image_print

هوكينغ وثقب الإلحاد الأسود

إن الاستدلال بإيمان هذا العالم أو إلحاد ذاك على صحة عقيدة ما هو استدلالٌ خاطئ تماماً. فالأمر لا يعني أنه بإيمان فلان أو إلحاد فلان أن ديناً ما خاطئ والإلحاد صحيح ولا العكس أيضاً، وكثيراً ما يستدل البعض بهذا الأمر، ما يدل على ضعف التفكير ورهن العقل بالأشخاص وليس بالمنطق.

فالأساس أن يفكر الإنسان وأن يعُمل عقله في الأسئلة الكبرى المتعلقة بوجوده وليس أن يرهن عقله لما يتقدم به الآخرون من أفكار مقولبة أو عقائد جاهزة، حتى ولو كانوا أهله وعشيرته الأقربين قال تعالى في سورة الزخرف: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون}، فهذا منطق لا يقبله القرآن لأن الأصل في الإيمان العلم وليس التقليد الأعمى.

قال تعالى في سورة محمد {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}، فالأمر جاء بالعلم والتدبر في الكون حتى الوصول إلى النتيجة النهائية أنه “لا إله إلا الله”، وليس بالتقليد.

نيوتن

كان لا بد من هذه المقدمة البسيطة قبل الحديث عن أحد أشهر علماء الفيزياء النظرية في عصرنا الحالي وهو ستيفن هوكينغ الذي اشتهر في مجال الثقوب السوداء، ووضع معادلة شهيرة في هذا المجال وسمي إشعاع خاص باسمه “Hawking–Zel’dovich radiation”، ويُفترض أن هذا الإشعاع هو المتسبب بتقلص الثقوب السوداء، ولكن لم يجري التثبت منه تجريبياً حتى الآن بسبب الصعوبات الكبيرة المتعلقة بدراسة الثقوب السوداء وخاصة البعد الكبير الذي يفصلنا عنها. لكن لا شك في أن هوكينغ يمتلك من العزيمة الكثير، فبالرغم من إعاقته إلا أنه شغل الكرسي اللوكاسي في جامعة كامبريدج الذي شغله في السابق إسحاق نيوتن، وشغله كذلك أحد مؤسسي ميكانيكا الكم الفيزيائي الكبير بول ديراك.

تدرج هوكينغ في مراحل عدة قبل أن يظهر إلحاده التام للعلن، ففي البداية ختم كتابه الشهير تاريخ موجز للزمن (A brief history of time) بالقول: “وعلى كل حال لو اكتشفنا فعلاً نظرية كاملة، فإنه ينبغي بمرور الوقت أن تكون قابلة لأن يفهمها كل فرد بالمعنى الواسع وليس فقط مجرد علماء معدودين. وعندها فإننا كلنا فلاسفة وعلماء وأناساً عاديين سنتمكن من المساهمة في مناقشة السؤال عن السبب في وجودنا، نحن والكون. لو وجدنا الإجابة عن ذلك، فسيكون في ذلك الانتصار النهائي للعقل البشري لأننا وقتها سنعرف عقل الله”.[1]

أكد هوكينغ بعد ذلك أن العبارة التي وضعها في ختام الكتاب عن “عقل الإله” كانت لزيادة أرباح الكتاب وأنه لو حذفها لانخفضت أرباح الكتاب إلى النصف.[2]

ولاحقاً في مقابلة مع قناة CNN قال هوكينغ إنه يمكن أن يوجد إله ولكن ليس له دور في الكون، ثم قال في كتابه “التصميم العظيم” إن قوة الجاذبية كافية لإنشاء الكون، ووصل في النهاية إلى التصريح بالإلحاد التام في مقابلة مع صحيفة ألموندو الإسبانية.

وعندما أعلن إلحاده استبشر الملحدون حول العالم ومن بينهم ريتشارد دوكينز أحد كبار رؤوس الإلحاد في عصرنا والذي قال: “إذا كان داروين قد ألقى بالإله بعيداً عن علم البيولوجيا، فقد ظل له موضع في الفيزياء حتى أخرجه منها ستيفن هوكينغ”.[3]

سأحاول هنا مناقشة بعض أفكار هوكينغ التي لا علاقة لها بالعلم التجريبي، وإنما هي محض ميتافيزيقيا وفلسفة، كما سأوضح ردود علماء آخرين عليه.

ستيفن هوكينغ

الخلق من عدم
يقول هوكينغ في كتاب التصميم العظيم “كيف يتم خلق مجمل الكون من لا شيء؟… لذا يجب أن يكون قانون كقانون الجاذبية ولأن الجاذبية قوة جاذبة فإن طاقة الجاذبية سالبة… وبمقياس مجمل الكون فإن الطاقة الموجبة للمادة يمكنها أن تتوازن مع الطاقة الجذبوية السالبة وبالتالي لا يوجد قيود على خلق مجمل الكون”.ويتابع فيقول : “لأن هناك قانوناً مثل الجاذبية فإن الكون يمكنه أن يخلق نفسه من لا شيء”.[4]

لا بد من توضيح هام أن العدم عند الفيزيائيين ليس اللاشيء كما قد يعتقد البعض، بل هو ما يسمى الفراغ الكمي (quantum vacuum) في ميكانيكا الكم (Quantum Mechanics) فالعدم عند الفيزيائيين ليس كما نتصوره أنه عدم محض بل هو يتعلق بالأشياء التي لا يمكن قياسها فيزيائياً فقط.[5]

أما من الناحية المنطقية فالعبارات السابقة لوحدها تدل على التناقض الصارخ عند هوكينغ، إذ كيف يُوجد ويخلق القانون –أي الشيء- اللاشيء؟ وكيف للعدم أن يُوجد موجوداً أصلاً؟ وكيف يكون الشيء عدماً وموجوداً في نفس الوقت؟ وهنا نقطة أن الموجود يأتي من العدم صحيح هذا، ولكن يستحيل أن يكون العدم هو من أوجد هذا الموجود.

ثم إذا فرضنا جدلاً وجود قانون الجاذبية قبل وجود الكون –وهذا مستحيل لأن القانون الطبيعي يعتمد بوجوده على وجود مسبق للطبيعة- فهل هذا القانون قادر على إيجاد الكون من عدم كما يدعي هوكينغ؟ وهل القوانين الطبيعية هي الخالقة والمنشأة للكون من عدم؟

يقول جون لينوكس -وهو عالم في الرياضيات وفلسفة العلوم- رداً على هوكينغ: ” بالتأكيد يمكننا التوقع أننا قادرين على صياغة نظريات تتضمن قوانين رياضية لوصف الظواهر الطبيعية ،ويمكننا فعل ذلك بدرجات بالغة الدقة ولكن القوانين من تلقاء نفسها لا يمكن أن تسبب شيئاً… فقوانين نيوتن للحركة لن تدفع كرة البلياردو على الطاولة بدون لاعب يضربها، فضلا عن خلقها ..القول إن القوانين الرياضية الذكية هي التي خلقت الوجود والحياة هذا خيال محض ،لأن تسميته خيال علمي هو تشويه لسمعة العلم فالنظريات والقوانين ببساطة لا تحضر شيئاً إلى الوجود”.[6]

والعجيب أن مكتشف قانون الجاذبية نفسه إسحاق نيوتن لم يقل مثل هذا الكلام، بل كان نيوتن مؤمناً بالله الواحد، وقال بعد وضع نظريته حول الجاذبية: “إني لا أزعم أني أعرف علة الجاذبية [7]، وقال أيضاً: “إني لا أعتقد أن حال الأجرام السماوية قابل للتفسير فقط بعلل طبيعية فأنا مرغم على أن أعزو تلك الحال إلى قوة واضحة القصد وذات إرادة قادرة على الاختيار”[8]، ولا شك أن نيوتن كان يقصد قوة الله سبحانه، وهذا ما يتبين لنا من كتاباته الأخرى واضحة الإشارة إلى وجود الله وقدرته.

ثم إذا سلمنا جدلاً بمقولة هوكينغ بأن القانون قادر على إيجاد الكون من العدم فنصل إلى سؤال بسيط يطرحه أي إنسان وهو: من وضع القانون نفسه؟ وهنا تأتي تفسيرات الملحدين –ومنهم هوكينغ- والتي تخبط خبط عشواء فيقولون تارة بالصدفة أو أنه من بين آلاف الأكوان الأخرى فإن كوننا تحققت فيه هذه الشروط التي جعلت قانون الجاذبية يُنشئ الكون من العدم!

وهذا يقودني في المقالات القادمة إن شاء الله للحديث عن نظرية الأكوان المتعددة التي يطرحها هوكينغ نفسه، وسأتحدث عن النظرية إم M أو التي تسمى أحياناً نظرية كل شيء، وأبحث في زعمه بأن الفلسفة ماتت، كما سأتطرق لمواضيع أخرى من كتاباته.


الهوامش

[1] ستيفن هوكينغ، تاريخ موجز للزمن، ترجمة: مصطفى فهمي، الناشر: دار التنوير،2016 ص299.

[2] ستيفن هوكينغ، الثقوب السوداء والأكوان الطفلة، ترجمة: حاتم النجدي، الناشر: دار طلاس،1998 ص38.

[3] عمرو شريف، خرافة الإلحاد، مكتبة الشروق الدولية،2014 ص361.

[4] ستيفن هوكينغ ليونارد ملودينوو، التصميم العظيم، ترجمة أيمن أحمد عياد، دار التنوير للطباعة والنشر،2013 ص216.

[5] أحمد حسن، أقوى براهين د.جون لينكس، مركز دلائل،2016،  ص98.

[6] Jhon C.Lennox ,God’s undertaker has science buried god?,lion Hudson plc,2009 p.65

[7] رونالد سترومبرج ، تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، ترجمة: أحمد الشيباني، دار القارئ العربي،1994 ص90 وما بعدها.

[8] نفس المصدر السابق، ص 90.

كوميديا الإلحاد.. داوكنز نموذجا

“الإلحاد علامةُ ذكاء”!.. هذا ما قد يعتقده كثير من الناس، خاصة وأن مشاهير من العلماء يعلنون إلحادهم ورفضهم لوجود خالق حكيم مدبِّر للكون.

لكن مهلاً، ألا تعتقد أن في هذا القول نوعاً من الكوميديا السوداء؛ تلك التي يضحك لها الإنسان على ألم ومضض.

سأنقل لك نصًّا مقتبسًا من كلام ريتشارد داوكنز أشهر كُتّاب الإلحاد ومنظريه في العالم، إلا أني قبل ذلك أريد أن أذكر لك أن داوكنز استعرض الأدلة التي تثبت وجود الخالق في بضع صفحات خفيفة وأنه ببعض السخرية والمغالطات يرى أنه قد أنهى الحاجة لها وأوقف جدوى الاستدلال بها، إلا أني أعرض لك هذه الجمل المقتبسة، يقول في نقض دليل التصميم الذكي:

“الحجة الغائية، أو حجة التصميم؛ فالأشياء في العالم وبخاصّةٍ الأشياء الحية تبدو وكأنها مصمَّمةٌ، ولا نعرف بوجود أشياء مصممة إلا إذا كانت كذلك، ولذلك يجب أن يكون هنالك مصمم وهو ما ندعوه بالإله.

حجة التصميم هي الوحيدة التي لا تزال تستخدم في أيامنا هذه وللعديدين فإنها تبدو كالضربة القاضية للمناقشة، وقد تأثر بها داروين حين كان شابًّا، عند قراءته لكتاب ويليام بايلي “علم الطبيعة الديني” ولسوء حظ بايلي، فإن دراوين الناضج قد استبعدها، [….] وبفضل داروين، لم يعد صحيحًا أن كل الأشياء التي تبدو لنا مصمَّمة لا يمكن أن تكون غير ذلك، التطوُّر بالانتخاب الطبيعي ينتج ما يمكن أن يبدو كأروع تصميم، بأعلى درجات التعقيد والأناقة” [وهم الإله: 81].

داوكنز
(David Shankbone)

إن داوكنز في هذه الفقرة يسخر من الاستدلال بالنظام المصمَّم والإتقان المشاهَدِ في كل خلق، إلا أنه يسارع إلى القول بأن الانتخاب الطبيعي والتطور المستمر  ينتجان ما هو أروع من التصميم وأعقد منه.

فهل فعل الانتخاب ذلك، وكم استغرق الانتخاب من الوقت لفعل ذلك؟

إنها مليارات من السنين التي احتاجها الانتخاب تلو الانتخاب والتصادف تلو التصادف لتطوير العالم والإنسان ثم وصوله إلى هذا الشكل الذي نراه الآن [وهم الإله: 136]، هكذا يحلو لداوكنز أن يبرر إيمانه بالانتخاب.

فإذا كان الانتخاب قادرًا على تصميم نوع من الإتقان فلمَ لا يمكن للإله فعل ذلك؟

في استدلال آخر يرى داوكنز: “أن الكائنات الحية المعقدة لا يمكن أن تنشأ مصادفة، فلا شك أن من خلقها أكثر تعقيدًا منها بالضرورة ، وبالتالي فإن الله غير موجود” [وهم الإله:114-115] وذلك استنادًا إلى حاجة التصميم المتقَن إلى منشئ له.

يمكن مصادرة هذا الكلام بالاعتراض عليه بذات المبدأ، فنقول إن كتاب داوكنز المسمى “وهم الإله” معقَّد ولا يمكن أن ينتج مصادفة، ولا شك أن كاتبه داوكنز أكثر تعقيدًا منه، إذن داوكنز غير موجود.

وهذه المغالطة عرضها كثيرون قبله بطريقة مباشرة دون مواربة ضمن ما قاله الملحدون سابقًا: “إن كان الله خلق الخلق فمن خلقه” والرد على هذا الكلام مختصر بأن الموجِد (غير المادي) لا يحتاج إلى إيجاد، بينما الحادث (المادي) يحتاج إلى مُحدِث خالق لا العكس.

يسرد داوكنز في كتابه 400 صفحة من الكلام المتراكم، دون أن يفسر أصل نشأة الكون وكيفية خروجه من العدم إلى الوجود، بل ذهب مباشرة لتفسير سر النظام داخل الكون بذكره لخواطر تعتمد الصدفة، “فهناك احتمال وجود أكوان متوازية، ولا شك أن كوننا صدفة ناجحة ضمن مجموعة من الأكوان الأخرى التي لا تنطبق عليها ثوابت كوننا” [وهم الإله: 148].

إن كل ما يخوض داوكنز فيه يتعلق بما بعد الخلق، والاختلاف في هذه القضايا دون الاتفاق على القضية الأهم إما جدَل لا طائل منه، وإما استغباء يقصد صاحبه التلبيس به على عقول قرّائه.

فهل ما يتقدم به دوكنز تنظير كوميدي فارغ أم أنه تأصيل علمي يجب الاهتمام به.

إن العلم الرصين هو الذي يقدم سلسلة من التفسيرات المتكاملة التي توضح عملية وجود الشيء وكيفية بنائه وتطوره، فإما أن يوفر العلم ذلك التفسير، أو أن يشرح عدم قدرته على إيضاح ذلك.

وميلاد المادة والكون من العدم بحاجة لتفسير علمي، فهل سنقول: إن الله خلق الكون من العدم
أم نقول إن العدم خلق الكون من العدم، أم إن الكون خلق الكون من كون آخر؟

إن من المؤسف حقًّا وصف الكتاب المذكور أعلاه بالتناول العلمي لأعظم قضية تشغل بال الوجود الإنساني بمختلف أنواعه وأزمنته وأديانه، خاصة وأن داوكنز وأشباهه لا يقدمون التفسير العلمي لأعقد مسائل هذا الوجود، وهي النشأة والخروج من العدم إلى الوجود، بل يجحدون الآيات الكونية صغيرها وكبيرها ولا يلقون لها اعتبارًا باعتبارها نشأت صدفة وتطورت بطريق الصدفة وانتظمت بعد ملايين الصدف، وكذلك مئات الملايين من المخلوقات التي توجد في هذا الكون تأتي كلها صدفة وترحل صدفة، دون أي دليل علمي على زعمهم.

واسمح لي أيها القارئ أن أمثل لك هذا التفسير التطوري أو التصادفي بالآتي:

حدث حادث في مطبعة، فخرج عن هذا الحادث اللا إرداي كتاب منسق منظم يحتوي على أكثر من 100 صفحة تبحث إحدى مشكلات الشعر والأدب!

أنتوني فلو

أيمكنك تصديق ذلك؟

لنسأل داوكنز إذن، أيمكنه القبول بما نقول؟

إن هذه الكوميديا الإلحادية تدعو البشرية لقبول القول بأن الحياة موجودة هكذا، بلا مسبب أو منشئ، فإن لم يقبل الإنسان وجود مقتولٍ دون قاتلٍ، أو كتاب بلا كاتب، أو بناء دون بانٍ، أو مدينة دون منظم ومنفذ، فكيف يقبل بوجود كونٍ كاملٍ بلا خالق.

متى كانت الصدفة أذكى من الإنسان، ومتى كان الإنسان أحكم من ربّه.

يقول الله في القرآن: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20-21]

هل يمكن أن تنشئ لنا عقول الناس والإلحاد والصدفة مجتمعةً خليّة حيَّة واحدة بلا مادة سابقة؟

إن هذا السؤال دفع الفيلسوف البريطاني “أنتوني فلو” أكبر منظري الإلحاد في القرن الماضي إلى ضرورة القول بوجود الإله، وذلك ببسط مطوّلٍ في كتابه: “هناك إله” وهو آخر كتاب له، وقد أصدره في عام 2007 -أي قبل موته بثلاثة أعوام- وكان آن ذاك قد قارب التسعين عامًا.

فحوى ما يقدمه أنتوني في كتابهِ يدور حول التعقيد المتقَن في الخلية الحية وكيف أن التفكير بالتنظيم المتكامل للكون والكواكب والمخلوقات دفعه للاعتقاد بوجود المُصمم وراء كل هذا الكون.

فهل ثمة فرق برأيك بين كوميديا الإلحاد السوداء، واتزان العلم؟