كم من حليمة؟
بنهاية شهر نوفمبر من عام 2020، ظهر منشور لعارضة الأزياء الأمريكية من أصل صومالي حليمة عدن- والتي اشتهرت بأنها عارضة أزياء عالمية محجبة- على حسابها بموقع إنستغرام تعلن فيه اعتزالها تلك المهنة لأنها تخالف قيمها الدينية وما تربّت عليه، وذكرت أن توقفها عن العمل بعد جائحة كورونا قد منحها وقتا للتفكير والمراجعة واتخاذ القرار، ونشرت معها بعض تفاصيل وخلفيات اتخاذها لهذا القرار.
لله درك يا حليمة، أدمعتِ عيني وأثرتِ بالقلب شجونا…
نعم، أعادتني رحلتكِ إلى واقع مزر طمست حقيقته مظاهر تخلب العيون وتفقد الألباب صوابها، واقع عالم اليوم يأخذ بناتنا إلى عالم سحري، إلا أنه مسموم، عطري الرائحة لكنه موبوء، فدعينا نحدث بناتنا من خلالك أيتها العاقلة التي أبصرت النار قريبا فولَّيتِ قبل أن تحترقي وتصيري ذكرى بائسة..
لا ريب أن تصريحات حليمة وكلماتها حملت دروسا أحببت أن أتأملها وأهديها لبناتنا اللواتي تتشوق كثيرات منهنّ لتجربة الشهرة التي مرّت حليمة بها، ظنًّا أن فيها رفعة ومكانة ونجاح، فتتوق كثير من فتياتنا ونسائنا الملتزمات أو اللواتي نشأن في بيئة محافظة أن يجدن أنفسهن أو من يشبههن في ذلك الموقع الذي كانت فيه حليمة وفي أنماط أخرى لا يليق بالمرأة عموما والمسلمة خصوصا الوجود فيها كالتمثيل مثلا وعروض الأزياء والرياضات المشهورة وغيرها. لذلك كان حريا أن ننظر في كلمات واحدة ممن خضن هذه التجربة، لنرى ما وراء الصورة واللقطة المبهرة.
الصدق مع النفس نجاة
يقول ربنا في كتابه العزيز {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14- 15] لكن الإنسان كثيرا ما يُسقط تلك النفس في أغوار عميقة كثيفة الشباك، يخفيها عن وعيه، فلا يكاد يدرى عنها شيئا أو يلتف عليها هروبا أو مخادعة.
تذكر حليمة بداية أثر ذلك الوباء الذي اجتاح عالمنا في اتخاذ قرارها الصائب؛ جلوسها في البيت، وابتعادها عن دائرة التأثير والتأثر لفترة، فأجرت مع النفس حوارَ مصارحة أَثْمَرَ خيرًا، وفي هذا تنبيه ووقفة تستحق ألا نتغافل عنها.
إن النفس بطبيعتها خداعة، ومن اليسير عليها أن تجذبك إلى طريقها الموهوم بحيل شتى قد لا تفطن لها إذا لم تكن واعيا. لذلك يكون من الواجب ألا يركن الإنسان إليها مطمئنا ظانا أنه إنما يتحرى الحق ويسعى نحو الفلاح وقد يكون في الطريق المعاكس له، فأصعب أنواع الصدق هو الصدق مع النفس لأنه يتطلب نفسا سوية لا تخشى المواجهة ولا تتخذ التجاهل سبيلا، والطريق الأقصر إلى حياة مطمئنة راضية تنتهي بالفوز والرضوان لن يكون إلا بالتصالح مع تلك النفس السويّة والجلوس إليها، وفهم ما ترمى إليه وسؤالها الدائم عن وجهتها وعن سبيلها.
إذا كانت حليمة قد صدقت تلك المرة في مواجهتها للنفس وإدراك ما هي حقا عليه، فإن الاستمرار في تلك المراجعة ومتابعة الخطوات وسؤال النية والهدف من أعظم السبل التي ينبغي علينا سلوكها كي لا ننخدع بنفس مضطربة أو فكرة متزينة أو مبدأ ملتو لا يثبت مع الفقه والعلم.
لا يأتي الموج دفعة واحدة
إننا قد ندوس بخطواتنا الشوك الكثيف ولا نتبيّنه بينما تتورم أقدامنا وتسيل على الأرض دماءنا حتى تتخدر وتأخذنا حيث تريد.
قالت حليمة: إن حجابها قبل اثني عشر عاما كان شرعيا.. نعم، كان ذلك ما ترضى عنه وتعرفه، وحين دخلت عالم الصورة والأثر، قبلوا بحجابها أول مرة، لا بأس لديهم إذا كانت ما تحته يوافق صورتهم..
في كل مرة كانت تختلف الصورة الأصلية وتهتز جوانبها، تنقص شيئا ما، لم يطلبوا نزع حجابها ولن يطلبوا، فهي أو غيرها من المحجبات في هذا الطريق هي من ستفعل..
ستجد البون شاسعا، تكبلها تلك القطعة من الثياب، فهي لا تليق بها على بنطال تضيق حوافه وتلتصق بما يليها، أو قميص منتفش الأوداج ستتوقف إحداهنّ كثيرًا أمام ياقته التي لابد أن تظهر، ويختفي معها بقايا غطاء كان ينسحب في السابق على ما يلي الياقة بكثير..
لن يكون مناسبا يا صغيرتي أن يعلو الثوب الرقيق المنضبط بالتمام على كل جزء فيكِ، قطعة ضافية ساكنة بلا تغيير..ستتحول تدريجيا إلى لفافة أو عمامة تغطي الخصلات وتبقى النحر مكشوفا وتظهر ما يتزين به الأذن..
مررتِ بذلك كله يا حليمة فأدركتِ كم يصبر الزيف على زيفه حتى يستطيل ويظهر كحقيقة موثقة، أدركت كيف يأخذنا الهوى عبر درجاته المدروسة خطوة خطوة، لا يغمرنا الموج يا حليمة دفعة واحدة فنرى الغرق مؤكدا وندفع بكل قوتنا لننجو، بل موجة إثر موجة، رقيقة أولا ثم تعلو شيئا فشيئا حتى لا نكاد نشعر بها فلا نقاوم لأننا نظن أنها كسابقتها لطيفة تداعبنا ثم تترك، خفيفة لن تأخذ منا إلا القليل، وتمنحنا في المقابل دغدغة وانتعاشا يطول أمده حتى نستعذبه ونظنه الأصل الذي يجب أن يكون ويظل ولا يغادر أو نغادره.
الأضواء فتنة
ما الذي أوصل حليمة إلى ذلك التدرج الذي قصصنا خبره في الفقرة السابقة؟
إنها تلك الجمرة الناشبة في الأعماق وبين الضلوع، جمرة الشهرة أو الظهور على الملأ، والظمأ لأن ترى وتُعرف وتصير نموذجا يعرفك الناس بشيء، فيتطلعون لك ويغمرونك بثناء وربما بحب، باتباع أحيانًا وخصومة وعداء في بعض الأحيان، فتلك الآفة لا تخص شخصا بعينه، بل هي سحر يتخلل مشاعر المرء ويجرى في أعصابه، وهي فتنة لا يسلم منها إلا من عصمه الله.
دخلت الباب صاحبتنا فتزحزحت عن موقعها وكادت ألا تسلم، وكيف تسلم وقد صارت صورتها على أغلفة مجلات الموضة وإن تلونت ببعض الطلاء الذي يُسكن يقظتها، ذلك اللون الإسلامي أو الملصق الذي نضعه أحيانا لنخرج من حشرجة الصدر إلى مساحة الغفلة الواسعة.
تطارد الشهرة بناتنا اليوم ما بين طاهية حاذقة وقائدة رحالة أو خبيرة جمال أو صانعة محتوى أيا كان لونه ومادته، وتنتظر على أبواب تلك الطرق جميعها ألغام ومنحدرات خطرة، والحق أن دخول هذا العالم يتطلب ضوابط خاصة ويحتاج نفوسًا سوية تعرف ما لها وما عليها فإن آنس أصحابها زورا أو وجدوا انحدارا في خطها الغائي المرسوم قبلا سحبوا أنفسهم ليزيلوا عنها آثار السقطات وليجدوا الطريق الأوضح والأزكى.
الصورة خادعة
كنت ترين صورتكِ فتعرفين وتنكرين، أما غيركِ فقد كان يرى وينبهر، أو يرى ويتمنى، أو يرى ويسكت، ويجد في نفسه نكتة، تلك التي تدفعه للاقتراب شيئا فشيئا من زيف الصورة.
فتياتنا اللواتي أرحمهن لأنهن يتطلعن فلا يجدن في مواطن النظر سوى ذلك التيار الهادر الذي يسحب من خلفه عيونهن المتطلعة وأمانيهن المتدفقة، ولكني كذلك أعتب عليهن إذ لم يتفقدن مواطن أخرى هادئة كسيل القطرات إذا تجمع والتقى، مواطن فيها النور لا الظلمة، والصحة لا الزيف، والصدق لا ما نرغم أنفسنا على تصديقه.
قد كنتِ يا حليمة في تلك الصورة، تلك التي ترى مثلها بناتنا فتقول: فاتني الكثير، لست إلى هذه ولا تلك.. معلقة أنا بين من تحرروا ومن توسطوا، تعوقني قطع من القماش الغليظ من الأعلى والأسفل.. وها قد جاءت رسالتك تضع لهن وسامًا وتقول لهن: قد فزتن إذ لم تغادرن المواقع الأولى.. فالتحرر في عالم اليوم يراد به التحرر عن الرقيّ والغاية والمبدأ، إنه تحرُّرٌ يجعلك عبداً، لا لصاحب الخلق والأمر، بل لشيء رخيصٍ في داخلك كان من الأجدر أن يكون لك تابعا، فإذا به يكبر ويتضخم حتى يصير حاكمًا على سيرك وتوجهك..
إنه الهوى الذي ما إن تتحرر على طريقة أهله حتى يأخذك بمركبه إلى ساحلهم فتكاد أن تغرق إذا لم تستعد أنفاسك وتولي نفسك هاربا، أما التوسط الذي يطلبون فإنه وقوف على حافة طريقين مترددا، عيناك عند كل منعطف لاجئة، تكاد تقفز في كل لقطة خادعة ومع كل صورة زائفة، ثم تفيء حينا، ولا تكاد تجد نفسك إلا قليلا، فما أبشع الصورة التي لها ظاهر وباطن، باطن مقهور يئن من وجع الروح وألم البعد وظاهر مبتهج يواصل الصعود نحو المنى.
الرفقة حصن
ولقد وقفت أمام تلك الصورة الحقيقية التي لم يتم فيها خداع الروح أو تغطيتها.. صورة تلك الرفقة الآمنة التي تأخذ بيدكِ فإن فاتتها اليد أشارت إلى العلامات على الطريق، هنا خطر فتنبهي، هنا لغم فارجعي.. رفقتك يا حليمة كانت دليلاً لكِ عندما غابت لديك الرؤية.. فأي رفقة لمن يراك كي يرتدع فيعود عن الخطو نحو الوقوع؟
إن الرفقة الآمنة يا بنيتي هي تلك التي لا تتركك لهواك وإن خسرتكِ ظاهرا، تلك التي تذكرك من أين أنا وإلى أين.. تلك التي كانت لها معك وقفات وجلسات صالحة، تلك التي يجمعها رباط الإيمان والخوف عليه، تلك التي تبصر نهاية الطريق وتريد أن تجتازه معا. تلك الرفقة ستكون لكِ الحصن وقد كانت، ستكون لمن يريد بريد الرجوع، لكنها لتكون كذلك لابد أن تبني على ذلك، فيكون فيها ذكرُ الله حاضرا، والتواصي بالصبر والمرحمة والحق معلمًا، حتى إذا انفلّ واحد خارجها، ذكّروه فتذكر. أما الأخرى التي لم يجمعها إلا اللهو ولم تجلس مرة مجلس حق، فأنى تكون منها الذكرى..
ليس مثل الأم الصالحة
تركت ذلك العنوان إلى آخر الرسائل يا حليمة رغم أنه كان أولا في رسالتك ليكون الختام مسكا كما علمنا ربنا.. وأي مسك أطيب ريحاً من سيرة أمّ لا تمل من نصح بضعتها إذ تراها سلكت غير ما تحب. إنها تلك الأم التي وجهتها الله، وهي المرأة التي لا يصرفها جمال ابنتها واجتماع النظرات المعجبة على صورتها عن رفض ما لا يقبله إيمانها ودينها.
إنه امتحان ليس من السهل على كل أم في تلك الديار المتزينة اجتيازه، ذلك الحب لبضعة القلب، ذلك الإعجاب بها ولها، ذلك الخوف أن ينكر عليها أحد أو ينظر إليها شزرا، فتصمت عن فرض الله وتتناساه شيئا فشيئا صونًا لابنتها عن أي أذى نفسي أو جسديّ تتوقعه، وتنسى أن من أمر هو من يحفظ وهو الأعلم والأحكم.
كان ذلك الاختبار يسيرا أنهته الأم الصالحة مبكرا في مرحلتك الأولى عندما جعلت حجابك الساتر جزءا لا يتجزأ منكِ. لكن امتحانا آخر متقدما تعرضت له كانت فيه أشد صمودا حتى أثابها الله بعودتك سالمة نقية.
إنه امتحان الهوية القلقة، إثبات الذات بين قوم لا يقدرون، الاندماج المطلوب، إثبات التفوق، أصوات ترتفع وتصفق، رياضية مسلمة، سياسية عربية، عارضة محجبة، وألقاب أخرى جاذبة وخادعة.
إن الأم المتفوقة حقا لم تُخدع، لقد أبصرت نهاية الطريق وأخبرتكِ.. كانت تذكركِ بمن تكونين، وما يليق بك وما لا يليق.. وقد نفع الله بتذكرتها فعافاكِ من الغوص بعيدا في الاندماج البئيس، وعدت تذكرين فضلها وكرم الله لكِ بها. ألا فلتصابر كل أم، ولتتلمس كل فتاة أشعة الشمس من وراء كلمات الأمهات الصالحات.
تلك رسائل ألهمتنا بها عودة حليمة، عارضة الأزياء المسلمة الأمريكية، من طريق ظنته منتهى آمالها، فإذ به يخرج بها عن جادة الطريق فيلهها الأمل ويغري بها عن السبيل..
نسأل الله أن يثبتها، وأن تبقى على الطريق الذي آمنت بصحته فإن الاختبارات حتما قادمة، فليحفظ الله عليها إيمانها وصدقها، وكم لدينا من حليمات انطلقن ولم يعدن أو ما زلن يتأرجحن بين موج الزبد وبين نهر يتدفق بالخير لا يتوقف، فليتهن يقرأن ويأخذن القرار الأصوب.