كيف عالج الوحي مسألة الشر في الشخصية المسلمة؟
النّكبة تتلوها النّكبة، والطّامات تتابع، إلا أن الطّامة الكبرى لم تأتِ بعد!
الدّجاجلة كثر، والطّواغيت على العروش تربّعت، وجذور ظلمها تجذّرت، والشّعوب المعدومة هوَت تحت خطّ الفقر المدقع!
ولأنّ النّوائب تأبى إلا أن تأتيَ جمعًا، فقد تكاثرت الأمراض والكوارث على الشّعوب المكلومة أصلًا، وطفت على السّطح من جديد التّساؤلات عن العدالة والحكمة الإلهية، فبأي ذنب يقتل الأبرياء؟ ولماذا تكثر الكوارث في أرضهم؟ ولماذا تتكالب الضّباع على الأسد جريح؟ لماذا المعاناة من الفساد والاستبداد؟ لماذا يحدثُ كل هذا؟
تاريخ سؤال الشر
سؤال الشّرّ ليسَ وليد العولمة الحديثة، بل إنّ بذرته الأولى وُجِدت في صيغة سؤال قبيلَ خلق آدم يوم تساءلت الملائكة {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} [البقرة: 30]، ثمّ نمت برعمة السؤال إلى شجرة مشوهة حين حرّف بعض أحبار اليهود التصور الحقيقي والاعتقاد الإيماني بالإله، فقدّم العهد القديم المحرّف الإلهَ بوصفه ربًّا ظالمًا حاقدًا على البشريّة، كل شأنه وهمّه السعي لأن يذيقها سوء العذاب ظلمًا وعدوانًا، ثمّ كانت السّياسة القمعيّة للكنيسة كالسّماد لشجرة (معضلة الشّرّ الفلسفية) حيث كرّست العداء للإله القابع في النّعيم اللّاهي عن معاناة البشر بل ربّما المسبب لها، ومع بداية الثّورة الفرنسية، وبزوغ نجم التّنوير، ورغم إعدام القساوسة ورجال الدّين والسّعي المستميت لفتق الرّتق بين الدّين والسّياسة أينعت تلك الشّجرة ورسخت جذورها وقسيَ عودها ونضجت ثمارها.
وبفصل السّماء عن الأرض في الفكر التّنويريّ الأوروبي سعى الإنسان الأرضيّ لصناعة فردوس دنيويّ يحاكي الفردوس الّذي طرد منه أبوه آدم، فهو يتصف بالنعيم الدائم، وأنه جنّة تحاكي وصف الإله لها: {لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى} [طه: 118- 119] بمعنى آخر، فقد دفعته الرغبة لصناعة عالم لا مكابدة فيه ولا تعب.
انطلاقًا من الرّسم الأوليّ لهذا العالم الأفلاطونيّ نُحِتَ العالم الحديث، ملأته عدمية نيتشيه، وجبرية كامو، وعبثية سارتر، وأمام هذا الكمّ من الفلسفة التّشاؤمية الّتي بنت المدينة الفاضلة غابت الغائيّة، وغرق العالم الغربيّ رغم التّنوير في ظلمة العدميّة واللّامعنى من الوجود.
ولأنّ النّاس خُلِقتْ من نفس واحدة، فإنّ الأسس النّفسيّة للإنسان هي هي عربيًا كان صاحبها أم أعجميًّا، وبذلك طفا على السّطح العربيّ والإسلاميّ التّساؤل نفسه “لماذا خلق الله الشّرّ؟ لماذا يعذّب الله الأبرياء؟ لماذا تتوالى الطّامّات على المنكوبين أصلًا وتذر الظّالمين؟”
سعيًا للجواب
تساؤل الشّرّ إنّما برز كارتجاج نفسيّ أساسًا، ينبعُ نتيجة عجز الإنسان العربي عن الموازنة بين الإيمان بالله من جهة، وتقبل هذا الكمّ الوافر من المصائب والويلات من جانب آخر، نتيجة تضع غشاوةً على أعين السّاخطين الذين منعتهم الشبهات من رؤية الحكمة الإلهيّة.
لمّا كان الإسلام دينًا متكاملًا واقعيًّا فإنه لم ينكر الشّرّ، بل أكّدَ وجوده مع القدرة على فهم الإنسان الحكمة منه حينًا والعجز عن فهمع أحيانًا، فالكون “ليس شفّافًا بالصورة التي توضح لنا الحكمة من كل ابتلاء” -كما يصف د. سامي العامري-.
نتيجة لهذا التّصوّر الواقعيّ، وسعيِ الدّين الحثيث لتهيئة الخليفة المنشود لعمارة الأرض فقد عمد لبناء الدّعامات النّفسيّة للفرد المؤمن، هذه الصّمامات الّتي بنَت الشخصيّةً المسلمة وأكسبتها مناعةً تقيه فتنة الابتلاء وتثبّتُ قدمه عند الزّلل.
ولأنَّ كلّ شعور وسلوك يسبقهما فكرة في عالم الكلمات والمعاني، فقد كان مطلع الدّرب في مسيرة الصّناعة والإعداد للإنسان “الأميّ” تعلّم الأبجديّة وتسمية الأسماء بمسمّياتها، تمامًا كما عُلّمَ آدمُ أوَّلَ ما علّمَ الأسماء كلّها ثمّ نسيَها خَلَفه لمّا طال عليهم الأمد، فنسخ مفهومَ الشّرّ بمفهومِ الابتلاء، وهو اصطلاحًا الامتحان أو الاختبار، ويحتمل الخير والشّرّ لقوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، فالبلاء يكون حسنًا ويكون سيّئًا، وأصله المحنة.
أمّا الرّسول الأكرم ﷺ فقد أكّد أنّ الابتلاء كلّه خيرٌ ما دام قدَرًا من أقدار الله وجنديًّا من جنوده، وذلك في الحديث المشهور: (عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له) [أخرجه أحمد في المسند ومسلم في صحيحه]، وقوله ﷺ في سياقٍ آخر: (ما يصيب المسلم من نَصَب، ولا وَصَب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه) [أخرجه البخاري] وبذلك لن يضيع المؤمن بين حكمة ربّه ورحمته -كما ذكر ابن تيمية رضي الله عنه ورحمه-.
وبعد تبديل البالي من التّسميات بجديدها، انطلق الإسلام ليزيل الزّينة الزّائفة عن العالم الورديّ الّذي يسوّق له السّابقون الأوّلون من الملاحدة واللّاأدريون، فعمد لتغيير التّصوّرات المثالية للحياة في ذهن ولد آدم، الحالم بفردوسٍ أرضيّ لا يعدو أن يكون ظلًّا دميمًا للأصل، مشدّدًا أنّ الإنسان خلقَ في كَبَد من النّفخة الأولى حتّى النّفخة الأخيرة، وأنّه في اختبار مادام في الجسد نفس، مؤكّدًا أنّ الدّنيا أطوار لا ثبات فيها، لا الخير فيها دائم ولا الشّرّ وكلاهما زائر لا مقيم، كما عبّر الكاتب أيمن العتوم بعبارة بليغة في روايته نفرٌ من الجنّ عن هذا المعنى بقوله: “ولولا أنّ الشّرّ خُلقَ لما عرفا جمال الخير، ولولا أنّ الخير وُجِد لما عرفا قُبح الشّرّ…. وهما مثل الموت والحياة، لو لم يُخلق الموت فأيّ عقلٍ يمكن أن يفسِّر معنى الحياة؟”.
ثمّ أظهر للإنسان الذي خال نفسه بغنى عن الإله قصوره، فهو مهما بلغ من اتساع الأفق يبقى هباءة أمام الكون الفسيح، وبذلك تنتهي فرضيّة القدرة على خلق عالم بلا ألم، فالإنسان الحديث رغم ما توصّل إليه من علم وعتاد يبقى يرتجف كجناح ذبابة عند الفزع، ولا يزال قلبه يسقط بين قدميه عند الصّدمة الكبرى، ولايزال عاجزًا عن منع الحروب بين أبناء جنسه فكيف به على الكوارث الكونيّة؟
لقد أكّد الله في مواضع مبثوثة من كتابه أنّ الخير كلّه بيده وأنّ الإنسان لمحدوديّة علمه مهما بلغت من امتداد قد يسبّبُ الشّرّ خلال سعيه للخير {ويدع الإنسان بالشّرّ دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولًا} [الإسراء: 11].
وبين تغيير المسمّيات والتّصوّرات، قصّ الله عبر كتابه قصص الأنبياء مبيّنًا من جهةٍ حجم المعاناة الّتي لحقت بهم كاشفًا أحيانًا عمّا عقب هذه المحن من منح ولطائف، فقصّة يعقوب و تمكين يوسف معروفة، وصبرُ أيّوب على ابتلائه مضرب مثل، وغيرها الكثير وهذه القصص كانت لتبيان أنّ الحياة لم تسلم لأحد حتّى أصفياء الإله مصدّقَا قوله تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] من جهة، وتثبيتًا لقلوب المؤمنين المرتجفة من صروف الدّهر من جهة ثانية.
ولعلّ أكثر الصّور الواضحة الّتي قدّمها القرآن في معرض الحديث عن معضلة الشّرّ هي مشهد النّبيّ موسى عليه السّلام مع العبد الصّالح، حيثُ اتضح جهل الإنسان بمقتضى الحكمة الإلهيّة من أمورٍ ظاهرها فيه العذاب وباطنها فيه الرّحمة، فموسى الّذي طرح مسألة الشّرّ من موقع قوة – كما حسب- بإنكاره المستمر أمام أفعال العبد الصّالح “الشّنيعة” ظاهرًا سرعان ما أسلمَ للحكمة الإلهيّة الرّحيمة حين كشفت الأسباب وزيحت عن الأعين الغشاوة.
خاتمة المقال
إنّ انطلاق الوحيّ الإلهيّ لتغيير المسمّيات والتّصوّرات انعكس دون ريب إيجابًا على عالم الشّعور والسّلوك لدى الفرد المؤمن المسلم، فتغيير عالم الأفكار أزال عن العيون اللّثام، وأنار البصائر وأنزل السّكينة على القلوب فكانت تسلية للمؤمن فيما يصيبه مترجمًا ذلك بصبر على احتمال الشّدائد والنّوازل.
إنّ سؤال الشّرّ إذًا ليس بدعةً جديدة، إلا أن الإسلام لم يكن مهتمًا لا بتسفيه حجج الباطل وإفحامه عبر البراهين المنطقيّة والبديهيّة محطّمًا بذلك الصّخرة الأساسية الّتي يستند عليها الإلحاد فحسب، بل كان اهتمامه أيضاً ببناء شخصيّة إنسان سويّة، قادرة على الموازنة بين الإيمان بالله عزّ وجلّ، والصّبر على ابتلائه سواء انكشفت الغاية منه أم لا.