مقالات

كم من حليمة؟

بنهاية شهر نوفمبر من عام 2020، ظهر منشور لعارضة الأزياء الأمريكية من أصل صومالي حليمة عدن- والتي اشتهرت بأنها عارضة أزياء عالمية محجبة- على حسابها بموقع إنستغرام تعلن فيه اعتزالها تلك المهنة لأنها تخالف قيمها الدينية وما تربّت عليه، وذكرت أن توقفها عن العمل بعد جائحة كورونا قد منحها وقتا للتفكير والمراجعة واتخاذ القرار، ونشرت معها بعض تفاصيل وخلفيات اتخاذها لهذا القرار.

 لله درك يا حليمة، أدمعتِ عيني وأثرتِ بالقلب شجونا…

نعم، أعادتني رحلتكِ إلى واقع مزر طمست حقيقته مظاهر تخلب العيون وتفقد الألباب صوابها، واقع عالم اليوم يأخذ بناتنا إلى عالم سحري، إلا أنه مسموم، عطري الرائحة لكنه موبوء، فدعينا نحدث بناتنا من خلالك أيتها العاقلة التي أبصرت النار قريبا فولَّيتِ قبل أن تحترقي وتصيري ذكرى بائسة..

لا ريب أن تصريحات حليمة وكلماتها حملت دروسا أحببت أن أتأملها وأهديها لبناتنا اللواتي تتشوق كثيرات منهنّ لتجربة الشهرة التي مرّت حليمة بها، ظنًّا أن فيها رفعة ومكانة ونجاح، فتتوق كثير من فتياتنا ونسائنا الملتزمات أو اللواتي نشأن في بيئة محافظة أن يجدن أنفسهن أو من يشبههن في ذلك الموقع الذي كانت فيه حليمة وفي أنماط أخرى لا يليق بالمرأة عموما والمسلمة خصوصا الوجود فيها كالتمثيل مثلا وعروض الأزياء والرياضات المشهورة وغيرها. لذلك كان حريا أن ننظر في كلمات واحدة ممن خضن هذه التجربة، لنرى ما وراء الصورة واللقطة المبهرة.

 الصدق مع النفس نجاة
يقول ربنا في كتابه العزيز {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14- 15]  لكن الإنسان كثيرا ما يُسقط تلك النفس في أغوار عميقة كثيفة الشباك، يخفيها عن وعيه، فلا يكاد يدرى عنها شيئا أو يلتف عليها هروبا أو مخادعة.

تذكر حليمة بداية أثر ذلك الوباء الذي اجتاح عالمنا في اتخاذ قرارها الصائب؛ جلوسها في البيت، وابتعادها عن دائرة التأثير والتأثر لفترة، فأجرت مع النفس حوارَ مصارحة أَثْمَرَ خيرًا، وفي هذا تنبيه ووقفة تستحق ألا نتغافل عنها.

إن النفس بطبيعتها خداعة، ومن اليسير عليها أن تجذبك إلى طريقها الموهوم بحيل شتى قد لا تفطن لها إذا لم تكن واعيا. لذلك يكون من الواجب ألا يركن الإنسان إليها مطمئنا ظانا أنه إنما يتحرى الحق ويسعى نحو الفلاح وقد يكون في الطريق المعاكس له، فأصعب أنواع الصدق هو الصدق مع النفس لأنه يتطلب نفسا سوية لا تخشى المواجهة ولا تتخذ التجاهل سبيلا، والطريق الأقصر إلى حياة مطمئنة راضية تنتهي بالفوز والرضوان لن يكون إلا بالتصالح مع تلك النفس السويّة والجلوس إليها، وفهم ما ترمى إليه وسؤالها الدائم عن وجهتها وعن سبيلها.

إذا كانت حليمة قد صدقت تلك المرة في مواجهتها للنفس وإدراك ما هي حقا عليه، فإن الاستمرار في تلك المراجعة ومتابعة الخطوات وسؤال النية والهدف من أعظم السبل التي ينبغي علينا سلوكها كي لا ننخدع بنفس مضطربة أو فكرة متزينة أو مبدأ ملتو لا يثبت مع الفقه والعلم.

 لا يأتي الموج دفعة واحدة
إننا قد ندوس بخطواتنا الشوك الكثيف ولا نتبيّنه بينما تتورم أقدامنا وتسيل على الأرض دماءنا حتى تتخدر وتأخذنا حيث تريد.

قالت حليمة: إن حجابها قبل اثني عشر عاما كان شرعيا.. نعم، كان ذلك ما ترضى عنه وتعرفه، وحين دخلت عالم الصورة والأثر، قبلوا بحجابها أول مرة، لا بأس لديهم إذا كانت ما تحته يوافق صورتهم..

في كل مرة كانت تختلف الصورة الأصلية وتهتز جوانبها، تنقص شيئا ما، لم يطلبوا نزع حجابها ولن يطلبوا، فهي أو غيرها من المحجبات في هذا الطريق هي من ستفعل..

إحدى منشورات حليمة على حسابها على إنستغرام

ستجد البون شاسعا، تكبلها تلك القطعة من الثياب، فهي لا تليق بها على بنطال تضيق حوافه وتلتصق بما يليها، أو قميص منتفش الأوداج ستتوقف إحداهنّ كثيرًا أمام ياقته التي لابد أن تظهر، ويختفي معها بقايا غطاء كان ينسحب في السابق على ما يلي الياقة بكثير..

لن يكون مناسبا يا صغيرتي أن يعلو الثوب الرقيق المنضبط بالتمام على كل جزء فيكِ، قطعة ضافية ساكنة بلا تغيير..ستتحول تدريجيا إلى لفافة أو عمامة تغطي الخصلات وتبقى النحر مكشوفا وتظهر ما يتزين به الأذن..

مررتِ بذلك كله يا حليمة فأدركتِ كم يصبر الزيف على زيفه حتى يستطيل ويظهر كحقيقة موثقة، أدركت كيف يأخذنا الهوى عبر درجاته المدروسة خطوة خطوة، لا يغمرنا الموج يا حليمة دفعة واحدة فنرى الغرق مؤكدا وندفع بكل قوتنا لننجو، بل موجة إثر موجة، رقيقة أولا ثم تعلو شيئا فشيئا حتى لا نكاد نشعر بها فلا نقاوم لأننا نظن أنها كسابقتها لطيفة تداعبنا ثم تترك، خفيفة لن تأخذ منا إلا القليل، وتمنحنا في المقابل دغدغة وانتعاشا يطول أمده حتى نستعذبه ونظنه الأصل الذي يجب أن يكون ويظل ولا يغادر أو نغادره.

الأضواء فتنة
ما الذي أوصل حليمة إلى ذلك التدرج الذي قصصنا خبره في الفقرة السابقة؟

إنها تلك الجمرة الناشبة في الأعماق وبين الضلوع، جمرة الشهرة أو الظهور على الملأ، والظمأ لأن ترى وتُعرف وتصير نموذجا يعرفك الناس بشيء، فيتطلعون لك ويغمرونك بثناء وربما بحب، باتباع أحيانًا وخصومة وعداء في بعض الأحيان، فتلك الآفة لا تخص شخصا بعينه، بل هي سحر يتخلل مشاعر المرء ويجرى في أعصابه، وهي فتنة لا يسلم منها إلا من عصمه الله.

 دخلت الباب صاحبتنا فتزحزحت عن موقعها وكادت ألا تسلم، وكيف تسلم وقد صارت صورتها على أغلفة مجلات الموضة وإن تلونت ببعض الطلاء الذي يُسكن يقظتها، ذلك اللون الإسلامي أو الملصق الذي نضعه أحيانا لنخرج من حشرجة الصدر إلى مساحة الغفلة الواسعة.

تطارد الشهرة بناتنا اليوم ما بين طاهية حاذقة وقائدة رحالة أو خبيرة جمال أو صانعة محتوى أيا كان لونه ومادته، وتنتظر على أبواب تلك الطرق جميعها ألغام ومنحدرات خطرة، والحق أن دخول هذا العالم يتطلب ضوابط خاصة ويحتاج نفوسًا سوية تعرف ما لها وما عليها فإن آنس أصحابها زورا أو وجدوا انحدارا في خطها الغائي المرسوم قبلا سحبوا أنفسهم ليزيلوا عنها آثار السقطات وليجدوا الطريق الأوضح والأزكى.

الصورة خادعة
كنت ترين صورتكِ فتعرفين وتنكرين، أما غيركِ فقد كان يرى وينبهر، أو يرى ويتمنى، أو يرى ويسكت، ويجد في نفسه نكتة، تلك التي تدفعه للاقتراب شيئا فشيئا من زيف الصورة.

فتياتنا اللواتي أرحمهن لأنهن يتطلعن فلا يجدن في مواطن النظر سوى ذلك التيار الهادر الذي يسحب من خلفه عيونهن المتطلعة وأمانيهن المتدفقة، ولكني كذلك أعتب عليهن إذ لم يتفقدن مواطن أخرى هادئة كسيل القطرات إذا تجمع والتقى، مواطن فيها النور لا الظلمة، والصحة لا الزيف، والصدق لا ما نرغم أنفسنا على تصديقه.

قد كنتِ يا حليمة في تلك الصورة، تلك التي ترى مثلها بناتنا فتقول: فاتني الكثير، لست إلى هذه ولا تلك.. معلقة أنا بين من تحرروا ومن توسطوا، تعوقني قطع من القماش الغليظ من الأعلى والأسفل.. وها قد جاءت رسالتك تضع لهن وسامًا وتقول لهن: قد فزتن إذ لم تغادرن المواقع الأولى.. فالتحرر في عالم اليوم يراد به التحرر عن الرقيّ والغاية والمبدأ، إنه تحرُّرٌ يجعلك عبداً، لا لصاحب الخلق والأمر، بل لشيء رخيصٍ في داخلك كان من الأجدر أن يكون لك تابعا، فإذا به يكبر ويتضخم حتى يصير حاكمًا على سيرك وتوجهك..

من منشورات حليمة على إنستغرام

إنه الهوى الذي ما إن تتحرر على طريقة أهله حتى يأخذك بمركبه إلى ساحلهم فتكاد أن تغرق إذا لم تستعد أنفاسك وتولي نفسك هاربا، أما التوسط الذي يطلبون فإنه وقوف على حافة طريقين مترددا، عيناك عند كل منعطف لاجئة، تكاد تقفز في كل لقطة خادعة ومع كل صورة زائفة، ثم تفيء حينا، ولا تكاد تجد نفسك إلا قليلا، فما أبشع الصورة التي لها ظاهر وباطن، باطن مقهور يئن من وجع الروح وألم البعد وظاهر مبتهج يواصل الصعود نحو المنى.

الرفقة حصن
ولقد وقفت أمام تلك الصورة الحقيقية التي لم يتم فيها خداع الروح أو تغطيتها.. صورة تلك الرفقة الآمنة التي تأخذ بيدكِ فإن فاتتها اليد أشارت إلى العلامات على الطريق، هنا خطر فتنبهي، هنا لغم فارجعي.. رفقتك يا حليمة كانت دليلاً لكِ عندما غابت لديك الرؤية.. فأي رفقة لمن يراك كي يرتدع فيعود عن الخطو نحو الوقوع؟

إن الرفقة الآمنة يا بنيتي هي تلك التي لا تتركك لهواك وإن خسرتكِ ظاهرا، تلك التي تذكرك من أين أنا وإلى أين.. تلك التي كانت لها معك وقفات وجلسات صالحة، تلك التي يجمعها رباط الإيمان والخوف عليه، تلك التي تبصر نهاية الطريق وتريد أن تجتازه معا. تلك الرفقة ستكون لكِ الحصن وقد كانت، ستكون لمن يريد بريد الرجوع، لكنها لتكون كذلك لابد أن تبني على ذلك، فيكون فيها ذكرُ الله حاضرا، والتواصي بالصبر والمرحمة والحق معلمًا، حتى إذا انفلّ واحد خارجها، ذكّروه فتذكر. أما الأخرى التي لم يجمعها إلا اللهو ولم تجلس مرة مجلس حق، فأنى تكون منها الذكرى..

ليس مثل الأم الصالحة
تركت ذلك العنوان إلى آخر الرسائل يا حليمة رغم أنه كان أولا في رسالتك ليكون الختام مسكا كما علمنا ربنا.. وأي مسك أطيب ريحاً من سيرة أمّ لا تمل من نصح بضعتها إذ تراها سلكت غير ما تحب. إنها تلك الأم التي وجهتها الله، وهي المرأة التي لا يصرفها جمال ابنتها واجتماع النظرات المعجبة على صورتها عن رفض ما لا يقبله إيمانها ودينها.

إنه امتحان ليس من السهل على كل أم في تلك الديار المتزينة اجتيازه، ذلك الحب لبضعة القلب، ذلك الإعجاب بها ولها، ذلك الخوف أن ينكر عليها أحد أو ينظر إليها شزرا، فتصمت عن فرض الله وتتناساه شيئا فشيئا صونًا لابنتها عن أي أذى نفسي أو جسديّ تتوقعه، وتنسى أن من أمر هو من يحفظ وهو الأعلم والأحكم.

كان ذلك الاختبار يسيرا أنهته الأم الصالحة مبكرا في مرحلتك الأولى عندما جعلت حجابك الساتر جزءا لا يتجزأ منكِ. لكن امتحانا آخر متقدما تعرضت له كانت فيه أشد صمودا حتى أثابها الله بعودتك سالمة نقية.

إنه امتحان الهوية القلقة، إثبات الذات بين قوم لا يقدرون، الاندماج المطلوب، إثبات التفوق، أصوات ترتفع وتصفق، رياضية مسلمة، سياسية عربية، عارضة محجبة، وألقاب أخرى جاذبة وخادعة.

إن الأم المتفوقة حقا لم تُخدع، لقد أبصرت نهاية الطريق وأخبرتكِ.. كانت تذكركِ بمن تكونين، وما يليق بك وما لا يليق.. وقد نفع الله بتذكرتها فعافاكِ من الغوص بعيدا في الاندماج البئيس، وعدت تذكرين فضلها وكرم الله لكِ بها. ألا فلتصابر كل أم، ولتتلمس كل فتاة أشعة الشمس من وراء كلمات الأمهات الصالحات.

تلك رسائل ألهمتنا بها عودة حليمة، عارضة الأزياء المسلمة الأمريكية، من طريق ظنته منتهى آمالها، فإذ به يخرج بها عن جادة الطريق فيلهها الأمل ويغري بها عن السبيل..

نسأل الله أن يثبتها، وأن تبقى على الطريق الذي آمنت بصحته فإن الاختبارات حتما قادمة، فليحفظ الله عليها إيمانها وصدقها، وكم لدينا من حليمات انطلقن ولم يعدن أو ما زلن يتأرجحن بين موج الزبد وبين نهر يتدفق بالخير لا يتوقف، فليتهن يقرأن ويأخذن القرار الأصوب.

هوليوود تسوّق للنسوية وتزوّر التاريخ.. مسلسل Mrs. America

في الخامس عشر من شهر أبريل الماضي أطلقت شبكةFX  أولى حلقات مسلسل  “Mrs. America” الذي يزْعَم أنه مبني على أحداث حقيقية، هذا المسلسل القصير المعروض في تسع حلقات، والمصنوع بأيدي يسارية واضحة المعالم يحكي قصة الصراع الذي دار في السبعينات في الولايات المتحدة الأمريكية بين الحركة النسوية، وبين التيار المحافظ حول قضيّة تحرّر المرأة المتمثّل بتعديل مساواة الحقوق الدستوري (Equal Rights Amendment).

كعادتها؛ فإن هوليوود لا تقدم لنا قصة مجردة بوقائعها التاريخية المسجلة، وإنما لا بد أن تضع لمساتها وإضافاتها الخاصة عليها لتحوّل الحدث إلى رسالة مؤدلجة فيها خيرٌ وشرٌ ومحاكاة للعواطف والغرائز، مما ينتج نهايةً موقفاً محدداً مسبقاً في ذهن المشاهد.

هذه المنظومة الإعلامية الضخمة المموّلة بملايين الدولارات لا تعنيها القيم ولا تهمها الحقائق، إنما تستخدم جلَّ أدواتها في إقناع المشاهد بأفكارها الشيطانية بأخبث الوسائل الممكنة. وحين كانت قصة العمل متعلقة بالنسوية والمحافظة، فلا شك أن هوليوود ستساند النسوية، وستحوِّل في سبيل ذلك أصحاب الموقف المخالف إلى وحوش ورموزٍ للشر أياً كانوا.

أحاول في هذا المقال إيرادَ أبرز أمثلةً على أدلجة المفاهيم وتزوير الحقائق وابتداع التاريخ في المسلسل المذكور ليتضح للقارئ أسلوب هوليوود وصُنَّاع الأفلام بشكل عام في إيصال رسائلهم المخفية عن طريق أعمال تبدو في ظاهرها ترفيهية مجردة.

صراع النسويين والمحافظين
يحكي الفلم قصة حقيقية دارت في سبعينات القرن الماضي حين اقترح ناشطون التعديل الدستوري القائل بالمساواة التامة بين الجنسين في الحقوق والواجبات القانونية، ومنع التمييز الجنسي في أي حق أو واجب في البلاد في إطار حركات تحرير المرأة وتقدمها[1].

بدا التعديل ذو العنوانٍ الجذاب “المساواة” بريئاً وبسيطاً لعامة الشعب، مما جعلهم يدعمونه أول الأمر، لكن عمل التيار المعارض للتعديل بقيادة فيليس شلافلي (التي تبناها اليمين المحافظ، أي: الحزب الجمهوري) كان محورياً في توضيح مآلات المساواة المجحفة ومناقضتها لقيم الأسرة والدين في المجتمع، مما أدى إلى رفض جزء كبير من الشعب للتعديل ومطالبة النواب بمنعه ومن ثم إلغائه تماماً عام 1982[2].

ولكون التعديل بفكرته وغايته يوافق هوى النسوية فقد حملت شعاره ودعت إليه النسويات آنذاك، وتبنّاه اليسار الليبرالي (أي الحزب الديمقراطي)، ورأوا فيه غاية التحرر والحضارة التي تلغي الفوارق بين الرجال والنساء، ومن أهم قادة التيار المشهورين في ذاك الوقت: بيتي فريدان وغلوريا ستاينم وبيلا أبزاغ[3].

فيليس شلافلي (الشخصية الرئيسية في المسلسل) قادت حركة معارضة تعديل المساواة لأنها -على حد تعبيرها- أرادت تنبيه النساء إلى حقيقة الفكر النسوي ومآلات شعاراته الرنانة[4]. فكانت شلافلي ناشطة رائدة في توضيح حقيقة مطالب النسويات اللواتي يردن مساواة المرأة بالرجل مقابل استغنائها عن ميزاتها المكفولة قانونياً كحقها في النفقة الكافية من زوجها، وامتناع التجنيد الإجباري عنها حال الحرب، وحقها في التأمين الاجتماعي من زوجها وغير ذلك الكثير مما خفي على عامة النساء[5].

فيليس شلافلي في الحراك السياسي الرافض لتعديل مساواة الحقوق (ERA) المصدر: https://www.nytimes.com/2016/09/12/us/phyllis-schlaflys-lasting-legacy-in-defeating-the-era.html

وقد حققت شلافلي في نشاطها نجاحاً كبيراً. فرغم أنها بدأت حراكها الرافض لتعديل المساواة في مراحل تمريره الأخيرة إلا أنها تمكنت من قلب موقف الشعب لصفها وإلغاء تعديل المساواة انتهاءً ووضع عراقيل أمامه مازالت قائمة حتى اليوم[6].

كانت قدرة شلافلي على كشف خفايا المساواة ومآلات الفكر التيار النسوي وآثار مساعيه على المرأة والعائلة والقيم الأمريكية مؤثرةً في جعل جزء كافٍ من المجتمع يرفض تعديل المساواة. ولأن حراك شلافلي المنطلق من الدين المسيحي والقيم التقليدية كان ناجحاً وعائقاً في وجه تقدم اليسار اللاديني فلا عجب أنهم كرهوها ورأوا فيها الشر المطلق. ويستشف ذلك –على سبيل المثال- من قول آن فريدان لها في أحد المناظرات: “أنت خائنة وعدوة لأبناء جنسك، كم أتمنى أن أربطك على عصاً وأحرقك” [أي: كالساحرات]![7].

ولما كان اليسار يزداد شعبيةً وتأثيراً اليوم، خصوصاً مع بُعد الجيل الجديد عن الدين وانفصاله عن تاريخه القديم والحديث، رأت هوليوود أن تنتج عملاً كاملاً يلمّع صورة النسويات ويشيطن عدوتهن ويعيد كتابة القصة على أنها تراجيديا تاريخية مؤلمة خسر فيها العدل وانتصرت فيها الساحرة الشريرة وأتباعها الجهّال!

تصوير المسلسل للواقع
شلافلي كانت شخصية غريبة بالنسبة للنسويات، فقد رفضت المساواة ودافعت عن حق المرأة بالأمومة والتربية ووصفت الإنجاب بالحاجة الغريزية التي تطلبها معظم النساء، وقالت مرة: “كثيرٌ من النساء يعملن خارج البيت وهن بحاجة للعمل، لكنني أرفض تماماً قول هؤلاء الليبراليات اللواتي يزدرين ربة البيت التي تريد لأمومتها أن تكون مهنتها الوحيدة، هؤلاء يسمين البيت بالسجن الأنيق بينما يصوّرن العمل خارجه على أنه الجنة، في حين أن كثير من النساء يعتبرن البيت أكثر مكان مرضٍ ومريح. أنا أعمل لحفظ حق المرأة في أن تكون الأمومة وظيفتها الدائمة إن شاءت، فأول شيءٍ سيفعله تعديل مساواة الحقوق هو إزالة واجب النفقة عن كاهل الزوج وتقسيمه بالتساوي بين الزوجين”[8].

لقاء تلفزيوني لفيليس شلافلي مع المقدم فيل دونيهيو، 1975 المصدر: Phyllis Schlafly Eagles https://www.youtube.com/watch?v=s13qZnKdLQ8&t=603s

كما أنها قدّمت صورة ثابتة للمرأة المحافظة الفخورة ببيتها ودينها والقوية في مناظراتها وتأثيرها على الجمهور. لكن المسلسل أظهرها بشكل مختلفٍ تماماً، حيث ظهرت كاذبة وجاهلة وحقودة، مخدوعة وخادعة لكل من حولها، إضافة لامتلاكها أجندات خفية لا علم لأحد بها وبأنها تعامل زوجها وأبناءها الستة بأسوأ الأساليب الجارحة، مع أن كل ذلك لا دليل عليه البتة، بل هو مخالفٌ لما يبدو لقارئ التاريخ الناظر في وثائقه.

في مشهدٍ صادم صنعه الكاتب من خلال دمج ثلاث مواقف حقيقية موثقة ليصور مناظرة شلافلي وزوجها ضد برندا فاستو وزوجها، واستخدم فيه حوارات حقيقية، لكن بقائلين مقلوبين وسياقات مختلفة[9].

ففي لقاء مشترك لفيليس وزوجها في برنامج صباحي، مرّت عبارات حكى فيها الزوجان تفاصيل من حياتهما في سياق المزاح، أخذها الكاتب ووضعها على لسان الزوج في قلب المناظرة الرسمية المحتدمة ليبدو أنه الزوج المحافظ يحرج زوجته أمام الجمهور[10]، بينما زوج النسوية المتحررة يقدّرها ويعاملها بحب واحترام. إضافة لذلك أخذ الكاتب حواراً لفيليس مع النسوية بيتي فريدان[11] تقدم فيه فريدان عدة دعاوى كاذبة، فتحرجها فيليس بمطالبتها بدليل عدة مرات على الهواء، بينما تتهرب فريدان دون جدوى (وهذا كله موثق ومتوفر على يوتيوب)، فأخذ الكاتب هذا الحوار نفسه ووضعه في مشهد مناظرة شلافلي وفاستو مع جعل شلافلي هي الطرف الذي يقدم الدعاوى الكاذبة ويحرج نهايةً من قبل خصمه المطالب بالدليل[12]!

إضافة للتزوير الجلي، فقد اخترعت هوليوود تفاصيل كثيرة زجّتها في قصة المسلسل، فأضافت أحداثًا مختلقة لحياة فيليس الخاصة لتبدو على خلاف مستمر مع زوجها، وترسم في ذهن المشاهد أنها منافقة لا تعيش القيم التي تدعو إليها، كما ابتدع الكاتب خلافاً بينها وبين ابنتها لتبدو عائلتها رافضةً لها، الأمر الذي كتبت عنه الابنة الحقيقية وطالبت إدارة المسلسل بالرجوع عنه دون جدوى. وزيادةً في استغفال المشاهد اخترع الكاتب شخصيةً لا وجود حقيقي لها أسموها أليس مكراي وقرروا أنها صديقة فيليس المقربة التي تبدأ داعمةً لها ثم تتحول تدريجياً لكرهها والحقد عليها حين تكتشف أكاذيبها. وبهذه الطريقة وجد الكاتب شخصاً افتراضياً يقول لفيليس ما يتمنى قوله لها لو كان حياً في ذاك الوقت.

رغم أنني هنا لا أدافع عن شخص فيليس شلافلي، إلا أنها كانت نصيرة للتيار الديني، وفي صراع مساواة الحقوق تصدّت بنجاح للنسويات وأظهرت كذبهنّ، ولذلك كانت عقوبتها أن حوّلتها هوليود إلى رمز البغض والكره الذي لا يذكرنا إلا بساحرات ديزني الشريرات.  وفي المقابل، صوّر المسلسل النسويات على أنهن مرحات، سعيدات صادقات ولطيفات، يتبعن قيماً وأهدافاً عظيمة يومنّ بها سواء في الحياة الخاصة أو على المسارح، حتى إن الواحدة من قادتهن لا تكاد تمشي خطوة في الطريق إلا وتوقفها حشود النساء الشاكرات لجهودها العظيمة في سبيل تحررهن[13].

تزوير بلا خجل!
العجيب أننا هنا نتحدث عن كذب وضاح وتزوير جلي وإساءة لأشخاص بذاتهم دون مداراة أو مواراة، مع أن معظم شخصيات العمل مازالت على قيد الحياة، كما أن القصة المروية لا تبعد أكثر من 50 سنة إلى الوراء، لكنّ هوليوود تعوّل على جهل الجيل الجديد وميل الشباب للفكر اليساري وانبهار الفتيات بشعارات النسوية، وكسل الجميع عن النظر في السجلات أو عبر محركات البحث عن التاريخ الصحيح، فأنتجت عملاً كاملاً لا يحمل من الواقع إلا الأسماء، محشوًّا بتسويق النسوية وتحويل كل من لا يوافقها إلى شرٍ محضٍ في جسد إنسان.

ولنا أن نسأل هنا:

لصالح مَن تعمل هذه المنظومة المموّلة بملايين الدولارات، ذات البوابات المضمونة إلى البيوت والعقول؟ مَن الذي يحدد الفكرة والقصة والمعتَقَد الذي تنتجه تلك الأعمال في المشاهدين؟ ولماذا نرى فيها كل يوم مزيداً من الانحلال والكذب في أطرٍ جذابة من الصور والمؤثرات المتقنة؟ ولماذا لا تصلنا أي قصة إلا مرفقةً بذم الدين وربط أي متديّن بالشر المطلق؟

إن هذا البعد الممنهج عن الدين لا يخدم بالفعل إلا غايات الشيطان الذي {لَعَنَهُ اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء:118]، والذي مازال يوسوس في بني آدم حتى يصيروا عباداً له من دون الله. وها هي الأجيال تنبذ تدريجياً أياً من بقايا الدين، وتتحوّل لترى في مجرد الانتماء إليه خزياً وعاراً ومعاداة للقيم الإنسانية التي استبدلتها به، وكل ذلك تحقيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ، اللهُ ” (رواه مسلم).

لا بدّ في ختام الحديث من التنبيه إلى أن هذا الحديث عن المسلسل لا يسوّغ لي أو للقراء متابعته أو تكثير مشاهداته، فهدفنا تزكية نفوسنا أولاً، ومن ثم تدريبها على نقد ما يقدّم عليها، لا فتح أبوابٍ جديدة عليها من الكذب والوهم. نسأل الله أن يؤتي نفوسنا تقواها وأن يزكيها هو خير من زكاها.


[1] The History of the Equal Rights Amendment. ERA: A History, API.

https://alicepaul.org/era/history/

[2] المصدر السابق

[3] Equal Rights Amendment Passed by Congress, History.

https://www.history.com/this-day-in-history/equal-rights-amendment-passed-by-congress

[4] The Life and Legacy of Phyllis Schlafly, Phyllis Schlafly Eagles.

https://www.phyllisschlafly.com/phyllis/

[5] The Equal Rights Amendment Explained, Alex Cohen and Wilfred U. Codrington III, Bennan Center For Justice, 2020.

https://www.brennancenter.org/our-work/research-reports/equal-rights-amendment-explained

[6] Phyllis Schlafly’s Lasting Legacy in Defeating the E.R.A., Clyde Haberman, The New York Times, 2016.

https://www.nytimes.com/2016/09/12/us/phyllis-schlaflys-lasting-legacy-in-defeating-the-era.html

[7] Phyllis Schlafly Biography (1924-2016), Biography, 2020.

https://www.biography.com/political-figure/phyllis-schlafly

[8] Phyllis Schlafly on the Equal Rights Amendment | Phil Donahue Show 1974, Phyllis Schlafly Eagles. 2019.

https://www.youtube.com/watch?v=EtcSFH1xubA&t=964s

[9] مناظرة شلافلي وفاستو في المسلسل: https://www.youtube.com/watch?v=KDOe_jovXTk

جزء من مناظرة شلافلي وفاستو الحقيقية: https://www.youtube.com/watch?v=KBt5tCGV1sI

[10] لقاء فيليس شلافلي وزوجها: https://www.youtube.com/watch?v=dd0E72ZU5oM&t=7s

 

[12] انظر الدقيقة 16 و17 من اللقاء المشترك لفيليس شلافلي وبيتي فريدان: https://www.youtube.com/watch?v=WncN6PWEMGo

والدقيقة 1:30 من مناظرة شلافلي وفاستو في المسلسل: https://www.youtube.com/watch?v=KDOe_jovXTk

[13] Mrs. America | Ep. 4: Betty and Gloria Highlight | FX

https://www.youtube.com/watch?v=6u2cBwrKACY

 

 

مسلسل المسيح.. هكذا احتفلت نتفليكس بالعام الجديد

أطلت علينا شبكة نتفليكس في أول أيام العام الميلادي الجديد بمسلسل “المسيح”. والذي تدور قصته حول شخص يظهر في دمشق مدعيًا أنه “المسيح”، فيقود جموعًا من السوريين-الفلسطينيين من مخيم اليرموك إلى الحدود “الإسرائيلية”، وتتجه إليه أنظار العالم، مع تخوفات أمريكية من أن يكون “البغدادي الجديد”.

وتستمر القصة بأن تلقي القوات “الإسرائيلية” القبض عليه حين حاول تجاوز الحدود، ورغم ذلك يظهر هذا “المسيح” بعدها عند قبة الصخرة متسببًا بانتفاضة فلسطينية جديدة، ثم يظهر في ولاية تكساس الأمريكية ومنها يتجه إلى العاصمة واشنطن، وسط ردّات فعلٍ متباينة محليًا وعالميًا، فمن يكون هذا الشخص وما هدفه وماذا يمثِّل؟

أول ما يلفت الانتباه في هذا المسلسل أنه ورغم أنه من إنتاجٍ أمريكي، إلا أنه عرض المسيح من منظور إسلامي، فمنذ بداية المسلسل يتم التعامل مع هذا الذي يدعي أنه المسيح على أنه عربي مسلم، وغالبا ما كانت تتم مناداته بـ”المسيح” (Al-Masseih) أي باللفظ العربي للكلمة، إلى أن يتم سؤاله عن دينه فيجيب أنه “يدعم البشر كلهم”. ومن هذا السؤال لننتقل ونرى نظرة المسلسل لمفهوم الدين:

أحد من كانوا ينتظرون رؤية المسيح

الدين في مسلسل “المسيح”
لم يقتصر أتباع هذا “المسيح” على أصحاب الديانات الإبراهيمية والتي تؤمن بعودة المخلص في آخر الزمان، بل شمل شتى الطوائف والجماعات كالبوذيين مثلًا، دلالة على أن شخصية “المسيح” هنا تمثل الدين عمومًا. والخطاب الذي تبناه هذا “المسيح” كان خطاب المساواة بين الأديان ووحدتها وكذلك وحدة البشر، فهم كلهم سواء أيًا كان معتقدهم وأيًا كانت تصرفاتهم، لا يحق لك أن تكفر أحدًا منهم أو أن “تبني افتراضات عن الله”. هذا الخطاب وإن بدا مغلفًا بالتسامح، ما هو إلا إلغاء لمفهوم الدين من أساسه، حيث يتساوى الموحد لله مع من يعتقد بأن لله ولد، مع من يقدس البقر!

ولم يكتفِ المسلسل بالحديث عن الديانات عمومًا، بل قدم تصوره عن كل دين من الديانات الإبراهيمية؛ فقدم الصورة الإعلامية المشوهة المعهودة عن المسلمين، حيث الغلظة في التعامل والتركيز على آيات الجهاد والتقليل من شأن المرأة ومنع قراءة أي كتاب غير القرآن واستخدام الأحزمة الناسفة، وغير ذلك من الصور النمطية المستهلكة.

كذلك صورة العائلة المتدينة المسيحية لم تخلُ من الإساءة، فعائلة القِس مفككة فيها الابنة مدمنة والزوجة غير مؤمنة، مع الإشارة إلى ظلم التعاليم المسيحية التي تحرّم الإجهاض وكيف كان من الممكن أن تدمر هذه التعاليم حياة الابنة. كما وتم الإشارة بشكل خاطف إلى المكاسب المادية التي يجنيها رجال الدين، وهذا من خلال الهدايا التي تلقاها القِس.

العائلة المتدينة الوحيدة التي عاشت بسعادة، كانت العائلة اليهودية، وكذلك من قادت التحقيق وأعملت عقلها واكتشفت هوية هذا “المسيح”، كانت أيضًا عميلة CIA يهودية. فماذا كانت هويته؟

من ادعى أنه المسيح كان مجرد لاعب خفة إيراني محترف مدعوم من روسيا لخلق تشويش ممنهج في المجتمع، وهناك اشتباه بأنه يعاني من أمراض نفسية وأوهام جعلته يظن نفسه المسيح. أي أن هذا “المسيح” كان مجرد خدعة، وحيث أن شخصيته تمثل مفهوم الدين ككل، فإن المسلسل يريد أن يقول بأن الدين كله مجرد خدعة. وما يؤكد هذا أن عميلة الـ CIA اليهودية قالت إن السيد المسيح عيسى (عليه السلام) “كان أيضًا مجرد سياسي شعبوي يضمر الضغينة للإمبراطورية الرومانية ويقوم بخدع رخيصة لجذب الجمهور”، وهذا ما وُصِف بأنه “كلام شخص يهودي حقيقي”، وهنا تكذيب صريح للدين المسيحي وإشارة إلى أن اليهود لم تنطلِ عليهم الخدعة كغيرهم.

ينتهي الأمر بالقس بأن يحرق الكنيسة وقد كُتِب عليها “إلهٌ زائف”

وبالعودة إلى الخدع وألعاب الخفة، تقول إحدى شخصيات المسلسل أن أفضل لاعب خفة ليس من يخدعك فحسب، بل من يجعلك تشارك في الخدعة، وعلى وقع هذه الكلمات يعرض المسلسل مصير “من انطلت عليهم الخدعة”، كضحايا تفجيرات المساجد، وطفلة مصابة بالسرطان كانت أمها قد أخذتها إلى “المسيح” ليشفيها، فينتهي بها الحال جثة في حضن أمها لأنها تخلفت عن العلاج الكيماوي، وفتاة أخرى كادت تموت لأنها استمعت لكلام المسيح وألقت كلمة أمام الجمهور رغم إصابتها بالصرع.

هذا ولم ينتقد المسلسل المتدينين من عوام المجتمع فحسب، بل أنه انتقد المتدينين من القضاة والسياسيين ورجال الحكم. فبقاء المسيح المزيف داخل الولايات المتحدة واستكماله لخطته التخريبية كان بقرارٍ من قاضٍ يعاني من مرض عضال، فكيف به في آخر أيامه أن يرحِّل المسيح، ويكون مثل هيرودس الأول. وفي المسلسل كذلك، كان رئيس الولايات المتحدة متدينًا وكاد أن يمتثل لطلب المسيح المزيف ويسحب القوات الأمريكية المنتشرة في دول العالم رغم ما قد يؤديه ذلك من توسع روسي.

وبالحديث عن رئيس الدولة والسياسات الخارجية، فإنه من المثير أن المسلسل أقر أكثر من مرة -وعلى لسان شخصيات تمثل الحكومة- بأن الولايات المتحدة ترعى مصالح “إسرائيل”، وهذا ينقلنا إلى الجانب السياسي من المسلسل:

“الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي”
في بدايات المسلسل، يتم إطلاق النار على طفلٍ في الحرم القدسي، فيتساءل المشاهد: هل أتى أخيرًا المسلسل الذي سيعرض الحقيقة بلا تشويه؟! لتأتيك الإجابة سريعًا بأن من في الحرم القدسي هم “سيّاح مسلمون”، وأن إطلاق النار -الذي أشعل انتفاضة جديدة- لم يكن سوى خدعة، قام بها ذاك المسيح المزيف.

أما تلك العائلة اليهودية السعيدة -آنفة الذكر-، فكانت عائلة “إسرائيلية” يملؤها الحب، إلى أن تسببت سيارة مفخخة بموت الأم وابنها الصغير، أما الابن الأكبر الذي تشوه جسده فقد كبر وأصبح محققًا في الجيش “الإسرائيلي”، وكانت خطيئته الكبرى التي يندم عليها أشد الندم أنه قتل طفلًا فلسطينيًا، رغم أن هذا الطفل هو ابن الشخص المسؤول عن تفجير السيارة التي أودت بحياة أمه وأخيه الصغير. وقد كان هذا الطفل يعمل في مخبزٍ يصنع المتفجرات بدل الخبز، وبهذه الصورة فلا ضير لو تم قصف الأماكن المدنية والحيوية في فلسطين.

أما من يدافعون عن حق الشعب الفلسطيني بأن يتم الاعتراف به فحسب، فهؤلاء أعداءٌ للسلام ويُرَد عليهم بنفس “الخطاب المتسامح” بأن جميع الناس هم شعب واحد.

ما بين السطور
يمكن اكتشاف العديد من الرمزيات والرسائل المبطنة في المسلسل سواء في العبارات التي تقولها الشخصيات أو عناوين الحلقات أو تسلسل المَشاهد؛ رسائل ورمزيات تتعلق باصطفاء الرسل وتيه بني إسرائيل والأوبئة التي ضربت مصر -المذكورة في سفر الخروج- وغير ذلك الكثير، وسنكتفي هنا بذكر بعض هذه الرسائل:

◘ في المشهد الختامي للمسلسل، تسقط الطائرة التي تُقل المسيح المزيف، في حقلٍ من الزهور، ويأتي ولدٌ عربي يرعى الغنم معروفٌ بكذبه ليخبر اثنين ممن كانوا على متن الطائرة بأنهما كانا أمواتًا وأن هذا الشخص -أي المسيح المزيف- أحياهم، وهنا تأكيدٌ على رسالة المسلسل بأن الدين محض كذب، كما قد يرمز حقل الزهور إلى الجنة، فيكون في المشهد إنكارٌ للحياة الآخرة، وكذلك قد يرمز الولد إلى النبي محمد ﷺ، في تكذيبٍ لرسالة الإسلام.

◘ إحدى الشخصيات الثانوية في المسلسل، شاب جامعي أمريكي اعتاد أن يدرس في المكتبة بانتظام، يشاهد هذا الشاب ما حل من فوضى وما يعانيه شباب الجامعة من ضياع “بعد عودة المسيح”، فيقرأ النسخة الإنجليزية من القرآن، وعندما يلتقي صدفةً بالمسيح المزيف، ينعته بـ “المسيح الدجال” [باللغة العربية]. بعد ذلك، هذا الشاب الجامعي المجتهد يحرق أوراقه الجامعية وكتبه -ومنها كتاب صدام الحضارات-، أي أن خرافة المسيح الدجال عند المسلمين هي ما دعت هذا الطالب الجامعي -غير المسلم- إلى إحراق كتبه بدل محاولة اكتشاف الخدعة. وفي النهاية لم يعد الشاب الجامعي يذهب إلى المكتبة، مع التركيز على اقتباس مكتوب في المكتبة يُنسب لأوبرا: “أنت تصبح ما تؤمن به” بمعنى أن ما آمن به الشاب الجامعي قاده إلى ترك المكتبة.

◘ أحد المحققين الأمريكيين كان كاثوليكي شاذ، وبعد أن يستمع لكلام المسيح حول ضرورة الصدق مع النفس، وأن الرب يحبك كيفما كنت؛ يصدق المحقق الأمريكي الشاذ المسيح، ويتصل بـ “حبيبه” القديم ليخبره بأنه سئم من الكذب على نفسه؛ في دعوة إلى التعبير عن الذات وإشارة لما يعانيه الشواذ من ضغوطات كما هو معهود من شبكة نتفليكس.

◘ خلال خطاب المسيح المزيف في واشنطن عن ضرورة تجرد الناس وتحليهم بالشجاعة ليكتشفوا ذواتهم ورؤية حقيقتهم ومن ثم سيره على الماء بعد ذلك؛ تخيلَ أحد السوريين-الفلسطينيين أن هذا “المسيح” يساعده على النهوض، فينهض ويتجرد من ملابسه ويسير عاريًا باتجاه الحدود “الإسرائيلية” فيُسمح له بالدخول. وهنا تم الربط بين التجرد المجازي والتعري الفعلي. ويظهر هذا بشكل أوضح حينما يخبر المسيح المزيف أحد الشخصيات بأن تتجرد من أعبائها وما يٌشعرها بالخزي، فتظهر الشخصية بعدها وهي تسبح، قبل أن تذهب وتبوح بسرٍ كانت تخفيه وتخجل منه. وهذا ينسجم مع أحد رسائل المسلسل بأن تعبّر عن ذاتك وتفعل ما تشاء، فالله يحبك كيفما كنت.

◘ بما أن المسيح المزيف كان جزءًا من مخطط تخريبي لخلق التشويش الممنهج في المجتمع، فالمسلسل يدافع ضمنيًا عن كل القضايا التي انتقدها المسيح المزيف في المجتمع الأمريكي، كالانتشار العسكري الأمريكي حول العالم، وكذلك تقديس المال وتقديس المرأة لعملها.

◘ أشد أتباع المسيح المزيف ولاءً له وأكثر من انطلت عليه خدعة “المسيح” كان شخصًا سمع المسيح يقول آية قرآنية، فتذكر والدته التي كانت تقول له نفس الآية وهو صغير. وأما المسلم المتشدد الذي لف حزامًا ناسفًا حول شابٍ صغير وقام بتفجير مسجد، فكان مدرسًا في مدرسة. وهنا يرسم المسلسل صورة مشوهة عن التربية الدينية -الإسلامية على وجه التحديد-.

الخلاصة
سأقتبس من المسلسل ما قالته إحدى الشخصيات حول كتاب صدام الحضارات لصامويل هنتنغتون: “عليك أن تتذكر فقط أنه كان على حق، تنبأ “هنتنجتون” بأن المحور الأساسي للصراع العالمي بعد الحرب الباردة سيكون صراعًا على الحدود الثقافية والدينية، وهذا ما يحدث بالضبط في سياسة العالم حاليًا”.

هذا ما تدركه شبكة نتفليكس جيدًا، وإن بدا أنها تتعمد إثارة الجدل كأسلوبٍ رخيص للشهرة والانتشار، إلا أن الانتشار قد لا يكون كل شيء. فهذه الأساليب الرخيصة تضع حدود ما يمكن بثه في الإعلام “الترفيهي” ككل، وبالتالي التطبيع مع كل ما قد يسيء للدين، ويمس المعتقدات والقيم.

ولم يكن مسلسل “المسيح” هو بداية الاحتفال بالأعياد عند نتفليكس هذه السنة، حيث عرضت قبله بفترة وجيزة فيلمًا “كوميديًا” قصيرًا من إنتاجها، فيه المسيح شاذ جنسيًا، ومريم العذراء تدخن الحشيش، وفيه ما لا يمكن ذكره من تجسيد وإساءة للذات الإلهية. والأمر لم يقتصر على رموز الديانة المسيحية، بل تعداه ليشمل استهزاءً صريحًا بالإله ليس فقط في الديانات الكبرى كالإسلام والهندوسية والبوذية، بل شمل ديانات كالراستافارية وغيرها.

فيلم كهذا لن يكون كوميديًا سوى لملحدين؛ فقد تم تجاوز مرحلة تشويه الإسلام (الإسلاموفوبيا) إلى تشويه مفهوم الدين ككل؛ يبدو أن الصراع بين الإنسان من جهة والشيطان وأعوانه من جهة أخرى، بات أوضح من أي وقتٍ مضى.

هذا أمر مرعب، فهو تهديد لنجاح الإنسان في الاختبار الذي خُلِق لأجله. وبالمقابل ما زال همنا الأول هو “الترفيه”، لاهثين وراء المزيد من الاستهلاك والاستعراض، غارقين في التفاهات والسخافات، فاقدين للبوصلة، زاهدين في الآخرة غافلين عنها.