لماذا انتشر الإلحاد بين المهاجرين السوريين؟

مع دخول الثورة السورية عامها التاسع، أصبحت تداعياتها أكثر وضوحا على كافة الأصعدة، لا سيما التغيرات الاجتماعية الطارئة على السوريين الذين اضطرتهم الحرب إلى الهجرة.

فوفق إحدى الإحصائيات لمعهد بيو الأمريكي يبلغ عدد السوريين الذين هاجروا بسبب الحرب حوالي سبعة ملايين سوري؛ أكثر من مليون منهم اتجهوا نحو أوروبا وشمال أمريكا[1]. ومع بلوغ السوريين المهاجرين هذه الأعداد الكبيرة أصبحت هناك العديد من الظواهر التي تستحق الدراسة والتتبع كارتفاع نسب الطلاق بين الأزواج وحالة ضياع الهوية والتفكك الأسري، بالإضافة إلى الخوف على أطفالهم ومستقبلهم ووجود حالات من التنصّر والإلحاد وخلع الحجاب وغيرها من الظواهر، وسيركز هذا المقال على ظاهرة انتشار الإلحاد بين بعض السوريين المهاجرين، وخاصة من فئات الشباب.

 في البداية لا بد من الإشارة إلى أنه لا توجد إحصائيات أكيدة حول أعداد الملحدين بين المهاجرين السوريين، ولكن يبدو أن أعدد الملحدين في ازدياد سواء داخل سوريا أو خارجها.

وعند البحث عن الأسباب والدوافع لا بد من التأكيد أولاً على أن هذه المحاولة في البحث تفسيرية وليست تبريرية، وثانياً أن هناك أسبابا عامة قد تدفع إنساناً ما للإلحاد في أي مكان أو زمان، فضلا عن أسباب خاصة متعلقة بالبيئة الاجتماعية السورية وظروف نشأتها في العقود السابقة.

الصدمة الحضارية
يبدأ الإنسان المهاجر لحظة وصوله إلى الغرب بعقد المقارنات بين البلد المهَاجر إليه وبين بلده الأصلي، فالمعاينة عن قرب غير معاينة الشاشات. فشوارع الغرب نظيفة مرتبة، ومعاملهم تنتج أحدث التقنيات والآلات، وهم يختارون حكامهم بسلاسة ويعبرون عن آرائهم بكل حرية.

بالإضافة إلى هذه النظرة الاختزالية والأحادية للمشهد في الغرب ومع مقارنة هذه الأمور بأوضاع بلادنا؛ تحدث الصدمة الحضارية لدى البعض وخاصة إذا ترافق الأمر بهزيمة نفسية وجهل بالتاريخ و الحضارة أو إذا كان البعض لم يخرج من قريته أو مدينته في السابق ولا يدري إلا اليسير جداً عن باقي أنحاء العالم، وهنا يأتي الاستنتاج الخطير الذي يصل له البعض: هم متقدمون لابتعادهم عن الدين ونحن متأخرون بسبب ديننا فالحل إذا هو الإلحاد حتى نلحق بركب الحضارة والتقدم.

غياب التأسيس العقدي
هذا بحرٌ متلاطم الأمواج تتفرع منه معظم أسباب الإلحاد، لأن النفوس إذا لم تتشرب أسس العقيدة الصحيحة والإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله أصبحت معرضة لأن تعصف بها أي شبهة كبيرة كانت أو صغيرة.

يسمي الدكتور عبد الله الشهري هذا السبب بالقابلية للإلحاد، أي استعداد النفس لهذا الأمر وهذا مصطلح تمّ سكه على منوال مصطلح القابلية للاستعمار الذي تحدث عنه المفكر الإسلامي مالك بن نبي رحمه الله تعالى.[i]

فلو تشربت النفوس أسس العقيدة الصحيحة بأن هذا الكون لم ينشأ من عدم وأن له خالقاً حكيماً وأن هذا الخالق الحكيم أرسل الرسل إلى البشر ليهدوهم سواء السبيل وأن خاتم هؤلاء الرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي أيده الله تعالى بالقرآن الكريم لما اهتزت النفوس مع كل شبهة جاء بها مستشرق أو ملحد من هنا أو هناك. 

الشهوات ملاعب الشيطان
الدين يحرم الخمر والزنا والشذوذ، وهذه أمور لا اختلاف عليها في الإسلام، وهنا يأتي دور الشيطان ليوسوس للإنسان وخاصة في البيئة الغربية التي تغوص في هذه الشهوات؛ الحل إذن بترك هذا الدين وحينها يصبح كل شيء مباحا، وبعد إتباع الملحد لشهواته الجسدية كيفما شاء فهو لا يحتاج لتأنيب الضمير أو الشعور بالوازع الديني، فهو استخدم حيلة نفسية كي لا يؤمن بالدين أصلاً الذي يحرم هذه الأمور.

هناك نوع آخر من الشهوة غير الشهوات الجسدية وهي شهوة حب الظهور والشهرة، وهذه الشهوة سهلة التحقق في عالم اليوم، فكل ما يلزم أدوات تصوير مناسبة واتصال بالإنترنت ومحتوى على طريقة من بال في بئر زمزم، وبعدها ينتشر المقطع انتشار النار في الهشيم ويصبح صاحبه من المشاهير!

العلموية وتأثيرها
قبل ثورات الربيع العربي انتشرت العديد من المواقع وصفحات الفيس بوك العلموية التي عملت على تروج الإلحاد والداروينية باسم العلم من خلال دس السم في العسل، فجعلت الدين والعلم ضدين لا يجتمعان، فإما أن يؤمن الإنسان بالدين فيكفر بالعلم وإما أن يؤمن بالعلم فيكفر بالدين، والحقيقة أن ادعاء هذه المواقع والقائمين عليها أنها لا تعادي الدين هو ادعاء تكذبه منشورات ومقالات هذه المواقع.

وقد تأثر الكثير من الشباب السوريين كما حال بقية الشباب العرب بما تنشره وتروج له هذه المواقع والصفحات ومثلت هذه المواقع محطة رئيسة على طريق إلحاد البعض.

الثورة السورية وأحداثها
مع اندلاع الثورة استحرّ القتل وبدأت سلسلة من المجازر والأحداث المأساوية وأصبحت صور القتلى والجرحى تملأ وكالات الأنباء، بل حتى الهاربون من جحيم الحرب لم يسلموا من الغرق أو الموت، وتأخر النصر على النظام المجرم وتناحرت فصائل الثورة فيما بينها وظهر تنظيم الدولة بوحشيته وإجرامه وتآمرت معظم دول العالم على إفشال الثورة.  ومع كل هذه المشاهد وُضع سؤال الشر على طاولة بحث الكثيرين وأصبح مدخلاً رئيساً للإلحاد.

في النهاية، قد لا يكون هناك سبب رئيسي واحد لإلحاد المرء بل قد تتضافر مجموعة عوامل وأسباب مع بعضها، ويترافق هذا مع الضخ الإعلامي من مسلسلات وأفلام أجنبية تدعو لأفكار إلحادية بالإضافة إلى الحملات الإعلامية الممنهجة لتشويه المسلم ووصفه بالإرهاب والرجعية والتخلف مما يشكل الأرضية الأولى لإلحاد المهاجرين، علما بأن هناك العديد من الملحدين في الداخل السوري الذين ينتظرون اللحظة المناسبة للإعلان عن إلحادهم.


أهم المصادر

[1] http://www.pewresearch.org/fact-tank/2018/01/29/where-displaced-syrians-have-resettled/

https://newhumanist.org.uk/articles/4898/the-rise-of-arab-atheism 

 https://www.youtube.com/watch?v=q6boKunEG84




مسلسل جن .. المجتمع المسلم كما يراد له أن يكون

ناقش العديد من علماء الاجتماع دور الإعلام في صياغة الواقع، ومنهم غي ديبور في أطروحته “المجتمع المشهد” والتي تتلخص في أنّ الواقع لم يعد هو الذي يشكل علاقة الأفراد بما حولهم، بل أصبح المشهد ينازع الواقع هذه المكانة، حتى أصبح المشهد هو المرجع الذي يحدد الواقع ويرسمه وليس العكس.

أما جان بودريار فقدم مفهوم “فوق الواقع” (hyper reality) وهو عدم القدرة على تمييز الواقع من محاكاة الواقع، وذلك بصنع (Simulacrum) أي نسخة مزيفة لا أصل لها. وتظهر “صناعة الواقع” جليّة في مسلسل “جن”.

مسلسل جن

جِنّ هو مسلسل ناطق بالعربية من إنتاج شبكة نيتفليكس (Netflix) الأمريكية، ويتكون من خمس حلقات عُرضت بتاريخ 13 حزيران/يونيو 2019. وتدور أحداث المسلسل حول مجموعة طلاب بالمرحلة الثانوية يذهبون في رحلة مدرسية إلى البتراء فيموت أحدهم ويُشتبه بأن سبب موته أمر خارق للطبيعة “الجن”.

والمسلسل لا يختلف بتاتًا عن أي مسلسل أمريكي بالشكل والمضمون، فاللغة هي الاختلاف الوحيد. فرغم أن المسلسل صوِّر في الأردن ذي الطبيعة المحافظة نسبيًا، إلا أنه كان مليئًا بأكثر الكلمات بذاءة وسوقية وانحطاطًا، عدا عن المخدرات والسُكر والقبلات والملابس القصيرة.

والحجاب لم يظهر سوى على رأس إحدى النساء من البادية، ولم ينسَ المخرج تصوير قطيع الجِمال الحاضر دائمًا عند عرض أي من مظاهر الإسلام. وأما ما يتعلق بالجن فهو “تفاهات” و”خرافات”.

لا غرابة في ذلك؛ فطاقم التمثيل هم ممن دفعوا “ضريبة هوليود” أو يتوقون لدفعها، لذا فلن يمانعوا تمثيل مسلسل ناطق بالعربية ذي رؤية أمريكية، حتى أن بعض العبارات والتعابير مترجمة للعربية بشكلٍ حرفي ركيك.

ورغم رداءة أداء الممثلين، إلا أن ضخامة الميزانية التي رُصدت لإنتاج المسلسل تظهر بشكلٍ جلي من خلال تقنيات التصوير والمؤثرات البصرية عالية الاحترافية والتي تتجاوز تلك الموجودة في المسلسلات الأمريكية، وتصل لمستوى الأفلام الهوليودية. وأيًا كان المبلغ فيبدو أن نيتفليكس لن تمانع في دفعه مقابل عرض وترويج هذه الصورة المشوهة المؤمركة للمجتمع العربي المسلم؛ كما يراد له أن يكون.

رمز ماسوني مرسوم على ملابس إحدى الشخصيات

ما بين السطور

العرض الفج والتشويه الصارخ لم يمنع صناع المسلسل من بث بعض الرسائل غير المباشرة؛ فرغم أن أبطال القصة هم طلبة مدرسة، إلا الحصة الدراسية الوحيدة التي عُرضت كانت حصة الأحياء أثناء الحديث عن نظرية التطور. كما كانت بطلة المسلسل تستمع لفرقة غناء مغمورة، وما عرض من كلمات الأغنية كان: “طرق الجنة ع قد البشر” في رسالة إنسانوية (هيومانية) بأن الجميع يدخل الجنة. كما لم يخلُ المسلسل من الرموز الماسونية.

ماذا بعد؟

إن إثارة الجدل هي إحدى أنجع الطرق في الترويج وزيادة الانتشار ورفع نسب المشاهدات، لذا فرغم تدني تقييم مسلسل جن إلا أن الضجة التي أثارها ستعمل بالنهاية على إنجاحه، ليُنتج منه جزء ثانٍ وثالث.

وبنظرة أشمل، يبدو أن الآلة الإعلامية الأمريكية لم تكتفِ بالأثر الذي تُحدثه بشكل غير مباشر من خلال المسلسلات والأفلام الأمريكية والمحتوى العربي المتأثر بها، فللمرة الأولى نجد إشرافًا أمريكيًا مباشرًا على إنتاج محتوى “ترفيهي” عربي، والقادم أسوء!

فهذا المسلسل بما فيه من قذارة وانحطاط موجه لمن تزيد أعمارهم عن 16 سنة! وعند أخذ بالاعتبار جودة الصورة والمؤثرات البصرية، فبالتأكيد سيكون هذا المسلسل وأمثاله أشد جذبًا من غيرهم، خصوصًا بما يحتويه من مزيج من القيم الأمريكية واللغة العربية فيجذبون متابعي المحتوى العربي والأجنبي في آن معًا.

نيتفليكس في أولى تجاربها لإنتاج محتوى ناطق بالعربية جعلت من مجتمع مسلم محافظ مجتمعًا منحلًا كانت فيه “الحمد لله” عبارةً دخيلةً غريبةً على أذن السامع. لذا فلا عجب أن تحتوي التجارب القادمة على الشذوذ الجنسي أو الشبهات الطاعنة بالدين. أضف لذلك أن شيوع هذا المحتوى سيُطبِّع الأفراد مع الشكل الأمريكي للمجتمع، وسيكون على الشركات العربية تقديم محتوى مشابه كي تستطيع المنافسة، لتكون النتيجة مجتمعًا أمريكيًا ناطقًا بالعربية!




ماذا لو طُبِّق حديث: “لا يفرك مؤمن مؤمنة”؟

عندما يبحث الرجل عن شريكة حياته، فإنه يمر من أجل ذلك بمراحل، أولها الرؤية الشرعية أو ما يوازيها، وفيها إما أن يحدث قبول نفسي للطرفين فينتقلان إلى مرحلة الخطوبة أو يجدان ضيقاً فتنتهي العلاقة قبل أن تبداً، وإذا كان أساس الرؤية الشرعية القبول النفسي فأساس الخطوبة القبول العقلي، ويحصل تبعاً لما يجري بينهما من نقاشات، تكشف لهما أفكار وآراء وطباع بعضهما، ولكن مثل الخطوبة كمثل كشّافٍ وجهته إلى نفقٍ ضخمٍ، فإنه يجعلك تبصر شيئاً ويخفي عنك أشياء، فترى الصورة العامة وتغيب عنك التفاصيل الدقيقة، فمهما أعمل أحدهما عقله فترة الخطوبة فلن يكشف جميع طباع وأخلاق وأفكار الطرف الآخر، ولكنها ستعطيه فكرةً عامةً عنه إن أعمل بها عقله وعطّل بها قلبه.

وبقدر ما يسعى الطرفين إلى كتم مشاعرهما فترة الخطوبة، بقدر ما تنفجر مشاعرهما وعواطفهما عند عقد الزواج، فهي مرحلة الحب والأحلام الوردية، وبها يجعل العاقدان لبعضهما البحر طحينةً! ويبدأ الاقتراب النفسي والجسدي، وينتهي عصر استخدام العقل! فكما قيل: “الحب يعمي ويصم”، فيرى المحب كوارث محبوبه هفوات، وهفواته حسنات، وحسناته معجزات!

فتكون علاقتهما ببعضهما كعلاقة الأم بولدها لا تراه إلا خير خلق الله، فأما حسناته فهي تصدر منه، وأما سيئاته فهي تُكاد عنه!

وقد أظهر العلم أن جسد العاقدين يفرز خلال هذه الفترة هرموناً يجعلهما لا يريان سوى إيجابيات وكمالات بعضهما وهو الهرمون ذاته الذي يفرز لدى الوالدين في علاقتهما مع أولادهما.

ولكن الحياة ليست بهذه اللطافة والوداعة وإنما يحكم الفرد فيها واجبات ومسؤوليات ويتخلل رحلة السير بها ضغوط ومشاق وصعوبات، لذلك فإن الحب والحياة الوردية يتنحيان جانباً عند الزواج وتبدأ المسؤولية تحكم! فيناط بكلا الزوجين واجبات عليهما الإتيان بها ويصبح لكل منهما حقوقاً على الآخر أن يؤديها له.

ولا نقصد بذلك أن الحب يذهب أدراج الرياح، بل هو يزداد ويتنامى مع الوقت، وإنما الذي قصدناه هو أن كلا الزوجين ينظر إلى الأمور بعين العقل، فيصبح أكثر واقعيةً في التعامل مبتعداً عن خيالات الشعراء التي كانت تجول عقله عند العقد!

وخلال هذه الفترة ومع طول المعاشرة تبدأ عيوب الطرف الآخر بالظهور، فما كان مخفياً صار اليوم ظاهراً، وما كان يُبرر له أصبح اليوم يُعاقب عليه! فتبدأ المشاكل والمنغصات من حينٍ لآخر، وتُكرر الأخطاء إذ كل منهما قد طُبع على نقصٍ يجاهد نفسه على تركه ولكنه لا يلبث أن يعود إليه، فهاهنا يأتي التوجيه النبوي الذي يريد للعباد خيراً ولحياتهم أمناً، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر” [رواه مسلم].

فلا ينبغي للزوج أن يبغض زوجته لطبعٍ كرهه فيها، بل يغض الطرف عنه مصوباً بصره نحو طباعها الحسنة، ورغم أن الحديث موجه للزوج إلّا أنه يشمل كلا الزوجين، ونعتقد أنه جاء بهذه الصياغة لأن كره الزوج قد يؤدي إلى الإضرار بها بتنغيصٍ أو شتمٍ أو ضربٍ أو طلاقٍ، ولأن الرجل يحكمه عقله أكثر من عاطفته فلا تشفع لها محبتها في قلبه لتجاوز أخطائها، بينما تغلب على المرأة عاطفتها فتشفع له محبته في قلبها لتجاوز أخطائه.

ومن لطائف الحديث أنه وصف الزوج والزوجة بالإيمان، وكأن في ذلك تنبيه للزوج بأنه يكفي الزوجة إيمانها لترضى عنها وتصبر على هفواتها وتعينها على تصحيح أخطائها، فتسيرا معاً في طريق الإيمان متحابين في الله تجاهدان نفسيكما على رعاية حق الله فيكما، فجاءت هذه الكلمة في هذا الموضع مهدئةً للنفس مريحةً للبال مطفئةً للغضب.

ولأن الإسلام دين كامل ذو منهج متكامل، فإنك لن تستفيد منه إن أنت أخذت بعضه وألقيت بعضه الآخر وراء ظهرك، وعملت بما وافق هواك وألغيت ما خالفها، وانقدت لما فهمت مغزاه وأدبرت عما لم تدرك حكمته، ومثال ذلك أنه يصعب جداً أن يستفيد من هذا الحديث من عطّل عقله وأعمل قلبه في فترة الخطوبة غافلاً عن تعاليم الإسلام في أن تكون هذه الفترة للتقييم العقلي فقط بعيداً عن أي عاطفة أو مشاعر، والسبب في أنه يصعب عليه الاستفادة منه هو أنه قد يكون فيها طباعاً يستحيل عليه احتمالها أو تكون سيئاتها تفوق حسناتها بمراحل أو أنها منافقةً تظهر إيماناً وتبطن كفراً، أو أنها مسلمةً ولكن لمّا يدخل الإيمان إلى قلبها! وكل ذلك كان يمكن أن يظهر له في فترة الخطوبة سواء ظهر له واضحاً أو بعد طول نظرٍ وفكر ولكنه كان مخمور العقل معمي القلب!

كما لا يمكن لزوجين أن يستفيدا منه إذا كان لا يعاشر الزوج زوجته بالمعروف فيرعاها ويحفظها وينفق عليها ويكرمها، وإذا كانت الزوجة لا تطيع زوجها بل تجعله نداً لها، ولا يجد منها حفظاً لنفسها وماله وأولادهما، فكيف يمكن ألا يبغضا بعضهما وتضيق نفوسهم وتجف منابع الحب في قلوبهم، وكل منهما قد نسي ما لغيره من حقوقٍ عليه متجاهلاً ما شرعه الله من أحكام في حق الزوج على زوجته وحق الزوجة على زوجها.

لذلك ها قد أوصلتكم إلى بداية الطريق، طريق الله الذي أنزل علينا شريعة، وأمرنا أن نلتزم بها ونأخذها كلها، وأن ندعوه في صلاتنا كل يوم سبعة عشر مرة -على الأقل- ألا يجعلنا من المغضوب عليهم وهم اليهود الذين علموا الحق ولم يعملوا به، بل ألقوه وراء ظهورهم، وجعلوا يمدون أيديهم إلى وراء ظهورهم فيأخذون منه ما يوافق هواهم ويتركون ما لا يروق لهم، وكل من كان هكذا حاله فقد حل عليه غضبٌ وسخطٌ من الله، فإما أن يستمر بذلك وينتظر هلاكه أو فلينته وينتظر رحمة الله القريبة من المحسنين.




رمضان.. عندما يشتاق الإنسان إلى معراجه الروحي

في عالمٍ صار فيه حب المادة على أشده، فترى من يظن نفسه عبداً لله وواقعه لا يعبد سوى بطنه وفرجه، وترى الذين لا يقيّمونك إلا بما تزين به جسدك من لباس وتملؤ به معدتك من طعام، فإن كان لباسك دون “الماركات” وطعامك دون الإسراف فلن تجد منهم سوى الازدراء والاحتقار.

وأصبح الأكل لأجل اللذة لا لأن يكون حاجةً للاستمرار في الحياة، وتجد من يصفك بالرجعية إن أنت لم تعرف اسم تلك الأكلة! وتجد من يعيب عليك أن تحافظ على النعمة -بأن لا تبقي في طبق طعامك شيئاً- فذلك بزعمه ليس من التحضر!

وتجد من ينشئ قنوات على اليوتيوب غرضها الأساسي نشر تحديات لمن يأكل أكبر عدد من الوجبات! وترى متابعيها بالملايين، ومتابعو العلماء بالعشرات! وتجد الزوج الذي يشن حروباً على زوجته إن هي لم تطبخ، أو كانت الطبخة على غير ما يحب! وكأن الطعام قد أضحى قضية العالم وشغله الشاغل!

في هذا العالم الذي وصفته لك يأتيك رمضان، الشهر الذي يريد منك أن تضع لشهوات بطنك حداً، وتجعل لك من ذلك منهجاً، فلا تضبطها شهراً وتفلتها عمراً! يأتيك ويريد منك أن تترك رديء الأخلاق وتطلب أحسنها، فيصبح ذلك طبعاً من طباعك، وقد يظن أحدهم مخطئاً أن غاية الصيام هي الامتناع عن الطعام والشراب والجماع فقط! غافلاً عن الحديث النبوي: “من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” [رواه البخاري]

ومما علينا إدراكه أنه يشقينا أن ننسى أنفسنا وحاجاتها لحساب أجسادنا ورغباتها، وأن ننظم الحياة من حولنا ونتركها خراباً في داخلنا، وأن ننبهر بالبرقع الخداع للأشياء ويغيب عنا أنها تقاس بجوهرها، وأن نحصر السعادة بملذاتٍ تأتي إلينا ناسين أن الرضى رضى النفس، وأنك لو ملكت كل ما وقعت عليه عيناك وأنت طامح للمزيد فلن تشم رائحة السعادة، وأنك لو أنت قنعت بما تملك فستعيش حياةً يحسدك عليها الملوك والأمراء.

وفي هذا المقام، لا غنى لنا عما قاله ابن القيم عن حقيقة الصوم: “أما الصوم، فناهيك به من عبادة تكفّ النفس عن شهواتها وتُخرجها عن شبَه البهائم إلى شبه الملائكة المقرّبين، فإنّ النفس إذا خُليت ودواعي شهواتها التحقت بعالم البهائم، فإذا كفّت شهواتها لله، ضيَّقت مجاري الشيطان وصارت قريبة من الله بترك عادتها وشهواتها، محبّة له، وإيثاراً لمرضاته، وتقرُّبا إليه، فيدع الصائم أحبّ الأشياء إليه وأعظمها لصوقا بنفسه من الطعام والشراب والجماع من أجل ربه، فهو عبادة لا تُتصوّر حقيقتها إلا بترك الشهوة لله، فالصائم يدع طعامه وشرابه وشهواته من أجل ربه.

وهذا معنى كون الصوم له تبارك وتعالى، وبهذا فسّر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الإضافة في الحديث فقال: “يقول الله تعالى: كلّ عمل ابن آدم يُضاعف الحسنة بعشرة أمثالها، إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي”[رواه البخاري] حتى إنّ الصائم ليتصوّر بصورة من لا حاجة له في الدنيا إلا في تحصيل رضا الله.

وأيُّ حُسنٍ يزيد على حسن هذه العبادة التي تكسِر الشهوة وتقمع النفس وتُحيي القلب وتُفرحه، وتُزهِّد في الدنيا وشهواتها، وتُرغِّب فيما عند الله، وتُذكّر الأغنياء بشأن المساكين وأحوالهم وأنهم قد أخذوا بنصيب من عيشهم فتُعطِّف قلوبهم عليهم، ويعلمون ما هم فيه من نعم الله فيزدادوا له شكرا؟

وبالجملة، فعون الصوم على تقوى الله أمر مشهور، فما استعان أحد على تقوى الله وحفظ حدوده واجتناب محارمه بمثل الصوم، فهو شاهد لمن شرعه وأمر به بأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأنه إنما شرعه إحسانا إلى عباده ورحمة بهم، ولطفا بهم لا بُخلا عليهم برزقه ولا مجرّد تكليف وتعذيب خالٍ من الحكمة والمصلحة بل هو غاية الحكمة والرحمة والمصلحة وأنّ شرع هذه العبادات لهم من تمام نعمته عليهم ورحمته بهم” [مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، 867-868]

وإنك في رحلتك الروحية في رمضان تسعى لأن تكون طيب النفس، حسن العشرة، سليم الصدر، واضعاً حديث الرسول عليه الصلاة والسلام نصب عينك عندما قال: “إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق” [رواه البزار (9319)]، وعالماً جيداً ومدركاً لما قالته عائشة رضي الله عنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان خلقه القرآن” [رواه مسلم].

وإن القلب لا يجد سبيلاً إلى التزكية إلا بصيامه عمّا حرمه الله عليه من حسد وكبر وعجب وحقد وغيرها، ولا يجد جوّاً مناسباً يعينه على ذلك إلا الصيام الذي يقيد شهوات البطن والفرج، فاجعل لك في شهر رمضان منهجاً تسير عليه، ولتكن نيتك أن تزداد من الله قرباً، ولتجتهد ألا تضيعه بأن يكن نصيبك منه ترك مفطرات البطن والفرج مع التمادي باللسان والعين والأذن وصولاً إلى اليد وانتهاءً بالرجل!




جهاد النفس في رمضان

أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك!

للباحثين عن جهاز كشف يمَكنهم أن يتعرفوا على أي نوع من النفوس ينطوون؛ أهي: الأمّارة بالسوء، أم اللوامة، أم المطمئنة؟ فما عليهم إلا أن يراقبوا أعمالهم في رمضان!

ففي كتاب لحجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله يحدد أعداء الإنسان الداخليين بالنفس، والشيطان، والهوى والدنيا. فالهوى والدنيا وسيلتان تستعملان حسب إغواء قائدي ركب رحلة الشر، وهما النفس والشيطان لعنه الله.

والشيطان -كفانا الله شره- ربما يضعف عمله بفعل التصفيد في شهر الخير -رمضان- لتتسلم النفس زمام رحلة الإرداء بالبشر، فيكون حال الناس في رمضان مرآة لنفوسهم!

مما يعزز ذلك ويؤيده -شيئا ما- ما يذكر من أحوال السلف في رمضان وكيف كانوا يتركون المباح للواجب، وخلاف الأولى للمندوب.. فيركضون في حقل فعل الخيرات ليعيش الجميع على مدار الشهر الفضيل في باحة من الخير: فمنهم سابق بالخيرات..وما ذاك إلا لصلاح نفوسهم.

بخلافي أنا وأمثالي فإننا للأسف ربما تساوى عندنا أَوَلى شهر الخير شطره إلينا أم ولى مدبرا عنا! فتجد الواحد منا بالكاد لا يفرق بين رمضان وغيره، فقد تراه ناشرا صورة لعارية على صفحته الذي لا يعلم متى تطوى، فتبقى الصورة حسابا جاريا من الذنوب بعده لاقدر الله، وقد تراه يتكلم في العلماء بما شاء غير آبه بحرمة عِلم ولازمان، وربما تساببنا السباب تلو السباب، وتجادلنا من أجل تزكية نفوسنا، {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء}.

ناسين أو متناسين قول الحبيب صلى الله عليه وسلم “فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم مرتين”.

أما مواعيد “العمة الفيفا” مقدسة، فإنها لم ولن تفقدنا حيث أمرتنا! وحتى لو جاء وقت المباراة متزامنا مع وقت عروج ملائكة الرحمن الذين سيسألون عنا: كيف تركتم عبادي؟ فيكون الجواب: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون، فيفوتنا للأسف قطار تلك البشارة!

نعم يفوتنا للأسف قطار التشريف ذلك: وهم يصلون.. لأننا كنا حينها في المقاهي، وحسبك به من حرمان والعياذ بالله!

كل ذلك لتسليمنا العنان لأنفسنا الأمارة بالسوء، فعن النفس يخبرنا ابن القيم رحمه الله تعالى حين يقول: سبحان الله؛ في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان.

ومع ذلك أظل وأمثالي نصالحها ونهادنها بدل أن نناصحها، وكأنا ما قرأنا يوما إخبار الحسن البصري وقوله: إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه.

ثم نهيم نحن ونهيم في غفلة شديدة على حد تعبير أحد أعلام السلف رحمه الله وكأني به -يعنيني-وأمثالي: وما أحسب أحداً يفرغ لعيب الناس إلا عن غفلة غفلها عن نفسه، ولو اهتم بنفسه ما تفرغ لعيب أحد ولا لذمه.

فنرجو رغم كل ذلك أن لا نكون قد وصلنا إلى درجة أن يتتلمذ علينا إبليس لعنه الله! على حد تعبير الحسن البصري رحمه الله الذي قيل أنه رأى إبليس لعنه الله في المنام فقال له: كيفك مع عباد الله؟ فرد عليه ابليس لعنه الله: كنت أُعلم الناس الشر، فصرت أتعلم منهم!

فالبدار البدار، لنبادر عسانا نتدارك أنفسنا ولنحذر أن يمضي رمضان قبل أن نتعلم منه ونلحق بركب تلامذته، ولنحذر كذلك أكثر أن نكون ممن تتلمذ عليهم إبليس عليه لعنة الله.

وما المرءُ إلا حيث يجعل نفسهُ * ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل

ونحذر من أعوان إبليس من الإنس الذين يقومون بالدور على أكمل وجه، حين لم يتركوا باب لهو ولا غواية إلا طرقوه، لإشغال الناس في هذا الشهر الفضيل: مسلسلات، برامج، سهرات، إثارة..
كل ذلك يبذل في الغالي والنفيس، لأجل هدف واحد: تضييع فرصة العتق من النار في رمضان على عوام المسلمين.

وصدق مولانا الكريم: {يريد الله أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما}.




القرآن الكريم في الفكر الحداثي

يمثل الفكر الحداثي أحد الأفكار التي بدأت بالتأثير على الساحة العربية المعاصرة، فهو الفكر الذي أعاد دراسة التراث العربي والإسلامي على أنه مادة قابلة للدراسة الموضوعية بعيداً عن المبادئ والمقدسات الإسلامية، أو الأصول الدينية التي تنظم الحياة الفكرية للمسلمين.

وينظر الحداثيون إلى التراث الإسلامي على أنه تراث مقلوب يمشي على رأسه، ولابد من تعديله لكي يسير على قدميه، وأعلنوا عن نظريتهم المبتدعة في دراسة جديدة للتراث الإسلامي، وهم يحاولون جاهدين نزع الجانب المقدس والإلهي (اللاهوتي) في التراث الإسلامي.

وأن يُنزع التقديس من بعض الأقوال الفقهية للعلماء المسلمين قد يفهم، ومن يفعل ذلك قد يجد له سلفا من علماء الأمة الإسلامية الذين دعوا إلى التحرر من التقليد الأعمى، أما أن يسعى الحداثيون إلى نزع القدسية عن القرآن الكريم فهذا يشكل انقلاباً على المفاهيم الإسلامية، فبناءً على ذلك يكون النص القرآني كأي نص في جريدة أو مادة قانونية وضعت من قبل البشر، فلابد من تسليط الضوء على موقفهم من القرآن الكريم.

تعريف القرآن عند الحداثيين
عرف الحداثيون القرآن الكريم تعريفات متعددة، فعرفه حسن حنفي في كتابه دراسات فلسفية بأنه تجارب الأمم والشعوب على مدى التاريخ، التراكم المعرفي الإنساني الشامل المتحقق مع مراجعة العقل والفطرة وكما تبدو في الحكم والأمثال والمأثورات والآداب الشعبية [ص 103].

وعرفه كذلك في كتابه “دراسات إسلامية” بأنه “مجموعة من المواقف التي طرأت على الواقع الإسلامي الأول والتي استدعت حلولاً وكل موقف يمثل نمطاً مثالياً يمكن أن يتكرر في كل زمان ومكان” [ص 408].

وتناول حنفي القرآن الكريم ضمن مشروعه العلمي الذي وسمه بالتراث والتجديد، فكان لا يتناوله على أنه كتاب منزل من عند الله تعالى، بل على أنه تراث وتاريخ لأمة من الأمم؛ ويقصد بهذا التعريف أن الكتاب وتأويل ما جاء به من أحكام وغيرها ليست ثابتة ومستمرة بل متغيرة حسب الزمان والمكان، وتواكب التطور التشريعي الذي حصل في المجتمعات.

علي حرب

أهمية التأويل المنفلت
القضية الأساسية التي يسعى الحداثيون إلى ترسيخها في أذهان الناس أن كل شيء في النصوص القرآنية يحتمل التأويل، ومن الممكن صرفه عن ظاهره إلى المجاز، وبالتالي نستطيع أن نجعل من الإسلام ديناً مرناً نسقط الكثير من أصوله التي توارثها المسلمون عبر الأجيال، ويستطيع المسلمون من خلال التأويل في كل عصر أن يفصِّلوا إسلاماً يناسب مصالحهم.

يقول علي حرب في كتابه نقد النص: “مع أن مبرر كل مفكر جدير بلقبه أن يمارس التفكير بطريقة مغايرة للذين سبقوه إذا لم يشأ أن يكون مجرد شارح مبسط، أو تابع مقلد، أو حارس مدافع عن العقيدة والحقيقة، والتفكير بصورة مغايرة، يعني: أن نبدل وننسخ، أو نحرف ونحور، أو نزحزح ونقلب، أو ننقب ونكشف، أو نحفر ونفكك، أو نرمم ونطعِّم، أو نفسر ونؤول، فهذه وجوه للتفكير وللقراءة في النصوص لا أزعم أني أقوم بحصرها واستقصائها” [ص 133].

وعلي حرب بهذا النص يهدم كل الضوابط التي وضعها العلماء لاستنباط الأحكام أو تفسير القرآن، وبالتالي لا يوجد نص مقدس منزه عن التأويل، إذ ينظر إلى القرآن على أن التاريخ هو من أسبغ عليه صفة القدسية، لا تنزيله من قبل الله تعالى.

ووضح الحداثيون أنه من خلال التأويل يتم اختراق النص بأفق اجتهادي تجديدي، ومن خلاله نقيم التوازن بين القرآن وبين الواقع المتغير.

وقد استدل نصر حامد أبو زيد على ضرورة التأويل في كتابه “[مفهوم النص، ص 256] وجعله أصلاً، أنه مرادف للتفسير، وأن من السلف من استعملهما بذات المعنى، فالنص القرآني عنده وعند غيره من الحداثيين لا يمكن أن يحتمل معنى واحداً فقط، فهذا النص الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً لا وجود له في الأرض، وقد يكون موجوداً في السماء، فكل نص قابل للتأويل إلى أكثر من معنى، وفق فهم القارئ له.

محمد أركون

أنسنة القرآن ونزع قدسيته
صرح الحداثيون بأن الحديث عن القرآن الكريم وعن غيره من النصوص متساو، فلا استثناء للقرآن، ولا قدسية للنص القرآني، وقد بنوا على ذلك أنه لا توجد لألفاظ القرآن الكريم معان ثابتة، ولا دلالات ذاتية من الممكن الكشف عنها من خلال اللغة واحتمالاتها، بل التاريخ والواقع الاجتماعي هما من يكشف عن معنى النص، فالنص في نظرهم عبارة عن فضاء دلالي، وإمكان تأويلي، ومأزق القراءة في العقل العربي والإسلامي مرجعه إلى النظرة الأحادية لمعنى ألفاظ القرآن الكريم، فلا حقيقة ثابتة للنص، وبالتالي دراسة القرآن الكريم لابد أن تكون إنسانية تاريخية لا إلهية مقدسة (!)، وما دام النص القرآني إنساني فلا يجوز لإنسان احتكار المعنى الحق أو الصواب، فلكلٍ صوابه وحقه، وهذا ما يعني ضياع المعنى بين المؤولين أياً كانوا!

يقول محمد أركون في كتابه “القرآن من التفسير” إن “التقديس للكتب المقدسة خلع عليها وأسدل بواسطة عدد من الشعائر والطقوس والتلاعبات الفكرية الاستدلالية، ومناهج التفسير المتعلقة بكثير من الظروف المحسوسة المعروفة أو تمكن معرفتها، وأقصد الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية” [ص 26].

وهو لا يستثني القرآن من هذا الكلام، بل يعممه على جميع الكتب المقدسة، إلا أنه يستثنيه في قضية فرعية، وهي أن أسباب تقديس القرآن غطت عليها الظروف السياسية والثقافية والتربوية، بحيث لم تكتشف بعد، ولم يحرف، أو يتلاعب بألفاظه، أو معانيه، على عكس الكتب المقدسة الأخرى، فالنص القرآني قدسيته تاريخية لا إلهية!

نقد النظرة الحداثية
لا شك أن الحداثيين يخالفون جمهور المسلمين وعلماءهم الذين يرون القرآن الكريم كلام الله تعالى المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعجز بنفسه، والمتعبد بتلاوته، المبدوء بالفاتحة والمختوم بسورة الناس، وأنه نص مقدس لا يجوز التعدي عليه بزيادة أو نقصان أبداً.

وما زال علماء الأمة يركزون على قدسية النص القرآني، ويفهمونه ضمن الضوابط التي وضعها علماء التفسير واللغة، فتفسير الحداثيين للقرآن الكريم يؤصل للتفسير الباطني والمنحرف، والذي يؤدي بدوره إلى ضياع الأحكام الشرعية، حيث يتم تفسيرها تفسيرات بعيدة عن حقيقتها المرادة، فمثل هذه التفاسير هي التي جرأت الفرق الباطنية كالإسماعيلية والدرزية والقاديانية لتحريف معاني القرآن وصرفها عن حقيقتها.

قال المفسر أبو حيان في مقدمته لتفسيره (1/104) مبيناً منهجه المتبع: “وتركتُ أقوال الملحدين الباطنية، المخرجين الألفاظ العربية عن مدلولاتها في اللغة، إلى هذيان افتروه على الله، وعلى علىٍّ كرَّم الله تعالى وجهه، وعلى ذُرِّيته، ويسمونه علم التأويل”.

وقد بين محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون (4/49) خطأ هذا المنهج الذي اتبعه الحداثيون اليوم، واتبعه قبله الفرق الباطنية حيث قال: “ومن هنا بدأ الخروج عن دائرة الرأي المحمود إلى دائرة الرأي المذموم، واستفحل الأمر إلى حد جعل القوم يتسعون في حماية عقائدهم، والترويج لمذاهبهم، بما أخرجوه للناس من تفاسير حملوا فيها كلام الله على وفق أهوائهم، ومقتضى نزعاتهم ونحلهم”.

وفي كلام الحداثيين المنقول مغالطة كبيرة وفهم أعوج، فالتفسير وفي مقابله التأويل لهما ضوابط فصلت في كتب علوم القرآن والتفسير، ولا يجوز لأي قارئ ان يطرح رأيه ويفسر القرآن الكريم على هواه، ولذلك نجد الكثير من العلماء اتبعوا التفسير بالمأثور، ففسروا النص بالنص، ومن عمد إلى التفسير بالرأي فإنه فسره وفق الضوابط والرؤية الإسلامية للنص، ووفق مقاصد الشرع وحدوده، فتأويل الإسلام ينبغي أن يكون تأويلاً منضبطاً لا تأويلاً منفلتاً فوضوياً.


المراجع والمصادر

مفهوم النص، نصر حامد أبو زيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م.

قضايا في نقد العقل الديني، آركون، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط:1، 1998م.

نقد النص، علي حرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط:1، 1993م.

نقد الحقيقة، علي حرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط:1، 1993م.

دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.

دراسات إسلامية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.

منهج حسن حنفي، فهد بن محمد السرحاني القرشي، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، ط: 1.

التراث والتجديد، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر، ط: 3، 1987م.

تفسير البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، دار الكتب العلمية، لبنان، بيروت، 1422 هـ، 2001م، ط: الأولى، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض.

التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة، د/ط.




منهج المعرفة عند ابن حزم

يعد الإمام الأندلسي ابن حزم الظاهري (المتوفى عام 1064م) من من أكبر علماء الأندلس وأكثرهم تأليفا، فكان بارعاً في علم الكلام والفلسفة والأدب والأنساب والفقه، كما كان وزيرا للدولة الأموية في الأندلس، واشتهر في التجديد الفقهي ومباحث مقارنة الأديان.

ويرى ابن حزم أن الوصول إلى معرفة الحق لا بد أن يتم من خلال أحد مصدرين:
1- أوائل العقول، أو البدهيات العقلية: وهي مما يعلمها جميع الناس حتى الصبي الصغير الذي إن أعطيته تمرتين بكى وإذا زدته ثالثة سر، وهذا علم منه بأن الكل أكثر من الجزء، وكذلك علمه بأنه لا يجتمع المتضادان فإنك إذا وقفته قسراً بكى ونزع إلى القعود علماً منه بأنه لا يكون قائماً قاعداً معاً.

2- أوائل الحس أو الكيفيات الحسية: كالعلم بأن الأحمر مخالف للأخضر، وكالفرق بين الخشن والأملس واللزج، والحار والبارد، وكالفرق بين الحلو والحامض والمر والمالح. وكالفرق بين الصوت الحاد والغليظ والرقيق والمطرب والمفزع.

فهذه الأوائل العقلية منها والحسية؛ يجدها المرء في نفسه حال التمييز، فهي بمنزلة الضرورة.

ويترتب على هذين القسمين ما يلي:
1- المقدمات التجريبية الراجعة إلى ما صححته المشاهد والتجارب، وهي ضرورية بموجبها، وباتساقها مع الأوائل.

2- المقدمات الإخبارية: وتضم القضايا التاريخية والدينية التي تم التحقق من صدقها ولها ضرورتها الخاصة وتتسق مع ما سبق.

3- النتائج اللازمة بالاستدلال المنطقي الصحيح عن مقدمات القسمين الأول والثاني، وهي ضرورية ضرورة منطقية.

فهذه المقدمات لاشك فيها ولا سبيل إلى أن يطلب عليها دليلاً إلا مجنون، وهذا أمر يستوي في الإقرار به كبار جميع بني آدم وصغارهم في أقطار الأرض إلا من غالط حسه وكابر عقله.

وعليه فقضايا قسمي الأوائل الحسية والعقلية، ومن ثم المقدمات المتسقة معها من تجريبية وإخبارية (شفوية ونصية)، والنتائج اللازمة عنها جميعاً تستغرق كل موضوعات المعرفة البشرية.

والشاهد من التمهيد الذي ذكرنا، أن ما رجع إلى مقدمة من المقدمات المذكورة فهو حق كما أن تلك المقدمة حق لا فرق بينهما في أنهما حق، والخبر الشفوي والنصي يمكن أن يرجع هذه المقدمات، وبالتالي فهو من مصادر المعرفة إن كان صادقاً.

وقبل النظر في صدق أخبار الأنبياء، نرجع مجدداً إلى ابن حزم الذي يحدثنا عن أن النبوة من الضرورات المعرفية للبشرية لتستقيم حياتها، فهو يرى أن العلوم والصناعات لا يمكن البتة أن يهتدي أحد إليها بطبعه دون تعليم، كالطب ومعرفة الطبائع والأمراض وسببها على كثرة اختلافها ووجود العلاج لها بالعقاقير، وأن الإنسانية حتى تصل إلى معرفة ذلك تحتاج إلى تجارب تستغرق عشرات الآلاف من السنين، لأن ذلك يتطلب مشاهدة كل مريض في العالم وهذا يقطع دونه قواطع الموت والانشغال بشؤون الحياة والممات، ومثل ذلك الكثير من المعارف التي حصلت عليها البشرية، فلا سبيل إلى اختراع هذه المعارف بدون هداية، وهو بذلك لا يعني أن هذه المعارف غير مصنفة بالكتب، بل يقصد ابتداء معرفة هيئتها الأولى وتعلمها كابتداء الأمراض وأنواعها وقوى العقاقير والمعاناة بها وابتداء معرفة الصناعات، فهي لم تكن إلا بوحي من الله تعالى، ليخلص من ذلك إلى القول أنه “لا بد من إنسان واحد فأكثر، علّمهم الله تعالى ابتداءً كل هذا دون معلم، لكن بوحي حققه عنده، وهذه صفة النبوة، فإذن لابد من نبي أو أنبياء ضرورة فقد صح وجود النبوة والنبي في العالم بلا شك”.

وبعد هذه المقدمة، فإن النبي الذي يرسله الله تعالى إلى البشر، فلا بد له من آيات “معجزات”، يكون مدعاة للتصديق به، وحتى تتميز هذه الآيات عن غيرها من مظاهر السحر وفعل العجائب، لا بد أن تكون معجزات الرسل خاصة بهم، ولا يقدر عليها أحد غيرهم وهي كالتالي:

1- اختراع الجوهر من العدم: كنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.

2- قلب الأعيان وإحالة الطبائع: كقلب العصا حية، وإحياء الموتى.

3- إحالة الأعراض التي لا تزول إلا بفساد حاملها: كسواد الزنجي فهذا لا يقدر عليه أحد دون الله.

4- إحالة الذاتيات: كمن سقى مريضاً شيئا يضره فيبرأ (أي يشفى).

يمكننا الآن القول: إن النبي محمداً عليه الصلاة والسلام هو نبي مرسل من الله، وقد أتى بآيات معجزات مؤيدات لرسالته من الله سبحانه وتعالى، وأنه جاء بأخبار صادقة متمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وأن ذلك تم من خلال الوحي، وأن الله سبحانه وتعالى عصمه كما عصم غيره من الأنبياء في جانب التبليغ مطلقاً فلا يقع منهم خطأ ولا سهو.




الحجاب والمساواة

في الوقت الذي كنّا نتلقى السهام فيه من كلّ جانب، هناك في الداخل السوريّ، حيث لا يمكن لأحد أن يتكهّن من أين ستأتيه الضربة بالضبط كي تصيب في مقتل، وحيث لا يمكن لأحد تخمين نوع السّلاح الموجّه وتأثيره، كنت أتساءل عن الثوابت كيف كان بالإمكان التشبّث بها ضمن كل الظروف القاهرة إلى هذا الحد؟!

في الدراسات النفسية والاجتماعية دلالات واضحة على انحدار القيم وزعزعتها خاصة في وقت الحرب، وكنت أحاول مقارنة الجانب النظري بالواقع، وكان الحجاب من ضمن الثوابت التي شهدت زعزعتها في النفوس، الأمر الذي كان يستدعي التأمل والبحث.

اليوم، وبعد مرور سبع سنوات أثبتت المرأة فيها نفسها بشكل أكبر بكثير عن ذي قبل، وحضرت في كل المجالات حضوراً لم يشهد نظيراً في أية مرحلة سبقت، وأظهرت علماً وعملاً وفاعلية وإبداعاً فلم تحتج إلى دليل كي تثبت للمجتمع أنها مساوية له في التفكير والعقل والقدرة على الإنجاز والتعلّم والتطور، مساوية له في التكليف بما بُني الإسلام عليه من أركان ودعائم، وهي مثله تماماً في كونها مسؤولة أمام الله تعالى على الإهمال والتقصير، ومحاسبة على أخطائها في حقّه وحقّ كل ما جعله تحت رعايتها، فلماذا إذاً لا تتساوى معه في الشكل والهيئة، ولماذا كل هذا التشبّث بقطعة قماش؟ وقد كان السؤال مطروحاً بجلاء: هل الحجاب يحدّ من مساواة الرجل والمرأة؟

يفترض كثير من الناس أن الحجاب في الإسلام كان دافعاً ضد المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة، ويعتبرون الحجاب قيداً كبيراً يحدّ من انطلاق المرأة ونزوعها نحو الحرية، ومعاكسة لحقها في أن تمارس دورها دون قيود في الشكل والمظهر.

وإذا تأملنا في الحقائق من زاوية موضوعية أشمل وأوسع، لوجدنا أن هناك مساواة في التكليف والعبادات والفاعلية والعمل حسب القدرة والاستطاعة لكل منهما، وسنجد مساواة في القدرات سواء كانت ذهنية أو اجتماعية أو نفسية أو علمية، تماماً كما نجد لكل منهما احتياج ومطلب للتعاون مع الآخر، في عملية بناء المجتمع وإصلاحه والرقي به.

المرأة تشترك مع الرجل في كل معنى إنساني أو اجتماعي، أو تربوي أو عقلي، لا يميزه عنها أي شيء ولا يتفوق عنها من تلك المعاني بشيء، ولا تقلّ هي بما تمتلكه من عقل في قيامها بالتكاليف التي أمرها الله بها، ولا بأنها مثله ستحاسب أمام الله على الخطأ والتقصير، وإنما الاختلاف هو في الشكل والتكوين، فقد تميزت المرأة بجمال الفطرة وجاذبيتها، مما يحرك الغرائز ويدفع لاحتياج آخر، فيكون الانجذاب لغة اتصال جديدة تحتاج أيضاً إلى مجرى صحيح ضمن شراكة مشروعة لتصب فيه، الأمر الذي يجعل العلاقة بين الرجل والمرأة تحمل محورين، الأول في صيغة العمل والبناء، والآخر محور الانجذاب الفطري الذي يقود له تكوين المرأة وما تحمله من مفاتن، وفي انجذاب الرجال – على مستويات- لتلك المفاتن، والذي قد يخرج بصيغ سلبية تحمل الامتهان لكرامتها، وقد لا يحمل أية صيغة سلبية، حسب شخصية بناء الرجل وتعامله مع تلك الفتنة، وبالتالي فلا يمكن قياس ذلك ولا الحدّ منه بحال من الأحوال.

ولأن الإسلام قد دعا إلى المشاركة الفعالة بين الرجل والمرأة بما يخدمه ويسهم في ارتقاء الأمة ونهضتها، فقد جعل هناك شروطاً لتلك المشاركة لئلا تتحول عن غايتها ومغزاها، فتنحدر أو تمتهن حق المرأة في التكريم وصون الكرامة، أو تفسح المجال لأصحاب الغرائز غير المنضبطة من إيذائها بكل وسيلة ممكنة.

فكان الحجاب، لأنه الحاجز المنطقي الذي يحول بين تلك الغرائز غير المنضبطة وبين المرأة، فإن التزمت به حالت بينها وبين احتمالية الأذى، ودفعت من يخاطبها أو يتعامل معها إلى مخاطبة عقلها وإنسانيتها، ليكون التعاون والتكامل منضبطاً في أفضل صورة ممكنة.

وهذا بالضبط ما تشير إليه الآية الكريمة في سورة الأحزاب: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين}.

ومن هنا نستطيع أن نتلمس الحكمة الحقيقية من الحجاب، ألا وهي دفع الأذى عن المرأة، والدفع باتجاه تأسيس مجتمع سوي، لا تعدي فيه على الحقوق، ولا امتهان للكرامة، مجتمع مساواة في أعلى المستويات في العلم والعمل والفاعلية الحقة، وانضباط في أعلى المستويات لوضع حد لأية احتمالات ممكنة للتجاوزات السلبية وهذا من أرقى نظم الإنسانية وأعلاها.

هل الحجاب وسام أخلاق؟
كما ذكرنا سابقاً الحجاب هو حاجز للحيلولة دون إثارة الفتن والغرائز، فهو أداة لمنع الأذى أن يصيب المرأة، أو يحرّك السوء في النفوس، فيقع أذى على الصعيدين الفردي والاجتماعي، وبالتالي فليس منطقياً بحال من الأحوال أن نقول بأنه وسام أخلاق وفضيلة لمن ترتديه، تماماً كما هو ليس دلالة انحدار أخلاقي لمن تنزعه، والشّواهد كثيرة بين النساء اللواتي جعلن من الحجاب غطاء لأفعال سوء، أو احتجبن ولم يقف الحجاب حائلاً بينهن وبين سوء أخلاقهن، كما هي كثيرة أيضاً لمحجبات كُنَّ على أعلى مستويات التميز والتقدم العلمي والعملي، فلم يقف الحجاب حائلاً بينهن وبين إثبات أنفسهن والارتقاء بعقولهن لمصلحة أمّة، والأمر هو ذاته لمن لم تحتجب، فما الغاية إذاً من الحجاب مادام لا يركز لفضيلة ولا ينفي رذيلة؟

الغاية هي كما ذكرنا إحاطة المجتمع بضوابط منطقية حكيمة تمنع أحد مسببات وقوع الأذى، وتحمي أفراده، سواء كانت المرأة أو الرجل، تحميهم من مزالق الفتنة ووقوع الفساد.

ولا يمكن لأحد أن ينكر كيف تكون النظرة لامرأة أظهرت مفاتنها، وتوجهت للمجتمع تخاطب فيه الفكر والعقل، كيف يتلقى بعض الذكور خطابها مهما كان علمياً أو عقلياً متوازناً، إنهم في الحقيقة لن يروا فيها سوى تلك الصورة التي أعجبتهم، وحركت فيهم الغريزة، ليلقوا تعليقاتهم عليها جزافاً، وينسفوا كل العلم والعقل الذي خاطبتهم به.

المعادلة واضحة في الإسلام، وهي: هناك حاجة وضرورة مُلحّة على أن تقوم المرأة على دورها المطلوب، وأن تعمل بفاعلية في كل مجال يوافق قدرتها وعلمها وطاقتها، وهناك شراكة على بناء المجتمع ونهضته، تنتظرها كي تتقدم وتثبت نفسها دون تحرج أو تردد، والمطلوب منها في حضورها الفاعل هذا أن تضبط الإيقاع عبر حجاب يصونها من عيونٍ ملوثة وأدمغة لا تعمل إلا باتجاه سلبي، وألا تسمح إلا بأن يخاطب منها العقل والروح، لا أن تخاطب كجسد في ميدان يتطلب الجدية في حمل الهم، والهمة في تحقيقه.

الثوابت في كل مرحلة قد تتزعزع، والمهم كيف نعمل العقل، ونحسن التعامل مع كل ما يحاول هدمها.




التأويل الباطني (القاديانية نموذجا)

هناك الكثير من الفرق الباطنية التي انتسبت للإسلام، وحرفت أحكامه وعقائده، ولعل من أكثرها إيغالاً في التأويل الفرقة القاديانية، وهي من الفرق المعاصرة، فقد ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، واشتدت شوكتها في القرن العشرين، وكانت بداياتها على يد المستعمر الإنجليزي في الهند، فانطلقت على يد الميرزا غلام أحمد، الذي ولد في قرية قاديان التابعة لإقليم البنجاب، وتوفي في مدينة لاهور عام 1908م بعد إصابته بالكوليرا.

كانت لهذه الحركة صلة قوية بالمستعمر الذي عانى من شدة مقاومة المسلمين الهنود، فدعم الإنجليز غلام أحمد وأغروه بإصدار فتاوى لإسقاط الجهاد ضدهم، وذلك بعد أن اختاروه من عائلة قدمت خدمات جليلة سابقا للمحتلين.

التأويل في الباطنية القاديانية

مر الفكر القادياني بعدة مراحل حتى وصل إلى ما هو عليه، حيث بدأ غلام أحمد دعوته بمعاداة النصارى المبشرين، وبمعاداة ونقد الهندوسية، فلما ذاع صيته وتجمع حوله الناس ادعى بأنه ملهم من الله تعالى بالعلم الظاهر والباطن، وهذه الدعوة نجدها واضحة في كتابه “براهين أحمدية”.

ثم ألف غلام أحمد كتاب “فتح الإسلام” وادعى فيه أن عصر نزول المسيح قد حان، وأنه هو المهدي المنتظر الذي ينتظره المسلمون لإنقاذهم من الهوان، وقد صرح بذلك في الكتاب، بل صرح بأنه كليم الله الثاني بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الكليم الثاني خير من الكليم الأول.

ادعى بعد ذلك أنه يوحى إليه من الله، وأن باب الوحي لم يغلق، وأن من قال ذلك فقد أخطأ، وهذه الدعوة نجدها صريحة في كتابي “الدر الثمين” و”نزول المسيح”، بل أورد آيات زعم أنها أوحيت إليه في كتابه “الوحي المقدس”.

وتصرح جماعته على موقعها الإلكتروني باعتقادها بأن غلام أحمد كان يوحى إليه، حيث جاء على الموقع أثناء حديثهم عن إنكار حياة المسيح: “وقد أوحى الله تعالى إلى حضرة المؤسس عليه السلام أن عيسى عليه السلام ليس بحي، بل مات كغيره من الرسل”.

ومما يتأولونه ختم النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمرسلين، فيرون أن كونه خاتم الأنبياء لا يعني أنه لا يأتي بعده نبي أو رسول، وإنما يعني أنه لم يأت ولن يأتي مثله، بخصوصيته، من غير المسلمين، أما إذا وجد في أمته من تنزل عليه الفيوضات الإلهية فمن الممكن أن يكون نبياً مرسلاً، وهذا تحريف للفهم الإسلامي للنبوة وختمها برسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولهم تأويلات أخرى عجيبة يذكرونها على موقعهم الرسمي، ومنها أن الدخان -وهو من علامات للساعة- ليس سوى إشارة إلى ظهور الصناعات الجديدة والمعامل الكبيرة التي ينطلق من أبراجها الدخان الكثير.

والدجال عندهم هو الاستعمار الذي احتل العالم في القرن الماضي، وما زالت بعض الدول تكمل دور الدجال في ذلك من خلال احتلالها للدول والبلدان.

والدابة هي وسائط النقل الحديثة كالطائرات والقطارات والسيارات والبواخر التي حلت بدلاً عن الوسائل القديمة.

والجن هم الفئة الحاكمة للناس من الملوك والرؤساء والأمراء وغيرهم، وسموا بذلك لأنهم يستترون عن أعين الناس في قصورهم ونعيمهم، أو لأنهم يحجبون الناس عنهم ويمنعونهم من الوصول إليهم.

والإسراء والمعراج هما خروج المخلص في آخر الزمان، حيث يبلغ المسلمون مرحلة كبيرة من الجهل، فيرسل الله سبحانه وتعالى لهم من يخلصهم ويخرجهم، ويفسرونها على أنه خروج غلام أحمد، ويسمونها “البعثة الثانية”.

والجنة هي شعور الإنسان بالإيمان، وهي تنبع من باطنه، وليست شيئاً خارجاً عنه.

والجحيم هو شعور الإنسان بالكفر والفسق وخذلان الله تعالى له، ونار جهنم ما هي إلا الهموم والحسرات والآلام التي تأخذ بالقلب.

فهم يرون أن الجنة والنار ليستا ماديتين كما يرى جمهور المسلمين، وإنما منشأهما أمور روحانية نفسية.

مسجد “بيت الفتوح” لجماعة الأحمدية في لندن

تأويل الجهاد

غيّر أحمد القادياني نظرة أتباعه للجهاد، وحرف معناه الذي جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية، وكانت هذه من أجل الخدمات التي قدمت للإنكليز المحتلين.

وقد استخدم غلام أحمد عبارات توافق في ظاهرها ما عليه المسلمون، لكنه كان يسقطها على ما هو مغاير لما هي عليه في الحقيقة، وهذا تحريف للنصوص الشرعية، ولعب بمراداتها المطلوبة عند الفقهاء والعلماء، فهو يصرح أن الجهاد الأكبر لا يكون بالسلاح أبداً، وأننا لا يمكن ان نجاهد خصومنا وأعداءنا إلا بالقرآن وآياته، فاستخدام القوة ممنوع فيما يتعلق بأمور الدين، وحمل السلاح في الإسلام لا يباح إلا لقتال عدو دخل بلاد المسلمين، وأما حماية الدعوة الإسلامية فلا تكون إلا من خلال القرآن، وأن القرآن إنما انتشر بالحكمة وقوة الحجة لا بالسيف.

ميرزا غلام أحمد

وهذا الكلام يبدو جميلاً وموافقاً لعقيدة المسلمين من حيث الظاهر، ولكنه “حق أريد به باطل” فإنه قيل أيام الاحتلال الإنجليزي للهند، وكان يريد من ذلك أن يكف شباب المسلمين عن قتل الجنود الإنجليز الذين يدخلون الأسواق لشراء حاجياتهم، فكلامه جاء خدمة للإنجليز لا تقريراً لأحكام الإسلام.

قال غلام أحمد كما نقلوا عنه في الموقع: “إنه لمن المؤسف، بل من المخجل، أن نصادف إنساناً ليس بيننا وبينه عداوة أو معرفة سابقة، يشتري بعض الحاجيات لأولاده في بعض المحلات أو مشغولاً في بعض أعماله المشروعة الأخرى، فنطلق عليه النار بدون سبب أو مبرر، فنجعل زوجته أرملة وأولاده أيتاماً وبيته مأتماً، في أية آية من القرآن الكريم أو في أي حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ورد مثل هذا الأمر!؟”.

ومراده من ذلك عدم مقاتلة الإنجليز إلا في ساحات المعارك، فمتى تغلبوا وجبت طاعتهم، وهذا الفكر خطير جداً، إذا ما أردنا تطبيقه على الواقع الفلسطيني اليوم، فبناء على عقيدة القاديانية يجب على الفلسطينيين أن يطيعوا أوامر العدو الصهيوني لأنه متغلب.

وصرح بأن مقاتلة الإنجليز لا تكون إلا من خلال القلم والدعاء والفكر، لأنهم لم يمنعوا أحداً من الصلاة والصيام، ولم يغلقوا المساجد، ولم يأمروا النساء بترك الحجاب والعفة، ولم يمنعوا الزكاة والحج!


المراجع:
الموقع الرسمي للأحمدية القاديانية على الشبكة العنكبوتية: www.islamahmadiyya.net

القاديانية، الدكتور عامر النجار، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط: 1، 1425هـ، 2005م.

البيانات الكافية في خطأ وضلال الطائفة الاحمدية القاديانية، الكافي التونسي، طبع في دمشق، مطبعة التوفيق، 1301هـ.




النبوة عند ابن حزم

يرى ابن حزم أن مجيء الرسل ممكن، فواجب، ثم ممتنع، فهو يقع في حدود الإمكان قبل أن يبعثهم الله تعالى، ولكنه ينتقل بعد بعثهم إلى الوجوب والضرورة، وبناء على الخبر الصادق الذي جاء به خاتم الرسل بأنه لا نبي بعده؛ يقع مجيء الرسل بعد ذلك في حد الامتناع.

وفي بداية تناوله لقضية النبوة يستعرض أبرز حجج منكريها التي وصلت إليه، وهي بطبيعة الحال حجج صادرة عن مؤمن بالإله منكر للنبوة، وأبرز حججهم أن إرسال الرسل إلى أقوام قد يكذبونهم من العبث الذي لا يليق بالحكيم، وما يقال عن أن غاية إرسال الرسل إخراج الناس من الضلال إلى الهدى كان الأولى منه اضطرار عقولهم إلى الإيمان وزرع الهداية فيها.

ويرى ابن حزم أن حججهم متهافتة، فإرسال الرسل لا يستلزم محو الكفر والتكذيب، وجمع البشر على طاعة الباري، وكما كذب قوم الرسل، فقد صدقهم أقوام، وكما يقر منكرو بعث الرسل أن وجود الجحود بمشيئة الله، فكذلك إرسال الرسل بمشيئة الله وهي من دلائله التي خلقها ليدل بها على توحيده، كما إن قولهم باضطرار العقول إلى الإيمان مردود، فإرادة الله اقتضت ألا تدع الخلق بعد خلقهم، فإرسال الرسل من مظاهر العناية الربانية بالخلق.

ويؤكد ابن حزم أن أفعال الباري ليست لعلة، بخلاف أفعال جميع الخلق وأنه لا يقال في شيء من أفعاله تعالى أنه فعل كذا لعلة، فليس لأحد أن يقول لم خلق الإنسان ناطقاً وحرم الحمار النطق، وهكذا إذا بعث تعالى الأنبياء ليس لأحد أن يقول لم بعثهم، أو لم بعث هذا الرجل ولم يبعث هذا الآخر، ولا لم بعثهم في هذا الزمان دون غيره من الأزمان، ولا لم بعثهم في هذا المكان دون غيره من الأمكنة، تعالى الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.

فالنبوة تقع في حد الإمكان وهي بعثة قوم قد خصهم الله تعالى بالفضيلة لا لعلة إلا أنه شاء ذلك فعلمهم العلم بدون تعلم ولا تنقل في مراتبه ولا طلب له.

ثم يتحدث ابن حزم عن ضرورة النبوة فالنبوة –وما يرافقها من وحي- هي من الضرورات المعرفية للبشرية لتستقيم حياتها، فالبشر محتاجون للشرائع التي يأتي بها الأنبياء، وحياة البشر لا تستقيم بلا نبوة، والإقرار بوجود الخالق؛ يقتضي الإقرار بالنبوة، ذلك أن بعثة الله للرسل هي بعض دلائله التي خلقها تعالى ليدل بها على المعرفة به تعالى وعلى توحيده.

 وعن ضرورة النبوة للبشرية يمثِّل ابن حزم لذلك بالعلوم والصناعات التي لا يمكن أن يهتدي أحد إليها بطبعه دون تعليم كالطب ومعرفة الطبائع والأمراض وسببها وتنوعها وعلاجها، فحتى تصل الإنسانية إلى معرفة ذلك تحتاج إلى تجارب تستغرق عشرات آلاف السنين، لأن ذلك يتطلب تجريباً واستقراءً لكل حالة وهذا يقطع دونه قواطع الموت والانشغال بشؤون الحياة والممات، ومثل ذلك الكثير من المعارف التي حصلت عليها البشرية، فلا سبيل إلى اختراع هذه المعارف وابتداء معرفتها بدون هداية، فهي لم تكن إلا بوحي من الله تعالى، ليخلص من ذلك إلى القول: أنه لابد من إنسان واحد فأكثر علَّمهم الله تعالى ابتداء كل هذا دون معلم عن طريق الوحي، وهذه وظيفة النبوة، وعليه فلا بد من نبي أو أنبياء بالضرورة . وهو هنا يؤكد أنه يتحدث عن بداية المعرفة وتشكيلها والهداية إليها، وليس تطويرها المتراكم.

وممن استفاد من حجة ابن حزم هذه لاحقا توما الأكويني، حيث أدخلها في علم الإلهيات عند المدرسيّين كما يقول آنخل بالنثيا -مؤلف تاريخ الفكر الأندلسي- وما ساقه ابن حزم عن ضرورة النبوة ومثَّل عليه بمعارف البشر العادية، فهو في أمور الدين الغيبية أشد ضرورة، وأكثر إلحاحاً، فالوحي هو مصدر المعرفة للدنيا ابتداءً، وللدين على الدوام.

وبما أن دعوى النبوة من الدعوات الجريئة، كان لا بدَّ لها من علامات تؤكد صدق مدعي النبوة، وقد أجمل ابن حزم براهين النبوة في أربع وهي:

1- اختراع الجوهر من العدم: كنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.

2- قلب الأعيان وإحالة الطبائع: كقلب العصا حية، وإحياء الموتى.

3- إحالة الأعراض التي لا تزول إلا بفساد حاملها: كسواد الزنجي فهذا لا يقدر عليه أحد دون الله.

4- إحالة الذاتيات: كمن سقى مريضاً ما يضر فيبرء.

 فمن أتى بأحد هذه البراهين، وجب الإيمان به والإقرار بنبوته، وهذه البراهين هي التي دعت اليهود للإقرار بنبوة موسى، وهي التي دعت النصارى للإقرار بنبوة موسى وعيسى، وبمثلها جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فوجب عليهم الإقرار بنبوته كما أقروا بالنبوات قبله.

ويلاحظ هنا أن ابن حزم يولي اهتماماً خاصاً بالمعجزة، فهي دليل على صدق مدعي النبوة وما سيترتب عليها لاحقاً من الخبر الصادق الذي جاء به النبي، ويؤكد ابن حزم أن اليقين بتصديق النبي من خلال المعجزة لمن شاهدها، هو في ميزان العقل كذلك عند من لم يشاهدها، لأنها نقلت بالتواتر ممن استشعرها ببدايات العقول وبدايات معارف النفوس وأقر أنه لا سبيل إلى إنكارها، وقضية اشتراط معاينة المعجزة لمن لم يشاهدها لا معنى له، لأن ذلك يعني أنه لا يصدق المرء إلا ما وقع تحت بصره وهذا مرفوض معرفياً.

ومما يلفت النظر في تأكيد ابن حزم على أهمية المعجزات في دعاوى الأنبياء، أنها رؤية معاكسة للاتجاه الذي سلكه بعض المعاصرين من التقليل من قيمة المعجزات أو تأويلها، ولعل ذلك راجع لسياق الخطاب مع الغرب الليبرالي، والبحث عن استيعاب مكتسبات التقدم والحداثة في خطاب هؤلاء المعاصرين.

ومن الأمور التي يشير لها ابن حزم استحالة أن يأمر نبي اتباعه بعدم الإيمان بنبوة غيره، لأنه بذلك يبطل نبوته، ذلك أن سبب تصديقه والإيمان بنبوته هو ما جاء به من برهان (معجزة)، فلو أمر أتباعه بعدم تصديق من يأتي بذات البرهان (المعجزة) فهذا يعني أنه يدعو لعدم التصديق بالبرهان الذي جاء به هو أيضاً.

ومن الفرضيات التي يسوقها ابن حزم لو أن اليهود استشهدوا مثلاً بحديث «لا نبي بعدي» على أنه لا نبي بعد موسى عليه السلام، ويجيب على هذه الفرضية أن اليهود لم يدعوا ذلك لموسى عليه السلام، لكن النبي الخاتم قال ذلك ومن تمام التصديق بخبره بعد اكتمال براهين نبوته الإقرار بامتناع النبوة بعده، وعليه فلن يظهر برهان من براهين النبوة بعده بوجه من الوجوه، لكن براهين النبوة ظهرت بعد موسى عليه السلام، فوجب على اليهود كما أقروا بنبوة موسى بناء على البراهين التي جاء به أن يقروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه جاء بذات البراهين.

وحديث ابن حزم عن امتناع النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم يذكرني بكلام الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، إذ يقول: آية ختم النبوة صدقتها الأيام المتتابعة فها قد مضت أربعة عشر قرناً وما نزل من السماء وحي. وقد حاول الاستعمار الأوروبي أن يضع يده على مخبول في الهند وآخر في إيران ليصنع منهما أنبياء يكابر بهما نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهيهات هيهات فإن الأوروبيين أنفسهم احتقروا الرجل الذي صنعوه فما تبع أحدهم نبي الهند ولا نبي العجم، وبدأت اللعبة تنكشف ويفر عنها المستغفلون!

المعجزة والكرامة والسحر
العالم من جوهر وعرض، فالجواهر وتغييرها كما في النقاط الأربع السالفة، لا يمكن فعلها إلا بالمعجزة، وأما السحر فيمكنه إما تغيير الأعراض التي لا يفسد حاملها كتنفير الحيوان عن مكان ما فلا يقربه، أو التخييل بنمط من الخداع.

فالذي يأتي به الأنبياء عليهم السلام هو إحالة الذاتيات وهذه لا تثبت إلا لنبي، ولا يمكن لغير الأنبياء سواء كانوا سحرة أو فضلاء إحالة الذاتيات، بمعنى أن ابن حزم ينكر كرامات الأولياء، غير أنه يجيز أن تظهر المعجزة في غير شخص النبي تصديقاً له شريطة أن يكون ذلك في عصره وزمانه وليس بعد موته، كالجذع الذي ظهر فيه الحنين والذراع الذي ظهر فيه النطق والعصا التي ظهرت فيها الحياة وسواء كان الذي ظهرت فيه الآية صالحاً أو فاسقاً وذلك كنحو النور الذي ظهر في سوط الطفيل بن عمرو بن حممه الدوسي وبرهان ذلك أنه لم يظهر فيه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.

فابن حزم يجيز أن تظهر المعجزة في غير نبي لكن في عصره لتكون آية لذلك النبي لكنه لا يجيز ظهورها بعد موت النبي لتكون آية له أيضاً، لما في تلك الدعوى من الإشكال والتلبيس لا سيما أن الله تعالى أخبرنا بأنه قد بين علينا الرشد من الغي.

ويؤوِّل ابن حزم بعض الروايات ومنها قصة الثلاثة الذين حبسوا في الغار، وانفرجت الصخرة ثلثاً ثلثاً عندما ذكروا من أعمالهم بقوله: إن تكسير الصخرة ممكن في كل وقت ولكل أحد بلا إعجاز وما كان هكذا فجائز وقوعه بالدعاء وبغير الدعاء لكن وقع وفاقاً لتمنيه كمن دعا في موت عدوه أو تفريج همه أو بلوغ أمنيته في دنياه، ويسوق ابن حزم قصة حدثه بها حكم بن منذر بن سعيد أن أباه كان في جماعة في سفرة في صحراء فعطشوا وأيقنوا بالهلكة ونزلوا في ظل جبل ينتظرون الموت قال فأسند رأسه إلى حجر ناتئ فتأذى به فقلعه فاندفع الماء العذب من تحته فشربوا وتزودا، ويؤكد ابن حزم أن مثل هذا كثير لكنه ليس من جنس المعجزات.