- الماسونية الملوكية: هي درجة سرية لا يعترف بها الماسون، ولا يحصل عليها سوى اليهود الحائزين على الدرجة الثالثة والثلاثين الرمزية، وممن قدموا للماسونية خدمات جليلة.

3- الماسونية الكونية: لا يعترف بها الماسون أيضا، وهي درجة سرية للغاية يؤكد الماسون المنشقون وجودها ولكن لايعرفون مقرها وأسماء أعضائها، ويُعتقد أنهم نخبة العائلات اليهودية الكبرى ممن يتزعمون المحافل الملوكية، وربما من سلالات “حق الملك الإلهي” المتحدرة من داوود عليه السلام، وهم الذين يرسمون خطط وسياسات المحافل العالمية بما يوافق مصالحهم الساعية في نهاية المطاف إلى بناء هيكل سليمان في أورشليم للسيطرة على العالم منه وفقا للنبوءات التوراتية.

الطقوس الماسونية الرئيسة
بالرغم من وحدة الهدف العام للماسونية فهي لا تختلف عن أي تجمع بشري في النهاية، حيث لا بد للشقاق والاختلاف أن يتسلل إلى صفوفها، لكن هذا الاختلاف قد يصب في النهاية لصالحها، حيث يسمح لها باحتواء أطياف متنوعة من البشر لتوجيههم وتوظيفهم بما يحقق المصلحة العليا لقادتها، كما يُظهرها بمظهر أقل حنكة مما يساعد على نفي الاتهامات الموجهة إليها بصفتها يدا واحدة خفية، في حين يؤكد الباحثون في خفاياها أن الاختلاف لا يتعدى الطقوس والممارسات والرموز، كما هو حال الاختلاف بين المذاهب الفقهية في دين واحد، ولكن تتفق طرق (الطقوس) الماسونية جميعها في القيادات العليا الخارقة للحدود والأعراق.

يقال إن عدد الطقوس بلغ في منتصف القرن التاسع عشر 52 طقساً، لكن هناك طقوساً رئيسة تتبعها معظم المحافل حول العالم، وهي كالآتي:

  • الطقس الأسكتلندي القديم والمقبول (الإيكوسي): هو الأكثر شهرة وانتشارا في العالم، ويتدرج أعضائه في 33 درجة، آخرها درجة المفتش العام الأعظم.
  • الطقس الإنكليزي للماسون القدماء الأحرار والمقبولين: هو قريب من الاسكتلندي، ويعد أكثر ارتباطا بالقديس يوحنا المعمدان.
  • طقس يورك: هو الطقس الرئيسي الموازي للاسكتلندي ويعد الأكثر انتشارا في الولايات المتحدة، وهو يتكون من 12 درجة، ويشترط أن يكون العضو مسيحيا ليُقبل فيه بدءاً من الدرجة الرابعة، أي بعد حصوله على درجة الأستاذ.
  • طقس ممفيس-مصرائيم المتحد: في عام 1783 أقام جوزيف بالزامو نظاما ماسونيا على خليط من معتقدات الفيثاغورثيين والأفلاطونيين الجدد وصابئة حران والإسماعيليين، وجعل لنظامه المسمى “مصرائيم” 90 درجة، ثم أدخل عليه درجات إضافية مقتبسة من فرسان مالطا، وانتشر نظامه هذا في إيطاليا. وفي عام 1815 أسس صامويل هونيس (الذي كان يتردد كثيرا على القاهرة) محفلا في فرنسا باسم “حواريو ممفيس”، مستحضراً أساطير الكاهن المصري هرمس الذي عاش في القرن الميلادي الأول، وانتشرت محافل ممفيس في أوربا والأمريكتين ومصر. ثم اندمج النظامان على يد الجنرال جوزيبي جاريبالدي في إيطاليا عام 1881، وأصبحت له 95 درجة.
  • الطقس الفرنسي: يتضمن بالإضافة للدرجات الثلاث الأولى أربع درجات عليا، هي المختار والإيكوسي وفارس الشرق والصليب الوردي.
  • الطقس السويدي: يتضمن عشر درجات، إضافة لدرجة أخيرة شرفية لا يحملها سوى 60 شخصا من نخبة السويد، وهو يقتصر على المسيحيين فقط، وينتشر في الدول الإسكندنافية، ويعترف بأعضاء المحفل الأعظم المتحد لأنجلترا، ويتزعمه ملك السويد شخصيا.

المتنورون
قبل أن نستعرض المنظمات الفرعية التي تعمل تحت مظلة الماسونية، لا بد من التوقف عند جمعية المتنورين السرية، والتي تعرف باسمها اللاتيني “إلوميناتي” Illuminati، فهي أخطر المنظمات الماسونية وأقدمها وأوسعها انتشارا، حيث نشأت على يد آدم وايسهاوبت Weishaupt الذي كان أكاديميا مسيحيا يسوعيا ثم أصبح من عبدة الشيطان، وأوكلت إليه العائلات اليهودية الممسكة بزمام الماسونية مهمة وضع مخطط شامل للسيطرة على العالم سياسيا واقتصاديا وفكريا عبر هذه المنظمة، وكان ذلك في مطلع شهر مايو من عام 1776 وفي ولاية بافاريا الألمانية.

وايسهاوبت

ليس للمنظمة محافل ظاهرة للعيان، فهي أكثر سرية من الماسونية الأم، وكان تأسيسها قائما منذ البداية على تنفيذ المخطط بالاستفادة من المحافل الماسونية والكفاءات المتوفرة فيها، وليس على إقامة الطقوس والتظاهر بإقامة أعمال خيرية أو إنشاء أخوية عالمية.

لكن المخطط لم يُكتب له البقاء خفيا لمدة طويلة، حيث تقول الرواية الشائعة تاريخيا إن صاعقة ضربت أحد أعضاء الجماعة ويدعى لانز في أحد أيام سنة 1785 أثناء سفره على الخيل من فرانكفورت إلى باريس، فوجدت الشرطة في جيوب الجثة وثائق ما زالت محفوظة في أرشيف مدينة ميونيخ، وفيها معلومات خطيرة عن أنشطة الجماعة ومخططها لإشعال الثورات والحروب وإسقاط الأنظمة، ويقال إن ألمانيا أرسلت هذه المعلومات إلى دول أوروبية عديدة تحذرها من هذا المخطط، إلا أن أحدا لم يستجب، حيث اندلعت الثورة الفرنسية بالفعل عام 1789 كما كان مخططا لها، ثم تساقطت الحكومات الملكية في بقية أوروبا مثل أحجار الدومينو. [Illuminati Hunter, 225].

في رسالة يقال إن البارون أدولف فون كينغ Baron Adolph von Knigge -الرئيس الثاني للمتنورين- إلى صديقه زفاك يقول فيها “إن العقائد اليهودية سر خفي والرعاع لا يصلحون لفهمها، فقد ظلت هذه الأفكار شعلة خامدة لم يحافظ عليها سوى الجمعيات السرية التي ورثتها خلفا عن سلف، وهي الآن في حوزة صفوة الماسونية”.

والشائع اليوم أن هذه المنظمة تهتم باستقطاب الموهوبين الصاعدين حول العالم وإغرائهم بالنجومية والثروة مقابل الولاء لمعبودها “لوسيفر”، وهو الشيطان نفسه. ولا تُلزم المنظمة أعضاءها بالانتساب والتدرج كما هو حال الماسونية التي تتخذ طابعا فلسفيا، فمنظمة المتنورين تهتم أكثر بالمغفلين المهووسين بالأضواء والصعود السريع، الذين يعملون على التطبيع مع رموز الماسون وشعاراته الشيطانية بتضمينها في أعمالهم، ويبثون الفن الهابط والإباحية والشذوذ والتمرد بين المراهقين، وهي الأهداف نفسها التي نصت عليها مخططات المنظمة كما يؤكد الباحث جون كولمان في كتابه “لجنة الثلاثمئة”  The Committee of 300.

المنظمات الماسونية
إلى جانب المحافل الكبرى التي تسمى بالشروق (جمع شرق) وما يتبعها من محافل رسمية، توسعت الماسونية منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر لتصبح مظلة لعشرات المنظمات والنوادي الاجتماعية التي لا تكاد تخلو منها أي مدينة غربية، فضلا عن الانتشار في مدن كثيرة في أفريقيا وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية، فمن خلال هذه النوادي والأخويات يتم جمع ملايين أعضاء إضافيين لتحقيق أهداف الماسونية دون انخراط في الطقوس الرمزية.

ومن الملفت أن هناك الكثير من النوادي الاجتماعية في مدن عربية وإسلامية اتخذت من هذا الأسلوب مظلة لاكتساب الشرعية واستمرار النشاط الماسوني، للتحايل على القرارات الرسمية التي اتخذت لإغلاق جميع المحافل الماسونية.

وفيما يلي قائمة بأهم المنظمات التابعة للماسونية، بشكل معلن أو خفي، والتي تنشط بقوة في الدول الغربية والعديد من الدول الأخرى بما فيها العالم الإسلامي:

الرئيس الأمريكي هاري ترومان يستقبل زعماء الشراينرز عام 1948

1- الشراينرز: تأسست المنظمة عام 1872 على يد 13 ماسونياً أثناء اجتماع لهم في نيويورك حيث طُرحت بينهم فكرة تأسيس منظمة ماسونية جديدة تقوم على بث مفاهيم المرح والزمالة بين أعضائها، وبينما كان أحد الأعضاء يتجول في باريس دُعي إلى حفل برعاية دبلوماسي عربي، فأعجبته الأجواء العربية في الملبس والموسيقى والديكور، وقرر أن يجعل هوية المنظمة الجديدة عربية صوفية، فتم تأسيسها تحت اسم “النظام العربي لنبلاء الضريح الصوفي المقدس”، وعُرف أول محافلها باسم معبد مكة المقدس، بالرغم من العداء الوجودي الذي تبطنه الماسونية للإسلام.

وكانت عضوية الشراينرز في الماضي قاصرة على من أتم درجات الطقس الاسكتلندي أو طقس يورك، ثم أصبحت متاحة لمن حصل على درجة الأستاذ الماسوني. ومنذ عام 1920 اتخذت المنظمة من العمل الخيري الطبي واجهة لها لتساعد في معالجة 575 ألف طفل مجانا حتى الآن، حيث تدير المنظمة شبكة من 22 مستشفى متخصصة بطب الأطفال في أمريكا الشمالية.

وبعيدا عن الرموز والعبادات الشيطانية، يُظهر الشراينرز للعالم وجها احتفاليا مبهجا، فيشاركون في الكرنفالات الراقصة وحفلات العشاء ومهرجانات السيرك، ويرتدون ملابس عربية فلكلورية مع طرابيش حمراء، ويتخذون أسماء عربية لمعابدهم مثل الرياض ومكة وابن سعود وابن علي وشوّال. وربما تخفي هذه الرموز والأسماء علاقة ما بالطقوس السحرية التي يمارسها أدعياء الصوفية عند الأضرحة، خصوصا وأن الكثير من محافلهم تُبنى على هيئة الأضرحة وعلى النمط المعماري الأندلسي.

ويتحدث جون روبنسون في كتابه “النشأة الدموية.. الأسرار المفقودة للماسونية” عن قيام مجموعة من قادة المنظمات الماسونية بتكريم الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان عام 1988 في احتفال خاص بمكتبه البيضاوي، وكان منهم ملك الشراينرز الذي منحه عضوية فخرية في المجلس الإمبراطوري للضريح المقدس. وتقول مصادر غير مؤكدة إن المنظمة تخضع للقيادة المباشرة من ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش.

في هذا الفيديو يجري أحد الناشطين المسيحيين حوارا مع عضو في محفل للشراينرز، حيث يتعرف الأخير بتقديسه للشيطان لوسيفر، وفي نفس الوقت يصر على أنه ما زال مسيحيا، ثم يعجز عن تقديم أي مبرر لهذا التناقض.

قاعة الغروتو في نصب جورج واشنطن الماسوني التذكاري (SchuminWeb)

2- الغروتو: على شاكلة الشراينرز، تأسست هذه المنظمة في نيويورك عام 1889 لتتجاوز في جلساتها العلنية الطقوس الرسمية للمحافل التقليدية، حيث تُظهر احتفاءها بالأجواء المرحة والاجتماعية، وتُعلن اهتمامها بعلاج الأطفال المعاقين.

وبما أنها كالشراينرز تحصر عضويتها في الحاصلين على درجة الأستاذ الماسوني فلا شك في أن كل أعضائها يعلمون جيدا كواليس المنظمة وباطنها، فهم يتخذون من مدعي النبوة الذي ظهر أيام العباسيين بخراسان والمعروف باسم المقنع شعارا لهم، ويرتدون طرابيش سوداء، ويطلقون على محافلهم أسماء الكهف أو المسجد، ولا يخفى على أحد ما يخفيه احتفاؤهم بالمتنبي الكذاب من رمزية تعادي الوحي.

3- أشجار أرز لبنان الطويلة: أنشئ أول محافلها في عام 1901، وهي تدعي كسابقتيها توطيد العلاقة بين الأعضاء في جو من المرح وبذل الخير، فتركز أعمالها الخيرية المعلنة على علاج أمراض العضلات والأعصاب، لكنها تحصر عضويتها على الحاصلين على درجة الأستاذ الماسوني.

تعرف محافلها باسم الغابة، وتمنح درجتين لأعضائها هما البلاط الملكي والصيداوي، وربما تخفي وراء اسمها وشعارها احتفاءً بأشجار أرز لبنان التي كان لها دور في بناء هيكل سليمان.

شهادة الانضمام لمنظمة بناي بيرث ويظهر فيها الأثر اليهودي الصهيوني

4- منظمة بناي بيرث: تعد من أضخم المنظمات الماسونية وأكثرها انتشارا في العالم، تأسست في مدينة نيويورك عام 1843 على يد مهاجرين يهود من ألمانيا، وتتخذ من الشمعدان اليهودي شعارا لها. ساهمت في تأسيس مستعمرات يهودية صغيرة بفلسطين في وقت مبكر، وسخّرت جهودها للدفاع عن وجود اليهود بفلسطين ولعولمة خطابهم الصهيوني. وكغيرها من المنظمات الماسونية فإنها تقدم أنشطتها تحت غطاء خيري وثقافي، وتستقبل دوريا كبار الشخصيات لإلقاء كلمات على منابرها، مثل الرئيس الأمريكي دونالد ريغان الذي زار مقرها في واشنطن خلال حملته الانتخابية عام 1980.

5- نوادي الليونز Lions: وتعني الأسود (جمع أسد) وهي تتخذ من من الأسد شعاراً لها، ويُعتقد أن الأسود دلالة على حراس الهيكل، لكن البعض يرى أن الاسم مشتق من الأحرف الأولى للعبارة التالية liberty intelligence our nations safety، وقد تأسست على يد ملفن جونز عام 1915 لتكون بمثابة نوادٍ اجتماعية لنخبة المجتمع، ومن الملفت أنها لا تقبل طلبات الانتساب بل يرسل قادتها عروضهم لمن يرونه مناسبا لأفكارهم وتوجهاتهم كي ينضم إليهم.

6- نوادي الروتاري: تعني هذه الكلمة الدوران، في إشارة إلى تناوب عقد بعض الاجتماعات في بيوت الأعضاء ومكاتبهم. وقد تأسست هذه المنظمة على يد المحامي الأمريكي بول هارس عام 1905 ولها فروع حول العالم، وبما أنها تنفي عن نفسها الانتماء للماسونية فقد تمكنت من اختراق الدول التي تحظر الماسونية كالدول العربية مثل مصر، وهي تستقطب أيضا نخبة المجتمع كالسياسيين والفنانين، وتقدم لهم خدمات ترفيهية وتثقيفية إلى درجة أنها رحبت عدة مرات بتقديم محاضرات دينية لبعض “الدعاة الجدد” في القاهرة.

تأسس نادي روتاري مصر الجديدة عام 1954 ويعد من أقدم النوادي في المنطقة وما زال يضم نخبة المجتمع المصري

7- محفل برنس هال: أسسه الضابط الأميركي من أصل أفريقي برنس هال عام 1775 بانضمامه إلى أحد المحافل العسكرية الإنجليزية، وذلك بسبب رفض الماسون الأميركيين البيض لانضمام السود إليهم. وبعد استقلال الولايات المتحدة توسع هذا المحفل وأصبح منظمة بذاتها تتبعها محافل أخرى للأميركيين الأفارقة.

8- سيوتس: هو ناد ماسوني أنشئ في سان فرانسيسكو عام 1905، وجميع أعضائه حاصلون على درجة الأستاذ الماسوني، وتعرف محافله باسم الهرم، وبالنظر إلى شعاره يمكن اكتشاف صورة رأس بافوميت والشمس بين قرنيه.

النوادي الاجتماعية الفرعية
بالتوازي مع تأسيس المنظمات الماسونية المذكورة أعلاه، والتي تنتشر في شتى أنحاء العالم وتقدم، ولكي تستوعب الماسونية أكبر قدر ممكن من المجتمع في محافلها، انبثقت عنها عشرات الجعيات والنوادي الفرعية التي تحتوي كافة شرائح المجتمع وتقدم أنواعا مختلفة من الخدمات وتلبي معظم الاهتمامات، ونذكر منها على سبيل المثال:

  • الكلية العظمى لطقوس الولايات المتحدة: مخصصة لدراسة الطقوس القديمة للماسونية.
  • حلقة مراسلي التيجان الأربعة: جمعية للدراسات الماسونية مكونة من الأساتذة الماسون ذوي الاهتمامات الفكرية والأدبية.
  • جوقة الشرف: جمعية للمحاربين القدماء من الشراينرز.
  • أندية منتصف الليل: صناديق لرعاية الأسر الماسونية في حالة موت معيلها.
  • نظام ديسومز: جمعية مخصصة للرجال الصم من أقارب الأساتذة الماسون.
  • جمعية محبي الحقيقة: مخصصة لدراسة الفلسفة والتاريخ الماسونيين.
  • النظام الملكي للمهرجين (جيسترز): منظمة يختار أعضاؤها من بين الشراينرز وتتخذ طابعا ترفيهيا.
  • نظام كيتزالكواتال: جمعية خاصة بالشراينرز المهتمين بالأساطير المكسيكية، وتقام بعض طقوسها خلال الحج إلى أهرامات المكسيك.
  • النادي الماسوني العالمي للدراجات النارية: يسعى لاستقطاب الشباب من محبي ركوب الدراجات النارية.
  • نظام النجمة الشرقية: تأسس عام 1850 وهو يضم الرجال والنساء معا، ومع أنه يتخذ من النجمة الخماسية شعارا له (وهي ذات رمزية شيطانية) فإنه يُعلن أن نظامه الأساسي مستمد من الإنجيل، مع أنه يستقبل المؤمنين بأديان أخرى.
  • محفل قوس قزح للفتيات في أوكلاهوما (Sorcha A. Hazelton)

    النظام العالمي لفتيات قوس قزح: جمعية تأسست عام 1922 في أمريكا وتضم في عضويتها الفتيات من عمر 12- 21 سنة فقط، وهي جمعية تحظى برعاية نظام النجمة الشرقية.

  • النظام العالمي لفتيات أيوب: مخصص للبنات من عمر 10- 20 سنة فقط.
  • نظام دي مولاي: جمعية خاصة بالفتيان من عمر 12- 21 سنة، تأسس عام 1919 وهو يحمل اسم آخر أستاذ أعظم لفرسان الهيكل.
  • المحفل المحترم لحقوق الإنسان: تأسس في فرنسا عام 1893 ليكون أول محفل فرنسي مختلط يسمح بعضوية النساء.
  • نظام الناسجات: تأسس في هولندا في الثلاثينيات من القرن العشرين لاحتواء السيدات الماسونيات.
  • النظام المصري القديم لأميرات شارمخو: جمعية تضم السيدات من عائلات الشراينرز.
  • بنات المقنع: أخوية خاصة بقريبات أعضاء الغروتو في أمريكا.
  • بنات النيل: أخوية خاصة بقريبات الشراينرز، ويقع مقرها في سان فرانسيسكو.

جاء في منشور صادر عن مؤتمر الشرق الأعظم الفرنسي عام 1904 “إن آلاف المواطنين يترددون على المحافل للتباحث في شؤون الحياة وللدفاع عن الأفكار التي تبثها المحافل في وسائل الإعلام واللقاءات السياسية، وهكذا يتكون الرأي العام وتوجه الانتخابات، ومن ثَم يصبح البرلمان خاضعا لنا، وهكذا يجب أن تكون الديمقراطية”.

الماسونية في العالم الإسلامي
سنستعرض نماذج لأهم المناطق التي تغلغلت فيها الماسونية في عالمنا الإسلامي، مع التأكيد بأن هناك مناطق أخرى لا يتسع لها المقال.

1- الدولة العثمانية
بدأ التغلغل الماسوني في العالم الإسلامي رسميا مع تأسيس أول محفل ماسوني في الدولة العثمانية سنة 1721، وذلك بمنطقة غالاتا سراي في إسطنبول، ثم توالى تأسيس المحافل واستقطاب النافذين والمفكرين إليها.

في عام 1907 أسس المحامي اليهودي “عمانوئيل قره صو” محفل سالونيك (وهي مدينة تقع في اليونان حاليا) بالتعاون مع الماسونية الإيطالية والشرق الأعظم الفرنسي، ويؤكد كثير من المؤرخين أن هذا المحفل عمل على إزاحة السلطان عبد الحميد الثاني بسبب رفضه هجرة اليهود إلى فلسطين. حيث أقنع “قره صو” رجال اتحاد تركيا الفتاةبالانتماء إلى الماسونية لحمايتهم من جواسيس السلطان، وقد أسسوا بالفعل جمعية الاتحاد والترقي التي أجبرت عبد الحميد على إعادة العمل بدستور سنة 1876، ثم خلعته عام 1909 لتعين محمد رشاد مكانه.

عمانوئيل قره صو يبلغ السلطان عبد الحميد الثاني بقرار خلعه عام 1909

في السنة نفسها أنشئ 12 محفلا جديدا يقودها يهود الدونمة الذي يظهرون الإسلام، وأسس الأمير عزيز حسن “محفل الشرق الأعظم العثماني” مع وصول عدد المحافل إلى 65، وأصبح وزير الداخلية طلعت بك الرئيس الأعظم لهذا المحفل، وأصبح من الشائع بين موظفي الحكومة وضباط الجيش أن الترقي والنفوذ بات مرتبطا بالانتساب للمحافل، كما كان للنواب في مجلس المبعوثان محفل خاص اسمه “محفل الدستور” وكان من أعضائه وزير المالية اليهودي جاويد بك.

نفى كثير من الغربيين علاقة الماسون بالمؤامرات ضد عبد الحميد وإسقاط الخلافة، لكن الدكتور إيلي خضوري عثر في سنة 1974 على إحدى وثائق الخارجية البريطانية التي أرسلها السفير البريطاني في إسطنبول جيرارد لوثر عام 1910 إلى وزير خارجيته يشرح فيها دور اليهود والماسون في المؤامرة.

وبعد إسقاط الخلافة تماماً واعتلاء مصطفى كمال أتاتورك -الذي كان عضوا في محفل فيدانا ويُعتقد أنه من يهود الدونمة- سدة الحكم في تركيا عام 1923، بدأت عملية انتزاع الهوية الإسلامية من البلاد بإغلاق الزوايا الصوفية والكثير من المساجد ومنع الأذان بالعربية واعتماد الحروف اللاتينية للغة التركية وحظر الحجاب في أماكن كثيرة.

وفي عام 1936 أغلقت المحافل أبوابها وسلّمت ممتلكاتها إلى “بيوت الشعب” التي أنشأها حزب الشعب الجمهوري الحاكم “بهدف إنهاض الروح العلمانية في تركيا”، على اعتبار أن مهمتها اكتملت بإسقاط الخلافة ولم يعد لها أي طموح سياسي، ولكن يقول البعض إن أتاتورك هو الذي أغلقها خشية تدخل الغرب في حكومته من خلالها. وعلى أي حال فقد كان عدد من كبار وزرائه من الماسون، ولايزال أتاتورك حتى اليوم هذا يحظى بتمجيد الماسون، ففي العاشر من نوفمبر 1993 قام الماسون بزيارة جماعية لضريحه وكتب أحد أساتذتهم ويدعى “أونده أقطامش” في دفتر التشريفات ما يلي: “سوف لن ننتهك علمنا وكتابنا والمبادئ التي نعتبرها مقدسة، والعملية التي بدأت بهاتاي سنواصلها دون أن ننسى الموصل وكركوك والجزر الاثني عشرة. إننا حاضرون للتضحية بأرواحنا. ارقد هنيئاً”. علما بأن هاتاي هي منطقة لواء الإسكندرون السوري الذي اغتصبه الكماليون من سوريا، أما الجزر فتقع في بحر إيجة وتتبع لليونان، في حين يسعى الانفصاليون الأكراد بدعم من الغرب وإسرائيل لفصل الموصل وكركوك عن العراق.

أعضاء المحفل التركي الأكبر يحتفلون بمرور 90 عاما على تأسيس المحفل بزيارة ضريح أتاتورك (mason.org.tr)

وبعد 13 سنة من التوقف الظاهري عادت الماسونية التركية للنشاط سنة 1948 بالتزامن مع إعلان دولة إسرائيل على أرض فلسطين، ورصد باحثون أسماء أكثر من 1900 ماسوني ضمن الشخصيات البارزة في تلك الفترة وعلى رأسهم سليمان ديميريل الذي عمل رئيسا للوزراء سبع مرات قبل أن ينتخب رئيسًا للجمهورية، ولعبت الماسونية دورا واضحا في تعزيز علاقة تركيا مع إسرائيل، إلى أن تمكن حزب العدالة والتنمية من تقليص هذا الدور تدريجيا منذ وصوله للحكم عام 2002.

2- مصر
من جهة أخرى، يرجح مؤرخون أن أول ظهور للماسونية في البلاد العربية تجسد في محفل إيزيس بالقاهرة الذي أنشئ عام 1798 إبان حملة نابليون على مصر، ثم تبعه تأسيس محفل ممفيس عام1838 ، وكانت المحافل المصرية تتنوع في تبعيتها للمحافل والشروق الإنجليزية والفرنسية والإيطالية ويتحدثأعضاؤها بلغات أجنبية، وفي عام 1868 تقرر إنشاء محفل نور مصر ليكون محفلا وطنيا، كما تأسس المجلس العالي ليكون بمثابة الشرق الأعظم الوطني على طريقة ممفيس.

بعد ذلك بثلاث سنوات أسس تسعة من كبار الماسون مجلس أعلى على الطريقة الاسكتلندية، ثم تم توحيد المحافل والمجالس جميعا تحت مظلة الشرق الأعظم الوطني المصري سنة 1876 مع أن رئيسه كان إيطاليًا واسمه “سوليتوري زولا”. ثم انتخب الخديوي توفيق باشا رئيساً للمحفل بعد 11 سنة، وتصاعد دور المحافل في السياسة والفكر حتى انضمت لها نخبة الحركات الإصلاحية بما فيها الإسلاميون، وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني الذي مازالت رسالة انضمامه للمحفل محفوظة في إيران، حيث أسس بنفسه لاحقا محفلا تابعاً للشرق الأعظم الفرنسي، ويؤكد مؤرخون أن هدفه من ذلك كان مناهضة الاحتلال الإنجليزي، وأنه انسحب من الماسونية كلها فيما بعد برسالة ينتقد فيها انتهازية أعضائها وقبل أن يكتشف صلاتها باليهود.

يقول المؤرخ العراقي علي الوردي إن الماسونية في مصر تختلف من حيث مكانتها الاجتماعية عنها في البلاد العربية الأخرى، فكانت تحظى بالاحترام الشعبي لانتماء الكثير من الأمراء والباشوات ورجال الدين إليها، أما في الشام والعراق فكانت بمثابة تهمة وشتيمة، مما دفع جرجي زيدان لتأليف كتابه “تاريخ الماسونية العام” للدفاع عنها.

3- الشام
وفي بلاد الشام، ظهر أول محفل ماسوني في بيروت سنة 1862 تحت رعاية الشرق الأعظم الاسكتلندي وعُرف باسم شرق فلسطين، وبعد ست سنوات تأسس “شرق لبنان” برعاية الشرق الأعظم الفرنسي، ثم أقيمت محافل عديدة في دمشق وحمص وحلب وعينتاب والإسكندرونة وأنطاكية، وكان معظمها تابعا للشرق الأعظم الإيطالي. ويقول جرجي زيدان إن الأمير عبد القادر الجزائري هو أول من أدخل الماسونية إلى دمشق بتأسيس محفل سورية.

المحفل الماسوني بدمشق أثناء الاحتلال الفرنسي في منتصف الثلاثينيات يضم كبار رجال الدولة وعلى رأسهم رئيسا الحكومة جميل مردم بك وعطا الأيوبي والمدعي العام حنا مالك

ولم يأت عام 1923 إلا وقد بلغ عدد المحافل في سورية ولبنان وفلسطين 30 محفلاً تضم نحو خمسة عشر ألف ماسوني، وتنتمي إلى خمسة شروق دولية، وبعد الاستقلال أصبح بعضها يتبع محافل أميركية. وكان من أبرز أعضاء تلك المحافل بدر الدين الشلاح وفارس الخوري وأديب الشيشكلي وفوزي سلو، وقد طالب القطب الأعظم محمد سعيد (حفيد عبد القادر الجزائري) بأن يستقل المحفل الأكبر السوري العربي عن التبعية للخارج عام 1951، ومن الملفت أن بعض تلك المحافل كان يتخذ أسماء إسلامية مثل أويس القرني وخالد بن الوليد، لكن هذا كله لم يكن كافيا لإقناع الناس ببراءة الماسونية، إلى أن اتُخذ قرار حل كل المحافل في سورية في عصر الحكم البعثي عام 1965.

كانت المحافل تؤيد سلطات الاحتلال أينما وجدت، فمع دخول الفرنسيين إلى الجزائر دعا الماسون فيها سنة 1834 إلى نشر الأفكار الفرنسية والعمل على “بعث نوع من الوحدة العائلية لتكوين شعب فرنسي جديد”. وكذلك الحال في لبنان حيث قرر المؤتمر العام للمحافل الماسونية المنعقد في بعلبك سنة  1924 “التعاون مع سلطات الانتداب”.

في عام 1964 أغلقت الحكومة المصرية جميع المحافل الماسونية في مصر، ويقول المؤرخ أحمد فؤاد عباس إن التحقيقات كشفت أن النادي الماسوني الإنجليزي سبق أن هرّب إلى لندن جميع سجلاته من عام 1952، لكن هذا لم يمنع التوثق من ارتباط النادي بإسرائيل حيث كانت جميع مقتنياته تتسم بالطابع البريطاني-الإسرائيلي. وفي السنة نفسها كشفت مجلة “آخر ساعة” القاهرية أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة سبق لها أن طلبت من الجمعيات الماسونية التسجيل لدى وزارة الشئون الاجتماعية والالتزام بالقانون فرفضت، وأن العراق أقدمت إثر ذلك على إلغاء هذه الجمعيات وتجريم أعضائها عام 1958، ولكن تأخر التنفيذ في مصر بضع سنين، ثم لحقت بهما معظم الدول العربية والإسلامية باستثناء لبنان.

الماسونية والأديان
في خطابها المُعلن للناس، تتبنى الماسونية موقفا ليبراليا يساوي بين كل الأديان، ففي كتابه العقيدة والأخلاق يقول قطب الماسونية ألبرت بايك “إن المسامحة تعني أن لكل إنسان الحق عينه في التعبير عن رأيه وإيمانه؛ وإن الليبرالية تعني أنه طالما لا يمكن لأي إنسان أن يدعي امتلاك الحقيقة (…) فينبغي أن يشعر بأن الآخرين يمتلكونها أيضا ولو كان لهم رأي مضاد”. وقد مرّ معنا أن كبار مؤسسي الليبرالية كانوا أعضاء في المحافل الماسونية.

وتحظر الماسونية في دساتيرها مناقشة السياسة والدين في المحافل، وتشترط على الأعضاء أن يكونوا مؤمنين بدين ما –باستثناء المحافل الفرنسية التي ترحب بالملحدين- وهي تعتمد كتابه المقدس الخاص به عندما يُطلب منه القسَم. لكن جميع المؤلفين الذين كتبوا عن الماسونية بعد انشقاقهم عنها أكدوا أن العضو يكتشف بعد ترقيه أن الدين الوحيد المُعتمد هو الثيوصوفية اليهودية (القبالاه)، فما إن يصل إلى الدرجة الثامنة عشرة في الطقس الاسكتلندي أو الدرجة الرابعة في طقس يورك حتى يصبح القسم على التوراة وحدها. وإذا نجح في الارتقاء إلى أعلى الدرجات فسينتهي الأمر بالماسوني إلى عبادة الشيطان.

لذا تصدّى المسلمون والكاثوليك للماسونية بشدة، في حين نجد تقاطعا في المصالح بين الماسون وأديان أخرى كالبوذية والهندوسية والبروتستنتية، مع أن هذا التوافق لا يظهر لدى جميع رجال الدين، وفيما يلي ملخص لأهم المواقف الدينية من الماسونية:

1- موقف الإسلام:
قام المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بدراسة هذه المنظمة وأصدر في عام 1978 بيانا مطولا جاء فيه أن أعضاء الماسونية المغفلين يُتركون أحراراً في ممارسة عباداتهم الدينية للاستفادة من توجيههم بما يحقق مصالح المنظمة، في حين يرتقي الملحدون في درجاتها العليا، وأنها ذات أهداف سياسية ولها في معظم الانقلابات أصابع ظاهرة أو خفية، كما أنها يهودية في جذورها وإدارتها، وتسعى لهدم الأديان جميعاً ولا سيما الإسلام.

وعليه فقد أفتى المجمع بأن “من ينتسب إليها على علم بحقيقتها وأهدافها فهو كافر بالإسلام مجانب لأهله”.

وفي عام 1979 أصدرت جامعة الدول العربية قرارا ينص على اعتبار الماسونية حركة صهيونية، وأنها تساعد على تدفق الأموال على إسرائيل من أعضائها مما يدعم اقتصادها ومجهودها الحربي ضد الدول العربية.

وفي عام 1984 أصدر الأزهر فتوى جاء فيها أن المسلم لا يمكن أن يكون ماسونياً لأن ارتباطه بالماسونية انسلاخ تدريجي عن شعائر دينه ينتهي بصاحبه إلى الارتداد التام عن دين الله.

2- موقف الكاثوليكية:
من المعروف تاريخيا أن فرسان الهيكل اصطدموا مع الفاتيكان مما أدى إلى تفريق جماعتهم وإعدام قادتهم في عام 1310م على يد البابا كليمنت الخامس، إلا أننا نقلنا في مقال “فرسان الهيكل” عن كتاب “المُلك الإلهي” أن الأسرة الميروفنجية -المنحدرة من نسل داوود- تغلغلت إلى داخل الفاتيكان قبل ذلك ونجحت في تعيين ستة بابوات من أصول ميروفنجية، كان أولهم البابا سلفستر الثاني سنة 999م، وآخرهم هو أوربان الثاني الذي أعلن بدء الحروب الصليبية عام 1096 باسم الكاثوليكية، ولا ندري إن كان قرار كليمنت الخامس بالقضاء على فرسان الهيكل قد جاء بعد تخليص الكنيسة من التغلغل اليهودي فيها أم أنه كان إجراء ظاهريا بضغط من الملك الفرنسي فيليب الرابع.

على أي حال، اصطدمت الفاتيكان أيضا بالماسونية (وريثة فرسان الهيكل) بعد فترة قصيرة من تأسيسها، حيث أصدر البابا كليمنت الثاني عشر عام 1738 مرسوما جاء فيه: “أفادتنا الأنباء عن تأليف جمعيات سرية تحت اسم فرماسون وأسماء أخرى شبيهة بهذا الاسم. ومن خواصها أنها تضم إليها رجالاً من كل الأديان والشيع، يرتبطون فيما بينهم بروابط سرية غامضة، وحسبنا شاهداً على أن اجتماعاتها الخفية هي للشر لا للخير، وأنها تبغض النور، وإذا كان فكرنا في الأضرار الجسيمة التي تنجم عن هذه الجمعيات السرية رأينا منها ما يوجب القلق، سواء كان لسلامة الممالك أم لخلاص النفوس، ومن بعد أخذ رأي إخوتنا الكرادلة، ولعلمنا التام، وقوة سلطتنا وحكمنا بأن هذه المنظمات، والجماعات المعروفة باسم الفرماسون يجب رذلها ونفيها. وبناءً عليه نرذلها ونشجبها بقوة هذا المنشور الذي يريد أن يكون مفعوله مخلداً”.

في عام 1917 أصدر الفاتيكان قرارا آخر بالحرمان الكنسي لمن ينضم إلى الماسونية، وفي عام 1966 حاول البابا بولس السادس استمالة الماسون عبر وعدهم برفع الحرمان عنهم في حال الانشقاق عنها “مهما كان حجم الفضائح والضرر الذي تسببوا به”، تقرر السماح للأساقفة برفع الحرمان عمن يرونه مناسباً من الماسون ضمن شروط وحالات محددة.

في عام 1974 حاول الماسون بشدة إقناع الفاتيكان بتغيير موقفها، وبعد ست سنوات من الاجتماعات والمفاوضات أصدرت الفاتيكان تقريرا يؤكد استحالة التقاء الطرفين على عقيدة واحدة، وجاء في التقرير أن الماسونية مذهب “ربوبي” ينكر إمكانية وجود الوحي الإلهي. وفي عام 1981 أعاد مجمع العقيدة والإيمان في الفاتيكان التأكيد على عدم إلغاء الحرمان الكنسي للماسون.

الفاتيكان

ما زال الموقف الرسمي المعلن للفاتيكان يصر على عدم التلاقي مع الماسونية، لكن هذا لم يمنع بعض الكرادلة من الانضمام سرا أو علنا للمنظمة وسط ترحيب الماسون. ومع ذلك يعتقد بعض المؤرخين والباحثين أن هذا الموقف المعلن لا يعني بالضرورة عدم وجود علاقة سرية بين الفاتيكان والجمعيات السرية، فمن المعروف أن خزائن الفاتيكان تُعد من أكثر الأماكن سرية في العالم، لاحتفاظها بوثائق لا يعلم مضمونها إلا النخبة هناك، وهذا وحده يكفي لإقناع الكثيرين بأن الفاتيكان لا تختلف في آلية عملها كثيرا عن الجمعيات السرية، فكما أن الماسونية لا تُطلع معظم أعضائها ممن لم يرتقوا إلى أعلى الدرجات على أسرار عقائدها، فربما يجهل معظم أتباع الفاتيكان الذين يتجاوز عددهم 1.13 مليار شخص حول العالم أن النخبة في الفاتيكان تخفي عنهم شيئا ما.

ويستشهد المشككون بالتقارب الذي حدث بين الفاتيكان والصهيونية، لا سيما بعد إعلان البابا بولس السادس عام 1965 براءة اليهود من دم المسيح، ولقائه مجموعة من أعضاء نادي “الروتاري”، وهو أمر تكرر أيضا مع البابا الحالي فرانسيس، مع أن قرارا كاثوليكيا سابقا كان ينص على أن “المسيحي الذي ينضم لنادي الروتاري يتعرض إيمانه للشبهة”.

وثيقة انضمام رئيس الوزراء الإيطالي السابق برلسكوني للمحفل P2

ومن أهم المواقف التي قد تدل على وجود علاقة سرية بين الطرفين، ما ذكرته صحف وكتب وأفلام وثائقية كثيرة عن فضيحة تورط الماسونية مع المافيا وأخطبوط الفساد الإيطالي في مقتل مدير بنك أمبروزيانو الإيطالي روبرتو كالفي عام 1982، الذي وُجد مشنوقا ومتدليا من جسر في لندن بطريقة تحمل رموز الماسونية، ولكن الملف أقفل قضائيا على أنه انتحار، حيث يقول المشككون إن أصل الجريمة يعود إلى محاولة البابا يوحنا بولس الأول فتح تحقيق في قضايا فساد ببنك الفاتيكان منذ بداية توليه المنصب عام 1978، وتقديمه قائمة بأسماء أكثر من مئة عضو في كنيسته للاشتباه بعضويتهم في محفل “بروباغاندا-2” P2 الماسوني الإيطالي، وهو الأمر الذي تسبب كما يبدو بالعثور على البابا نفسه ميتا (وبالأحرى مقتولا) في فراشه بعد 33 يوما من تنصيبه فقط، حيث تم تحنيطه فورا دون إجراء فحص طبي، ليتولى بعده يوحنا بولس الثاني كرسي البابوية، ويتم إغلاق ملف التحقيقات بشأن تغلغل الماسون في الكنيسة، وتبدأ سلسلة اغتيالات واعتقالات بشأن كل من كان يحاول ملاحقة الفضيحة من القضاة والمسؤولين والصحفيين والمصرفيين، ووصولا إلى مقتل كالفي نفسه وتعليقه أمام كل سكان لندن، دون أن يتمكن البابا -وربما دون أن يحاول- تخليص كنيسته وطائفته كلها من الفساد الذي قيل إن له علاقة بتجارة أسلحة وتمويل حروب. [المزيد من التفاصيل في كتاب: النشأة الدموية].

3- موقف البروتستنتية:
سبق أن أوضحنا في بحث المسيحية المتصهينة العلاقة الوطيدة بين اليهودية وبين البروتستانتية المتمردة على الكاثوليكية، لكن بعض المؤرخين (كما نجد في كتاب الماسونية للسقا أمينى وأبو حبيب) أكدوا أن مارتن لوثر -أحد مؤسسي البروتستنتية- كان ماسونيا، وأنه كان على علاقة وثيقة باليهود.

لكن البروتستنتية تظل مع ذلك كنيسة مسيحية تؤمن بالثالوث وترفض العقائد الوثنية التي يخفيها الماسون وتنتهي بهم إلى عبادة الشيطان، ففي اجتماع سنوي للمجمع المعمداني الجنوبي عام 1993 تم بحث موقف الكنيسة من الماسونية، ومع أنه اعترف بقيمة أعمالها الخيرية فقد أكد وجود 8 اختلافات جوهرية بين الماسونية والمسيحية، وأهمها استخدام الماسونية مصطلحات مسيئة تجاه الله، واستخدامها للأيمان الدموية التي يحظرها الكتاب المقدس، واعتقادها بأن الخلاص يتحقق عبر الأعمال الصالحة فقط وليس بالإيمان بالمسيح.

ويجدر بالذكر أن جانيت زوجة جوناس التي ورد ذكرها في هذا المقال عند استعراضنا لكتاب “تبديد الظلام” كانت سيدة بروتستنتية متدينة، وهذا لم يمنعها من إقناع زوجها المتحدر من سلالات مؤسسي الماسونية -وفق ادعاء المؤلف- بترك الدين اليهودي وفضح المؤامرة.

المؤامرة.. نظرية أم حقيقة؟
اعتمدت الماسونية طوال قرون على السرية وملاحقة كل من يكشف أسرارها، فهناك روايات عدة عن حالات اغتيال لمؤلفين وصحفيين حاولوا تسريب وكشف مؤامراتها مثل الروسي شيريب سبيريدوفيتش صاحب كتاب “حكومة العالم الخفية”.

ومع ذلك، بدأت الماسونية في القرن العشرين بانتهاج سياسة الانفتاح التدريجي، ولا سيما في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات التي أتاحت للجميع البحث والنشر بأقل قدر من القيود التي عرفها الإنسان في تاريخه، فباتت أسرار الماسونية وتاريخها الغامض مادة مثيرة لفضول الباحثين، ما دفع بأقطاب الماسونية -كما يبدو- إلى اعتماد سياسة الضخ المضلل لكمية هائلة من المعلومات التي يختلط فيها الحق بالباطل، حتى يصعب على الباحث تجريد الحقيقة وتوثيقها.

في الوقت نفسه، تسمح بعض المحافل للصحفيين بحضور بعض اجتماعاتها وإجراء مقابلات مع أعضائها لإظهار “الوجه الخيري” للمنظمة، كما افتتحت بعض المحافل متاحف ماسونية لاستقبال الزوار وتنظيم جولات سياحية فيها، في حين أطلقت هوليود وكبرى وسائل الإعلام المرئية والمطبوعة عددا هائلا من الأفلام السينمائية والوثائقية والكتب والمجلات التي تُظهر الماسونية في صورة جمعية ثقافية وإنسانية لعبت دورا في حفظ أسرار البناء وحماية كنوز الحضارات القديمة فضلا عن تأسيس الولايات المتحدة على أسس إنسانية عظيمة.

ولا تتعرض هذه الأعمال للمؤامرات التي يوثقها الباحثون في خفايا الماسونية، وفي حال تم طرح شيء منها من قبل الصحفيين في إحدى اللقاءات فسرعان ما يتم نفيها بشيء من السخرية مع وصم من يؤمن بها بالخضوع لعقدة “نظرية المؤامرة”.

ويجدر بالذكر أن الكثير من المواقع والكتب والأفلام التي تفضح مخططات الماسونية و”المتنورين” لا تخلو من المبالغة التي قد تصل حد السخف، وهذا ما يسلط الضوء عليه منكرو المؤامرة، في حين تدور معظم الأبحاث والروايات التي تنفي المؤامرة حول الدوافع النفسية لدى من يؤمنون بوجودها، فالاتهامات تبدأ بالحديث عن شعور بالنقص يدفع البعض للبحث عن جهات كبرى تنشغل بالتآمر ضده أو ضد مجتمعه، وتصل إلى الحديث عن الإصابة بمرض البارانويا “جنون الارتياب” الذي يدفع المصاب للإحساس الدائم بالتعرض للملاحقة والاضطهاد. ومع أن هذه الاتهامات صحيحة في كثير من الحالات، إلا أن نفي المؤامرة يتطلب تحقيقا علميا في صحة وقوع التآمر بالفعل من حيث كونه حدثا تاريخيا ودون هدر الوقت والجهد في البحث عن الدوافع الأيديولوجية لمثبتي المؤامرة وصحتهم النفسية، فمن السهل بالمقابل اتهام منكري المؤامرة باتهامات مماثلة مع عكس الاتجاه.

أمبرتو إيكو

تعد روايات المفكر الإيطالي أمبرتو إيكو نموذجا “راقيا” للأعمال التي نجحت في تسخيف الاعتقاد بوجود المؤامرة، فهو يستند فيها إلى خلفيته الموسوعية لتاريخ الأديان والصراعات السياسية في أوروبا، ثم يذهب بالقارئ إلى إنكار المؤامرة واعتبارها مجرد هوس.

علما بأن إيكو أقر بأنه اختار الإلحاد بعد إنهاء دراسته للدكتوراه وهو ما زال في العشرينات من عمره، وذلك في مقابلة لصالح مجلة تايم بتاريخ 5 يونيو 2005.

وهناك نمط آخر من المؤلفين والناشطين يحاول إقناع الناس بسخافة فكرة وجود مؤامرة عبر السخرية اللاذعة، فنجد مثل هذا الخطاب كثيرا على ألسنة مشاهير كوميديا الإلقاء Stand-up Comedy في أميركا، كما نجده في أعمال الكاتب الأمريكي روبرت أنطون ويلسون الذي أنجز عددا كبيرا من الكتب والمحاضرات والمقابلات الصحفية لتقديم فكرة المؤامرة (التي ينكرها) في إطار ساخر.

وعندما سأله المذيع ريتشارد ميتزجر عن رأيه في حقيقة “المتنورين”، قال ويلسون بأسلوبه الساخر إنه بعد دراسته لهذه الجماعة طوال ثلاثين سنة فإنه يرى أنهم مجموعة صغيرة من المفكرين الأحرار والمصلحين الديمقراطيين تشكلت داخل الماسونية، ثم استخدمت الماسونية غطاءً للانقلاب على ملوك أوروبا والبابا، ويضيف أنه سعيد جدا بنجاحهم في ذلك، وأنه يتمنى أنهم كانوا قد أكملوا المهمة وتخلصوا من البابا نهائيا. [كتاب Disinformation للمؤلف Richard Metzger، 2011].

إذن فهو لا ينكر المؤامرة فعلا، بالرغم من دأبه على تسخيف المؤمنين بها، ويتمنى مع ذلك أن تحقق كل أهدافها بالقضاء على الأديان.

وبما أن الكثير من المتعلقة بأنشطة الجمعيات السرية هي أصلا طي الكتمان، فمن الصعب إثبات نسبة الكثير من الأحداث التاريخية لها، كما يصعب أيضا إثبات نسبة كثير من الوثائق المسربة لتلك الجمعيات أو لأعضائها طالما كانوا ينكرونها. ومع ذلك فإن جهود بعض المحققين لم تذهب سدى في إقناع قرائهم بصحة الربط بين الأحداث والوثائق والتصريحات وتلك الجمعيات السرية، لكن الجزم يتطلب في رأينا ما هو أكثر يقينا وشمولا من التعلق بالجزئيات، وهذا شأن الوحي المنزل من السماء.

كتاب “الدستور السحري” Codex Magica للمؤلف الأميركي تيكس مارس، هو من المراجع المهمة لأسرار الماسونية وطقوسها ورموزها، إلا أن المؤلف يندفع فيما يبدو كثيرا أثناء رصده لمظاهر انتشار تلك الرموز في المجتمع، ويمكن للقارئ أن يلاحظ المبالغة في عشرات الصور التي ضمّنها في كتابه.
للاطلاع على نسخة إلكترونية اضغط هنا.

لذا فإن من يصل إلى يقين عقلي ووجداني بصحة نسبة القرآن الكريم إلى الله تعالى، سيجد في ثنايا الوحي دلائل كثيرة على صحة نسبة التآمر إلى بني إسرائيل وسعيهم للإفساد في الأرض، بعد إخفائهم للوحي التوراتي وكتمان ما فيه من الهدى عن البشر، بل بث نقيضه لتضليلهم.

ونظرا لضيق المساحة واضطرارنا للإيجاز، فإنا ننصح من أراد التوثق أن يعود إلى كتابَي الباحث المعاصر بهاء الأمير: كتاب “الوحي ونقيضه” الذي يثبت من القرآن الكريم حقيقة وجود المخطط الإسرائيلي، وكتاب “شفرة سورة الإسراء” الذي يستنبط من سورة الإسراء -أو سورة بني إسرائيل- الدليل على أن بني إسرائيل أفسدوا في الأرض مرتين، وأن الثانية منهما هي التي نعيشها اليوم بعلوّهم في الأرض كلها “علوا كبيرا”.

بعد سقوط مخططات “المتنورين” في يد السلطات البافارية، نُشرت عدة كتب مهمة لشرح تفاصيل المؤامرة العالمية، ومنها كتاب اليسوعي الفرنسي أوغستين بيرويل “مذكرات في تنوير تاريخ اليعقوبيون” (1797م)، وكتاب أستاذ الفلسفة في جامعة إدنبره والعالم الرياضي والفيزيائي الاسكتلندي جون روبيسون “الأدلة على وجود المؤامرة” (1798م).
ومن الملفت أن روبيسون كان من الماسون الناشطين، حيث زار العديد من المحافل الماسونية في أنحاء أوروبا وفوجئ بوجود مخطط خفي للانقلاب على الحكومات وتدمير الأديان وإشغال الشعوب بحروب طاحنة، ثم تأكدت المؤامرة لديه بظهور وثائق المتنورين على يد حكومة بافاريا، فنشر ما لديه من مشاهدات وأدلة في كتابه، غير آبه بالتهديد والوعيد.

ينشر المجلس الأعلى الماسوني في واشنطن مجلة ماسونية تحت اسم “الطقس الاسكتلندي”، وهي متاحة على الإنترنت مجانا، وسيجد المتصفح فيها صورة مشرقة للماسونية بصفتها جمعية خيرية تقدم نشاطات اجتماعية وإنسانية، مع إرث تاريخي مفعم بالرموز المشوقة لكبار المفكرين والساسة، وطبعا دون أي بعد شيطاني.
للاطلاع اضغط هنا.


أهم المراجع
جرجي زيدان، تاريخ الماسونية العام، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2012.

أكرم أنطاكي، دراسة “أبناء الأرملة”، موقع معابر، بدون تاريخ.

جون روبنسون، النشأة الدموية.. الأسرار المفقودة للماسونية، صفحات للدراسات والنشر، 2012.

أندريه برات، المنظمة الماسونية والحق الإنساني، ترجمة جورجيت الحداد، دار الكتاب الجديد، بيروت، 2008.

محمد علي الزعبي، الماسونية في العراء، معتوق إخوان، 1972.

تبديد الظلام أو أصل الماسونية، عوض الخوري، بدون ناشر، 2002.

عبد المجيد همّو، الماسونية والمنظمات السرية: ماذا فعلت ومن خدمت؟، دار صفحات، دمشق، الطبعة الخامسة، 2009.

محمد عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق، مؤسسة مختار للنشر والتوزيع.

إبراهيم خليل العلاف، دراسة “الماسونية في تركيا ودورها في الحياة الاجتماعية والسياسية المعاصرة”، مجلة دراسات اجتماعية، بغداد، العددان 3 و4، 1999- 2000.

بهاء الأمير، الوحي ونقيضه.. بروتوكولات حكماء صهيون في القرآن، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2006.

أحمد فؤاد عباس، الماسونية تحت المجهر، جدة، 1988.

محمد بن ناصر أبو حبيب، أثر القوة الخفية الماسونية على المسلمين، بدون ناشر، 1989.

حسين عمر حمادة، شهادات ماسونية، دار قتيبة، دمشق، 1980.

محمد صفوت السقا أمينى وسعدي أبو حبيب، الماسونية، رابطة العالم الإسلامي، 1982.

Christopher Knight & Robert Lomas, The Hiram Key – Pharaohs, Freemasons And The Discovery Of The Secret Scrolls Of Jesus, Barnes & Noble, 1998.

Cyndi Wallace-Murphy & Tim Wallace-Murphy, Rex Deus: The Families of the Grail, Grave Distractions Publications, 2016.
 Marilyn Hopkins & Graham Simmans & Tim Wallace-Murphy, Rex Deus: the True Mystery of Rennes Le Chateau and the Dynasty of Jesus, HarperCollins Publishers, London, 2000.

Manly P. Hall, The Secret Teachings of All Ages, H. S. Crocker Company Inc., San Francisco, 1928.

Albert Pike, Morals and Dogma of the Ancient and Accepted Scottish Rite of Freemasonry, 1966.

Michael R. Poll, The Freemasons Key – A Study of Masonic Symbolism, Cornerstone Book Publishers, 2008.

Ethan Harrison, Illuminati Hunter: Adam Weishaupt and the Eye of Horus, 2014.

http://www.lakeharrietlodge.org

http://www.overlordsofchaos.com

العلمانية

تتفاوت آراء المنظّرين بشأن تعريف العلمانية تفاوتا كبيرا، ويرجع ذلك في الغالب لزاوية النظر والمعالجة، وفيما يلي ثلاثة تعريفات للعلمانية في أهم الموسوعات الغربية:

معجم أكسفورد: كلمة secular تعني دنيوي أو مادي، أي ليس دينياً ولا روحياً، مثل التربية اللادينية والفن والتربية الموسيقى اللادينية والسلطة اللادينية، والحكومة المناهضة للكنيسة.

دائرة المعارف الأمريكية: العلمانية نظام أخلاقي مستقل مؤسس على مبادئ من الخلق الطبيعي، مستقل عن المظهر الديني أو الفوق طبيعي.

دائرة معارف الدين والأخلاق: العلمانية توصف بأنها حركة ذات قصد أخلاقي منكر للدين، مع المقدمات السياسية والفلسفية، فهي مؤسسة بقصد إعطاء نظرية معينة للسلوك والحياة، وهي تتبع في ذلك المذهب الوضعي الأخلاقي، منذ أن تكفلت بأن تعمل هذه دون الرجوع إلى الألوهية أو الحياة الآخرة، ولهذا فقد كان مطلبها هو تتميم وظيفة الدين خالية من الاتحاد الديني، ولذلك فإنه يجدر بها أن تكون ديناً إنكارياً سلبياً.

إذن فالعلمانية في المنظور الغربي تعني التحرر من الأديان بحكم التطور عبر “السيرورة” التاريخية، واعتبار الأديان مرحلة بدائية لأنها تشتمل على عناصر “خرافية” كالماورائيات والغيبيات، ولا يتم الخلاص من هذه الأعباء إلا عن طريق تحقيق النضج العقلي الذي تحققه العلمنة عبر آلياتها الثقافية والفكرية والإعلامية.

كثيرا ما يحصل اللبس عند القراء العرب، فيلفظون العلمانية بكسر العين بدلا من فتحها، ويعتقدون أنها مشتقة من العِلم، والصحيح أنها مشتقة من العالَم أي الدنيا في مقابل الغيب وكل ما يتعلق بالملكوت. لذا فالكلمة ليست إلا اشتقاقا خاطئا درج على ألسن العرب وصار مصطلحا لازما، وكان يجب أن يقال بدلا منها العالَمانية أو الدنيوية.

تعليقات ابن رشد على كتاب “في الروح” لأرسطو مترجمة للفرنسية

إرهاصات الظهور في أوربا

درج بعض الباحثين على ربط تبلور العلمانية بصفته تيارا فكريا بعصر النهضة الذي يؤرخ لبدايته عادة مع فتح القسطنطينية في عهد السلطان محمد الفاتح سنة 1453م، كما درجوا عادة على القول بأن مساوئ الكنيسة واضطهادها وتاريخها الأسود هي التي أنتجت العلمانية. لكن بدايات الصراع بين الفكر والكنيسة يمكن أن تُعد من آثار ترجمة فلسفة ابن رشد إلى اللغة اللاتينية منذ بدء احتكاك الأوربيين بالمسلمين عقب الحروب الصليبية، كما كان لليهود الذين تغلغلوا في الحركات السرية دور كبير في تأصيل العلمانية.

كان ميشيل سكوت أول من أدخل فكر ابن رشد إلى أوربا في القرن الثالث عشر. ومن المعروف أن ابن رشد تبنى مذهب أرسطو وانبهر به حتى كاد أن يفضّل أرسطو على الأنبياء حين قال “نحمد حمداً لا حد له ذاك الذي اختار هذا الرجل (أرسطو) للكمال فوضعه في أعلى درجات الفضل البشري التي لم يستطع أن يبلغها أي رجل في أي عصر كان”.

تزامن انتقال الفكر الرشدي إلى الغرب مع عاملين: الأول هو الفتح الثقافي الإسلامي والعربي للبلاد الأوروبية، ولم يكن ابن رشد وحده هو الذي يحتل الساحة الثقافية الأوربية بل أعلام كثر. أما الثاني فهو حالة العداء الشديدة التي تزعمتها الكنيسة لكل ما هو عربي وإسلامي إبان الحروب الصليـبية، لذا حاربت الكنيسة الفكر الرشدي وترجمت كتاب “تهافت التهافت” ترجمة محشوة بالتحريف والتناقض والافتراء، ومع أن ابن رشد كان يتبع أرسطو مثل الكنيسة، إلا أن الكنيسة حاربته لكونه مسلما في الأصل.

شعار جامعة بادوفا

وهكذا نشأت حركة تعاطف مع الحضارة الغازية من جانب الراغبين في التحرر من الاحتكار الكنسي للعلم والثقافة، فالكنيسة اضطهدت الفكر الرشدي واعتبرته إلحاديا، بينما رحب المتمردون بهذه الصورة التي رُسمت لابن رشد وفكره واستُخدمت كسلاح مضاد للكنيسة.

احتلت “الرشدية” مقام السيادة في الجامعات الغربية الكبرى مثل جامعة بادوفا في إيطاليا التي أصبحت معقل الرشديين، ثم وجدت لها صدى في الجامعة الباريسية، وصارت الرشدية معياراً  للثقافة والتحضر والرقي.

الحقيقة المزدوجة

في أوائل القرن السادس عشر أصبحت الرشدية تسيطر على جميع إيطاليا تقريباً، وأدى ظهور المطبعة في القرن الخامس عشر إلى انتشار الأفكار المناهضة للكنيسة والعقائد الشائعة، كما استطاع الأفراد أن يمتلكوا نسخاً من الكتاب المقدس ويقرؤوه بأنفسهم. وبدأت الكنيسة تفقد سلطانها على العقول والأفكار.

وهنا نشأت الحقيقة المـزدوجة أو الحقيقة ذات الوجهين، وهي تعني أنه يمكن للشيء أن يكون صادقاً فلسفياً وخاطئاً لاهوتياً أو العكس، وبذلك يصبح الفيلسوف حراً في المجاهرة بآرائه ونتائجه في مجال الفلسفة بحجة أنه فيلسوف حتى لو كانت مخالفة للدين.

فرنسيس بيكون

ثم ظهر في بريطانيا فرنسيس بيكون 1561– 1626م كمدافع عن نظرية الحقيقة المزدوجة، وهي تعني عنده أن ما يثبت بالعقل لا علاقة للإيمان به، وبالنتيجة ساد الاعتقاد بأن الكتاب المقدس شيء، وكتاب الطبيعة شيء آخر.

ولم يكن الفلكي الإيطالي غاليليو 1564– 1642م بعيداً عن هذه النظرية، كما استمات الفيلسوف باروخ سبينوزا 1632- 1677م في الدفاع عنها متدثرا بغطاء دينه اليهودي.

وبالرغم من التناقض الظاهر في هذه النظرية، فقد أصبحت وسيلة للتمويه لدى الكثيرين حتى في العصر الحديث، وكان طه حسين من أوائل العرب الذين تبنوها عندما نشر كتابه “في الشعر الجاهلي”، حيث شكك في وجود بعض الأنبياء مع اعترافه في الوقت نفسه بأنه مقر بكل ما جاء في القرآن الكريم.

 

ثورة العقل الأوربي

بدأت ثقة الناس تتزعزع في الكنيسة عندما وجه الفيلسوف الإيطالي مكيافلي 1469– 1527م انتقادات فاضحة إلى رجالها الذين يحيون حياة الرذيلة في حين يدعون الناس إلى الزهد والتقشف، ثم تفاقمت نزعة التمرد على يد فريدريك نيتشه 1844– 1900م الفيلسوف الألماني اليهودي الذي نادى بالقضاء على الملايين من الضعفاء والفقراء لأنه يؤمن بالبطل وبالإنسان الأعلى الذي يجب أن يستعيض بالقوة عن الأخلاق، مستبطنا عقيدة الشعب اليهودي المختار.

مارتن لوثر

تزامنت المبادئ المكيافلية مع ثورة القس مارتن لوثر 1483– 1546م في ألمانيا عام 1518م داخل الكنيسة للإصلاح الديني، فقد جعل لوثر الفرد حراً في قراءة الكتاب المقدس وحراً في تفسيره، وألغى وساطة الكهنـة والأسرار المقدسة التي تحتفظ بها الكنيسة، وجعل الصلة مباشرة بين الله والإنسان الفرد، فتأسس على يديه مذهب البروتستانتية.

ورحبت الطبقة المتوسطة بالبروتستانتية لأنها رأت فيها منفذاً يتيح لها ممارسة الحياة بحرية، وأصبح الكثيرون لا يذكرون الدين إلا يوم الأحد وينهمكون بقية الأسبوع في الحياة الدنيوية.

في هذه المرحلة كان الفلكي كوبرنيكوس 1473– 1543م متردداً في طرح نظريته الجديدة لأنها تهدم نظام الفلك الأرسطي الذي تتبناه الكنيسة، فبدلاً من النظرة التي كانت تعتبر الأرض مهد المسيح وقلب الكون جعلت النظرة الجديدة الشمس مركزاً والأرض مجرد كوكب يدور حولها، فرفض زعيما البروتستانتية مارتن لوثر وكالفن 1509– 1564م هذه النظرية.

جيوردانو برونو

تبنى الإيطالي جيوردانو برونو 1548– 1600م نظرية الفلك الكوبرنيكي ووضع نظريته في “الكون اللامتناهي”، وقال إن الإله هو روح الكون، وإن الإله والطبيعة الجوهرية شيء واحد، وهذه فلسفة قديمة تسمى “وحدة الوجود” تؤمن بأن الإله يتحد مع الكون، فحكمت عليه الكنيسة بالإعدام حرقا، ويعتبره أتباع الجمعيات السرية اليوم (المتنورون أو الإلوميناتي) من رموزهم و”شهدائهم”.

ثم خرج جوليو سيزار فانيني 1585– 1619م بهرطقاته الإلحادية ونفى وجود الإله لكي لا ينسب إليه الشر، فقُبض عليه وأعدم حرقاً في مدينة تولوز بفرنسا. وفي أسكتلندا أنكر جون الأسكتلندي التثليث وألوهية المسيح، وقيل له ذات يوم ألا تذهب إلى الكنيسة؟ فقال ليذهب الإله إلى حبل المشنقة، فذهب هو إلى حبل المشنقة.

وقد قدّر سكرتير التفتيش في إسبانيا لورنتي عدد الضحايا الذين تم إحراقهم بحكم الكنيسة ما بين عامي 1790 و1792م بنحو ثلاثين ألف شخص، مما زاد من كراهية الناس للكنيسة وللأديان جميعا.

 

تمثال كوبرنيكوس

الحتمية الفلكية الميكانيكية

في النصف الثاني من القرن السادس عشر، بدأت نظرة الإنسان الغربي إلى الكون بالتغير مع شيوع نظرية كوبرنيكوس، فاعتنقها كبلر وغاليليو، ثم أيد الأخير الانفصال التام بين العلم والإيمان، وأنجز الإنجليزي إسحاق نيوتن انتصارات علمية كبيرة بتقديم قانون الجاذبية وقوانين الحركة.

وترافقت هذه النظريات مع اكتشافات علمية كبرى، فاكتشف ليفنهوك 1632– 1723م الكائنات العضوية أحادية الخلية والبكتيريا والحيوانات المنوية، واخُترع الميكروسكوب المركب والتلسكوب، كما اخترع غاليليو الترمومتر، وقدّم تلميذه تورشيلي البارومتر، ثم ظهرت مضخة الهواء والقوة المغنطيسية، وأعلن هارفي اكتشاف الدورة الدموية مع أن ابن النفيس كان قد سبقه إليها.

أدى كل ذلك إلى تغير نظرة الإنسان للكون، وسيطرت النظرة الآلية الميكانيكية على العلماء والفلاسفة حتى أصبح الكون يُشبّه بالساعة، وهكذا تحول الإله في نظر الفلاسفة والعلماء إلى ساعاتي رفيع المقام، بل تخيلوه إلها ساكنا غائبا عن العمل، لأن قوانين الطبيعة والكون أصبحت حتمية فلم يعد للإله دور حسب فهمهم، لكنهم أبقوا مع ذلك على دور الإله الخالق في تكوين الكون بالبداية.

وسيطرت هذه النظرة الآلية لمدة قرنين من الزمن على الفكر الأوربي وسميت بمبدأ الحتمية، وظل النزاع بين الحتمية واللاحتمية قائما حتى ظهرت فيزياء الكم ونظرية هايزنبرغ (اللايقين) في القرن العشرين، حيث سقط مبدأ الحتمية واستعاد الإنسان تواضعه، وأعيد الاعتبار للإيمان بالخالق المُسيّر والمدبر للكون [انظر مقال مصادر المعرفة].

التدرج نحو الإلحاد

يُعتبر فرنسيس بيكون من أبرز الفلاسفة الذين نادوا باعتماد المنهج التجريبي بدلا من المنهج النظري الفلسفي، علما بأنه أخذ معظم مبادئ المنهج من المسلمين في الأندلس ومن كتابات الحسن بن الهيثم. وكان يرى أن الحركة الطبيعية للذرة هي حقاً أقدم قوة في الوجود، وأنه لا يمكن أن تكون لهذه المادة الأولية وقوتها وفعلها أي علة طبيعية فما من شيء يسبق المادة نفسها وكأنها غير محتاجة للإله.

توماس هوبز

أما توماس هوبز 1588– 1679م فرأى أن جوهر الدين لا يقوم على الحقائق، وإنما على خوف الفرد من القوة المجهولة أو خوفه من الموت.

ثم جاء الإنجليزي جون لوك 1632– 1704م وقال إنه لم تبق حاجة للوحي طالما أن الإله أعطـانا وسائـل حسية أكثر يقينـاً لنتـوصل بهـا إلى المعرفة، أما ديفيد هيوم 1711– 1776م فتبنى نزعة الشك على طريقة بعض قدماء الإغريق، وكاد أن يوقع العقل الأوربي في دوامة رهيبة من الشك في كل شيء.

وإلى جانب التجريبيين كان هناك عدد من الفلاسفة العقلانيين، وعلى رأسهم الفرنسي رينيه ديكارت الذي استخدم الشك ليصل به إلى اليقين، ومع ذلك كان إيمانه قاصرا ويشبه إيمان أتباع النظرة الآلية كما يقول بعض الباحثين.

ثم جاء بعده ليبنتز 1646– 1716م وقال إن الوجود مكون من شيء خيالي اسمه “المونادات” وهي خالدة، ما يعني أن العالـم لانهـائي، لكنه كان يؤمن بوجود الخالق.

وتولد من الصراع بين الفلكيين والتجريبيين والعقلانيين ظهور “الدين الربوبي” أو “الدين الطبيعي”، ويسمى أتباعه بالربوبيين، وهم يؤمنون بالله عز وجل، ويرفضون النبوة والوحي والكنيسة. وازدهرت في القرن الثامن عشر بلندن “جمعية البحث الحر المخلص” التي كان معظم أعضائها من المؤمنين بالدين الطبيعي.

فولتير

وفي فرنسا كان دنيس ديدرو وفولتير وجان جاك روسو من أنصار هذه النزعة، مع إيمانهم بوجود إله. وظهر بعدهم الإنجليزي جون ستيوارت مل 1806– 1873م الذي شكك في وجود الإله، ثم انضم إليه الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس 1842– 1910م الذي اعترف مبدئياً بأن مصدر مذهبه في الألوهية ليس النظام في الكون والاتساق فيه، وإنما إحساس شخصي بالحاجة إلى إله.

وسار بهذه الأفكار فلاسفة آخرون مثل صمويل ألكسندر وماكس شيلر وبرايتمان وتشارلز هاتشورن وهنري برغسون وألفرد نورث هوايتهد، وكانت لدى بعضهم أفكار تنتقص من قدسية الإله.

وفي هذه الأجواء تمكن الألماني نيتشه من إعلان إلحاده والقول بأن الإله قد مات، حيث أراد بذلك إفساح الطريق أمام الإنسان ليصبح إلهاً، ثم لحق به فيورباخ 1804– 1872م، وأصبح الطريق سالكا لليهودي الألماني كارل ماركس 1818– 1883م ليرفض الألوهية من أساسها ولا يعترف إلا بالمادة.

حاول الألماني إمانويل كانط 1724– 1804م أن يتصدى للتيار المادي الإلحادي فواجه صعوبات جمة، إذ كان مذهبه نفسه محملا ببذور الشك واللاأدرية، لكنه قال إن الإيمان بالإله ضروري لأسباب أخلاقية بحتة، مُرجعا الدين إلى العاطفة المجردة.

العلمانية السياسية

كنتيجة لشيوع العلمانية (الدنيوية) في الحياة والفكر والعلم، وبدء التحول الاقتصادي نحو الرأسمالية، وتزايد أتباع المذهب البروتستانتي الجديد، أصبح الطريق ممهدا أمام فصل الدين عن السياسة أيضا، وساعد على ذلك تبني بعض الملوك والنبلاء للعقيدة البروتستانتية الجديدة التي سمحت لهم بالتمرد على الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان، حيث ظل بابا الفاتيكان لقرون الجهة الوحيدة التي تمنح الشرعية لملوك أوربا.

توقيع معاهدة وستفاليا

استُخدم مصطلح العلمانية “سكيولاريزم” secularism بالإنجليزية لأول مرة سنة 1648م عند توقيع صلح وستفاليا الذي يعد موعد ظهور الدولة القومية الحديثة، وكان معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة، مثل الإشارة إلى علمنة ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطة الدولة التي لا تخضع لسلطة الكنيسة.

تضمن صلح وستفاليا معاهدتي سلام لإنهاء حرب الثلاثين عاماً داخل الإمبراطورية الرومانية المقدسة (ألمانيا وجوارها اليوم) وحرب الثمانين عاماً بين إسبانيا ومملكة هولندا. ورفض ممثل البابا أن يوقع على الصلح لكن أوروبا تجاهلت هذا الاحتجاج ونجحت للمرة الأولى في الحد من سلطة الفاتيكان.

تخلت الكنيسة الكاثوليكية بموجب هذا الصلح عن قرار إعادة أملاك الكنيسة، وصار من حق الأمراء تقرير عقيدة رعاياهم، وتم الاعتراف رسمياً بكنيسة الإصلاح أو الكنيسة الكالفنية (بروتستانتية)، وتم الفصل تدريجيا بين الدين والدولة، حيث أصبحت السلطة قائمة على المصالح الدنيوية وليس على الشرعية الممنوحة من رجال الكهنوت، كما أصبحت الشعوب مرتبطة فيما بينها برابط الهوية القومية (العنصرية) وليس على الأخوة بين أتباع الدين الواحد.

تدريجيا أصبحت العلمانية هي المنهج الوحيد المتبع في أنظمة الحكم بالدول الغربية مع اختلافات طفيفة في التطبيق، ثم انتشرت العلمانية في معظم دول العالم، وترتبط العلمانية سياسيا بالديمقراطية من حيث المبدأ، مع أن الكثير من الأنظمة العلمانية تمارس أقصى درجات الاستبداد، وتعتبر الثورة الفرنسية (1789م) نقطة بدء التطبيق العملي للعلمانية السياسية.

أصبحت المقصلة رمزا للثورة الفرنسية لكثرة استخدامها في عمليات الإعدام لكل من كان يُعتبر عدوا للثورة والعلمانية

يعتمد نظام الحكم العلماني على إقصاء الدين عن السلطة، ويقابله النظام الثيوقراطي الذي تتربع على قمته طبقة الكهنوت، ويرى المفكرون الإسلاميون أن الحكم الإسلامي ليس ثيوقراطيا لعدم وجود مؤسسة دينية كهنوتية في الإسلام، فعلماء الشريعة يتلقون العلم ويقدمون اجتهاداتهم دون طبقية، والحاكم المسلم ينفذ قوانين الشريعة ويحمي “بيضة الإسلام” دون امتلاك حق (تفويض) إلهي ولا شرعية مطلقة، بل هو مطالب بالالتزام بالشرع كما يُلزم به بقية الشعب دون امتياز.

وتمثل مرحلة الخلافة الراشدة النموذج التطبيقي لهذه المبادئ، ومع أن المراحل التالية شهدت تراجعا كبيرا في التطبيق، لا سيما مع ظهور طوائف وفرق أخرى مثل الإسماعيلية التي أنشئت على أسسها الدولة الفاطمية وإمارات القرامطة والحشاشين، إلا أن الإسلام ظل عصيا على التحول إلى أيديولوجيا كهنوتية مؤسسية، لأن القرآن ظل محفوظا عن التحريف والتشويه، ولأن سنة النبي وخلفائه في الحكم الراشد لا يمكن طمسها، فكل مخالفة لمبدأ توحيد الله وحده ولتحرير البشر من تقديس الملوك والكهنة هي تجاوزات سياسي سلطوية تتعارض جوهريا مع عقيدة الإسلام وشريعته وليست محسوبة على الإسلام نفسه. [انظر كتاب الإسلام ليس أيديولوجيا، د.هاني نصري، دار الفكر].

أما الحكم الثيوقراطي المسيحي، الذي قامت على أنقاضه العلمانية، فكان يستند إلى فكرة مفادها أن البابا هو الممثل المعصوم للمسيح وأنه مؤيَّد بالروح القدس، لذا فهو يمثل سلطة الإله على الأرض ويحق له وحده منح الشرعية للملوك والأمراء كي يحكموا الشعوب.