من تحت الأنقاض أخبركِ “لم أمت بسبب حجابي”

مع تفشي متلازمة المثقف العصري في الأوساط الإعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، برزت الحاجة الملحة لإثارة الجدل والرأي العام، أو محاولة جذب الأنظار، من خلال تصدير أفكار مثيرة للاستغراب أو مستهجنة على الصعيد المجتمعي. ولتحقيق ذلك نرى اتجاهات عدة، تتمثل في مهاجمة أي شيء يمت للدين الإسلامي بصلة، كالتعرض لرمز من رموزه أو قضية جوهرية تتعلق به، فيما يتجه البعض ليظهر بمظهر المثقف الحداثي، لنهج آخر يتعلق بتأييد ما يسمى بـ”الحريات الشخصية” كالترويج لقضايا الميول الجنسية المناقضة والمحاربة للفطرة وخلع الحجاب، ويعمد في ذلك لاستخدام الألفاظ “التلطيفية”، كاستبدال عبارة صريحة بأخرى حمّالة أوجه بدلاً عنها في الترويج للباطل، ومن هذه الدعاوى أيضًا، المناداة بالإنسانية وفصلها عن الدين، وترويج مفاهيم تتعلق بتقديم الإنسانية في السلوكيات والمعاملات على الالتزام الديني، وجعلها الأعلى مرتبة..

توظيف الكارثة

كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريّة، وخلف عشرات آلاف الضحايا والمشردين والجرحى والثكلى والمصابين، كانت مطية أيضاً -أو صيداً ثميناً- لعدد من هؤلاء، ليجدوا من خلالها مدخلاً لمهاجمة الحجاب، فكتبت إحداهن مقالاً بعنوان “في ليلة الزلزال.. متّ بسبب حجابي”، فيما يدرج مهنياً في إطار الصحافة الصفراء.

إنه من المسلمات في عالم الصحافة، وجوب أن يدل العنوان على المحتوى والمضمون، لكن فيما يظهر للعيان بعد الاطلاع أن العنوان والمحتوى لا يمتان لبعضهما بصلة.

دعني أشرح لك بوضوح أكثر أخي القارئ:

جاء في المقال -على لسان إحدى الضحايا التي قضت جراء الزلزال- على سبيل المجاز “في ليلة الزلزال.. مت بسبب حجابي”، وحين عَرَض لي عنوان المقال، أول ما تبادر لذهني إن الحجاب كان السبب في موت هذه السيدة، مما أثار فضولي لأعرف كيف قتل الحجاب المرأة، فقد تخيلت تبعاً للعنوان، أن نساء مُتن أو قُتِلن بسبب كونهن محجبات، وقفزت إلى مخيلتي صورة لنساء محجبات مصفوفات يتعرضن للرصاص على سبيل التخيل..

ولكن المشهد كان على الشكل التالي، رجل يجلس على أطلال منزله منتحبا، يندب حظه ويقول “أنا السبب في موتها.. أنا قلت لها ادخلي واجلبي حجابك”، ليتبين أن السيدة حين دخلت لجلب حجابها انهار عليها السقف وفقدت حياتها.

فهل يصح أن نقول: كان الحجاب سببًا فقدان المرأة لحياتها؟ إذا أرادت المتوفاة الرد من تحت الأنقاض، لصرخت وقالت: لم يقتلني الحجاب ولم يتسبب بموتي.. ربما -بمنطق بشري بحت ستقول-: قضيت لأنني وزوجي لم نقدّر الموقف بشكل سليم من هول المفاجأة.

في أسوأ الأحوال، قد تكون ماتت بسبب انصياعها لأوامر زوجها، وهو ما ستصفه النسويات بأنه المتسلط والذكوري الأحمق وسيئ التقدير.. وحتى في هذا المنطق فإنه حتماً لم يتعمد قتلها، والأهم من ذلك كله أنها ماتت بسبب انقضاء أجلها..

أين الخلل؟

نحن هنا أمام صورتين.. الأولى حين وقع الزلزال وما بعده، وكما الجميع، حينما كنت أتحدث مع أبنائي عن إجراءات النجاة في حال تكرر الزلزال، كان أول ما قاله ابني -غير الملتزم- “حطّي طقم الصلاة قريب منك”، وهنا أشير إلى أن الأعراف المجتمعية، جزء لا يتجزأ من حياتنا، لا لأنها صحيحة بالمطلق، ولكن لأننا اعتدنا فعلها..

أما الصورة الثانية فهي ما ذكرته الصحفية في مقالها، من وجود نساءٍ كثيرات قضين تحت الأنقاض مكشوفات الرأس، لأنهن -من وجهة نظرها-، خفن من الخروج والمثول عاريات أمام الكاميرات والمنقذين.. وهنا أتساءل: أين الخلل في ذلك؟

إن الدين الإسلامي يجعل من نجاة الإنسان بنفسه أولوية شرعية، فالمسألة إذًا لا علاقة لها بالحجاب، أو التستر بموتهن، وبالفعل فإن هناك سيدات سيفضلن الموت تحت الأنقاض على الخروج عاريات، ليس لأنهن يشكلن عاراً على رجالهن على الصعيد المجتمعي، بل لأننا نعرف تماماً أن بعض الإناث سيدات أو فتيات، يتغلب الحياء عليهن، وهي صفة فطرية لا يد لهن فيها، ولا وقت لإعمال عقولهن للتخلص منها ساعة وقوع القضاء، مع احتمال أن يكن غير محجبات وغير مسلمات بالأصل، ومن المحتمل أنهن كن يستحممن وقت الزلزال.

صورة أخرى أغفلتها الصحفية.. ألا يوجد بين القاضين تحت الأنقاض رجل كان عاريا، ففضل عدم الخروج بهذه الصورة، توقعاً منه بأنه ربما ينجو، علماً بأن الزلزال أمر مفاجئ لا يمكن توقعه، وبالتالي لا يمكن توقع ردة الفعل حياله، مع مراعاة الفروق الفردية النفسية والبديهية..

مشهد آخر نقلته الصحفية لطفلة يبدو أنها صغيرة محجبة، عَلِقت هي وأسرتها تحت أنقاض منزلهم المهدم، وكانت الأقرب إلى فتحة النجاة، مما جعل والدها يطلب منها أن تخرج وهي مكشوفة الرأس، لعلها تستطيع إنقاذ أي من أفراد أسرتها، أو على الأقل تنجو بنفسها، وهنا أتحدث بصوت الوالد الذي كان حبيس الأنقاض، والذي صورته الصحفية على أنه ذلك الأب المتوحش الأناني، الذي سمح لفتاته بالخروج من تحت الأنقاض بدون حجاب، قائلا لها إن الله سيسامحها.. وهنا تزعم الكاتبة أن قدسية الحجاب في هذه اللحظة سقطت، وباتت مغفرة الله متاحة، فالوالد منح نفسه سلطة تقديم فتوى تدعم موقفه!..

ما الغريب في ذلك؟

إذا كنا نحن من نؤمن أن الحجاب واجب وفرض على المرأة المسلمة، فيمكنني أن أعيرك منظارنا لدقائق، نعم.. للحجاب قدسية تسقط حين يكون المقابل أن تنقذ عائلتها أو تنجو بنفسها، فالوالد لم يخطئ، فنحن المسلمون، نؤمن بفرضية الحجاب ووجوبه، ولكن في فقهنا الضرورات تبيح المحظورات، فالوالد لم يخطئ في تصرفه، ولم يستغل سلطته الأبوية التي تعتبرها الكاتبة مصدر تلقين الشريعة، والتي أيضا نؤمن نحن بأنها مصدر تلقين الشريعة والأخلاق ومهارات الحياة أيضا، والدها فقط وضح لها أنه يمكنها الخروج وليست مذنبة، فنحن في حياتنا نحتكم لشريعة الإسلام، وهذا لا يعيبنا..

سأستعيد المنظار من الكاتبة.. وأتساءل: هل سمعت بالمثل القائل “اللي استحوا ماتوا”؟. لا بد أنك سمعت به.. ولا بد أنك -بوصفك صحفية متمرسة- تعرفين قصة السيدات اللائي كُنَّ في حمام السوق، حين نشب حريق، وكن عاريات بحكم أنهن في الحمام، وفضلن عدم الخروج عاريات، فقيل: “اللي استحوا ماتوا”، ولم يُقَل “اللي ما لقوا حجابهن ماتوا”، فلم نكن هناك ولم نكن أيضاً تحت الأنقاض والأسقف التي انهارت على هؤلاء السيدات، ولكن ألم يكن ضمن هؤلاء وهؤلاء سيدات ليس لهن رجالٌ.. أرامل.. مطلقات.. ولم يخرجن لا لئلا يحرجن رجالهن، بل لأنهن لا يستطعن تخيل أنفسهن في هذه الصورة..

سأعيرك المنظار مجدداً.. حين تنهار الأسقف على رؤوسنا، لا تمهل الصدمة إحدانا، لتفكر ماذا تفعل وماذا تجلب وبم تنجو، وإنما تتصرف وفقاً لآليات كثيرة وأولويات تختلف من سيدة لأخرى، فليست الأولويات بالنسبة لي ولك واحدة، ستختارين ربما النجاة بنفسك عارية، وسيختار غيرك ربما الخروج نصف عارية، وستختار ثالثة ألا تخرج بدون حجابها، وهنا ليست أداة الاختيار عقولنا، ففي هذه اللحظة كل عقولنا معطلة، نحن فقط نستجيب لأولوياتنا المترسخة داخلنا، والتي تختلف من امرأة لأخرى، ومن رجل لآخر، هذا على اعتبار أن الرجل أيضاً كائن يصنَّف من فئة البشر، ستنتابه الحيرة ولو لحظة، حين يوقن أن السقف سينهار، هل يخرج عارياً أم لا.

على سبيل الختام

للمرة الأخيرة سأعيرك منظاري، لترَي أن الحجاب ليس دوماً إرثاً تقليدياً، مع أنني لا أنكر كونه كذلك عند بعض النساء، وليس وليد سلطة ذكورية -وإن كان ذلك صحيحًا في بعض الحالات-، مع احتمال أن يكون الالتزام به ناتجًا عن ذلك، ولكن الكثير منا يرتبط بمعتقداته ارتباطاً وثيقاً، لا يمكن حلّه، وهو أقوى من السلطة والموروثات، أنتِ فقط يا عزيزتي لا تستطيعين رؤية هؤلاء، ولا تؤمنين بوجودهن، فأنت تختزلين كل صور المحجبات، بالمقهورات اللائي يخضعن لسلطة ذكورية أو موروث تقليدي، فيما أخبرك أنا إحدى المحجبات أن هذا ليس صحيحاً، هذه إحدى زوايا المشهد، وهي الأكثر قصوراً، ولكن هناك زوايا أخرى أنتِ لا تعرفينها ولا تعترفين بوجودها.. الآن.. أعيدي لي منظاري.. وخذي تهيؤاتك وانسحبي من عقولنا.. فعذراً.. لم تمت بسبب حجابها..




بالمنازعات والشبهات .. هكذا يصنعون نسخة أمريكية من الإسلام!

أمام الرغبة العارمة التي تجتاح الغرب لتفريغ الإسلام من مضمونه العقائدي والتشريعيّ؛ كان لا بدّ من ملء الفضاء الرقمي والإعلامي بالمنازعات والشبهات الفكرية لتشويه الإسلام، تحت مسوغات عديدة كالتخلص من عقائد التطرف والتكفير التي تسببت في أحداث الحادي عشر من سبتمبر -برأيهم-، والتي لا يمكن فهم المشروع الغربي دون العودة إليها، فهي نقطة بداية المشروع والاستناد الأساسي في معظم الأعمال غير الأخلاقية الموجهة ضد المسلمين، إلى جانب استغلال ظهور تنظيم الدولة وأعماله الوحشية بوصف هاتين الركيزتين محركا مشروع الإسلام الجديد.

لنفرض أجندات النسوية.. والبقية تأتي!

تأتي النسوية جزءًا مهمًّا من الخطة الغربية، بداية من اتفاقية سيداو التي وقعتها عدة دول عربية منذ التسعينات، وانتهاءً بالتحول الملاحظ في التوجه الإعلامي نحو دعم المرأة وفق مطالبات الحركات النسوية المتطرفة.

إن الباب مفتوح على مصراعيه، والحبر يوزّع مجانًا والورق، والهدف بسيط: امدح النساء ودافع عن عنهن بالمطالبة برفع تكاليف الحياة والدين والأخلاق عنهنّ!

كم هي المرات التي خرجت أصوات من الأزهر تتحدث عن أن المرأة غير مطالبة بخدمة زوجها وأن ما تقوم به ليس إلا تفضّلًا؛ وأصوات أخرى ذهبت أبعد فقالت أن إرضاع المرأة لولدها أمر اختياري، فإن شاءت أرضعت وإن شاءت فلا!

أَبَعْدَ هذا حُمقٌ؟ لا أعتقد! إن اشتعال ملفات كهذه في العالم الإسلامي ليس مصادفة، فالنسوية المدعومة ماليًّا وإعلاميًّا، تنشر أفكارها في كل قطر، عبر قنوات مختلفة طالت المقدس منها، شيوخ لا هم لهم سوى الدفاع عن المرأة وإبراز معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء وتلفيق قصص عن صحابيات تاجرن وأخريات قدن الجيوش، ووصلت الجرأة لدى بعض شيوخ تيار النسوية الجدد إلى الحد الذي جعل القوامة في يد المرأة، ولم يبق إلا أن يقول: إن الرجل الذي يموت وزوجته غاضبة منه سيدخل النار.. ولا عجب أن يخرج علينا أحدهم بنسخة محرفة من القرآن ترضي نزعات النسوية المتطرفة.

المرأة مكرمة في الإسلام هذا لا شك فيه، ولكن هذا لا يعني أنها مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديه، إنما لها ما لها وعليها ما عليها، واليوم وخاصة في مصر نرى أن المرأة طغت وتجبرت، وما عادت كسابق عهدها، بل باتت تنافس الرجال في السرقات والإجرام؛ وتتصدر عنوان الصحف، فحتى وقت قريب كانت الجرائم حكرا على الرجال بما فيهم من طباع، فالله تعالى حين ذكر حد السرقة قال {السارق والسارقة} [المائدة: 38] فبدأ بالرجل لأنه أقدر من المرأة على ارتكاب الجرائم، إلا أن الحاضر يشي بانقلاب الأدوار، وهذا كله -للأسف- ليس سوى جزء مما هو قادم، خاصة أن كثيرات من بناتنا تشبّعن بالفكر النسوي، وكثيرٌ منهن من المنتقبات -عن عادة لا اقتناع- تدافعن عن أفكار التيار الغربي، وكم من زوج وجد نفسه مرميًّا في السجن وقد خلعته زوجته المنقبة الحاملة لكتاب الله تحت مسمّيات كيديّة كتبديد القائمة!

وبسبب اللامبالاة التي يتميز بها المسلمون اليوم تجاه القضايا المصيرية؛ وبسبب قلة الاستثمار في الإعلام ودعم المؤثرين الغيورين على الإسلام، وفسح المجال أمام القوى التغريبية أخشى أننا خسرنا معركة النساء لصالح الغرب، وأننا نعيش الدقائق الأخيرة لقضية الفتاة الطيّعة لربها وأبيها وزوجها، فبسبب وسائل التواصل الاجتماعي باتت في كل بيت نسوية أو على طريقها، حتى لو أدخلها أهلها الجامع وأشربوها ماء زمزم؛ فالتيار الجارف يأخذ في طريقه الكل؛ وبتنا نرى الفتيات أنفسهن يدعمن المشروع النسوي في المنطقة.

مساعٍ مضللة ومفاهيم خاطئة

تعتقد الفتيات أن النسوية تيار أوجد للدفاع عن المرأة، ولا يدركن أنه يتجاوز هذا ليؤسس لمجتمع تسيطر فيه النساء، ويعيد الآلهة الوثنية القديمة -مثل عشتار- إلى الحياة؛ لكن هذا لن يتحقق إلا بالقضاء على الأبوة وعلى الأسرة وعلى الدين، أو نسونة الإسلام، وهذا بالضبط ما يردنه.

فالنسوية قبل كل شيء نظرة فلسفية وثنية، ترى في الدين الحالي وتعاليمه أغلالا تسجن المرأة في سجن الرجل؛ فالنظام الأبوي البطريركي ما هو إلا تمثل لرغبة الدين في استعباد المرأة، والإله كما تراه الأديان السماوية هو تجسد للرجل، بينما تزخر الوثنية بنماذج للمرأة الإله.

دارُ البلديّةِ في مونسترَ حيثَ جرى توقيعُ معاهدةِ سلامِ وستفالْيا. (المصدر ويكيبيديا)

الملاحظ في وسائل التواصل، أنه مع كل موضوع عن النساء والرجال وموقف الإسلام منهما ونظرية الإسلام حول دور المرأة ودور الرجل، تتقافز الفتيات اللاتي يتابعن اليوتيوب ويتفقهن منه؛ ليدافعن عن التيار النسوي، والضرب في كل من يعارضه، وحتى لا بدو الأمر وكأنه ضرب في ثوابت الإسلام، يصرّحن باستفاضة أن الإسلام لم يظلم المرأة بل الفقهاء، وبالتالي يجب تغيير قراءتنا للقرآن والسنة وفق المستحدث من القوانين والرؤى.

في دولنا تتحرّك الجمعيات النسوية وفق هذا الطرح، فحين يتعلق الأمر بفتاة خلعت الحجاب أو تعرضت للتحرش حتى ولو لم تثبت ذلك تقوم قائمتهن، وتبدأ أسطوانة الحجاب لم يكن والفقهاء من فرضه وهلم جرا، وهي نفسها تتغاضى عن الدخول في قضية تتعلق بفتاة تتعرض للمضايقة بسبب حجابها أو التزامها، فهذا ليس ضمن المهام المنوطة بها والتي تتلقى الدعم من أجلها.

يمكن -ببساطة- لمتابعي تحرك النسويات في فلسطين -على سبيل المثال- قراءة تقاريرهن التي تنشَر في بعض الصفحات المناهضة لهن ولاتفاقية سيداو.

القومية بديلاً عن جامعة الإسلام!

يقدّم الغرب فكرة أخرى بإمكانه تعويض الإسلام السياسي، وهي فكرة القومية، وقد لاحظت أن مجموعة من المؤثرين في العالم العربي بدؤوا بالفعل في الترويج لفكرة القومية، وإبعاد المشاهد عن فكرة الاجتماع بالإسلام، وذلك بالنبش في التاريخ وإخراج نماذج دفينة، وإظهار أصحابها شخصيات قومية دافعت عن بلدانها وراياتها لا عن حوزة الإسلام.

أعجب ما سمعته في هذا صدد أن أحمد المنصور الذهبي حاكم الدولة السعدية ما بين 1578-1603، كان رجلًا قوميًّا ومغاربيًّا قحًّا! وهذا الوصف لم أجده أو أقرأ عنه سابقًا، إلا أني وجدت أحد صنّاع المحتوى المرئي في يوتيوب يروّج له، مع أن مسألة القومية وأسماء الدول كما نعرفها اليوم لم تكن معروفة في أوروبا نفسها حتى القرن السابع عشر، فالدولة الحديثة لم تنشأ إلا مع معاهدة “ويستفاليا 1648” التي أنهت حرب الثلاثين سنة 1618-1648، فكيف نتحدث عن رجل في المغرب يدافع عن القومية في القرن السادس عشر، هذا لعمرك جنون! لكن إذا ما أدركنا أن الأمور لا تسير بشكل عشوائي وأن المواضيع لا تطرح اعتباطيا بل وفق أجندة محددة لأغراض واضحة، زال العجب.

إن الرهان الذي يضعونه هو على شباب قومي يرفض مصطلح “الأمة الإسلامية”، وبالتالي سيرفض شعار الإسلام هو الحل أو الإسلام دين شامل.

خاتمة لا بد منها

لا يفهم الغرب أنه لم يكن للأفغاني أن يسمع بأمريكا لولا حروبها الجائرة، ولا يريد أن يفهم المنبطح للغرب أنه لولا الهجوم الأمريكي على العراق لما سمعنا بتنظيم داعش البتّة، فإذا كان هناك إرهاب في بلادنا فإن للصناعة الغربية فيه دورًا كبيرًا، وليس في الإسلام دعوة لتفجير النفس في الأبرياء، وليس فيه أن تقود فيلقا لإبادة قرى بأكملها تعارضك فكريًّا كما حدث في سورية والعراق من قبل دعاة التحضّر والمدنيّة.
الإسلام صاف غير ذي درن، يدعونا ويدعو العالم إلى السلم {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61].

لا يحتاج العالم إلى نسخة مشوهة من الإسلام تصنعه ليبراليّات الغرب وحكوماته، بل يحتاج إلى الإسلام الحقيقي؛ الذي لوّثته أيدي الجهال والطغاة؛ لتتماشى ومآربها الشخصية، فجعلوا منه ما نراه اليوم، وعوضًا الاستثمار في إفساد المسلمين وتحويلهم لمسوخ تتماهى مع الثقافة الاستهلاكية ليتهم استثمروا في جعل البلدان الإسلامية أكثر عدلًا وأقل فساداً، فحينها لن نجد شبابًا يسعى للقتل أو الظلم.

إن الواجب على العالم عوضًا محاربة الإسلام أن يتقبل ثقافته ويفهم رسالته ويتبنّاها، فما نحتاجه هو عالم يجمعنا تحت راية الحقّ جميعًا، لا راية الظلم، ولتكن هناك ندوات تقارب الرؤى وتمحص الأفكار، وتوضح نظرة كل واحد للآخر.

إن الغرب يريد تغيير الإسلام لأنه يريد تعميم شرعه وعقائده على العالم، لكن ألا يريد المشروع الحداثي فرض الرؤية الغربية البشرية على العالم! ولنا أن نتساءل: أيهما أقوم قيلاً، وأكثر كمالاً.. نشر تعاليم الإسلام الروحية والدينية أم إصرار الغرب على نشر ثقافات محاربة الفطرة وفرض أنواع مختلفة من الشذوذ بالقوة.. أو ليس في ذلك تعدّ سافر على الإنسانية الرافضة لهذه الأفعال المناقضة للفطرة؟

اتركونا نعود للإسلام الحقيقي الذي بنى الحضارات العظيمة.. وحينها سيعمّ الخير البشرية.




الحركة النسوية: سجال فكري في ساحات تروم الإصلاح

في زمن بلغت فيه المذاهب الفكرية المادية التي تفسر حاصل ما في هذا الكون كله بالتفسير المادي مبلغًا عظيمًا، وفي ضوء هيمنة النسوية المنبثقة عن الفلسفة المادية في الغرب، واعتلائها مناصب السلطة في محاولة للمساواة بين الرجل والمرأة في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية، تبلورت في العالم العربي والإسلامي بصفة عامة حركات نسوية تتبنى المفاهيم النسوية الغربية وتسعى إلى تطبيق مفاهيمها نهاية القرن التاسع عشر.

طرحت هذه المفاهيم منذ ظهورها مواقف عدة في المجتمعات الإسلامية على اعتبار أن التعاليم الدينية للمسلمين لا تتوافق مع المفاهيم التي تدعو إليها هذه الحركة، فالمؤيد للمرأة والمدافع عن حقوقها والذي يرى أن المرأة مظلومة حاول أن يستقي من الوحي الرباني -القرآن الكريم- ما يدعم موقفه النسوي ويعززه، والمعارض يرى أن هذه الحركة مستوردة تسعى إلى افساد المرأة المسلمة لتخرجها من بيتها إلى مستنقعات الذل والعصيان، من هذا وذاك نشأ السجال الفكري حول قضايا المرأة المسلمة.

ضوابط الخوض في السجال الفكري

أولًا: دعونا نتفق على أن كل من يخوض في هذا الحديث قوله مردود عليه إن صح دليل أقوى من الطرف المخالف له، وبأن كل الأقوال والأفكار التي تم طرحها وصياغتها ليست وحيًا من عند الله تعالى فلا داعي للتعصب وتغليب العواطف.

ثانيًا: نحن لا نناقش الأشخاص، وإنما الأفكار محل حديثنا والخلاف القائم بيننا، لهذا يجب القول: إن تقديس البعض منا للأشخاص على ما هو حق، أقرب طريق إلى التخلف والسقوط بهذه الأمة، واستحضار قاعدة “كل بني آدم خطاء” أقرب طريق للعودة إلى سالف عهدنا وقوة عزمنا وانتشار تعاليم ديننا.

إعمال العقل وحمل اللفظ على حقيقته ومجازه، وراجحه ومرجوحه، وصوابه من غلطه عن طريق النقد البناء الذي غايته الوصول إلى الحقيقة، ثقافة مكتسبة يجب علينا أن نسعى إليها وقد سبقنا لها علماء الإسلام في الرعيل الأول، فهذا الإمام مالك رحمه الله تعالى يقول: “ما وافق مذهبي من الكتاب والسنة فخذوا به وما لا فاضربوا به عرض الحائط”، وقال: “كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر ، وأشار إلى قبر رسول الله ﷺ” [جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 2/32]، وبهذا فإن علماء الأمة ومصلحيها كلهم مجتهدين في أقوالهم منهم المصيب ومنهم المخطئ من أصاب له أجران ومن أخطأ له أجر، ولكل جواد كبوة والحق لا ينفرد به بشر إلا أن يكون رسولًا له العصمة والكمال.

ثالثا: ثمة علماء أجلاء يبحثون في “التأصيل المنهجي لقضايا المرأة” بهدف إبراز المنهج الصحيح الذي جاءت به الشريعة الغراء، وفق مجموعة من الدلائل المستقاة من “القرآن والسنة”، لكن ضغط الواقع وطغيان العولمة، جعل تطبيق هذا التأصيل أمرًا أشبه بالمستحيل، إذ أن النظام العالمي القائم اليوم لا يقبل بأي شيء أصله قائم على تعاليم الدين، ومثال على ذلك، الكلام المستمر والتأصيل الدائم لتطبيق الشريعة في البلدان الإسلامية، إلا أن الواقع يقصي تطبيق الشريعة على الدوام.

فكل من خاض في هذا الموضوع لم يصلوا لمبتغاهم رغم جهدهم الكبير، فهم حملوا أنفسهم على قول الحق والثبات عليه، من غير مداهنة أو تلبيس أو خلط الأبيض بالأسود، للحصول على ذلك اللون الرمادي الذي دائما ما يرضي من غلب عليهم الهوى والذين ربطوا قلوبهم بحب الدنيا وملذاتها.

كما وجب على القارئ أن يستحضر كذلك أن محاولة التنظير التي يخوض فيها هؤلاء المصلحين، قد تصبح فكرة قائمة على أسس واقعية في مستقبل الأيام، وقد نُقِل عن ابن القيم كلامٌ بديع ما أراه يصلح إلا لهذا المقام حيث يقول في كتابه مدارج السالكين: “وقد كان الأولى بنا طيُّ الكلام فيه إلا ما هو اللائق بأفهام بني الزمان وعلومهم ونهاية أقدامهم من المعرفة وضعف عقولهم عن احتماله، غير أنا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها، ومن هو عارف بقدرها.. وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفاً بها فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه”.

فلا تحملنك العاطفة على قول غير الحق، أو اتباع شيخ تحبه على مصلح آخر لا تحبه، وإن وافق كلامه الحق، واستحضر كلام الكاتب إبراهيم البليهي: “إذا بالغت أية أمة في تعظيم فرد واحد من سالف علمائها أو حصرت فهم الحقيقة ببضعة أفراد ممن كان لهم نصيب من التميز أو الشهرة من أبنائها وتوقفت بمعارفها عند إنجازات أولئك الأفذاذ فإنها بذلك تعلن أنها تجهل أصالة النقص البشري الملازم حتى للعظماء المبدعين كما تجهل أن لكل جيل نصيبه من العظمة والإبداع وأن المعرفة الإنسانية عملية تراكمية تنمو باستمرار” [من مقال تقديس الأشخاص أقرب طريق إلى التخلف والسقوط]

إن قضايا المرأة في عصرنا الحالي “في الدول العربية خصوصا” تأخذ الحصة الأكبر من الصراع الفكري القائم بين مختلف الطوائف، وقد استحوذت هذه القضية على عقول المصلحين والمنكرين وكذا المبغضين والناقمين، فحدث السجال، ونشأ الصراع، ومن كل طرف وجهت التهم، فهذا طرف يتهم الآخر بالتحجر والعيش في عصر الخيام وحلب النياق، وآخر متهم بإفسادها وإخراجها من بيتها وحصنها إلى قفص تعيش فيه ذئاب بشرية عطلت عقلها واقتصرت على إعمال غرائزها.

من يخوض في السجال

وبعد أن أثبتنا سابقا المنهج الذي نراه صوابا في طرق التعامل مع صراع الفكرة، وكيف يجب أن ننظر إلى الدليل لا إلى من قال الدليل، وكيف نستقبل الأقوال على أساس أنها قائمة إما على الصحة أو الخطأ. رأيت أن الفرق التي تخوض في التنظير لهذا الموضوع على ثلاثة أقسام سوف أحاول أن أذكرها بشكل موجز من غير تفرع أو توسع في الحديث.

الفرقة الأولى
المنبهرون بالغرب.. وهؤلاء قد قدموا الولاء التام للحضارة الغربية، ويقولون بوجوب اتباع الغرب في كل شيء من أجل تحقيق النهضة، وهم الذين قال فيهم ابن خلدون ” المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب”، وهم أتباع المذهب العلماني والنسوي والليبرالي.. إلخ، وقد يقدم أصحاب هذه الفكرة الغالي والنفيس في سبيل تحقيق طموحات الغرب وإن دعا ذلك إلى زرع جرثومة “الفكرة الخبيثة” في المجتمع الذي تعيش فيه وتأكل من أكل أهله.

هذه الفرقة هي السبب الرئيس في بزوغ الفرق الأخرى، والتي جاءت كرد فعل على الغلو والانحراف الذي تريده هذه الفرقة ذات التبعية الغربية، أو بمسمى آخر الفرقة التي تقدس الغرب في مأكلها ومشربها. فحكمها عند كلا الطرفين ظاهر جلي وانحرافها واضح وضوح الشمس، وهذا من المشترك الذي أجمعت على بطلانه باقي الفرق.

ومن الأفكار التي تدافع عليها هذه الفرقة “النسوية لأنها أساس الموضوع”: جاء في اتفاقية سيداو عدة بنود تهدف إلى التالي: إلغاء الولي في عقد الزواج، المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، إلغاء العدة في الطلاق، منع تعدد الزوجات، السماح للمسلمة بالزواج من الكافر، عدم التمييز بين المرأة والرجل في مجالات العمل، إعطاء الأهلية القانونية للمرأة المماثلة للرجل، إلغاء قوامة الرجل على المرأة…إلخ، ومن هذه البنود التي تم تطبيق أغلبها في الدول العربية نشأ الصراع.

الفرقة الثانية
أحب تسميتها بالوفية للتراث: هذه الفرقة لا تقبل أي شيء أصله غربي، وترفض أن تتكيف مع سير العصر وأهله “السير مع الأفكار الغربية طبعا”، ولا تقبل أن تغير أفكارها أو حتى مزج التراث بالذي قد ينفعها من الحضارة الغربية، فهي لا تبدي للتغيرات الاقتصادية والثورة الصناعية التي غيرت شكل العالم أي اهتمام، إنما فكرتها أن الرجوع إلى الأصل فضيلة، ولا نهضة في شيء جاء من الغرب، فهؤلاء من شدة حبهم لدينهم وتراثهم فضلوا بناء الحاضر بإحياء إرث الماضي.

والأقرب إلى هذا الفكر كلام –”فلان” لا يهمنا تحديد اسم معين بقدر ما يهم أن نتعرف على أفكار الفرقة لهذا فرضا سندعي أننا نتحدث عن شخص معين-، الذي نستشف من كلامه أن غيرته على الدين جعلته يبغض كل قول فيه رائحة من الغرب، طبعا هو لا يحمل النصوص الشرعية على مسايرة قضايا العصر، ومنه نقول إنه يرفض حمل النص على غير ظاهره بسبب مستجدات العصر وتغيراته، وبهذا فهو أقرب إلى تفسير النصوص وفق ما جاء في السنة النبوية من غير أي اجتهاد قد يطرأ بسبب تغير أساليب الحياة، فلو حملت كلامه وذهبت به إلى العصر العباسي أو الأموي غالبا لن تجد مشكلة أو صراع لأن طبيعة الحياة في ذلك الزمان كانت تقبل كلامه.

الفرقة الثالثة
أسميهم “أهل الوسطية والاعتدال” هذه الفرقة تحاول أن تحيي الإرث الحضاري الإسلامي، ولا ترفض فكرة الاستفادة من كل ما هو غربي إن وافق الصواب، ولم يتعارض مع النصوص الشرعية الإسلامية، فكانوا معتدلين في طرحهم حاولوا واجتهدوا في وضع منهج يراعي مستجدات العصر مع الحفاظ على الأساس الديني واعتباره اللبنة الأساس لأي بناء.

ولا نستطيع فهم الوسطية التي تسعى إليها هذه الفرقة بمنأى عن الاستقامة يقول تعالى: “اهدنا الصراط المستقيم” التي تحدد مدى صحة وصواب هذه الوسطية، يقول الرازي في تفسيره لهذه الآية: “إن العلماء بينوا أن في كل خلق من الأخلاق طرفي تفريط وإفراط، وهما مذمومان، والحق هو الوسط، ويتأكد ذلك بقوله تعالى (وكذلك جعلنا كم أمة وسطا) وذلك الوسط هو العدل والصواب، فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مؤمنا مهتديا، أما بعد حصول هذه الحالة فلا بد من معرفة العدل الذي هو الخط المتوسط بين طرفي الافراط والتفريط في الأعمال الشهوانية وفى الأعمال الغضبية وفى كيفية إنفاق المال، فالمؤمن يطلب من الله تعالى أن يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الوسط بين طرفي الافراط والتفريط في كل الأخلاق وفى كل الأعمال”.

ومع أن هذه الفرقة التي يمكن القول إن –”فلان” لا يهمنا تحديد اسم معين بقدر ما يهم أن نتعرف على أفكار الفرقة لهذا فرضا سندعي أننا نتحدث عن شخص معين– يمثلها تحاول أن تضع منهج يصلح للتطبيق عمليا، إلا أنها قد تخطئ في بعض الجوانب، وقد تفسر الكلام على غير ما وضع له، لأنها اختارت الطريق الأصعب وسارت على خيط رفيع يمكن أن تسقط منه في كل حين، والأعين على هذه أقوى لأنها تقوم على رؤية مستقبلية ممنهجة، وكأنها طفل يتعلم السير لا يستعجله ولا يتركه يحاول مرة بعد مرة حتى يجد نفسه في طريق الحياة.
في مسألة القوامة وعمل المرأة التي خاض فيها أصحاب هذه الفرقة كان الميل إلى سير الأحداث العالمية ووضع المرأة في العصر الحالي أقرب، بحيث إن الأدلة التي صاغها أصحاب هذه الفرقة لم تكن قوية بل لا تصلح للاستدلال في بعض المواضع، وكان الأولى أن نرى الصورة من زوايا متعددة، ونقول إن الفكرة التي بسببها نشأة مسألة ضرورة عمل المرأة في العصر الحالي بسبب الظروف المحيطة بها، كان سببها هضم حق الرجل وإقصاءه من ميدان الشغل، والذي نراه اليوم من عزوف الشباب عن الزواج مثلا هو بسبب هذا التداخل حيث أصبح ميدان الشغل 50% من الإناث، و50% من الذكور وفي بعض الأحيان تكون نسبة الإناث أكبر من نسبة الذكور وهذا طبعا ليس أمرًا عاديًّا أو صدفة يمكن أن نغفل عنها، بل هو أمر مدبَّر بليل.. وإنه لا حرج في عمل المرأة لكننا نسأل أنفسنا وإياهم: هل هذا هو الأصل؟

أليس في عمل الرجال اكتفاء ذاتي للمرأة المسلمة؟ أليس من الصواب أن نتحدث عن الموضوع من كل جوانبه من غير إقصاء أو ميل لطرف من الأطراف؟ ألا يجب أن نقول اليوم هل في تحسين دور الرجل تحسين لحياة الأنثى؟ وهل الاهتمام المطلق بقضايا المرأة المسلمة من غير أن نصحب الظروف التي يعيشها الشباب المسلم أمر صواب؟ أم أننا يمكن أن نصلح حياة المرأة بمعزل عن الرجل؟

إن الكثير ممن يخوض في التحليل والتمحيص والتفسير لقضايا المرأة المسلمة، يرى بمنظار ضيق لا يستوعب جميع الزوايا، وهذا التوجه الأحادي جعلنا نقع في مشكلات خطيرة تجمع بين معاناة الرجل والمرأة، والحق أنه لم يكن علينا التفريق بين هذين المركبين لأن الأول يكمل الثاني وسقوط أحدهما يؤدي تلقائيا إلى سقوط الثاني.




بين الشرق والغرب: الحجاب.. هويّةٌ أم غطاء اعتيادي؟

بمناسبة كاليوم العالمي للحجاب، تجد عند تصفحك أيها القارئ الكريم لصفحات الانستغرام والفيسبوك عشرات المنشورات يتذيلها وسم: #الحجاب، أو #حجابي-هويتي وما شابه. لكننا قليلًا أو نادرًا ما نصادف منشورًا لوضعية “البؤس الاجتماعي” التي أصبحت تعانيه المحجبة، أو على الأقل أصبحنا أكثر وعيًا ودرايةً بهذا الأمر الآن سواء ببلاد العرب أو ما وراء البحار!

 مجموعة من الأسئلة المهمة سنحاول أن نسلط عليها الضوء في هذا المقال من قبيل:

ما الأشكال التي يتخذها “البؤس الاجتماعي” السالف الذكر ضد المحجبات سواء في البلدان العربية أو الغربية؟

كيف بإمكانك كمحجبة أن تحاربي تغلغل هذا البؤس إلى داخلك، حتى تتمكني من محاربته وسط المجتمع؟

ما (وضعية المرأة المحجبة في بلاد ….؟) حيث من الممكن أن يذهب عقلك دون أن تشعر ليملأ الفراغ باسم دولة غربية أي كانت! لكن العجيب، أن نتحدث عن موضوع كهذا في بلد من البلدان العربية الإسلامية التي تعترف بسيادة الإسلام على باقي الأديان بين مواطنيها.

من عجائب الزمان

العجيب أن تسمع عن العنصرية تجاه مسلمة محجبة في بلدها وبين إخوانها! يتجلّى ذلك بداية في أوساط العمل التي تعتبر غالبيتها أن قيمة المرأة في “قشرتها الخارجية”، حيث تُستبعد كل مقومات المرأة الفكرية والثقافية والعلمية -والتي يجب أن تكون محور العمل في الأصل- ويتم تركيز الاهتمام على غطاء الرأس الذي تضعه المرأة ساترًا لها، ومن المؤكد أنه لا يهمهم في ذلك أكان حجابًا عن قناعة أو التزام.. كل ما يهمهم أن يبقى هذا الفرض الديني والشعيرة التعبّديّة خارج نطاق العمل، بدون تقديم أسباب أو مبررات لهذا الشرط الإلزامي.

إن تقدير “القشرة الخارجية” الذي ذكرت سابقا، وامتهان المرأة أو اعتبارها كسلعة في أوساط العمل خاصة في الشركات، يظهر منذ الإعلان عن الوظيفة المطلوبة فيما يسمونه بـ (موظفة حسنة المظهر). وهذه الجملة، التي أصبحت عنوان كل لافتة يعرض فيها إعلان لوظيفة شاغرة، يندرج تحت بنودها في كثير من الأحيان -عند بعض الجهات- شرط خلع الحجاب وإدراج القميص المفتوح كلباس رسمي..

وهذه الشروط -بالنسبة للمحجبة خاصة- انتهاكٌ لحقوقها وانعدام في احترام فريضة الله على النساء، وكذا عدم احترام لشخصها كإنسانة حرة بحجابها! ثم إنه انتهاك للأنثى بصفة عامة حيث تقدم لها صورة عن العمل تحت عنوان: “لا يهمنا عقلك ولا دينك ولا أخلاقك، وإنما شكلك وهيئتك الخارجية”، وكأنها بذلك تبيع نفسها وجسدها لا أنّها تستثمر في عقلها و قدراتها!

من جهة أخرى، نسمع بين الفينة والأخرى عن أسماء لأشخاص يبرزون في مجالات معيّنة في حقوق الإنسان، كالدفاع عن حقوق السود في أمريكا؛ فهذه الطائفة التي تعرضت للإقصاء والتهميش وأشكال العنصرية، فالشخص الأسود في درجةٍ سفلى مقارنة بالأبيض، كما أن الأخير -في أزمان ليست بعيدة- كان يحق له أن يأخذ مكان الأول في المواصلات، وأنهما لا يجتمعان في مطعم واحد.

في يومنا هذا، ما زالت سمات العنصرية قائمة، ولكن بشكل “مزخرف”، “حديث”، أو صفه بما تشاء. اليوم، وفي عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما زالت بعض المطاعم والصالات تمنع ولوج المحجبات إلى خدماتها! ومن ذلك نموذجا لشابة مغربية محجبة تعرضت لحادثة مما ذكرت، حيث رفض موظف استقبال في إحدى المطاعم المرموقة دخولها المطعم لأنها ترتدي الحجاب! السؤال الذي قد يقع في ذهن القارئ عند هذه النقطة: ماذا لو لم تكن هذه السيدة مشهورة إعلاميا؟ ماذا لو لم يكن لها متابعون كثر على مواقع التواصل الاجتماعي يدعمون صوتها ويؤيدونها في مجابهة الظلم الذي تعرضت له؟ كم من محجبة تعرضت لنفس الموقف ولم تجد سندًا أو داعمًا لها؟ وهذا ببلاد العرب فقط، فماذا عن نظرة الغرب للحجاب؟

ديمقراطية أم ازدواجية في المعايير؟

قد يكون من البديهي اليوم أن نسمع عن حالات التنمر بسبب لون البشرة أو شكل الوجه أو أي شيء آخر، لكن أن تقع نساءٌ ضحية للتنمر والسخرية والاستهزاء بسبب الحجاب الذي يضعنه على رؤوسهن، في بلدان الديمقراطية وحقوق الإنسان، فهذا مما يثير الغثيان!

لقد أصبح من الطبيعي اليوم في كثيرٍ من تلك البلاد أن تسمع المحجبة قول الناس: “انظروا إليها، إنها تضع غطاء على رأسها”، “إنها لا تمتلك أذنين مثل باقي النساء”، “لقد جاءت الإرهابية”…إلخ، وغيرها من الأقوال المستفزة التي قد تحسبها هراء وافتراء للوهلة الأولى، لكن شهادات لأخوات عايشن وعشن ظروفا كالتي ذكرت تؤكد ما تقدمت بقوله.

في إحدى المقالات التي سبق لي قراءتها بعنوان “المحجبات في ألمانيا ليس لهن آذان”، يكشف الغطاء عمّا تخبئه وسائل الإعلام الغربية من اضطهاد للمسلمات المحجبات على يد الألمان -كمثال فقط-، وتقول الكاتبة في وصف جهل الغرب بحياة المرأة المسلمة: “تفاصيل صغيرة عن امرأة عادية لم تكن لتثير اهتمام أي أحد، لكنها تبدو مثل أخبار الصفحة الأولى عندما تصدر عن امرأة مسلمة”! كما تكشف عن المغالطات والأفكار النمطية التي تعشش في رؤوس الأوروبيين تجاه المحجبات ككون المرأة المسلمة غير جميلة ولا تستعمل مواد التجميل، أو أنها إنسانة “جاهلة” ومضطهدة من قبل الذكور في محيطها.

كما سبق وذكرنا حالات العنصرية في البلدان العربية تجاه المحجبة، فإنها لا تخفى ولا تقل ضررا في بلاد الغرب. وأولها في مراكز العمل، إذ تقابَل الفتاة/المرأة المحجبة في أغلب الحالات -إن لم تكن جميعها- بالتخيير بين حجابها والوظيفة التي قدمت عليها.

ونعود مرة أخرى للمقال آنف الذكر، حيث يعبّر عن حياة كاتبته من واقع تجربتها في ألمانيا، فتقول في ذلك: “يتم رفض الطبيبات والممرضات المحجبات في نفس المشفى الذي يتم فيه قبول عاملات تنظيف محجبات! كل المهن مقدرة ومحترمة طبعا، لكن هذا السلوك العنصري ينبع من فكرة أن الأوروبيين لا يتحملون وجود المحجبات في مهن مرموقة مجتمعيا. ويقبلون تماما بوجودهن في مهن يعتبرونها دونية، لأنها بنظرهم تتناسب مع مكانة المحجبة الدونية”.

 هذه الشهادة ما هي إلا نزر يسير مما يقع، وأغلبه لم يصل إلى أسماعنا وعقولنا إلى الآن إلا ما تم التعبير عنه وإيصاله بصورة واضحة خالية من أي مؤثرات إعلامية، وما خفي أعظم! في حالات كهذه، تنتظر المرأة أن تتلقى الدعم من امرأة مثلها، دعمًا معنويا نفسيا في مقدمته، فإذا بها تُفاجأ بطائفة جديدة تسمي نفسها “النسوية” وتدعي الدفاع عن حقوق النساء وإيصال أصوات المضطهَدات، إلا أن هذه الأصوات ترتفع بما مفاده بأن الحجاب تهميشٌ لعقل المرأة، وتخلُّف ورجعيَّة، ومفتاح الحداثة خلع الحجاب! فلا تجد المحجبات من صوت لإيصال معاناتهنّ سوى أصواتهن أنفسهن.

نصائح على طريق الحلّ

كان من بين العبارات الراسخة في ذهني، تلك التي قالتها ناشطة حقوقية في مظاهرة بألمانيا ضد قرار منع الحجاب بأماكن العمل: “المساواة مع الرجال! نريد أولا أن نحصل على المساواة مع النساء غير المحجبات في أماكن العمل” هنا دائما ما أطرح سؤالا: هل المرأة المحجبة ليست امرأة في نظرهم؟!

استفهام قد يوحي بالسخرية، لكنه مثير للنقاش بحق.

وأخيرًا، كما هو معلوم لدى الجميع، فإن وصف الواقع وصفا مأساويا والحقد على من ساهموا في جعله بهذا الشكل لن يحرّك حجرًا في طريق الإصلاح، ولن يساهم في نقله من المأساوية إلى الوردية أو إلى الأفضل. ولكن ما يهمنا- والمحجبات خصوصًا- هو أن تعملي على نفسك بداية، فبتغييرها تتغير نظرتك لمحيطك. كيف؟

أولًا: اعلمي عزيزتي أن أول من يحتاج أن يصدق ويؤمن بدورك وقيمتك هو أنت؛ فاعترافك وإيمانك بمبادئك وثباتك عليها رسالة إلى من حولك بمدى قوتك الداخلية، وليس الحجاب سوى مثال عن هذه المبادئ.

ثانيًا: لا تكوني عدوة نفسك؛ عندما تقتنعين بدور الضحية وبتجبّر آراء الآخرين عليك، وأن كل من هبَّ ودب بإمكانه التطاول عليك، فأنت قد كسرت أقوى ما فيك واستسلمت لطاغوت البشر الذي هو زائل لا محال.

أخيرًا: أنت لست شكلًا فقط؛ أنت ذات مستقلة عما حولك، وما تلبسينه هو جزء منك ويمثّل هويتك، وخضوعك لأوامر الخالق. تعاملي مع ذاتك على هذا النحو، ولا تحصريها في آراء الآخرين التي ما تنفك تتغير، خاصة حينما ترى ردة فعلك. كل ما في الأمر أن القضية مسألة أفكار؛ فإن اقتنعت بأن الحجاب عائق أمام نجاحك، فستجدينه كذلك، وإن وضعت لنجاحك معاييره الصحيحة، بعيدًا عن مادية المجتمع، فتضعين رضا الله عز وجل في مرتبة الأَولى والأُولى، فستغرسين الرضا بداخلك قبل أن تريه في عيون المحيطين بك.

 جدّدي العهد مع ربك وفي كل لحظة مع نفسك، بأن الحجاب ليس مجرد مظهر نتزين به، هو إيمان وهوية وقوة، وكفى!




المصطلحات.. كلمات مجردة أم وعي

إن للمصطلحات دورًا مهمًّا في تكوين ثقافة المجتمعات وتشكيل العقول، وتحمل في طياتها تاريخ المجتمع وثقافته وموروثاته، فما أهمية إدراك أبعاد هذه المصطلحات؟ وما أهميتها في العلوم التجريبية والنظريات الحديثة خاصة الإنسانية منها، وما قدر الاختلاف الذي قد يحمِلهُ مصطلح واحد إذا تم تفسيره في نطاق ثقافات ومجتمعات متباينة؟ وهل النظريات الحديثة مبنية على مرجعيات دينية وإلحادية؟

سنرد بإذن الله على تلك الأسئلة، ونقطة مهمة سنخرج بها من هذا المقال، وهي: كيف نتعامل مع المصطلحات؟. إن المصطلحات المبهمة الغامضة تُربِكُ الذهن وتُشوش الأفكار، ولأن من البلاغة أن تُبيّن وتُعبِر عن قصدك بالشكل الذي يجعل القارئ أو السامع يتفهّم ما تريد إيضاحه أو قوله، ولأهمية الكلمة ووضوحها يقول الدكتور زكي نجيب محمود  “قد تكون الكلمة واضحة حين تجري في سياقها، لكنك إذا عزلتها وحدها ووضعتها في مخبار التحليل ألفيتها تقاوم وتراوغ، فكأنما اللفظة من هذه الألفاظ كائنٌ حي بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، تنصاع لفهمك إذا جعلتها جزءاً من عبارة، وكأنها وسيلة تتعاون مع غيرها على أداء معنى” (١).

أهمية المصطلح في الثقافة الإسلامية.

أنزل الله عز وجل القرآن بلسان عربي مُبين، حماية له من التأويلات الباطلة، ولقدرة اللغة العربية على توضيح المعاني بطريقة واضحة جازمة و”لأن أهل تلك اللغة أفهم لدقائقها، واصطفى رسوله من أهل تلك اللغة لتتظاهر وسائل الدلالة والفهم، فيكونوا المبلغين مراد الله إلى الأمم” (٢).

وأدان القرآن الكريم محاولات أناس للخداع اللفظي أو تعمد الغموض واللبس ليتسنى لهؤلاء تفسير الكلمات حسب أهوائهم وتحميلها المعاني التي تناسبهم، قال تعالى مخاطباً بني إسرائيل ومن صفاتهم هذا الخداع والخلط، {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]. وقال عنهم: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء: 46]؛ ولأن من الملاحظ أن كثيراً من التفرق والتحزّب الذي يقع في الأمة الإسلامية إنما هو ناشئ عن سوء الفهم والتعامل مع الألفاظ والمصطلحات، ولهذا قد منع العلماء من إطلاق الألفاظ المُبتَدَعة المُجمَلة المُشتبِهة، وإن كان العلماء والمفسرون في الفكر الإسلامي قد كفونا مهمة شرح وتحديد بعض المصطلحات المهمة القرآنية مثل: الجاهلية، الأمة، الحكم، الهجرة، الجهاد، فإن بظهور عصر الترجمة في العصر العباسي الأول، قد أُدخِلَت عبارات ومصطلحات من نتاج ثقافات ولغات أخرى، ومن الأمثلة البارزة في ذلك: أنّ لفظ (العقل) عند اليونانيين القدماء الذين تُرجمت كتبهم، إنما هو مغاير تمامًا لمعناه في القرآن الكريم، فإنهم يعنون بالعقل جوهراً قائماً بنفسه، ولكن في المصطلح القرآني هو إجراء ذهني يساعد على السيطرة والضبط والتحديد وهو عملية رُشد وتمييز بين الهدى والضلال.

فهكذا تتجلى أهمية اللغة والمصطلحات ومعانيها بالنسبة للمسلمين “فقد كان المسلمون أمة المصطلح إبداعاً وتوليداً واشتقاقاً وبياناً، ووصفاً وتدقيقاً، وتأصيلاً وتقعيداً، بصورة مثلت ريادة حضارية في هذا الباب” (٣). فهل يتغير مضمون المصطلح حسب المرجعية الثقافية؟

المصطلح بين ثقافة وأخرى

قل أي جملة شئت، مهما بلغت بساطة مضمونها، ثم انقل هذا المضمون إلى لغة أخرى تجدك قد اضطررت إلى نقص هنا وزيادة هناك مما تقتديه ثقافة تلك اللغة الأخرى” (٤)، ولأن المصطلحات تحمل سمات من صكها، حيث أنه يترك بصمته فيها، فتخضع لفلسفته ورؤيته الوجودية، لهذا وغيره، فإن المصطلحات المتكونة في مجتمع معين وبمرجعية محددة، قد يصعب وجود ما يطابقها في المجتمعات الأخرى، فمثلا مصطلح (العبودية) أو (عبداً لله)،هل يترجم بكلمة (slave) الإنجليزية وهي تعني العبد المملوك، أم نترجمها إلى (servant of God) وهي تعني الخادم لله!، ولكن ليس هذا معنى العبودية في المصطلح القرآني، والتي تعني الخضوع مع المحبة، ولذلك وصف أشرف الخلق بصفة العبودية (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ..).

مصطلحات العلوم التجريبية والأدلجة.

من بين تلك العلوم التي نشأت في العصر الحديث، أي: في وقت الحداثة وما بعدها عندما انتشر الفكر الإلحادي، تم تفسير الظواهر الطبيعية والعلوم عمومًا من مرجعية إلحادية تطورية.

فنجد مثلًا أن الأديان تعتبر وهم صنعه شخص ووضع قواعد لضبط العلاقات بين الناس، وذلك بناءً على كلام داروين عن الأديان وتفسيره لها كونها “فيروس” أو كما فسر كبار الملاحدة أنه وهم لتخدير الناس ليس أكثر..

ونجد في علم النفس التطوري أو علم الأحياء، يتم دراسة سلوكيات الحيوانات؛ ثم تطبق هذا الدراسات على الإنسان، باعتباره حيوان تطور من قرد إلى تلك الحالة التي هو عليها الآن.

وهذا مخالف تمامًا لمفهوم الإنسان والتكريم والخلافة في الأرض بالنسبة للثقافة الإسلامية {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء 70]

ولهذا كانت مشكلة العلوم الإنسانية في فكرنا العربي خاصًة عند المُتَغرِبين أنها مستمدة من الغرب حيث قاموا بنقل ما يسمعون، دون النظر إلى المنطلقات التي تم فهم المصطلح بها، أو حتى تقييم مضمون المصطلح من منطلق ثقافتنا الإسلامية.

اليوم.. ثقافة الغالب واحتلال العقول

يرى ابن خلدون في مقدمته أن “المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”، واليوم أغلب المصطلحات تتركز في وعي الجيل الصاعد بما تحمله من معانٍ غربية، فمصطلحٌ كالأسرة، والذي يشير في ظلال السياق الاجتماعي العربي إلى الأسرة الممتدة من الجد إلى الأب والأحفاد، محكوم بمعاني الترابط والتراحم والشرف، فإنه في سياق المجتمع الغربي لا يعني ذلك وانما يشير إلى المجتمع التعاقدي، الذي ثار على طقوس الكنيسة، وقدم نموذجاً مختلف لإرادة الصراع في المجتمع، من ثم أصبح مفهوم الأسرة هو تعاقد شخصين، وازدادت خطورته في إطارات الاسرة المتعدد (مظاهر الشذوذ الجنسي)، لا يرى فيه أهله حرج، وأصبح يلاقي قبولًا واستحسان في مجتمعاتنا العربية.

ومما يشار له كثيرًا كقاعدة لعلاج هذا الخلل في نقل المصطلحات من لغة إلى أخرى “هي أن يُدرس المصطلح الغربي الذي يشير إلى ظاهرة ما من خلال سياقه الأصلي دراسة جيدة، نعرف مدلولاته معرفة جيدة، ونحاول توليد مصطلح من داخل المعجم العربي بحيث لا يكون ترجمة حرفية، وإنما تسمية للظاهرة من وجهة نظرنا، وقد أدمنّا عملية نقل المصطلحات دون أعمال فكر أو اجتهاد، ودون إدراك للمفاهيم المتحيزة الكامنة”(٥). لأن عملية تقريب مصطلحاتنا هذه إلى المفاهيم الغربية يُعقّد مشكلة النهضة والإصلاح التي نسعى إليها، ويوقعنا في حالة الاستتباع والانبهار. ” ولكن ماهي خطورة استخدام المصطلحات الغربية على شرعتنا وثقافتنا؟

القبول بكل الحواشي

نستطيع اليوم أن نجد تيارات حداثية يمكن أن نُسقط عليها ذلك الكلام، فمصطلح مثل النسوية موجود عندنا في اللغة العربية:

“قال سيبويه في الإضافة إلى نساء: نِسوي، فرده إلى واحدة، وتصغيره نِسوة نُسَية، ويقال: نُسيَّات، وهو تغير الجمع”(6) فإن سلّمنا بأن ذلك المصطلح مضمونه هو نفس مضمون النِسوية الغربية، ثم نأتي ونجعله شعار لرفع الاضطهاد دون النظر إلى ماهية الاضطهاد، وكيف تفسر تلك المظالم والاضطهاد عند من ننقل مصطلحاتهم؟

فالظلم والاضطهاد: هي عدم المساواة بين الجنسين، فانظر كيف تستخدم مصطلح؛ فتتهم الله بأنه ظالم كون الإسلام ليس دين مساواتي؟

ولكي تتجنب النسويات ممن استخدمن المصطلح ذلك الصدام؛ قررن نقل النزاع مع الإسلام إلى نقله إلى المفسرين، باعتبارهم بشر “هم رجال ونحن رجال” وعمل تفسير نسوي بديل للقراءة الذكورية -على وصفهم- وكل ذلك لمحاولة إقحام مضامين الثقافة الغالبة، واختراق هويتنا وثقافتنا، فتدخل علينا كل مضامين النسوية بصبغة دينية يرتضيها المجتمع لكونها غير مصادمة مثل التي تتهم الدين والإله.

“وعلى ذلك؛ فإن التحذير من ضرر استخدام المصطلحات الغريبة على شريعتنا وثقافتنا لا يمثل موقفًا انعزاليًّا أو تقوقعًا وانكفاء على الذات، وبُعدًا عن التفاعل مع العالم من حولنا، وإنما يمثل موقفًا محافظًا على مقومات الأمة وخصائصها ألا تذوب في غيرها؛ فإن تلك المصطلحات محمَّلة بدلالاتها الخاصة بها التي تكونت عبر أجيال عدة، وخبرات متطاولة في بيئة غير إسمية، وهي بالطبع بيئة مناقضة لبيئتنا.. وهي تمثل اعترافًا بعجز ثقافتنا أن يكون لديها المصطلحات الخاصة بها التي تدل على المضمون الذي نريده، ثم إن هذا التصرف سينتهي – ولا بد- إلى قبول المصطلح بكل شروحه وحواشيه”(7)

خلاصة القول

انتهينا بفضل الله من مقالنا، وذكرنا أهمية المصطلح في الثقافة الإسلامية، وكيف يتغير بين ثقافة وأخرى، وتكلمنا عن مصطلحات العلوم والنظريات الحديثة، وكيف أن تلك النظريات منها ما هو مؤدلج، وكيفية احتلال العقول عن طريق المصطلحات وتشكيل الرغبة والوعي، وأن المصطلح دون مراجعة من منطلق وهوية إسلامية؛ حتمًا سيؤخذ بكل ما فيه حتى وإن كان مخالف للشريعة الإسلامية.

والنتيجة أن المصطلح هو المُعبر عن هوية الأمة وذاتها وأصلتها، ومضمون المصطلح لا بد أن يكون متوافق مع الشريعة الإسلامية، بدون زيادة أو نقصان، فما يتفق عليه أصحاب الفكر المتعلمن، وعلماء  العلوم الحديثة وإن تقاطع مع مضمون مصطلح لنا؛ لا يعني ذلك أن يكون المصطلح الغربي استخدامه مناسب لنا لأن تقاطع المضمون ليس حُجة على أن المصطلح متوافق مع هويتنا، إلا عندما تنظر إلى باقي المضامين وتراجع المصطلح انطلاقًا من مرجعية الوحي، فإن كان متوافق لا إشكال، وإن كان غير متوافق، فلا يصح استخدامه لما يتضمن من معاني باطلة ويمكن أن تكون مُبدّلة لدين الله وشريعته.

“فمن الواضح أن المتغربين قد انخرطوا في نفس المسار الذي سار عليه علم الاجتماع في الغرب من جهة بحوثه حول الدين، وهو إطار مشبع – في الغرب – بالعلمنة والالحاد والرؤية المادية، ولم ينجح العرب المتغربون في الانفكاك عنه، فظهرت بحوثهم حول الدين متأثرة بذلك الإطار؛ فحولوا الدين إلى ظاهرة اجتماعية، واستبعدوا الجانب الإلهي، وجعلوا بعض البدع وسيلة لتعميم أحكامهم السقيمة على دين الإسلام…فمع الداروينيين يكون أصل الدين راجعًا إلى الطبيعة والمادة، ومع المغتربين من علم النفس مصدره لا شعوري، ومع المغتربين في علم الاجتماع؛ يكون مصدره المجتمع، وغفلوا أو تغافلوا عن الفرق بين الدين الحق وأديان الباطل”(8)


المراجع

(١) ثقافتنا في مواجهة العصر /١٩٢

(٢) التحرير والتنوير ١٦١/١٠

(٣) الأستاذ هيثم زعفان: كتاب المصطلحات الوافدة وأثرها على الهوية الإسلامية.

(٤) في حياتنا العقلية /١٣٢

(٥) دكتور عبد الوهاب المسيري: حوارات ٣٥٠/١

(6)  لسان العرب لاين منظور الإفريقي ج15/ص321

(7) محمد بن شاكر الشريف، دعوة إلى تأصيل المصطلحات السياسية، مجلة البيان، السنة العشرون، العدد 213، جمادى الأولى 1426 ه . يونيو.

(8) خاتمة كتاب النظريات العلمية الحديثة – حسن الأسمري




ماذا لو كان في كل امرأة (خديجة)؟

لطالما راودني هذا السؤال، -خاصة في الآونة الأخيرة- كون أنّ الحرب على الفطرة قد حمي وطيسها، أتأمّل في صفاء الفطرة وكدر المطروح عليها من أعدائها، كيف يمكنُ للقذارة أن تنال من الصفاء؟!

إنّه أمر محزن للغاية، أن يعودوا ليقفوا بالمرأة على أعتاب الجاهلية، كيف تهانُ كرامة مَن أكرمها الله من فوق سبع سماوات؟! أم كيف يستطيعون غسيل دماغ البعض منهنّ، حتى تحمل إحداهنّ راية ممزّقة مطالبة بما لم تفقهه روحها اللاهثة وراء السراب!

إذن أعود لسؤالي.. ماذا لو كان في كلّ امرأة (خديجة)؟

امرأة قلّ مثيلها

إنّ الأمر الأوّل الذي ينبغي الوقوف عنده عندما نناقش شخصية السيدة خديجة رضي الله عنها، هو أنّها كانت شخصيّة فريدة قبل الإسلام، يعني في (الجاهلية) كان نسيج السيدة خديجة نسيجاً سويّاً فريداً، لأنّ الأصالة والتربية إنّما هي أمور مفصليّة، لذلك كثيراً ما نقرأ في السيرة النبوية عن أولئك الذين كانوا يقومون بحضور حلف الفضول لنصرة الضعيف، تلك كانت أخلاق النبلاء، بعيداً عن العقيدة وقبل نزولها.

فإن قالت إحداهنّ الآن: إنّنا صدّعنا رؤوسهنّ بالشريعة وحدودها الجميلة، فها نحن لم نبدأ بعد وإنما طرحنا نقاء الفطرة ونبل الخصال قبل نزول الوحي.

السيدة خديجة كانت تاجرة لها اسمها ولها بصمتها في الحياة، ورغم قوّة شخصيتها إلا أنها كانت تبحث عن شخص أمين قويّ يقوم بأعباء التجارة والانتقال، وهذا الشخص كان سيد الخلق محمد ﷺ. وهنا يتبادر سؤال استشكالي: لماذا لم ترفع السيدة خديجة شعار (المرأة القوية المستقلة) strong independent woman؟  ولماذا لم تقم بتأسيس رابطة نسويّة للقيام بأعباء التجارة؟

الجواب الوحيد أنها كانت صادقة مع نفسها ومع التكوين النفسي الذي جبل الله تعالى الأنثى عليه. بعد زواجها من رسول الله ﷺ، وغياب رسول الله ﷺ الليالي ذوات العدد وهو يتحنّث في غار حراء، لم تشكُ يوماً، بل كانت سنداً تأخذ الزاد وتقطع الطريق الوعر كي تعطيه لسيّد الخلق. فلا عجب أنّ كتفها كان الملاذ الآمن لسيد الخلق حين رأى الوحي لأوّل مرّة، إذ إنه لم يذهب إلى صديق ولم يطلب المساعدة من أي رجل، وإنّما لاذ إلى الركن الحاني، إلى زوجته خديجة رضي الله عنها.

روح الكلام ويقين الفعل

في رجفة التعب، كان الجواب الحكيم وبثّ الاطمئنان (كَلَّا والله لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ). [أخرجه البخاري في صحيحه] ولم تكتفِ رضي الله عنها بالجانب الكلامي، بل بادرت إلى الاحتواء العملي ورافقته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ليقصّ النبيّ ﷺ عليه الخبر. لو رفعت السيدة خديجة ذاك الشعار لكان منحى الأحداث اتخذ شكلاً آخر، أوّله أنّ القارئ للسيرة النبوية لن يشعر بسكينة ودفء بنيان الأسرة عند قراءة موقف كهذا، وآخره ليس أقلّ شدّة من أوّله.

تلك رحلة لم يكن هذا الموقف الوحيد فيها، بل كانت سلسلة من المواقف الناصعة التي تركت في قلب رسول الله ﷺ بصمة خير، إذ أنّ سيدنا محمّد ﷺ لم يكن ينسى من أحبّوه، ولا يتجاهل من اعتنوا به وآزروه، فكان يتعاهد بإرسال العطاء صديقاتها ويكرمهنّ، وكان أن بشّر الله تعالى السيدة خديجة ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي بِثَلاَثِ سِنِينَ لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهْدِيهَا إِلَى خَلاَئِلِهَا ) [أخرجه مسلم في الصحيح برقم 2435]

في القرن الواحد والعشرين .. ماذا لو تأسّيتُ بالسيدة خديجة ثمّ ظُلِمت!

كوني خديجة، يَفِضِ الله تعالى على الطرف الآخر بالنفحات الإيمانية والقدوة بالسيرة المحمدية..

وهنا يحضرنا أمر هام، وهو أنّ الشخص السويّ نفسياً هو من يقدّرُ خديجة التي في داخلك، إذ لا يقيّم الذهبَ ميزان بائع الفحم. ولا يعني توقّع الأسوأ أن نهجر القيم، ولا يعني هبوب عاصفة ما أن نحكم على جميع الفصول بالقسوة.

حقيقةً هذا ما يحدث، إنهم يحيلون الفصول إلى فصل قاتم يقومون بهندسته وفقاً لأمزجتهم وأجنداتهم، فإن قبلت روحكِ العيش في هذا الفصل، فلا تقومي بالشكوى من الهلع والفزع فيما بعد، وهذا ما سيحدث.

ولكن: ماذا عن الابتلاء؟ ألا يمكن أن أتشبّه بخديجة وأجد أمامي من يشبه أبا لهب؟!

في الحياة كلّ الخيارات مطروحة، لأن الابتلاء سنّة من سنن الحياة، فممكنٌ جداً أن تكوني خديجية الخطوات وتجدي أمامك لهبيّ التصرفات. ومن الممكن أيضاً أن يكون أحد ما محمّدي الخطوات ويجد أمامه امرأة سوء تشبه امرأة لوط.

إلا أننا نسأل الله العافية..

الحياة فيها الكثير من الخيارات والكثير من الطرق، ولا سيما عندما تتعلّق بالعلاقات الإنسانية، وكلّ حالة ولها علاجها الخاص، وكلّ مشكلة ولها أسبابها ونتائجها. ولكنّ تخلّيك عن فطرتك تحت داعي الخوف من الظلم ظلمٌ لنفسك في الدرجة الأولى، وتخليك عن فطرتك تحت داعي اقتناص دور لم تُخلقي له، جهلٌ بتكوينك النفسي.

فاستمسكي بتكريم الله لك ما استطعت وعضّي على ما حباك به الإسلام من مكرمات بالنواجذ، وقاومي ارتفاع موج الفتن التي تقوّض بنيان روحك، وإلا صدقيني لن يغرَق أحدٌ إلاكِ.




مفهوم النسوية المتأسلمة والأصول المنسوخة

انتشرت النسوية المتأسلمة كبديلٍ حداثيٍّ ليبراليٍّ غير مصادم؛ فوجدت قبولًا عن النّسوية الراديكاليّة كونها إقصائيّة مصادمة، وأصبحت سلّمًا لنشر الإلحاد النّسويّ، واستهدفت النّساء في الصّفّ الإسلاميّ بشكلٍ دائم.

فما هي النّسويّة المتأسلمة؟ وما صلتها بالنّسويّة الغربيّة؟ وهل نجحت في الانطلاق من رؤية إسلاميّة واضحة، والانتهاء لنتيجة تعبّر عنها كما فعلت نظيرتها الغربيّة؟ سيكون محور المقال الإجابة عن هذه الأسئلة بإذن الله.

بين شرعة الله ونهج من سواه

خلقنا الله ﷻ، وأودع في نفوسنا أسرارًا لا يعلمها إلّا هو، ثمّ أنزل إلينا شريعةً تنظّم جميع علاقاتنا على اختلافها تنظيمًا دقيقًا شاملًا، وبما يتناسب مع أسرار وخبايا نفوسنا؛ قال -تعالى-: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.

فعلاقتنا به -سبحانه- تخضع لأصولٍ بيّنتها الشّريعة بوضوح، كما علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالكون والحياة؛ فمن اتّبع هدى الله وصل إلى العلاقة الأجمل والأشمل مع خالقه ﷻ، ومع أخيه الإنسان، ومع الكون والحياة؛ ففاز فوزًا عظيمًا في الدّنيا والآخرة. لكنّ الله ﷻ إذ خلق لنا الطّريقين؛ طريق الخير، وطريق الشرّ؛ ليميز الخبيث من الطّيّب، سلك من أعرض عن ذكره طريق الشرّ؛ فسعى حينًا لوضع قوانين جديدة تحكم علاقاته ظانًّا بجهله أنّها تحقّق له السّعادة المنشودة، وحينًا آخر تخفّى بالاستدلال بشرع الله استدلالًا خاطئًا يتناسب مع أهوائه، وقرأ النّصّ قراءة فلسفيّة؛ ليخرج بها بقوانين جديدة تنظّم علاقاته على اختلافها، بما فيها علاقته بأخيه الإنسان، لا سيما علاقته بالجنس الآخر؛ فظهرت لنا ما تسمّى بـ (النّسويّة المتأسلمة).

النّسويّة المتأسلمة .. سؤال المفهوم

تتعدّد تعريفات النّسويّة المتأسلمة وفقًا لتصوّرات المنتمين لها، وتعدّد الأيديولوجيّات التي يتبنونها، وقد قامت د. إيمان العسيري في كتابها (النّسويّة الإسلاميّة وصلتها بالفكر النّسوي الغربي) بضمّ المعاني التي أقرّوها في تعريفاتهم في تعريفٍ جامع، عرّفت فيه النّسويّة المتأسلمة على أنّها: “كلّ فكرة انطلقت من اعتقاد مبناه أنّ التّمييز بين الجنسين ظاهرة تسود المجتمع المسلم، فمنهم من عدّ النصّ الدّينيّ قائمًا على التّمييز، ومنهم من عدّ التّمييز طارئًا على النّص الدّينيّ؛ أسقط عليه من خلال علماء الإسلام الذين بيّنوه على نحو ما أرادوا هم لا على نحو ما أراده الله ورسوله”.

والنّاظر إلى التّعريف السّابق يرى فيه اتّجاهين؛ واحدٌ رافضٌ للنّصّ، وآخر مؤوّلٌ له، لكنّ الأوّل -الرّافض للنّصّ- قد خبا صوته، واختبأ في عباءة الثاني -المؤوّل للنّصّ-؛ وذلك لرفض المجتمع المسلم للاعتداء على حروف النّص، وهو ما عدّه أهل الإسلام ردّة صريحة، فنتاج ذلك كان التزام الاتّجاه الثاني، واعتماد القراءة التأويليّة بديلًا عن الرّفض القاطع فكيف قرأت النّسويّة المتأسلمة النّصّ؟ وعلى أيّ الأصول اعتمدت؟

أصول النّسويّة المتأسلمة

قدّمت النّسويّة المتأسلمة قراءة جديدة تأويليّة للنّصّ بناءً على أصول عدّة، أهمّها:

1- الزّعم بأنّ النّصّ تمّت قراءته قراءة لغويّة ذكوريّة (بالاستناد إلى علم الفيلولوجيا).

2- الزّعم بأنّ النّصّ تمّ تأويله ذكوريًّا (بالاستناد إلى علم الهرمنوطيقيا).

3- الزّعم بأنّ النّصّ قد تشكّل تفسيره في بيئة تاريخيّة معيّنة. (بالاستناد إلى التّاريخانيّة).

4- الزّعم بأنّ النّصّ لا يمكن فهمه إلّا من خلال المنهجيّة التّفكيكيّة التي تعطي أولويّة لقارئ النّص لا قائله (بالاستناد إلى التّفكيكيّة).

وبما أنّها تلتقي جميعًا في ذات الخطّ؛ حيث تعتمد على النّتاج الفكري كمرجعيّة لحلّ قضايا المرأة، وتحرّر نفسها من الشّريعة، فسنكتفي ببيان أوّل أصلٍ منها، وهو علم الفيلولوجيا.

فقه اللغة (علم الفيلولوجيا)

اعتماد النّسويّة المتأسلمة على علم الفيلولوجيا (فقه اللغة) كأصلٍ لدراسة التّراث الفقهيّ، وفهم معاني النّصّ فهمًا حداثيًّا؛ جاء بناء على زعمٍ منها أنّ اللفظ في العصور السّابقة كان يؤوّل تبعًا لظروف الزّمان والمكان، وبناءً عليه فإنّ ألفاظ الشّريعة التي اعتنت بجسد المرأة، وحفظته من الامتهان هي خاصّة معنًى بالزمان والمكان اللذين فهمت فيهما.

أمّا في زماننا هذا؛ فتفسير اللفظ بذات المعنى يعدّ سلبًا لإرادة المرأة الحرّة، وتكريسًا لتفوّق الرّجل عليها، وفرض سيطرته الأبويّة.

وهو ما يدحضه النّصّ القرآنيّ حين كرّم المرأة، وجعلها متساوية مع الرّجل في جوانب (كالجانب الإنسانيّ، والمعيار الأخرويّ) رغم اختلافهما في جوانب أخرى (كالقوامة، والطّاعة، والقوّة).

وكأمثلة على جوانب المساواة: أن جعل الله أساس التّفاضل بينهما العمل الصّالح؛ كما في قوله -تعالى-: {يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم مّن ذكرٍ وأنثىٰ وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا ۚ إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم ۚ إنّ اللّه عليمٌ خبيرٌ } [الحجرات: 13]، كما دحضه الفقهاء حين أقرّوا الأحكام الشّرعيّة التي تماثل فيها المرأة الرّجل في أصل التّكليف، وشروطه، وأحكامه؛ كما في أبواب: الصّلاة، والزّكاة، …، إلخ.

والسؤال الآن: لماذا تطالب النّسوية المتأسلمة بالمساواة بشكل كامل؛ رغم أنّ الجوانب الإنسانيّة والمعيار المهمّ هو الآخرة؟ ولماذا تضخّم جوانب المساواة عندما يتمّ الحديث عن جوانب الاختلاف؟ وما المرجعيّة والتّصور الذي يجعلها ترى جوانب الاختلاف قمعًا واضطهادًا؟

النّسويّة المتأسلمة ومرجعيّتها الغربيّة .. هل من فروق؟

النّاظر للنّسويّة المتأسلمة ونظيرتها الغربيّة يجد أن لا فرق جوهريّ بينهما، ولا سواء! فهما يتّفقان في المبدأ، ويختلفان في آليّات التّطبيق. فكلاهما ينطلق من مرجعيّة واحدة هي: ما نصّت عليه المؤتمرات الدّوليّة من توصيات بعدم طغيان العمل بالشّريعة الإسلاميّة على معاهدة حقوق المرأة الدّوليّة المسمّاة (سيداو).

وفي حين تركّز النّسويّة الغربيّة اهتمامها على المرجعيّات الغربيّة؛ تركّز نظيرتها المتأسلمة على الأحكام الإسلاميّة، ونصوص الشّريعة؛ فهي وإن لم تظهر العداء للنّصّ الشّرعيّ صراحةً؛ لكنّ مادّيتها ومرجعيّتها العلمانيّة تظهر جليّةً في تأويلها للنّصّ؛ فهي إذن لا يغيب عنها الحقّ، وإنّما تغيّبه بشكلٍ متعمّد!
فهل وصلت النّسويّة المتأسلمة إلى ما طمحت إليه؟

إلى جانب ذلك حين وجد العلمانيّون رفضًا من المجتمع المسلم للنّسويّة، وما تتبنّاه من أفكار محاربة للإسلام، داعية لتحرير المرأة من أوامر ومبادئ كفلت لها كرامتها، وكفتها أمر دنياها؛ لتتطلّع لأمر آخرتها؛ بحثوا عن أرضيّة مشتركة للنّسويّة والدّين؛ بحيث تحقّق أهداف النّسويّة، ولا تتعارض مع الدّين بشكل واضح؛ فكانت النّسويّة المتأسلمة! فهل خدعتنا النّسويّة الغربيّة المتخفيّة اصطلاحًا بالمتأسلمة؟

وممّا لا ينكره عاقل أنّ لابس ثوب الإسلام المحارب له خفيةً أخطر على الإسلام من المحارب العلمانيّ ذي العداء الظاهر للعيان!

فإن أردت نظرةً موضوعيّةً إلى ما حقّقته النّسويّة المتأسلمة؛ فهاك حقيقةً لا يجوز تجاوزها؛ إنّ النّسويّة المتأسلمة على الرّغم من خروجها عن حدود المرجعيّة الإسلاميّة إلى حدود المرجعيّة النّسويّة -بما فيها من مادّيّة وفلسفات بعيدة كلّ البعد عن الإسلام- إلّا أنّها قد توغّلت في المجتمع المسلم بشكل يدعو للقلق؛ إذ دخلته بلسانٍ عربيّ، وأقلامٍ مسلمة -ظاهريًّا-؛ فكان لها ما سألت!

فهل خدع التيّار النّسويّ المتأسلم المرأة المسلمة؟

شقائق الرجال

تأتي أسماء بنت يزيد ابنة عمّ معاذ بن جبل -رضي الله عنهما وأرضاهما- إلى رسول الله -ﷺ-، فتقول: يا رسول الله، إنّني رسول من ورائي من نساء المسلمين، كلّهن يقلن بقولي، وهنّ على مثل رأيي، إنّ الله بعثك إلى الرجال والنّساء، فآمنّا بك واتّبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدرات، قواعد بيوت، ومواضع شهوات الرّجال، وحاملات أولادهم، وإنّ الرّجال فضّلوا بالجمعات – أي صلاة الجمعة-، وحضور الجنازات، والجهاد في سبيل الله، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربّينا أولادهم، أنشاركهم في الأجر؟

التفت الرسول -ﷺ- إلى صحابته الكرام -رضي الله عنهم-، وسألهم” :هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالًا عن دينها من هذه”؟

قالوا: لا يا رسول الله.

فقال -ﷺ-: “انصرفي يا أسماء، وأعلمي من وراءك من النّساء أنّ حسن تبعّل إحداكنّ لزوجها وطلبها لمرضاته، واتّباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرّجال”  فانصرفت أسماء وهي تهلّل وتكبّر؛ فرحًا وبشرًا بما قال نبيّنا الكريم -ﷺ-.

تلك الفصيحة الحكيمة صاحبة حسن البيان، لم تكتف بذلك؛ بل كانت طوال حياتها من المجاهدات في سبيل الله بالكلمة وبالنّفس!

فتتردّد على بيوت زوجات النبيّ -ﷺ-؛ تتعلّم دينها، وتعلّمه للمسلمات.

كما شهدت فتح مكّة، وخيبر، واليرموك؛ فكانت تسقي العطشى، وتداوي الجرحى، وتحثّ على القتال؛ بينما قتلت في معركة اليرموك تسعة من جنود الرّوم بعمود خيمتها![1]

خاتمة

قمنا بفضل الله بمعرفة مفهوم النّسوية المتأسلمة، والفرق بينها وبين الرّاديكاليّة، ولماذا لقيت كل هذا القبول المجتمعي عن نظيرتها الإقصائيّة، كما عرفنا شدّة خطرها على المجتمع لا سيما على النّساء في الصّفّ الإسلاميّ، وتعرّفنا إلى الأصول الغربيّة التي تستند عليها في إعادة قراءة النّصّ، وشرحنا أصل من أهمّ تلك الأصول، ووضّحنا المرجعيّة.

ونستشهد بكلام د. إيمان في خاتمة المقال: “التّوفيق بين النّسويّة والإسلام -الذي يسمى بالنّسوية الإسلاميّة- من خلال مسميّات مراجعة الفقه الإسلاميّ/ وإعادة قراءة النّصّ الدّينيّ وغيره منهجٌ لم يخلص دينه لله، وشابته شائبة نفاق، قال الله -تعالى-:  {وإذا قيل لهم تعالوا إلىٰ ما أنزل اللّه وإلى الرّسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودًا *فكيف إذا أصابتهم مّصيبةٌ بما قدّمت أيديهم ثمّ جاءوك يحلفون باللّه إن أردنا إلّا إحسانًا وتوفيقًا} [النساء: 62] إنّ المرجعيّة النّهائيّة التي يرجع إليها المسلم هي: {ما أنزل الله وإلى الرّسول}؛ والمرجعيّة النّهائيّة التي ترجع إليها النّسوية هي: طاغوت الحريّة المطلقة المنفلتة الذي أمروا أن يكفروا به. وربّما استغلّت النّسويّة الإسلاميّة بعض أحكام القرآن والسنة التي جاءت في سياق تكريم المرأة؛ ولكن: مهما حصل من التقاء في بعض النّقاط في هذين الطّريقين إلّا أنّ لكلّ طريق غايته، وأصوله، ومعالمه التي يتميّز بها عن الطّريق الآخر، والتّوفيق بينهما منهج نفاق، {إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا}”. [النسوية الإسلامية]

وفي أيّامنا هذه التي يريدون فيها تحرير الحرّة، وسلبها حقوقها التي حفظها لها الإسلام؛ بالمطالبة بمطامعهم فيها؛ تلك المطامع التي تتمثّل في تسليع المرأة، وجعلها كيانًا مستقلًّا عن الوليّ؛ لتكون لقمةً سائغة لذيذة في أفواههم؛  تذكّري أختي المسلمة امرأة ذهبت لنبيّها الذي أوتي جوامع الكلم؛ تسأل بأدبٍ وفصاحة جمّة عمّا لها في الإسلام من جزاء مقابل ما التزمت به ممّا بايعت عليه الرسول -ﷺ- يوم آمنت به؛ فيصفها الذي أوتي جوامع الكلم بأنّه لا امرأة أتت بأحسن من مقالها!

 فالتزامك بأمر ربّك هو الفارق لا جسدك!  فلا تنخدعي؛ وأنت شقيقة الرّجل! وأنّى لهم أن يحرّروك وأنت الحرّة؟


مصدر للاستزادة:

 النسوية الإسلامية وصلتها بالفكر النسوي الغربي – د. إيمان بنت محمد العسيري

[1] عن محمّد بن مهاجرٍ، وعمرو بن مهاجرٍ، عن أبيهما: أنّ أسماء بنت يزيد بن السّكن بنت عمّ معاذ بن جبلٍ قتلت يوم اليرموك تسعةً من الرّوم بعمود فسطاطها.(رواه سعيد بن منصور في سننه، والطبراني في (المعجم الكبير)، (وحسّنه الألباني).




النسوية المتأسلمة بين الأصالة والتبعية

إن المجتمعات العربية والمسلمة -كغيرها من المجتمعات التي شهدت انحداراً ثقافيا- حاولت في مهمتها الإصلاحية أن تقتفي أثر الثقافات الغالبة متبنّية رؤيتها الكونية ومناهجها العلمية، ويشهد على ذلك حقل النسوية الذي لم يسلم من “التّأسلم” كباقي الأيديولوجيات التي احتفى بها بعض المفكرون العرب في القرن الماضي خاصة، على رأسها الماركسية. إذ أمست النسوية الإسلامية من أبرز ما تمخض عن هيمنة الغرب فكريًّا، ونتاجًا للعجز عن التمييز الثقافي أثناء التعريف بالذات المسلمة والعربية أو محاولة تجاوز ما لحقها من تشتت وانحدار.

الجذور التاريخية للنسوية الإسلامية

ترجع بعض الكتابات ظهور مفهوم النسوية الإسلامية في تسعينيات القرن الماضي في تركيا، وبالتحديد مع كتاب “الحداثة الممنوعة” للباحثة التركية نيلوفر غول[1] سنة 1991م، والذي التقطت فيه مقولات نسوية وسط الإسلاميات التركيات، ثم ظهور المفهوم بعد سنة مع مجلة زنان الإيرانية.

توالى ذلك دخول الأفكار النسوية إلى الوسط العربي عبر البعثات العلمية إلى الغرب، وكذلك من الأعمال الذي قدمها رجالات النهضة المثقفين العرب من المسلمين والنصارى، وأيضا عن طريق تقليد الشرائح الاجتماعية شبه الأرستقراطية للثقافة الغربية ومسالكها، والملفت للانتباه أن دعاة النسوية -في بداية ظهورها في العالم العربي- كانوا رجالاً، كرفاعة الطهطاوي[2] وقاسم أمين[3] ومرقص فهمي[4]، ثم توالى ذلك ظهور شخصيات نسائية كهدى الشعراوي[5] ودرّيّة شفيق[6]  وأمينة سعيد[7] وصولا إلى أواخر مراحل استقرار النسوية في العالم العربي على يد نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي، إلخ[8].

في الأعلى من اليسار إلى اليمين :هدى الشعراوي، درّيّة شفيق، أمينة سعيد في الأسفل من اليسار إلى اليمين: نوال السعداوي، فاطمة المرنيسي

منبت الصفة الإسلامية

قد يتبادر للذهن أثناء إطلاق وصف الإسلامية على النسوية، أن هذه الأخيرة تستنبط من الوحي حلولاً لمشاكل المرأة دون خروج عن إطار الشرع، لِما يقتضيه من حاكمية وإلزام. في مقابل النسوية العلمانيّة التي تعدّ الدين –صريحاً- عَقبة تحيل دون تحقيق المستقبل النسوي وبالتالي وجوب الفصل بين الدين والقضايا النسائية والسياسية. وهو أمر نجد له تفسيراً في الوسط الغربي الذي عانت فيه المرأة أشدّ معاناة باسم الدّين وتراث الفلسفة اليونانية، فقد اعتبر أرسطو الأنوثة تشوُّهًا[9] وجعل أفلاطون المرأة في مقام العبيد والأطفال، وجعلها رجال الكنيسة شرّاً لا بدّ منه ومدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، فأجبرها على الصمت في الكنائس وحرمها الميراث وحقها في التعليم، ونظر إليها توماس الأكويني[10] من خلال معيار الذّكورة، فوسمها بالرّجل الناقص، وذلك لأن الرجل -حسب اعتباره- يمثل المقياس الكامل للوجود البشري[11]، فظلت المرأة طوال هذه القرون سبب كل الآثام، حاملة الخطيئة الأولى، الملعونة التي أغوت آدم: “فَوَجَدْتُ أَمَرَّ مِنَ الْمَوْتِ: الْمَرْأَةَ الَّتِي هِيَ شِبَاكٌ، وَقَلْبُهَا أَشْرَاكٌ، وَيَدَاهَا قُيُودٌ. الصَّالِحُ قُدَّامَ اللهِ يَنْجُو مِنْهَا. أَمَّا الْخَاطِئُ فَيُؤْخَذُ بِهَا.”[12]

كلّ هذه العوامل مهّدت لظهور حركة نسوية علمانية في البيئة الغربية، والتي لم تكتفي فقط بإصلاح الدين ولكنها عمدت إلى إلغائه بالكلية، وحاولت إعادة صياغة ذاكرة جماعية تقوم على القوانين العقلية والوضعية فيما يضمن المساواة بين الجنسين ويلغي الفروق بينهما، الأمر الذي عمدت إليه النسوية الإسلامية كذلك فلم تكن مجرّد محاولة لإصلاح الواقع باستنباط حلول من الوحي ولكنها محاولة لإصلاح الوحي انطلاقا من الواقع.

“فمصطلح النسوية الإسلامية يظل عالقا بهن [النسويات الإسلاميات] من جهة واحدة على الأقل، هي أنهن جميعا يصرحن بأنهن يردن إصلاح الإسلام الذي يعني في بعض الحالات الأخذ بعلمانية صريحة، بينما يعني في حالات أخرى رفض الأساس الميتافيزيقي أو اللاهوتي الذي يقوم عليه الإسلام نفسه، وهو الأساس الذي لا يكون أحد مسلمًا على وجه الحقيقة بدون الإقرار به”[13].

أرسطو (اليسار)، توماس الإكويني (اليمين)

الصفة الشّاغِرة

أخذت النسوية صفة الإسلامية لاشتغالها بنصوص الوحي وتأويلها أكثر من كونها تعتمد على هذه النصوص كمرجعية ثابتة، فكان متنُ منهجها التأويلي الانطلاق من الكليات الإسلامية العامة وتطبيقها على باقي الأحكام دون اعتبار لخصوصيتها أو حدودها الشرعية، كاستنتاجهم من عدل الله لزوم تحقيق المساواة التامة بين الجنسين، الأمر الذي يستلزم إقصاء بعض الآيات والأحاديث النبوية التخصيصية كونها لا توافق الكليات أو المثل الأخلاقية العامة.

تقول آمنة ودود: “رغم قبولي بدور النبي سواء فيما يتعلق بالوحي كما هو مفهوم في الإسلام، أو تطور الشريعة الإسلامية على أساس سنّته أو سننه المعيارية، إلا أنني أضع أهمية كبرى على القرآن، وهذا يتطابق مع الفهم القويم لعصمة القرآن بمقابل التناقضات التاريخية الواردة في مصادر السنة، إضافة إلى ذلك أنني لم أسلم بأن المساواة المبنية في القرآن بين الرجل والمرأة يمكن أو يلغيها النبي. ولو وجد هذا التناقض فسوف أكون في صف القرآن”[14] ، وتضيف النسوية أميمة أبوبكر[15] في بيان مركزية القرآن التأويلية مقابل السنة “مركزيّة القرآن هذه والتكليف الإلهي للبشر جميعًا بمسؤوليّة تجسيد وتحقيق المثل الأخلاقية في الحياة الدنيا، هما أساس المشروع التأويليّ للنسويّة الإسلامية”[16] وتحفّظ بعض النسويات الإسلاميات من رفضهن المطلق للسنة نابع فقط من خشية فقدان السند الموضوعي للنسبية التاريخية لأحكام القرآن[17].

تقمّص دور المجتهد

الاعتماد على المبادئ العامة والمفاهيم الفضفاضة دون اعتبار ضوابطها وسياقاتها المحددة جعل النص القرآني قابلاً لاستيعاب جميع القراءات وتجاوز معناه القاطع أو ما يحتمله من معانٍ محدودة خدمةً للمنهج الهرمينوطيقي، أو ربط الدلالات القاطعة بالسياق التاريخي عبر قراءة تاريخية للنصوص.

من التطبيقات التي توضّح مدى هذه التجاوزات التأويلية -إمامة النسوية آمنة ودود صلاة الجمعة في مسجد تزيّن جدرانه أعلام حركة ما يعرَف بمجتمع الميم -أي أصحاب الميول الجنسية غير السويّة- وفي صف مختلط من الرجال والنساء على غير الهيئة الشرعيّة المُقدّرة، وإعادة تفسير مفاهيم من قبيل الحجاب والقوامة بما يضاد التفاسير المتفق عليها بشكل شبه كلّي، وهو ما سماه الإمام رشيد عمر “جهاد الجندر/الجنوسة” « Gender theory »  والذي تبنته أمنة ودود وجعلته عنوان أحد كتبها .[18]

الجهود التأويلية النسويّة

ظهرت المهمة التأويلية موزعة بين رائدات النسوية الإسلامية اللواتي شغلن مناصب علمية وبحثية ذات وزن أكاديمي معتبر، إذ نرى الفكر النسوي في المغرب العربي ينمو على يد أسماء المرابط و”قراءة النماذج النسائية في القرآن الكريم قراءة للتحرّر” وعلى يد السوسيولوجية فاطمة المرنيسي في تبنيها المنهج النقدي لعلم الجرح والتعديل ممثلة دراستها في نموذج حديث “لم يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”، وفي الحديث كذلك نجد ألفة يوسف ونقدها النسوي –من منطلق التحليل النفسي- لحديث “ناقصات عقل ودين”، ونائلة سليني وتبنيها للمنهج التاريخي في دراسة التفاسير تاريخانيا وصلة ذلك بالإرث، وفي المشرق –مصر تحديداً- نجد أميمة أبو بكر مشتغلة على مفهوم “القوامة” بنفس المنهج التاريخي، واهتمام أماني صالح بالجانب الاصطلاحي والمفاهيمي للنسوية الإسلامية.

وعلى هذا تلخّص المؤرخة مارغو بدران مقاصد الفلسفة النسوية الإسلامية في النقاط التالية:[19]

أولاً: تجديد فهم النصوص القرآنية وفق منهج الهرمينوطيقا القرآنية المعزز لمبدأ المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، مما يجعله تحريفًا صريحًا، إلا أنه السلّم الذي تتبعه النسويات لفرض آرائهنّ حيث تؤكد آمنة ودود أنه لا يتعين على المسلمات أن يمررن بالعلمانية لكي يفرضن حقهن الرئيس في المساواة، الطريق إلى ذلك هو إعادة تأويل النصوص المقدسة.

ثانياً: تأكيد حق المرأة في الاجتهاد وفي إعادة قراءة النص الديني تعزيزا للمبادئ الإسلامية في المساواة والعدل.

ثالثاً: تأسيس المساواة بين الجنسين على مبدأ الخلافة والتوحيد، إذ لا يستقل الرجل بخصوصية –في شأن الخلافة- عن المرأة.

خاتمة

 إنّ عرض هذه المقاصد بيان لحقيقة النسوية الإسلامية التي تختبئ وراء مفاهيم شاغرة كالاجتهاد والتأويل متجاوزة الوحي، حيث تقوم بتصييره لموافقة الأصول الفكرية الكبرى للنسوية من علمانية وليبرالية وجنوسة وتاريخانية ومساواة مطلقة، الأمر الذي يجعل الوصف الإسلامي لا يتعدّى كونه مجرّد غطاء لستر السلوك العلماني المباشر في ردّ النصوص الدينية.

إنّ الوصف الإسلامي يقتضي التأسيس العقدي والقيمي والمعرفي والفكري على دين الإسلام، هذا ما لا ينطبق على النسوية الإسلامية التي لا تهتم بالبحث في الوحي إلا من باعث تبريري، فالأسس الفكرية للنسوية عموما دفعتها لتقف موقفاً معاد من الدين في أغلب حالاتها وموقف الإصلاح في بعضها، الأمر الذي اضطرّ بالنسوية الإسلامية إلى الالتزام بهذا الأساس الفكري مقابل تطويع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية لتتوافق وَ أسس الفكر النسوي الحداثي، مستندة في ذلك على عدة أدوات ومناهج معرفية متمثّلة في التأويل الهرمينوطيقي والقراءة التاريخية والجندرية لنصوص الوحي، ما يشير إلى أنّ وصف “الإسلامية” لا يتعدّى كونه تحديداً للمجال التي تقوم النسوية بتأويله لتبرير المطالب.


المصادر والمراجع

  1. جدعان، فهمي. خارج السرب: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت-لبنان، ط2، 2012م.
  2. الجهني، ملاك. قضايا المرأة في الخطاب النسوي المعاصر: مركز نماء، بيروت، ط1، 2015م.
  3. جين شيفرد، ليندا. أنثوية العلم: عالم المعرفة، الكويت، العدد 306، 2004م.
  4. الخريف، أمل ناصر محمد. مفهوم النسوية دراسة نقدية في ضوء الإسلام، مركز باحثات لدراسات المرأة، الرياض، ط 1، 1473ه/2016م.

[1]. نيلوفر غول: باحثة تركية وأستاذة علم الاجتماع في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس.

[2]. رفاعة الطهطاوي: (1801م-1873م) عالم وصحفي مصري، يعتبر رائد الحركة الفكرية في مصر.

[3]. قاسم أمين: (1856م-1908م) قاض ومصلح اجتماعي مصري، دعا إلى تعليم المرأة وتحريرها من التقاليد حسب زعمه.

[4]. مرقص فهمي: (1870م-1955م) محامي مصري وكاتب قبطي مصري.

[5]. هدى الشعراوي: (1879م-1919م) ناشطة اجتماعية مصرية في مجال الدفاع عن حقوق المرأة.

[6]. درية شفيق: (1908م-1975م) باحثة مصرية وإحدى رائدات حركة تحرير المراة في مصر.

[7]. أمينة سعيد: (1919م-1995م) أديبة وصحفية روائية مصرية.

[8] . ينظر: الخريف، أمل. مفهوم النسوية دراسة نقدية في ضوء الإسلام، ص77.

[9] . ينظر: جين شيفرد، ليندا. أنثوية العلم، ص28.

[10] . توماس الأكويني: قسيس وقديس كاثوليكي إيطالي من الرهبانية الدومينيكانية، وفيلسوف ولاهوتي مؤثر ضمن تقليد الفلسفة المدرسية.

[11] . ينظر: الخريف، أمل. مفهوم النسوية دراسة نقدية في ضوء الإسلام، ص48/49.

[12] . سفر الجامعة [7: 23]، موقع كنيسة القديس تكلا هيمانوت القبطية الأرثوذكسية –الإسكندرية، مصر، (جا 7: 26): فوجدت أمر من الموت: المرأة التي هي شباك وقلبها أشراك ويداها قيود الصالح قدام الله ينجو منها أما الخاطئ فيؤخذ بها (st-takla.org).

[13]. جدعان، فهمي. خارج السرب، ص87.

[14]. الجهني، ملاك. قضايا المرأة في الخطاب النسوي المعاصر، ص100-99.

[15]. أميمة أبو بكر: باحثة وكاتبة ومترجمة نسوية، تشغل حاليًا منصب أستاذة للأدب الإنجليزي المقارن في جامعة القاهرة، ونائبة رئيسة مجلس أمناء مؤسسة المرأة والذاكرة.

[16]. المرجع السابق.

[17]. ينظر: المرجع السابق.

[18] . انظر: جدعان، فهمي. خارج السرب، ص78.

[19] . ينظر: جدعان، فهمي. خارج السرب، ص78-77.




قضية الحجاب .. بابٌ للعلمنة

لا بد أنك سمعت -عزيزي القارئ- عن حظر النقاب في الغرب، ثم في بعض الدول العربية، ليتلوه فيما بعد حظر غطاء الرأس في الغرب، واليوم التشكيك في فرضيته، وكونه عادة عربية قديمة، وهل خلعه من الصغائر أم الكبائر.

 لن أناقش -في مقالي- فرضية الحجاب وحكم تاركته، كون ذلك يُطلب من مَظانّه الفقهية، وإنما أعرض -إن حالفني توفيق الله- أبعاد هذه القضية ومآلاتها على المجتمع الإسلامي من حيث تدينها وكونه باب العلمنة الخفي والصريح معًا.

 لماذا التركيز مع قضية الحجاب؟

هل حظر الحجاب -بالجَبر أو بالتضليل- يُراد منه الحجاب بذاته؟

يُصر الغرب -وأتباعهم- على قضية الحجاب لإنه شعار المرأة المسلمة، فما معنى كون المسلم مسلمًا ولا تظهر عليه علامات الإسلام؟، ماذا بقي من إسلامه قبل أن يصير علمانيًا كاملًا خاليًا من الشعائر؟

إن كانت العلمانية السياسية تريد فصل الدين عن الدولة، فإن نوعًا من العلمنة قد تصح تسميته “العلمانية الاجتماعيّة” تريد فصل الدين عن المجتمع، فكيف ذلك؟

بدفع الناس -بطرق مختلفة- إلى التخلي عن قناعاتهم وفرائضهم الدينية، وإنها إن حققت أهدافها لم يبق لدين الناس معنى، فهل بقي من آثار الدين شيء إن حوصر في شوارع بلاد ينتشر فيها؟، وما ذلك إلا هدف من أهم أهداف حركة العصر الجديد.

ولما شاهد الغرب رد فعل المسلمين وتعاطفهم مع بناتهم وأخواتهم سواء في فرنسا أو السويد أو الهند في وقت قريب، لم يعد مناسبًا أن يطرق الموضوع بطريقة هجومية مباشرة، فلجأوا إلى أساليب أخرى، تحتاج أن نقدم لها بمقدمة تاريخية تبين قِدَم هذا الأسلوب.

علاقة بولس الرسول بحجاب المسلمات

يعد بولس الرسول واحدًا من أهم الشخصيات لدى مختلف الكنائس والفرق المسيحية الحالية، وهو الرجل الثاني في الديانة بعد المسيح من حيث الأهمية، لكنه كان قبل ذلك رجلًا يهوديًا محاربًا للمسيحية، ثم رأى أنه بدخوله للمسيحية وتحريفها من داخلها سيحصل نتائج لن يقدر على جنيها بالمواجهة والمجابهة مع المسيحين.

ولكن ما علاقة بولس الرسول بحجاب المسلمات؟

أصر بولس على إلغاء الختان ويظهر ذلك في كثير من رسائله وإليك بعض الأمثلة:

“مَا هُوَ نَفْعُ الْخِتَانِ؟” ]رسالته إلى أهل رومية الإصحاح: 3، الآية: 1[ “ليس الختان شيئا وليست الغرلة شيئا”. ]رسالته الأولى إلى كورنثوس الإصحاح: 7، الآية: 19[ وغيرها كثير

فهل كان دافعه في ذلك كون الختان مختصًا باليهود في وقته وكونِه السمة المميزة لرجالهم؟

وأجيبك بما يلي: إن من أهم ما عمل عليه بولس هو إلغاء الارتباط باليهودية، فلذلك جاهد لإلغاء شعاراتهم في ديانته، فما معنى كونه غير يهودي وعليه علامات اليهود؟

فهو بذلك لم يقصد الختان بذاته، إنما أراد علمنة -من نوع خاص- ينفصل بها عن بني إسرائيل، ليجعل ديانته عالمية وليست خاصة ببني إسرائيل، فيخدم دينه -اليهودي- بعد تحريفه للمسيحية بكون هذ الدين المحرّف غير مرتبط ببني إسرائيل، فلا ينسب لهم نقصٌ كهذا وهم الشعب المختار.

رسم تخيلي لبولس

ذاك في الماضي .. فما علاقته بالحاضر؟

قد يسوغ بعض الغربيين حظر الحجاب بحجة الاندماج في المجتمع، وما ذلك إلا خطوة يريدون بها إذابة الفروق بين الناس تحقيقًا لمبدأ من مبادئ حركة العصر الجديد، وما حَظرُه -تضليلًا- في البلاد الإسلامية إلا عامل تأكيدي على ذلك، وإلا فما الداعي إذًا؟!

إن أهم ما يميز حركة العصر الجديد كونها حركة باطنية، لا تجابه معتقدات الناس مباشرة، بل تحاول بطرق مختلفة نشر أفكارها التي ستستبدل فيما بعد معتقدات الشخص بطريقة تدريجية، نابعة من ذاته بتوجيهات غير مباشرة من الحركة، وهنا يظهر التشابه بين ما قام به شاؤول -وهو الاسم الأصلي للقديس بولس- وما تقوم به هذه الحركة ومن يخدمها اليوم على أرض الواقع.

وترى اليوم -عزيزي القارئ- أن التركيز على هذه القضية بالذات يزداد يومًا بعد يوم في العالم الإسلامي، وبعد أن كنا نرى في البرامج التليفزيونية ربط الحجاب بالنساء الفقيرات أو المقهورات، وكون السفور علامة تحضر ومدنية وانفتاح، صارت البرامج هذه تجابه وتهاجم الحجاب بشكل سافر ودون أي تورية، ولا يرتبط الحجاب غالبًا -في هذه المسلسلات- إلا بالإرهابيات أو المصابات بعقد نفسية، وبتنا نرى اليوم عنوان “أكذوبة الحجاب” على شاشات عديدة في العالم الإسلامي، المفترض أنها توجه خطابها للمسلمين، وبتنا نرى دعاة وأساتذة جامعات إسلامية يتنكرون لما كانوا يقولونه قبل مدة عن فرضية الحجاب، بل تعدى الأمر ذلك إلى نسبته إلى جهات سياسية محظورة في هذه الدول كطريقة للتنفير من الحجاب، ولا أستطيع أن أدخل في نية كل شخص تكلم في هذا الموضوع، لكن هل من المعقول أن أستاذًا يصلح للتدريس في جامعة إسلامية يتعرض لما هو معلوم بالضرورة، ويخدم -بتصريحاته ولا أقول بإرادته- حركات تريد في غاية أهدافها أن تصل بالبشرية إلى عبادة الشيطان؟

السعي للتطبيع مع المنكَر

والآن نطرح تساؤلًا مهمًا، وجوابه هو ما تعول عليه الحركة في هذا الخصوص.

هل تورث كثرة التطرق للموضوع شكًا عند محدودي المعرفة؟ ولماذا يلجأ المضللون إلى تكرار الأمر -ولو بعبارات مختلفة؟

يجاوبنا على هذا التساؤل غوستاف لوبون، فيقول: “عندما نكرر الشيء مرارًا وتكرارًا ينتهي به الأمر إلى الانغراس في تلك الزوايا العميقة للاوعي” ]سيكولوجية الجماهير، 133[

فالدعوة إلى نزع الحجاب بطرق، ومسميات مختلفة تهدف بشكل أو بآخر إلى التأثير في وعي الناس كون الحجاب فرضًا، فالتكرار هنا يحقق لهم بعض المكاسب الجزئية، كإضعاف دفاعات الناس ضدهم مع مرور الزمن، فإذا ما تم لهم ذلك سَهُلَ عليهم فيما بعد إدخال اللَبْس إلى عقول الناس في قضايا أخرى كانت بدهية بالنسبة لهم كما كانت قضية الحجاب قبل كذلك.

فهو اذًا لم يورث شكًا، بل بدّد -تدريجيًا- فكرًا ما كان يُشَك فيه قبلًا!، وممّا يتصل بهذا الموضوع، ولعله هو الأداة الأكثر فاعلية فيه، هو الإعلام الحديث المتمثّل بشبكات التواصل، ودوره في نشر هذه الشبهات لا يحتاج إلى توضيح، لكنني سأربط الأمر بالشباب والناشئين، إذ تعتبر هذه الفئة العمريّة الأقل نضجًا هي المتأثر الأكبر بهذه الشبهات، ولا أركّز في كلامي على نضجهم، بل على سهولة وصول المعلومات لهم من مواقع التواصل، على عكس نشرات الأخبار أو المجلات ذات الطابع الفكريّ مثًلا، والتي لا يهتم بها ولا يتابعها معظم الشباب، وأربطه أيضًا بإخراج مسلسلات تناقش ضمن مشاهدها أمورًا عقدية وتتعرض ضمن ذلك إلى قضية الحجاب، وهنا أعود إلى لوبون الذي يقول: “عندما درسنا مخيلة الجماهير رأينا أنها تتأثر بالصور بشكل خاص، فهي تثيرها فعلًا” ]سيكولوجية الجماهير، 115[، ويقول أيضًا: “يمكن أن نعفي أنفسنا من ذكر العقل إذا ما عدّدنا العوامل القادرة على التأثير على روح الجماهير” ]سيكولوجية الجماهير، 123[، فبحسبه تقتنع وتتحرك الجماهير بحسب الصور أكثر من الكلام العقلاني، وهذا ما يعول عليه المشكّكون الذين يشاهدون بأم أعينهم الأثر غير الكافي للردود العلمية على شبهات برامجهم وسمومهم.

غوستاف لوبون

على سبيل الختام

وحتى لا أطيل في الكلام ولا يبقى كلامي هذا مجرد وصف للداء، فإني أدعو نفسي وإخواني في ختام هذا المقال إلى إيجاد حلول لهذه المشكلة، مثل برامج ومسلسلات بديلة، لا تصور لنا حياة السلف والتزامهم بالشريعة، بل تطرح مواضيع وشبهات المشككين لنقاش يؤصل هذه المواضيع ضمن إطار قصصي يناسب العصر الحالي، أو حتى على الأقل تحمل طابعًا ملتزمًا، ولا أحتاج إلى مصادر لأقول لك إن الحجاب في المسلسلات اليوم يكاد لا يوجد إلا على جدة طعنت في السن أو امرأة فقيرة أو إرهابية، وهذا في بلادنا الإسلامية لا في الغرب، فهل نجد من يصحو لإيجاد البديل قبل أن نجد أنفسنا نعيش في عالم إسلامي باسمه، علماني بواقعه الاجتماعي؟


المراجع:

  • العهد الجديد من الكتاب المقدس.
  • غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، دار الساقي، بيروت – لبنان، 1991، الطبعة الأولى، ترجمة: هاشم صالح.



زواج القاصرات .. جُرمٌ أم حقٌّ؟ (2\2)

في مقال سابق تعرضنا لفكرة الزواج من القاصر، وفي هذا المقال أشير إلى الموقف من هذه القضية. لقد جعل الله الإسلام رحمة للناس بشموليّته المحكمة المراعية لحاجاتهم وأحوالهم وتقلباتهم، فلا خلاف بين شرع الله وفطرة الإنسان السليمة، إلّا عندما تصبح الفِطر أسيرة قوالب تُصنع لها، مُحوّلة البشر لآلات مُفرغة من المشاعر والإنسانية، فالفطرة الحرة تختار ما فطرها الله عليه إن كان صاحبها ذا عقل وقلب سليمين، وإن أردنا للفتاة الحرية أطلقنا فطرتها من أيدي من يعبث بها ومن مفاهيم وأعراف بعيدة عن الإسلام، وقد تبين لنا في المقال السابق كم من المغالطات والتحيّزات التي تعتري تعريفات القاصر وقوانين تحديد سن الرشد، والتي تظهر بوضوح على أنها قوالب جاهزة ترسم حياة واحدة للجميع ومخالفة للدعوات بإعطاء الحرية وحق الاختيار، فهل تجريم زواج القاصر جزء من تلك القوالب؟ أم أنه جرم بحق الفتاة؟ ولنصل للإجابة يجب أن نستعرض القضية بكل جزئية فيها وبشيء من التفصيل.

 زواج الصغيرة

عقد الرسول صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها وهي ابنة ست و بنى بها وهي ابنة تسع، فالعقد على الصغيرة أي الفتاة ما دون سن البلوغ جائز بالإجماع، ولكن لا تُسلّم لزوجها إلّا عندما تصبح مُحتملة للعلاقة الزوجيّة الطبيعيّة، أي أنّ التسليم للزوج مرتبطٌ ببلوغ الفتاة أو بعده، ويُضبط زواج الصغيرة بضوابط لا يسع المقام للإحاطة بجميعها، كأن يكون الزواج في مصلحة الصغيرة دون منفعة تُرجى للأب، وبتزويجها من رجل كفء غير مريض أو كهل أو معسر، ولا يحق إلّا للأب تزويجها على الأرجح، فلم يُترك الأمر للإطلاق، وإنما تُقدّر كل حالة بقدرها[1].

وقد كان زواج الصغار متعارفاً عليه في أنحاء العالم، فلم يكن مُختصَّاً بالمسلمين فقط، أما زواج الفتاة عند البلوغ فهو الأصل في الأديان والحضارات السابقة وبعض الحاضرة، ولم يكن يُطلق لفظ طفل على من بلغ إلّا مع بدايات القرن العشرين[2]، بل كان يسمى بالغاً ويعامل معاملته.

لا يحدد الزواج بسن متى ما بلغت الفتاة

يصح زواج الفتاة بمجرد بلوغها شرط استئذانها في نفسها، وقد رغّب الشرع بالزواج وعدم تأجيله إن خطبها الرجل الكفء ذي الخلق والدين، وليس من الصَّواب كتمان الأهل الخاطبين عن ابنتهم دون معرفة رأيها مَظنَّة عدم حاجتها للزواج، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) [ 1084،حسنه الألباني]، وكذلك زواج الشاب يصح منه بمجرد البلوغ عاقلاً مع توافر المقدرة، وقد جاء عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُود: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ..إلى آخر الحديث[974، متفق عليه]، وقد اعتنى الخطاب الإسلامي بالحث على الزواج متى ما كان المرء قادراً، وذمّ تأخيره إن وجدت المقدرة والحاجة له.

وأمّا تأخير الزواج والعزوف عنه من قبل الشباب والفتيات فقد جاء نتيجة عوائق تفرضها الحياة المادية وأعراف معارضة للإسلام، وماهي إلا جزء من مخططات تهدف لهدم الأسر ونشر الفساد.

سيداو وحقوق الطفل:

تشكل الاتفاقيات؛ التي تهدف إلى تغيير الأحكام المختصة بالمرأة في دول العالم مُحاولة القضاء على جميع أشكال التمييز ضِدها الحجر الأساس في اتفاقية سيداو، الساعية لتحقيق المساواة التامة بين الجنسين، والعمل على إعطاء المرأة الحق في اختيارات الحمل والإجهاض وتزويج النفس، ودعمها للدخول في سوق العمل والحياة المهنية، والتي تتفق بنودها مع أهداف منظمة الأمم المتحدة لحقوق الطفل مثل تجريم الزواج قبل سن الثمانية عشرة ومنعه بجميع أشكاله، وفرض المساواة منذ الطفولة.

وتعتمد هذه المنظمات على أرقام ودراسات تعمم على العالم مع أنها مُجتزأة ومنقوصة، فقد وجد انتشار زواج القاصر في آسيا الشمالية وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، وهي إما مناطق مجاعات وحروب أو مناطق بعيدة عن الإسلام، وتلك مُسببات كافية لسوء الرعاية الصحية والنفسية ولانتشار الجهل والأمراض وضياع الحقوق[3]، والتي تؤثر بدورها على أي فرد فيها، فلا يمكن ربط نتائج  كالفقر والأمراض النفسية والجسدية والإجهاض والتعرض للعنف الأسري بالزواج في سنٍّ معيّن، لأن هذه العوارض تصيب أي فتاة في أي عمر وقد تكثر في مثل هذه المناطق، فهل يصح القول بمنع الزواج للفتاة التي تعيش في المخيمات مع أنها محرومة من حقها في التعلم، في حين أن 3.7 مليون طفل نازح بلا تعليم، و24% فقط من أطفال النازحين تتاح لهم فرصة الانتقال للمرحلة الثانوية[4].

بالإضافة إلى أن هذه الاستقصاءات لا تلتفت لحالات الزواج المبكر[i] الناجحة والمنتشرة بكثرة في أنحاء العالم، ومن التجاوزات أيضاً تعميم أضرار زواج الصغيرة على زواج البالغة العاقلة، مثل دعوى تهتُّك الأعضاء التناسلية نتيجة الزواج، فهو ضرر الزواج قبل البلوغ وهو ما حَرَّمه الإسلام إن سبب أذى للفتاة، أما بعد البلوغ فالأصل جاهزيّة الذكر والأنثى للزواج من الناحية البيولوجية مع وجود الاستثناءات، ولو كان الضرر حتمياً لكان الأولى تجريم العلاقات غير الشرعية المنتشرة بين أبناء الغرب القُصّر.

لماذا لا يُجرم انحلال المراهقين في الغرب؟

ألا يستحق هذا السؤال الوقوف عنده؟ فبماذا تختلف هذه العلاقات عن الزواج الشرعيّ، إلا أن الزواج يخرج هذه العلاقة من البهائيمية وما يترتب عليها من ضياع للحقوق إلى علاقة تحترم كرامة الإنسان بتأطيرها بأُطُر تفرض مسؤوليات وحقوق وواجبات، فتحريم الزواج من القاصر هو مَنعٌ للعقد الرسمي عليه ولا يعني تحريم العلاقات في هذا السنِّ في الغرب، ولا ما يرافقها من استخدام موانع الحمل والإجهاض، وقد نتج عن هذا الانحلال أمراض نفسية وجسدية وتَزايدٌ في التنمر والاستغلال، وهذا ما تؤكده أرقامهم بأن أكثر من نصف المراهقين فتياناً وفتيات فقدوا عذريتهم ما بين سن ال 15 و19، وواحد من كل خمسٍ فقدوها قبل سن 15، وأكثر حوادث الموت بين المراهقين هي نتيجة الابتزاز والاعتداء الجنسي، ولخفض الأرقام قاموا بفرض دروس التوعية الجنسية التي تبدأ من سن العاشرة تقريباً كنوع من الوقاية، ليتناقص عدد المراهقين الذين يمارسون فعل الزنا إلى 39%.

مفهوم الزواج الغربي والإسلامي

تخسر مؤسسة الزواج الغربي أهميتها بشكل متزايد فلم يَعُد لعقد الزواج الديني أو المدني أهمية تذكر، ولذلك مُنِع إنفاذه قبل سن الرشد لكونه عقد مجرّد لا تأثير له على حُلّيَّة الارتباط بين الجنسين، فتشير الإحصائيات إلى أن 60% من المواليد الفرنسيين[5] و40 % من مواليد الولايات المتحدة قد ولدوا خارج إطار الزواج، وقد يلجأ البعض للزواج المدني تحصيلاً لبعض الحقوق كزوجين رسميين وكأسرة، بدون أي إلزامات جدية بين الطرفين، ولا يتم عقده إلا بعد فترة اختبار طويلة لمدى صدق المشاعر قد تتجاوز السنوات حتى مع وجود الأطفال، فإن لم يحصل الوفاق بعدها لم يكن للفتاة أي أدنى حقوق، وهو ما يختلف عن مفهوم الأسرة والزواج في الإسلام اختلافاً جذرياً، فعقد الزواج في الإسلام ميثاقٌ غليظٌ وشرط لحُلِّيَّة الاستمتاع بين الطرفين، يفرض مسؤوليات وواجبات تُلزم الرجل والمرأة، وتضمن حقوق كل منهما فيحصل بذلك السكن والمودة والرحمة، مع حماية منيعة لمؤسسة الزوجية وضمان لحقوق الطفل التي من أهمها أن يحيا في كنف أسرة مستقرة تحفظ نسبه من الضياع.

أهليّة الزواج

إن أهلية الزواج-أي عقد الزواج- في المفهوم الغربي، مرتبطة بالعمر كما سبق بيانه وبأسباب مادية كضمان العمل الجيد وجمع الأموال الوفيرة، وقد انتقل هذا المفهوم المتزعزع إلى بلاد المسلمين لتحدد أهلية الزواج بالعمر وبتحصيل الشهادات والأموال، ثم تجد الفتاة نفسها أمام مجتمع يُعايرها بفوات الأوان، وطلباتٍ تثقل الجبال يُطالب بها الشباب، في حين أن الإسلام حثَّ على الزواج وعلى تسهيله على الشباب والفتيات، ولم تُجعل الأهلية مرتبطة بالعمر أو المال الوفير والعلم الغزير لأن السعي وراءهم لا ينتهي وماهي إلا أرزاق من الله، بل حُددت القدرة بالدين والصلاح فهو الأصل لاستمرار الزواج، فما المانع أن يتم الجمع بين الزواج والعلم والعمل؟ وتشهد حالات كثيرة على نجاح هذا النوع من الزواج إن اتّسم بصلاح حال الزوجين، فالأهليّة للزواج إذاً تتفاوت بتفاوت الحال والمقدرة.

تحديد العمر كبتٌ للقدرات

لقد توفي رسول الله عن عائشة رضي الله عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة، وقد كانت أحب الناس إليه وأفقه نساء المؤمنين وأعلمهم، فلنا أن نتخيل لو حددت القدرات بالأعمار لكم كنا فقدنا من علمها، ولم يكن ليُقبل إسلام علي رضي الله عنه وهو ابن عشر سنوات، ولما وُلّي أسامة بن زيد رضي الله عنه أمارة الجيش وهو بعمر السابعة عشرة، وإن تحدثنا عن الفروق بين الأزمان، فلن نجد اختلافاً كبيراً في الغرائز والحاجات بل الفرق أن البالغ اليوم يُعامل معاملة الطفل ويعزل عن محيطه ومجتمعه بشاشات الكترونية مع أنه أكثر ذكاءً من أطفال الأمس[6]، مما أدى إلى ظهور جيل غير ناضج اجتماعياً ونفسياً، يحمل طاقات هائلة إن لم تشغل بالخير شغلت بالشر.

فطرة السكن والاستقرار

إن حاجة النفس للزواج فطرة أودعها الله فيها، وللزواج دوافع مختلفة كطلب الاستقرار والستر والرفعة والمال، وحض الإسلام على الزواج تحقيقاً للعفة وتحصيناً للنفس وتكثيراً للنسل مع اختيار الرجل والفتاة الصالحين، وكثير ما تلجأ الفتيات للزواج حماية لنفسها وتحقيقاً لاستقرار مادي لن تقدمه الوظيفة لها إلا ما ندر، ولهذا ينتشر في الغرب زواج الفتاة الشابة من رجل غنيٍّ يفوقها بالعمر بكثير، وتتفاقم ظاهرة sugar daddy المشابهة وهي شكل معاصر من أشكال العبودية، حيث ترافق الفتاة رجلاً غنياً ربما كهلاً أو متزوجاً مقابل مال وحياة رغيدة وتأميناً لنفقات الدراسة والمعيشة، وذلك عندما أُخرجت من كنف والديها ببلوغها سن الرشد القانوني لتواجه مصيرها في الخارج بنفسها.

الإعانة على الصلاح

إنّ ممّا يُمزِّق قلب فتاة متزوجة في عمر مبكر هو تَجريم والديها وإيهامها بطفولتها المسلوبة بين قضبان الزواج، وأفضل مايُقدم لها هو الإعانة والدعم ومساعدتها لتَعلّم ما تحتاج لإنجاح مؤسسة الزواج، ومن الخير تهيئة الشبان والفتيات لمسؤولية الزواج في عمر مبكر والعناية بإدراج مادة فقه الزواج والتعامل بين الجنسين في التعليم، بدلاً من مطالبات إدخال مادة التربية الجنسية المُتّسمة بالتفسيرات البدائيّة الخالية من معاني الاحترام الإنسانية مثلما يصفها الباحثون، فقد شرّع الله الزواج الحلال للفتاة والشاب وترك في الأمر سعة لكل حالة، ويصبح الاستعجال بالزواج أمرا محبذاً في زمن كثرت فيه الفتن وانتشر الفساد، فإن شاء الله وحَصَل الزواج، كان أفضل ما تظفر به الفتاة شابًّا مؤمنًا يعينها على الصلاح، وإنّ خير نِعم الدنيا للرجل المرأة الصالحة.


[1]  د. عبد الكريم زيدان.(1993).المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية.(الطبعة الأولى، المجلد 6،الصفحات 388-412).بيروت، لبنان: مؤسسة الرسالة.

[2] https://en.wikipedia.org/wiki/Child_marriage

[3] بحث-قانوني-ودراسة-فقهية-مقارنة-حول-تحديد-سن-الزواج-في-الشريعة-والقانون

[4] https://www.unhcr.org/news/press/2019/8/5d67b2f47/refugee-education-crisis-half-worlds-school-age-refugee-children-education.html

[5] https://www.statista.com/chart/13668/where-babies-are-born-outside-of-marriage/

[6] الباحثون السوريون.(29 05, 2019).The Flynn Effect تأثير فلين.

[i] يقصد أحيانا الزواج ما بعد سن الرشد بين 18-25