image_print

هل مكة محفوظة من الطاعون والأوبئة؟

يتداول الكثيرون مؤخرا أقوالا عن حفظ إلهي لمكة المكرمة من الطاعون، ويشكك بعض المغرضين في صحة الإسلام بسرد روايات تاريخية تنفي ذلك، كما يستغلون انتشار وباء كورونا في مكة للتشكيك أيضا، فما صحة كل ذلك؟

ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ مكة -حرسها الله تعالى- محفوظةٌ من الطاعون. وعمدتهم في ذلك: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا سُريج، قال: حدثنا فُليح، عن عمر بن العلاء الثقفي، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقبٍ منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون)([1]).

وهذا القول ليس بصحيح، وفيما يلي بيان ذلك:

أولاً: أن هذا الحديث ضعيفٌ لا حجَّة فيه.

ففي إسناده:

1- عمر بن العلاء بن جارية الثقفي وأبوه، وهما مجهولان.

ذكرهما البخاري وابن أبي حاتم([2])، وسكتا عنهما، وذكرهما ابن حبان في الثقات([3]).

ولم أقف على من وثقهما من أهل العلم.

قال ابن أبي حاتم: “عمر بن العلاء الثقفي مديني، روى عن أبيه عن أبي هريرة، روى عنه فليح بن سليمان، سمعت أبي يقول ذلك”.

وقال: “وقلت لأبي: هو أخو الأسود بن العلاء، فقال: لا أدري، هو شيخ مديني”([4]).

2- فُليح بن سليمان المدني، متكلَّم في حفظه وضبطه، وضعَّفه كثير من الأئمة.

فهو وإن أخرج له الأئمة الستة، فقد تُكلم فيه، “فضعفه: النسائي، وابن معين، وأبو حاتم، وأبو داود، ويحيى القطان، والساجي، وقال الدارقطني وابن عدي: لا بأس به”([5]).

وقال الحافظ ابن حجر: “أخرجه عمر بن شبَّة في كتاب مكة، عن شريح([6]) عن فليح عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، ورجاله رجال الصحيح”([7]).

وتعقبه محققو المسند بقولهم: ” كذا قال في إسناده (العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه)، وهو وهمٌ، إما من صاحب كتاب مكة([8])، أو من الحافظ ابن حجر، فالحديث لا يُعرف إلا عن عمر بن العلاء، عن أبيه”([9]).

ثانياً: أن الحديث رواه الشيخان والإمام مالك في الموطأ من حديث نُعيم بن عبد الله المُجْمِر عن أبي هريرة بلفظ: (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) ([10]).

ورواه أحمد من حديث ذكوان السمَّان عن أبي هريرة بلفظ: (على أبواب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال)([11]).

ورواه البخاري من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة يأتيها الدجال، فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال، قال: ولا الطاعون إن شاء الله)([12]).

ولذا قال الحافظ ابن كثير عن رواية أحمد: “هذا غريبٌ جدًا، وذِكْرُ مكة في هذا ليس بمحفوظ، أو ذِكْرُ الطاعون، والله أعلم”([13]).

وقال ابن الملقن: “ورد بإسنادٍ ضعيفٍ أنها لا يدخلها طاعون أيضًا”([14]).

ثالثاً: أن الحديث –على فرض ثبوته- ليس صريحًا في نفي دخول الطاعون إلى مكة.

فقد تابع الإمامَ أحمد في روايته عن سريج بن النعمان: ابنُ أبي خيثمة، ولكن بلفظ: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، المدينة على كل نقبٍ منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون) ([15]).

وهي ظاهرة في أنَّ النفي خاصٌ بالمدينة.

وأما رواية أحمد فمحتملة، ولفظها: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون)([16]).

فيتحمل أن يكون الضمير عائدًا للمدينة فقط، بدلالة إفراد كلمة (منها) ولم يقل منهما.

قال السمهودي: ” كذا هو لا يدخلها بالأفراد، فيحتمل عودها للمدينة فقط”([17]).

رابعاً: أن الواقع يؤكد ضعف هذا الحديث، فقد وقع الطاعون في مكة في بعض الأزمنة، خلافًا للمدينة فلم يقع فيها الطاعون قط.

قال ابن تغري بردي: “فيها أعني (سنة تسع وأربعين [وسبعمائة] ([18])) كان الوباء العظيم … وعمّ الدنيا حتى دخل إلى مكّة المشرّفة، ثم عمّ شرق الأرض وغربها، فمات بهذا الطاعون بمصر والشام وغيرهما خلائق لا تحصى([19]).

وقال برهان الدين الحلبي عن المدينة: “ولم يتفق دخول الطاعون بها في زمن من الأزمنة، بخلاف مكة فإنه وجد بها في بعض السنين، وهي سنة تسع وأربعين وسبعمائة”([20]).

وقد أقر الحافظ ابن حجر بوقوع الطاعون في هذا العام، ونقل عن شهاب الدين بن أبي حجلة قوله: “أن مكة لم يدخلها الطاعون قط، إلا هذه المرة، فمات بها خلق كثير من أهلها والمجاورين بالطاعون، وتواتر النقل بذلك”([21]).

لكنه في الفتح حاول التشكيك في تسميته طاعوناً([22]).

خامساً: المنفي في هذه الأحاديث هو دخول الطاعون لا الوباء، والطاعون أخص من الوباء، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا، ولذا فالنصوص الشرعية لا تدل على امتناع دخول الأوبئة إلى المدينة النبوية حفظها الله من كل سوء.

قال الحافظ ابن حجر: “وقد وقع فيها الوباء بالموت الكثير في زمن عمر رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري من طريق أبي الأسود الدؤلي قال: (أتيت المدينة وقد وقع بها مرض، وهم يموتون موتا ذريعًا) …، وأما الطاعون فلم يُنقل قط أنه وقع بها من الزمان النبوي إلى زماننا هذا، ولله الحمد”([23]).

قال ابن القيم: “الطاعون – من حيث اللغة -: نوعٌ من الوباء، قاله صاحب الصحاح، وهو عند أهل الطب: ورمٌ رديءٌ قتَّال يخرج معه تلهُّبٌ شديدٌ مؤلمٌ جدًا يتجاوز المقدار في ذلك، ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر أو أكمد، ويئول أمره إلى التقرُّح سريعًا، وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع: في الإبط، وخلف الأذن والأرنبة، وفي اللحوم الرَّخوة…

قال الأطباء: إذا وقع الخراج في اللحوم الرخوة، والمغابن، وخلف الأذن والأرنبة، وكان من جنس فاسد: سُمِّي طاعونًا…”.

ثم قال: ” ولما كان الطاعون يكثر في الوباء، وفي البلاد الوبيئة، عُبِّرَ عنه بالوباء، كما قال الخليل: (الوباء: الطاعون، وقيل: هو كل مرض يعم).

والتحقيق: أن بين الوباء والطاعون عمومًا وخصوصًا، فكلُّ طاعونٍ وباءٌ، وليس كلُّ وباءٍ طاعونًا، وكذلك الأمراض العامَّة أعمُّ من الطاعون فإنَّه واحدٌ منها”([24]).

الخلاصة
الثابت في السنة النبوية الصحيحة: نفي دخول الطاعون إلى المدينة، “فلم تزل محفوظة منه مطلقًا في سائر الأعصار، كما جزم به ابن قتيبة، وتبعه جمعٌ جمٌّ من آخرهم النوويّ”([25]). وأما الأوبئة فلا يوجد ما يدل على امتناع دخولها للمدينة.

وليس في النصوص الشرعية ما يدل على امتناع دخول الطاعون -فضلا عن الأوبئة- إلى مكة.

نسأل الله أن يحميها وسائر بلاد المسلمين من الطاعون ومن كل وباء.

والله أعلم


([1]) مسند أحمد (10265).

([2]) ينظر: التاريخ الكبير للبخاري (6/180)، (6/510)، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/362)، تعجيل المنفعة (2/47).

([3]) ينظر: الثقات لابن حبان (5/249)،  (7/173).

([4]) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/125).

([5]) نصب الراية (1/381)، وينظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/85)، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي (8/602)، تهذيب التهذيب (8/303)، تحرير تقريب التهذيب (3/165).

([6]) كذا في المطبوع، والصواب: سُريج.

([7]) فتح الباري (10/191).

([8]) إن كان عمر بن شبة رواه كما ذكر الحافظ فهو خطأ منه بلا شك، فقد خالفه في ذلك: الإمام أحمد، وسعيد بن منصور، وابن أبي خيثمة، وإن لم يكن رواه كذلك، فيكون الحافظ وهم من اسم عمر بن العلاء إلى العلاء بن عبد الرحمن.

([9]) مسند أحمد (16/185).

([10]) موطأ مالك (3320)، صحيح البخاري (1880)، صحيح مسلم (485).

([11]) مسند أحمد (8917).

([12]) صحيح البخاري (7134) .

([13]) البداية والنهاية (19/189).

([14]) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (12/531).

([15]) تاريخ ابن أبي خيثمة – السفر الثالث- (1/ 146).

([16]) وكذا رواه سعيد بن منصور عن فليح بن سليمان، كما في تاريخ دمشق لابن عساكر (14/ 308).

([17]) خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى (1/158).

([18]) (749هـ) .

([19]) النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة (10/ 233) .

([20]) السيرة الحلبية (2/ 119).

([21]) بذل الماعون في فضل الطاعون (ص379) .

([22]) فتح الباري (10/ 191).

([23]) بذل الماعون (ص104).

([24]) زاد المعاد في هدي خير العباد (4/35).

([25]) خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى (1/ 155).

الخلاف في حكم الموسيقى والغناء (الجزء الثاني)

بعد عرض الفرق بين حكم السماع والاستماع، وإثر عرض مقدمات فقهيّة مهمة في فهم النظرة الاستدلاليّة المتعلقة باستنباط الأحكام الشرعيّة، نتوقف في هذا المقال –دون استفاضة- عند مذهبين رئيسيَّين في حكم الموسيقى والغناء، بين الإباحة والتحريم.

أوَّلًا: أدلة مذهب حرمة الموسيقى:

تردّدت الأقوال في مذهب المحرّمين بين التحريم الشامل لسماع كل ما يصدر عن الآلات الموسيقية، وبين التحريم الجزئي الذي يبيح بعض الآلات ويحرّم أخرى، وبين من يفرّق في حكم الغناء مع الموسيقى، والغناء بلا موسيقى.

والذي يعنينا هنا تتبُّع المسألة في أصلها من حيث التحريم المطلق حيث إن إثباته إثباتٌ لحرمتها في سائر المواقف، كما أن إباحتها المطلقة إباحة لها في سائر المواقف إلا فيما قيّده الشارع.

من هنا فإن الأدلة التي حرّمت الموسيقى تعود إلى أربعة أنواع:

1- أدلة صريحة في التحريم وإفادته، إلا أنها غير صحيحة من جهة النقل.

2- أدلةٌ صحيحة من جهة النقل، إلا أنها غير صريحة في إفادة التحريم.

3- آراء تحرّم المعازف والغناء أو المعازف وحدها باعتمادها على دعوى الإجماع.

4- أدلة أخرى كأقوال الصحابة والتابعين وغير ذلك.

الأدلة القرآنية:

استدل المحرمون بخمس آيات من القرآن هي:

{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} الإسراء: 64.

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِين} لقمان: 6.

{ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}أنفال: 35.

{ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} الفرقان: 72.

{ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ61} النجم: 61

هذه الآيات الخمس ذكر فيها الفقهاء والمفسرون أدلة على تحريم الموسيقى، فالصوت في الآية الأولى هو صوت الشيطان التي هي آلات المعازف والغناء، وهناك أقوال كثيرة للمفسرين تؤيد هذا التأويل[1]، وقد فسروا “اللهو” في الآية الثانية بأنه الطبلُ، أو الغناء[2]، وهذا التخصيص لا يمكن أن يكون بأقوال الصحابة أو الفقهاء، بل لا بد للتخصيص من نصٍّ مثله، كما أن أصل اللهو في العربية يعني الانشغال، ولا يوجد فيه حرمة إلا ما كان لهوًا بباطل فيحرم الباطل،

وعليه فإن اللهو إن سبّب ترك الواجب فهو محرّم، وكلّ لهو يسبب الحرام فهو محرّم، هذا من حيث الأصول

أما اللهو في الآية فقد قيّدته بلهو الحديث، فيدخل فيه الغيبة والنميمة، والخرافات والأساطير وغير ذلك، وبذلك فإن الاستدلال بهذه الآية على حرمة الموسيقى استدلال في غير موضع المسألة فلا تصح أن تكون دليلاً في تحريمها.

أما الآية الثالثة فقد عاب الله فيها على المشركين صفيرهم وتصفيقهم في حضرة البيت الحرام، ومن باب أولى أن يكون آلات المعازف أشدّ في أصواتها فهي أولى بالعيب[3]

والصحيح أن العرب في الجاهلية كانوا يتعبدون إلى الله بهذه الأفعال، فكان فعلهم معيبا من جهة أنهم يتعبدون لله بما لا تعبُّد فيه بل بما يتّخذ لهوًا ولعبًا.

أما الآية الرابعة فقد فسروا عدم شهود الزور، بأنه البعد عن الغناء، فلا يسمعون الغناء لما فيه من الباطل[4]،  والحق أن هذا التفسير بمختلف إسناداته ليس قويًّا، كما أن هناك تفسيرات أخرى تفسر الزور بالشرك، وهو أولى من الغناء وأشد حرمة، كما أن القرآن نفسه قال: {واجتنبوا قول الزور} وهذا تفسير للقرآن بالقرآن، حيث يقصد به هنا الكذب، وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: “القول بأنه الكذب هو الصحيح، لأن كل ذلك يرجع إلى الكذب” و”أما القول بأنه الغناء فليس ينتهي به إلى هذا الحد”[5].

أما الاستدلال في الآية الأخيرة على أن “السمد” هو الغناء بالحميرية[6] إلا أن مقصد الآية أكبر من مطلق الغناء، حيث كان مشركو قريش حين يسمعون القرآن يغنون ويلعبون، فكانت الآية ذمًّا للمشركين لا دليل فيها على تحريم القرآن. وعليه فإن الآية الأولى حرّمت كل ما يدعو إلى معصية الله، أما الثانية فحرّمت كل ما يضلُّ عن سبيل الله من لهو الحديث، أما الآيات الباقية فكلّ واحدة منها تدل على شيء بعينه، ولذا فإن اتخاذ هذه الآيات في تحريم الموسيقى والغناء بل هو تكلّف وخروج عن أصل الإباحة بلا دليل.

الأدلة من السنّة:

يعنينا في هذا القسم الأحاديث التي حرّمت المعازف والغناء باللفظ قطعًا، إضافة إلى الأحاديث التي حرمتها ظنًّا.

في النوع الأول نجد ثمانية أحاديث:

1- “لَيَكونَنَّ مِن أُمَّتي أقْوامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَرِيرَ، والخَمْرَ والمَعازِفَ، ولَيَنْزِلَنَّ أقْوامٌ إلى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عليهم بسارِحَةٍ لهمْ، يَأْتِيهِمْ -يَعْنِي الفقِيرَ- لِحاجَةٍ فيَقولونَ: ارْجِعْ إلَيْنا غَدًا، فيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، ويَضَعُ العَلَمَ، ويَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وخَنازِيرَ إلى يَومِ القِيامَةِ.” [أخرجه البخاري]. هذا الحديث خبر، ولا ريب أنه قد يدل على حكم، إلا أنه لا يفيد الحكم بذاته، وإنما يثبت الحكم بدليل آخر، فالمستحَلُّ والمحرّم ههنا يعلَم بنصٍّ من الشرع. وغاية ما يمكن للمستدِل بهذا الحديث أن يثبته هو علامة وجود التحريم في هذه المذكورات، لا أنه الدليل عليها، فيكون الاستدلال به على التحريم خطأ.

ولفظة “يستحلّون” ترد في استباحة الحرام والمباح على حدٍّ سواء كما في حديث “فما وجدناه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرّمناه” واستحلال الخمر هنا والربا والزنا ولبس الحرير للرجال استحلال لما عُلِم حرمته قطعًا، ولكن بدليله القطعي المنفصل عن هذا الحديث لا به.

وذكر المعازف فيه، واقترانها بمحرمات لا يثبت تحريمه على سبيل القطعِ، فالحرير لا يشبه في حرمته الزنا، وكذلك لا تشبه الخمر الربا، وقد عُلِم حرمة كلّ شيءٍ منها بدليله القطعي، ولا دليل على حرمة الموسيقى قطعًا، والعقوبة الواردة ههنا فهي واردة على جميع المذكورات وليس على واحدة منها، لأن المجموع يكون شعارًا لقوم يستوجبون سخط الله فيغضب عليهم، وليس الحديثُ في أصله واردٌ في بيان حكم كلِّ واحدة منها، وإنما لبيان حال قومٍ ممّن استوجبوا غضب الله، بل إن خلاصة ما يمكن الاستدلال به من خلال هذا الحديث هو أن الأصوات الداعية إلى معصية الله، وتوافق حال الزناة وشاربي الخمر، أنها تحرّم معها لا بذاتها، وهذا يعني أن لكل حال حكمٌ بحسبه.

ولمّا كان في أصل الموسيقى الإباحة، إلا أنها اقترنت بالمعاصي الأخرى، فقد تحوّل الحكم إلى ما وُضِعت فيه فحرّمت فيه لاقترانها به، لا لحرمتها الذاتيّة، فلو امتنع ذلك الاقتران لبقيت على أصل إباحتها[7]، وليس المقصود تحريم ذات الأصوات الصادرة عن الموسيقى، وإنما عملُ العزفِ مع التشويق للمنكَر، إذ لا حديث يحرم أصوات الموسيقى بشكل مستقل البتة، حيث تثبت الأدلة وجود المعازف عموماً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إضافة على استعمالها في مناسبات مختلفة، إلا أن الإنكار الوارد في بعض منها كان لحالات خاصة كرفض النبي لقول وارد مع العزف، وليس ثمة حديث صحيح واحد صريح في التحريم بحيث لا يقبل التأويل في تحريم المعازف[8].

2- وثمة سبع أحاديث أخرى تدور حول ذات المنظور في الحديث السابق[9]، فهي متعلّقة عموما بمتعلّق لتحريم الموسيقى، وليست محرّمة للموسيقى بذاتها والغناء، بل إن النظر فيها والتمحيص يثبت انعدام وجود نصّ واحد ثابتٍ يدلّ على تحريمها، وعليه فإنه يجب الالتزام في حكم الأصل، وهو الإباحة[10].

الأدلة من الإجماع:

يشير كثير من الفقهاء في تحريم الموسيقى والسماع لها إلى استنادها على الإجماع، إلا أنه معلوم أن الاحتجاج بالإجماع بحد ذاته يحتاج إلى إثباتات كثيرة لسنا في معرض ذكرها، إلا أنه يجب التنبه لها، إضافة إلى بحث مسألة وقوع الإجماع حقيقةً في تحريم الموسيقى، وإذا بطل أحد هاتين المسألتين فإن دعوى التحريم بالإجماع تسقط[11].

والمسألة الأولى يمكن نقدها بأنه لا يمكن التسليم بوقوع الإجماع على تحريم شيءٍ ما في عهد التشريع النبوي ولا يوجدُ نصٌّ صريح من النبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن في التحريم، بل إن الأصل أن يكون النص، وعدمُ وجود النصّ دليل على عدم وجود التحريم.

ثانيًا، إن الإجماع عند التحقيق لم يتحقق بين العلماء بشكل كامل إلا فيما عُلِم من الدين بالضرورة، مثل حرمة القتل وحرمة الزنا، فهذا إجماع صحيح يكفر منكره، أما إنكار الإجماع الذي لم يستند على نص يثبتُ معلوماً بالضرورة، فليس فيه خروج عن جماعة المسلمين، فكيف يمكن ادّعاء الإجماع في مسألة لم يرد فيها نصٌّ قطعيّ صريح في التحريم؟

أما الإجماع السكوتي الذي يعني اشتهار القول بالتحريم مع سكوت المخالف، فإن الأصل أنه لا يحتج به، ولا يصحّ في الفقه الطعن في دين المخالف للإجماع السكوتي[12].

وقد أنكر عدد من العلماء وجود الإجماع في هذه المسألة مثل ابن حزم، كما صنف القاضي محمد بن علي الشوكاني كتابًا سماه “إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع”، مما يثبت أن إثبات الإجماع في هذه المسألة متعذر دون الاستناد إلى دليل صريح وقطعيٍّ في التحريم.

كما أن كثيرًا من السلف كان يبيح الترنّم والغناء بلا آلة في ست آثارٍ صحيحة عن الصحابة[13]، إضافة إلى آثار أخرى صحيحة ومشهورة عن سماع بعض السلف للغناء مع المعازف، كما ورد عن عبد الله بن جعفر وهو من كبار فقهاء المدينة، حيث كان يسمع للغناء من بعض جواريه وهن يعزفن[14].

مذاهب الفقهاء في آلات العزف

يرى جمهور الفقهاء أن الأئمة الأربعة في حال أباحوا العزف فإنهم يقصدون “الدف” والطبل في أحوال خاصة، ولا ينسبون لأحد منهم إباحة المعازف بإطلاقها، بل ينقلون عنهم أقوالا توحي بحصر الخيار بين الحرمة والكراهة، إلا أنه بعد الاطلاع على مقولات الأئمة في هذه المسائل فإن حاصل ما يمكن فهمه منها هو:

1- أن قول أبي حنيفة لا يتجاوز كراهته التنزيهيّة للموسيقى ولا يؤثَر عنه قول صريح في حرمتها.

2- قول الإمام مالك: ليس فيه نص على التحريم وإنما تدل عباراته على الكراهة.

3- شدّد الشافعي على بعض الآلات الموسيقية مثل الطنبور والمزمار، ولم يصرّح بتحريم الموسيقى والغناء، وإنما كره الإغراق واللهو فيه، وأباح يسيرَ الدفّ دون كراهة.

4- مجموع أقوال الإمام أحمد تذهب إلى التحريم، ويذهب حتى إلى كراهة الغناء[15].

ثانيًا: أدلة مذهب إباحة الموسيقى والغناء

استدلّ أصحاب هذا الرأي بأدلة عامّة تعتمد الأصل المعترف به في الأشياء، وهو ما يعرف بالاستصحاب، فأصل الأصوات إباحتها، ولذا لا يمكن تحريمها إلا بدليل، وذلك استصحابًا لأساس الإباحة المرتبط بها، إضافة إلى ذلك فقد توقفوا عند عدة قضايا تدخل في مناط حكم الموسيقى، منها أنّ:

1- الأصوات الموزونة حسنةٌ لدى السمع سواء خرجت من آلة أو إنسان أو حيوان، وتحب النفوس سماعها، ولا حرمة في هذا بحد ذاته.

2- المعازف لاحقة بباب العادات لا العبادات، وقد قُرر في الأصول: أن “الأصل في العادات الإباحة ما لم يرد ناقلٌ ينقلها عن حكمها إلى حكم آخر”.

3- ما استدِلّ به من نصوص على تحريم المعازف والضرب عليها ضعيف إما نقلاً وإما في عدم دلالته القطعية والصريحة على التحريم.

4- التفريق بين المعازف كتحريمها كلها لا يصحّ دون ورود دليل قاطع يحرمه، وإباحة بعضها بدليل صريح لا يوجب حرمة الآخر، إلا التصريح شرطٌ في التحريم.

ومن ثمَّ فإنّه بناء على هذه القواعد فإن الأصل في حكم الموسيقى عند هذا الفريق إباحتها، ولو على وجه اللهو كأن يعزف ليدخل المرء على نفسه السرور والسكينة، إلا أن يرتبط بها ما يؤدي إلى معصية أو يفوّت المرء بها طاعة فحينها يتغير الحكم بتغير الحال.

وقد استدلّ هذا الفريق بأدلة نقليّة كثيرة تؤكد إباحة الموسيقى في الأصالة، من ذلك ما ورد أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، دَخَلَ على عائشة وعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ في أيَّامِ مِنَى تُدَفِّفَانِ، وتَضْرِبَانِ، والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَغَشٍّ بثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُما أبو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن وجْهِهِ، فَقالَ: دَعْهُما يا أبَا بَكْرٍ، فإنَّهَا أيَّامُ عِيدٍ. [صحيح البخاري].

وفي رواية أخرى في البخاري: دَخَلَ عَلَيَّ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعِندِي جارِيَتانِ تُغَنِّيانِ بغِناءِ بُعاثَ، فاضْطَجَعَ علَى الفِراشِ، وحَوَّلَ وجْهَهُ، ودَخَلَ أبو بَكْرٍ، فانْتَهَرَنِي وقالَ: مِزْمارَةُ الشَّيْطانِ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأقْبَلَ عليه رَسولُ اللَّهِ عليه السَّلامُ فقالَ: دَعْهُما، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُما فَخَرَجَتا[16] إضافة إلى أحاديث وآثار أخرى، تفيد بإباحة الموسيقى بذاتها.

والترنّم بالصوت من غير كلام مباح في أصله ولا شيء يدلُّ على حرمته، وقد وردت آثار تأمر الإنسان بتحسين صوته في الأذان والقرآن فينتقل التلحين بالمقامات وأنماط التحسين الموزونة إلى الاستحباب في الطاعات

أما الشعر والغناء به فهو كلام منه حسن ومنه قبيح، وخذ الحسن ودع القبيح كما تقول السيدة عائشة، ويورد  الحسين بن الحسن المعروف بـ أبي عبد الله الحَلِيمي في شرح شعب الإيمان، الآتي: “وجملة ما يتميز به الغناء المباح عن الغناء المحظور، أن كل غناء من الشعر المنظوم فمعتبر به لو كان كلاما نثرا غير منظوم، فإن كان مما يحل أن يتكلم به منثورا أحل أن يتكلم به منظوما. وإن كان مما لا يحل أن يستعمل منثورا لم يحل أن يستعمل منظوما”[17]. فما يقبح من الكلام يحرم التلفظ به في الغناء أو غيره، وما يحسن لا يحرم التلفظ به في الغناء أو غيره.

وقد وردت أحاديث تدل على ذلك كما في حديث السيدة عائشة المتقدم.

الخلاصة
وفي الخلاصة فإنّ مدار الأمر في هذه القضيّة أنه ثمة خلاف كبيرٌ ومشتَهَرٌ بين العلماء في حكم الغناء بين تحريمه لذاته وبين تحريمه لعارضٍ آخر، كما أنّ كثيرًا من العلماء الذين حرّموا شتى أنواع السماع باتوا اليوم يشيرون إلى الخلاف في جواز السماع لما لا إساءة أو فُحشَ فيه، إذ إنه كلامٌ يحسن بمعناه أو يسوءُ به، إضافة إلى أن التساهل في الغناءِ والموسيقى لا تعني إباحة ما يُرى من أغانٍ هابطةٍ تتعرّى الأجسادُ فيها وتصمّ الآذان فيها صخب الموسيقى المرتبطةِ بكلماتها ورقصات الممثلين فيها، بل هي على النقيض من ذلك، تنطبق عليها فتاوى المتشددين في تحريم السماع إليها والتمايل معها. وبالمثل من ذلك فإن الموسيقى بحدّ ذاتها تتعرّض لأحكام مختلفة بحسب الموقع والزمان والعوارض المحيطة بها، فلا يمكن وصف الموسيقى بالإباحة التامّة حين تعزَف أنغامها في مسارح الملاهي الليليَّة وطاولات اللهو والخمر، كما أنه لا يمكن الجزم بحرمتها حين يقصَد بعزفها ترقيق القلب وإثارة كوامن الفكر والاسترخاء، وذلك لاعتبارات كثيرة أهمها، أنه:

1. لا يوجد دليل واحد صحيح وصريح في تحريم المعازف لكونها أصوات تصدر عن آلات، كما لا يحرم آلات العزف لكونها آلات بذاتها، كما لا يوجد دليل واحد صحيح وصريح في تحريم الغناء لذاته.

2. وأنّ كل ما ورد من النصوص حول الموسيقى فهي إما:
• صحيحة لكن لا دلالة فيها على التحريم، بل قد تفيد الإباحة، ويعضد ذلك ما ورد من آثار تفيد بوجود السماع في بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
• أو أنها غير صحيحة وهذا مما لا يحتج به في بناء الأحكام القطعية.

3. إضافة إلى التوقّف عند كون حكم الإباحة عامًّا في السماع والإسماع، سواء في المناسبات أو التداوي أو إراحة النفس، والتنبّه إلى حرمة الاستماع والإسماع في مواطن اللهو وتداوُل الفحشاء.

4. قد ينتقل حكم الموسيقى والغناء عن الإباحة إلى حكم آخر كالاستحباب في إشهار النكاح، أو الكراهة في حال سبّب الاشتغال بالموسيقى ضياع السنن والمستحبات والمصالح الراجحة، والتحريم حين يشتمل الغناء على قول ممنوع بذاته كالكفر و رفض القدر، وغير ذلك مما يحرم تلفظه لذاته، أو استعمل في معصية الله والدعوة لها، كالغناء بالتشويق للخمر والترويج للزنا، وإشاعة مجالس الفسق، وكل ما من شانه إشاعة الشهوة الحرام .

والله أعلم.


الهوامش

[1] http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura17-aya64.html

[2] http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura17-aya64.html

[3] http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura8-aya35.html

[4] http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura25-aya72.html

[5] أحكام القرآن، أبو بكر بن العربي، (3/ 1432)

[6] http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/qortobi/sura53-aya61.html

[7] الجديع، ص: 87- إلى 102.

[8] المصدر السابق: 95- 101.

[9] ذكرها المصدر السابق ودرسها واحدًا واحدًا باستفاضة، ينظر: 102- 135.

[10] ينظر السابق، 135.

[11] المصدر السابق، 136.

[12] المصدر السابق، 137.

[13] السابق، 164- 167

[14] المصدر السابق، 170- 172.

[15] ينظر المصدر السابق: 197 – 214. وقد اعتمد المؤلف على بدائع الصنائع للكاساني/ و الهداية للمرغيناني- والسير الكبير للشيباني من فقهاء الحنفية، واعتمد على البيان والتحصيل لابن رشد، والمقدمات والممهدات، والتمهيد لابن عبد البر، في حكاية مذهب الإمام مالك، أما الشافعية فقد اعتمد على كتاب الأم للشافعي، ومختصر المزني، وروضة الطالبين للنووي، أما رأي الإمام أحمد فقد اعتمده من كتب الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلّال، والورَع لأبي بكر المروذي، والمغني لابن قدامة الحنبلي.

[16] ينظر المصدر السابق، 220-221.

[17] ينظر المنهاج في شعب الإيمان، دار الفكر، ط1، 1979 م ، أبو عبد الله الحليمي، ج3/ 20، ويقارن بالموسيقى والغناء في الميزان ص: 237.

[18] ينظر الموسيقى والغناء في الميزان، ص253- 254.

الخلاف في حكم الموسيقى والغناء (الجزء الأول)

“أغلق هذا البرنامج ففيه موسيقى”، “لا تشاهد برامج هذه القناة على يوتيوب”، “لا أستطيع نشر هذا الفيديو مع أنه مفيد بسبب الموسيقى في الخلفية”، “إيّاك أن تحدِّث فلانًا، فهو يستمع إلى الموسيقى ويبيحها”، جمل كثيرة -من هذا القبيل- يعترض بها من يحرّمون قبول أي مادة تحتوي أصوات آلات موسيقيّة تحت أي ظرف.

تستهدِف هذه المقالة الوقوف عند هذه القضيّة –حكم الموسيقى والاستماع لها- والبحث في خلفيّاتها الدينيّة والشرعيّة، لتبيين مقدّمات مهمّة ونتائج حُكميّة مبنيّة عليها، نظرًا لما يعتري هذه القضيّة من تشابك في الآراء وتراشق في الاتهامات تجاه محرميها ومحلّيها.

التمييز بين السماع والاستماع
تشير الزيادة اللغوية في الاستماع إلى وجود القصد والنية، بينما لا توحي مادة “سماع” بالنيّة والقصد[1]، ومن ثمّ فقد تنبّه الفقهاء في خضمّ الخلاف حول حكم الموسيقى إلى أنه لا بدّ من الوقوف عند قضيّة القصد للاستماع وعدم القصد إليه، وهو ما يعرف في أبواب الفقه بالفرق بين السماع والاستماع، حيث لا يحرّج محرّمو الموسيقى على المرء أن يتعرّض دون قصدٍ منه لسماع بعض الأصوات الموسيقيّة، وينصبُّ تحريمهم واستدلالهم على إثبات حرمة العزف والقصد لاستماع هذه الآلات، فالاستماع يتضمّن الإصغاء وبالتالي فإنه يتضمّن القصد لسماع الموسيقى والغناء، وهنا يتفق محرّمو السماع إلى الموسيقى على حرمة هذا الفعل والاستمرار فيه، وذلك بناءً على تخصيص النهي الوارد في أحاديث الموسيقى على أنها مخصوصة بالاستماع لا السماع، فلو مرَّ رجل بقوم يتكلّمون بكلام محرَّم: لم يجب عليه سدّ أذنيه –بتعبير الإمام ابن تيميّة رحمه الله- إلا أن عليه أن لا يستمع إليهم من غير حاجة، ويعلّل الإمام بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يأمر ابن عمر –رضي الله عنه- بسدِّ أذنيه حين سمع زمّارة الراعي؛ لأنه لم يكن مستمعاً، بل سامعاً[2].

ويمكن إيراد نصٍّ ههنا لابن قيم الجوزيّة يفرّق فيه بين السامع والمستمع، فالسامع بتعريفه هو “الذي يصل الصوت إلى مسامعه دون قصد إليه، والمستمع المصغي بسمعه إليه، والأول غير مذموم فيما يذمّ استماعه ولا ممدوح فيما يمدح استماعه”[3].

وبناء على هذا نجد فتوى مهمّة للجنة الإفتاء الدائمة بالسعودية في عهود سابقةٍ تشير إلى الفرق بين الأمرين ولا تحرّج على الأوّل، حيث عرّفت السماع بأنه ما يَرِد إلى السمع من غير الشخص نفسه كالموسيقى في المواصلات العامة وفي الطائرة ومن بيوت الجيران أو من المارّ في الطريق أو من الهاتف حين الاتصال بالاستعلامات أو ببعض الشركات والخطوط الجوية للحجز، وأمّا ما يكون منه أو من الأجهزة التي تحت تصرفه: فإنه الاستماع ولاشكّ؛ والسماع للمنكر الذي يصدر من الغير ولا يمكن إيقافه فإنه لا يلزم سد الأذنين عنه، وأما ما يصدر من الشخص ذاته فيحرم عليه استماعه، فظهر الفرق بينهما[4].

حكم الموسيقى
في هذا المعرض –قبل البَدء بمدارسة آراء الفقهاء حول الاستماع- ثمة أمور يجب التنبه إليها أثناء البحث عن أي حكم فيه تعبُّدٌ ربّاني، بمعنى أنه مطلوبٌ إلهي بالأمر أو النهي والحل والحرمة، وقضيّة الموسيقى داخلة في هذا الوصف، وهو ما نراه من خلال الأحكام التي يطلقها الفقهاء والأكاديميون المتخصصون في الدراسات الشرعية حول “تحريم الموسيقى، أو إباحتها، أو حلّها”.

وهنا يجب التأكيد على أن الأحكام الشرعيّة لا تثبت إلا بـ “النص القطعي الصريحِ من الكتاب والسنة”، أو من خلال “الاجتهاد فيما ورد به النص من الكتاب والسنة”، ولذلك فإن العلماء يبنون مذاهبهم الفقهية بناءً على رأيهم في النصوص التي وردت إليهم، وإصابتهم الحق أو خطؤهم عائدٌ إلى صحة الاستدلال والفهم، ولذلك تكون الآراء الفقهية متساوية في درجتها المذهبية فيمكن لأحد أن يقول بها اليوم ثم يرجع عنها فيما بعد بسبب ظهور علة في الدليل أو دليل آخر في ذات المسألة.

ولذلك لا بدّ من التنبيه إلى أن الحكم الفقهي يؤخذ من موردين:

1- ثبوت النقل في الدليل النصي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

2- صحّة دلالة النصّ على الحكم المبيّن أو المستدَلّ عليه.

هاتان المقدمتان أساسٌ في تصحيح البرهان والدليل الفقهي أو رفضه، وهذا ما سنحرص على التأكُّد منه في خطواتنا الآتية.

أولاً: تعريفات لا بد منها:
اعتنى الفقهاء في القرون السابقة بمبحث الغناء والموسيقى تحت مصطلح “السماع” وذلك اختصارًا للمسألة. 

تعريف الغناء: هو الصوت الذي يُطرَّب به[5]، وقد يطلق به على صوت الحمام، أو صوت الإنسان الملحّن، ومنه الترنّم أي تطريب الصوت[6].

يقول عبد الله يوسف الجديع في كتابه “الموسيقى والغناء في الميزان”: “والحاصل أن الغناء صوتٌ يوالى به مرة بعد مرة بتلحين وتطريب، ولذا تسمّى أصوات الموسيقى غناء وآلاتها آلات الغناء”[7].

وهناك أسماء أخرى لهذا الفعل لا طائل من ذكرها وتفصيلها، مثل الهزج، والسناد، والنصب.. إلخ، وهو مرتبط بنوع الغناء والكلام الذي فيه.

الموسيقى: هي لفظٌ يطلق على فنون العزف على آلات الطرب، والأصل في العزف هو “الابتعاد” و”الانصراف” عن الشيء، فيقال: عزفتُ عن الأمر، أي تركته[8]. كما يطلق على الصوت، فيقال عزف الرياح، عزف الدفّ[9]. ويطلق على آلات الموسيقى “المعازف” أو الملاهي، سواءً كانت آلات وترية أو آلات هوائية “نفخية” أو آلات الضرب كالطبل والدف[10] .

ثانيًا: مقدمات فقهية:
هناك قواعد عامة مهمة في الأبحاث الفقهية من أهمها الآتي:

1- الأصل في الحلال والحرام التوقُّف فيه على ما جاء به النص البيّن في كتاب الله وسنة نبيِّه، ومن ذلك الاستدلال بآية “قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ “[يونس: 59].

2- أصل النظر والتعامل في الموسيقى والغناء على أنها قضيّة عاديّة لا تعبُّدية، والأصل في القضايا العاديّة الإباحة والحل. وهذا التعليل يستند إلى عدة أمور، أولها أنها تستند على نص قرآنيٍّ واضح: “خلق لكم ما في الأرض جميعًا” [البقرة: 29]، أما الثاني: فهو دخول الموسيقى في باب الزينة، والأصل في الزينة الإباحة، ويمكن الاعتماد في هذا الأمر على قوله تعالى: ” قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون” [الأعراف 32]، ووجه التعليل هنا هو أن الصوت الحسن الصادر عن الموسيقى والغناء من الجمال الذي ترتاح إليه النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنًا”[11]، إضافة إلى أن الموسيقى من أبواب الطيبات، وقد قال تعالى: “قل أحل لكم الطيبات” [المائدة: 87]، وغير ذلك من الآيات التي تشير إلى أن أصل الطيبات هو الإباحة.

3- لا بد من التنبُّه إلى أن الشريعة بيّنت كل ما فيه ذريعة إلى الحرام، فإذا توفّي النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وثمة باب مفتوح منها، فلا يملك أحد أن يغلقه.

4- لا يحلّ بناء الأحكام على الأحاديث الضعيفة، وهذا أصل مهم يجب إدراكه.

5- يبنى تفسير الأدلة في الدرجة الأولى على النصوص التي توضحها، ويقدّم في هذا الباب تفسير الصحابة اللغويُّ على تفسير من جاء بعدهم.

6- لا يعتَمَدُ في الحكم على منزلة الشخص “صحابي، تابعي، عالم” وإنما يعتبر الحكم بالدليل المبنيّ عليه.

7- تركُ النبيّ لمسألة ما لا يدلُّ على تحريمها، فقد تكون لطبعهِ الشخصيّ أو لكراهةٍ منه لها، ويجب على المسلم اتباع النبي في التركِ بما نصّ على حرمته صراحةً.

8- الإخبار عن الأمور في المستقبل لا يدلُّ على الحرمة، بل قد يرد مورد البيان الذي ستؤول إليه الأحوال، ويحتاج كلُّ حديث فيه إشارة إلى خبرٍ مستقبلي إلى دراسة تبين تفاصيله بالأدلة المجردة لعموم المسألة لا الأحوال الخبرية المنصوص عليها فيه فقط[12].

ثالثًا: أصل حكم الشرع بالأصوات.
إن صوت الموسيقى جزء من الأصوات التي تنتشر في الطبيعة، وطبيعة الصوت بحد ذاته، دون ارتباطه بعوارض أخرى، لا تحرّم بل يجري عليها حكم الإباحة، سواءً كان صوت بشرٍ أو حيوان أو آلة، وبما أن الأصوات الحسنة تؤثر في طباع العقول والأذهان، وتؤثر في المرضى ومزاج البشر بحسب أنواعها، فإن الأصل حلُّه في الشريعة، وذلك اتباعًا لقواعد الفقه وأصوله، فالحكم الأوليُّ في تأصيل كل لذّة أنها على الحلّ ما لم يرِد نصٌّ قرآني أو نبويٌّ صريحٌ في تحريمها[13].

وللحديث بقية في الجزء الثاني بإذن الله.


الهوامش

[1] ينظر معجم لسان العرب، مادة: سمع. 

[2] ينظر مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، د. ط، 1995، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، (ج 11/ص 630) و  (ج 11/ص 566- 567)

[3] ينظر كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي، تحقيق ربيع بن أحمد خلف، بيروت، دار الجيل، ط1، 1992، (ص 270)

[4] ينظر نص الفتوى على موقع الإسلام سؤال وجواب، تحت عنوان: حكم الاستماع إلى الفواصل الموسيقية أثناء نشرة الأخبار أو البرامج الوثائقية، عبر الرابط الآتي: https://bit.ly/2PQbG9J

[5] لسان العرب، مادة “غنا”

[6] لسان العرب، مادة “رنم”

[7] ص 24.

[8] العباب الزاخر، والصحاح في اللغة، ولسان العرب، مادة “عزف”

[9] لسان العرب، مادة “عزف”

[10] ينظر الموسيقى والغناء في الميزان، تفصيلات واسعة في ص: 28-إلى 33.

[11] حديث حسن أخرجه الدارمي، والبيهقي، والحاكم، بأسانيد حسنة.

[12] هذه الضوابط وغيرها فصّلها، د. الجديع، في كتابه الموسيقى والغناء في الميزان، ينظر: 33- إلى 48.

[13] المرجع السابق: 49 إلى 54.

عن ذبح الأضاحي أمام الأطفال

قرأت عدة مقالات تحذر من ذبح الأضاحي أمام الأطفال، وخطورتها وأثرها على نفسية الأطفال، وأخرى تنتقد الحج على أنه بات وسيلة للتفاخر وأن “بطون المسلمين أولى”، أو تدعو لتوفير أموال بناء المساجد لقضايا إنسانية أولى من ألف مسجد.

تنبع هذه الدعوات من فكرة باتت تتطرق لكل ما هو يتعلق بالشعائر الإسلامية، وتحاول أن تكيل لها النقد بأيّ شكل كان، فهي لا تتناول ذبح الحيوانات بالمجمل وإنما تخصِّصُ الأضاحي بعينِها، وهذا جزء من توجيه الرأي نحو مساق بعينه ليمتد نحو انتقاد الأضحية بذاتها والحديث عن خطورة ذلك على الثروة الحيوانية، ليصل أخيراً إلى اتهام المسلمين بالعنف والتطرّف، والذين تتجلى مظاهره بقتل الحيوانات بهذه الوحشية كما يصفون.

لم تطل هذه الدعوات يوماً ما أيّ استخدام سيء للحيوانات حول العالم، كاستخدامها في الصراعات والرهانات، وصراع الثيران وصراع الديكة وما شابهها.

رجل يحمل سكينومن مثل هذه الدعوة تصدر لنا دعوات أخرى. توجَّه نحو قضايا تتعلق بالإسلام وتشريعاته، كالحديث عن جرائم الشرف وربطها الدائم بالمجتمعات المسلمة رغم عدم وجود أي رابط بين القانون والتشريع، وحتى بين القضية والواقع.

كل هذه الدعوات تحمل ازدواجية معايير صارخة وواضحة، تتجلى ببعض هذه الأمثلة:

– يُضرب المثل بالمرأة المسلمة أن خياراتها الشخصية ممنوعة دائماً، فخيار المرأة في أن تكون (زوجة) لا يعدّ من الخيارات التي تروَّج أو يُشجَّع عليها، ولكن يُروَّجُ لخيار أن تكون مطلَّقة مثلاً، فهو الخيار الذي يُدعى له كثيراً هذه الأيّام. ويُعتَبَرُ خيار عملها مما تدعو له المنظمات وتشجع عليه وسائل الإعلام، لا سيّما إن كان على حساب زواجها أو أسرتها.

ويأتي السياق الأخطر حينما يعتبر خيار المرأة أن تصبح (زوجة) ثانية محارباً بشدة، بينما تُتناول قضية الدعارة على أنها مسألة إيجابيَّة تدرُّ دخلا للدولة.

هنا -في معرض الحديث عن الدعارة- تُستثنى المرأة كليّاً. ولا يتناولُ أحدٌ ما تتعرَّض له المرأة من استعباد واستغلالٍ بشع تحت اسم الدعارة، وتبقى المسألة محصورةً حين يتمُّ بحث تقنين الدعارة، بالمردود الاقتصاديّ للدولة، أو يصل في بعض الأحيان لحقوق الداعِرة في المجتمع الظالم حين ينظر لها بفوقية واستعلاء.

 ومن المضحك جداً أنّ هذه القضيّة بالذات لا يُنظر فيها لشهوانية الرجل، طالما أنه ضمن إطار (تقنين الدعارة) والحريات الفرديّة، بينما في مسألة (الزواج) الثاني لا يُنظر للمسألة مطلقاً إلا من خلال زاويتين ضيّقتين: اضطهاد المرأة، وشهوانيّة الرجل.

– من ذلك قضية الشذوذ الجنسيّ، فالشذوذ اليوم يخوض حرباً شرسة ليفرض وجوده في المجتمعات، حيث يمكنك أن تكون حرّاً بكلّ أفكارك إلا في الحديث عن الشواذ وحقوقهم!

شعار شركة فيسبوكولعلك إن استخدمت كلمة “شواذ” بدلاً من “مثليين” بمعرض النقد، فإن فيسبوك سيحذف منشورك ويهدِّدك بالطرد من العالم الأزرق كلّه!

فلا يمكن اعتبار وجود الشواذّ في المجتمع خطراً على الأسرة أو أفرادها، ولا يُنظر للشذوذ لا على أنه حالة مرضيّة، أو أنه خلل جيني، ولا أنه حتى حالة شاذة عن الفطرة السليمة، بل يُفرض على أنه واقع يجب أن يتقبله الناس “رغماً عنهم” وأن يتعاملوا معه على أنه إنسان طبيعي لا يختلف عنك بأيّ شيء.

وهنا لا يتم الحديث عن الشهوانية التي يُغرِقُ بها هؤلاء أو من يناصرونهم، ولكن يتمُّ الحديث عن الشهوانيّة في معرض الحديث عن المسلمين، ويتمُّ على الفور استيراد مصطلحات “ملك اليمين” أو “التعدّد” أو “السبي”، ويبقى الشذوذ حريّة اختيارٍ مالم يكن اختيار الإنسان أن يُعدِّد في الزواج.

– من التناقضات أن مسألة تدريس التربية الجنسية تعتبر من المسائل التي تُطلب ويُنادى لها وبشدة، إذ لا يُعتبر مشهد فتاة عارية أمام الفتى، ولا مشهد فتى عارٍ أمام الفتاة. مما يخدش الحياة أو يؤثر على نفسية الطفل، أو يترك أثراً يمتدّ لمرحلة متقدمة في حياته، أو يحيي عند الطفل غرائز كامنة قد تتطور إلى ممارسات خاطئة جداً، كالاعتداء على طفلة في المدرسة أو أخت في المنزل.

ومع ذلك ينتقدون المجتمع المسلم، على أنه -مسبقاً- مجتمعٌ مكبوتٌ مقموعٌ جنسياً، والغريب أن مجتمعاتهم -المنفتحة- تعاني من نسب عالية في التحرّش والاعتداء الجنسي والاغتصاب.

وهنا لا تستحضر “النسوية/الفيمينيست” حملة (أنا أيضاً) -التي أظهرت كماً هائلاً من التحرش والاغتصاب والاعتداء في المجتمع الغربي- لا تُستحضر إلا على أنها حالة تتطلب المزيد والمزيد من التمكين للمرأة وإعطائها المزيد والمزيد من الحقوق. ولا يجروء يرجع أحد ليتناول المسببات التي أوصلت المرأة لهذا الاستغلال البشع، ولو في أكثر المؤسسات انفتاحاً وحريّة كهوليود!

– يتساءل الكثيرون عن جدوى الحجّ وتكاليفه وكم جائعٍ يمكن أن تطعم هذه التكاليف، ولا يتساءلون عن تكاليف إقامة حفلات الغناء، ولا اقتصاديّات مباريات كرة قدم، ولا عن تكاليف إنتاج الأفلام والمسلسلات أو الكليبات. وكذلك لا يتساءلون عن مزادات تقام لشراء لوحة فنية بملايين الدولارات، أو عن أرقام هدر مخيفة في المكياج والتجميل أو ما يُنفق على تربية الكلاب، فضلاً عن السياحة الجنسية، والسياحة التجميليّة (المرتبطة بعمليات التجميل).

فالمسائل المتعلقة بأيّ هدر أو تبذير يُتغاضى عنها، ولكن تنفتح العقيرة على المسلمين حين يؤدّون فريضة الحجّ، وطبعاً تعتبر مسائل سباق التسلح والتريليونات المنفقة عليه خارج الحساب أصلاً!

–  يعتبر هؤلاء أن زواج الثانية كارثة وجريمة، ويتحدثون عن مخاطر الزواج المبكّر، بينما لا تشكّل حالة الأمهات العازبات، ولا الأمهات الصغيرات ولا الأبوين الشواذّ، أيّة خطورة لا على المجتمع ولا الأسرة، ولا على الأطفال أنفسهم.

 فعلياً أيّة ممارسة خارج إطار (زواج) تلقى ترحيبا ورواجاً أكثر من الزواج نفسه، ويتمّ تجاهل ما يترتب على الزواج الثاني من مزايا مجتمعيّة وفردية أيضاً.

فلا بأس أن تكون المرأة “مومساً” في إطار الحديث عن الدعارة ولكن لا يمكن أن تكون “زوجةً” في إطار الحديث عن التعدد. ولذا فيمكن لوسائل الاعلام أن تتناول بصيغة لا تخلو من الترحيب أخبار زواج رجل من رجل، أو رجل من كلب، أو امرأة من أخرى، أو حتى رجل بلعبة باربي.

– وفي حين أن هذه المجتمعات وصلت بمرحلة الانتكاسة الحضارية والإنسانية لهذا المستوى فإن مجتمعنا الذي بدأ يصاب بداء النسويّة ما يزال يناقش زواج المطلّقة والأرملة من أعزب، وزواج امراة من شابٍ يصغرها سناً، أو زواج الرجل من امرأة ثانية.

وقد وصلت الانتكاسة الغربية لمرحلة خطيرة جداً حين ولد طفل من نطفة شاب وبويضة أخته، زُرعتا في رحم أمهم.

ولربما من المفاجئ أن الكنيسة المحافِظة أكثر شجاعة في الحديث عن هذه المواضيع من مجتمعنا الذي يعاني فوبيا تهمة الإرهاب التي باتت حملاً ثقيلاً نحمله على عاتقنا أينما حللنا واينما ارتحلنا، بداعٍ أو بغير داعي..

وتأتي منظمات أو ناشطات “النسويّة” لتكمل المشهد حين يُعتبر الحديث عن المرأة خطّاً أحمر لا يستطيع الرجل المساسَ به، وإلا فسيتعرّض لكيلٍ واسعٍ من التهم المعلّبة، التي ليس أولها الذكورية ولا آخرها الشهوانية.

وأختم بمشهد مظاهرة للشواذ، ظَهَرَ فيها شاذٌ يجرُّ أربعة من أصدقائه (أو ربما زوجاته) وهم يسيرون على قوائمهم الأربع مربوطين بسلاسل كالكلاب، وفي المظاهرة أطفال يتأمّلون المشهد بطفولة يبدو أنها لم تنتهك فحسب، بل مُزِّقت بكارتها مبكراً جداً.

فأيُّ أثرٍ خادشٍ تُركَ على براءة طفل أو طفلة حين يرون هذا المظهر -الخالي من كلّ عناصر الانسانية والمغرق بالشهوانية والعبودية– أنّه مظهر حضارة، وأنه حقّ يجب أن يخرجوا لأجله في مظاهرة!

يحدث هذا في زمانٍ تصبح فيه كلّ الشعائر الإسلاميّة محطّ تساؤلٍ ونقاشٍ واستغرابٍ وجدلٍ ونقدٍ لدى المسلمين أنفسهم.

لنسأل أنفسنا بعد كلّ هذه الانتكاسة الإنسانيّة التي نحن مقبلون عليها، وتدخل بيوتنا رغم أنفنا: هل مشاهدة ذبح الأضحية خطر على نفسية الأطفال؟!

الأسرة بين السلطوية والانحلال

لم نصل إلى هذه المرحلة الغريبة من الانحدار المجتمعي عن عبث، ولم نشابه أحداً في أشكال الخلل وأنواعه، والتي نرجعها في كثير من الأحوال لسوء الإدارة، أو انعدامها، لنجد مجتمعاتنا تعاني حالة من التخبط والعشوائية حتى في لحظات تحررها، فهي أمام خيارين: الخضوع للاستبداد بنظم الإدارة المتسلطة التي يفرضها، أو التحرر العشوائي الخالي من الأدوات الموصلة إلى تنظيم حر نقي بعيد عن الظلم.

لا يتعلق الأمر بالحكومات والشعوب فقط، فنظم الأسرة تعاني اختلالاً كبيراً في الموازين، وهي تخضع عادة لنظم متوارثة أو مكتسبة، فإما تسلط واستبداد لأحد الزوجين على الآخر، وما يتركه ذلك كله من آثار نفسية واجتماعية سيئة، أو غياب واضح للأدوار، وعشوائية في الحياة، وانعدام للقوانين والأنظمة، مما يدفع تلقائياً لحالة من العبثية تتبعها نتائج واضحة من غياب الحقوق والواجبات، ولنا أن نفهم أسباب ارتفاع حالات الطلاق، وزيادة الخلافات الزوجية، ولنا أن نقيس انعكاسات ذلك كله عبر بعض التحليلات النفسية على شريحة معينة من الأطفال، لنكتشف التغييب الكامل عن المعنى الحقيقي من عقد هذه الشراكة المقدسة، والتي تدعى ” الزواج”.

خاتمي زواجبالبحث ضمن شريحة مصغرة من الأشخاص الحاصلين على مساعدات نقدية بهدف تزويج الشباب، والتي تظهر كحملات في المناطق المحاصرة أو المحررة في سورية، كان المفهوم المادي هو الأكثر شيوعاً، فالزواج بالنسبة للرجل اقتران بزوجة مقبولة المعايير نسبياً، وبالنسبة للفتاة الزواج فستان زفاف وتسريحة شعر وحالة رومانسية متخيلة كعالم وردي بلا نهاية، وللأسف فإن الإحصائيات التي تتباهى بعدد الزيجات التي تمت ضمن احتفالية كبيرة يوثقها الإعلام، لا تنقل أبداً نسب الطلاق، ولا تفتش عن مصير هؤلاء الذين اقترنوا ببعضهم فقط لأن مبلغاً من المال تيسّر لشاب ما، فقرر على الفور الاقتران بفتاة ما.

قابلتُ حالات غريبة لنساء تزوجن وانفصلن عدة مرّات، وأعمارهن لم تتجاوز الثامنة والعشرين، كانت أهداف الأهل هي التخلص من إعالة الفتاة، وكانت أهداف الفتاة أن تتخلص من سلطة الأهل، وكانت أهداف العريس أن يقترن بزوجة يفرض عليها سلطته وتسلطه، وعندما لا تلبي هذه الزوجة احتياجاته فعليها مواجهة مصيرها المحتوم، وهو الطلاق.

نحن الآن في مواجهة جيل جديد، يحمل من عذابات البشرية ما لا يمكن إحصاؤه، جيل واجه الطائرات والقصف والقنص والجوع والحصار فاحتمل وصمد وواجه بشجاعة، ولكن ما يكسره حقاً أنه لا يعي كيفية التصرف أمام والدَين غاضبين، وأمام مشاهد قهر أو عنف قد يناله منها الكثير.

ما الذي قد يضطر شخصين لأن يقترنا ببعضهما؟ أهي تبادل المصلحة؟ أم الرغبة الحقيقية في شراكة متميزة؟

الشركات والمؤسسات الناجحة في عصرنا بدأت تنفي السلطوية، وتعتمد أنظمة جديدة تحفز على الاستقلال والتوافق في ذات الوقت للتحفيز على الإبداع، كما  أنها تتجه للدقة في تحديد الأدوار، وعدم إغفال المشورة والحوارات البناءة بين جميع العاملين فيها وصولاً إلى تحقيق المصلحة الأسمى في العمل، وهذه الطريقة أثبتت نجاحها وتميزها، فلماذا لا يعاد النظر في الطريقة التي تُدار فيها المؤسسات الزوجية ابتداء بالتفكير بالزواج والتأسيس وانتهاء بالتطبيق؟

لعل الخلل يكمن في الأهداف من عقد الشراكة، فإن تلاقت وتأصلت وكان الاجتماع لغاية نبيلة سامية، ومن أجل تقديم نواة صافية تضخ لمصلحة الأمة بكافة أفرادها، وتتجند ككيان متماسك من أجل خدمتها وتحقيق معنى الاستخلاف في الأرض، إن تحققت هذه النقطة في الأحلام التي تراود كل شاب عن شريكة حياته، وإن تحققت كأساس لا غنى عنه في فكر كل فتاة تحاول أن تحيا لأجل معنى حقيقي دائم لا يزول ولا ينتقص من إنسانيتها أو كرامتها، بل على العكس يكرمها ويرفع من شأنها، إن تحققت تلك الأهداف وتوافق الفكر بالفكر وتلاقت الأرواح على غاية عظيمة، فهنا يبقى من الضروري حسن الفهم والإدراك لمفهوم القوامة، لا ليتسلط أحد على أحد، ولا كي يطغى أحد على أحد، بل لأن أي سفينة تحتاج رباناً يسيرها، وانتقاء الربّان وصلاحيته يخضع لمقاييس متعددة.

 معنى القوامة
القوامة التي تتحدث عنها الآية الكريمة ضمن المؤسسة الزوجية والتي هي مهمة تكليفية للرجل في أسرته في قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} [1]هي صفة تشمل الرجال والنساء معاً، تشمل الأمة كلها خارج نطاق الأسرة، ففي الآية: {يا أَيها الذين آمنواْ كونواْ قوامِينَ بالقسط شهداء لِلّه}” [2]. وهي من صفات المؤمنين من الرجال والنساء، وتعني القيام على أمر الدين بالعدل والقسط.

أيدي حول قدمي طفل على شكل قلبالرجل قوام في أسرته على المرأة حيث يتوجب عليه تقديم المصالح المادية والمعنوية للمرأة والقيام عليها، ورعايتها وحمايتها، وسياسة الأسرة بالعدل والحق والقسط ليحقق لها بذلك الطمأنينة والسكن، وهذا بطبيعة الحال لا يطعن في صلاحية المرأة للقوامة، فهي تقوم على أسرتها في غياب زوجها، وتعمل على تأمين كل ما كان يؤمنه في حضوره، فالمسألة تراتبية إدارية حسب الأصلح والأقدر على قيادة الأسرة حسب المعطيات المتوفرة، وهي إدارة غير متسلطة ولا مستبدة بل تقوم على حسن التشاور بين الأفراد، مقترنة بالنصح والتوجيه، بلا فرض أو إرغام أو إكراه، وهي تتعلق كذلك بالقرارات التي تحتاج إلى كلمة حسم وفصل، فإن لم تؤخذ هذه الإجراءات بعين الاعتبار فإننا نصل إلى أسرة تحمل الكثير من أسباب الخلل والفشل.

وبالعودة إلى تحليل أسرنا ومجتمعاتنا الحالية الآيلة إلى الانهيار، والتي تفتقر في معظمها لأدنى مقومات الوعي، والتي تعتبر الزواج شراكة مصلحة، بين “الدمية” التي ترمز للفتاة أو الزوجة المطلوبة في عرف المجتمع، و”البنك” أو المصرف الذي يمثله الرجل أو الزوج المثالي، ووقوفاً غير مستسلمين ولا عاجزين عن التغيير، قد يتساءل أحدهم هل من الممكن انتشال الأسرة من هذا الحضيض؟ وهل بالإمكان الترميم أم أن الأوان قد فات؟

الأمر يحتاج إلى عمل على محورين، محور الوعي، والذي يتطلب أن يؤمن بأهميته كل معني بهذه القضية، فينشر رسالته في المدارس والمساجد والجامعات والمؤسسات الأهلية، ليصل إلى الطرفين، الرجل والمرأة، ليؤسس قاعدة راسخة تبين الحق دون زيف أو إسفاف.

والمحور الآخر يعتمد على التدريب، وهو يتلخص في أن تتفق الأسرة على التدرب على فهم الأدوار، وتعزيز الشورى والحوار، وتقديم المصالح العامة، وتفهم المشكلات والتفاصيل الخاصة، والتعاون للخروج من المآزق والمشكلات بوعي، وتفعيل دور القوامة دون قهر أو استبداد.

وفي النهاية تبقى الطريق طويلة نحو التغيير، لكنها مهما طالت فهي تتطلب خطوات إيجابية فاعلة من نقطة البداية، تماماً كما تحتاج مجتمعاتنا لتحقيق نماذج إيجابية متميزة وراسخة في الإنجاز والفاعلية، وللإنصاف فمجتمعاتنا لا تخلو منها، لكننا نحتاج إلى التعزيز بشكل أكبر، ونحتاج للانتشار، فنحن مكلفون بإظهار الحق، والدلالة على البدائل، وهذه البدائل مهما تشعبت بنا الطرق لا تقودنا إلا للقرآن، والقرآن حياة!


الهوامش

[1]النساء 34

[2]النساء 135

دين الدروشة أم المنهجية العلمية؟

مدهشة هي رقصة “المولوية” لكل من يتأملها، دوران منتظم على إيقاع خاص، ضمن أجواء قد تُسمى بالروحانية، أو الصوفية، أو لنقل أي مسمى آخر، المهم أنها تلخص صورة وانطباعاً عن فلسفة ما للدين، وتوصيفه بالزهد، والدروشة، والابتعاد عن جانب الحياة والعمل، والاقتصار على تزكية النفس.

هذا على الأقل هو المفهوم الذي ترسخ في الحقبة الأخيرة ضمن العقل الجمعي، ليبتعد الدين بهذه الصيغة إلى قطب بعيد عن قطب العلم والعمل، وليتخذ الأخير مساراً تائهاً عن الدين متخبطاً في افتراضات الداروينية والطبيعة وغيرها، وكأنما الدين لابد أن ينفصل عن العلم ويُختصر في طقوس وشعائر.

منذ أكثر من 1400 سنة، وعندما كان العالم غارقاً في متاهات الجهل والتغييب، إلا بقعة نور انتشرت من مكة إلى أرجاء الأرض، تأسست هناك المنهجية العلمية للعقل المسلم، وباتت أهم ثوابته، والحجر الأساس في رسوخ إيمانه، وفي صميم اعتقاده ودينه. في الحين الذي يشيع فيه الظن بأن أسس منهجية البحث العلمي ومدارسه حديثة، الأمر الذي يغيّب القواعد العلمية القوية التي بنتها المدرسة النبوية في مسيرتها القويمة لإنشاء عقول تنأى عن الظنون والشكوك، وتُبنى على الحقائق، تنفي الوهم، وتقترن بالحجج والبراهين والأدلة. مدرسة أبعدت الخرافة السائدة في الأرض دهوراً عن مدرسة الصحابة والتابعين، فلم يكن من ثمارها فقط جمع القرآن والحديث وحسب، بل بناء وتأسيس أجيال واعية فاهمة تعتمد كل الاعتماد على الدقة والموضوعية والصّدق، تماماً كما تُبنى على الجد والاجتهاد والعناء وشد الرحال من قارّة لأخرى، ومن بلاد إلى بلاد أخرى فقط من أجل التحقق من معلومة!

رقصة المولوية في تركيا

نتج عن المدرسة التي وجه إليها القرآن الكريم عبر آياته أسساً تربى عليها كل من وعى القرآن ليكون الشعلة التي تضيء العقل فتنتج منهجية تفكير واضحة، قال تعالى: “وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً” ]الإسراء: 36].

المنهجية التي تنفي التعالم، وتشجع عبارة “لا أعلم” بدلاً من القول غير المبني على حقيقة “قالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم” ]البقرة:32[.

المنهجية التي تحارب اتباع الظنون والبناء عليها، قال تعالى: “وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ” ]يونس:36[.

وقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ” [الحجرات: 6]، وهذه الآية أصْلٌ في اعتبار العدالة والضبط في الرواة، كما أنَّها دليلٌ في وجوب التبيُّن والتثبت من حقيقة خبر الفاسق.

وهي المنهجية ذاتها التي نشأ عنها علم مصطلح الحديث، وعلم الجرح والتعديل، وعلم تراجم الرجال، ليصل عبرها إلى أسس قويمة واضحة علمية ومتينة ليس في علوم الحديث فقط بل في بناء الشخصية المسلمة، هذه المنهجية العلمية هي التي استطاعت أن تنشئ الجيل الواعي الذي فتح الأرض من مشارقها إلى مغاربها، وساد العالم بالعلم والحضارة حقبة طويلة من الزمن، وبات قِبلة علمية لأمم الأرض تنهل من معينه، وتتربى على أسسه وثوابته، هي التي تثبت أن الدين هو أساس التفكير الصائب، والفكر الصحيح، ولولاه لما تكبد المسلمون الأوائل عناء البحث والترحال وبذل الوقت والجهد والنفس في سبيل تحقيقه وفق أسسه الصحيحة وهو مؤمن كل الإيمان أنه لا يقوم بهذا الدور فقط من باب الشغف العلمي وحب الاطلاع، بل لأن دينه يملي عليه هذا الواجب، وهو آثم إن لم يقم عليه بالشكل الصحيح.

اليوم ونحن نعايش ثورة العلم في أوسع أشكاله، لابد لنا من وقفة، ونحن نفكر في موقعنا من هذه الثورة، ومكاننا فيها، علينا أن نتلمس مكاننا الصحيح ونقيّم جهدنا العلمي والفكري في الحقبة الأخيرة من الزمان، لندرك أسباب تراجعنا وسيادة الأمم علينا.

فالواقع أننا عندما نزعنا عن كواهلنا عبء التفكير، وعناء بذل الجهد ومشقة التحري والبحث عن الحقيقة، وباتت تقييماتنا لكل ما حولنا تعج بالفوضى والظنون، عندما ابتعدنا عن القرآن كانت النتيجة سقوطنا في كافة المجالات للسبب ذاته.

والسنن الإلهية تقول بأننا حين نتدارك أخطاءنا فنغيّر ونُصلح، فإن دائرة الهزيمة والفشل والهوان ستضمحل، ونستعيد دورنا وفاعليتنا.

الأمر الذي يحتاج إلى جهود حثيثة في كافة الميادين والمجالات، لتحدث ثورة مختلفة، مبنية على العلم الذي شعلته الإيمان.

القوامة وظلم الزوجة

العلاقة الزوجية جملة متبادلة من الحقوق والواجبات، وهي قائمة على مبدأ الأخذ والعطاء {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} (البقرة: 228)، وهذه الدرجة (القوامة) ليست لقعود جنس النساء عن جنس الرجال، بل تفضيل متناسب مع ما أودعه الله في الرجل من استعدادات فطرية تلائم مهمته وتتناسب مع إنفاقه على الأسرة وبناء الحياة خارجها. وقوامة الرجل على المرأة والأسرة لا تعني تفرده بالقرار، فالنبي أكمل الرجال وسيدهم يستشير أم سلمة في مسألة تتعلق بالأمة، لا بالأسرة فحسب، ففي إرضاع الأولاد قال تعالى {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور} (البقرة:233)، وفي حجة الوداع وأمام جموع الصحابة وقف النبي فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: «ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» (1).

وأمر النبي بحسن العشرة للنساء والصبر على ما يصدر منهن من أذى اللسان، فإن المرأة بحسب جبلتها تأخذ حقها بلسانها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا» (2).

 ولما كانت الأسرة كسائر المؤسسات المجتمعية والاقتصادية تحتاج إلى قائد يقودها؛ فإن القرآن جعل القوامة في الأسرة للرجل دون المرأة {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} (النساء: 34)، فالآية تحدد صاحب المسؤولية الأولى في الأسرة، وهو الرجل، إذ أي مجتمع إنساني لا يخلو من قيم مسؤول يقود من تحت ولايته بما يمتاز به عن الآخرين، ككبر سنه أو امتلاكه حصة أكبر في الأسهم أو خبرة وأقدمية في العمل، لكن على كل حال لابد من وجود مدير أو مسؤول أول أو قائد لهذه المؤسسة.

وفي حالتنا هذه نحن أمام أحد خيارين: إما أن تكون المسؤولية الأولى للمرأة، أو أن تكون للرجل.

إن نظرة بسيطة تتفحص عالمنا الذي ما فتئ ينادي ويصرخ بالمساواة العمياء بين الرجل والمرأة لتكشف لنا عن حقيقة تميز الرجل عنها في مختلف بلدان الداعين إلى المساواة، لذلك أسأل القارئ الكريم: كم نسبة الوزيرات إلى الوزراء في دول العالم الذي ينادي بالمساواة بين الجنسين؟ وكم نسبة الملوك والرؤساء من النساء في تلك البلاد؟ وكم نسبة نساء الدولة والبرلمان وقادة الأحزاب إلى الرجال في هذه الدول؟!

لا ريب أننا جميعا متفقون على تقدم الرجل في كل هذا على المرأة وبفارق كبير، فكيف وقع هذا عند من يدعون المساواة؟ إن الدول الإسكندنافية حققت أعلى الأرقام العالمية في تولية المرأة مناصب قيادية، لكنها لم تتجاوز نسبة الـ30 %، لماذا؟ القرآن يجيبنا: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} (النساء: 34)، نعم لقد خلق الله الرجال لغاية، وأعطاهم من الملكات والإمكانات ما يعينهم عليها، ومن ذلك مسؤولية القيادة في الأسرة والمجتمع، لأنه مسؤول عن رعاية البيت ونفقته، فالزوجة مصانة، ليس واجبا عليها ولا مطلوبا منها أن تكدح وتشقى بالعمل لتضمن مكانا لها في بيت الزوجية، فهذا ليس من واجباتها، ولا هو متناسب مع أنوثتها وطبيعتها الحانية العاطفية التي فطرها الله عليها لتناسب مهمتها السامية في إدارة بيتها

وتربية أبنائها وإعطائهم حقهم من الحنو والرعاية «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته .. والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها» (3).

والمرأة مكفولة النفقة، أما كانت أو زوجة، أختا كانت أو ابنة «يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك» (4)، فواجب الرجل الإنفاق على الأسرة عموما، وعلى الزوجة خصوصا، ولو كانت ذات مال ووظيفة، فقد أمر النبي بذلك: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (5).

فالقوامة في الإسلام تعني حق الطاعة الواجبة على الزوجة تجاه زوجها، وهي طاعة عطاء وبذل متبادل بلا منافسة ولا شحناء، فالرجل هو القائد والمرأة مركز القيادة، دون إخلال بإنسانيتها أو كرامتها، بل إن هدف القائد رفعة المرأة سواء كانت كزوجة أو ابنة أو أم، فعليه حق العناء ولها حق الرفاهية والإعزاز، فإدارة دفة الحياة لا تصلح بقائدين متساويين، والرجل في قيادته ليس له حق الاستبداد والاستعلاء، ولكن عليه مشاورة المرأة فيما يخص الأسرة من قرارات.

وحق القوامة في الإسلام فيه كامل حماية المرأة مما يواجهها من أخطار تمس الشرف أو الكرامة أو الكبرياء، فهي جوهرة مصونة لا يعبث بها أي طامح أو طامع، فإن احتاجت التقويم والإرشاد فهناك ضمانات لعدم إهانتها أو مس كبريائها، وإن شهدت كان لها حق شهادة مع مراعاة طبيعتها كامرأة بلا نقصان في أهليتها، وإن وليت أمرا فلا بد أن يكون في حدود إمكانياتها وطاقاتها وطبيعتها حتى تفلح فيه، ولها حرية امتلاك الأموال والتصرف فيها، وحرية مفارقة الزوج إن رغبت في ذلك بالخلع فإرادتها في الإسلام كاملة، وكرامتها مصونة وهي المشاركة للرجل في شتى مناحي الحياة، وهي السكن والمودة والرحمة.

اليوم يريدون للمرأة حرية أكبر ولا طاعة للزوج ولا قوامة، ولايريدون أن يتحكّم الزوج بخروجها ودخولها وأن تعيش بصلاحيات المرأة الغربية، لكن وبنفس الوقت يريدون من الزوج أن يكون شرقيا معها، يحميها ويعطيها الحنان والأمان والمال، وأن يفني عمره عليها وعلى أولادها وألا يكون متطلّبا حين يأوي لبيته.

إن شواهد الحياة كلها تدل-عند التحقق-على أنه قد لا يسعد المرأة سعادة حقيقية أن تتساوى بالرجل في كل شيء، بل إن سعادتها الحقيقية تكمن في أن تراعي وجوه اختلافها عن الرجل سيكولوجيا، وبيولوجيا، وفسيولوجيا، ولا تكمن في أي خروج على هذه الأوجه، أو تجاهل لها. وأشير إشارات سريعة – لأسباب معروفة- إلى ما هو مشاهد ثابت من غلبة الاكتئاب المرضي، والرغبة في الانتحار -بل الإقدام عليه أحيانا- وغلبة الشقاء النفسي، والفشل في الحياة الخاصة على كثير من المتزعمات لما يطلق عليه حركات المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، في مقابل السعادة الحقيقية التي تجنيها المرأة المتوافقة في حياتها مع طبيعة الأنثى بكل صفاتها، وأبرزها ما تختلف فيه مع الرجل من تكوين نفسي، وعضوي.

يبقي أن نسأل ما هو الموجود في كتب الأخرين حول موضوع القيّم على الأسرة: وما رأيكم في قول بولس: “الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل، ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل” (كورنثوس (1) 11/ 8 – 9)، وهذا النص وأمثاله يفيد قوامة الرجل، ويفيد أيضا ما لا نقبله، ونراه إزراء بالمرأة التي لم تخلق للرجل، فهي ليست كسائر ما سخره الله لنا من متاع، بل هي كالرجل مخلوقة لعبادة الله وعمارة الأرض بمنهجه تبارك وتعالى.

لقد آمنت التوراة بضرورة قوامة الرجل على المرأة حيث فشلت المرأة في أن تكون المعين والمساعد للرجل في الجنة، فتسببت في إخراجه منها، ولذلك فله حق القيادة والرئاسة والإدارة في الدنيا والتي وصفت بلفظ ثقيل المعنى والمفهوم وهو التسلط، أي الرياسة بضغط وإكراه، وكان من حق الوالد على ابنته أن يبيعها لسداد ديونه… ومن حق الزوج على زوجته اللواط معها بدون رغبتها ومن حق الأب تزويج ابنته بدون أخذ رأى أمها… وكان من آثار هذا التسلط: عدم احتفاظ المرأة باسم عائلتها إذا تزوجت من عائلة أخرى. وعدم الحق في مباشرة إدارة الأموال إلا بوصاية زوجها.

وتؤمن المسيحية بأن العدل هو خضوع المرأة للرجل؛ لأن المساواة في الكرامة تجلب الصراع، والمرأة لا تستحقها، لأنها أساءت استخدام السلطة في الجنة فخرجت منها هي وزوجها، وعبر بولس عن خضوع المرأة للرجل وجعله كالعبادة تماما حيث قال: 22 أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب، 23 لأن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضا رأس الكنيسة. (أفسس 5: 22، 23).

كما يقول: رأس المرأة هو الرجل. (كورنثوس 11: 3).

ونتج عن هذا التسلط عدة أحكام مجحفة بالمرأة منها:

أ – لا ينبغي أن تكون المرأة معلمة للرجل.

ب – الصمت في الكنيسة وعدم الكلام نهائيا.

جـ – تحريم عملها كداعية دينية أو العمل الكهنوتي بالكنيسة.

د – عدم حقها في الاستقلال بذمتها المالية ومزاولة أعمال التجارة والتصرفات المالية.


الهوامش

(1) أخرجه الترمذي ح (1163)، وابن ماجه ح (1851).

(2) أخرجه البخاري ح (3331)، ومسلم ح (1468).

(3) أخرجه البخاري ح (893)، ومسلم ح (1829).

(4) أخرجه النسائي ح (2532)، وأحمد ح (7065).

(5) أخرجه مسلم ح (1218).

الحور العين.. هل هي للرجال في الجنة دون النساء؟ (2 من 2)

كنا نتسائل حيث وقفنا آخر مرة: ما دام القرآن قد فصل في نعيم الرجل والحور العين فلماذا لم يبدد على الأقل مخاوف الغيرة عند المرأة حيال ذلك بشكل صريح؟ ألِأنَ النساء كن معتادات على التعدد فيما مضى؟ وهاجس الغيرة هذا لم يكن ليطرق انتباههن كما يطرق انتباه النساء اليوم؟ أم أن “الحور العين” هن نساء الدنيا المؤمنات أنفسهن؟ وهل قصّر الإسلام في بشرى المرأة حقا إذا لم يكن قد قصّر في ثوابها؟

عُرفت المرأة الحوراء بجمالها عند العرب، وتغزلوا بها في أشعارهم، كما في الأمثلة التالية:

وتصدَّفَتْ حتَّى اسْتَبَتْكَ بواضِحٍ       صَلْتٍ كمُنْتَصِبِ الغَزَالِ الأَتْلَعِ

وبِمُقَلتَيْ حَوْرَاءَ تَحْسِبُ طَرْفَها          وَسْنَانَ حُرَّةِ مُسْتَهَلِّ الأَدْمُعُ 

[المفضليات، ٤٤]

إِنَ العُيُونَ الَتي فِي طَرفِهَا حَوَرٌ           قَـتَلْننا ثُـَّم لَمْ يُحيِينَ قَتلَانا     

[الحماسة البصرية، ٨٤]

وَعِنْدَنَا قَيِّنَةٌ بَيْضَاءُ ناعِمَة ٌ          مِثْلُ المَهَاةِ مِنَ الْحُورِ الْخَراعِيبِ   

تجري السّواكَ على غرٍّ مفلَّجةٍ       لم يَغذُها دَنسُ تحتَ الجلابيبِ

[المفضليات، ١٢٠]

أَوَانِسَ وُضَّحِ الأَجْيَادِ عِين ٍ      ترى مِنهُنَّ في المُقَلِ احوِرارا 

  كأنَّ حِجالَهنَّ أَوَتْ إليها            ظِبَاءُ الرَّمْلِ بَاشَرْنَ الْمَغَارَا     

[ديوان ذي الرمة، ١٣٧٣]

في القرآن الكريم  ورد ذكر “الحور” صراحةً في بضع آيات: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: ٢٠]، {وَحُورٌ عِين* كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: ٢٢-٢٣]، {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: ٧٢].

وورد في آيات أخرى ما قد يشمل وصف “الحور العين” وسواهن من نساء الجنة: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * َفجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا *عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: ٣٥-٣٧]، {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ: ٣١-٣٣].

وما روي في الصحيحين من أحاديث لا يتطرق إلى “الحور” بهذا اللفظ صراحةً، إلا حديث “أول زمرة” الذي روي أحيانا بتخصيص الزوجات من “الحور العين” وأحيانا أخرى على الإطلاق من غير تخصيص:

حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه: “إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى أَضْوَإِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ” [البخاري ٣٢٤٥، مسلم ٢٨٣٤].

حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: “لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ غَدْوَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ، أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ، يَعْنِي سَوْطَهُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا” [البخاري، ٢٧٩٦].

حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه: “إِنَّ للْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمةً مِنْ لُؤْلُؤةٍ وَاحِدةٍ مُجوَّفَةٍ طُولُهَا في السَّماءِ سِتُّونَ مِيلاً. للْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلاَ يَرى بعْضُهُمْ بَعْضاً”. [البخاري، ٣٢٤٣]، [مسلم، ٢٨٣٨].

يقول ابن قيم الجوزية في كتابه بعدما أورد جملة من أقوال المفسرين: “والحَوَر في العين: معنى يلتئم من حسن البياض والسواد وتناسبهما، واكتساب كل منهما الحسن من الآخر. وعينٌ حوراء: إذا اشتد بياض أبيضها وسواد أسودها، ولا تسمى المرأة حوراء حتى تكون مع حور عينها بيضاء لون الجسد. والعِيْنُ: جمع عيناء، وهي العظيمة العين من النساء. ورجل أعين: إذا كان ضخم العين. وامرأة عيناء، والجمع عِيْنٌ”.[حادي الأرواح، ٤٧٦]

بالنظر إلى الآيات الكريمة والأحاديث المروية في الصحيحين لا يظهر لنا ما يجزم بأن “الحور العين” جنس آخر في خلقهن، وأن لا حور عين (في وصفهن) من نساء الدنيا في الجنة، إلا أن حديثا رواه الإمام أحمد (22101)، والترمذي (1174)، وابن ماجة (2014)، وهو إن لم ينفِ صفة الحور العين بالإنسيات بعد إنشائهن في الجنة فهو على الأقل يؤكد أن هناك جنس آخر من النساء خلق في الجنة، وهن حينئذ “حور عين” أصلاً وليس إنشاءً بعد خلق آخر.. “لَا تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ: لَا تُؤْذِيهِ قَاتَلَكِ اللهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكِ دَخِيلٌ يُوشِكُ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا”.

 وإن سلمنا نحن النساء بوجود الحور العين كجنس آخر غير جنس الإنسيات إلا أن سؤال أيهن الأحسن والأعلى منزلة يظل يشغل الكثيرات.

في سورة الرحمن ذُكٍرَت الحور جزاءً لأصحاب الجنتين الأدنى صراحةً وذُكٍرَت “خَيِّرَاتٌ حِسَان” بحق أصحاب الجنتين الأُوَل، ولكن الأمر في الواقعة على خلاف ذلك إذ جاء ذكر الحور صراحةً جزاءً بحق “السابقون”، ثم جاءت {إنا أنشأناهن إنشاءً} عطفا على الفرش المرفوعة كناية عن النساء دون ذكر لفظ الحور صراحةً بحق “أصحاب اليمين”.

بعض المفسرين رجحوا أن الإنشاء الذي ورد في الآية سيكون في حق نساء الدنيا، وبعضهم قالوا يقصد بها الحور اللاتي خلقن في الجنة. يقول القرطبي: “إنا أنشأناهن إنشاء أي خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا، وقد قال تعالى: هن لباس لكم. ثم قيل: على هذا هن الحور العين، أي خلقناهن من غير ولادة. وقيل: المراد نساء بني آدم، أي خلقناهن خلقا جديدا وهو الإعادة، أي أعدناهن إلى حال الشباب وكمال الجمال. والمعنى أنشأنا العجوز والصبية إنشاء واحدا، وأضمرن ولم يتقدم ذكرهن، لأنهن قد دخلن في أصحاب اليمين، ولأن الفرش كناية عن النساء كما تقدم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: إنا أنشأناهن إنشاء قال : منهن البكر والثيب”.  [تفسير القرطبي، ١٧/ ٢١٠].

وعندما يرد في سورة الرحمن لفظ “حور” في الجنتين الأدنى ولا يرد في الأُوَل يتبادر إلى الذهن أن نساء الدنيا المؤمنات قد يكن المقصودات في الأُوَل، وأنهن قد يكن بدليل ذلك أفضل من الحور اللاتي خلقن في الجنة لأصحاب الجنتين الأدنى؛ فهن أهل هذه الدرجات بفضل طاعتهن في الدنيا وهن اللاتي يجازى بهن أصحاب الجنتين الأعلى منزلة وفقاً لهذا الإستدلال، والحديث الذي رواه الطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها في المعجم الكبير(23/ 367) يدعم هذا الاستدلال إلا أن العلماء ضعفوا هذا الحديث، وفي الوقت ذاته لم ترد أحاديث صحيحة تنفي ذلك أو تثبت عكسه.

يقول ابن كثير: “ثم قال: (حور مقصورات في الخيام)، وهناك قال: (فيهن قاصرات الطرف)، ولا شك أن التي قد قَصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصرت، وإن كان الجميع مخدرات”. [تفسير ابن كثير، ٤/٢٨٠]

أما القرطبي فيقول: “وقال في الأوليين: فيهن قاصرات الطرف. قصرن طرفهن على الأزواج ولم يذكر أنهن مقصورات، فدّل على أن المقصورات أعلى وأفضل”. [تفسير القرطبي، 17/ ١٨٩]

والجدير بالذكر كذلك أن بعض المفسرين قالوا بأنهن أربع جنات جميعا لمن خاف مقام ربه، وأن نعيمه حينئذ على صنفين من الجنان المختلفة في ألوان نعيمها، ومنهم الصحابي ابن عباس رضي الله عنه، وإن كان رأي أكثر المفسرين أن من خاف مقام ربه على مراتب وأن الجنتين الأوليين للمحسنين، والتي من دونهما لمن هم أدنى منهم مرتبة في الخوف من الله.

يقول القرطبي: “قوله تعالى: ومن دونهما جنتان أي وله من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان. قال ابن عباس: ومن دونهما في الدرج. ابن زيد: ومن دونهما في الفضل. ابن عباس: والجنات لمن خاف مقام ربه، فيكون في الأوليين النخل والشجر، وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط”.   [تفسير القرطبي، 17/ ١٨٣]

هذا الإبهام الذي يحيط بالمسألة قد يكون مقصودا لحكمة، وقد يعني أن من حور الجنة من قد تفوق نساء الدنيا بحسنها، وأن من نساء الدنيا كذلك من قد تفوق حور الجنة في حسنها، وأن الرجل قد يُجزى بكليهما في الوقت نفسه، وأن الأفضلية بالتالي متفاوتة حسب العمل في الدنيا.. عمل المرأة، وعمل الرجل الذي يستحق أن يُجزى بها.

ولكن ماذا إذا عرفنا أن الشهيد -الذي لا يفوق منزلته عند الله إلا الأنبياء- يُجزى باثنتين وسبعين من “الحور العين” في الأحاديث الصحيحة؟

“لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ ” [الترمذي، ١٦٦٣]،[ابن ماجه، 2799] .

وعلى كل حال إن ذلك لا ينفي أن تكون تلك الحور من الإنسيات المنشآت في الجنة على الهيئة التي وردت في سورة الواقعة، ولا ينفي أن الشهيد قد يُجزى بإنسيات كذلك لو سلمنا بأن الاثنتين والسبعين ما هن إلا حور عين خُلقن في الجنة ولسن إنسيات من بعد الإنشاء في الجنة، ولا يعني بالضرورة أنهن أجمل وأعلى منزلة من الإنسيات (يعني كثرتهن لا تعني بالضرورة أنهن الأجمل والأحسن)، وتعدد الزوجات إلى هذا الحد ما دُمن “حور عين” في وصفهن سواء كن انسيات أُو غير ذلك هو منتهى النعيم بحق الشهيد هنا والله أعلم.

إن النظر إلى ظاهر النصوص نظرة صفراء يلقي بنا في غياهب التخبط عند أول شبهة، ولكن إذا ما أزلنا الغشاوة ونظرنا بعين المؤمن المتدبر الواثق بعدل الله الذي يطلب الحق ويرجو الفهم لا عين التهويل والتشنيع والتشنج، وجدنا أن نعيم الرجل كما أنه لا بد حاصل بتنعم المرأة فنعيمها كذلك حاصل بتنعمه، وإلا فهل يستطيع أحد أن يزعم بأن جمال المرأة مكافأة للرجل وحده؟! ماذا عن المرأة نفسها التي بدت بالإنشاء جميلة إلى ذاك الحد؟! أليس هذا نعيما في حقها؟! أويزعم أحد أن اللذة الجنسية حينئذ لذة خالصة للرجل لا تصيب المرأة منها شيئا؟!

قال تعالى: (وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هَـَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 25]

يقول ابن قيم الجوزية في حادي الأرواح :”جمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات وما فيها من الأنهار والثمار ونعيم النفس بالأزواج المطهرة ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه، والأزواج جمع زوج والمرأة زوج للرجل وهو زوجها هذا هو الأفصح وهو لغة قريش وبها نزل القرآن كقوله تعالى: (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ) [البقرة: 35] ومن العرب من يقول زوجة وهو نادر لا يكادون يقولونه”.[حادي الأرواح، ٤٧٠]

فإذا كنا نتربص بأي حديث مهما بلغت درجة صحته لننطلق منه في إثارة الشبهات التي تدعي مبالغة الإسلام في تنعيم الرجل وبشرى تنعيمه ذاك على حساب المرأة، فلماذا لا نأخذ بباقي الأحاديث التي لا تختلف في مدى صحتها؟! فهناك الأحاديث التي تطرقت للصورة التي يُبعث عليها الرجل في الجنة “على حُسن يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين، وعلى لسان محمد جرداً مرداً مكحلين”، أو لنكمل على الأقل قراءة تلك الأحاديث التي يظهر فيها الرجل غارقا في النعيم إلى آخرها، الى الجزء الذي يظهر فيه رضا المرأة وتنعمها؛ كالحديث الذي عرف بحديث الصور الطويل الذي تفرد بروايته إسماعيل بن رافع والذي جاء في قطعة منه: “كلما جاء واحدة قالت: والله ما في الجنة شيء أحسن منك، وما في الجنة شيء أحب إلي منك”، فإن لم يكن هذا ليدل على موت الغيرة في الجنة، أفلا يدل على مدى غبطة المرأة وسعادتها بنعيمها؟! وربما هي من النعيم بحيث لا تحس بمن يرادفها من الحور العين أو الإنسيات بدليل الآية: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ..} وبدليل الحديث الذي روي في الصحيحين والذي يتضح منه انتفاء أسباب الغيرة والغل: “إِنَّ للْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمةً مِنْ لُؤْلُؤةٍ وَاحِدةٍ مُجوَّفَةٍ طُولُهَا في السَّماءِ سِتُّونَ مِيلاً. للْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلاَ يَرى بعْضُهُمْ بَعْضا” ، وهناك الأحاديث التي تشير إلى تجدد العذرية وبالتالي خلود اللذة التامة التي تتجدد لكل من الرجل والمرأة على السواء بالإنشاء الذي لا ينتهي حينئذ.

إن الآيات الكريمة والأحاديث المروية في الصحيحين التي بشرت المؤمنين بعمومهم ذكرانا وإناثا بنعيم الجنة، وأصناف هذا النعيم ووجوهه التي لا تخطر على قلب بشر أكثر بكثير من تلك التي اختصت بذكر النعيم الجنسي على وجه خاص؛ النعيم المحسوب على الرجل وحده في أخلاق النسوية وأخلاق إنسان هذا العصر الذي ينتحل الطهورية دائما في مواجهة الإسلام!

إن الأوصاف الجسدية تشد انتباه الرجل(البصري بطبيعته) للمرأة، ولكنها في الوقت ذاته تشد انتباه المرأة نفسها أيضا للشعور بمدى الوضاءة والجمال وكل آثار النعيم الذي تُبعث عليه في الجنة، وكذلك يفعل ذكر الأوصاف الخُلقية اللطيفة وسيماء العذارى من قصر الطرف وقصر النفس وحسن التبعل والتحبب؛ وإذا عرفنا أن الإنسيات قد يكن مشمولات بتلك الأوصاف بفضل طاعتهن في الدنيا فالبشرى والترغيب حينئذ في حق المرأة والرجل كليهما. 

وإذا لم تجزم الأحاديث والآيات الكريمة بجنس الحور اللاتي يجازى بهن الرجال (إنسيات أو غيرهن) في الجنة كما سبق، ولم تجزم بعددهن كذلك، ولم تجزم بالأفضلية بينهن؛ ففي ذلك كله ابتلاء للرجل أيضا وليس للمرأة فحسب، وحقيقة ذلك لا تظهر إلا في الجنة وتبقى رهن العمل في الدنيا.. عمل المرأة، وعمل الرجل الذي يستحق أن يُجزى بها.

وإن انتفت الغيرة في الجنة وانتفت أسبابها إلا أنها موجودة في الدنيا وحاضرة بقوة لدى النساء؛ تدفعهن دائما نحو التساؤل: من الأحسن والأجمل والأعلى منزلة؟ نحن، أم “الحور العين” اللاتي خلقن في الجنة؟ أما المرأة الشقية فهي التي يُقعدها سخط التساؤل عن التدبر والعمل!

“حور عين”.. نعيم على قدر الابتلاء 

ولأن الافتتان بالنساء من أعظم الفتن التي تعترض الرجل في الدنيا؛ كان النعيم الذي يعد الله به الرجل في الجنة من جنس الفتنة التي ابتلاه بها في الدنيا، ولا عجب حينئذ أن تكون البشرى على قدر التكليف، وعلى قدر الابتلاء والجهاد الذي يبذله الرجل وهو يقهر شهوته العنيفة إزاء فتنة فتّاكة كتلك. 

يقول تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: ١٤]، يقول ابن كثير في الآية: “يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح أنه عليه السلام قال: “ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء” [تفسير ابن كثير، ١/٣٥١] .  

وإن كان القرآن قد أسهب حقا في الحديث عن بشرى الرجل ونعيمه في الجنة في بضع آيات معدودات؛ فما نظن ذلك إلا لأن سعيه وجهاده وتكليفه في الدنيا أشد، بدليل تعين الشقاء على أبينا آدم (الرجل الأول) في خطاب الله له: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: ١١٧]، وأن هذا الإسهاب الذي تغبطه المرأة إياه إنما جاء لمواساته وتعزيته بثواب الآخرة وتثبيته. 

يقول القرطبي: “(فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما) نهي؛ ومجازه: لا تقبلا منه فيكون ذلك سببا لخروجكما من الجنة (فتشقى) يعني أنت وزوجك لأنهما في استواء العلة واحد؛ ولم يقل: فتشقيا لان المعنى معروف، وآدم عليه السلام هو المخاطب، وهو المقصود. وأيضا لما كان الكادّ عليها والكاسب لها كان بالشقاء أخص.

وقيل: الاخراج واقع عليهما والشقاوة على آدم وحده، وهو شقاوة البدن؛ ألا ترى أنه عقبه بقوله: “إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى” أي في الجنة “وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى” فأعلمه أن له في الجنة هذا كله: الكسوة والطعام والشراب والمسكن، وأنك إن ضيعت الوصية، وأطعت العدو أخرجكما من الجنة فشقيت تعبا ونصبا، أي جعت وعريت وظمئت وأصابتك الشمس، لأنك ترد إلى الأرض إذا أخرجت من الجنة. وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيان: يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج” [تفسير القرطبي، ١١/٢٥٢- ٢٥٣].

 وفي تفسير البغوي: “(فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك) حواء، (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) يعني تتعب وتنصب ويكون عيشك من كد يمينك بعرق جبينك، قال السدي: يعني الحرث والزرع والحصيد والطحن والخبز، وعن سعيد بن جبير: قال أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فذلك شقاؤه، ولم يقل “فتشقيا” رجوعا به إلى آدم لأن تعبه أكثر فإن الرجل هو الساعي على زوجته، وقيل لأجل رؤوس الآي” [تفسير البغوي، ٣/ ٢٣٣] . 

قال الطبري: “وقال تعالى ذكره: (فتشقى) ولم يقل: فتشقيا، وقد قال: (فلا يخرجنكما) لأن ابتداء الخطاب من الله كان لآدم عليه السلام، فكان في إعلامه العقوبة على معصيته إياه، فيما نهاه عنه من أكل الشجرة الكفاية من ذكر المرأة، إذ كان معلوما أن حكمها في ذلك حكمه، كما قال: (عن اليمين وعن الشمال قعيد) اجتزئ بمعرفة السامعين معناه، من ذكر فعل صاحبه” [جامع البيان، ١٦/٢٧٥-٢٧٦]؛ إذ لا شك أنه لا بد يطولها من الشقاء بشقاء زوجها، ويطولها شقاء تكليفها الخاص كامرأة، ولكن الشقاء هنا كأنما هو شقاء القوامة؛ شقاء الكدح والسعي ومكابدة الصعاب في الخارج، أما المرأة فكأنما خلقت للإيناس وإذهاب الحزن والتعب الذي يتركه هذا الكدح والشقاء بما تملك من رِقَّة في الإحساس، وهَبَّة في العاطفة، وعمق في الاحتواء، فإذا هي “حوّاء” في صيغة مبالغة إنما تدل على مدى احترافها بالفطرة ومهارتها في ذلك إن شاءت.. فكان تكليفها من جنس ما تطيق.

وبما أن الرجل كان الأولى بالشقاء في الدنيا فمن العدل أن يكون الأولى بالنعيم في الآخرة، والأولى ببشرى النعيم في الجنة، فما ضير المرأة حينئذ إذا حل نعيمها وتم وكمل بنعيمه؟ وما هو وجه اعتراضها؟ هل حسد وغيرة من الرجل فوق الغيرة عليه؟! 

بل ما ضير النسويات اللاتي يستكثرن على الشهيد الذي بذل روحه ودمه وباع نفسه لبارئها فضل الله عليه؟ أتظن إحداهن أنها ستكون من بين الاثنتين والسبعين اللاتي يجزى بهن راغمة؟! أم تظن أنها ستقدر على تحريض الحور اللاتي لم يخلقن إلا من أجل الرجل لقاء طاعته في الدنيا؟

أم هو حنقها حين تضطرها الحضارة الجاحدة والمجتمع الذي تنكر للشريعة -التي تضمن لها الحق في أن تكون امرأة فحسب- لتكابد أعباء الرجال التي لا تطيقها فوق أعبائها كامرأة؟

إن “الحضارة” التي تستدرجها بطُعم “المساواة” هي المسؤولة عن هذا الاختلال الذي وقعت في دوامته. إن حنقها حينئذ لا ينبغي أن ينصب على الإسلام إلا إذا تمكن دعاة “الحضارة” و”المساواة” من تضليلها وسلخها عن فطرتها وتقديم الإسلام على أنه السبب في كل ما تكابده؛ وأن الكفر به جملةً أو بالتجزئة هو السبيل إلى تحررها حينئذ.

يقول تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه} [النساء: ٣٢]، والمفارقة هنا في أن سبب نزول الآية جاء جوابا على مطالبة الصحابيات بمساواتهن مع الرجال في التكليف لما علمنه من فضل هذا التكليف، ولكن أكثر النساء اللاتي يستكثرن اليوم فضل الله على الرجل المؤمن في الآخرة لا يشغلهن استيعاب فضل ذاك التكليف ولا يعترفن به؛ إنما تشغلهن المطالبة بمساواة الجزاء فقط! 

ومن رحمة الله وفضله أنه تعالى يجمع بين العبد الصالح وأهليه في الجنة لتقر عينه؛ فيصيبهم جزاء عمله الصالح وإن أبطأت بهم أعمالهم وكانوا أدنى منه منزلة في الجنة. قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23]، وقوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: ٧٠].

 قال ابن كثير: “وقوله تعالى: (ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) أي: يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين؛ لتقر أعينهم بهم، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته، بل امتنانا من الله وإحسانا، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور:21] ” .[تفسير القرآن العظيم، ٤/٤٥١]، وقال ابن عاشور:” في هذه الآية بشرى لمن كان له سلف صالح، أو خلف صالح، أو زوج صالح، ممن تحققت فيهم هذه الصِّلات، أنه إذا صار إلى الجنة لحق بصالح أصوله أو فروعه أو زوجه، وما ذكر الله هذا إلا لهذه البشرى” [التحرير والتنوير، 13/131]. 

فإذا كان الله تعالى قد وعد عباده رجالا ونساء بالرضى وبقرار الأعين في الجنة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: ٩٧]، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: ٤٠]، {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض} [آل عمران: ١٩٥]، فمن المتضرر بعدئذ؟! 

لا أحد.. سوى إبليس الذي راهن على إغوائنا من أجل أن يحاجج الله تعالى في معصيته يوم القيامة.

الحور العين.. هل هي للرجال في الجنة دون النساء؟ (1 من 2)

ما نصيب المرأة من الجنس في الجنة؟ أليس لها في الجنة فحول كما للرجل حور عين؟ أَولم يُذكر في القرآن نفسه الذي يوجه الكلام لكلا الجنسين، ولا يفرق بين ذكر وأنثى في التكليف والجزاء في أكثر من موضع أن {لهم ما يشاءون}؟ 

أسئلة كثيرة قد تدور في أذهان بعض النساء، الفتيات المراهقات، ومن تأخر زواجهن، واللاتي فاتهن “قطار الزواج”؛ والمتزوجات، واللاتي عدد عليهن أزواجهن على حد سواء. واليوم يطرح أنصار النسوية ودعاة “المساواة” و”تحرير المرأة” وحتى الشواذ ربما الأسئلة نفسها مستغلين هذا الجهل البريء ولكن بنبرة غير بريئة، هي نبرة الردح والتشنيع زاعمين الوقوف في صف المرأة، المرأة التي يدّعون أن الإسلام يمارس الاضطهاد والتمييز بحقها حتى في الجنة التي وعدت بها كجزاء أخروي لقاء طاعتها في الدنيا، بل هي نبرة التحريض وربما الشماتة بالمرأة المغرر بها في رأيهم، “الواهمة” التي تتبع تعاليم الدين.

إذا تأملنا جيدا ما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة في وصف الجنة ونعيمها، نجد أن ما يتحقق لنا في الآخرة إنما هو من جنس ما نتمناه ونشتهيه في الدنيا بغرائزنا الفطرية الخام التي ركبها الله فينا؛ قبل أن تمسخها دعوات “الحرية” و”المساواة” الآلية وأحيانا دوافع الانتقام الساذجة من الجنس الآخر؛ وليس ما نشتهيه بطارئ الشذوذ الذي قد يصيب البشر حين يهبط بهم الشيطان إلى مستويات لا تصل اليها الحيوانات في سبيل إبعادهم عن الجنة، ومحاججة الله يوم القيامة بقدرته على إغوائهم لمعصيته كما أغوى أبويهم من قبل، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: ٦٢].

تبدو أكثر الأسئلة التي تستنكر وجود الحور العين وارتباطها بنعيم الرجال في الجنة وكأنها تنطلق من النظر إلى الرجل والمرأة بالمفهوم الجندري؛ المفهوم الذي خرج من رحم “الحداثة” ودعاوى “المساواة” و”تحرير المرأة” مما يدعي دعاة “الحضارة” أنها مجرد قوالب وضعية؛ فرضتها العادات والتقاليد وأعراف “البداوة” في المجتمعات الصحراوية القاحلة المتخلفة النائية عن السياق الحضاري الإنساني في حقب الزمان القديمة؛ المفهوم الحضاري “المدني” الذي يحاول تزييف الحقائق وطمس الفطرة؛ ولا يفهم عمق الإختلاف بين طبيعة الرجل وطبيعة المرأة.. وعى السائلون حقيقة ذلك أم لم يعوه.

فهل تشتهي المرأة الطبيعية الارتماء كل دقيقة في حضن رجل؟!  أم هو عمق الإندماج والانصهار والتوغل في حب رجل واحد تراهن على استئثاره بكل الحب الذي تبرع به؟  حب حصري ومكثف أكثر ما يثيره هو قوامة هذا الرجل وغيرة هذا الرجل في ألا يشاركه فيها أحد.. هو منتهى اللذة والنعيم عند المرأة الخام.

بينما يتمنى الكثير من الرجال لو أن بإمكانهم التعدد بعيدا عن ضوابط التعدد المرهقة بالنسبة لهم؛ تلك الضوابط التي تموت في الجنة ويتحقق للرجل ما كان يشتهيه دون عناء التكليف ومشقة المسؤولية، دون ضرائب ودون نساء ينتحبن بقلوبهن المنكسرة.

قد تجد المرأة نفسها مضطرة إلى التفكير برجل آخر يشبع حاجاتها العاطفية والجنسية إذا ابتليت بزوج لا يحقق لها ذلك، وفي أسوأ الحالات قد تجد امرأة راضية عن زوجها جنسيا وعاطفيا وكل شيء، إنما يعجبها ذقن ذاك وعضلات هذا؛ شاعرية ذاك وعقلانية هذا، ولكنها إذا تمنت فهي تتمنى رجلا واحدا تجد عنده كل هذه المزايا التي تثير اهتمامها، ويكون هذا منتهى الأمنيات عند امرأة ناضجة نفسيا وجنسيا، صحيحة ومعافاة من علل “المساواة” البلهاء وإنفلونزا “التحرر”.

على العكس من المرأة يبدو منتهى اللذة عند الرجل في أن يكون بطلا، أن يشعر بأكبر قدر من الاحتياج إليه، أن يمارس القوامة بأبعادها الجسدية والنفسية عند أكبر قدر ممكن من النساء، إلا أن الإسلام عندما جاء ووجد عند العرب عادة الاستكثار من النساء إلى حد غير أخلاقي، يخل بتوازن المجتمع ويبخس النساء حقوقهن ويجعل المرأة كالعبد الذي لا يملك حتى كرامته؛ قنن هذه الغريزة وهذبها بأن أباح للرجل أن يعدد إلى أربعة نساء إذا ملك القدرة في أداء ما عليه والقدرة في العدل، بل إن ضوابط التعدد بحد ذاتها كوابح تهذب تلك الغريزة وتضفي عليها طابع المسؤولية، وكأن أي زيادة في تحقيق تلك الشهوة في الدنيا مرهونة بمزيد من المسؤولية، إذ يبدو الأمر كضريبة يفرضها الإسلام على الاستزادة من شهوة جُعل أقصى نعيم الجنة (بعد رؤية وجهه تعالى) من جنسها، فمن أراد الإستعجال والاستزادة منها في الدنيا فكأنما عليه أن يتحمل تبعات ذلك. 

الحور العين
الإسلام دين العفة والطهارة في الدنيا، وهو كذلك في الآخرة لا يقلب الصورة ١٨٠ درجة -كما يرى البعض- أو بالأحرى كما يراد لهم أن يروا.

صحيح أن النعيم الجنسي في الجنة متاح على صورة لا مثيل لها، ولا حد له يخطر على قلب بشر كسائر ألوان النعيم حينئذ؛ ولكن هذا لا يعني أن في الجنة إباحية وانحلال، لا يمكن أن يخطر هذا إلا في خيال ضحايا النسوية التي لا تريهم إلا ما ترى، وخيال الذين نُكِبوا في فطرتهم فصاروا يرون الاباحية على أنها منتهى النعيم في الدنيا وفي الآخرة حتى (إن كان منهم من يؤمن باليوم الآخر)، فالإسلام حينئذ مُدان عندهم بالتناقض، وربما هو مدان بالتناقض في تصورهم إذ هو يُحَّرِم على الإنسان الإباحية في الدنيا أكثر من كونه يبيحها في الآخرة(حسب ظنهم)، قد سلبتهم غمرة احتفائهم بالعقل نعمة الاحتفاء بالفطرة وجعلتهم محرومين من استيعاب ما يعد الله به المؤمنين بمقتضى تلك الفطرة التي أجهز عليها مبضع”الحضارة”، عاجزون عن فهم أن لا شيء في الجنة اسمه تمني ما ليس في اليد، وأن كل ما تشتهيه النفس مسخر هناك بطرفة عين وبلا أدنى جهد. 

في الجنة لا ينزو الرجل على حور جاره، “إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ، فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا” [البخاري، ٣٢٤٣]، [مسلم، ٢٨٣٨]؛ إذ أن أهل الخيمة الواحدة من النعيم بحيث لا يرى بعضهم بعضا!

في الجنة يتقلب الرجل المطهر وأزواجه المطهرة في النعيم، كلٌ مشغول متقلب في نعيمه المطهر، {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: ٥٥-٥٦].

 نساء الجنة “قاصرات الطرف”، يقول ابن كثير: “والمفسرون كلهم على أن المعنى: قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يطمحن إلى غيرهم. وقيل قصرن طرف أزواجهن عليهن فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن” [حادي الأرواح: ٤٧٩]، وقيل قاصرات الطرف كناية عن الغنج والدلال وحياء العذارى، و”مقصورات” في خيام اللؤلؤ، وقيل: “لا يلزم من ذلك أنهن لا يفارقن الخيام إلى الغرف والبساتين، كما أن نساء الملوك وذويهم من النساء المخدرات المصونات لا يمتنع أن يخرجن في سفر وغيره إلى متنزه وبستان ونحوه” [حادي الأرواح: ٤٨٧].

فالفطرة إذن لا تذبح في اليوم الآخر كما يذبح الموت بسكين الخلود، وكأن الذين احتفوا في الدنيا بنعمة الفطرة إنما بها يستشعرون نعيم الجنة، ويستلذون بمجساتها التي بقيت سليمة صحيحة معافاة لم تعطبها الابتلاءات في الدنيا، ماتت الإبتلاءات وخُلِّدَت الفطرة وخُلِّدَ نعيمها، خُلِّدَ الحياء.. حياء الأبكار الذي يحترق على مهل في أفئدة إنما هي المصابيح في وضاءتها، ولعل الأفئدة تُرى هناك في وجه آخر من وجوه اللذة، ويُرى خفقانها واضطرابها للقاء الحبيب. 

الغيرة والنعيم.. هل يجتمعان؟!
 إن المرأة تحب أن تستأثر بزوجها في الجنة كما تحب ذلك في الدنيا، ولكن وجود حور عين أو زوجات أخريات ينغص عليها متعة ذلك، بينما الأصل في الجنة انها دار منتهى المتعة وموت الحزن. فأين النعيم الذي يعد الله به المرأة إذا كان هناك من يشاركنها في زوجها؟

إذا نظرنا نحن النساء بعيوننا وقلوبنا الدنيوية التي إنما خلقت لنبصر بها عالم الدنيا نظن أن الأمر لا يمكنه أن يكون إلا بهذه الصورة هناك في الجنة، لا نستطيع استيعاب سيناريو آخر، ونحن إذ ننظر هذه النظرة نجد أن الأمر مؤلم حقا، وأن هذا ليس هو النعيم الذي تستحقه المؤمنات القانتات الطاهرات لقاء طاعتهن في الدنيا، ولكننا في الحقيقة لا نملك عيون الجنة وقلوب الجنة لننظر بها إلى عالم الآخرة، لا نملك معرفة أنفسنا هناك حتى ولا نملك تصورات يقينية يمكن الجزم بها حول أحوالنا في الجنة.

إن الأنفس والأجساد تتبدل في الجنة فلا تعود على ما كانت عليه في الدنيا {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا *عُرُبًا أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة،٣٥-٣٧]؛ هذا بقول أكثر المفسرين. وفي الحديث المرسل الذي رواه الترمذي في الشمائل عن الحسن البصري.. “قال: أَتَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ: ” يَا أُمَّ فُلانٍ، إِنَّ الْجَنَّةَ لا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ”، قَالَ: فَوَلَّتْ تَبْكِي, فَقَالَ: “أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى, يَقُولُ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا *عُرُبًا أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} سورة الواقعة آية ٣٥-٣٧” [الشمائل المحمدية، ٢٣٣] .

وفي حديث مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ جُرْدًا، مُرْدًا، مُكَحَّلِينَ، أَبْنَاءَ ثَلاَثِينَ أَوْ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً ” [الترمذي، ٢٥٤٥] ،[المسند،١٣/٣١٥].  

أما دليله في الصحيحين حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ” [البخاري، ٦٢٢٧]، [مسلم، ٢٨٣٤].

لا غل في الجنة ولا حسد {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: ٤٧]، ولا حزن ولا تعب { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر، ٣٤-٣٥]، أصحاب الجنة ذكرانا وإناثا غارقون في نعيمهم لا يشغلهم عن النعيم شيء {في شغل فاكهون} [يس: ٥٥]، وفي الحديث الصحيح “إِنَّ للْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمةً مِنْ لُؤْلُؤةٍ وَاحِدةٍ مُجوَّفَةٍ طُولُهَا في السَّماءِ سِتُّونَ مِيلاً. للْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلاَ يَرى بعْضُهُمْ بَعْضاً” [البخاري، ٣٢٤٣]، [مسلم، ٢٨٣٨]؛ إذ يستدل به على انتفاء أسباب الغيرة وشغل أهل الجنة كلٌ بنعيمه، فأين تجد المرأة سخطا بعد هذا؟

ابتلاء الرجل والمرأة
إذا لم تجزم أقوال المفسرين بعدد “الحور العين” وجنس الزوجات التي للرجل في الجنة عموما، فهي لم تجزم كذلك في المفاضلة بين “الحور العين” اللاتي خلقن في الجنة وبين نساء الجنة الإنسيات (بنات حواء). يقول ابن قيم الجوزية بعد أن ساق الكثير من الأحاديث وأقوال المفسرين التي تطرقت للحور العين والزوجات في الجنة” “الأحاديث الصحيحة إنما فيها أن لكل منهم زوجتين، وليس في الصحيح زيادة على ذلك، فإن كانت هذه الأحاديث محفوظة: فإما أن يراد بها ما لكل واحد من السراري زيادة على الزوجتين، ويكونون في ذلك على حسب منازلهم في القلة والكثرة، كالخدم والولدان” [حادي الأرواح، ٢٣٢].

ويقول ابن رجب رحمه الله: “هاتان الزوجتان من الحور العين، لا بد لكل رجل دخل الجنة منهما، وأما الزيادة على ذلك، فتكون بحسب الدرجات والأعمال، ولم يثبت في حصر الزيادة على الزوجتين شيء” [التخويف من النار، ٢٦٨].

إذن عدد الزوجات اللاتي يجازى بهن الرجل في الجنة قد يتراوح حسب عمل الرجل في الدنيا ومنزلته في الجنة؛ فالشهيد مثلا له اثنتان وسبعون زوجة من “الحور العين” في الأحاديث الصحيحة: “لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ ” [سنن الترمذي، ١٦٦٣]، [ابن ماجه، ٢٧٩٩] .

أما أدنى رجال الجنة منزلة فيزوج باثنتين من الحور العين، إذ استدل المفسرون على ذلك من حديث أبي سعيد عند مسلم في صفة أدنى أهل الجنة: “إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، رَجُلٌ صَرَفَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنَ النَّارِ قِبَلَ الْجَنَّةِ. ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ، فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فَتَقُولَانِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا وَأَحْيَانَا لَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ” [ مسلم، ١٨٨]، يقول ابن حجر: والذي يظهر أن المراد أن أقل ما لكل واحد منهم زوجتان” [فتح الباري، ٦/٣٢٥].

وهذا يدفعنا للتفكير بأن المرأة قد تكون خاضعة لمثل هذا القانون العادل كونها سواء مع الرجل في التكليف والجزاء، ما يعني أن جمال المرأة في الجنة قد يتراوح حسب عملها في الدنيا والدرجة التي تكون بها في الجنة؛ فبقدر أعمالها تكون الزيادة في الحسن، ويمكن أن يكون هذا أحد مقاييس نعيمها في الجنة. وإن تناولت الأحاديث الحد الأدنى من نعيم الرجل في هذا الصدد، فربما نجد الحد الأدنى لنعيم المرأة كذلك في حديث أنس رضي الله عنه الذي رواه البخاري: “لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ غَدْوَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ، أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ، يَعْنِي سَوْطَهُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا” [البخاري، ٢٧٩٦].

قد يكون هذا هو الابتلاء الخاص بالمرأة، أن يتراوح جمالها في الجنة حسب عملها في الدنيا، وأنها قد تفوق في حسنها كل الأوصاف التي ذكرتها الأحاديث الصحيحة والآيات الكريمة التي جاءت في وصف الحور إذا اجتهدت في الطاعة، وقد تكون الغيرة حينئذ هي المحرك الذي يدفعها لمثل ذاك الاجتهاد في الدنيا فتنال به نعيم الآخرة الذي تستحق.

ولكن ما دام القرآن قد فصل في نعيم الرجل إلى حد الحديث عن الحور العين وأوصافهن بشيء من الإسهاب فلماذا لم يبدد على الأقل مخاوف الغيرة عند المرأة حيال ذلك بشكل صريح؟ ألِأنَ النساء كن معتادات على التعدد فيما مضى؟ وهاجس الغيرة هذا لم يكن ليطرق انتباههن كما يطرق انتباه النساء اليوم؟ أم أن “الحور العين” هن نساء الدنيا المؤمنات أنفسهن؟ وهل قصّر الإسلام في بشرى المرأة حقا إذا لم يكن قد قصّر في ثوابها؟ هذا ما سنبحثه في الجزء القادم إن شاء الله.

ماذا لو طبقت قاعدة: إياكم والظن!

إن للقطيعة والهجران خطوات لا يكاد يمشيها أحدنا إلا ويصل إليها، وإن أولى وثاني وثالث وعاشر هذه الخطوات هو سوء الظن، وإذا كان سوء الظن سابقاً ذا أشكالٍ قليلةٍ وصورٍ محصورةٍ، فالآن قد تفرّع وتشعب، وأصبح كل سكون وحركة معرضة لسوء الظن.

فسابقاً كان قول أحدهم أو فعله يفهم خطئاً فيساء ظنه، أما الآن فأحدهم قد وضع هذه الحالة على الواتساب ليغيظني! ولم يقصد من منشوره على الفيسبوك إلا إياي! ولم يرد على رسالتي رغم أنه رآها استخفافاً بي وتقليلاً مني! ولم يضيفني إلى هذه المجموعة كرهاً وحسداً من نفسه!

فيغدو الإنسان السائر في طريق سوء الظن كارهاً لكل من حوله، فالكره والبغضاء لا يطبعان في صدر المرء فجأة وإنما يدفعهما سوء الظن إلى قلب الإنسان دفعاً.

ولا يتوقف الأمر عند كره الناس بل يتعدى ذلك إلى أن يحمل المرء من الريبة والشك ما يبني جداراً بينه وبين الآخرين، فيصبح ويمسي وحيداً بلا مؤنس، وما ذاك إلا لأنه قد استقبل كل ما تراه عينه وتسمعه أذنه بالظن السيء وأحياناً ما لا يراه ولا يسمعه وإنما قد أعطى لأفكاره وخيالاته مجدها في التحليل والتصور فأصبح من الظن السيء بمكان من السذاجة والغباء أحياناً الأخذ به، وقد كان يمكنه اجتناب كثير من ذلك بأن يكاشف الذي أساء الظن به، فقد يكون له عذراً فيما فعل.

ومخاطر سوء الظن لا تنحصر في ألا يكون للمرء رفاق وزملاء فحسب، وإنما في أن يحوّل حياة زوجه وأولاده إلى جحيمٍ لا يطاق، فيظن بزوجه أنها تنظر لسواه أو تتجمل لغيره دون أدنى ريبة تحمله لهذا الظن! مما قد يؤدي إلى طلاقٍ يشتت شمل العائلة، وإن لم تكن نهايته الطلاق فعيشة لا تطاق!

وإذا جئنا إلى الحكم الشرعي فالإمام النووي يخبرنا:” اعلم أن سوء الظن حرامٌ مثل القول، فكما يحرم أن تحدث غيرك بمساوئ إنسان، يحرم أن تحدث نفسك بذلك وتسيئ الظن به”[الأذكار: 344].

ولكن في الوقت نفسه، ولكي يكون المرء وسطاً غير مسيء الظن ولا مخدوع، فعليه إذا رأى دليلاً قوياً يستدعي منه حذراً وانتباهاً فحينها حسن الظن ليس من مكارم الأخلاق ولا من الفطنة في شيء، والأمور تقدّر بقدرها، ولا يسلم قلب الإنسان ولا حياته إلا إذا علم متى يحسن الظن ومتى يسيئه.

وينبغي للعبد ألا يحسن الظن مطلقاً إلا بالله عز وجل الذي بيده الخير والشر ليس إليه، وكذلك بعباد الله الذين ظاهرهم تقوى وصلاح وعدل، وليعلم العبد أن سوء الظن بالله هو طريق القلب نحو المهالك كلها.

ولكي يعالج المرء مشكلة فلا بد له أن ينظر في أسبابها وحقيقتها، وليعلم المبتلى بهذا الطبع أنه ما كان لسوء الظن أن يجد طريقاً إلى قلبه إلا لسوء حاله وفساد طويته، وصدق المتنبي حين قال: “إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه”، والإنسان ليس باستطاعته رؤية الناس إلا بعين طبعه وبظنه بنفسه، وعلاج ذلك تلاوة القرآن الكريم فهماً وتدبراً، ذاك الكتاب الذي غيّر نفوس الصحابة ونقاها من الأكدار مبعداً إياها عن الأخلاق الفاسدة والطباع السيئة، وكذلك أن يكون للإنسان ورداً يومياً من الأذكار التي يخاطب العبد بها نفسه بضرورة التوكل على الله والالتجاء إليه وأن يكون له حافظاً ومعيناً من كل من أراد به مكراً أو ضرراً.

ولتضع قول الله تعالى نصب عينك في تعاملك مع جميع الناس: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً…} [الحجرات: 12]

وقد تعمدت ألا أنهي الآية عند الظن وإنما أكملها إلى الغيبة فبالآية إشارة إلى أن الظن يقود إلى أن يتجسس المرء ليتثبت من ظنه، وأن يغتاب غيره إما بما ظنه أو بما تثبته بتجسس عليه! فالظن من الطباع السيئة التي لا تقتصر على نفسها وإنما تتعداها إلى غيرها.

وقد وضعها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم دستوراً لنا حين قال: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث” [متفق عليه].

ونختم بقول الإمام أبي حامد الغزالي الذي ناقش به حالات تتحصل للمرء في تعامله مع الآخرين وعالجها بكل حكمةٍ وفطنة: “إذا وقع في قلبك ظن السوء، فهو من وسوسة الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق، وقد قال الله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6]، فلا يجوز تصديق إبليس، فإن كان هناك قرينة تدل على فساد، واحتمل خلافه، لم تجز إساءة الظن.

ومن علامة إساءة الظن أن يتغير قلبك معه عما كان عليه، فتنفر منه، وتستثقله، وتفتر عن مراعاته وإكرامه والاغتمام بسيئته، فإن الشيطان قد يقرب إلى القلب بأدنى خيالٍ مساوئَ الناس، ويلقي إليه: أن هذا من فطنتك وذكائك وسرعة تنبهك، وإن المؤمن ينظر بنور الله، وإنما هو على التحقيق ناطق بغرور الشيطان وظلمته، وإن أخبرك عدل بذلك، فلا تصدقه ولا تكذبه لئلا تسيء الظن بأحدهما، ومهما خطر لك سوء في مسلم، فزد في مراعاته وإكرامه، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك فلا يلقي إليك مثله، خيفة من اشتغالك بالدعاء له، ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة لا شك فيها، فانصحه في السر، ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه فينظر إليك بعين التعظيم، وتنظر إليه بالاستصغار، ولكن اقصد تخليصه من الإثم وأنت حزين كما تحزن على نفسك إذا دخلك نقص، وينبغي أن يكون تركه لذلك النقص بغير وعظك أحب إليك من تركه بوعظك”. [الأذكار: 345].