الإسلام والنشء الجديد.. عناية لا تنضب

عُنِي الإسلام بالإنسان عمومًا وبالنشء الجديد -خصوصًا- أيما عناية واهتم بهم؛ لأنهم ركيزة المجتمع وعماده ورواد المستقبل وصناعه، وتتجلى تلك العناية في القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فنرى الاهتمام بالنشء فيهما من قبل أن يكون نطفة في الرحم، وأثناء ما هو جنين في بطن أمه، وبعد ولادته، والحرص على بناء شخصيته في جوانبها النفسية والعقلية والاجتماعية والأخلاقية؛ لأجل أن يتحقق الهدف الذى خلق من أجله- وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له- فتتحقق بذلك العدالة الفردية والاجتماعية، التي معها يكون المجتمع صالحًا في دينه ودنياه، وباقيًا على الفطرة السليمة التي فطرها الله عليها {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: ٣٠] ومن هنا ندرك أن أحد أهم أسباب الإخفاقات والمشكلات الاجتماعية هو اتباع سنن من كان قبلنا شبرا بشبر وذراعا بذراع.

مظاهر عناية الشرع بالطفل

عناية الشريعة ههنا كانت في أدقّ التفاصيل قبل جليلها، ولعل من أبرز مظاهر تلك العناية هو حث المسلم على الزواج من المرأة الصالحة حتى من قبل أن يكون نطفة في الرحم؛ لينشأ الطفل في جو وبيئة إسلامية نظيفة لا تشوبها أي شائبة كما في قوله {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: ٢٢١] وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: (تخيروا لنطفكم وأنحكوا اﻷكفاء) [أخرجه ابن ماجه في السنن] وقوله أيضًا: (الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة) [أخرجه مسلم في الصحيح] وكذلك أن يستعيذ الرجل من الشيطان إذا أتى أهله؛ حتى لا يصاب النشء بأذى أو مكروه لقوله ﷺ: (لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبد) [متفق عليه].

عندما يكون الطفل جنينًا فإن الشريعة قد تعهّدت برعايته ورعاية أمه؛ فأجازت لها بالإفطار في رمضان؛ حتى ينمو نموا جسديا سليما خاليا ومعافى من الأمراض، عناية لم تنقطع حتى بعد تفرّط عقد الزواج إذ يقول الله عزّ وجلّ في حالة الطلاق: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: ٦].

وبعد ولادته تأمر السنة بالأذان في أذنه اليمنى وإقامة الصلاة بأذنه اليسرى؛ ليكون أول ما يقرع سمعه كلمات الأذان الدالة على وحدانية وعظمة خالقه الله عز وجل. وتسميته -أيضًا- بالاسم الحسن لما لذلك من تأثير على نفسيته إذ قال ﷺ: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وبأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم) [أخرجه أبو داوود] وقوله أيضا: (إن أحب أسمائكم إلى الله- عزوجل- عبدالله وعبدالرحمن) [أخرجه مسلم]

وكذلك أوجب لهم الرضاعة، وسنّ العقيقة، والختان، وتعويذهم من الشيطان، وغيرها من مظاهر العناية التى اهتمت بها الشريعة بالنشء؛ ليكون فردا صحيح البدن والفكر، بل واﻷبعد من ذاك كله هو تنظيم الشريعة لشكل العلاقة الزوجية واﻷسرية حرصا على سلامة النشء، وخاصة إذا ما كان هنالك شقاق بين أبويه؛ فحثتهما الشريعة على حسن المعاشرة لئلّا يؤثر ذلك على سلوك ونفسية الطفل، فقال الله عزوجل: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: ١٩] آية ذُيِّلَت بقول تعالى: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرًا} وبالنظر في كتب التفسير نجد أن الخير الكثير هو كأن يرزق منها ولد ويكون في ذلك الولد الخير الكثير.

نماذج من النشء حول رسول الله

وللنشء احتياجات ورغبات؛ إذا ما صيغت وأشبعت بطريقة صحيحة لصانته وصانت العباد والبلاد، وسنبحث في صفحات السيرة التي تؤيد صحة ومصداق ذلك:

فمن مواقفه العجيبة ﷺ وهو يتعامل مع النشء من حوله؛ أنه كان غلام يدعى طلحة بن البراء شديد الحب لرسول الله، حتى إذا كان النبيّ مرة في ديار قومه لقيه طلحة وجعل يلصق به ويقبل قدمه، (وقال: يا رسول الله مرني بما شئت لا أعصي لك أمرا، فعجب رسول الله وتبسّم فقال له : “اذهب فاقتل أباك” فتولّى مدبِرًا ليفعل فقال له النبي: “إني لم أبعث بقطيعة رحم”، ومرت اﻷيام فمرض هذا الغلام وجاء النبي يعوده، فلما انصرف قال لأهله: “إني أرى طلحة قد حدث فيه الموت، فإذا مات فأذنوني حتى أصلي عليه” ولكن طلحة قال لوالديه: ادفنوني وألحقوني بربي، ولا تدعوا رسول الله؛ فإني أخاف عليه اليهود أن يصاب بسببي -وروي أنه قد مات ليلا- فلما أتى الصباح وأخبر رسول الله بذلك، جاء قبره وصلى عليه) [أخرجه الطبراني في الأوسط وهو ضعيف]

هنا علّمنا رسول الله كيف كان يعود الغلام، وأن الصغار لديهم حاجة للشعور بالانتماء، وكيف هو دأب الصّغار في تقليد المتصدرين واتخاذهم قدوات يسيرون على ضوئهم، موقف بسيط علّمنا من خلاله سيد بني آدم عليه الصلاة والسلام أن اﻷحداث في السن لديهم اندفاع عجيب، اندفاع يتطلّب حكمة في الاحتواء والتّصويب، حتى لا يُترك لما يضرّه فتُستغلّ براءته في زيادة الباطل واستفحاله في المتجمع كما هو الحال في البيئات التي يطغى عليها الجشع ورفع الأسهم.

ومن تلك المواقف الحكيمة أيضا بعد عودته ﷺ من حنين، وخروج أهل مكة -المشركين- وسماعهم للمسلمين يؤذنون بالصلاة فصاروا يقلدونهم ويستهزئون بهم نكاية لهم، وكان منهم فتى يقال له أبو محذورة وكان أجملهم وأنداهم صوتا؛ فلما رفع صوته بالأذان سمعه رسول الله؛ فأرسل إليه وأجلسه بين يديه ومسح على ناصيته ودعا له بالبركة ثلاثا؛ فانشرح صدره وامتلأ باﻹيمان، فعلم أنه رسول الله فألقى عليه الأذان وعلمه وأمره أن يؤذن لأهل مكة وكان عمره ست عشرة سنة [أخرجه النسائي في السنن].

هنا علمنا رسول الله أنه كيف تعامل مع النشء غير المسلم، وعلمنا مداخل الحوار المثمر، وعلمنا كيف نوظف تلك المواهب الناشئة ونستفيد منها ومن طاقاتهم في صالح المسلمين-في زمن أهدرت فيه هذه المواهب والأعمار فيما تفسد على العباد والبلاد دينهم ودنياهم- وإعطاؤهم كذلك الثقة وتكليفهم ببعض المهام والمسؤوليات فيما لا يخرجُ عن استطاعاتهم.

إن الشريعة الإسلامية خير ملاذ، ومنبع الأمن الصافي للطفل في جميع أطواره، وما تحمله من مسؤولية وتكليف لا ينتهي عند مجرّد نزوة عابرة، يُترك بعدها الطفل ببراءته وطاقاته لحبال الرأسمالية تجبذه في الهاوية حيث شاءت!




الناشئة بين رأسمالية هوليود ورحمة الإسلام

لعلّنا جميعا مرّت بنا مقاطع لمشاهد تمثيلية تسير على خطى هوليود لأطفال صغار، ذاك النشء الموشّح بالبراءة والعفوية الصادقة، هناك حيث طُلِبت منهم من وراء آلة التصوير إملاءات بعينها تكسر عفويتهم وتغلّفها بالتّكلّف حتى يُحسنوا تقمّص الأدوار بما فيها من مشاعر حزن عامرة بذرف الدموع، وربما أتبعوها بأنين شجي مصطَنَع، أو فرَح أو سذاجة وبلادة كل ما يهمّ فيها هو ملء الجيوب وتحصيل الأرباح من ورائهم، في خضوع أو انسياق مطلَق لمنطق السوق الرأسمالي في الاستفادة والاستثمار المادي في كل شيء ولو كان طفلاً صغيرًا.

من الطبيعي أن النفس البشرية لها قابليّة عالية للتعاطف مع الطفل -حتى من دون سبب وجيه- إن تألّم أو اشتكى، فكيف الحال والمشهد ههنا يفيض بالمشاعر الجيّاشة لكنها مزيّفة، وربما نذرف الدمع معه ونردفه قائلين: “لقد كان حقًّا في المستوى، مدهش ورائع هذا الطفل كيف أتقن دوره”.. أو عبارات أخرى كلها تتحدث بذات اللسان.

لكن أليس لنا أن نتساءل بعد ملحمة البكاء أو الفرح تلك: هل هذا ما يجب أن يكون عليه طفل في سنّه؟ ألن تتلف مشاعره وتضيع بين وهم هوليودي اتخذ من براءته بضاعة فحنّطها وشكّلها لتزيد الأرباح والأسهم وبين واقع يحتاج أن يعيشه ويحياه؟ ترى هل ترسو النجومية بالطفل عند ميناء السعادة حقًّا أم أن الكواليس تخفي كوابيس مسكوت عنها؟

ووسط كلّ هذا الصخب كيف اعتنى الإسلام بالفرد المسلم نسمة في الرحم، طفلا، ومكلفا؟ وما مسؤوليتنا الجماعية والفردية أمام هذه السيول الجارفة لحقن النشء الصاعد بجرعات الزيف التلاعب؟

أسئلة نحاول-مستعينين بالله- من خلال هذا المقال تسليط الضوء عليها والإجابة عنها.

هوليود: مسرح الطفولة المُستَلبَة!

خلف ستارة الكواليس يقبع الفصل المسكوت عنه والمطوي خلف الأفواه من قصة النجومية التي تراود كل حالمٍ بالشهرة، لكن جودي جيرلاند قررت تعريته وكشف مخبوءاته في مذكّراتها التي وُجدت عقِب موتها بجرعة مخدرات زائدة عن عمر يناهز السادسة والأربعين، حيث كتبت تقول: “كنت على خشبة المسرح منذ أن كنت في الثانية من عمري.. فاتني الكثير، إنها حياة وحيدة للغاية.. لقد كنتُ ومَن معي في استوديو MGM (إليزابيث تايلور ولانا تورنر وديانا دوربين وميكي روني) مرهقين، مسجونين ونعاني من نقص التغذية، كانوا يجوعونني كلما اعتقدوا أن وزني ازداد عن المقاس المطلوب [….] عندما اقتحمت عالم السينما في سني الصغيرة شعرت بالحرج والغموض وأني غير مرغوب فيّ”

وقالت عن دورها المُشتَرك مع ميكي روني -الذي اقتحم هو الآخر عالم التمثيل في سن السادسة وحاز على جائزة الاوسكار-: “أعطونا أقراصًا منشطة لإبقائنا على أقدامنا فترة طويلة، بعد أن استنفدنا طاقاتنا، لم نتمكّن من النوم، فأخذونا إلى مستشفى الاستوديو ومنحونا أقراصًا منومة ثم بعد أربع ساعات، أيقظونا وأعطونا حبوبًا منشطة مرة أخرى حتى نتمكن من العمل لمدة 72 ساعة متتالية، نصف الوقت كنا نتداعى وننهار، لكنها كانت طريقة حياة بالنسبة لنا” [1].

لم تكون جودي وحدها ضحية هوليود في إدمان المخدرات، فهناك أيضا بوبي دريسكول الطفل الحاصل على جائزة الأوسكار في سن التاسعة، والذي مثّل بصوته دور البطولة في بيتر بان أحد أشهر إنتاجات ديزني إلى جانب أدوار بطولية أخرى فيها، فقد كان أول شخص على الإطلاق يتم وضعه بموجب عقد شخصي من قبل والت ديزني، لقد عاش دريسكول حياة الشهرة الساطعة بكل معانيها، لكن ما هي إلا سنوات حتى أفل نجمه ولفظته ديزني كالحلس البالي؛ إذ كان جرمه الوحيد آنذاك هو ظهور حب الشباب المصاحب لفترة البلوغ وادّعت مبررة أنه سيكون من المستحيل إخفاء هذه الحبوب بالمكياج، فانتهى بذلك الحال بالبطل الصغير مدمنًا للهيروين ومنه إلى عالم الجريمة والسّطو، وكانت آخر عبارة في حكاية نجوميته ما قاله هو عن نفسه: “حُمِلت على طبق من فضة، ثم أُلقِيت في علبة القمامة”[2]. وقد وُجد دريسكول ميتا وحيدًا في مسكنٍ مهجور عن عمر يناهز ٣١ سنة!

إنها هوليود وهؤلاء حفنة وعيّنات من نجومها الصّغار الذين استعبدتهم باسم الشهرة والفن وحياة التّرف، والحال أنها اقتاتت على براءتهم وساقتهم إلى سكة مجهولة العاقبة حيث الإدمان والخوف والأمراض النفسية والجريمة كذلك، فكانت أبلغ صورة جسّدتها لوحش الرأسمالية الجائع!

من أضواء الشّهرة إلى قيعان الإدمان

كانت هذه بعض نماذج هوليود القديمة الكلاسيكية الغارقة في الاستغلال، التي قد تبدو لمعظمنا انها مجرّد حقبة وانتهت، ولأن الإحصاءات حول هذا الجانب شحيحة -ولنسلّم عرَضًا أنها كذلك-، لكن أليس مِن المؤسف وضع النشء بما فيه من هشاشة على مضمار ذاق مَن عاقروه مرارته؟

كيف لعقل الطّفل أن يحتمل مشاعر الأضواء التي تغذّي فيه الإحساس العارم بالنشوة والسعادة وكونه مرغوبًا من الكل ثمّ ولسبب ما يجد نفسه منبوذًا لا قيمة له كأنه شريحة مشاعر مُستهلكة؟

أما عن واقع الإدمان في هوليود فإنه لا يزال قائما وحوله قالت د. ريف كريم، المختصة في معالجة الإدمان في (كنترول سنتر لوس أنجلوس) “إدمان الكوكايين ينخفض بشكل عام في أمريكا، ولكنه في هوليوود لم يزل يصعد بقوة. لم تزل ترى الكوكايين في كل مكان في هوليوود”.

ووفقًا للدكتور إريك برافرمان، أخصائي الإدمان ومؤلف كتاب “أصغر منك”، فإن الأنا الكبيرة والمال الذي يجب حرقه يمهدان الطريق لإدمان الكوكايين، ويتابع قائلًا: “يميل المشاهير إلى أن يكونوا نرجسيين، لذا فإن الكوكايين يمنحهم إحساسًا بالسلطة والقوة، كما يعتمد الكثيرون على الكوكايين لملء الفراغات في حياتهم” [3].

وحول إذا ما كان النجوم الصغار عندهم قابلية أكبر للإدمان على الكوكايين أجابت د. دونا: “قد يدمن النجوم لأي سبب من الأسباب التي يدمن معها غيرهم مثل: التعرّض للإساءة، أو التجارب القاسية، ولكن مع النجوم الصغار فإن أدمغتهم تكيفت مع القدر الكبير من الإعجاب والاهتمام وأصبحت جزءًا من تركيبها العصبي. الأمر الذي يمهد الطريق لأنواع أخرى من الإدمان كالكحول والمخدرات” [4].

نتساءل مجددا ألأجل هذا العالم الهوليودي الخرِب تُهدى فلذات الأكباد لعالَم رحى القوى فيه -كما هو ديدن الرأسمالية- يسحق قويه ضعيفه؟ عالم الصناعة والتمثيل حيث القوى متنافرة بين جوع المنتجين وبين النجوم الصغار، ألن يكون خطر الاستغلال أشدّ وأرعن؟

ماذا عن السينما العربية؟

لعلّ الفجوة بين ما بلغته هوليود من تدمير والتمثيل في شاشات ومنصات العالم العربي أكبر من مقارنتها إلى حدّ ما، لكن يبقى المشترك بينهما هو العالم الداخلي لذاك الطفل الصغير في مرحلة عمرية المُفترض أنها تأسيسية للمركزيات والأوليات، مرحلة تكون النفس كالإسفنجة بقابلية عالية على تشرب معاني بعينها: ما الذي يجري في داخله؟ كيف يواجه الفصام بين مشاعره الحقيقة ومشاعر طُلب منه النزول عندها؟ كيف يمكنه رسم الحد الفاصل حين يُطلب منه مثلا رؤية مشهد مرعب كالقتل وعيش مشاعر الفقد او استحضار مشاعر الموت؟ ما الفرق بين أن يكون مهذبًا واقعًا وفي الآن ذاته يعيش شقيًّا تحت الأضواء؟ ما هي حدود الصّدق والكذب؟ وحين يُسحب بساط الشهرة من تحت رجليه بعدَ أن عاش دهرًا كل العالم وما فيه يدور حوله كيف سيتخطّى ندوب هذه التجربة إلا باللجوء إلى المخدّرات كما تكرّر مرارًا!

ثم إن كان عالم السينما نفسه يوجّه المتلقي والذوق العام إلى قضايا معيّنة ألن تكبر هي ذاتها في نفسه فيتبناها ويخدمها ويدافع عنها-أي الطفل-؟

فالإشكال على هذا يبقى قائمًا وإن اختلفت درجاته بين الشّرق والغرب؛ لأن ثمة بناء هناك تُنقض عراه شيئا فشيئا، كان مِن المفتَرض أن يعيش كونه طفلا لكنّه حرق أعواما ومراحل ليكون نجما له وظيفة وراتب إلى جانب الكثير من الأزمات النفسية والتردد على العيادات عندما يفيق من سكرة الشهرة للإقبال على الحياة!

كل هذا علينا استحضاره قبل أن نعلق بعبارات التميز والدهشة والذهول من مشهد احترافي في دقائق يحوي خلفه الكثير من الظّلام!

آباء يتغذون على أبنائهم!

لكن كيف وصل هؤلاء الأطفال أو على الأقل معظمهم إلى مسارح الأضواء إن لم يكن خلفهم مَن أصابه عمى الشهرة وحياة التّرف؟ إنهم الآباء في الغالب!

تقول الممثلة الطفولية السابقة ميليسا جوان هارت، 37 عامًا: “ترى هؤلاء الآباء يريدون أن يعيشوا حياتهم من خلال أطفالهم، برواتبهم الضخمة وما يحصّلونه، وينالهم أيضا نصيبهم من الأضواء فيبدأون في الظهور بمظهر أكثر بريقًا ويقودون سيارات فارهة أكثر من النجم المشهور نفسه”[5].

وبذا تنقلبُ الأدوار فيغدو الطفل هو الراعي والمعيل لوالديه فيدفعونه دفعًا للاستمرار مهما كان الثّمن. تقول الممثلة تيا موري: “عندما كنت أقوم بعمل الإعلان لباربي كانت هناك فتاة أخرى لا تريد هذا العالم، لكن والدتها كانت تدفعها قسرًا للمواصلة” ثم تتابع قولها: “أنت طفل يعمل، لديك وظيفة. هذه الوظيفة هي عمل شاق. يعتقد الجميع أن كونك نجمًا طفلًا هو أمر ساحر. ولكن عندما تكون في عرض، غالبًا ما تقدم عرضًا كاملاً وأنت تعلم هذا، عليك أن تعرف خطوطك.. فهناك مَن يكسب المال منك”[5].

اي قسوة تلك أن تتجاذبكَ حبال الاستغلال عن كل جانب، مجرّد صرّاف آلي والأقسى أن يكون أحد هذه الأطراف أمّك أو أبوك!

أما اليوم فقد ازدادت فُرص الاستغلال وعلمنة براءة الطّفل من قبل والديه لهثا خلف الشهرة والمال، الكاميرا ملك اليد وما عليهم سوى فتحها لدخول عالم الشهرة الماجن.


مصادر الاقتباسات والإحالات:

[1]https://www.express.co.uk/celebrity-news/529490/Judy-Garland-unpublished-memoirs-revenge-Hollywood-film-industry

[2]https://www.cinephiled.com/31-days-of-oscar-the-juvenile-academy-awards-and-the-tragedy-of-bobby-driscoll /

[3]https://www.foxnews.com/entertainment/addicted-in-hollywood-stars-problems-with-cocaine-still-going-strong

[4]https://www.cheatsheet.com/entertainment/are-child-stars-more-likely-to-use-drugs-and-alcohol.html /

[5] https://www.usatoday.com/story/life/people/2013/08/06/child-star-issues/2609493/

[6]https://www.sasapost.com/dark-side-of-the-lives-of-young-hollywood-stars




بحثًا عن الحكمة.. وقفة مع النفس البشرية!

إن المؤمن القابض على دينه في زماننا هذا؛ قد يعيش معزولًا عن الواقع المجتمعي الحالي، غير قادر على التأثير فيه؛ فالمجتمع قد انتشر فيه مرض انفصام الشخصية المجتمعية فأصبح لا يقبله؛ ولأنّ الخلايا السليمة لا يمكنها أن تلتئم مع خلايا المجتمع المصابة تلك؛ فالواقع المعيش يذكّر بالأنيميا المنجلية -وهو مرض ينتج فيه الجسم خلايا دم حمراء غير طبيعية الشكل مثل الهلال أو المنجل- حيث تصبح هذه الخلايا جامدة ولزجة وغير منتظمة الشكل -خلاف الخلايا السليمة- فتتخثر بالأوعية الدموية الصغيرة؛ التي يمكن من شأنها أن تبطئ أو تمنع تدفق الدم والأكسجين إلى أجزاء الجسم، وبالتالي قد تؤدي إلى السكتة الدماغية، أو متلازمة الصدر الحادة، أو إلى تلف الأعضاء الداخلية بما في ذلك الكبد والكلى والطحال وغيرها من الأمراض -عافانا والله وإياكم-.

استوقفني هنا قوله عز وجل {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21] وكأن الذي يحدث داخل أجسامنا إنما هو انعكاس لما يحدث من حولنا؛ وكأن في داخلنا خارطة تمكننا من فهم واستيعاب اﻷمور، ومن ثم كان لزامًا علينا أن نتدبر ونتفكر ونبصر أنفسنا.

بين السليم والسقيم..

إذا ما قسنا أحوالنا الخلقية والداخلية بواقع المجتمع حين تختلط فيه ما يشبه الخلايا المنجلية المنحرفة عن الدين والمجتمع، وخلايا سليمة، فإن ذلك قد يؤدي به إلى خلل في القيم والأخلاق، وأعظمها فتكًا إصابتها بخلل الاعتقاد؛ ولهذا السبب نجد أن العلاج الرباني يدور على التمييز بين الخلايا السليمة هذه والمصابة تلك، ونجد ذلك بنصوص واضحة الدلالة بالقرآن والسنة، وكيف ميّز بالعقوبة الحَدِّيّة جريمتي الحرابة والزنا، من خلال إقامة العقوبة ثم نفيهم من المجتمع السليم.

نجد كذلك أن الله ميّز بين الكافر والمسلم من قبل الولادة وإلى الممات؛ إذ إن المسلم لا يجوز له الزواج من غير المسلمة إلا إن كانت كتابية، والمسلمة لا تتزوج من غير المسلم، والكافر حين يموت لا يُقبَر بمقابر المسلمين، وما بين الحياة والموت هنالك أكثر من ١٣٠ حكم شرعي، تتميز فيه الخلايا السليمة هذه عن المصابة تلك.

هنا قد يقول قائل بأن اليهود قد عاشوا في المدينة بعهد رسول الله وأن دول الإسلام المتعاقبة كان فيها نصارى يقطنون شتى البقاع الإسلامية؛ والجواب عن ذلك أن المسلمين عندما أقاموا دولتهم، فإنهم لم يقيموها ليبقى الباطل كما هو، وإنما ليسلكوا في وجهه مسلك الدعوة والحكمة والموعظة؛ بتغيير الباطل إلى حق، والظلام إلى نور، والانحراف إلى استقامة، والبدعة إلى سنة؛ ومن هنا نجد قول ربنا تبارك وتعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج: 41].

خلايا الدم الحمراء المنجلية

ضرورة التمييز بين السليم والخبيث

إن اﻵيات التي تحثنا على التمييز بين الخلايا السليمة والمصابة بالقرآن الكريم كثيرة؛ ولكننا سنكتفي بذكر آيات سورة اﻷنفال، حيث ميز الله المجتمع إلى ثلاثة أقسام:

القسم اﻷول في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 72] والمقصود المسلمون القاطنون في المجتمع المسلم، حيث يوالي بعضهم بعضًا.

أما القسم الثاني، ففي ذات الآية يقول الله تعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} [الأنفال: 72] أي المسلمون الموجودون في دار الكفر، فأولئك ليسوا بولاية الدولة اﻹسلامية حتى يهاجروا إليها.

في حين وصف القسم الثالث بقوله {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} أي الكفار القاطنين بديارهم فبعضهم أولياء بعض ولا شأن لنا بتلك العلاقة فيما بينهم، ومن ثم يتبع قوله بعد هذا التقسيم: {إلا تفعلوه تكن فتنة في اﻷرض وفساد كبير} أي إن لم تفعلوا هذا التمييز تكن في اﻷرض فتنة وفساد وكبير.

 إن المجتمع عندما يكون فيه المسلم، والمسيحي، واليهودي، والبوذي، والمجوسي، والأقوام المستحدَثون المناقضون للفطرة، والنسويات، فلن يكون سليمًا أصلا سواءً من الناحية النفسية أو الاجتماعية، أو العقلية، أو من الناحية العقائدية.

وهنا أذكر قصة واقعية وقعت في منطقتنا، قصّها علينا معلّمي أثناء إلقائه محاضرة في التخطيط الاجتماعي وكنا نتناول معوقات التخطيط فقال: تمّ إغلاق جامعة كذا -من دون ذكر اسم الجامعة- بسبب طالب مسيحي طالب بإنشاء كنيسة له؛ ليتعبّد فيها ربه مثلما نحن لدينا مساجد نتعبد فيها!

وهنا وقفت عند نفسي، تساءلت متعجبةً: بسبب هذا الطالب المسيحي أغلِقت مؤسسة تعليمية كاملة، وشلّت حركة الوعي والتعليم.

أجر عظيم.. لمن استمسك بدينه القويم..

شاهدنا في الفترة القريبة الماضية كيف توفّي الطفل الفلسطيني “ريان” ذعرًا إثر اقتحام قوات الاحتلال لمنزلهم، ومن قبل في العراق قصة “عبير” التي ترك حادث الاعتداء عليها في نفوسنا شرخًا ما كان للزمان أن يكون كفيلًا بمحوه.

انقلوا أبصاركم أيضًا إلى التاريخ واستذكروا رعاكم الله حال المسلمين الأوائل بمكة قبل الهجرة، حين كانوا يعانون ويصبرون، وقفوا عند قوله ﷺ: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) [متفق عليه] لضمان سلامتنا العقلية والنفسية والاجتماعية لا العقائدية فقط؛ فندرك عظمة هذا الدين وشموله وتكامله من كل النواحي والجوانب؛ ولهذا السبب -بحسب فهمي البسيط المتواضع- كان أجر القابض على دينه في زماننا هذا كهجرة معه ﷺ، أو كأجر خمسين صحابي.

دور التنشئة في مواجهة أمراض المجتمع الطارئة

بالنظر إلى أسباب وعوامل اﻹصابة بمرض الخلايا المنجلية فإننا سنراه ينتقل عن طريق الوراثة، وبالنظر إلى كلام الله تعالى سبحانه، فإننا سنراه يخبرنا كثيرًا في القرآن عن أولئك المترفين المعادين للرسل واﻷنبياء -المنحرفين عن الدين والمجتمع- فجميعهم قد ورثوا دينهم عن آبائهم وأجدادهم وأسلافهم.

وهنا لا بدّ من الإشارة والتنبيه إلى دور عملية التنشئة وأهميتها في مواجهة التطبيع الاجتماعي مع الانحرافات والأمراض الطارئة، -وسوف نتحدث عنه بمقالات لاحقة إن شاء الله-.

لنتمعن ببعض اﻵيات التي تخبرنا بذلك، وتوضّح لنا حقيقة الحال:

{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} [البقرة: 170]، وفي قوله تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} [المائدة: ١٠٤]، وقوله {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 28]، {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين* إذ قال ﻷبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون* قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} [اﻷنبياء: 51- 53] وقوله سبحانه: {قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين* إن هذا إلا خلق اﻷولين* وما نحن بمعذبين} [الشعراء: ١٣٦-١٣٨].

وقوله سبحانه: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون* وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون* قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} [الزخرف: ٢٢-٢٤]

إن سبب رفض هؤلاء ومقاومتهم ومعاداتهم للرسل واﻷنبياء؛ مرتبط بتمسكهم بالعادات والتقاليد التي توارثوها وأصروا على العيش بها ما بقوا من حياتهم، شأنهم في ذلك كشأن اﻷنيميا المنجلية تمامًا، ولعلنا نكشف بمقال لاحق إن شاء الله عن بقية اﻷسباب التي تجعل الطغاة يرفضون اﻹسلام.

إن اﻷعجب من ذلك كله؛ هو أن فترة عيش هذه الخلايا المنجلية يتراوح بين ١٠_٢٠ يومًا، والسليمة من الخلايا تصل إلى غاية ١٢٠ يومًا؛ ونلاحظ في القرآن الكريم أن الله يعجل بهلاك المفسدين ويمد بعمر المصلحين إلى أمد بعيد، وهذه قاعدة ربانية بأن اﻷرض يرثها عباده الصالحون مهما علا فيها الباطل واستعمرها من مشرقها إلى مغربها؛ ولذلك كان قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} [آل عمران: 196] ويقول أيضا: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد} [غافر: ٤]

ختام القول

إن المجتمع كاﻹنسان، له كيان ونظام شبيه بأجسامنا؛ فما يصيب الفرد في داخله، يصيب المجتمع من داخله؛ ولذلك كان قوله ﷺ عن النعمان بن البشير- رضي الله عنهما: (مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [متفق عليه].

والتغيير الاجتماعي شيء حتمي لا مناص منه أبدًا، وتغيير المجتمع يبدأ من داخل الفرد، وقف إن شئت عند قوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11]، وإذا ما أبصرنا بأنفسنا أدركنا حقيقة التغيير، ولذلك كان قوله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: ٢١].

اللهم عجّل بالشفاء لمرضى اﻷنيميا المنجلية ولجميع مرضى وجرحى المسلمين.