image_print

علمنة الإسلام المشروع الفاشل

كان الكاتب الروسي العظيم ليو تولستوي رجلًا غنيًّا، يمتلك الكثير من القرى والأراضي، لكنه لم يكن كأمثال النبلاء والأغنياء الروس، فقد عُرف عنه عطفه على الفقراء والمعدومين، فبنى لهم المدارس والكنائس، اقتناعًا منه بأن سعادته تنبع من سعادة الآخرين.

رغم كل هذا فقد وصل الأديب الروسي إلى منزلق خطير للغاية، حيث وصل به الأمر إلى التفكير في الانتحار، إلا أنه ضعُف أمام الموت، وعاش كئيبًا لفترة طويلة من حياته هائمًا لا يعرف لنفسه طريقًا واضحًا، فكان يصرخ “يا إلهي رحمتك، أنقذني، أرني الطريق”، واستمرّ على حاله هذه حتى اختار في النهاية أن يخرج من الكنيسة الأرثودوكسية وأن تتبعه لعنات رجال الدين إلى قبره، وقبل موته بفترة ليست بالقصيرة بدأ جديا يقترب من الإسلام، بل أصبح مدافعًا عنه، وكتابه “حكم النبي محمد” شاهد على هذا، كما  كان بينه وبين الشيخ محمد عبده علاقة صداقة وتبادل للرسائل ومناقشات مختلفة، إلى أن مات، ويقال إنه أسلم بحسب ما اشتُهِر عنه، فقد طلب ليو تولستوي ألّا يقرأ عليه أي قسيس وألا يدفن في مدافن المسيحين وألا يوضع على قبره صليب ودُفن كما يدفن المسلم.

قصة هذا الأديب الروسي مع الإسلام مثال واحد فقط من قصص العظماء مع هذا الدين العظيم، الذي ما إن يعرفه المرء حقًّا حتى تسكن روحه إليه وتذوب جوارحه فيه، وهذا ما حدث مع الكثير من المثقفين الأوربيين؛ ولو أنهم لم يسلموا إلا أنهم ظلوا يكنون للإسلام الاحترام الكبير.

ليو تولستوي (مصدر الصورة ويكيبيديا)

وإذا ما عدنا إلى بلاد المسلمين وجدنا قومًا يرون في تعاليم هذا الدين تناقضًا، وفي سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم رجعية، وقرأنا أنهم يطالبون بتجديد الدين ووضع تفسير جديد للقرآن الكريم دون ضوابط تقيم الحقّ؛ ومراجعةً للتاريخ الإسلامي واعتذارات عما فعله الصحابة والمسلمون من فتوحات. وللسخرية، فإن هؤلاء في نظر البعض “قواد التنوير”.

الإسلام الجديد أو الإسلام الإنساني

في 1933 ظهر البيان الإنسانوي الأول على يد روي سيلرز وريمون براغ، وتحدث هذا البيان عن دين جديد وعرَّف الإنسانوية باعتبارها حركة دينية تهدف إلى التعالي وتجاوز الأديان السابقة ذات الأصل الإلهي [إبراهيم بن عبد الله الرماح، الإنسانوية المستحيلة، ص22]، وفي خمسينات وسيتنات القرن العشرين، بدأت موجات هذا الفكر تصل إلينا بشكل لافت، وكان من تجليات الوصول، ظهور كتابات إنسانية أو إنسنة عربية؛ ويقصد بالأنسنة ما هو مرتبط تاريخيا بفترة عصر النهضة في إيطاليا، والأنسنة تعني عمومًا جعل الإنسان موضوع كل شيء ومرجع كل شيء، انطلاقًا من الفكر الإغريقي  المعروف بتمجيده للإنسان.

كتب الكثيرون أمثال حسن حنفي ومحمد أركون وسيد قمني -وغيرهم كثيرون- بأقلامهم أفكار المستشرقين، وحاولوا تطبيق فكر الأنسنة على الإسلام، واستغلوا جهل الناس فاعتبروا نقلهم إنجازات شخصية،  وفي هذا الصدد يقول  الدكتور أحمد إدريس الطعان: “تلقف بعض الباحثين العرب النظريات الفلسفية الوضعية حول الأديان وطفق بعضهم يعرضها  بين المسلمين على أنها من إبداعها مستغلا في ذلك جهل السواد الأعظم  من الأمة باللغات الأجنبية” [أحمد  إدريس الطعان، العلمانيون والقرآن الكريم، ص: 314].

وعلى خطى العَلمانيين الغربيين الذين استطاعوا تحرير الأوربيين من قيود الدين وحصر النصرانية والرجوع بأوربا نحو الوثنية كما يذكر الدكتور عبد المجيد الشرفي في كتابه (لبنات) [ص 54] “أصبحت العلمانية تعني -حسب موقع كل طرف- إما التحرر من قيود الدين وسلطة رجاله، وإما انحسار النصرانية والرجوع إلى الوثنية” سار بعض المفكرين المعجبين بالفكر الغربي، وعلى رأسهم محمد أركون، الذي لا ينفك طيلة كتابه “القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني” يذكر المستشرقين وكتبهم حول القرآن وحول الإسلام، وهو ينطلق حسب قوله من أفكارهم ويطبق ما وصلوا إليه من معارف وطرق تحليلية وخاصة “الفيلولوجيا” على النص القرآني وعلى التراث والمجتمع الإسلامي عمومًا.

يقول: “لقد حاولت أن أطبق النظريات الأنثربولوجية للعالمين كاردينير ولينتون على دراسة الفكر والمجتمع والسياقات الإسلامية” [ص: 43]

وطبعًا -كما واضح ومعروف- فإن استخدام هذه الطرق والمناهج في التحليل والتأويل لا تؤدي إلى تفريغ النص الديني من محتواه فحسب، بل إلى إزالة القدسية عنه وتحويله من كتاب إلهي ووحي إلى كتاب تاريخي -حسب أركون-، وبالتالي إضفاء صبغة بشرية على القرآن وتعاليمه وهو ما يعني عدم قدسيتها وإمكانية تكذيبها ووضعها جانبًا على الهامش كما حدث مع الإنجيل مثلاً.

وكما كتب “لودفيج فويرباخ” عن ظاهرة الدين أو كون الدين اختراعًا بشريًّا، أعاد حسن حنفي وكرّر ذلك في كتابه “التراث والتجديد” [ص 127-130] فيقول: “إن الله لفظة نعبر بها عن صرخات الألم وصيحات الفرح، إنه تعبير إنشائي أكثر منه وصفًا خبريًّا، هو رد فعل على حالة نفسية” ونحسب أن المعنى واضح في هذا الكلام، ومثل هذا نراه في كتابات فويرباخ وتلميذه ماركس وغيرهم، فالله ليس سوى سلوة للضعفاء والمساكين، والجنة ليست سوى تعويض عن جحيم الأرض وألمها، وهكذا دواليك.

إذًا، نرى هنا ونكتشف أن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم مفكرين ينتمون للإسلام، يسعون وبكل الوسائل إلى إفراغه من كل قيمة إلهية مقدّسة، وتحويله إلى ترانيم وكلمات جوفاء تقال في الاحتفالات، وهم يأملون أن يتنازل الشيوخ عن تمسكهم بالشرع والفقه، كما حدث وتنازل الباباوات والقساوسة، وعوض أن نسعى لإدخال العالم في الإسلام يقولون: لماذا لا ندخل الإسلام في العالم كما حدث مع المسيحية؟!

إسلام على المقاس

في الحقيقة يصعب تحقيق ما يصبو إليه العلمانيون العرب وذلك لوجود اختلاف تام بين الإسلام، والذي لا يمكن أن نطلق على لفظ  “الدين” –بمعناه الغربي المضيّق- لكونه يتجاوز هذا الإطار الضيق، وينطلق ليمسّ مجالات الحياة البشرية جميعها، وبذلك يتجاوز النظرة المادّيّة للدين؛ كما أن الإسلام ذاته يقدّم رؤية مختلفة لكل من الدنيا والآخرة بخلاف ما عليه الدين المسيحي، حيث إن من تعاليمه ما يحمل مبادئ أولية للعلمانية “دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر” وهنا فإن الإسلام يرفض هذا التقسيم، ففي نص القرآن: {لله ما في السموات والأرض} [البقرة: 284] و{إن الحكم إلا لله} [يوسف: 40]، وبذلك فأي فكرة تبيح فصل منهج الدين عن مختلف المجالات اليومية -كالسياسة مثلا- فإنها قطعًا لا مستند صريح لها في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية.

يبقى الأمر إذًا محصورًا أمام العلمانيين في محاولة علمنة حياة المسلمين وبالتالي علمنة تديّنهم -لا دينهم-، وهذا حدث بالفعل ونجح بمقدار هائل، وذلك راجع بالأساس لثقافة التي يتلقفها المسلمون من قنوات الاتصال مع الغرب، وكذا لسيطرة الفكر الليبرالي على الحياة العامة، كما أن تأثير الاقتصاد مما لا يمكن إغفاله.

إن التعامل اليوم بمبادئ الليبرالية والبراغماتية خاصة توقع المسلم ضحية لانفصام خطير، فهو من جهة يؤمن بدين يقر بوجود الأخلاق والمبادئ السامية، ومن جهة أخرى فإن كل ما حوله معلمَن يتجاوز هذه المبادئ ويعوضها بمبادئ أرضية. وهنا يختار مكرها أو دون أن يشعر العلمنة والطريق الليبرالي أو الأخلاق الرأسمالية، ولعل الأمر يذكرنا بالحركة البروتستانتية التي حللت المعاملات الربوية، وانقلب الدين المسيحي من دين يشجع على الرهبنة إلى دين يحفز على الاستثمار والربح، وهذه كانت اللبنة الأولى للفكر الرأسمالي، [يُراجَع: ماكس فيبر، أخلاق البروتستانية وروح الرأسمالية] فيرى ماكس –في كتابه- أن الإسلام لم يشجع على التجارة لإيمان المسلمين بأن الرزق بيد الله وأن كل شيء يرجع إليه، وهو بذلك أخطأ كما ما يزال الكثيرون يخطئون في هذه النقطة، فالإسلام لم يدعُ للتواكل والكسل البتّة، بل حثّ على العمل والاتجار ضمن ضوابط الشرع والمرحمة، والدليل أن معظم الصحابة كانوا تجارًا؛ والرسول صلى الله عليه وسلم اتّجر قبل البعثة، والذي وقع فيه ماكس فيبر هو ربطه الإسلام بدعوة من دعوات “المرجئة” –إحدى الفرق الإسلاميّة غير المنضبطة والقديمة-.

نخلص من هذا إلى أن الحديث عن علمنة الإسلام غير ممكن إلا باختراع تعاليم جديدة له وقراءات شاذة، وما دون ذلك فإن الأمر بالغ الاستحالة.

قراءات شاذة

على ضوء ما تقدّم فإنه ليس من الغريب أن نرى اليوم نسخًا مستَحْدَثَةً -من مسمّى الإسلام- تبيح كل المحرمات وتدافع عنها؛ نسخًا تسوق لحِلّ الزنا وتدعو الناس إلى الإقبال عليها بدعوى أنها مما لم يحرم الله ولا رسوله وإن حصل وحرمها فإن ذلك حكم خاصّ بزمانه لا أكثر.

نرى اليوم (إسلامًا) يجعل  كل إنسان –مهما بلغ من فساد عقيدته ودينه- مسلمًا، بل  مهما كانت ديانته ولو عبد الحجر والشجر وسجد للشمس، إسلاماً نخاف أن نصبح في يوم على فتوى تبيح الصلاة بالترانيم أو بشعر عنترة وقيس!!

يتكئ دعاة الإسلام الجديد أو إسلام السوق الجديد على تأويلات شخصية لآيات القرآن تعتمد تجديداً للخطاب الديني ونشراً للتسامح برأيهم، وهذا أمر حسن -ظاهرًا- فمن هذا الذي يرفض التسامح؛ إلا أن  التسامح المقبول ليس الذي يعمد إلى لي عنق الآيات لتناسب أهواء الناس وأفكارهم، فالإسلام لم يأتِ ليساير هوى الناس بل جاء ليضادّ أهواءهم البشرية الناقصة، وكذلك سيبقى، ومن هنا فإن التلاعب بمعاني الآيات ليس انتصارًا للتنوير كما يظن ويتوهم من  يلقب بالمفكر الإسلامي، بل هو تغيير للدين وإحداث دين جديد لا علاقة له بالدين الإسلامي الحقيقي،  وإن كان هدفهم التسامح فتاريخنا مليء – بفضل الله- بالتسامح مع الآخر بناء على توجيهات الدين ونصوصه، ومن ثم فإننا لا نحتاج خطاباً يغير ملامحه ليرضي نزوات مختلفة مبنية على جهل طافح بأحكام الشرع الحكيم.

محمد شحرور

من المضحك والمبكي -في آنٍ معًا- أن إحدى الممثلات المصريات خرجت بتفسير جديد لقوله تعالى {وأما بنعمة ربك فحدِّث} [الضحى: 11] وادّعت بأنّ ظهور بعض أجزاء الجسم بشكل ملفت أمرٌ لا مشكلة فيه، بل هو مقبول ومرغوب به، وذلك عملاً -بحسب ادعائها- بهذه الآية، وهذا التفسير يذكّرنا بمنهجية القراءات المعاصرة للقرآن والتي كان أحد أبرز أبطالها المهندس المتوفّى محمد شحرور، ولعلّ هذا التفسير بناء على منهجه مقبولٌ!

ينسب لسيدنا علي قوله لابن عباس حينما كان متوجها لمناقشة الخوارج (لا تُخاصِمهم بالقرآن؛ فإنَ القُرآن حمَّال أوجه، تقول ويقولون، ولكن حاجِجهم بالسنَة؛ فإنَّهم لن يَجدوا عنها مَحيصًا) [الدر المنثور، السيوطي، ج1، ص:40] ورغم وجود عددٍ من العلماء شككوا بصحة نسبة هذه المقولة عن علي رضي الله عنه، إلا أن مغزاها صحيح، فإن تأويلات القرآن قد تنفتح إلى ما لا نهاية في حال عدم اللجوء للسنة النبوية التي فسرت القرآن، وإلا فإن الإنسان سيجد نفسه في ربوع إسلام آخر، وهذا ما وقع فيه للأسف جماعة من المسلمين يلقبون أنفسهم بـ”القرآنيين” وهم غير مدركين –أو لعل الأرجح أنهم مدركون- لكونهم حين يقدمون هذه التجديدات والرؤى فإنهم يؤسسون لدين جديد مختلف عن الإسلام الذي أنزل الله، وبالتالي فإن عمليتهم هذه، عملية إنزال للسماء -كما قال ماركس-.

خلاصة القول

إن البحث في الدين والتساؤل فيه بهدف فهمه حق لجميع الناس إذا كانت الغاية الوصول للحق لا إثارة الشبه، ومن ثم فإنه كذلك لا يحق لهؤلاء المتسائلين أو الباحثين منع الناس من انتقادهم والتعبير عن رأيهم بحرية وبهذا تتقدم الأفكار في الأمم.

إنا نرى أن من يدعو لغير ما عُرف عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو لا يدعو إلى دين الله، فعوض أن يدعو العالم لاتباع للإسلام يدعو الإسلام لاتباع العالم، ولو كان هذا العالم وتعاليمه باعتراف حتى أشد الملحدين يسير بالإنسان نحو الهاوية، والإسلام لم يأتِ ليساير أهواء الناس وخيالهم -كما قلنا- بل العكس، فقد تحدى قريشًا وأخلاقها وقلب مفاهيمها وهذا ما شجع الصحابة الذين كانوا قد ملوا مدنية قريش المزيفة، وهو الذي ما زال يشجع الكثيرين على اعتناقه، كونه يخلصهم من الزيف والوهم لأنه جاء بالعلم وباليقين.

من مظاهر العبودية في حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام

لم يعتمد القرآن الكريم أسلوبًا واحدًا لإيصال رسالته إلى الناس، بل تعدّدت أساليبه وتنوعت، فهو حينًا يعتمد أسلوب الحوار، وحينًا آخر يعتمد أسلوب ضرب المثل، وتارة يعتمد أسلوب التربية النفسية والتوجيه الخلقي، إلى غير ذلك من الأساليب التي لا تخفى على من تأمل وتدبر كتاب الله العزيز.

لقد كان أسلوب القصة من الأساليب التي اعتنى القرآن الكريم بها عناية خاصة؛ لما فيها من عنصر التشويق، وجوانب الاتعاظ والاعتبار. وقد ألمح القرآن إلى هذا في أكثر من آية من ذلك قوله تعالى: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} [الأعراف:176]، إلى غير ذلك من الآيات التي تبين اعتماد القرآن أسلوب القصص، تحقيقاً لمقاصد وأغراض عديدة.

العيش تسليمًا لله

لقد كانت قصةُ نبي الله إبراهيم عليه السّلام أطول القصص القرآنية بعد قصة نبيه موسى عليه السّلام، وقد نزلت آياتها مبكرًا في المرحلة المكيّة واستمر نزولها حتى أواخر المرحلة المدنيّة، وهذا يعني أن قصة إبراهيم التي أخذت هذه المساحة الكبيرة في القرآن الكريم لها، وأخذت هذه المدة في نزول الوحي، وسميت سورة في القرآن باسمه هي سورة إبراهيم، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، كلّ ذلك يؤكد أن لها دورًا كبيرًا في تحقيق أهداف القرآن الكريم ومقاصده.

قف عند قوله تعالى: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] –على سبيل المثال- متأمِّلاً- وتخيل أحدًا ما يأخذ طفله الرضيع وزوجته ليتركهما وحدهما في صحراء جرداء قاحلة، لا ماء فيها ولا زرع، ولا بشر يستأنس بهم، ولا وجود لشيء يعد مقومًا من مقومات الحياة بين أيديهم، ثم يغادرهم ويذهب دون شرح أو توضيح.

هذا ما فعله سيدنا إبراهيم عليه السلام، حيث ذهب بزوجته هاجر ورضيعها إسماعيل إلى صحراء مكة في الموضع الذي تفجرت فيه زمزم، فقد تركهما وحيدين دون راعٍ أو مؤنس، امتثالًا لأمر ربه تعالى، في صورة من صور التسليم المطلق، ثم مضى في طريقه تاركًا لهم قليلًا من الماء والزاد، فتسأله هاجر ثلاثًا: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس؟! فلم يلتفت إليها. فقالت هاجر: آلله أمرك بهذا؟ فيرد عليها عليه السلام: نعم. فتقول المؤمنة بربها في غير تردد ولا قلق: إذن لا يضيعنا. [أخرجه البخاري في صحيحه].

انصرف نبي الله إبراهيم عليه السلام وهو يدعو ويقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [سورة إبراهيم:37-38].

هكذا فقط: آلله أمرك بهذا؟ فيرد: نعم. إذًا لا حاجة لنقاش أو تبرير. الله أمرك بهذا، فلا إجابة سوى السمع والطاعة. إبراهيم ينفذ ما أمره به ربه دون تردد، وزوجه معه لم تناقشه حتى في فعله. مهما بلغت المشقة، والحيرة من خفاء الحكمة في الأمر، ولكن التجرّد من حول المرء إلى حول الله وقوته أكبر وأمكن، ويقينهم في الله أعلى وأعظم.

الإقرار بالفداء

في موقف آخر يظهر عظمة التسليم نرى إبراهيم عليه السلام يبثّ لولده أمر الله بتقديمه قربانًا، {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قال يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }، [الصافات: 102].

لقد قال له ولده: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكففْ عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء، فتراه أمّي فتحزن، وأَسْرِعْ مرّ السكين على حَلْقي؛ ليكون أهون للموت عليّ، فإذا أتيت سارَة فاقرأ عليها مني السلام; فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه، حتى استنقع الدموع تحت خدّه، ثم إنه جرّ السكين على حلقه، فلم تَحِكِ السكين، وكأنّ ضرب الله صفيحة من النحاس عليها، هنا نودي يا إبراهيم (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) بالحق فالتفت فإذا بكبش، فأخذه وخَلَّى عن ابنه، فأكبّ على ابنه يقبله، وهو يقول: اليوم يا بُنَيّ وُهِبْتَ لي; فلذلك يقول الله: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [تفسير الطبري بتصرف].

إن إبراهيم هنا -بعد الاختبار الأول- يختبره اختبارًا ثانيًا ليكون في مآله خيرٌ للبشرية وإبطالٌ لعادة التقرّب بدماء البشر، ومرة أخرى يحقق إبراهيم العبودية الكاملة لله تعالى ومعه ابنه، فيمتثلان للأمر دون اعتراض أو مناقشة. (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أسلما أمرهما لله واتفقا على التفويض إليه، وبالفعل لما باشر إبراهيم الذبح، ناداه ربه: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا). وتلك قصة الفداء المعروفة.

ذلكم مثالين من أمثلة كثيرة في قصة إبراهيم عليه السلام، وهي وحدها غنية بالأمثلة، وقد وردت في عدة سور كالبقرة وآل عمران والأنعام وهود وإبراهيم والحجر والنحل ومريم والأنبياء والحج والشعراء والعنكبوت والصافات والزخرف والذاريات والنجم. وفي أكثر هذا المواضع أمثلة على ما ذكرنا. ولما رأينا من هذه الأمثلة فإن العبودية لله تكون بالانقياد والطاعة التامة لأوامره سبحانه، وما صح عن نبينا عليه الصلاة والسلام دون اعتراض أو مناقشة، حتى لو خفيت الحكمة من وراء الأمر، فسلم لله تسلم.

أن يترسّخ الإيمان في القلوب!

يقول الصحابي الجليل جندب بن عبد الله رضي الله عنه: (تعلمنا الإيمان قبل القرآن)، وذلك في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيمانا). [صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه] -ومعنى حزاورة: جمع الحزور، وهو الغلام إذا اشتد وقوي وحزم- أي أنهم كانوا يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوة والمشاهدة والإرشاد والتطبيق العملي أصول دينهم وعقائده، فيأخذون منه الأصول التي ينبني عليها بعد ذلك، وينقادون لأمره صلى الله عليه وسلم انقيادا تاما وهو الذي لا ينطق عن الهوى، ثم يحفظون ما تيسر من آيات القرآن الكريم  ما يقوى ويزداد به إيمانهم.

وبالتأكيد فإنه ليس المقصد هنا التقليل من أهمية حفظ القرآن الكريم وتعلمه، وإنما التنبيه إلى ضرورة وجود خطوة مهمة تسبقه، وهي ترسيخ الإيمان واليقين بالله في القلب، فذلك جوهر العقيدة، ومن هنا تنبعث العبودية الكاملة لله تعالى والانقياد المطلق لأوامره فكرًا وممارسةً، وتعلّم ذلك أدعى إلى التمسك بما يجيء في كتابه سبحانه وتعالى وعدم رفضه أو النأي عنه، أو الصد عن ما قد يشكل على أفهامنا منه، ولنا في تطبيق العبودية لله خير مثل، أزكى الناس وأعلاهم منزلة، الأنبياء المختارون من قبل الله عز وجل، ففي سِيَرهم جميعًا كل الهدي للعبودية الصحيحة الكاملة كما يريد الله تعالى منا، والمطالع لسيرهم لن يعدم أن يتنبه للأمثلة والعبر، حيث يقول الله تعالى: {لقدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ]سورة يوسف: 111] وهذا ما تظهره لنا حقيقةً مواقف نبي الله إبراهيم –التي عرضناها-، فاللهم انفعنا بذلك يا أكرم الأكرمين.

على شفا جرف هارٍ

هل جربت أن تعيش طمأنينة من ورق، تتسارع فيها دقات قلبك منذرة بشقاء قريب!

شبَح الخوف يطوف بك أينما خرجت وحيثما ولّيتَ وجهك، وقد تكون وحيدًا، فتظن أنك بين أحضان الجموع ستغدو أكثر استقرارًا. تهجر عهدك وتنسى غايتك، وترمي بنفسك بعيدًا عما خلقت لأجله، مؤمّلًا إياها أنك -في الغد- بين الجموع قد تشفى، وأنك في الغد ستحررها، ثم تأتي ساعة الوفاء فإذا بك ما زلتَ غريقًا، وأكثر غربة عنها، ولا شيء غير الحسرة يملأ فؤادك!

حسرة التنازلات والسقوط في سبيل الظفر بشيء من السكينة، تطرق فكرك كلماته تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4] فتوقن أنك تسلك سبيلًا غير الذي تأمل الوصول إليه، وتعلم في قرارة نفسك أنك لن تصل؛  لأنك وضعت طمأنينتك على أعتاب أبواب موصدة  لا تُفتَح  إلا بمزيد من التنازلات.

على أعتاب ماذا لو؟

في كل مرة تهمس لنفسك (ستكون الأخيرة ولن أعود)، سأكذب للمرة الأخيرة، وسأحلف للمرة الأخيرة، سأغش وســ…، وما إن تفتح الباب حتى تَلِجَهُ فتغنم شيئًا من السمّ على هيئة اللذة، فتردّد فرِحًا على عجل: ها قد وصلت وظفرت، ولم يذهب بذلي سدىً.

لكنك لا تلبث يسيرًا حتى يطاردك شبح “ماذا لو؟”

ماذا لو تركني زوجي؟، وماذا لو اغتربت وقُدّر علي أن أعيش وحدي؟ ماذا لو توفي والداي؟ ماذا لو افتقرت واحتجت؟ فتتراءى أمامك سيناريوهات الغد المؤلم  – وإن لم يكن قد وُجِد بعدُ-  وتبدأ مع كل سيناريو رحلة التفكير  والخوف مما هو آت، فينسيك الشيطان ذكر ربك، حتى تجد أنك شقي بما لديك، وأنك تعلقت بإفراط ووضعت طمأنينتك على شفا جُرف هارٍ من الشقاء!

إذا زاد ضرّ

مجبولون نحن على التعلّق بمن حولنا من الناس وما نحبه ونتذكره من الأماكن. ضحِكُ الصغار في الأرجاء، رائحة شاي البيت، وتفاصيل لا تكاد تنتهي، نستظلّ بظلّها كي لا نُضِلّ في عالم يعجّ بالمادّية حتى النخاع!  نخبر العالم بها: إنّنا سعداء!. لكن هل نحن حقـًّا سعداء؟

هل فكرت فيما قد يحدث لحياتك وأنت ترى عقارب ساعات الألم والفقد تدقّ قريبًا من بيتك؟ أي شعور سيملأ أركان روحك وأنت تقف أمامها كسبع عجاف لا غيث بعدها ولا تقدر على صدّها أو ردّها؟

ترى هل هو  شعورٌ بالشلل والشقاء، أم تراه  حزمة من الرضا مع صوت متحشرج  يردّد  (أمر المؤمن كله له خير)؟ [أخرجه مسلم]

إن كان الشلل واللاحراك هو أول احتمال طرق ذهنك، فـلا ضير؛ إذ إن ضعفك طبيعي وما عليك إلا أن تقبله، لكنّ الفيصل ها هنا هو محاولة استدراكه، ولـك أن تعتبره نذيرًا جاءك محذّرًا إياك، فإن زادك من الطمأنينة قليل حين جعلت نفسك أسيرة مستعبدة لما حولها ولم تعلِّمها أنّ: التعلق إذا زاد ضرّ!

هل إلى الحرية من سبيل

لا أحد ينكر أن الاستعباد والأسر كرب عظيم، يحملك من سعة الرضا إلى ضيق السخط، لا سيما إن كانت أغلالك من صنع يديك، أغلال محملة بشحنة من الرفض التام للألم، فيصبح كل تحدّ أو امتحان -مهما صغر- بمنزلة النازلة والقشة التي تقصم ظهر البعير وتنتهي بالعتب على ما جاءت به الأقدار.

هنا حق لنا أن نسأل كل مستعبد أسير “أما اكتفيت”؟

وتحضرني عبارة قالها د. عبد الرحمن ذاكر: “إذا خفتَ أن تفعل فقد فعلت ما تخاف”، لذا تحرّك واعلم أنك بينك وطمأنينتك مسافة الترك، ستقرصك مرارة التخلّي وينزف قلبك، وستسمع أنين روحك!

لكن هذه المرة سيكون أنين التماثل للشفاء، جرّب أن تخطو بصدق، وليكن زادك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]

وإذا اخترت المكوث فلا أزيد على أن أقول لك: إن الفطام يصعب بقدر التأجيل.

سيرًا على الأقدام .. من الأندلس إلى بغداد!

بحثتُ في برنامج الخرائط في شبكة الإنترنت عن المسافة بين إسبانيا والعراق، كانت النتيجة أن المسافة تزيد عن 5140 كيلومتر، فتساءلتُ، كم ستكون مدة المسير فيما لو أراد الإنسان قطعها ماشيًا بلا انقطاع، فكان تقدير برنامج الخرائط هو قرابة ست وثلاثين يومًا، يمرّ المرء فيها على عدد من البلدان.

تساءلت في نفسي والموقع يعرض لي المرور عبر القارة الأوروبيّة -وقد تماثلت لذهني صورة العلماء الرحّالة في طلب الحديث- تُرى هل مر بَقِيّ بنُ مَخْلَدٍ الأندلسيّ بنفس المسار الذي أظهره البرنامج أم اختار بلدان شمال إفريقيا حتى يصل إلى غايته؟

يا لها من غاية جليلة تلك التي دفعَته ليواجه مخاطر السفر كل هذه المسافة ويتحمل المشقة والتعب يَحُثُّ الخُطى مواصِلًا السير مُصِرّا على الوصول إلى العراق مهما لاقى في رحلته ما لاقى!

ما قصة ذلك الأندلُسي العصامي، وما الكنز الذي سافر إلى العراق بهدف الوصول إليه، ومن أين أتى بذلك العزم، وتلك الشجاعة، وذلك الصبر؟  ولماذا لم يُؤْثِر الراحة بركوب راحِلة تُبلغه مرامَه كالحصان أو الجمل؟ كان ذلك سيفي بالغرض بكل تأكيد لقطع هذه المسافات الشاسعة؟

الرحلة إلى لقاء العلماء

عشرات الأسئلة الأخرى جاءت لذهني، إلا أن أكثرها إلحاحًا كان لماذا المشي بالذات، بمَ كان يحدث نفسه كلما قطع خطوة؟ وكيف كانت السعادة تغمره كلما اقترب من مراده الذي تهون المتاعب في سبيله؟

تلك التضحيات النبيلة والصبر العظيم كان في سبيل لقاء العلماء، فتمشي لأجل ذلك الأقدام آلاف الخطوات ولا تبالي، للقاء الإمام أحمد بن حنبل سافر بَقِيّ بنُ مَخْلَدٍ الأندلسيّ من الأندلس إلى العراق ماشيًا على قدميه لهدف واحد، ألا وهو “طلب العلم”.

فرق شاسع بين حالٍ مضى كان يرحَل فيه آلاف الأميال للسماع على عالم جليل، وبين واقع اليوم في عام ألفين وواحد وعشرين، حيث يتوفّر مسند الإمام أحمد بنقرة واحدة على لوحة المفاتيح وفي أقل من ومضة!

يحدّثنا بقيٌّ عن نفسه ومعاناته في أسفاره، فليس له عيش إلا “ورق الكرنب الذي يرمى”، إلا أنه بالرغم من ذلك كله يقول: “سمعتُ مِن كُل مَن سمعت منه في البلدان ماشيًا إليهم على قدمي”، وقد صدَق -رحمه الله- فقد قيل عنه: إنه “لَمْ يُرَ راكِبا دابةً قَط”. (1)

لقد قطع بَقِيُّ بنُ مَخْلَدٍ تلك المسافات كلها ليسمع من إمام السُّنَّة حديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وحُقّ له ذاك! فما أدراك من هو أحمد، وهل أتاك حديث المحنة والفتنة التي وقف فيها شامخًا صابرًا راسخًا؟

هل أتاك صوت السوط حين يهوي على ذلك العالِم الجليل جَلدًا وظلمًا وتعذيبًا إلا أنه آثر تذوّق العذاب على أن يريح نفسه من ألمه وإن كان المقابل كلمة عابرة تعبّر عن غير ما يقتنع به.

الهمم الجليلة

لعلكم سمعتم أو قرأتم عن كثيرٍ من الأئمة الأجلاء من سلف الأمة، كسفيان الثوري، ويحيى بن معين، وشعبة بن الحجاج، ووكيع بن الجراح.

لا شك أنك –أيها القارئ- سمعت شيئًا عن الإمام البخاري وصحيحه، لكن أَوَقفتَ يومًا على تفاصيل حياته ومحنته وصبره وتعبّده وزهده؟

يعرفُ طلبة العلم كتاب “سِيَر أعلام النبلاء” الذي يترجِم ويشرح ويسردُ الكثير عن شخصيات من العلماء والمحدثين والرواة في تاريخ المسلمين، لقد كان الهدف الأسمى لهذا العلم –أي التراجم- أن نميّز بين “النبلاء” الذين حفظ الله بهم هذه السُّنَّة المُشَرّفة، فتركوا الراحة وهاجروا من بلادهم ورحلوا في شتى أنحاء الأرض للوصول إلى الغاية الكبيرة في الاطمئنان عندما يقال: هذا “حديث صحيح”.

بالتأكيد فإنك قد رأيت هذه الكلمات مكتوبة ذات مرة تحت حديث ما، سواء في تويتر أو فيسبوك أو أي مكان آخر.. لقد كان ثمن هذه الكلمة الكثير الكثير، كالرحلة الجليلة لبَقِيّ بنُ مَخْلَدٍ من الأندلس إلى بغداد..

صورة كتاب "سير أعلام النبلاء" وفيه سيرة بَقِيّ بنُ مَخْلَدٍ الأندلسيّ

همّة منذ الصغر

قد لا يكون الحضور الشبابي في أروقة التراث أمرًا عجبًا، فمع بدايات سنّ العاشرة –تقريبًا- بزغت أنجم علماء كثيرة، كالإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ومحمد بن إدريس الشافعي، والإمام سعد الدين التفتازاني وغيرهم الكثير من مفكري الإسلام وعلمائه، مما يفسّر عظمة العطاءات العلمية والمشروعات الفكرية التي قدمها الكثير من العلماء الأوائل؛ فقد كانت أعمارهم كلها تقريبا -إلا بضع سنين للنشأة الأولى- مبذولة للمحبرة والدواة.

جاء في “ترتيب المدارك” للقاضي عياض أن الإمام مالك جلس لتعليم الناس والفتيا وهو ابن سبع عشرة سنة، وعُرفت له الإمامة منذ ذاك (2).

لا يضرّهم من خذلهم

لقد بلغ من همم العلماء أنهم إذا أرادوا أن يحكموا على حديث ما بالصحة أو الضعف أن يتحروا ويبحثوا عن رواة هذا الحديث ويسافرون من بلد إلى بلد للسؤال عن حقيقتهم مهما كلفهم ذلك من مشقة وعناء! ثم يأتيكَ اليوم من يطعن في صحيح البخاري!

أنت يا من يرمي هذا الجبل بسيّئ الكلمات، سل عنه دواوين الخلود، فإن “كل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيًا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدّتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، هم حفظة الدين وخَزَنته، وأوعية العلم وحملته، [..] لا يَضرُّهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم، والمحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وإن الله على نصرهم لقدير” (3) ثم بعد كل هذا أتُراهُ أمرًا سهلًا أن أكتب عن علماء الحديث!

إن اللغة لترتبك في مخابئها حين أتحدث عن هذه الهمم، تحذرني من إخراجها بأسلوب ضعيف، بل إن القلم ليتقدّم خطوة ثم يتراجع عشرًا خوفًا من التقصير في الوصف، وهيبة من استخدام اللغة بمستوى لا يليق بتلك النفوس العظيمة، واستحياء من التقصير في حمل الأمانة، إنه حياء التلميذة من إهمالها علوم شيوخها وآبائها.


الإحالات

  1. سير أعلام النبلاء، الإمام الذهبي، ج13، ص: 291.
  2. ترتيب المدارك، القاضي عياض، ج1، ص58.
  3. شرف أصحاب الحديث، الخطيب البغددي، ص: 28.

العلم المجرّد .. فتنة أم طوق نجاة؟!

ليس من الصدفة أن تبتدئ أوّل آيات القرآن نزولاً بالحثّ على القراءة، وأن تذكر أهم مزايا الإنسان، أي إمكانية العلم والتعلّم، فالله البارئ سبحانه: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4-5]، وفضّله على سائر خلقه بهاتين المَلَكتين: العقل والعلم، فمن يرد الله به خيرًا يجعل له إلى العلم مسلكًا ويعبّد له طريقًا إليه، ومن لم يكن له في العلم باعٌ ولو أقل القليل، أُرسل في الدنيا يجمع منها ما يجمع، ثم يعود كأن لم يكن له منها نصيب، لا يغنيه جمعه المال دون علم ولا ينفعه عند الله.

إن أفضل العلم ما دل على الله، وعلى مراده من عباده، ويكون فاضلًا ما تبعه وخدمه وألحق به، ثم بعد ذلك يكون من العلم ما يعرف الناس به دنياهم ويتفاضلون فيها، وبه يعمرون أرضهم وديارهم.

ولعل القول إن موضوعًا كهذا قد طُرق مرات ومرات، ولكن ما تفجؤنا به الأيام مما يثير الدهشة من انسحاق للهوية ومن انحرافات مخزية يستلزم التذكرة كل حين، وذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

العلم وسيلة والعبادة غاية

مكانة العلم بمختلف توصيفاته وتعريفاته لا تخرج عن كونه وسيلة للدلالة على الله وعلى مراده من خلقه، وطريق لتسخير مخلوقات الله في عمارة أرضه وتهيئتها ومن فيها لعبادته وفق منهج الله تعالى، فمناط الأمر كله ومرده إلى عبادة الله وحده وفقط، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56- 57]، فلما كان الخلق كله ابتداء متضمنا خلق الإنسان لعبادة الله وحده، لزم أن يكون كل ما سخر في الكون يؤدي وظيفة لهذه الغاية، سواء جعل للإنسان سلطانًا عليه أم لا، وسواء عرف تلك الوظيفة أم لم يعرف.

إن الإنسان لا يتسلط على ما حوله من مخلوقات إلا بسلطان العلم بأمر الله، لقوله تعالى:  {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]، ولو استعمل الإنسان سلطانه لشق طريقه نحو معرفة الله فبها ونعمت، فبذلك قد استخدم الوسيلة لتحقيق الغاية في المسار الصحيح، أما لو استعملها وفقا لهواه فإنه بذلك يخرج بها عن مراد الله.

إن وجود العلم أساسًا بهذه الكيفية وتسخيره لبني آدم هو إرادة الله، فلو أراد الله تعالى لأداة أخرى أن تستعمل للدلالة عليه بدلًا من العلم لما كان للعلم قيمة حينئذ، فهو يكتسب قيمته من شرف وعلوّ الغاية التي ارتبط بها وبالدلالة عليها، وإلا فلا قيمة له، فنجاح الإنسان في الوسيلة يقاسُ بقدر تحقيقه للغاية، وما دامت الغاية لا تُطلَب ولا تتحقّق فلا قيمة للأدوات، ولا نجاح حقيقي آنذاك يعتبر، لأن المنشأَ ماديٌ والهدف كذلك.

العلم وسيلة

فتنة العلم

وصل الوثوق بالعلم إلى حد يشبه طغيان الأساطير اليونانية حول آلهتها المزعومة، بل باتت نزعة العلموية “تقديس العلم” محورًا أساسيًّا في النقاشات، ورسمت حوله هالة تتجاوز حجمه الحقيقي، شأنه كشأن الكثير من الوسائل التي تحوّلت من الوسيلة لتحل محل الغايات.

إن ما يعقب تحول الوسيلة إلى غاية من المشكلات أكبر من المنافع التي قد تتأتى منها، ومن هذه المشكلات الطاغية في تحول العلم إلى قداسة ظاهرة أن سطوة هذا العلم على جهل الإنسان في أحيان كثيرة تجعل منه مرشدًا يُتبَع ومصدرًا يُتَزَوّد منه بعيدًا عن وحي الله، بدلًا من أن يخدمه ويفسره وييسر وصوله للناس.

وبدهي أن مثل هذا الانحراف يأتي من أصحاب الهويات المائعة المنجرفين خلف أفكار برّاقة تفسد العقل والدين، ولربما وجد بعضهم هويته الضائعة في نظرية علمية تسد جوع روحه، أو منهج تجريبي يقضي فيه عمره كما يقضى في غيره، وظيفة تؤدى كأي وظيفة عدا أن لها رونقا وبهرجًا خاصًا، ليس بالضرورة رسالة عظيمة وخدمة للبشرية أو حرصا على نفعها، كما أن أكثرهم في النهاية دمى تحركها أيدولوجيات أكبر، تصوغ مخرجات هذا العلم وتجاربه وفقا لمساراتها ومخططاتها.

إن ما لا يتوقع ههنا أن ينسحب ستار هذه السطوة على أصحاب الوحي أنفسهم، فنجد بعض الكتاب والمفكرين والمثقفين وبعض الدعاة أحيانًا ينجرفون إلى تصديق خرافات بعض هذه العلوم، ناهيك عن محاولة أسلمتها ونشرها بين الناس.

تعظم البلوى –بكل تأكيد- في أمر العامة، أو من يظنون العلم خيرًا كله، ولا يسعهم إلا تصديق ما يجيء من خلاله سواء كان صافيًا أو مشوبًا بأكاذيب وخرافات، فليس بوسع الجميع تمحيص ما يعرض عليه من الكلام، خاصة إذا ادّعى قائله استناده إلى مصادر علمية صحيحة ومحكمة، وتفنيد ما قد يرد فيه من شبهات بقصد وغير قصد يطعن أغلبها في صميم العقيدة ومبادئ الدين.

إن أدلجة المنتَج العلمي وإخراجه من سياقه المحض إلى سياقات أخرى تدعم نزعات تقديسية تواجه الدين، سواءً بمزج صحيحه ببعض الكذب، أو بتحوير الصحيح منه ليتلاقى مع الأكاذيب، فإنه سيأخذ أختام العلم التجريبي ودرجات التحكيم العالية فيصبح بعيدًا عن أي مجال لمناقشته أو رفضه، وما يلبث أن تُنشَر الفكرة وتُعمَّم وتكثر أدبياتها المرئية والمسموعة، بل وتسن لأجلها القوانين الدولية رغمًا عن جميع الناس، بغضّ النظر عن سحق الفطرة وتجريد الإنسان من بقايا إنسانيته، فيصير الحق باطلًا، ويصبح الوضع المعكوس الصورة الأمثل، وكل ذاك نابع من مغبة الافتتان بالعلم والنزعات التي تقدسه.

قليلُ العلم ضياع!

السرعة التي تطال كل شيء، إنها من أشد ما ابتلينا به في هذا الزمن، ومن آثارها ما انعكس على الرغبة في تحصيل العلم بطرق سريعة، بغير بذل كثير وقت أو جهد، ونجد لهذا صدى في البرامج التي تسمي نفسها (علمية) والتي تعرض لمواضيع وأفكار علمية بصورة مقتضبة ومختصرة وسريعة، بطرح وجهة نظر معينة هي ضعيفة على الأرجح وتخدم سياقًا معيَّنًا، أما المواضيع التي تتسم بالرصانة فلا تخلو من حشوها ببعض المغالطات والخرافات.

إن المشاهد الذي انتشى بفرقعة الموضوع العلمي الجديد داخل رأسه، لم يحصّل علمًا نافعًا في الحقيقة بحيث يمكنه الاستفادة منه أو إفادة غيره، فهي لا تعدو أن تكون فرقعات ترضي نشوتها الفضول لدينا، وعلى الأغلب يتم نسيان أكثرها بعد قليل من الوقت، ولكن ما لا يتم نسيانه هي تلك الشبهات التي مُرِّرَت بذكاء، وما علق بوعي المتلقّي ولا وعيه، وما ينشأ من تراكمات تشكل في النهاية تصورا كثرت فيه الانحرافات، يَقِلُّ معه إنكار المنكَر في أحسن الأحوال، هذا إن لم يكن من مؤيدي تلك الأفكار الجديدة المنحرفة والمنافحين عنها، كونها تقدم على أنها علمٌ محكمٌ تجريبيٌّ محايدٌ كما يُظَنّ.

إن من أخطر آثار هذه الانحرافات هو الانحراف العَقَديّ الذي ينتشر بين المسلمين، والذي يلاقي انتشارًا واسعًا، خاصة بين الأجيال الجديدة البعيدة كُلِّيًّا عن أي شكل من أشكال العلوم النافعة وتحصيلها، فتمثل هذه المصادر لهم منبع العلوم الرصين الذي لا يُرَدُّ ولا يُناقَش.

ليس ثمة عند المسلم شيء أثمن من عقيدته، وقد سخّر الله بعض الناس يفندون شبهات هؤلاء الناس الذين وقع نتيجة إفسادهم أناس كثيرون، فيبينون انحرافاتهم ومغالطاتهم.

ما يضر أحدنا لو حرم العلم كله وأتى الله بعقيدة كصفحة بيضاء، لهو يومئذ في مقام أعز من مقام العالم الضال المضِلّ، ولو جمع امرؤ العلم كله، ونشره في أرجاء الدنيا ثم أتى الله بعقيدة هُتِك رداؤها، فإنه حينها لفي خسران مبين، لا يغني عنه علمه من الله شيئا.

فالسلامة في العقيدة أرجى من كل علم، ومعرفة الله وحده تغني عن كلّ معرفة أنبتها المخلوق ولا تدل على الخالق، وإن لم يستطع أحدنا أن يفرز ما يتلقاه ويفنده ويميز النافع منه والضار، فعليه أن يبعد ذهنه عن التعرض لذلك كله، وألّا يأخذ العلم إلا ممن هم أهل للثقة، وبطرقه الصحيحة التي تبين له المسائل والأفكار من وجوهها كلها، فيعرف نفعها وضرها، فلا يخدع بما ينخدع به غيره.

هل يرتدي إبليس قرنيه دائماً؟

ثمة شيء أصعب من مواجهة العدو، إنّه توقّع زمن ومكان ظهوره، و إن كان الحديث عن أعدى أعدائنا –أي إبليس- فالصعوبة تكمن في التيقّن من وجوده أصلاً، فتخيّل معي حجم الخداع حين تكون ملقىً في شباكه تسيّرك وساوسه -أي في ميدان حربه عليك- لكن دون أن تعلم.

كما أنَّ للإنس لثاماً يتغطّون به فلا يعرفهم أحد، فإنّ للشيطان أشكالَ تنكّرٍ أخفى وأعظم، بعضها قد يصل في التمويه حدَّ الملائكية، وفي القرب منك حدَّ دواخل نفسك ونواياك، وصولاً إلى الدخول في أعماق قلبك.

لإبليس أبواب متفرقة، يدخل منها سويّاً أو بالتناوب، لحاجاتٍ نعلمها وأخرى قد لا نفهمها، أيّاً كانت تفاصيل أهدافه بالتحديد، فغايته المجملة العامّة واضحةٌ صريحة؛ (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص:82] وإنّا السّاعونَ لأن نكون ممّن أكّد ربّ السماء على ثباتهم قائلاً (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا) [الإسراء:65].

استُلهِم هذا المقال من تجارب اجتماعية وإنسانية حدّثني أصحابها بها أخيرًا، لافتين انتباهي إلى ذاتي وتجاربي أنا أيضاً، وإلى مرور أنفسنا الآدميّة بذات أشكال الخداع والمكر المتكررة، فكم يتلوّن ذاك الملعون بشتّى الهيئات والأشكال، حتى إننا لا نكاد نعلم أنّه هو إبليس عدوّ أبينا آدم الأول والأخير!

سنكشف في السطور اللاحقة بعضًا من وجوهه المختلفة متلبّساً بجرمه، وسنحاول تحليل بعض أشكال تحايلاته علّنا ألّا نسقط في وحلها مرةً أخرى.

التذكير.. بالضعف والتقصير

يدبُّ فينا العزم أحياناً كثيرةً على فعل بعض الأعمال الصالحة، والقربات النافعة، أو على تزكية أنفسنا وإصلاح أحوالنا، وإذ نحن كذلك يدهمنا هاجس أسود يسابق تلك الأفكار قائلاً: هل نسيت ما فعلت؟ كيف تحفظ القرآن وأنت تفعل ذنبَ كذا، وكيف ستصلّي وأنت ما زلت على هذه الحال؟

وسوسة إبليس

وما هي إلا ثوانٍ فتشتعل في العقل والقلب أفكارٌ ضالّة، وافتراضات فاسدة، توهم الإنسان بأنَّ مثل هذه القربات لا يفعلها إلا الصالحون الذين لا يشابه حالهم حاله، فتُيئسه تلك الهواجس من التوبة والأمل في الصلاح، وتجعل التقرّب إلى الله في فكره كجبلٍ عالٍ لا يبلغه إلّا كاملٌ لا يخطئ ولا يزلّ..

فلنقف ههنا، عند هذا الخاطر الخفي، لنواجهه بأن التوبة إنما شُرعت للعاصين والمقصّرين، فقد ورد في الحديث الصحيح؛ أن (الَلَّه أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ) [أخرجه الإمام مسلم في الصحيح برقم 2747].

كما أنَّ الطاعات والفضائل إنّما تُبدأ بالصبر على المحاولات المتكررة والمجاهدة، ولا ريب أن على هذه المحاولات أجرٌ يساوي أجر الإتقان أو يزيد عليه أضعافاً، فما كان الماهر في القرآن ماهراً إلّا بعد تعتعةٍ وجهاد ومقام تعلّم وضعف بلّغه ما بلغ، وفي هذا ورد عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قولُه (الماهِرُ بالقرآنِ مع السفرَةِ الكرامِ البرَرَةِ، والذي يقرؤُهُ ويتَعْتَعُ فيهِ وهو عليه شاقٌّ لَهُ أجرانِ) [أخرجه الإمام البخاري في الصحيح برقم 4937] ومن هنا، فلنخاطب أنفسنا، أليس لنا في كلِّ طاعةٍ تعتعة، ومحاولاتٌ نسعى فيها للمستوى الأفضل وللوجه الذي يليق به سبحانه!

فإن أيقنت ذلك، واستوثقت من خداع هذا الوسواس، فاثبت لئلا لا تنطلي عليك حيله، ولا تكن ضحية التقليل من قدر سعيك أو التذكير بتقصيرك وذنبك فإنما ذاك من عمل إبليس ونفثه.

تكسير الثبات وزعزعة التوبة

تعهّد إبليس بكل استكبارٍ بتحقيق وعده الذي وجّهه لله تعالى مع سبق الإصرار والترصّد، ومن ثمّ فإنّه ليس ذاك العدوّ الذي تثنيه الخسارة أو تتعبه الانتكاسة، أنسيتَ وعده حين قال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16].

إنَّ توبة أحدنا لا توقف إبليس، بل تزيده غيظاً وحقداً، وتزيدُ من همته في ردّنا على أعقابنا، فتجده يحيط بك من كل جانب، ويحاول الظهور من كل ثغرةٍ وباب، يريد سحبك لعهدك السابق، وذنبك الذي هجرت، فإذ به يكفّ عن تزيين الذنب مستبدلاً ذلك بتشويه هجرانه، بإيقاع العيوب والخطوب في توبتك، ويزيّن ذلك كلّه بهيئة ملائكيّةٍ جداً، على شكل وخزات ضميرٍ تُريك ذنبك من زاوية أخرى لا تتعرض للذّته وشهوتك إليه، فقد بات الوقت متأخراً الآن على هذه الحيل إن كانت التوبة صادقةً حقيقيّة!

إلا أنّ باب الضمير هذا يبدو مقنعاً أكثر فيجعلك تبدأ بالتساؤل، ما حال رفقة السوء الآن، ألن يؤثر فيهم هجراني المفاجئ لهم؟ ماذا عن تلك الفتاة ألن يَكسِر قلبها إغلاقي لمنافذ الحديث معها؟ ألم أكن شريكاً في الذنب؟ ..إلخ.

سيندفع إبليس ليجعلك تنسى عواقب الاستمرار في الذنب، وسيعظّم صعوبة تركه في نظرك بشتّى الطرق، وسيستطيع تبرير عودتك للذنب أو استمرارك مراراً وتكراراً…

سيسوّغ إبليس السرقة بحالك المعدم، وسيهوّن نهب المال العام بفساد الحكومات، ولا ننسى تلك الحيلة التي تجدي نفعاً مع كلِّ الذنوب؛ “انظر كيف يفعل الجميع ذلك”، وكأنه ينسى أنّ الله في عليائه يقول: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].

الطعن في نواياك

يعلم الماكر حرص المؤمن المستمر على الإخلاص، ويعلم دور النيّة كعاملٍ أساس في قبول العمل، لذلك فإنّ النيّة هدفٌ مهمٌّ له. ومن ثمّ قد يغرقك في جمال عملك الصالح حدّاً تلزم فيه الوسيلة وتنسى المتوسّل إليه.

إن أصعب الخسارات أن تضيّع عملك هباءً وتنثر جهاد الطريق في الهواء بسبب نيّةٍ متفلّتة، كعمل خيرٍ كان في بادئ الأمر لوجه الله ثم أصبح في نهايته ينتظر ثناء من قَرَأَ، وشُكرَ من استفاد، وصورة الناسك الصالح وحسن الذكر والمدائح، فألزِمنا اللهم مقعد صدقٍ وإخلاص لا نغادره حتى نلقاك.

في باب النيّة له أسلوبٌ -ينبغي ذكره- يعاكس الأسلوب الأوّل كلياً، ولعلّه أكثر ما يستخدمه مع المخلصين حقّاً والذين قد ينفعون الآخرين ويأخذون بأيديهم إلى الخير والهدى؛ إذ إنه يعلم حرصهم الشديد على الصدق وتثبيت نظرهم على الآخرة، فتجده يسدّ عن الناس باب نفعٍ من هؤلاء الصالحين حين يوسوس لهم بالنفاق والرياء، فتجدهم يمتنعون عن نصح الناس بترك ذنبٍ معين مخافة أن يكونوا قد فعلوه يوماً، أو بإمساك علمهم عن الآخرين مخافة أن يكون رياءً وكم دبّت هذه المخاوف في قلوب الكثيرين أحياناً وأحيانًا.

لا تكفّنّ عن تذكير نفسك بكيده الطويل المستمر، بإصراره على إضلالك وبمصلحته في ذلك، لا تخدعنّك أساليبه، إن أدركتَ الذنب فاعزم على هجره عزماً صادقاً، وإن هجرته فالزم موقفك، وارقد على بساط الآيات والذكر الحكيم فإن فيه شفاءً للصدور المتعبة السقيمة بأمراض الأبدان والقلوب، لا تلتفت فيدخل لك من ألف بابٍ وباب، ثبّت نظرك على من لأجله هجرتَ الذنب رغم لذّته، ومن لأجله سلكتَ طريقاً طويلاً، مهاجراً إليه، راجياً أن تبقى هجرتك إلى ما هاجرتَ إليه.

لا يرتدي إبليس قرنيه دائماً.. هذا ما يجب فهمه وقوله، إنه متلاعبٌ شرّير..  فاحذر كلّ الحذر يا عدوّه الأول والأخير.

عن الشاطبي الذي أحب

منذ سنوات طويلة جدًّا اقتنيت كتاب “الموافقات” للإمام أبي إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ)، وقد ازددت انتباهًا إليه وشغفًا به حين وجدت استشهادات شيخنا عبد المجيد الشاذلي رحمه الله به، فقد كان رحمه الله مالكي النشأة، وكان قد قرأ موافقات الشاطبي مرات عديدة وأولِع به ولعًا شديدًا، إلى درجة أنه كان يسرد بعض عباراته من الموافقات في محاضراته حفظًا.

وما زلت أذكر مدى تأثير تلك العبارات الشاطبية بالشاب الذي كنته، كان الشيخ يعالج إشكالات عصرية تتعلق بإقامة الدين وفهم الإسلام وكان يستأنس بكلام الشاطبي، فوجدت كلام الأخير كأنه سبائك من ذهب تنصبّ في عقلي وقلبي فتقربانه إلى برد اليقين، وما زلت أذكر تلك العبارة الشاطبية التي كان يصدح بها شيخنا: “الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة: بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يتحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة” [الموافقات، 407]، وقد شعرت بحاجتنا إلى مثل هذا الطرح، وإلى معالجته لإشكالات نشأت مع اجتياح العلمانية – فكرًا وتشريعًا – لبلاد المسلمين.

الشاطبي ومنهج فهم القرآن

لقد أعجبني الشاطبي كثيرًا في مباحث لها علاقة بالقرآن ولغته، في سياق مناقشة بعض الشبهات المعاصرة التي تحاول الطعن بكتاب الله، فوجدته ينشئ في قلبي برد اليقين، خاصةً في كلامه عن ضرورة اتباع معهود الأمّيِّين في لسانهم لفهم الشريعة، فقد كان هذا مفتاحًا مهمّا لي في فهم الخطاب القرآني وفهم اختلاف القراءات، وكتبت في ظلال هذا المعنى مقالًا بعنوان “القرآن ليس لغة برمجة.. والإنسان ليس حاسوبًا“، كان الفضل الأكبر فيه بعد الله إلى الإمام الشاطبي.

لا ينقضي الأمر ههنا، بل كانت قراءتي للإمام الشاطبي قبل ذلك قد فتحت لي أُفقًا كبيرًا في فهم قيمة الخطاب القرآني مقارنة مع الخطاب الكلامي والمنطقي البشري من خلال إحدى القواعد التي قررها واستخدمتها في مقال آخر.

وفي هذا العام، خصصت للشاطبي فصلًا في كتاب جديد أشتغل عليه، لأني وجدته من ضمن من قدّم جهدًا مهمّا في مجال فهم الخطاب القرآني وبيان تفرّده، ولعلي أستطيع إبراز شيء من هذه الجهود العظيمة التي تركها الرجل في كتابه “الموافقات”.

كتاب الشاطبي: الموافقات

روح التجديد

صحيح أن الشاطبي لم يعلن خروجه عن مسارات المدارس التقليدية سواء في الفقه (المالكية) أو العقائد (الأشعرية)، ولكنه كان مجددًا رغم اندراجه في سلك تلك المذاهب. ودعك ممن ينقُل عنه أنه مجرّد مقلّد، فالعبرة بمضمون ما قدّم من إنتاج علمي، فستجده مجدّدًا فيه وخارجًا عن التقليد، سواء في كلامه عن البدعة وما ثار حوله في زمنه ومخالفته لمشايخ عصره، أو في إبداعه الجديد في كيفية النظر إلى الشريعة وتقسيم المسائل والنظرات العميقة التجديديّة في فهم الشريعة وأصولها، ومن يقرأ بعض بحوثه في كتاب “الموافقات” يدرك أنه أمام عبقرية فذّة ورجل فتح الله عليه فتحًا عظيمًا.

ليس كل مخالف لأهل عصره فهو مذمومُ المذهب مقدوحٌ به، بل من نظر إلى أئمة الإسلام العباقرة المجددين المشار إليهم بالبنان سيجد أنهم كانوا مخالفين لأهل عصرهم في مسائل عديدة، وانظر إلى الإمام أبي حامد الغزالي؛ حيث كتب كتابه الفريد “إحياء علوم الدين” على نمط لم يُعهَد في الكتابات التقليدية، فقد مزج ما كان مُفردًا في علوم التصوف بما بلغ الإمامة به من علوم الفقه، ليقول للناس – كما صرّح في المقدمة – هذا هو مفهوم “الفقه”، فالفقه ليس ذلك العلم الذي تدرسونه جافًّا دون أن يتطرّق إلى مسائل القلب، فإنّ دلالة لفظ الفقه تحيل إلى فقه القلب.

وذكر الإمام كذلك في مقدمة الإحياء ألفاظًا انحرف مفهومها في عصره كالفقه والتوحيد وغيرها، فهل زعم أحد أنّه مذموم بذلك؟ وقد حُرقت كتب الغزالي في أقطار من الأرض قديمًا، ووقع في أخطاء ذُمّ عليها، ولكن هل أسقطه ذلك؟

وانظر إلى الإمام ابن تيمية، فقد نابَذ علماء عصره في مسائل، وسلك مسلكًا مخالفًا للحنابلة التقليديين في مناقشاته العقائديّة والكلاميّة، ولا أقول كان (رغم ذلك) بل كان بـ(ذلك) وغيره إمامًا مجدّدًا عظيمًا، ترك بصمته الواضحة على تاريخ الفكر الإسلامي، وأسس لمدرسة ما تزال حيّة في المناقشات الفكرية والدينية المعاصرة.

وانظر إلى الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، فرغم قلة شهرته مقارنة بالغزالي وابن تيمية، فقد كان الرجل منبوذًا في عصره من قومه الزيدية لأنه خرج عن مذهبهم، ولم يندرج مع ذلك في مذاهب أهل السنة التقليدية سواء في الفقه أو في العقائد. وقد اعتزل الرجل في جبال اليمن، وكتب في ضرورة الخروج عن منطق اليونان (الذي كانت دراسته مسألة شبه متفق عليها عند متأخري المذاهب المتصارعة في عصره) ونقد كبار أئمة أهل بلده، وانظر إلى مذهبه – رغم خروجه عن التقليد – كيف أثّر في أجيال بعده في اليمن كان لها أثرها الكبير في الفكر الإسلامي المعاصر، كمدرسة الصنعاني والشوكاني، إلى جانب أثره في بلاد الهند.

وستجد مثل هؤلاء كثيرًا من أئمة الإسلام، بل هذا هو حال معظم المجددين، لم يكونوا نمطيين في مسلكهم العلمي وفي تآليفهم، بل أسّسوا لعلوم وتفرّدوا بطرائق البحث وخطُّوا خططا جديدة. أما من اندرج ضمن مسالك السابقين ولم يضف جديدا في مفاتيح العلم وأبوابه فلم يرق إلى مراقيهم، وهذه هي طبيعة جميع العلوم.

رحم الله الإمام الشاطبي، وشكر الله من أعاد إحياءه في نفوسنا من علماء العصر، فقد جاءت لحظته التي انبعثت بها علومه لتمارس دورها في إحياء الأمة وتجديد دين الله في عقول الناس وقلوبهم، بعد أن ابتعدت الأمة عن هدايات الشريعة وسقطت قوتها الحضارية فاجتاحتها المذاهب العلمانية المختلفة وشوّهت منظومتها الفكرية والقِيميّة.

ويهدي الله من يشاء!

أشعرت نفسك ذات يوم غارقًا فيما يشبه الأجواء الصاخبة، ضائعًا في ظلمة حالكة السواد، تقف على طرق متفرقة، تحاول مرة تلو مرة العبور، فتفشل، ويذهب استنفار الطاقة هباءً، تعاني الأرق المستمر، وتشعر بأن شيئًا ما يكاد يقضّ عليك! إنها خصال ضلالة الطريق، حين تختار انجرافًا مع الهوى، واتباع الهوى من معوّقات الهدى، وهذا ما أفادنا به قول النبي صلى الله عليه وسلم (فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوًى متبعٌ، وإعجاب المرء بنفسه) [أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط وهو حسنٌ بشواهد أخرى].

لقد ساق الله لنا الهدى -التي هي الرسالة-، بالبيان البليغ عبر الرسل والأنبياء، طالبًا منا التسليم والانقياد، فمن أخذ بالتسليم لله أضفِيَ عليه صفة المتقين، كما في قوله تعالى: {ذٰلك الكتاب لا ريب ۛ فيه ۛ هدًى للمتقين} [البقرة: 2]، وهناك من أعرض عن دليل الهدى فأخلد إلى الهلاك؛ كما قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 124].

إن الهداية التي تتحدث عنها هذه الآيات تشير إلى أنها سببٌ وشرطٌ مؤدٍّ لا موجبٌ للهداية الكاملة، بل قد ينتفي الهدى مع وجودها، فالله تبارك وتعالى أرسل الأنبياء هدىً للناس ولإرشاد الأمم السابقة إلى طريق الحق، أي أنهم كانوا أسبابًا للوصول إلى الهدى، لكنهم استحبوا الضلالة عليها.

إن وجود الدليل الإرشادي (القرآن) لا يعني بالضرورة وجود الاهتداء أو العمل بهذا الدليل، مما يؤكد على أنه هناك موانع أو استعدادات قلبية نفسية ذهنية يمكن أن تسهم في طبيعة التفاعل مع دليل الهدى، ولذلك تجد في دعوة الرسل؛ ما ذكره الله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون} [فصلت: 17]، أي أنهم فضّلوا اختيار الضلال والعناد عليه، وبالتالي فإن هناك عوامل لها الأثر الذي يقتضي رفض الرشاد.

ما سبب عدم اتعاظ البعض بالقرآن؟

يعود الأمر -بدايةً- إلى النفس البشرية؛ إذ لها الدور في اتعاظ البعض وعدم اتعاظ آخرين، صحيحٌ أن الإنسان يُخلَقُ سويَّ الفطرة لكن لا شيء يدوم على ما هو عليه دون المتابعة اليومية أو العناية المستمرة، حيث إن النفس تتأثر بالعوامل من حولها سريعًا، سواء كانت عوامل إيجابية أو سلبية.

والنفس البشرية تصل إلى مرحلة من الضلال بحيث لا يأتي لخاطرها الإنابة والتوبة، وذلك مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أذنب العبد نُكِتَ في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقل منها، فإن عاد عادت حتى تعظم في قلبه، فذلك الران الذي قال الله:  {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14])، فإذا خُتِم على قلب العبد انتهى أمره، ومن ثمّ لا تستغرب إن صادفتَ أشخاصًا لا يعنيهم الدين من الأساس بل ينفرون منه نفورًا شديدًا.

إن القرآن لم يختص بأحد دون آخر، ولم ينزل على مؤمن دون كافر، بل أنزِل للناس كافَّةً، وهناك من اختار أن يكون من منزلة {أولئك على هدًى من ربهم} وهم الذين خصهم الله بالمنزلة الرفيعة في الدنيا والآخرة، وهناك من اختار منزلة {إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6] وهؤلاء كفروا بالدليل الإرشادي وكان مصيرهم الضلال في الدنيا، وأعدت لهم جهنم في الآخرة.

إن الله سبحانه وتعالى جعل أمامنا طريقان بيّنان، الهداية أو الضلالة، ولكن السبب يعود إلى مباشرة العبد في الحكم علة نفسه، فالضال إنما هو ثمرة ضلاله وما ترتب على ذلك من الطبع والختم والران، والمتّقي إنما وصل لذلك بإرادته الحرة وسلوكه السبل التي تعين على الطاعة.

الزم طريق الهدى

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: “الزم طريق الهدى، ولا يضرّك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين” [الصواعق المرسلة، ابن القيم] فإن أصابك الضمور، والإحباط في تفردك، فلا تجعل نظرك إلا إلى السابقين من الأتقياء، واحرص على اللحاق بهم، وغضّ الطرف عمن سواهم من أهل الضلالة، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا، ولا تفكّر في الالتفات إليهم، فإنك متى التفت إليهم سقطت في فخ الانقياد لهم.

قال تعالى: {أفمن يمشي مكبًّا على وجهه أهدى أمن يمشي سويًّا على صراط مستقيم} [الملك: 22] فأيهما أولى بأن يتبّع؟ من يمشي في الضلالة، أم من يمشي مهتديًا؟ لا بد أن التائه في الضلال، الغارق في الكفر والمعاصي، يعيش وقد طمس على قلبه، لا يعرف للحق قرارًا، أما من يمشي على الصراط المستقيم فقد تخلل قلبه الإيمان والعمل بالحق.

تروي لنا السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يدعو: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)، قلت: (يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء! فقال: ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، أما تسمعين قوله: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب} [آل عمران: 8]) [أخرجه الإمام أحمد في المُسند والترمذي في السنن بسند حسن]

من الطبيعي أن يبقى الإنسان في دوامة التقلب، فهو بشر يعافس الأخطاء والخطّائين بشكل مستمر، لكن أكثر ما يعينه على الثبات على الصراط المستقيم هو العزم على اجتناب المحرمات واتباع الهوى، وأن يبادر في فعل الخيرات، وأن يبادر لتنمية معرفته أكثر بخالقه والعظمة التي يتصف بها، ويتعلم كل علم يقربه من الله، كما قال تعالى : {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} [الزمر: 9].

إن طريق الوصول إلى الله يسير وسهل، لكنه يحتاج منك إلى الإرادة والمثابرة، والعزم على الثبات، وعدم التهاون، ومتى أردت المقابل لا تتهاون في أن تعمل أضعاف مضاعفة لأخذ ما تستحق.

ما هي عوامل النهضة المنشودة؟

يدعو الإسلام إلى إقامة مجتمع فاضل تسوده الأخلاق الحسنة والمعاملات الطيبة، ويسهم المؤمن في بنائه بما يتصف به من أخلاق حميدة، وبما يؤثره مع غيره في نفوس أبنائه وأسرته، وذلك نابع من وعي الإنسان المؤمن بدوره في الحياة.

في حالة المسلمين المعاصرة، فإن المسلم الواعي مسكونٌ بهمّ النهوض الحضاريّ بمجتمعه وأمته من جديد، وتوحيد صفوف الناس من حوله للعمل بمبادئ الإسلام والاصطفاف حول شريعته، فالمجتمع عبارة عن تجمّع بشري يمتلك أفكاره ومبادئه الخاصة، وله صفاته وشخصيته التي تُمثله وتُحدد معالمه، وقد نَجد مجتمعات كثيرة زاخرة بأفرادها والمنتسبين إليها، إلا أنها فقدت الشخصية والتعاليم التي كانت سببًا في تطوره، وهذا عائد لانحلال أفكاره في ثقافة المجتمعات الغالبة.

الانفصال عن الهوية الإسلامية

هذا بكل اختصار ما نعيشه اليوم في مواجهة زحف الثقافة الغربية علينا وتقليدنا الأعمى لها، فقد أصبح الواحد منا يعيش في انفصال بين هويته الإسلامية التي يؤمن بها وبين نمط العيش الغربي الوافد عليه، بين نظام الحياة القائم المتصف بالعلمانية ونبذ الدين من مختلف القوانين المنظمة لحياة الأفراد، وبين تشريعات الدين الرباني، وهنا يَصْدق الوصف الإلهي الجلي على واقعنا حين يقول الله عز وجل: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].

ولو أجلنا النظر في هذا المثل الكريم لوجدنا أطرافًا منه في حياتنا، فالمبادئ والقيم الوافدة علينا المزيّنة بعناوين الحرية وقبول الآخر، مشاكسة للقيم الإسلامية التي تبيّن الحق والباطل والحلال والحرام وما يتوافق مع الفطرة ويرفضها.

كثير من المسلمين يجدون أنفسهم مشتتين بين مختلف الدعوات والقوانين الغربية، لا يدرون ماذا يأخذون منها وماذا يتركون، ضائعون بين نمط العيش الذي يتحوّل يومًا بعد يوم إلى باطل محضٍ، وفساد مكين في مختلف القطاعات، فغدا الحرام بشتى صوره في حياتنا حرية شخصية يجب احترامها، بل وعدم نقد تعلق الآخر واتصافه بها، وكأن الانتماء للإسلام بات صورة شكلية لا أثر عملي له في واقع الحياة.

يعلم الفرد المسلم في داخله حرمة الكثير من الكبائر كالربا والزنا والخمر والميسر والغش بمختلف أشكاله كالرشوة والتزوير والسرقة بمختلف أنواعها والخيانة والظلم في الأعراض والأموال والدماء إلخ.. إلا أن كثيرًا من المسلمين رغم ذلك يُقْبلون على مختلف هذه الحرمات مدفوعين بانبهارهم بالحداثة والحياة العصرية وتقليد المجتمعات الغربية وثقافتها الغالبة، ويبحثون لها عن التفاسير والتعليلات مُحاولين إقناع غيرهم بها.

وأما المثل الثاني في نفس الآية فهو يُمثل الفرد المخلص لربه والمُتمسك بمبادئ دينه فله رُؤية واضحة في الحياة وله مصدر واحد يستمد منه قوانين الحياة فلا يزيغ عنه ويُصبح كل تركيزه في أداء رسالته التي وُكل بها ويَشعر في داخله بسلام وراحة لوضوح معالم الطريق الذي يَسلكه، وبمثل هؤلاء الأفراد يستطيع المجتمع الحفاظ على كيانه وشخصيته من الطمس والضياع، ولو هلك جيل من أجيال هذا المجتمع فإنه سيُحافظ على مبادئه ومعالمه وسيحافظ على رسالته ودوره، وسيكون الجيل الجديد ملتزمًا بتعاليم الآباء والأجداد متمسكًا بثوابته.

وسائل النهضة

أشرنا في مقالٍ سابق إلى عاملي القدوة والقرآن في بناء المجتمع، وهنا نؤكد على أن التكامل مع هذين العاملين يبتدئ بالوسائل المناسبة لذلك، بدءًا من الإعلام، الذي يزيد قوة الكلمة وتأثيرها، بل إنه صار الوسيلة المُتاحة الأهم للسيطرة على العقول وصياغة أفكارها، فما إن يجلس أحد ما أمام التلفاز إلا وتوجّه له الرسائل إما بهدف تفريغه من القناعات المسبقة أو تعزيز بعضها أو إنشاء قناعات أخرى جديدة.

جميعنا يعلم أن الإعلام سلاح ذو حدّيْن، فعندما يستغله أهل الباطل فإنهم سيَسعون لنشر أفكارهم داخل المُجتمع وفرض نفوذهم مُحاولين طمس هوية المُجتمع وتغييرها وفق أهوائهم، وإشغال أفراده بتوافه الأمور وتغييبهم عن أهم قضاياهم ومشاكلهم ومنعهم من النهوض أو مُحاولة كسر قيود الجمود والجهل والتخلف.

وفي ظل انكماش أهل الحق وانعزالهم في مزاحمة أهل الباطل إعلاميا، فإنه لن يكون لهم تأثير في واقع الحياة، ولن يستطيعوا نشر الوعي واليقظة داخل المُجتمع، ولن يقدروا على تقويم سلوك الأفراد وتغييرها، فنحن نحتاج اليوم إلى صناعة الكلمة القوية والمؤثرة على أن تكون مُستمدة من روح القرآن ومبادئه، لإظهار الحق ونشر ثقافة القرآن داخل المجتمع، ومن أجل ذلك يجب توحيد الجهود المادية والعلمية حتى نتمكّن من صناعة مادة علميّة مُؤثّرة تجذب المُستمع والمشاهد لها وتُغيّر من نفسه.

و من الوسائل المُهمة أيضًا مُحاولة إقامة مجالس قرآنية داخل كل بيت، فعلى الأب والأم تأسيس حلقات تعليمية لدراسة القرآن وتدبّره، وحتى لو ظنّا أنهما بعيدين عن تعاليمه وجاهلين بعلومه فيُمكنهما اعتماد أحد كُتب التفسير المُتاحة والإقبال على كتاب الله مع أبنائهم والسعي لتلاوة الآيات آية آية، ومُحاولة فهم المُراد منها وكيفية تطبيقها، وفي هذا حفظ للأسرة وتوطيد للعلاقات داخلها وضمان تربية قرآنية سليمة للأبناء وطَبعهم على قيمه وأخلاقياته، ولا ننسى أيضًا أهمّيّة المجالس القرآنية المنظّمة داخل المساجد أو خارجها مع الحرص على فهم الآيات التي تُتلى فليس الهدف من القرآن حفظه بلا فهم ودراية وعمل والتزام بمبادئه أو تبيين المنهج العملي لمُختلف أحكامه.

ومن الوسائل أيضًا الحرص على تكوين المُسلم القائد والمؤثر من خلال الاستعانة بخبراء ومُختصين في مجال علم النفس والاجتماع وغيرها من العلوم المُهتمة بتكوين شخصية الإنسان وتربيته على المبادئ المُثلى، ويُمكن للجمعيات الناشطة داخل المجتمع التكثيف من الدورات المجانية في هذا المجال، وفتحها للعموم وإيصالها للجميع، بهدف بناء الإنسان المُسلم القادر على تحمل المسؤوليات والمُبادر بالتغيير والمُستعد لخدمة رسالته في الحياة.

المجتمع ودوره في النهضة

إذا ما توفرت عوامل القدوة وتدبر القرآن والوسيلة الملائمة، فإننا بحاجة إلى عامل أخير، إنه العلاقات الاجتماعية، فقيمة كل مُجتمع مُرتبطة بأفكاره ومبادئه وأهدافه التي يحملُها ويُؤمن بها، فما نعيشه نحن اليوم هو توفر الفكرة والمبادئ المُتمثلة في الإسلام وشريعته، ولكن هل يُوجد في مُجتمعاتنا من يأخذها بقوة ويُقيمها في واقع الحياة؟ أم أننا أصبحنا مُجتمعًا يعيش على هامش الحياة يأخذ قيمه وتصوراته في الحياة من مصادر مُتناقضة؟

إن المعادلة الناجحة لنا هي الإسلام وشريعته مع وجود فئة مؤمنة به وعاملة بأركانه ومٌلتزمة به كمنهج للحياة مع إرادة الأفراد في النهوض وتطوير مُجتمعهم مع الانسجام والتوافق والتعاون بينهم والاستعداد لبذل أقصى الجهد من أجل تحقيق هذه الغاية، وأن تكون روح الأخوة جامعة بينهم لحمل أمانة الرسالة وتحقيق مبادئها، وهذا ما فعله رسول الله عليه الصلاة والسلام عند بناء المجتمع بالمدينة بالمؤاخاة بين الأنصار والمُهاجرين فكانت علاقتهم متماسكة متينة، وبالتالي كان المجتمع على قلب رجل واحد من ناحية، وذو تصور واضح ومنهج واحد في الحياة من ناحية أخرى.

من جملة مُشكلاتنا اليوم انتشار الاحتقان الاجتماعي النابع عن التعصب، فكل فريق يُريد فرض رأيه على الآخر، وكلٌّ يرى نفسه الأحق بالاتباع وعلى الآخرين السماع له وتنفيذ أمره، وهذا المُجتمع المنقسم لن يكون قادرًا على تغيير مجرى التاريخ وصناعة مُستقبله، ونحن بأمس الحاجة اليوم لأن نعيش مفهوم الأخوة الإسلامية، وأن يكون هدفنا واحدًا نتشارك فيه جميعًا، وأن نكون مُنسجمين ساعين للتطور والعمل والتغيير وعلينا نبذ الدعاوي العصبية العمياء القائمة على الجنس والعرق والانتماءات الحزبية والطبقية، وألّا نقع في فخاخ أعداء الأمة الساعية لتفريقنا وتشتيتنا وإدخالنا في صراعات لا تزيدنا إلا هلاكًا وتخلّفًا، فنحن مُجتمع مُسلم ولن ننهض من جديد إلا بالعودة إلى الإسلام كمنهج كامل للحياة.

ولا ننسى أيضًا كيد أعداء الأمة الناهبين لثرواتنا والذين يتمنون استمرار حالة الركود والجمود عندنا، فهم يتبعون سياسة “فرق تسد”، فأعداؤنا يدرسون مُجتمعاتنا ويضعون الخطط اللازمة لتفتيتها، وأما نحن فما زلنا عاجزين عن التحرك للحفاظ على وحدتنا أو الدفاع عن المجتمع في وجه الانقسام والانحلال على الأقل، كما أننا مُطالبون بدراسة مُجتمعنا بطريقة علمية ووضع الاستراتيجيات المُناسبة للنهوض به وإخراجه من سجن التخلّف الذي يُلاحقنا منذ قرون.

خلاصة القول

وما نستخلصه هنا أن المجتمع يَحتوى في داخله على صفاته الذاتية التي يُمثلها أفراده الذين يقومون بتحديد شخصيته، ولا يكون ميلاد مجتمع ما إلا تلبية لنداء الفكرة التي يؤمن بها أفراده الذين اجتمعوا من أجل تحقيقها وجعلوا علة وجود مجتمعهم وغايته واستمراره قائمة على القيم والمبادئ التي اجتمعوا حولها وأنشأوا من أجلها مجتمعهم، وعندما يفقد الأفراد داخل المجتمع هذه المبادئ وتتشتت الأفكار والمفاهيم فإنهم سيدخلون مرحلة الجمود والخمول، وهذا إعلان واضح بزوال هذا المجتمع وانحلاله.

وإذا حاول أفراد المجتمع النهوض من جديد والدخول في حركة الحضارة وصناعة تاريخهم فعليهم الأخذ بعلة البقاء المُتمثلة في تحدي الواقع وتغييره ومواجهة مختلف الصعوبات المُنتظرة وتَحمّل المسؤولية وعدم الفرار منها لإعادة بناء شخصية مجتمعهم وترسيخ مبادئه، فلو كانت رغبة هذا التحدي ذات فاعلية قوية داخل نفوس الأفراد فستكون استجابتهم للتغيير والعمل والنهوض إيجابية، وفي المقابل إذا كانت القُوى التحفيزية ذات تأثير ضعيف داخل نفوس الأفراد فلن يكون هنالك تأثير على واقعهم.

الحضارة الإسلامية وعقدة الخواجة

لا يمكن أن نعتبر الحديث عن المركزية الغربية تَرَفًا فكريًّا قد يروق لمفكر ما ويرفضه غيره، إذ إن هذه المركزية النظرية قد غدت منذ أمد بعيدٍ أمرًا مسلّمًا به في الفكر الغربي ومفروضًا في وسائل الإعلام العالمية وغدت ظاهرة في الطابع اليومي لوسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم فإن الحديث عنها مسؤولية نقديّة ينبغي تحمّلها وتبيانها وأداؤها.

أثناء قراءتي للكتاب “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، لفت انتباهي ما مهّد به الكاتب كتابه حين قال: “باستثناء الغرب، فإنه ما من حضارة تمتلك كيمياء عقلانية، وكذلك الأمر بالنسبة للفن، فربما كانت شعوب أخرى تتمتع بحس موسيقي، غير أن الموسيقى المتكاملة عقلانيًّا وائتلاف الأصوات، كل ذلك لا يوجد إلا في الغرب” [الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية: ص 5-6]، بل إن كثيرًا من المثقفين الغربيين يرون أن الحضارات إنما جاءت ممهّدةً لقدوم الحضارة الغربية.

كيف تسللت هذه الفكرة؟

نجد هذه النظرة الأحادية والفكرة الإقصائية عند كثير من المستشرقين الذين درسوا الحضارات الأخرى، بمنهج عقلاني من جانب أو بعقدة النقص من جانب آخر، إلا أن هذه النظرة ليست حكرًا على الغرب وأهله، بل هي إرث يشترك فيه الكثيرون، فثمة أناس كثيرون –من بني جلدتنا وأفكارنا ومدننا- ينفون عن المسلمين الحضارة، بل ويصفونهم بأنهم أمة الجهل والتخلّف.

لنعد قليلاً إلى كتاب “وعود الإسلام” للمفكر الفرنس روجيه غارودي، حيث يقول فيه: “الغرب عارض، وثقافته مسخ فقد بترت من أبعاد جوهرية، ومنذ قرون ادعت هذه الثقافة بأنها تنحدر من إرث مزدوج: يوناني-روماني، ويهوديمسيحي، في الحقيقة لقد انبثقت أسطورة “المعجزة الإغريقية” لأن هذه الحضارة بُترت عمدًا من جذورها الشرقية. [وعود الإسلام، ص: 15].

بهذا القدر من التعمّد أيضًا، يحاول كثيرون قطع التاريخ الإنساني من سياقه ومحو التراكم الذي جرى فيه واقتلاعه من جذوره، في محاولة لتعزيز وتدعيم النظريات التي تحوم حول تفوق العرق الأبيض على باقي الأجناس الأخرى، والتأكيد على أن الإنسان الغربي هو الأكثر تطورًا من الناحية العقلية والنفسية.

أين الإنصاف؟

يلقى هذا الخطاب صدى متكررًا لدى المستلبين ذهنيًّا، كما أنه يلقى الرفض لدى الباحثين المنهمكين بالبحث في التاريخ الإنساني والمستشرقين المنصفين الذين يجدون في كشف الحقائق متعتهم، ومن هؤلاء نذكر المؤرخ الفرنسي “غوستاف لوبون” والألماني “شبنجلر” والبريطاني “كارين” وغيرهم.

غوستاف لوبون ممن أنصفوا الحضارة الإسلامية

غوستاف لوبون

قبل مدة من الزمن انتشر مقطع مصوّر لأحد المدونين الذين يبسّطون العلوم المعاصرة، تحدث فيه عن موضوع معين، وفي معرض حديثه قال: “لقد أسس فرنسيس بيكون المنهج التجريبي”، وفي هذا مصيبة لا تخفى!

قد يسلّم شخص لم يدرس التاريخ بهذا الأمر، إلا أنه بالنسبة لمن درس التاريخ وخاصة تاريخ العلوم -ليس بتاريخها الذي يراد له أي التاريخ الإغريقي وحسب-، بل التاريخ الإنساني، فإنه أمر عسير التقبّل؛ حيث يدرك أن فرنسيس بيكون لم يسبق أبداً العالم المسلم ابن الهيثم، بل العكس؛ إذ للعالم المسلم فضل السبق في المنهج التجريبي، ولا يحتاج ذلك منا سوى الرجوع إلى كتب القوم واستحضار الشهود، بل إن الأمر أبين من ذلك، فقد احتفلت اليونسكو بالعالم المسلم ابن الهيثم باعتباره مؤسس المنهج التجريبي.

يشير الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه “من تاريخ الإلحاد في الإسلام” إلى موضوعنا هذا، فيبدي رأيه لأولئك الذين يعتبرون أن المسلمون لم يخرجوا من عباءة الحضارة اليونانية وأنهم مجرد مقلدين، قائلاً – غفر الله له-: “يجب ألّا نُخدَع إذاً -بعد فشل الادعاءات- بتأثير الحضارة في الحضارات، بل يجب أن نقوّمه التقويم الصحيح على أساس أن لكل حضارة روحها الخاصة، وأن الاشتراك في التراث لا يدل على شيء بالنسبة إلى روح من يشتركون هذا التراث. لكن ليس معنى هذا أن الحضارة الإسلامية حضارة قائمة بذاتها تكون دائرة حضارة مغلقة، وإنما هي جزء من حضارة كبيرة، الحضارة العربية هي أهم جزء في هذه الحضارة الكبرى” [من تاريخ الإلحاد في الإسلام، ص 24].

ضياع الهوية الثقافية!

أعتقد أن فكرة الدكتور عبد الرحمن تغلق كل المنافذ على المتهافتين من مختلف الجهات –حيث يناقش هنا  آراء مؤرخين أوربيين لا آراء المتعلمين الجدد -كما يقول مالك بن نبي رحمه الله- سواء كانوا من الجانب الذي يقول: إن الحضارة الإسلامية نسخة من الحضارة اليونانية، أو الجانب الذي يرى أنها حضارة خرجت من اللا شيء.

مالك بن نبي

على كل حال، فإن ما يهمنا هنا هم أصحاب القول الأول الذي ينتشر في فضاءات الميديا ويقول به كثير من مبسطي العلوم في العالم العربي، وقد يتضاعف أثر هذا الأمر حين نرى بعض شباب المسلمين والعرب ينافحون عن هذه العقيدة وكأنهم أحد أبناء الأوربيين المتعصبين لأوطانهم وما حيك حولها من نظريات التمجيد للغرب، وربما احتقر هؤلاء ذواتهم وتاريخهم، حتى بات الواحد منهم يعلنها صراحة ويجاهر بعداءه لمجتمعه وأبناء بلده، فيحتقر كل شيء يذكره بنفسه فهو لا يريد اسم “مجيد” راغبًا عنه في أن يسمى بـ “جورج”، ولعله كان يرغب في أن يصبح ذات يوم صاحب شعر أشقر وعيون خضراء ووجه جميل، وحين لا يحدث ذلك يلعن صباحه ومساءه، ويفرغ حقده على نفسه وأبناء قومه.

الغزو الفكري

تظهر السذاجة –أو الجهل- التي يمارسها مبسطو العلوم سواءً عن إدراك واستثمار مربح، أو عن غفلة لا مقصودة، حين نقف عند تعريف الغزو الفكري: فهو –بحسب الشيخ عبد الرحمن حبنّكة الميداني- “كل فكرة أو معلومة أو منهج يستهدف صراحة أو ضمنًا تحطيم مقومات الأمة الإسلامية: العقَديّة والفكرية والثقافية والحضارية، أو يتحرى التشكيك فيه، والحط من قيمتها، وتفضيل غيرها عليها، وإحلال سواها محله، في برامج الإعلام والتثقيف، أو النظرة الكلية للدين والإنسان والحياة” [الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، مؤتمر الفقه الإسلامي في الرياض عام 1396ه، ص 507]

إذا ما تمعّنّا جيدا في المحتوى الذي ينشره بعض مبسطي العلوم الذين لا يؤمنون بالقيمة التي قدّمتها حضارتهم الإسلامية للبشريّة، فإننا نرى السير نحو تعزيز الغزو الفكري والسير لدعمه سيراً جاداً، ولهذا نقول: إن مبسّط العلوم يجني على نفسه -حين يمسي بمثابة العميل الفكري عن علم أو جهل- وعلى مجتمعه ودينه بتشكيك الناس في نظم المجتمع وتعاليم الدين، والأدهى من ذلك أنه يزيّف التاريخ فيعلي تاريخ الغرب المستحدَث، ويتغافل عن تاريخ الإسلام المبهر والعظيم، والذي لولاه لما وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه، فلولا جهود الخوارزمي الرياضية –مثلاً- ما كتبتُ هذه الأسطر ولا قرأتَها أنت.

شواهد وأمثلةٌ

نستشهد بسبق المسلمين على العالم الغربي ببضع أسطر هي عندنا تعادل كتابًا، يقول روجيه غارودي في كتابه وعود الإسلام:  “وقد مارس العرب التلقيح ضد الجدري بإدخال قليل من قيح دمل متجرثم بمرض الجدري قليلًا، من شرطه في الجلد وذلك قبل ” جيينر  “Jennerبعشرة قرون، ودرس الطبيب الجراح الأندلسي أبو القاسم (المتوفي 1013) مرض السل في الفقرات ” مرض بوت “، قبل بيرسيفال بوت (1713-1788) بسبعة قرون ونصف ومارس ربط الشرايين في حالة البتر قبل امبرواز باريه Ambroise Paré (1517-1590)  بتسعة قرون.. لقد استند علماء الطبيعية الكبار في العصور الوسطى على أعمال العرب” [ص: 107]

إن كثيرًا من الناس لا يحب أن يسمع حقيقة كون الإسلام بانيًا لحضارة عظيمة، فهم لا يعرفون عنه سوى وجود بعض التنظيمات العنيفة التي يصوّرها الإعلام وكأنه المسيطرة على العالم الإسلامي، أما فلسفته وشريعته ونظمه السياسية والاقتصادية التي لا ينكر فضلها المنصفون من الغربيين، فإنهم يكادون لا يعلمون عنها شيئًا.

لقد بنى الإسلام مجتمعات متماسكة وقوية ودولًا تحكُم ولا تسيطر، وذلك مقابل الدولة العلمانية التي خنقت الإنسان وأمسكت بزمام الأمور وانتهت بمجتمعات هي أوهن من بيت العنكبوت، هذا ما لا يعرفونه أو يتجاهلونه.

إننا بحاجة لإعادة تشكيل العقل المسلم، وبرمجته بما يتناسب وتراثه العريق وتاريخه التليد، رغم أن الحال كما قال ابن خلدون: “المغلوب مولع بتقليد الغالب”.