الرواية الأدبيّة .. حاجة أم رفاهية وترف؟
يفتتح الطيب بو عزة كتابه ماهية الراوية بالقول: “إذا كان ثمة جنسٌ أدبي يبدأ في تكوين وعينا وتشكيل أسلوب إدراكنا لذواتنا وللوجود، منذ طفولتنا وبدء تفتّح قدراتنا الذهنيّة، فلا شك أنه الراوية، إذ منذ الصغر يسكننا ذلك العشق الغريب لفعل السرد، فنلحّ على من حولنا لكي يحكي لنا ويقصّ علينا ويسرد” [ماهية الرواية، الطيب بوعزة] وهذا الأمر ليس شيئًا هامشيًّا بل ثمة تعالقٌ صميميٌّ بين الراوية والحياة، ليس في حيوية شكلها، وحراك أساليب انتظامها فحسب، بل “أيضًا في اتصالها الوثيق بكينونة الإنسان في العالم” [ماهية الرواية]
الرواية الأدبية: جسر للمعرفة أم الفراغ؟
إذا أردنا البحث في بعض مجموعات التواصل الاجتماعي الأدبية، أو تلك التي تُنشر فيها نصوص ذات طابعٍ سرديٍّ، فإننا سنتساءل حتمًا: ما هي اهتمامات ووجهة قرائنا العرب في هذا الحقل وماذا سوف نجد؟
إن أغلب تلك الاهتمامات والنصوص، لا تحتوي على قيمة معرفيةٍ وفكريةٍ حقيقية، بمعنى خلوّها من الحسّ الاستشكالي -بعمومها- للأحداث الجارية، أو غياب المعالجات الفعليّة للمشاكل العالقة، سواء كانت اجتماعية، أو نفسية أو ثقافية.
ليس المقام هنا مقام مصادرة آراء، بل مقام تعبير عن أزمةٍ يعيشها الكثير من روّاد الأدب والكتابة الأدبية الإبداعية وقراء الأدب في عالمنا العربي، وهذه الأزمة تتلخّص باختزال الأدب في شكلٍ نحويٍ ولغويٍ ومدى قدرة الكاتب -إن صح إطلاق هذا اللقب عليه- على بناء النص نحويًّا وحشد العبارات العاطفية التي لا تضيف قيمة معرفيّة أو فكرية أو ثقافية للقارئ، إلى جانب الانحراف الواضح والتركيز على إقحام قضايا الجنس كركن أساسي في هذا النمط الأدبي، بل أصبح كل من كتب نصًّا سرديًّا يتسلّق على الأدب -ويلقّب نفسه أديبًا وكاتبًا- رغم أنه لا حق لأحد في مصادرة حقّ الناس عن البوح والكتابة والتعبير عما يجول في خواطرها بسردٍ أدبيّ، إذ قد يكون ذلك بداية ولادة الأديب حقًّا، إلا أنه لا بدّ من بيان واقع الأدب وما يدّعى أنه أدبٌ في فضاءات التواصل والكتابة العامّة.
إذًا، فهذا المقال محاولة للفصل بين هذا النمط من الكتابة الذاتية -التي قد يتطور صاحبها ويصبح أديبًا-، وبين حقلٍ معرفيٍ له قيمته الكبرى في التأثير لا يقل عن التأثير الذي تتصدره الكتابة الفلسفية المنطقية التجريدية كما يصرح الفيلسوف المغربي الطيب بو عزة.
حاول النّظر إلى النصوص التي أتحدث عنها أو الروايات، وعن تعليقات المعقبين عليها، أو اجلس مع هذا النوع من القراء، فإنك لن تجد سوى حفلاتٍ شكلانيّةٍ تمجيديّة للنصّ المكتوب وجماليته، وقد لا تجد موضوعًا معيَّنًا يتحدثون فيه أو فيما حملته الرواية، ويكاد ينعدم الحس النقدي الحقيقي عند هذه الفئة من الناس أو الحسّ التقيمي المعياري لما يخبره النص من رأي أو فكرة، أو حتى التساؤل ما هي قيمته الفكرية والإضافة التي قد يقدمها للقارئ!

الطيب بو عزة
الإنسان كائنًا روائيًّا
يصنف الأدب أو السرد على أنه نوع من أنواع الفن الذي يختص به الإنسان عن غيره من الكائنات، ويكون باغلب الأحيان حاملًا للثقافة والمعرفة ورؤية الإنسان عن الوجود، يجيب عن الأسئلة الإنسانية الكبرى، ويستنطق دلالات الوجود ومعانيه، ولعلّ سبب قربه من القرّاء وحبّنا له يكمن في فرادة تعاطيه مع الأسئلة الإشكالية، وأنه يقدم لنا وجهة نظر للأحداث اليومية بصبغة وجدانية، تعبر عن قدرة الإنسان على توليد المعاني، فـ “الرواية نمطٌ أدبي دائم التحول والتبدّل، يتسم بالقلق بحيث لا يستقر على حال” [روجر آلن، نقلاً عن ماهية الرواية]
يخبرنا الطيب بو عزة في كتابه “ماهية الرواية” أنه من الصعب في نمط الكتابة السّردية الأدبية تقعيد تعريفٍ دلاليٍ لحقل اشتغاله، لكنه في نفس الوقت ينبّه لفرادة السرد الروائي ومكمن قيمته؛ أي: قدرته على الإنصات إلى الكينونة والتعبير عنها، وبهذا يزعم البو عزة أن فنّ السرد التزم الدرس الظاهراتي -أو الفينومينولوجي- قبل ظهور هذا العلم -أي الفينومينولوجيا-، وعبّر عنه بأسلوبٍ أقدر من أسلوبها الفلسفي التجريدي.
فـ “إذا كان صحيحًا أن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الإنسان؛ فإنه يظهر بوضوح أن فنًا أوروبيّا كبيرًّا قد تكوّن مع ثربانتيس -مخترع شخصية دونكيشوت-، وما هذا الفن إلا سبر عميق لهذا الكائن المنسي” [ماهية الرواية- ميلان كونديرا” ومن هنا فإن قيمة السّرد الروائي تكمن في تعويض هذا النقص الجوهري في المنظومة الثقافية، وهكذا تتعدّد مداخل مقاربة الكينونة الإنسانية بفضل السّرد الروائي على نحوٍ يعلو على المقاربة الفلسفية التجريدية، فإذا كان اللوغوس أو المركز الفلسفي يحوّل هذه الكينونة إلى رموز ومفاهيم، فإنه في هذا التحويل قد يفقد هذه الكينونة أهمّ خصيصة فيها، وهي الحياة، أما الرواية فميزتها أنها تقارب الحياة بالحياة؛ فتعبر عن الكينونة مع الحفاظ على حيويتها ونبضها.
الرواية إبداعًا متكاملًا
ثمة إشكال في تعريف هذا الشكل الأدبي، إذ “للرواية قدرة على امتصاص كلّ اللغات، والانبناء على أي بنيةٍ من بنيات الواقع الاجتماعي أو النفسي، ولذا ينظر إليها بوصفها جنسًا أدبيًّا يستحيل تعريفه منطقيًّا وجماليًّا” [ماهية الرواية- نقلا عن جون كبريس]
ولصعوبة تقعيد التعريف لماهية الرواية يتحدث بوعزة متسائلًا: ألا يمكن انتهاج مقاربة أوليّة تمسك بهذا التعدّد من مداخل التصنيف مثلًا؛ فنحدّد (الرواية الاجتماعيّة) انطلاقًا من خصائصها ومميزاتها، كنمطٍ سردي يروم قراءة الواقع المجتمعي ووصفه، ونحدّد (الرواية النفسيّة) بوصفها سردًا لدواخل الشعور واعتمالات الوجدان، و(الرواية التاريخيّة) بكونها تحويلًا للحدث التاريخي إلى حبكةٍ قصصيّة، و(الرواية الفلسفية) كاستحضار للأسئلة والرؤى وتحويلها إلى مادة حياةٍ ملحوظة من خلال حراك السّرد؟
وبصراحة قد تحتوي الرواية كل العناصر السابقة مجتمعة لكن كلها نستطيع أن نلمح فيها حسًّا استشكاليًّا لواقع يحاول فهمه وتوصيفه وقد يروم إلى محاولة حلّه، وهكذا -كما يقول الطيب بوعزة- “أعترف بأنني تعلمت أحيانا كثيرة من الراوية مالم أتعلمه من كتب الفلسفة بل اكتشفت أن مقاربات النفس البشرية وإدراك تلافيف مشاعرها، وتعقّد تركيبها لا يحتاج فقط إلى تنظيرات فيلهلم فونت، وفينشر، وفرويد، ويونغ، بل ينبغي ايضًا الإنصات إلى السرد الراوئي، إلى دوستويفسكي، وصموئيل ريتشاردسون، وستندال، وبروست” [ماهية الرواية- الطيب بوعزة]
إن الرواية تمنحنا القدرة على إدراك بنية الاجتماع الإنساني وكيفيّة تراتب وتفاعل مكوناته، وهكذا فإننا نحتاج التعلم من ابن خلدون، ودوركهايم، وفيبر، وبورديو. إلى جانب قراءة نتاجات اليراع الروائي عند بالزاك، وتولستوي، ونجيب محفوظ، وماركيز، وغيرهم، و”لذا كثيرا ما أنصح طلبة الفلسفة وعلم النفس والسوسيولوجيا بالإكثار من قراءة النصوص الروائية مشيرًا إلى أن تكوينهم الفلسفي، واغتناء رؤيتهم إلى الوجود لن يتحققا ما لم يكونوا موصولين باستمرار بالمتن السردي” [ماهية الرواية- الطيب بوعزة]

إميل دوركايم
الأدب .. أن تحترم قارئك
وإذا علمنا أن مكونات الرواية قد تحتوي على نظرة قيمية ونظرة للكون والوجود والتاريخ والاجتماع وقد تصف الحب والذات والعقل والتجارب الشخصية والنفسية، فإن ما يجب أن يستذكره الكاتب والقارئ العربي هو احترام الأدب حقلًا معرفيًّا قبل الشروع بالكتابة فيه، وأن يكون الكاتب مسؤولًا عما يكتب، فيكون صاحب ضمير ورسالة، وأن يتواضع قبل الكتابة، ويستحضر أن هناك أشخاص سيقرؤون ما يكتب، وليسأل نفسه: ما قيمة كتابته الفكرية، وماذا ستضيف لقارئه وللساحة الثقافية؟
هذا الدرس نفسه يوجه للكثير من دور النشر المتأثرة بثقافة الاستهلاك والبيع والشراء، التي تتسارع لنشر الروايات فارغة المعنى وعديمة القيمة التي يكون تأثيرها السلبي على القراء أكبر من الإيجابي، وتزيد من المشاكل القابعة داخل سياقاتنا الاجتماعية والثقافية، واللوم أيضا يقع على بعض القراء الذين لم يتملّكوا معيارًا حقيقيًّا في انتقاء قراءاتهم والترويج لما يقرأون، والإشادة كذلك باستهلاك الكتب والروايات منعدمة القيمة التي يتراكض عليها القراء وتنفد من المكتبات، ولعلّ هذا الأمر هو الذي جعل آلان دونو في كتابه نظام التفاهة يقول إنه عندما يريد شراء الكتب يذهب إلى زوايا المكتبات، ويبحث عن الكتب التي لم يشترها أحد، والكاتب الذي لا يعرفه أحد، لأن ثقافة الاستهلاك هي المسيطرة، والإعلانات جعلت الكتب تتحول إلى سلعة للبيع والشراء فقط [نظام التفاهة، آلان دونو] وهذا إذا كان يعبر عن شيء، فإنه يعبر عن أزمة حقيقيّة في الأوساط الثقافية على مختلف مشاربها.
ولو تساءلنا: هل نستطيع تنزيل تعريف واحد من التعاريف السابقة على روايات الاستهلاك التي لا تحمل داخلها أي قيمة؛ فماذا سيكون جوابنا؟
هل الروايات -خاصة الاستهلاكي منها- التي يكون هدفها “المال والبيع والشراء” وتتراكض دور النشر على بيعها ونشرها والترويج لها، ويتلهف القراء لشرائها، هل تحمل هذه الروايات حقًا أيّ قيمةٍ معرفيةٍ أو نقديةٍ أو تشخيصية لواقع مأزوم أو مشكلة نفسية أو اجتماعية أو فلسفية؟ وماذا تعالج هذه الروايات من آفاتٍ أو مشكلاتٍ، وما هي إضافتها المعرفية للقراء وما هو الدرس المستفاد منها؟
وكذلك من الناحية البنيوية -الجمالية والنحوية-، قد لا نجد نصًّا بليغًا واحدًا، أو يحتوي على عناصر البلاغة المعروفة عند علماء البلاغة في تراثنا الإسلامي، رغم اشتهارنا في البلاغة وكوننا أمة لديها كتاب الله الذي لا تدانيه أي بلاغة في أي لغة من اللغات، وكذلك غياب الأدب القائم على النقد الجدلي المثير للعقل والشاحذ للأفكار.
خلاصة القول
إن غياب هكذا أنماط أدبية عن الساحة العربية الثقافية أو جنوح اهتمام القراء نحو الكتابات الاستهلاكية يعبر عن أزمة في الأوساط الثقافية، بما لا يتسق أساسًا مع مقتضى أول كلمة نزلت على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم [اقرأ]، بما تتضمنه من كثافة التفكر والتدبر في الفهم والبحث، ومركزية استخلافنا في الارض ومسؤوليتنا عليها، وتكرار أهمية العمل في الواقع والسعي لتغييره وفهمه وترك بصمة فيه، فهل نسعى لهذا الأمر حقًا؟
هل تساءلنا عن قيمة المتون التي نقرأها وعن فائدتها وكيف نستطيع توظيفها لتغيير واقعنا المتخلف؟ وهل عندما نشرع لكتابة منشور على صفحاتها أو نبدأ بكتابة أو قراءة نص أدبي كان أم فلسفي، نستحضر بداخلنا تلك المسؤولية العظيمة التي كلفنا الله بها؟.