image_print

كيف عالج الوحي مسألة الشر في الشخصية المسلمة؟

النّكبة تتلوها النّكبة، والطّامات تتابع، إلا أن الطّامة الكبرى لم تأتِ بعد!

الدّجاجلة كثر، والطّواغيت على العروش تربّعت، وجذور ظلمها تجذّرت، والشّعوب المعدومة هوَت تحت خطّ الفقر المدقع!

ولأنّ النّوائب تأبى إلا أن تأتيَ جمعًا، فقد تكاثرت الأمراض والكوارث على الشّعوب المكلومة أصلًا، وطفت على السّطح من جديد التّساؤلات عن العدالة والحكمة الإلهية، فبأي ذنب يقتل الأبرياء؟ ولماذا تكثر الكوارث في أرضهم؟ ولماذا تتكالب الضّباع على الأسد جريح؟ لماذا المعاناة من الفساد والاستبداد؟ لماذا يحدثُ كل هذا؟

تاريخ سؤال الشر

سؤال الشّرّ ليسَ وليد العولمة الحديثة، بل إنّ بذرته الأولى وُجِدت في صيغة سؤال قبيلَ خلق آدم يوم تساءلت الملائكة {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} [البقرة: 30]، ثمّ نمت برعمة السؤال إلى شجرة مشوهة حين حرّف بعض أحبار اليهود التصور الحقيقي والاعتقاد الإيماني بالإله، فقدّم العهد القديم المحرّف الإلهَ بوصفه ربًّا ظالمًا حاقدًا على البشريّة، كل شأنه وهمّه السعي لأن يذيقها سوء العذاب ظلمًا وعدوانًا، ثمّ كانت السّياسة القمعيّة للكنيسة كالسّماد لشجرة (معضلة الشّرّ الفلسفية) حيث كرّست العداء للإله القابع في النّعيم اللّاهي عن معاناة البشر بل ربّما المسبب لها، ومع بداية الثّورة الفرنسية، وبزوغ نجم التّنوير، ورغم إعدام القساوسة ورجال الدّين والسّعي المستميت لفتق الرّتق بين الدّين والسّياسة أينعت تلك الشّجرة ورسخت جذورها وقسيَ عودها ونضجت ثمارها.

وبفصل السّماء عن الأرض في الفكر التّنويريّ الأوروبي سعى الإنسان الأرضيّ لصناعة فردوس دنيويّ يحاكي الفردوس الّذي طرد منه أبوه آدم، فهو يتصف بالنعيم الدائم، وأنه جنّة تحاكي وصف الإله لها: {لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى} [طه: 118- 119] بمعنى آخر، فقد دفعته الرغبة لصناعة عالم لا مكابدة فيه ولا تعب.

انطلاقًا من الرّسم الأوليّ لهذا العالم الأفلاطونيّ نُحِتَ العالم الحديث، ملأته عدمية نيتشيه، وجبرية كامو، وعبثية سارتر، وأمام هذا الكمّ من الفلسفة التّشاؤمية الّتي بنت المدينة الفاضلة غابت الغائيّة، وغرق العالم الغربيّ رغم التّنوير في ظلمة العدميّة واللّامعنى من الوجود.

ولأنّ النّاس خُلِقتْ من نفس واحدة، فإنّ الأسس النّفسيّة للإنسان هي هي عربيًا كان صاحبها أم أعجميًّا، وبذلك طفا على السّطح العربيّ والإسلاميّ التّساؤل نفسه “لماذا خلق الله الشّرّ؟ لماذا يعذّب الله الأبرياء؟ لماذا تتوالى الطّامّات على المنكوبين أصلًا وتذر الظّالمين؟”

سعيًا للجواب

تساؤل الشّرّ إنّما برز كارتجاج نفسيّ أساسًا، ينبعُ نتيجة عجز الإنسان العربي عن الموازنة بين الإيمان بالله من جهة، وتقبل هذا الكمّ الوافر من المصائب والويلات من جانب آخر، نتيجة تضع غشاوةً على أعين السّاخطين الذين منعتهم الشبهات من رؤية الحكمة الإلهيّة.

لمّا كان الإسلام دينًا متكاملًا واقعيًّا فإنه لم ينكر الشّرّ، بل أكّدَ وجوده مع القدرة على فهم الإنسان الحكمة منه حينًا والعجز عن فهمع أحيانًا، فالكون “ليس شفّافًا بالصورة التي توضح لنا الحكمة من كل ابتلاء” -كما يصف د. سامي العامري-.

نتيجة لهذا التّصوّر الواقعيّ، وسعيِ الدّين الحثيث لتهيئة الخليفة المنشود لعمارة الأرض فقد عمد لبناء الدّعامات النّفسيّة للفرد المؤمن، هذه الصّمامات الّتي بنَت الشخصيّةً المسلمة وأكسبتها مناعةً تقيه فتنة الابتلاء وتثبّتُ قدمه عند الزّلل.

ولأنَّ كلّ شعور وسلوك يسبقهما فكرة في عالم الكلمات والمعاني، فقد كان مطلع الدّرب في مسيرة الصّناعة والإعداد للإنسان “الأميّ” تعلّم الأبجديّة وتسمية الأسماء بمسمّياتها، تمامًا كما عُلّمَ آدمُ أوَّلَ ما علّمَ الأسماء كلّها ثمّ نسيَها خَلَفه لمّا طال عليهم الأمد، فنسخ مفهومَ الشّرّ بمفهومِ الابتلاء، وهو اصطلاحًا الامتحان أو الاختبار، ويحتمل الخير والشّرّ لقوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، فالبلاء يكون حسنًا ويكون سيّئًا، وأصله المحنة.

أمّا الرّسول الأكرم ﷺ فقد أكّد أنّ الابتلاء كلّه خيرٌ ما دام قدَرًا من أقدار الله وجنديًّا من جنوده، وذلك في الحديث المشهور: (عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له) [أخرجه أحمد في المسند ومسلم في صحيحه]، وقوله ﷺ في سياقٍ آخر: (ما يصيب المسلم من نَصَب، ولا وَصَب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه) [أخرجه البخاري] وبذلك لن يضيع المؤمن بين حكمة ربّه ورحمته -كما ذكر ابن تيمية رضي الله عنه ورحمه-.

وبعد تبديل البالي من التّسميات بجديدها، انطلق الإسلام ليزيل الزّينة الزّائفة عن العالم الورديّ الّذي يسوّق له السّابقون الأوّلون من الملاحدة واللّاأدريون، فعمد لتغيير التّصوّرات المثالية للحياة في ذهن ولد آدم، الحالم بفردوسٍ أرضيّ لا يعدو أن يكون ظلًّا دميمًا للأصل، مشدّدًا أنّ الإنسان خلقَ في كَبَد من النّفخة الأولى حتّى النّفخة الأخيرة، وأنّه في اختبار مادام في الجسد نفس، مؤكّدًا أنّ الدّنيا أطوار لا ثبات فيها، لا الخير فيها دائم ولا الشّرّ وكلاهما زائر لا مقيم، كما عبّر الكاتب أيمن العتوم بعبارة بليغة  في روايته نفرٌ من الجنّ عن هذا المعنى بقوله: “ولولا أنّ الشّرّ خُلقَ لما عرفا جمال الخير، ولولا أنّ الخير وُجِد لما عرفا قُبح الشّرّ…. وهما مثل الموت والحياة، لو لم يُخلق الموت فأيّ عقلٍ يمكن أن يفسِّر معنى الحياة؟”.

ثمّ أظهر للإنسان الذي خال نفسه بغنى عن الإله قصوره، فهو مهما بلغ من اتساع الأفق يبقى هباءة أمام الكون الفسيح، وبذلك تنتهي فرضيّة القدرة على خلق عالم بلا ألم، فالإنسان الحديث رغم ما توصّل إليه من علم وعتاد يبقى يرتجف كجناح ذبابة عند الفزع، ولا يزال قلبه يسقط بين قدميه عند الصّدمة الكبرى، ولايزال عاجزًا عن منع الحروب بين أبناء جنسه فكيف به على الكوارث الكونيّة؟

لقد أكّد الله في مواضع مبثوثة من كتابه أنّ الخير كلّه بيده وأنّ الإنسان لمحدوديّة علمه مهما بلغت من امتداد قد يسبّبُ الشّرّ خلال سعيه للخير {ويدع الإنسان بالشّرّ دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولًا} [الإسراء: 11].

وبين تغيير المسمّيات والتّصوّرات، قصّ الله عبر كتابه قصص الأنبياء مبيّنًا من جهةٍ حجم المعاناة الّتي لحقت بهم كاشفًا أحيانًا عمّا عقب هذه المحن من منح ولطائف، فقصّة يعقوب و تمكين يوسف معروفة، وصبرُ أيّوب على ابتلائه مضرب مثل، وغيرها الكثير وهذه القصص كانت لتبيان أنّ الحياة لم تسلم لأحد حتّى أصفياء الإله مصدّقَا قوله تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] من جهة، وتثبيتًا لقلوب المؤمنين المرتجفة من صروف الدّهر من جهة ثانية.

ولعلّ أكثر الصّور الواضحة الّتي قدّمها القرآن في معرض الحديث عن معضلة الشّرّ هي مشهد النّبيّ موسى عليه السّلام مع العبد الصّالح، حيثُ اتضح جهل الإنسان بمقتضى الحكمة الإلهيّة من أمورٍ ظاهرها فيه العذاب وباطنها فيه الرّحمة، فموسى الّذي طرح مسألة الشّرّ من موقع قوة – كما حسب- بإنكاره المستمر أمام أفعال العبد الصّالح “الشّنيعة” ظاهرًا سرعان ما أسلمَ للحكمة الإلهيّة الرّحيمة حين كشفت الأسباب وزيحت عن الأعين الغشاوة.

خاتمة المقال

إنّ انطلاق الوحيّ الإلهيّ لتغيير المسمّيات والتّصوّرات انعكس دون ريب إيجابًا على عالم الشّعور والسّلوك لدى الفرد المؤمن المسلم، فتغيير عالم الأفكار أزال عن العيون اللّثام، وأنار البصائر وأنزل السّكينة على القلوب فكانت تسلية للمؤمن فيما يصيبه مترجمًا ذلك بصبر على احتمال الشّدائد والنّوازل.

إنّ سؤال الشّرّ إذًا ليس بدعةً جديدة، إلا أن الإسلام لم يكن مهتمًا لا بتسفيه حجج الباطل وإفحامه عبر البراهين المنطقيّة والبديهيّة محطّمًا بذلك الصّخرة الأساسية الّتي يستند عليها الإلحاد فحسب، بل كان اهتمامه أيضاً ببناء شخصيّة إنسان سويّة، قادرة على الموازنة بين الإيمان بالله عزّ وجلّ، والصّبر على ابتلائه سواء انكشفت الغاية منه أم لا.

فلسفة الغيب وجدلية الحساب

لنبدأ مقالنا بهذا السؤال الذي يتكرر على نحو مستمر: إن كان الله هو علام الغيوب، لماذا يحاسب الإنسان على الشر وقد كان في علمه مسبقا أنه سيرتكبه عندما خلقه؟

إن الخوض في هذه المسألة وما شابهها من المسائل يحتاج لحذر شديد، حيث إن التفكّر في الغيبيات كقدرة الله تعالى ومحاولة تفسيرها قد يصل بالمسلم إلى السؤال عن الذات الإلهية وكنهها، وهو أمر منهي عنه كما جاء في حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (تفكروا في آلاء الله، ولا تفكّروا في الله) [أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان].

بحثًا عن الأسباب

إن تأثير الإلحاد في مجتمعاتنا العربية المسلمة خفيٌّ داخل موجة العلمانية، والتصريح بشكوك النفس في الإيمان ما زال غير ظاهر بين العوام. وهذا يصعّب الوقوف على الأسباب الكاملة لخروج ملحدين من بين المسلمين. كما يسهل على البعض أن يعزو الأسباب بالدرجة الأولى لمشاكل أسرية واجتماعية دون الانتباه للمشاكل العَقدية.

لذلك، فإنه من الواجب الرد على الأسئلة الجدلية في الإيمان حرصا على التصدي لهذه الهجمات، ولكن مع حفظ الأدب في الحديث عن قداسة الله تعالى والترفع عن التشبيه قدر الإمكان. قال أبو حنيفة: “لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء، بل يصفه بما وصف به نفسه” [شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي]

بدايةً فإن الغيب يختص بكل ما عجز الإنسان عن إدراكه بعقله وحواسه، فهو غير معلوم كليًّا. وأسباب العجز هذه مرتبطة بتحديد قدرة المخلوقات بعوامل مذكورة في القرآن، ففي قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز، قالت بعدما خرج يوسف من السجن كما أخبر الله تعالى: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} [يوسف: 52].

فحقيقة هذه الحادثة أنها كانت غيبًا عن عزيز مصر بسبب قصور تواجد الإنسان على مكان واحد فقط. وقد أخبر الله تعالى رسوله محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم وهو في عصر آخر عن قصة يوسف في قوله {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} [يوسف: 102]. فهذا الأمر كان من جملة الغيب عن رسول الله بسبب قصر زمن حياة الإنسان نسبيًّا في تاريخ البشر.

نلاحظ في قصة موت سليمان عليه السلام، قول الله تعالى {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} [سبأ: 14]. فهذا الأمر كان من جملة الغيب عن الجن الذي لا نراه ويرانا، وذلك بسبب قصوره في الإلمام التام بحالة المادة.

إذاً من المستحيل على الإنسان معرفة الغيب وهو مقيد بالمكان والزمان والمادة. ولن يستطيع الإنسان استيعاب قدرة الإله في الإحاطة بالغيب طالما يقيس الأمر بالحيثيات التي تتأتى من قصور قدراته البشرية.

على سبيل المثال فإن الخضوع لعامل الزمن، ينشأ عنه مفهوم الانتظار. لكن عندما لا يخضع شيء للزمن، فلا معنى للانتظار، فليس هناك ماض أو مستقبل، ولذلك فإن أي مسألة مبنية على هذا القياس القاصر ستكون مسألة مغلوطة كالمسألة المطروحة هنا والتي تضفي شيئا من قصور الإنسان الحسي على قدرة الخالق (جل وعلا). لا يمكننا طبعا فهم كيفية إطلاع الخالق على الغيب لكن يمكننا أن نصحح الحيثيات التي تتفق وقدرته، بحيث تصبح معرفة الغيب نتيجة طبيعية لقدرة الله تعالى دون تشكيك بعدله في محاسبة عباده عن علم مسبق بأفعالهم.

ليس كمثله شيء

 نحتاج أولا فهما أوسعا لبعض الصفات الإلهية. أخبرنا الله تعالى عن نفسه بأنه الحي الذي لا يموت، وبأنه الأول الذي لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء فهو الآخر، وهو الظاهر والباطن والمحيط بكل شيء.

إن تفكرت جيدا في هذه الصفات ستجد أنها تفيد بأنه سبحانه لا يحدّه أي من عوامل المكان ولا الزمان ولا المادة. بالتالي فإن ما يغيب عن جميع المخلوقات هو بالضرورة مكشوف لله تعالى.

يقول عز وجل {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59]، وقد أجاب ستيفن هوكينج عالم الكونيات الملحد في مقابلة قديمة على سؤال مفاده “هل يستطيع العلم أن يصف ما هي قدرة الإله؟” فرد على ذلك مجيبًا: “إن كان هناك شيء يستطيع اختراق الزمكان والتنقل بحرية في العوالم المتوازية –التي هي عماد نظريته- دون تقييد قوانين الفيزياء له، يمكننا حينها أن نطلق عليه اسم إله”.

هذا يعني، أن الله تعالى يسمع ويرى ويعلم حال كل شيء، في أي مكان وأي زمان. وكما هو قادر مثلا على أن يرى ما يَحدث في كل الأماكن في ذات الوقت، فهو قادر على أن يرى ما يحدث لشخص في كل أوقات حياته في ذات المكان. وهو قادر أيضا على أن يختص من رسله برؤية الغيب كما قال الله تعالى {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه رصدا} [الجن: 25، 26]. وهو ما كُشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه بنفسه وأخبر عنه من أحوال أهل الجنة وأهل النار عندما عرج إلى السماء السابعة بعدما أسري به. وهؤلاء من وصفهم في الجنة والنار هم من بني آدم.

ما سيحدث قد حدث

بناء على ما تقدم يمكننا القول إن حياة البشر بالنسبة للخالق جل في علاه -وليست بالنسبة لنا-، بما فيها من تفاصيل ومجريات منذ خلق آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة على بني آدم، قد حدثت كلها، ولا تستوجب ما نصفه نحن بالانتظار.

يقول الله تعالى {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين} [يونس: 20]. لذلك فإن يوم الحساب قد جاء فعلا، وغل الكافرين إلى جهنم فهم يتعذبون، وسيق المؤمنون للجنة فهم يتنعمون. والكثير من الآيات التي تتكلم عن الحساب والنعيم والعذاب بعد قيام الساعة تصف أحوال العباد بكل وضوح وكأنها حدثت أو تحدث أمام المولى.

يصعب علينا فهم هذه الحقيقة لأن العوامل السالف ذكرها كلها تدركها أجسادنا وتجري عليها. لكن بمجرد أن نخرج من الخط الزمني، ولا يحدنا الجسد ولا المكان كما حدث مع رسول الله في معجزة الإسراء والمعراج، هنا فقط يمكننا استيعاب أن ما قدره الله لنا من عيش في الدنيا، قد حدث فعلا في حياته الأبدية إنما نحن ما زلنا نعيش القَدَر ونتفاعل معه ونحن خاضعون لعامل الوقت، نتحسّر على أخطاء الماضي ونعارك فتن الحاضر ونتوجس مما يحمله المستقبل دون قدرة على التنقل بينها جميعا لتلافي العثرات والسقطات.

الخلاصة

إن الغيب أمر خارق فقط لدى الإنسان لأن إحاطته بالعلم عن شيء ما تقتضي حدوثه ضمن حدود قدرته، وحال أنه لم يحدث فهو غير معلوم. أما عند الله تعالى فهو المحيط بكل شيء ضمن قدرته وحال كل شيء قد حدث أمام القدرة الإلهية من رؤية ماضي وحاضر ومستقبل الإنسان معا.

إذًا المسألة ليست كما يظن الغالبية، أن الله تعالى ينتظر الإنسان لينظر إلى ما سيفعل وهو يعلم ما سيفعل. إنما الله تعالى يعلم ما سيفعل لأن الإنسان قد فعله. وعلى هذا، فإن السؤال “لماذا يحاسب الله تعالى العبد على شر هو يعلم أنه سيرتكبه؟” هو سؤال خاطئ في جوهره، لأنه يُقَدّم وكأن الأمر تحقيق فعل محقق كعقيدة الجبرية.

إن الصواب هو أن الله تعالى يحاسب العبد على فعل رآه وهو يفعله باختياره حقيقة. كما يتضح لنا أنه لا يجوز قياس حياة الإنسان على حياة الله الأبدية أو العكس. ويخطئ من يمثل حياة الإنسان رياضيا بخط بياني قصير أحد محاوره الزمن، بتوازٍ مع خط بياني آخر لا نهائي لحياة الرب الأبدية. لأن ماهيّة كلٍ من الحياتين مختلفتان، فإحداهما غير خاضعة للزمن، فلا يجري عليها قبل وبعد أو أمام وخلف، ومن ثمّ فإن هذه المقارنة مرفوضة وتؤدي لفهم خاطئ يصدر منه مثل هذه المسألة المغلوطة.

الإسلام في عيون مسيحية .. د. جوردن بيترسون مثالاً

في الشهور الأخيرة، قام طبيب النفس الكندي (جوردن بيتيرسون) بعدة نقاشات مع دعاة مسلمين ليتعرف على الإسلام بشكل أعمق وليصحح المفاهيم المغلوطة لديه. وعلى الرغم من أن لقاءه مع الداعية (محمد حجاب) كان يوحي بأن الرجل قد يُسلم عما قريب، إلا أنه في يوم 13/7/2022 أصدر كلمة للمسلمين عبر قناته على اليوتيوب، مما بَيّن شدة سوء فهمه لأصول للإسلام رغم كل لقاءاته، وهذه الإشكالات لا تختزل في سوء فهم فردي، بل إن تخبط الرجل يذكرنا بالفجوة الهائلة بين المسيحي المعاصر والإسلام. وأن وراء هذه الفجوة جذر عميق لماض طويل بين الديانتين.

تعريف الدين عند المسيحيين

لم يأت سيدنا عيسى بشريعة كاملة مثل الشريعة التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الأساس، وإنما أتى لإحياء المعاني الربانيّة التي غفل بني إسرائيل عنها رغم أنها منصوص عليها في التوراة {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِى حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]، وجاء بالإنجيل بكل ما فيه من سبل تزكية النفس وتعاليم أخلاقية، فقال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46]

بعد تحريف المسيحية لتتحول الدعوة من المحلية إلى العالمية، وبعد فقد الكثير من النصوص الأصلية للإنجيل وتحريف الديانة، وبعد تفشي العالمانية في القرون الأخيرة، تحوّلت الدعوة المسيحية من دعوة تجديد وإحياء للدين إلى دعوة تختزل الدين في كونه رسالة روحانيّة فقط.

بناء عليه، يُعرّف المسيحي الدين على أنه السمو الروحاني والتعاليم الأخلاقية فحسب، أما التشريع، فهو متروك للقساوسة والكهنة ليكون لهم الحكم الثيوقراطي، ولا مرجعية دينية حتمية يتحاكم إليها كل الناس بالتساوي. حتى أن كلمة دين بالإنجليزية (Religion) أو بالفرنسية (la Religion) تعود إلى الجذر اللاتيني (Relego) بمعنى (قرأ مرة أخرى). فأصبح الدين بالنسبة لهم مجرد قراءة في أسفار الكتاب المقدس بشكل مكرر، ولا شريعة ولا تحليل وتحريم نابع من النص الديني..

أصل المشكلة

عندما يبحث المسيحي في الدين الإسلامي بالعقلية التي تختزل الدين في كونه رسالة روحية وتعاليم أخلاقية، يبدأ في مقارنة المسيحية بالإسلام رغم الفارق الهائل بينهما، وهنا أصل المشكلة..

فمهمة سيدنا عيسى عليه السلام كانت مهمة محلية روحية، ومهمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كانت مهمة عالمية روحية وتشريعية على حد سواء، وهنا نرى المسيحي يقصر النظر على الجانب التشريعي في الإسلام ولا يكاد يقبله، لأنه لا يقبل أي معالم دينية تخرج من الدائرة الشخصية لتؤثر في الواقع الخارجي..

من هنا تنطلق أغلب مقولات د. جوردن في كلمته، مثل “من المفترض على المسلمين أن يكفوا النظر إلى اليهود والنصارى على أنهم أعداء، وأن يشغلوا أوقاتهم بتنقية شرور أنفسهم، وذلك خير من النظر إلى الآخر على أنه عدو “

وعليه نقول، إن المسلم لا ينظر إلى اليهودي أو النصراني على أنه (عدو)، بل هو من (أهل الكتاب). والمسلم لا يتعامل مع أهل الكتاب على شاكلة واحدة، فأهل الكتاب ليسوا سواء، وظروف الحياة ليست سواء كذلك بين حرب وسلم. ولكن المسلم مطالب العدل والإحسان في حالة السلم، فالله يقول: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] وعندما فتح عمرو بن عاص مصر وهي تدين بالمسيحية قال في خطابه لأهل البلد: (هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم) [البداية والنهاية، ابن كثير]، فالأصل هو السلم والتعامل بالقسط، كما يقول تعالى: {وإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61]

في موضع آخر يقول بيترسون: “بدلا من هذه العداوة بين المسلمين وغيرهم، الأفضل للمسلمين أن يجعلوا من أنفسهم أمثلة رائعة من الإنتاجية والحكمة والأخلاقية حتى يتحول الناس إلى دينهم”

إن المعتقد النصراني المُحرف يبني أصول الدين على أحداث تاريخية غير قابلة للبرهنة والاستدلال مثل عقيدة الصلب والفداء. بناء عليه، لا يستطيع المسيحي أن يبشر بديانته إلا بعلو أخلاقيته وسمو حاله، ولكن الدعوة البرهانية عنده من المحال؛ وذلك على العكس من الإسلام الذي يقول في صوت عالٍ إنه الدين الحق بالدليل والبرهان، ويستفز المخالف ليخوض الجدال بنبرة تعجيز، ويفرض على المسلم جدال المخالف بالمنطق والحكمة {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. وبناء عليه، ينظر المسيحي إلى كل محاولات الجدل مع المخالف والدعوة البرهانية على أنها (عدم تقبل للآخر) أو (عداوة) أو (ادعاء للفوقية). وما ذلك إلا لغياب مفهوم البرهنة في المسيحية وحصر الدين في كونه وراثة لا اعتقادًا منطقيًّا برهانيًّا.

ومن جملة الأوصاف التي أطلقها بيترسون قوله: “أنتم تشعرون دائما بالتهديد من الأفكار الشيطانية المدعومة بالإعلام دائما، سواء على المستوى العائلي أو الجنسي أو النفسي أو الإيماني. فماذا لا نكف عن الخوض في هذة التفاصيل ونواجه العدو الحقيقي، وهي شرور النفس”

وهذه بالتأكيد مستمدة من النظرة التقليدية للمسيحي الذي يرى الشريعة الإسلامية بكل ثوابتها من حلال وحرام مجرد تفصيليات. وذلك لأن الحكم الثيوقراطي المبني على اللامرجعية يجعل التحليل والتحريم شيئًا مطاطيًّا يتغير من زمان إلى زمان، ويخضع لسطان الحكم ومزاج العصر. أما الإسلام، فهو لا يُهمّش أصل الدين من أجل العصر وطبيعته، لأنه جاء ليغير العصر ويهيمن عليه لا ليقاد على حسب طبيعته وبيئته..

يبهرنا بيترسون مرة أخرى حين يتساءل: “هل هناك أحد بين المسلمين على نيّة لإنشاء منصة تجمع السنة والشيعة وتجمع المسلمين بغيرهم على نحو عام، حتى يعم السلام ويتصرف أتباع الإله على النحو المتوقع منهم؟”

هذا التصريح جعل الكثيرين يشككون في نيّة الرجل، وما إذا كان يعبر عن أفكاره الشخصية أم أنه مجرد وسيلة دعائية أخرى للديانة الإبراهيمية المراد لها أن تنتشر. وهو تصريح يرجعنا إلى نقطة غياب مفهوم (الاستدلال البرهاني على صحة الدين) في الثقافة المسيحية. وأنه لا فرق بين دين ودين، ولا حق ولا باطل، ولا إقامة حجة ولا عجز عن الرد. وهي مجرد صورة أخرى من مفهوم (نسبية الحقيقة) وغياب الحقيقة المطلقة. وهذا المعنى في حد ذاته يسفح مفهوم (الحقائق اليقينية) ويوقعنا جميعا في الشك والسفسطة، وتحويل الأديان من معتقدات شخصية إلى مجرد ميراثٍ شخصي عن الآباء، ولا فرق بين دين ودين. والغاية النهائية هي تحقيق السلام وتكوين الصداقات بين أهالي الملل المختلفة، لا البحث عن الحقيقة وإقامة الحجة على المخالف!

فمن يكفر بالطاغوت

إن المسيحي الذي يقترب من الإسلام على أنه نسخة معدلة من النصرانية لا يكاد يفقه قولا، لأنه أسير حكمه المسبق على الإسلام رغم شدة خطأ حكمه. فيتفهم المسيحي أصول العقيدة ودعوات تزكية النفس في الإسلام، ولكنه يقف أمام التشريعات ورؤية الإسلام الكونية ومهمة المسلمين لإنقاذ العالم من الضلال، ولا يكاد يتفهم كل ذلك.

إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا يمكن للمرء أن يكون حياديا ومنصفا لو حكم على شيء مسبقا قبل تصوره على ما هو عليه. ولا تصور صحيح للإسلام إلا إذا دخله المرء من باب العقيدة ورؤيته الشاملة للكون والحياة، ولذلك لا يكون الإيمان صحيحا إلا إذا تخلى الإنسان عن أفكاره الخاطئة وتصوراته الباطلة. ومن هنا تكن نصف شهادة التوحيد كفر بكل ما سوى عدا الله، كما في مفتتح كلمة التوحيد (لا إله..) ثم يأتي بعدها الإثبات والإيمان بالله بعد خلو العقل من الخرافات بكلمة (إلا الله)، ومن هنا يكون الكفر بالطاغوت سابقًا على الإيمان النقي الصحيح {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]

أدلجة العلم وتضليل الجماهير!

منذ مطلع البشرية اتصف الإنسان بحب البحث والاطلاع، فالإنسان مجبول في فطرته منذ أقدم الحضارات في التاريخ على ذلك، ومن الشهير في أوساط العلوم أن أول مدرسة معتبرة في العلوم الطبيعية كانت في اليونان قبل الميلاد في أثينا على يد عدد من الفلاسفة مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو.

تأسيس المنهج العلمي التجريبي

ألف أرسطو كتبًا في علوم الطبيعة ونظرية المعرفة –الإبستمولوجيا-  وقد كانت الإضافة الحقيقية تكمن في تأليفه للمنهج الذي يجيب على سؤال (ما الفرق بين الحقيقة والخرافة)؟ حيث تردد بين إجابات متعددة إلى أن انتهى إلى (الاستدلال الاستقرائي). ويمكن شرح هذا الاستدلال بأنه قائم على اتباع الملاحظات والحقائق الصغيرة، وبناء نسق عام لها، بهدف توصُّل الإنسان إلى الاستنتاجات والنتائج الكبرى، وقد تبنى غالبية من جاء بعد أرسطو من المفكرين والفلاسفة هذا المعيار للتفريق بين العلمي وما هو مجرد خرافة حين من الدهر، وبالرغم من أن هذا المنهج –أي الاستدلال الاستقرائي- يميل إليه الإنسان دون الحاجة إلى معلّم أو سابق تفكير، إلا أن وضع قواعد منهجية ومكتوبة لهذا الاستدلال كان من حظ أرسطو بداية.

من ناحية أخرى، فإن التطبيق العملي المثمر لهذا المنهج جاء على يد المسلمين، سواء قبل حركة الترجمة في عهد العباسيين أو بعدها، وبناء على اتباع هذا الاستدلال ظهرت طفرة عظيمة في المعارف، ووجِدت ثورة معرفية عظيمة بين المسلمين على يد أمثال ابن الهيثم، والبيروني، وابن سينا وغيرهم من العلماء الموسوعيين في الطبيعة والطب وغير ذلك.

بالرغم من تبنّي المسلمين منهج الاستدلال الاستقرائي بصيغته الأرسطية بدايةً، إلا أنهم زادوا عليه شرط وجود التجربة، إذ إن المعيار الأرسطي كان نظريًّا جافًا منعزلًا عن الواقع، فأضاف عليه المسلمون التجربة ليتحول الافتراض العلمي من احتمالية ظنية إلى حقيقة يقينية. ومن هنا جاء التأسيس الحقيقي للمنهج العلمي التجريبي ليكون الخط الأحمر الفاصل بين العلم والخرافة.

نظرية التطور وفلسفة العلم

مرّ الزمان وبقي الحال على ما هو عليه من مناهج البحث والعلم حتى بدء عهد النهضة في أوروبا، وهنا رأينا ترجمة أخرى لكتب أرسطو وكتب علماء المسلمين إلى اللغة اللاتينية، وبذلك انتقلت العلوم الطبيعية إلى أوروبا مع المنهج التجريبي الذي نفذه المسلمون وكان فاصلًا بين الحقيقة والخرافة، ومن ثم فقد حاول الغرب اتخاذ المنهج التجريبي مرجعية في العلوم لعدة قرون، إلى أن جاء القرن السابع عشر أو ما يسمى بعصر الأنوار، حيث شهدت أوروبا تصاعد حركات الإصلاح الديني والفكر المتمرد على الدين المسيحي، وأصبح الذوق العام يميل إلى تكذيب الخطاب الكنسي القائم على الاتباع الأعمى في مسائل الظواهر الطبيعية، واستبدلت الجماهير تفسيرات الأناجيل حول ظواهر الطبيعة بالتفسير العلمي القائم على التجربة والدليل.

ومع زيادة دعاوى تعارض الدين مع العلم، ومع الميل العام لجانب العلم، ظهرت شكوك دارون حول الرواية الإنجيلية حول قصة الخلق. وبدأ رحلته في محاولة استبدال الرواية الدينية بأخرى علمية حتى نشر كتابه (أصل الأنواع) في سنة 1859م. ولقي الكتاب رواجا هائلا جعل من مؤلفه نجما مقدسا إلى يومنا هذا، ولا شك أن الموجة العامة من التنوير أثرت في مدى قبول أفكاره، مهما كانت غريبة وجديدة على الناس كليًّا!

ولكن التسرع في قبول النظرية والانشغال بالضجة الجدلية التي أخلفتها ستر عن الناس الخلل الجوهري في النظرية، وهو عدم اتباع النظرية للمنهج الاستقرائي والتجريبي الذي سار العلم عليه طوال التاريخ! إذ إن النظرية بدأت بوضع فرضية التطور أولًا، ثم بدأت تبحث عن أدلة تدعم الفكرة ثانيًا. أي إن نظرية التطور اتبعت في مسارها (الاستدلال الاستنتاجي) بدايةً لا (الاستدلال الاستقرائي)!

وهذا يعني أنها –بحسب المنهج العلمي– افتراض نظري لا يخضع للرصد والتجربة، ولا يمكن أن ينسب إلى العلم بأي حال. إذ أن العمر البشري المحدود في بضعة عقود يستحيل له أن يرصد ما يحدث على مدار ملايين السنين، فضلا عن التجربة والبرهنة!

يقين فوق الشبهات

الحماسة الأولية والإصرار على قبول النظرية تبعه تلاعبٌ بالمعيار العلمي، وهكذا كانت البداية لخروج هذه النظرية من تهمة الخرافة وتلحق بركب الحقائق العلمية المعتبرة،  ففي نفس القرن الذي شهد الترويج لنظرية دارون، غُيِّرَ المعيار الفاصل بين الحقيقة العلمية والخرافة العلمية على يد بعض فلاسفة العلم ممن يؤيدون دارون مثل (لويس باستير) و(جريجور مينديل) بحجة أن الحاضر يختلف عن الماضي، ولو صدقوا لاعترفوا أنهم يتلاعبون بالمعيارية ليجدوا مخرجا من عدم التزام نظرية صديقهم بالمنهج العلمي!

بطبيعة الحال، فقد صدرت آراء تقول إن الاستدلال الاستنتاجي معترف به إلى جانب الاستدلال الاستقرائي أيضًا، ولا عجب –والحال كذلك- أن يتم الاعتراف بالمعيار الجديد ليزاحم القديم!

والعجيب أن التلاعب لم يكتفِ بتغيير المعيار العلمي الأصيل، بل وصل الأمر إلى عدم الالتزام بالمعيار الجديد أيضًا! فالمنهج الاستنتاجي ينص أن أي استنتاج وجد أدلة تدعمه فهو حق ما دام قابلًا للدحض عن طريق التخطئة بالتجربة Falsification tests .

ولكن هذا لا يتوفر في نظرية التطور أصلا، إذ إن الإنسان صاحب العمر المحدود لن يستطيع أن يأتي بدليل تجريبي يدحض وجود تطورٍ يحدث على مدار ملايين السنين. فلا الاستدلال الاستقرائي المتعارف عليه موجود في عملية الاستدلال، ولا الطعن في النظرية تجريبيا في الإمكان! ومنذ ذلك الحين، تحول المعيار من خط أحمر متفق عليه عالميا –أي المنهج الاستقرائي التجريبي- إلى معايير مختلفة ومتعددة.

نتيجة لذلك نشأ مذاهب عدة في فلسفة العلم، وكانت هذه المذاهب طرائق قددا لا تكاد تجتمع على رأي واحد، وكل مذهب يضيف معيارًا ما ليفرق بين العلم والخرافة. ومن شبه المحال أن تحصل على إجابة واحدة على سؤال: ما الفرق بين ما هو علمي science وما هو غير علمي pseudoscience؟

من هنا خذلت فلسفة العلم المجتمع العلمي بشكل فادح لعدم وجود إجابة موحدة يعترف بها عالميا. ولا تملك الجامعات إلا أن تتبنى فلسفة ما تقيم عليها الأبحاث العلمية!

وبهذا المثال البسيط، يدرك الإنسان خطورة فلسفة العلم في تغيير المعيار بين الحقيقة والخرافة، وتحويل الخرافة إلى حقيقة، بل وتحويل الخيال إلى حق مطلق غير قابل للنقاش ولا يحتمل التخطئة!

إن غياب المعيارية الموحدة في المسائل العلمية لا يعني نهاية فلسفة العلم، بل يعني أننا لن نتحاكم إلى حكماء وعلماء ومفكرين وفلاسفة منصفين فور نشب أي جدال. كلا، فلا حكم منصف في ظل توفر ألف خط أحمر بين العلم والخرافة! وهذه المعيارية السائلة تشكل خطرا كبيرا على البشر، لا لأن الجموع قد تمر عليها الخرافات تحت ستار العلم، بل لأن الجموع أُشبِعَت عقولها بالخرفات وهم يحسبون أنهم يتزودون من المعارف!

 فالتلاعب بالمعايير قد ينتج لنا خرافات تتسم بالقداسة بلا مساحة للطعن أو التشكيك، وقد يتحول الاحتمال الظني إلى يقين فوق الشبهات!

تضليل الجماهير

لا يكاد ينكر أحدٌ أن الأدلجة وتشكيل وعي العامة عبر المناهج التعليمية كان هدفًا أساسيًّا ومن دأب الساسة في العقود الأخيرة. فمن يمتلك قدرة السيطرة على مناهج العلوم في المدارس والجامعات أصبح يمتلك عقول العامة بين يديه في ظل غياب المعيارية الدقيقة!

فالسياسة تهتم بترسيخ الأفكار من خلال أدلجة العلم، تارة بتحويل العنصرية بين شعوب بعينها إلى نتيجة محتومة لنظرية التطور. وتارة بالتطبيع مع مناقضة الفطرة في الميول الجنسية بحجة أنه أمر طبيعي لأسباب وراثية أو اختيارية، وتارة بإعلاء أصوات ورؤى النسوية بحجة أن المخ الأنثوي يتفوق على المخ الذكري، وتارة بنشر الإلحاد بحجة أن الكون قد نشأ عن أكوان لانهائية متعددة فكان كوننا والأرض فيه من خلال الصدفة الرائعة!

ولا يتوهم أن المجتمع العلمي محايد إلا مسرف على نفسه في السذاجة. فلا براءة في ظل سياسات تتسابق على نشر الأيدولوجيات، ولا حياد في ظل غياب الخطوط الحمراء!

وأما من كان له من بعد النظر والحكمة، فلا يملك إلا أن يتحاكم إلى المعيار الفطري والعلمي القديم، وهو الاستدلال الاستقرائي المبني على الرصد والتجربة المعترف به على مدار التاريخ إلى عصر الأنوار. حينها يمتلك المرء فرقانا يفرق به بين الحقيقة العلمية والخرافة العلمية، وليكون الإنسان في تثقيف هادئ بعيدًا عن ضجيج المؤامرات. في مأمن من مصائد الأدلجة، ومكائد تضليل الجماهير!

هل يكفي العلم لدعم الإلحاد؟

محمد نبيل

تبدو ظاهرة الإلحاد على مرّ التاريخ قضية مركّبة، فهي من القضايا المعقدة التي لا يمكن ردّها إلى عامل أو عاملين؛ وإنما لا بد من رصد الكثير من السباب لفهم تشكّل الظاهرة على وجهٍ أوليّ، فالأسباب المؤدية للإلحاد تكاد تتنوع أشكالها؛ وفقًا لكلّ حالةٍ على حدة، كما يغلب على ظن الكثيرين أن ظاهرة الإلحاد ترجع إلى أسباب علمية محضة، لكن بالتحقيق يبدو أن ذلك مجانبٌ للصواب، وهو ما بيّنه أنطوني فلو في كتابه الشهير “هناك إله”.

حدود العلم

إن حدود العلم الطبيعي بمعنى النظر في الموجودات من حول الإنسان، تكاد تنحصر في البحث عن العلل الفاعلة في الأشياء، وذلك لغرض فهمها وتفسيرها واستخراج قواعدها وقوانينها، إما لتجنب أضرارها وإما لتطويع فوائدها، فضلا عن إرضاء الفضول العلمي، وتعد أدوات العلم الطبيعي في ذلك هي حواس الإنسان التي يقودها عقله لتحليل بياناتها ومُدخلاتها وتصميم تجاربها، ثم تدوين مُلاحظاتها للخروج في النهاية بالنتائج والتفسيرات والنظريات أو القوانين.

وبذلك فإن العلم الطبيعي له شقّان، مادِّيٌّ تجريبي مُتعلق بالحواس والرصد، وشقٌّ عقلي بحت في الملاحظة والاستدلال والقياس والاستقراء والاستنباط، ثم الاستنتاج وتعميم الفرضية أو القانون.

أما الأديان، التي يقودها عمومًا الإيمان بخالق، فهي تشمل حدود الموجودات المادية وتجعل مِنها أداة عقلية دالة عليها، ثم هي تتخطاها إلى ما وراءها من فاعل مُريد وغايات، وهي بذلك تتعدى حدود حواس الإنسان لتصب في استخدامه لعقله المتدبر المحلّل المفكر في كل ما حوله من أشياء وعلاقات، للوصول مِنها إلى صفات عامة يقينية عن الخالق أو الصانع، فتثبت وجوده حتمًا وربوبيته في الوجود -تمامًا كما يستطيع أي إنسان الاستدلال على وجود صانع بالتأكيد لمحرك السيارة أو أي من الآلات المختلفة، بل ويستطيع كذلك استنباط العديد مِن صفات هذا الصانع مِن غير أن يراه أو يحيط به كله، مثل أنه لديه صفات عِلم وحِكمة ودقة وتقدير وقدرة وقوة على تشكيل المواد وتركيبها.. إلخ-.

قصة حوار

في حوار مع ملحد عربي يصدق العلم فقط، جرى حوار بيني وبينه، أسرده هنا للفائدة والعبرة!

هو: أنتم تريدون منا أن نصدق خرافات وأشياء غائبة حسيا كالله والملائكة، نحن لا نصدق إلا ما تدركه حواسنا من حقائق وما يقول العلم عنها. أما أنتم فلا دليل واحد مادي على ما تؤمنون به.

أنا: لدينا كلام الله تعالى المنزل في القرآن الكريم.

هو: هراء، هذا كلام ابتدعه رجل في الصحراء وصدقتموه!

أنا: حسنا، أنت تتبع كلام العلماء العارفين بالمادة والواصفين لها وتصدقهم في كل شيء. وبالطبع كان هناك مثلك من مات في القرن الماضي وهو لا يصدق الغيبيات التي نؤمن بها في القرآن. لكن لاحظ أيضا أنه كان يصدق ما يخالفه العلم اليوم وتصدقه أنت!

فكوكب بلوتو مثلا كان يعد من كواكب النظام الشمسي التسعة منذ اكتشافه في عام 1930. وهناك أجيال كثيرة تعلمت هذه الحقيقة ولو أجاب أحد الطلاب في القرن الماضي أن عدد كواكب المجموعة هو 8 لضحك الجميع من تخلفه وقلة تحصيله العلمي ولربما كانت تلك العلامة الفارقة لنجاح أحدهم في مادة العلوم، لكن في عام 2006 حكم اتحاد الفلكيين العالمي (IAU) أن بلوتو ليس كوكبا وأنه أقرب إلى جرم قزم ضمن أجرام حزام كايبر، وهكذا ببساطة شطب العلم ما كان يعرَف أنه حقيقة استمرت لأكثر من سبعين عامًا، وهذا أثار استياء العامة.

مثال آخر، قبل القرن التاسع عشر كان يعتقد أن الشمس هي مصدر الطاقة الوحيد لبقاء جميع المخلوقات الحية. وبناء على هذه الحقيقة كان الاعتقاد السائد لدى العلماء أنه لا يمكن للمخلوقات أن تتواجد في أعماق المحيطات بسبب عدم وصول أشعة الشمس، وأسباب أخرى مثل اختلاف الضغط البارومتري للمياه وبرودتها وغيرها من الأسباب التي أعاقت وصول الإنسان للأعماق حتى 1870 حينها اكتشف عالما متنوعا من الأحياء والمخلوقات العجيبة، وأخذ يبحث عن أسباب بقاء هذه المخلوقات فوجد أن منافث حرارية من قاع المحيطات تضخ كميات من البخار والكربون تتغذى عليها عضويات عديدة، وبدورها تصبح غذاء لأسماك صغيرة ثم كبيرة في سلسلة غذائية لم يستطع الإنسان تصور وجودها في بيئة قاسية مثل هذه، وهكذا، غيّر العلم أقواله وأصبحت الشمس المصدر الأساسي.

مثال أخير وليس آخر، لعقود ماضية عديدة اعتبرت الدراسات العلمية تناول بيض الدجاج مرتبطا بأمراض القلب لاحتوائه على نسبةٍ عالية من الكوليسترول، وكثرت التوصيات بالتقليل من تناوله، وأنا شخصيا كنت أحد أولئك الذين عزفوا عن أكل البيض إلا مرات قليلة في الشهر حين كنت شابا يافعا. في عام 2017 انتشرت دراسة واسعة مستفيضة حطمت هذه الخرافة واتضح فيها أن الكوليسترول الموجود في البيض صحي ومفيد، وأن الكوليسترول الضار الذي يصدره الكبد ناجم عن الدهون المشبعة والمتحولة في الأطعمة السريعة. وعلى ذلك، يمكننا أكل البيض يوميا دون أي مشكلة صحية إن لم تكن هناك أمراض أخرى تمنع ذلك. ومنذ ذلك الوقت وأنا أتناول البيض بكثرة وأفكر بمن مات قبلي وهو ممتنع عن البيض مع حبه له دون أي مانع صحي سوى أنه صدق العلم وقطعية بحثه.

إن الأمثلة عديدة على تغيير أقوال العلم في مواضيع كثيرة وفي أكثر من موضع، وعلى إثر ذلك تتغير الكتب الدراسية وتعطى معرفة وقناعة جديدة لطالب علم لن يدرك أن من يعلّمه هو مثله في علمه القاصر، يحده ضآلته وفهمه المحدود بحواسه القليلة.

فهذه كتب العلوم المتقلّبة التي كتبها الإنسان وتصدقها أنت بشكل أعمى. أما القرآن فهو لم يتغير منذ أن نزل على سيدنا محمد صل الله عليه وسلم بشهادة المستشرقين والباحثين الغربيين ونسخ القرآن الأثرية المحفوظة في متاحف الغرب. وكل من آمن به وما نزل به من الحق، ومات عليه سواء في القرن الأول هجري أو الرابع عشر هجريا، لن يندم على شيء فيه. بل إن العلم هو ما يأتي ليوافق ما ذكر في آياته في مواضيع متعددة، ولا خلاف على تلك الحقائق المذكورة وتفسيراتها التي جعلت العلماء يقفون عاجزين عن فهم كيف لإنسان أمّي في الصحراء أن يأتي بهذه الخفايا في ذلك العصر دون الأدوات العلمية الحديثة.

وهذا ما حدا بالبعض منهم للإسلام فورا مثل عالم البحار جاك كوستو الفرنسي بعدما أدرك أنه على مفترق طرق بين الإلحاد والإيمان. هؤلاء كانوا لا يعتقدون إلا بالعلم ولا يعتبرون للأديان بأي أهمية. لكن الصدق مع النفس في تقبل ما يطرحه العلم من إشارات لخالق هذا الكون هي ما تقربهم لنور الهداية وتجعلهم يخشون الله تعالى كما قال: {إنما يخشى اللهَ تعالى من عباده العلماءُ} [فاطر: 28]. أما أمثالك، فهم متبعون لهواهم في تصديق العلم، ولو أنك صدقت في بحثك لهداك الله تعالى.

إلحاد بلا ملحدين

كثيرًا ما يقول أحدهم إنه (ملحد)، ولكن قليلًا من الناس من يعرف حقيقة هذه الكلمة ومعنى كونه ملحدًا! أي أن أغلب هؤلاء الناس يفرح بكلمة ويرددها ولكنه لا يعلم عن معاناها شيء، ويخطئ من يظن أن الإلحاد هو إنكار وجود إله فحسب، فهذ نظرة اختزالية للإلحاد، وهي أشبه بمن قيل له إن الشركة التي يعمل بها قد تم إغلاقها، ليتعامل مع العبارة على أنها مجرد جملة مفيدة وانتهت، دون النظر في عواقبها!

الإلحاد ودوامة العدمية

إن الإلحاد الذي يبدأ بإنكار الوجود الإلهي يدفع الإنسان في دوامات العدمية بكل ما فيها من شؤم وسواد، والملحد المخلص لإلحاده هو الذي يعلن كونه ملحدًا ثم تأخذه الحياة يمنة ويسرة وتقتله الكآبة، فلا يجد بدًّا من إنهاء حياته التي لا معنى لها، فينتحر بعد فترة وجيزة.

إن الإنسان يبحث عن معنى لحياته بفطرته، وكثيرًا ما نرى من لا أهداف له على المستوى الشخصي من طموح في العمل أو الزواج أو غير ذلك فيعاني نفسيّا من الاضطرابات والتي أولها فقدان الثقة بالنفس؛ فالإنسان مجبول على البحث عن المعنى والاتجاه، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعيش في حياته بدون أهداف تثير شغفه وحماسه، فكيف لإنسان أن يعيش حياة كاملة مع يقينه أن الكون بأسره هو عبارة عن ضجيج عبثي بلا هدف وبلا قصد وبلا غاية!

إن فقدان المعنى للوجود بأسره يقتل أي معنى قد يعيش الإنسان من أجله، وحينها يصبح الإنسان موهومًا بالمعنى مع إقراره في الوقت ذاته بأن الكون لا معنى له، وهو أسوأ نوع من أنواع الكذب على الذات، ولعلنا نقارب هذا القول بمثال آخر، كمدمن المخدرات الذي يشتهي عالمًا وهميًّا من اللذة الوقتية، ولكنه يبقى على يقين أن اللذة الوهمية تبقى وهمًا، ولكن الملحد الذي يعلم أن الكون بأسره بلا معنى ثم يحاول أن يخدع نفسه بوجود معنىً ما، فهو يخدع نفسه بنفسه، ويتهرب من مواجهة الكابوس المزعج، ويؤثر الممتع على الحق المر، فالملحد لا ينزل نفسه منزلة مدمن المخدرات، بل إنه يسلك ما هو أضل سبيلًا بعدم تفريقه بين الوهم والحقيقة! فكيف لإنسان أن يعيش في عالم بلا معنى إذا كان عاجزًا عن أن يعيش حياته الشخصية بلا معنى. وكيف لإنسان أن يحيى ولا معنى لحياته والبحث عن معنى الحياة مجبول في فطرته؟!

ومن المعلوم أن الإنسان يبحث عن قيمته دائمًا، ومن أجل ذلك نرى بعض الناس يسير في طريق لا يحبه ليحصّل احترام الآخرين ويشعر بقيمة ذاته؛ إذ إن شعور المرء بقيمته وأهميته احتياج نفسي دفين، وأغلب الأطفال الذين لم يتلقوا اهتمامًا معنويًّا من أهليهم غالبًا ما يعيشون حياتهم بنفوس مشوهة، وتتركز أهدافهم على إثبات النفس إما بالتكبر المفرط وجنون العظمة، أو من خلال لفت الانتباه لتسوّل المدح والثناء!

ضع هذا إلى جانب الإلحاد الذي يقول لك إنك مجرد نسخة كيميائية لا قيمة لها نشأت عن طريق تكاثر الصدف العمياء، أي إنك كائن لم يكن مخططًا لمجيئك يوما ما؛ ومن ثم فإن البحث عن قيمتك وحقوقك نوع من أنواع التطفل والكوميديا السوداء!

إن الإلحاد يقول لك إن قتل بعض جراثيم بصابون لا يفرق عن قتل مليارات الشعوب بضغطة زر في قنبلة نووية، إذ ما الفرق بين الجراثيم والبشر والكلّ سواء، مجرد مسوخ كيميائية لا تختلف عن الجماد الميت، فكلها لم يكن مخطط لوجودها!

فكيف لملحد أن يشرب تلك الأفكار التي يمليها عليه إلحاده ثم يحاول أن يبحث عن قيمته في نشر كتاب يكتبه أو بحصوله على شهادة دكتوراه مثلاً؟!. إذ إن ذلك لن يغني عنه من حثالته العشوائية شيئا -بحسب زعمه-. وكيف لإنسان مفطور على البحث عن قيمته أن يتعايش مع الفلسفة العدمية التي تساويه بالجراثيم والجماد!

الإنسان وحب الحياة

إن الإنسان بطبعه يبحث عن الاستمرار لا عن الفناء، وليس سبب ذلك أن الإنسان يكره الموت أو يحب الحياة، بل إن السبب العميق وراء ذلك أن نفسية الإنسان مجبولة على التعلق بالأبدية، والموت يتناقض مع تلك الأبدية التي يحبها الإنسان؛ لأنه لا يسأم من دعاء الخير. فتصارع الإنسان مع الموت هو صراع مع الفناء وانتهاء أحلام الخلود، فمن المحال أن نعثر على من ينتحر لأنه وصل لمرحلة من الرضا تجعله يزهد في الحياة ويزهد في شرب الماء وتنفس الهواء ثم يقرر أن يقضي على حياته بدافع الشبع عن طلب المزيد، فالإنسان لا يسأم من دعاء الخير وطلبه، وهو دائما يطلب شيئًا ما.

يطلب الإنسان على سبيل المثال في الطفولة الاهتمام، وفي الشباب الزواج والمال، وفي الكهولة الوصول لأعلى المناصب، وفي الشيخوخة ينتظر نتائج سعيه وحصاد عمره، وهكذا فالإنسان في طلب مستمر، فلا عجب أن يكون الانتحار ناجمًا عن اضطراب نفسي ما، ولكن يستحيل أن ينتحر السوي نفسيًّا بدافع الرضا. لأن الإنسان لا يملأ عينيه إلا الخلود الأبدي، والإلحاد يقول إن الأبدية وهم، وما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ولذلك نرى الملاحدة ورافضي الأديان في تصارع دائم مع الشيخوخة والموت؛ لأن الموت بالنسبة لهم هو التهديد الأول بانتهاء كل شيء يملكونه؛ لأن تلك الدنيا – بالنسبة لهم – هي كل شيء يملكونه، ومبلغهم من العلم!

فكيف لإنسان فطر على عشق الأبدية والتصارع مع الفناء أن يعيش حياته وفي قرارة نفسه أن الموت فناء والأبدية وهم؟. ولو كان الموت هو الفناء المحتوم لتتحول كل ذكريات الإنسان إلى ومضة في التاريخ لن تتذكرها الأبدية، فما معنى الحياة؟ وما الدافع الذي قد يحرك الإنسان، وما الشيء الذي قد يستحق وقته وجهده وتضحيته؟

الإلحاد وبراءة الطفولة

يولد الإنسان نقيًّا صافي الروح، بغض النظر عن البيئة التي ولد فيها، مما يظهر بوضوح في براءة الأطفال؛ حيث إن كل أطفال العالم أبرياء بغض النظر عن دين آبائهم أو طبائع مجتمعاتهم، وذلك النقاء الفطري هو ما يدفع الإنسان إلى البحث عن الأخلاق، وهذا قريب من سبب نشأة المدارس الفلسفية في نظرية الأخلاق. فحتى من يترك دينه ليجول في فضاء اللادينية يستمر في البحث عن الأخلاق وقد يتحلى بالكثير من الأخلاق الحسنة. ولكن هل الإلحاد يعطي مساحة للملحد أن يكون له أخلاق أصلًا؟ وهل الإلحاد يسمح للملحد أن تكون له مرجعية أخلاقية لتكون هي المعيار الذي يحدد أخلاقه–بغض النظر عن كون الملحد خلوقا أم لا–؟

إن الإجابة ببساطة هي: لا، بل لعلها أقرب للاستحالة! لأن الإلحاد يعرف الوجود محصورًا في المادة فقط، ولا فرق بين خير وشر، بل –في نظر الإلحاد– الخير والشر هي معانٍ تم اختراعها من قبل الإنسان. لكن لا معنى لها في عالم مكون من كائنات حية تجول على كوكب، وما الكوكب والكائنات الحية إلا ذرات كيميائية تتناثر على ضوء قواعد الفيزياء. فلا فرق بين موت وحياة، أو الحرب والسلام، أو الظلم والعدل، أو الفساد والصلاح، أو الخير والشر؛ لأن المادة لا علاقة لها بالمعاني المعنوية. وحصر الوجود كله في نطاق المادة يستلزم ضرورة السخرية من كل المتكلمين في الأخلاق، إذ –حينها– ستكون الأخلاق مجرد وهم كبير! فما المشكلة أن يقتل إنسان 99% من الجراثيم عن طريق غسل يديه بصابون، أو أن يقتل 99% من البشر على كوكب الأرض عن طريق قنبلة نووية. إذ –في معيار الإلحاد– لا فرق بين الاثنين؛ بل إنه لا معنى للقتل أصلا؛ إذ أن القتل هو خروج الخلايا من حال الحياة إلى حال الموت! وفي الحالتين فإن كل ما حدث هو أن هناك بعض العناصر الكيميائية قد تناثرت من مكان لآخر، إذ إن المادة لا تفنى، فما معنى الأخلاق في عرف الإلحاد؟ إنه ببساطة، لا شيء!

شقاء الإلحاد

إن الملحد الحق، هو الذي أعلن إلحاده بينه وبين نفسه، ثم آثر الخروج من الحياة تطبيقًا لمنهجه الصحيح، فهذا هو الملحد بحق، لأنه قرر أن يعمل عقله ليفهم حقيقة ما يدعو إليه، إذ أن الإلحاد لا يترك للملحد مهربًا من وحل الفلسفة العدمية بكل ما فيها من شؤم وانعدام المعنى وسوداوية تقتل كل محاسن الحياة.

إن الملحد الذي أخلص لإلحاده لا بد أن يخلص للفلسفة العدمية، ومن تمام الإخلاص للعدمية فقدان المعنى كله، والسعي للراحة من الحياة، إذ إن الفلسفة العدمية ما هي إلا منهج منظم ومخطط دقيق لجر أرجل من يتمتع في أودية الحياة إلى مشرحة المنتحرين.

أما من يعلن إلحاده ثم تمر العقود عليه مرًّا، فما هو إلا مثرثر بما لا يعلم ولا معرفة له بالإلحاد؛ لأن طبيعة التكوين النفسي للإنسان يجعل تعايشه مع كونه ملحد مستحيلًا، ووجود ملايين الملاحدة الذين لم ينتحروا بعد ليس دليلًا على كون الإلحاد معتقَدًا يمكن التعايش به، بل هو دليل على أنهم وصلوا لمرحلة من حب الدنيا والحرص عليها حتى رفضوا أن يتفكروا في حقيقتها، وتكاسلوا عن التفكر في تبعات الإلحاد وما يترتب عليه من لوازم غاية في السواد والشؤم، فالأمر أشبه بمن يرتدي ملبس عليه كلام بغير لغته ولا يفهم منه شيئا, ولكنه يفتخر به لأن الملبس يعجبه!

إن الإلحاد فكرة تتناقض بنفسها مع نفسها، وهو أسهل مذهب فكري مخالف للمسلمين، بل إننا في هذا المقال عرضنا نقاطًا تخص طبيعة النفس البشرية فقط، ولم نتطرق إلى تناقض الملحد مع نفسه في إبداء آرائه حول الأديان والقضية الوجودية في نفس الوقت الذي يشكك فيه في مبادئ العقل! ولم نتطرق إلى محاولات الملاحدة في إنكار الإرادة الحرة وتحويل الإنسان إلى جماد محكوم بكيمياء الدماغ ثم يقنعوك هم بإلحادهم، رغم أنهم يقرون بأن الإنسان مسلوب الإرادة!

وما عرضناه ما هو إلا جزء من الإلحاد كاملة، بعيدًا عن حماسة المراهقين الذي يلحدون بدافع الهوس الجنسي أو الضعف العلمي أو الانغماس في الشهوات بغير رادع من دين ما..

ربما لو فهم الملحد ما هو الإلحاد لخجل أن يفصح عن عقيدته. أو ربما لألحد ولكن لقب نفسه بهوية أخرى. أو لرجع عمّا يعتقد ليعيد حساباته حقًّا، وهكذا نرى أننا نقف في عالم به إلحاد، ولكن بلا ملحدين!


مصادر للتوسع:

الإلحاد في مواجهة نفسه – سامي عامري

عيادة الملحدين – هيثم طلعت

استخدام أسلوب كورت للتفكير PMI فى معالجة الإلحاد

تتنوع الأساليب التي يمكن استخدامها في معالجة الأفكار التي تسير بالمجتمعات إلى الانحراف، سواء كانت طارئة أو قديمة، ومن أبرزها أسلوب برنامج كورت للتفكير PMI، حيث يمكن من خلال هذا الأسلوب محاورة الابن المراهق المائل للإلحاد، ولكن لابد من استخدامه بذكاء حتى يكون مثمرًا يوصل الأهل إلى مرادهم مع ابنهم بطريقة غير مباشرة .

يعيننا هذا الأسلوب المستخدم في معالجة الأفكار وتنمية المهارات والقدرات في تحليل المواضيع والأفكار وبيان الجوانب السلبية والإيجابية منها، لاتخاذ مواقفنا على أسس موضوعية مجردة عن الذاتية والعاطفية، فما هي الطرق الكفيلة بجعلنا نفكر بشكل سليم ونحلل ما يدور حولنا من مواقف ومعطيات؟ وكيف يمكننا بناء مواقف صائبة ومسؤولة في حياتنا الشخصية والعملية؟

مهارات التفكير

يمكن تعريف مهارات التفكير بأنها عمليات عقلية محددة نمارسها ونستخدمها عن قصد في معالجة المعلومات والبيانات لتحقيق أهداف تربوية متنوعة تتراوح بين تذكُّر المعلومات ووصف الأشياء وتدوين الملاحظات وصولاً إلى التنبؤ بالأمور وتصنيف الأشياء وتقييم الدليل وحل المشكلات والوصول إلى استنتاجات.

إن مهارات التفكير –نسبيًّا- عبارة عن عمليات إدراكية منفصلة يمكن اعتبارها لبنات بناء التفكير، ومهارة معالجة  الأفكار وتحليلها أو ما يسمى بالتفكير الناقد تقوم على قدرة الفرد على إبداء الرأي المؤيد أو المعارض في المواقف المختلفة، مع إبداء الأسباب المقنعة لكل رأي، ومن هذا التعريف الإجرائي البسيط يمكن لكل فرد أن يزاول هذا النمط من التفكير بصورة ذاتية، أو من خلال التفاعل مع الآخرين”

ويمكن الإشارة إلى ذلك من خلال هذا المثال التوضيحي لمهارة معالجة الأفكار: وذلك عبر توجيه سؤال: لماذا يجب أن نؤمن بوجود دين؟ .

يعتمد الجواب على بيان النقاط الإيجابية بدايةً من وجود الدين وعدمه، فنوضّح للسائل أولاً أن الدين قوة دافعة للسلوك الخيّر، وله أثره الواضح على النمو النفسي الإيجابي للأطفال، وأن المؤمن يعيش في حالة من الاستقرار النفسي والأمن الروحي، وتنمو ثقته بنفسه، وأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، بناء الصحّة النفسية والتكيف النفسي والاجتماعي للإفراد، وأنه يساعدهم في حل مشكلات الحياة ويجنبهم القلق، وأنه غذاء روحي للمجتمعات البشرية وبدونه تصبح النفس أشبه بغابة الأشباح أو القلعة المهجورة، كما أن الدين سبب في تنمية السلوك الخلقي من خلال مجموعة الأوامر والنواهي، ويزود الأفراد بنسق من القيم والمبادئ والمعايير والمحاكمات الاجتماعية.

إضافة إلى ذلك فإن الدين يزود الفرد برؤية وارتباط بعالم آخر غير محسوس بل هو فوق هذا العالم وفيه الخلاص والرحمة، كما أنه ينمي لدى الفرد الشعور بالصبر والإيمان والأمل والولاء وغيرها من المشاعر الإيجابية، وهو الأساس الذي يبني عليه الفرد فلسفته في الحياة ويساعده من الناحية الاجتماعية في إقامة علاقات اجتماعية ذات معنى ودلالة، ويخلصه من مشاعر الذنب واليأس والشك وغيرها من المشاعر السلبية، ويسهم في تخفيف حدة التوتر والانفصام وذلك من خلال الالتقاء العقلاني بين الدين والتطور العلمي والتكنولوجي.

وقد يكون السؤال مثلاً: “لماذا يجب أن نؤمن بوجود إله” وهنا نعمد أيضًا لعرض النقاط الإيجابية في الاستدلال كعرض قانون السبب والنتيجة: حيث إن كلّ سبب له نتيجة وكلّ نتيجة لها مسبّب، وهذا هو أساس جميع العلوم، وله صلة وثيقة بخلق السماء والأرض، والدليل على وجود الله هو أنَّ ما له بداية وجود لا بدَّ وأن له سبباً لوجوده، وسبب وجود الكون لا بدَّ وأنه هو الله تعالى، لأنّ صفات سبب وجود الكون كونه غير مرتبط بزمن، وموجود خارج المكان هي من صفات الله عزّ وجلّ، والتركيز على الحكمة والغائية هو عبارة عن دراسة مجموعة من الظواهر الطبيعية، لبيان الأهداف والأغراض أو الخطط كي نتوصل إلى مصمم الكون.

الإضاءة على النقاط السلبية

يعتمد المنهج المذكور على مناقشة السلبيات وتفنيدها، حيث يقدّم الطفل أو المراهق السلبيات التي تلقّاها في القضية أو الموضوع ويقوم أهله بمناقشتها واحدة تلو الأخرى، فعلى سبيل المثال إن قال الابن “إنه لا يرى وجودًا ماديًّا لله” فهنا نعرض عليه سلبيات هذه الفكرة، فمنشأ الإيمان بوجود الإله هو الفطرة؛ لأنّ الفطرة السليمة تشهد بوجود الله تعالى ولا يُمكن أن يتغاضى الإنسان عنها إلا إذا كان عاصياً وبعيداً عن ربه، فإذا كان الإنسان يحس من تلقاء نفسه سيعلم أنَّ الله خالقه وربه، وسيشعر بحاجته إليه في المصائب والشدائد المختلفة، كما أن جميع الأحداث الكونية التي تمر من حولنا تدل بشكلٍ واضح على وجود الله تعالى، ومن أهم هذه الحوادث حادثة الخلق، حيث خلق الله عز وجل جميع ما في الكون من كائنات بشرية، وأشجار، وبحار، وأنهار، وسماء، فمن المستحيل أن تتواجد هذه الأشياء صدفة، أو يتم خلقها بشكلٍ ذاتي، بل لها موجد أوجدها وخالق خلقه كما قال الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أم خَلَقُوا السَّمواتِ والأرض بل لا يُوقِنُون} [الطور: 35-36].

ولعل الابن يستشهد ببعض الشبهات من قبيل “إن الدين يقيد حرية الانسان”، فيجب على محاوره أن يبين له موقف الدين من الحرية وآثار هذا الموقف في الحياة والمجتمعات، ويقارنه بما عداه من الحرية في الفلسفات الأخرى وأثرها في المجتمعات.

لقد جاء الإسلام فأقر مبدأ الحرية وليس أدل على تعظيمه من شأن الحرية أن جعل السبيل الى إدراك وجود الله هو العقل الحر، ولكن هذا الإقرار لا يعني أنه أطلق الحرية من كل قيد، إذ لا مجال لضبط حريات البشر ما لم تكن أمامها ضوابط تأمر وتنهى وتحدد المسار، وإلا فإن ذلك يؤدي بالإنسان إلى الفوضى التي تثيرها الأهواء والشهوات، فالإنسان ليس مخلوقًا كاملاً لا يعتريه النقص.

من ناحية أخرى فإنه يجدر بالإنسان أن يفهم الحرية على أنها سمة مميزة له عن الجمادات والمادة، ولا يعدها أمرًا مزاجيًّا خاضعًا للذوق والرغبة، بل يقيمها على أصول ومرتكزات ويجعلها جزءًا لا يتجزأ من مبادئه وقيمه.

إن ما يقدمه بعض المنبهرين بالغرب عن ضرورة الحرية على النمط الغربي ليس إلا صورة زائفة قائمة على أساس مادّيٍّ بحت وليس لها قيود دينية ولا حدود أخلاقية، ويقابلها في الإسلام مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي شرع لصيانة الأمة وحمايتها من إشاعة الفساد والدمار والفوضى.

إضاءة النقاط المثيرة

ينبغي في استخدام هذا المنهج الإضاءة على النقاط المثيرة في الأفكار التي ندافع عنها، مثل الإشارة إلى التعاسة الروحية والكآبة التي يعاني منها الناس المنغمسين في الحرام والبعد عن الله، وربما تؤدي بكثير منهم إلى الانتحار.

ومن المفيد التركيز على عظمة الإسلام وعرض الحكمة من شرائعه والإشارة إلى الأخلاق التي تحلّى بها حمَلَته الصادقون وعرض بعض معالم الإعجاز المؤكّدة في القرآن الكريم وتقريبها لأفهام الشباب بهدف غرس الوعي المتعالي على نظريات المادة في أفئدتهم وعقولهم.

التعامل مع الشبهات بين العقل والقلب

يعيش الناس في حقبة زمنيّة استحكمت فيها آليات السيطرة على الجماهير والعقول، واشتدت فيها الحرب على تعاليم الإسلام وعقائده، ومن ثم فإن الشبهات التي تعاد صياغتها لتفسد على الناس عقائدهم تنهمر كالمطر.

ينتهي تأثير الشبهة ويتوقف إذا كنت ذكيًّا بصيرًا، فتتأمل في قائلها، وتستفسر عن الغرض الدافع له من طرحها؟ وتبحث عن مكانة مثيرها من الدين والعلم؟ وما مكاسبه التي يتوقعها بإثارة هذا الموضوع؟ وهل هو نزيه يتحدث في الشأن العلمي الموضوعي أم له حساباته في خريطة السياسة والأموال والمناصب؟

إنه من الحكمة أن تظل الشبهة مشكوكًا فيها ما دام أن الذي طرحها مطعونٌ في دينه أو أمانته أو أخلاقه أو فكره وعلمه، وإذا ما تعرضت لشبهة فالأفضل أن يظل منها المرء على شكٍّ وتوجس، وأن يعرّضها الإنسان لمبضع الشكّ والاختبار وسؤال المتخصصين قبل أن يتشربها قلبه ويتعامل معها كأنها شيء لازم لا يمكن تجاوزه.

للشبهات أنواع كثيرة، واعلم أنها لن تؤثر على حياتك، ما لم تكن في صلب الإيمان والدين، فالطعون المثارة على تصرفات الحكّام من الأمويين والعباسيين والعثمانيين ليست بالتأثير الموازي للشبهات المثارة ضد القرآن والسنة، وعليه فما دامت الشبهة غير مؤثرة في إيمانك أو عملك الدعوي، فعدم التفكير بها والانصراف عنها أفضل في كل الأحوال.

هذه مقدمة مختصرة، أردت تبيين التعامل الأوليّ مع الشبهات، إلا أن ثمة أبوابًا أخرى ينبغي طرقها حين تطرق أبوابنا الشبهات، أفصّل القول فيها بما يأتي من الحديث.

لكلٍّ منّا ما يناسبه!

رأيتكَ تتكلّم مع ثلاث رجال متشككين في دينهم، أما الأول فرأيتك تهتم به وتدفعه إلى متخصّص ليجيب على تساؤلاته، وأما الثاني فرأيتك تقول له: لا تشغل بالك واستعذ من الشيطان وأكثر من ذكر الله، وأما الثالث فرأيتك صامتًا لا ترد عليه البتة، فلماذا هذا التفاوت في التعامل مع نفس الموقف؟.

بهذا المثال أستفتح المقصود من المقال، فليس كلُّ إنسان يتعامل مع الشبهة أو تعامله في رد الشبهة بذات الطريقة، فالأول مثله كأبي حامد الغزالي الذي قال: “الشك أول مراتب اليقين” [المنقذ من الضلال] وهو متسائل كي يقتنع بما لم يقتنع به. أو ليزداد إيمانًا في سلّم اليقين كما تساءل أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم، فهو تساؤل لا عن تشكيك في جدوى الإيمان، وإنما عن كيفية الارتقاء في درجة الإيمان.

ومثل هذا تذهب به إلى متخصص ليرد الشبه والشكوك التي تجول في خاطره، ونحسب أنه باحث عن الحقيقة، صادق في بحثه، وأنه سيهتدي لما يطمئن إليه قلبه وعقله من الحق عما قريب، وكل ما تفعله أنك تلتزم معه بنص القرآن، فالله يقول: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِك} [يونس: 94].

التعامل مع الشبهات

أما الثاني فلا ينطبق عليه وصف التشكيك وإنما هو موسوس! ولو أجبت على سؤاله لاقتنع، ثم لا يلبث أن يسأل سؤالًا آخر، ولو أقنعته بجواب عن ذلك وانصرف، لرأيته يتصل بك ليسأل ثانيًا وثالثًا ورابعًا.

ومثل هذا لا يكون متشكّكًا، ولا صاحب شبهة تستحق أن نناقشها مع متخصص، بل هو ذو وسواس قهري غلب عليه فتراه يعذب روحه وعقله، وهو ليس ذا مشكلة من الأساس كي نحلها، فباطنه رافض لتلك الوساوس العقائدية ومنزعج منها جدًّا. ورفضه لها هذا في حد ذاته دليل على صحة إيمانه وسلامة قلبه. بل ومن شدة انزعاجه منها نراه يرجو راحة البال فجاء كي نجيب على تساؤلاته ليهدأ. ولكنه لا يهدأ مهما أجبنا، إذ إنه واقع تحت تأثير الوسواس القهري الذي يشبه الاضطرابات العصبية تمامًا OCD (obsessive compulsive disorder).

ولذا فإن التعامل معه على أنه صاحب مشكلة فكرية تعامل خاطئ من الأساس، ولعلنا نجد شيئًا شبيها لهذا مع ما كان يحدث لبعض الصحابة أو ما يحدث مع كثير منا، سواء كنت أنا أو أنت أو غيرنا من المسلمين.

وهنا نستذكر هذا الحديث عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: (جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَان) [أخرجه الإمام مسلم، برقم: 132].

إن الانزعاج من تلك الوساوس أكبر دليل على صحة الإيمان، إذ لو لم يكن الإنسان مؤمنًا لما تململ من تلك الوساوس التي تناقض ما يؤمن به حقًّا ولما انزعج منها وسعى لردها، وإن جذر هذا الوسواس هو وسوسة الشيطان وما يلقي الشيطان في القلوب من شبه وشكوك.

ولنضرب مثلاً آخر أقرب لحياتنا الطبيعية، كما في حال المعدة السليمة التي تشتهي الماء والخبز وتشمئز من أن تأكل الطين، فكذلك القلب السليم، فهو يقبل الحق ويرفض وساوس الشيطان تلقائيا. أما إذا كان القلب مريضًا, فإنه يتشرب تلك الوساوس ولا يرفضها، مثله كمثل المعدة المريضة التي تبدأ في اشتهاء الطين ورفض الخبز!

طهّر قلبك ثم استقم

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ليَجْعَلَ مَا يُلْقِى ٱلشَّيْطَٰنُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍۢ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الحج: 52- 54]

يبيّن الله تعالى في هذه الآيات وجود ثلاث أصناف للقلوب، اثنان منها مفتون -القلب الذي فيه مرض، والقلب القاسي– والثالث منها ناجٍ، أي القلب المؤمن السليم المخبت، وهو قلب المستسلم التبع لصراط الله المستقيم.

إن ما يلقيه الشيطان من شبه وشكوك تكون فتنة للقلب القاسي والقلب المريض، ولا يتأثر القلب السليم بتلك الوساوس ولا يضره ما يلقيه الشيطان أبدًا، لأنه يردّ ذلك ويكرهه ويبغضه، ويعلم أن الحق ليس إلى جانبه، بل يعلم بطلان ما ألقاه الشيطان فيزداد إيمانًا بالحق ومحبة له..

فعن حُذَيْفَةُ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ([أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، برقم: 144].

فالقلب المريض إذا عرضت عليه الفتنة شربها كما يشرب الإسفنج الماء، فتنكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسودّ وينتكس؛ أما القلب المؤمن السليم فإنه إذا ما عرضت له الفتنة أنكرها وردها فازداد نوره وإشراقه وقوته؛ ولذلك فإن صاحب القلب المريض سريع التأثر بالشبهات والانجراف وراء المتشابهات من الدين، وذلك مصداق قوله تعالى: {أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7].

كيف تقهر وسواس الشيطان؟

قد يغلب الوسواس الشيطاني على الإنسان لمرضٍ في قلبه، فيصبح مستسلمًا لما يلقيه الشيطان في القلب من شبهات وشكوك. وهذا الإنسان نفسه قد يلقب نفسه بالمفكّر والباحث والمؤلف، ويمكث عقودًا من عمره في نشر أفكاره، إلا أنه ليس إلا متكلّم بما يمليه عليه الشيطان.

مثل هذا الإنسان، يلقي الشيطان شبهة في قلبه، فيظن أنها من بنات أفكاره، فيفرح بها قائلاً: رأيي في كذا، ووجهة نظري كذا، وهي ليست آراء أو وجهات نظر، وإنما وساوس شيطانية ألقيَت في قلبه، ثم خرجت على لسانه! ويبقى الحال كذلك مخطوفًا وأسيرًا لوساوس الشيطان فلا يملك نفسه، وهذا مصداق قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]

إن علاج هذا النوع من الوسواس تبدأ بكثرة الذكر والارتقاء بحال القلب من المرض ليغدو القلب سليمًا، ومن ثم يخرج القلب من دائرة الوساوس الشيطانية تلك، كما أن تلك الوساوس يخرج منها الإنسان إمّا صِدِّيقًا أو زنديقًا، فبمصاحبته لما يصلح قلبه يخرج من الوساوس صِدِّيقًا، وبتمسكه بما يفسد قلبه يخرج منها زنديقًا، فأفضل الدواء كثرة ذكر الله.

وهنا أعود للشخص الثالث في المثال المذكور آنفًا، لأقول لك إن أمثال هؤلاء كثيرون، وهم بالمجمل لا يبحثون عن الحقيقة، بل إن أغلبهم مغتر معجب بعقله وسعة اطلاعه وموهبة الكلام ومقارعة الحجج، فيأتي بالتكبر واستعراض قدراته العقلية، لا ليبحث عن الحقيقة. ومثل هؤلاء فإن الأجدى عدم الرد عليه.

إيمانٌ بالفطرة

أما عموم الناس، فإن أغلبهم غير مؤهل للرد على أغلب الشبه، ولكنهم رغم ذلك –نحسبهم عند الله- أفضل  من كثير ممن تكلمنا عنهم.

فهم –ولا نزكي على الله أحدًا- كأمثال جدتي وجدتك وغيرهم من أهل الفطرة النقية، المؤمنون بالفطرة، وقلوبهم نقية. الذين صارت قلوبهم من السلامة بحيث لا تقبل إلا الحق كما أن الطفل لا يقبل إلا اللبن، ولعل أحد العلماء يجلس أمامهم فينبهر بثبات إيمانهم وفطرتهم فيقول: “اللهم إيمانًا كإيمان العجائز”.

إن إيمان العجائز هذا هو إيمان الفطرة، {فِطرةَ اللهِ التي فَطَر النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] وهو إيمان يثبُ إلى اللجوء لله كلما هبّت عليه معضلة أو حادثة دونما حاجة إلى براهين الفلاسفة واستدلالات المتكلمين، ولولا شك المتشكك لما وصل للحقيقة إلا أنه لولا سلامة قلب العجائز، لما رسخ إيمانهم من الأساس!

وعندما قال أبو حامد الغزالي إن الشك أول مراتب اليقين، فلعله كان يقصد عامة الناس باستثناء العجائز، فللعجائز إيمان بدون مراتب، ويقين لا يساوره الشك!


مصادر للتوسع والاستزادة:

– إغاثة اللهفان – ابن القيم

– المنقذ من الضلال – أبو حامد الغزالي

– تربيتنا الروحية – سعيد حوى

– المستخلص في تزكية الأنفس – سعيد حوى

– الإجابة القرانية – مهاب السعيد

– رحلتي من الشك إلى اليقين – مصطفى محمود

 

لماذا لا تفسّر نظريات الإلحاد وجود الكون؟

إن تفسيرات نشأة الحياة لا تصنّف في فلسفة العلم أو لدى علماء التطبيقيّات علمًا رصديًّا تجريبيًّا science ، بل من الأحرى ألّا تكتب في كتبه، حيث إن مكانها في كتب الخيال العلمي لا كتب البحث العلمي، حيث إن العلم يمر بمراحل كثيرة، تتلخص في الرصد واللاحظة، وإبداء الافتراض والتفسير، ثم تجربة الافتراض، ومحاولة هدم نتائج التجربة وإثبات خطأ نتائجها، وباجتياز كل هذه الخطوات تصبح المسألة حقيقة علمية.

هنا نلاحظ كيف أن مسائل الماضي البعيد التي يفترضها المتنطّعون لم ترتقِ في الأصل إلى المرحلة الأولى، حيث إنها لا تخضع للرصد والملاحظة، فلم يشاهد أحد نشأة الكون ولم ترصَد بداية الحياة، وكل تلك التفسيرات الإلحادية خيال علمي لا يرتقي للبحث العلمي، فهي pseudoscience  وليست science.

الخداع الأكبر .. التهويل بالمصطلحات

هنا يكمن الخداع الأكبر للعالم، فالمشكلة أنهم يستخدمون مصطلحات علمية فيما ليس علميًّا، ولا يخضع للمنهج العلمي، فيتوهم العامة أنه علمٌ راسخٌ وهو ليس كذلك، بل خيال علمي! ولشدة التشابه بين الخيال العلمي والبحث العلمي، يلتبس على المليارات حول العالم الأمر!

فالمشكلة أنهم ينجحون في خداع العامة بالتلاعب بالألفاظ هذا فينخدع غير المتخصص ويُتلاعَب بعقولهم، فلو قلت لك: إن الكربون اتحد مع الهيدروجين لينتج زيتًا مركّبًا من آلاف الذرات، وهذا الزيت صالح للطبخ، ولو جئتُ لك بعالم مرتشٍ واثق بذاته، أو أخرجت لك فيلمًا وثائقيًّا متقن الصنع لتأكيد كلامي حول هذا الزيت المزعوم لصدقتني، لأن الكلام يقدّم وكأنه محاضرة علمية، أو لأنني خريج في الجامعة الفلانية، أو ربما لأني استخدمت كلمتي كربون وهيدروجين، حيث يُعتاد أن هذه المصطلحات تقال في دروس الكيمياء، فنتوهّم أنها علم صحيح إلا أن التنسيق بينها في جملتي تلك ما هو إلا خيال علمي!

فالعلم يبنى على الأبحاث لا على الادعاء بلا دليل، واستخدام مصطلحات العلم في العلم الزائف ما هو إلا تضليل لملايين الناس من غير المختصين، وإلا فلننظر إلى علماء لا ينتقدون ذلك المحتوى بأي دافع ديني أو منظور ديني مثل العالم الأمريكي جيمس تور في كتابه The mystery of life’s origin  المنشور في عام 2020م وكيف نسف ادعاءات التطوريين حول نشأة الخلية الأولى، وكيف أن عليهم التحسّر على المليارات المهدَرة في الترويج لتلك الادعاءات، وأنهم بحاجة إلى تأليف سيناريوهات متجددة كلما فضح المتخصصون في علوم الكيمياء تزويرهم لوعي العامة.

ديكتاتورية التنميط والانتشار

رغم أن المنهج العلمي يرفض مناقشة أي كلام غير مبنيٍّ على الملاحظة، فكذلك يبدو –لي على الأقل-أن مناقشة نظريات الإلحاد والتطور أقرب للعب بالمطّاط، فإعادة تأليف السيناريوهات شيء ممكن للغاية، وكذلك تحريف المقالات كل بضع سنين وإطلاق العنان للخيال كي نوفر للطبيعة ظروف معيّنة لتحقّق التطور وإمكان العشوائية في إنشاء الحياة عن طريق التفاعلات الكيميائية! إلا أننا هنا أمام قرار إلحادي مسبَق يلقى دعمًا هائلًا وشعوًرا بالحاجة الماسة للعثور على أي تفسير علمي –ولو كان زائفًا- يدعمه.

نحن أمام دكتاتورية في فرض اعتقادات معيّنة على الناس، هذه الدكتاتورية نشرت ذلك الهراء في كل كتب الكيمياء والأحياء حتى يكون تصديقه سهلاً وفرضًا على كل طالب لتلك العلوم، وإن لم تصدقه فليس أسهل من أن توصف بأنك متخلّف ورجعي تتبنّى معتقداتك الدينية على الحقائق العلمية!

إننا أمام ملايين الشباب ممن فقدوا هويتهم الإسلامية بسبب غسيل العقول المنصب عليهم، الغسيل الذي اجتمع عليه الغرب والمتغرّبون، حيث يقنَعون بأن الغرب ونظرياته المسيطرة محض علم دون إلحاد.

إن الكثير من المجتمعات العلمية اليوم تحظر انتقاد تلك النظريات الخاطئة، وربما تضع مستقبلك المهني والأكاديمي على المحكّ فتحرَم من الدخول والمشاركة في الأبحاث العلمية لا لشيء إلا أنك تحترم عقلك ولا تنساق خلف هراء العلم الزائف، فقد أصبح ادعاء العلم الرصدي التجريبي وسيلة لنشر معتقدات وأيديولوجيات معينة، وما دمنا نتعامل مع مئات الأفلام الوثائقية وملايين الكتب حول العالم الناشرة لهذا الهراء فأنت لا تتعامل مع مجتمع علمي ينشر علمًا زائفًا أخطأ في نشره، بل إنك تتعامل مع دين يتم الترويج له باسم العلم. فهي مسألة حرب عقائدية وغسيل عقول وليست أمانة علمية تستحق المناظرة والجدال.

إن من أعظم آليات غسيل العقول استغلال جهل الناس بتلك المسائل، فترى فيلما وثائقيًّا يمر على مناطق شائكة مليئة بالأخطاء العلمية في بضع ثوان، وكأنه شيء بسيط للغاية، فتراهم يقولون عبارات مثل (تم إنشاء بروتين عن طريق تفاعلات كيميائية) فقط، وهكذا بكل بساطة ينتقل إلى الموضوع الذي يليه، وكأنه يصنع كعكة إسفنجية اقتبس وصفتها للتو من قناة طبخ!  كل ذلك ليخدع العامة أن المسألة بسيطة جدًّا.

أما في كتب العلم، فإنك لا ترى كتابًا في الكيمياء أو الأحياء إلا ويقدّم مسألة الخلية الأولى تلك وكأنها من مسلّمات العلم، إلا أن حبكة الدراما تختلف حسب ميول هوى المؤلف، فتراهم يقولون مرة إنها نشأت في محيط عميق، ومرة بجوار بركان ساخن، ومرة في بركة ساكنة، إلى آخر تلك الخيالات.

تديُّن الإلحاد والتطوّر!

لقد بات حق الطعن والنقد لها علميا أمرًا غير مكفول لأحد، فالأمر أصبح ديًان لا علمًا، وعندما يكون الأمر دينًا يرتدي عباءة العلم، فلا تخاطب بالعلم إلا عالمًا، ولا تخاطب بالعقل إلا باحثًا حقًّا عن الحقيقية

لقد أصبح الإلحاد دينًا كسائر الأديان البشرية الوثنية، وكما أن الأديان تستند إلى نصوص كتب مقدسة تعتبر مرجعية لها في الاعتقاد، فإن هذه الكتب التي لا تخضع للعلم الكوني ولا تكون نتاج أبحاث علمية في المعامل قد باتت كتبًا مقدسة للإلحاد ومرجعية لفكره.

ويا للعجب، كيف لا يلتفت عموم الناس إلى غموض تفسير أصل الحياة على مدار مئتي عام الماضية، أي منذ تصاعد نزعة التطور وسطوتها، ذلك الغموض الذي لم تنكشف أي من أسراره على مدار مئات السنين إلى يومنا هذا. ذلك السر الذي مازال مبهما بعد كل تلك المحاولات البائسة. وذلك السر الذي لم يحظى بأي تفسير علمي ولكنه حظي بألف “تفسير خيالي” أُلْبِسَ عباءة العلم بالإكراه كذبًا وتزويرًا.

لم يتلفت أحد أيضًا- إلا قلّة من أهل العلم- إلى أنّ كل ذلك الضجيج كان مبنيًّا على حرب عقائدية بين الإلحاد والإيمان، وليست مجرد حربٍ بين نزعة علمية وما يضادّها من الآراء، فهل يعقل أن أحدًا لم يلاحظ أن تلك التجارب الكيميائية يستطيع من له أدنى اطلاع أو دربة أن يجريها ويختبرها اليوم، ليصل بكل يقين وتأكيد إلى أن الادعاء بإمكان نشوء الحياة لمجرد وجود بعض الأحماض الأمينية هو أقبح ممن يدعي أنه يستطيع أن يخترع ناطحة سحاب لمجرد أنه يمتلك طوبة في مكان ما من الكون!

لقد عمدوا إلى هندسة العقول فغيروا فيها وبدّلوا، فكان الأمر أشبه برسم سيناريو درامي ثم إخراجه، فهم يمتلكون رواية تقول إن الحياة نشأت بتلك الطريقة، وكل ما ينقصهم هو تأليف السيناريو، ثم بعد أن ينجحوا في تسويق عشرات السيناريوهات وربطها بما في المؤلفات من تناقضات، يخرجون إلى عامة الناس بدين جديد مفاده أن هذا حدث بالفعل ومن ناقض فهو جاهل متخلف قد كفر بدين العلم!. ولا سبيل لهم –والحال كذلك- لنشر تلك الخرافات إلا أن يسيطروا على كتب العلم والمحتوى العلمي في المدارس والجامعات لينشروا التفسيرات الإلحادية في الكتب العلمية، ولينتجوا أجيالًا من المؤمنين الذي يعتقدون أن الدين ينفكّ عن العلم ويتصادم معه، وأن على الفرد أن يختار في مفترق الطرق هذا إما العلم أو الدين، بل إن وجود أعداد كبيرة في هذا المفترق بحد ذاته سبب كبير لنشر الإلحاد في العالم.

ماذا لو؟

قد يسألني سائل: لو كنت ترفض ما قالوا لفشلهم عن إثباته علميًّا فيما مضى، فماذا تفعل لو أنهم نجحوا في ذلك بالفعل بعد عشرات السنين، فلعلهم يستطيعون اختراع خلية حية في المعمل من الصفر، ثم تتطور تلقائيًّا إلى كائن ما، ألا يكون هذا أكبر دليل على أحقية الإلحاد والتطور في تفسير وجود الكون؟!

ففي الجواب –بكل اختصار- أقول: لو أنهم نجحوا في ذلك، فإنهم –في المحصّلة- لم يخترعوا شيئًا أو يخلقوه، فإن الميكانيكي الذي يفكك السيارة ويعيد تركيبها فإنه لا يصح أن نقول إنه اخترعها، وإنما قلد مخترعها، وحتى إن قلد صانعها في بناء قطَع التبديل، إلا أنه لم يأت بأصل جديد (من العدم).

إن علماء الأحياء قد يقلدون بناء شيء مما خلقه الله لاطلاعهم على دقائق الخلايا، إلا أنهم مقلدون لا مخترعون، ولو نجحوا في ذلك فإنهم –في المحصلة- مستخدمون لعناصر موجودة بالفعل –الكربون والهيدروجين والأكسجين.. إلخ – ليحصلوا على نتيجة معينة باستخدامهم لها، فهم يعيدون تركيب ما هو موجود، ولا يخلقونه، وما مثلهم إلا كم يمسك كلمات متعددة لينشئ منها جملة مفيدة، وكذلك إعادة التركيب ليست بخلق.

بل أكثر من ذلك، فإن النجاح في إظهار أي مكون حي حتى لو خلية حية كاملة لن يكون دليلًا على الإلحاد، بل هو أعظم دليل على الإيمان، حيث إن التوصل إلى هذا الإنجاز يستلزم آلاف السنين من التراكم المعرفي وبناء التقدم العلمي ومئات الآلاف من العلماء والأجيال الباحثة ليتوصلوا إلى إنتاج خلية حية واحدة –على سبيل المثال- الأمر الذي يتطلب علمًا كثيرًا وحكمةً عقلية عالية لإنشاء خلية حية واحدة فقط. فإذا كان إنشاء ذلك من قبل الإنسان العاقل المريد العليم الحكيم بكل هذه الصعوبة والزمن الطويل، فكيف يمكن للمادة العمياء أن تنشئ كل أنواع هذه الحياة المعقدة المبهرة إذا كان الإنسان ذا العقل والوعي والعلم يعجز عن فعل ما هو أسهل من ذلك، فإن المادة الميتة أعجز وأعجز، وإن الميكانيكي الذي أعاد تركيب قطع الغيار لم يخترعها وإنما فهمها ثم أعاد تركيبها، وإن الصناعي لم يخترع السيارة بل قلّد المصنّع في صناعتها، وإن الله وحده الخالق من عدم، فسبحان الله المتعالي عمّا يصفون.

الكون والصدفة .. ما احتماليّة نشوئه عنها؟

تخيّل أنك في غرفة فيها حاسب آلي، وأنك رميت كرة صغيرة مطاطية داخلها، ما هي احتمالية أن تقفز الكرة على لوحة المفاتيح لتكتب كلمة مفيدة؟ إنها بكل تأكيد احتمالية صغيرة، لكن إن سألنا: ما احتمالية كتابة جملة مفيدة؟ الجواب أن الاحتمالية ستتضاءل أكثر، وهكذا دواليك؛ حيث إن مسألة الصدفة تخضع لعلم الرياضيات ولحساب أرقام الاحتمالات probability theory. وكلما كانت المهمة المطلوب تنفيذها أعقد وأطول قلّت احتمالية حدوث الصدفة.

إن احتمالية الصدفة في كثير من الأشياء قائمة، لكنها في الرياضيات تصنّف –بعد رقم معيّن- على أنها ضئيلة لدرجة استحالتها  statistically impossible..

أنتقل معك للخطوة الثانية، فأسألك ما احتمال أن تتساقط الكرة بمنتهى العبث ثم ينتج عنها مسرحية كاملة لشيكسبير، ما ظنك بدرجة احتمالية حدوثها، وما مدى ثقتك في أن تلك الاحتمالية حدثت بالفعل؟!

يالها من خرافة!

بعد أن وضحت لك المبدأ العام لمسألة الصدفة، دعنا نحسب احتمالية نشوء الكون عن طريقها، علمًا أنها تتطلب أزمنة وأمكنة معينة لتحدث فيها، ومن البدهي أن حدوث صدفة في العدم: قبل الزمان والمكان شيءٌ لا يُعقَل بأي شكل، إذ كيف تحدث صدفة في اللازمان واللامكان! إضافة إلى الكثير من الإشكالات المنطقية النابعة عن تفسير وجود الكون المنظّم بأنه نتاج صدفة عشوائية عمياء.

يحتوي الكون على نظام ودقة في قوانينه، فكيف للعشوائية أن تنشئ الدقة؟ وفيه القصد ومعنى الأشياء، فكيف للعبثيّة أن تفصح عن معنى؟ وفي الكون غاية وهدف، فكيف للا غاية أن توجد الهدف؟

إن القول بأن الكون نشأ صدفة، يؤدي بالنتيجة إلى أن الأرض وما عليها من الأحياء والكائنات وحتى ما يسمى بـ “الخلية الأولى” ومكوناتها الأولية نشأت عن طريق الصدفة أيضًا.

حسنًا، إن سألت ملحدًا عن تفسير وجود الحياة والكائنات الحية فستراه يقول إن ذلك ناتج عن التطور الذي يعرَف الآن بالتطور الدارويني، فيفسّر أصل الكائنات بتطورها عن أصل واحد مشترك، وسيفسّر وجود الخلية الأولى بأنها نتيجة تراكم تدريجي على مدار الزمن عن طريق الانتخاب الكيميائي chemical evolution. ومن ثمّ فنحن أمام تفاعلات كيميائية عمياء وتراكميّة بدون أي توجيه أو قصد أو إرادة أو هدف، تنتجُ هذا التعقيد والنظام المتقَن!.

صحيحٌ أن دارون افترض وجود خلية أو سلفٍ مشترك لم يحدّده، إلا أن وارثي نظريته والمدافعين عنها، تبنوا قضيّة الانتخاب الكيميائي لسد ثغرة (الخلية الأولى) في نظرية التطور. إلا أنها لم تسد حقًّا؛ إذ أمامنا اليوم عشرات الافتراضات في مسألة الخلية الأولى، إلا أنها كلها تتشابه في الفكرة العامة ألا وهي التراكم ثم الانتخاب، وذلك إيمانًا بنظرية دارون حرفيًّا، حيث يقول: “وجود بيئة خصبة صالحة للانتخاب الكيميائي –سواء بركة أو محيط أو بجوار بركان أو خلافه، وهذه البيئة تسمى بـ primodial soup  أو الحساء البدئي، وبها كل العناصر اللازمة –الكربون، والهيدروجين، والأوكسيجين، والنيتروجين.. إلخ- وبها أيضا بعض المركبات مثل غاز ثاني أوكسيد الكربون والميثان والأمونيا ومع مرور الزمن، تحدث تفاعلات كيميائية لتنتج بروتين ثم تنتج DNA ثم رويدا رويدا –عبر أعداد مهولة من التفاعلات الكيميائية– حتى إنتاج كل المركبات الكيمائية للخلية، ثم تنتج خلية حية” [دارون، رسالة إلى صديقه (Joseph Dalton Hooker)]

استحالة تحقق التطور؟

للرد على هذه الفرضية لا بد من الإشارة إلى جملة من المغالطات في هذا التفسير الافتراضي الذي ذكره دارون، حيث إنه –أولاً- لا وجود لـ DNA إلا بوجود الأنزيمات enzymes  لأن تشبيك الـnucleotides مع بعضهم البعض يحتاج إلى Enzymes أولا، وعليه فإن ترتيب الأحداث يكون بصنع الأنزيم enzymes الأول وهو نوع من البروتينات, ثم يتوفّر صنع الـ  DNA، أما الأمر الثاني: فإنّ أول مهمة هي صنع البروتين، وإن أصغر الأنزيماتenzymes  يتكون من مئات الأحماض الأمينية Amino acids.

أما الأمر الثالث فهو القول بأن الصدفة شيء ممكن أن يحدث مهما كانت احتماليتها ضئيلة في حال أعطيناها الوقت الكافي، وهنا فلنفرض أن أمام هذا الافتراض الوقت الكافي مهما كان استغرق من الزمن.

إذًا، لنأخذ كل الأرقام التي تحدثت عن عمر الكرة الأرضية، ولنختر الرقم الأكبر الذي قيل في عمرها، مهما كان غير دقيق علميًّا، وهذا الرقم هو( 4 .6 بليون سنة)، علمًا بأن هذا الرقم هو من أكبر التقديرات المتاحة لتفسير عمر الكرة الأرضية.

حسنًا..

ولنفترض الآن أن هناك محيطٌ. وأننا وضعنا في المحيط كل ما يلزم لتصنع الطبيعة بروتينًا واحدًا مكونًا من 150 حمض أميني، ولنفرض أننا وضعنا في المحيط في كل نقطة منه مئات الأحماض الأمينية، أي أننا جئنا بكل ما في الأرض من (كربون, هيدروجين, أكسجين, سلفر،.. إلخ) وهكذا فإننا نعفي القائل بذلك من إنشاء الأحماض الأمينية أولا ثم بناء البروتين ثانيًا، حيث إننا نفترض أن كل الأحماض الأمينية متوفرة حقًّا. فأنت الان لديك محيط, به ملايين الأحماض الأمينية, مملوء على أخره بكل أنواع الأحماض الأمينية العشرون. وعلى الرغم من أن أشعة الشمس UV rays  كفيلة بأن تكسر تلك الأحماض الأمينية وتجعلها غير قابلة للبناء بها، فلنفرض أننا سنكسر قوانين الطبيعة من أجل أن نسير مع هذا الافتراض، وأن أشعة الشمس لن تفسد الأحماض الأمينية. ولأن المحيط هو بيئة غير مُعقّمة ولن تحافظ على الأحماض الأمينية لكثرة وجود احتمالات للتفاعلات الكيميائية والـ chelating agents  داخل المحيط، إلا أننا سنفترض أن الأحماض الأمينية معصومة من ذلك كله وفي حفظ تام..  أيضًا ها نحن نكسر قوانين الطبيعة من أجل أصدقائنا للمرة الخامسة في هذه النقطة.

إن للبروتين مراحل عدة في تكوينه هي primary structure, secondary structure, tertiary structure, quaternary structure. والمراحل الأولى في تكوين البروتين هي بناؤه من الأحماض الأمينية كأنه خيط، أما المراحل الأخيرة في تكوين البروتين فهي أشبه بأنك جئت بالخيط وجعلته يلتفّ ويدور في شكل ثلاثي الأبعاد. وهذا الشكل الثلاثي الأبعاد يتماسك بضعف لا بقوة weak inter-molecular forces  ووجود هذا الشكل وسط ماء المحيط سيفسد إثر حركة ماء المحيط لا محالة. ولكننا سنكسر كل قواعد الطبيعة من أجل أصدقائنا, وسنفترض أن البروتين في رعاية ما ولن ينكسر فور بنائه..

وها نحن الآن لن نجعل البروتين يملأ بالاستعانة بالـDNA  والـmRNA  والـ tRNA  بل سنتركه يبني نفسه بنفسه كما يقول أصدقاؤنا self assembly وهذا مما لم يحدث أمام أي أحد من البشر على مدار التاريخ. فالبروتين يبنى بتوجيه الخلية لا من تلقاء نفسه.

وماذا بعد؟

المهمة الآن –بعد كل هذه التسهيلات والافتراضات- هي بناء بروتين مكوّن من 150 حمض أميني، ولديك العشرون نوع وعدد أكثر من كافٍ للبناء، لكن الغاية هي بناء ذلك كله عن طريق الصدفة والعشواء بدون أي توجيه أو إشراف بترك الكيمياء تفعل ذلك بتفاعلاتها العمياء. وأرجو أن لا ننسى أن كل نوع من العشرين نوعا من الأحماض الأمينية يكون منه نوعان: levo  و dextro. أي أن هناك 40 نوعًا لا 20 نوعًا لتركيب البروتين بشكل صحيح؛ إذ إن كل البروتينات تتكون من أحماض أمينية من النوع الـ levo..

إن بناء البروتين يقتضي بأن يمسك الحمض الأول في حمض من النوع الفلاني، ثم يمسك في حمض ثالث من نوع فلاني وهكذا، وهنا بسبب وجود 20 نوع، فإن احتمالية أن يتماسك الحمض بحمض آخر بـ peptide bond هي احتمالية 1 على عشرون، أي خمسة بالمئة في المرة الواحدة فقط. وإن كانت المهمة أن تبني بروتين مكون من 150 حمض أميني فإنك مطالب بأن تفعل 149 محاولة ناجحة. كل محاولة منهم احتمالية نجاحها 5 بالمئة. ولو كان هناك محاولة واحدة فقط فاشلة فإن البروتين كله ينكسر ويعاد بنائه مرة أخرى من البداية، وإن احتمالية حدوث ذلك هي واحد على (10164). وهو حَدَث أقلّ ما يوصف بأنه مستحيلٌ إحصائيًّا Statistically impossible.

ولو افترضنا أن العملية قد تأخذ ثانية واحدة فقط، فإن الوقت الذي تحتاجه تلك الاحتمالية أن تتحقق بالفعل هي عشر سنوات وأمامها 243 صفرًا، مما يزيد على العمر الذي افترضناه لعمر الأرض (4 .6 بليون سنة) ببلايين السنين.

ولمن يحب أن يتحقق من صحة تلك الأرقام أو يتزيد في تلك المسألة يقرأ في أبحاث عالم الرياضيات السويسري (تشارلز يوجين) حول إمكانية نشأ بروتين واحد عن طريق الصدفة، وفي أبحاث  (Dr Stephen C. Meye & Dr. james tour حيث إن الكلام في حسابات تلك الأرقام يطول جدا وهذا ليس موضوع مقالنا.

ومهما قلت للملحد، فإنه سيجادل ويعاند، فهو يحكم بعنادٍ مسبقًا، وسيقول لك بعد أن تطيل الشرح والاستفاضة في الاستدلال على استحالته، ذلك يحدث على مدار زمن طويل جدًّا، ومع مرور الوقت فإن المستحيل يصبحُ ممكنًا!.

خيال مليءٌ بالافتراض

رغم أننا قمنا بكسر جميع قواعد الكون، ودمرنا حقائق الطبيعة، لنتماشى مع جدل فرضيات المدافعين عن العشوائية والصدفة، وتناسينا الافتراض الأهم وهو “أنّ الكون نشأ صدفة أن تحدث صدفة في لازمان ولا مكان” وقمنا بافتراض أن البروتينات المطلوب صنعها مكونة من 150 حمض أميني فقط رغم أن أصغر إنزيم يتكون من مئات الأحماض الأمينية، كما أننا افترضنا أن عمر الأرض ( 4 .6 بليون سنة) وهو أطول تقدير مطروح حتى الآن، وافترضنا أن الأحماض الأمينية متوفرة حقًّا، رغم أن الأمر يتطلب اختراع العشرين نوعًا من أنواع الأحماض –وتكون تلك مجموعة واحدة- الأمينية عن طريق التفاعلات الكيميائية، ويكرر فعل ذلك حتى يتوفر الكثير من مجاميع الأحماض الأمينية وتكون كل الأحماض الأمينية levo  وليس dextro. وافترضنا أن كل نقطة من نقط المحيط بها كل أنواع الأحماض الأمينية العشرين وأن المحيط مملوء عن آخره بكل العناصر اللازمة، وافترضنا أن أشعة الUV  من الشمس لن تفسد أي مركب سوف يتم إنشاءه، وافترضنا أن بيئة المحيط معقمة كيميائيّا ولا يوجد أي chelating agents  قد تتفاعل مع ما يتم إنشاؤه.

إضافة إلى ذلك كله فإننا نفترض أن الشكل الثلاثي الأبعاد للبروتين المتماسك بقوى هشة لن ينكسر بفعل تيارات المياه في المحيط، وأن البروتين يمكن أن يبنى وحده self assembly  بدون أي توجيه من أنظمة الخلية التي تكمل بعضها بعضًا، وخضوع ذلك لعلم الorganic synthetic chemistry  لا علم الbiochemistry  في حين أننا لم نر أي من تلك التفاعلات تتم خارج الخلية الحية ولم ينجح أحد في إنشاء كل تلك التفاعلات من الصفر في معمله بدون الخلية الحية، وافترضنا أن النجاح في إيجاد إنزيم واحد سيؤهلنا لإيجاد DNA  تلقائيّا، وافترضنا أن الصدفة قادرة أن تخترع الأنواع الخمسة من الـ nucleotides , علما بأن أصغر نوع منهم يستدعي ربط خمس ذرات مع بعضهم بعضا عن طريق الصدفة العمياء، وافترضنا أن أشعة الـ UV  من الشمس لن تكسر الـ DNA، وافترضنا أن أشعة IR  القادمة من الشمس لن تسخّن ماء المحيط بالقدر الكافي وتفسد البروتين بالحرارة protein denaturation، وافترضنا أن المادة الوراثية تستطيع أن تترك لزمن لا أخر له في حين أنها هشّة حراريا thermodynamically unstable ولا تتحمل أن تترك أكثر من 6 أشهر في درجة حرارة الغرفة دون أن تتبخّر أو تموت، وافترضنا أن البروتينات والمواد الوراثية التي تم بناؤها في بيئة معقمة كيميائيا ولا يوجد أي احتمالية لحدوث تفاعلات كيميائية قد تكسر أو تحوّل ما تم إنشاؤه

وافترضنا أيضًا أن النجاح في اختراع بروتينات والمواد الوراثية هو خلقٌ للحياة مع عدم تفسير كيف سيتم إنشاء جدار الخلية –علمًا بأن كل مكوناتها homochiral- ولفّه حول كل ذلك، وكيف سيتم تشغيل الخلية بالفعل ولا تكون مجرد مركبات كيميائية بلا أي معنى.

وهنا بعد 16 افتراض جدليٍّ، يكفي الواحد منها لنفي التطور أو العشوائية في الكون، رغم كل هذا، فنحن أمام حدث نسبة حدوثه (واحد على 10164).. فكيف يصحُّ في الأذهان شيءٌ من هذا؟!