برهنة الشريعة بين الإجماع والقياس

في مقالنا السابق أشرنا إلى الأساس المتين الذي يمنحنا اليقين بالقرآن والسنة مصادر للتشريع والمعرفة، ويتفرع عن هذين المصدرين وطرق النظر إليهما آليات معرفية أخرى.

حجية الإجماع

بالنظر إلى الأدلة النقلية والعقلية استطاع العقل التوصل إلى نتيجة قطعية ألا وهي “لا يمكن للحق أن يرتفع عن المسلمين جميعا في أي عصرٍ كان لذلك فإجماعهم على حكمٍ معين يعني قطعيته بلا ريب”.

وقد فهم القارئ الكريم أن المقصود بهذا الكلام الآن هو الإجماع، ولكن المشكلة في هذا المصدر هو سوء استعمال كثير من الأفراد والجماعات له حتى أخرجوه عن مسماه وعلة صحته، ولفهم هذه النقطة الحساسة وجب علينا الرجوع قليلا بالمقدمات إلى البداية.

لو سألنا سؤالا: هل يمكن للحق أن يرتفع عن أهل الأرض جميعًا؟ فالمجيب عن السؤال إما أن يقول: نعم يمكن ارتفاعه عن الناس جميعا فيقال له “فقد لزمك أن يرتفع الحق عن مقولتك هذه أيضا إذ أنها مقولة واحدٍ من الناس الذين حكمتَ على مقولاتهم جميعا بالارتفاع فإن ارتفع الحق عن مقولتك التصق بالمقولة النقيضة لها وهي عدم ارتفاع الحق على الناس جميعا”

فإن أقررنا بعدم ارتفاع الحق عن الناس جميعا انتقلنا إلى المقدمة التي تليها فنقول: أليس الحق في المجال الديني “وحده دون بقية المجالات العلمية” يكون في الدين الصحيح؟ فإن قال المجيب “لا يكون في الدين الصحيح” قلنا فلماذا حكمت على الدين بالصحة ما دام الحق مع غيره لا معه؟ فإن قال “نعم، فالحق مع الدين الصحيح” قلنا: إن سبق للعقل أن برهن على أن الإسلام هو الدين الصحيح ألا يعني ذلك أن الحق في المسائل الدينية يكون موجودا في حملة هذا الدين وهم المسلمون؟ إذ سيكون على الأقل في واحد منهم إذ لا يمكن أن يغيب عنهم جميعا فيرتفع الحق عنهم وهم حملة الدين الصحيح الذي لا يكون الحق دينيا إلا فيه “وأريد التركيز على المجال الديني، أما المجالات العلمية الخارجة عن الدين فقد يكون الحق عند غير المسلمين ويكون المسلمون جميعا غير عالمين به أو جاهلين به أو على خطأ في تصوراتهم له وهذا جائزٌ عقلا وملاحظٌ واقعا في عددٍ من المجالات”.

فإن تبيّن ما سبق علمنا أن المسلمين لو اجتمعوا جميعا على مسألة دينية في عصرٍ معين فتلك المسألة تكون صحيحة بلا ريب، ويعضد هذا قول الله {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} [النساء: 115] وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تجتمع أمتي على ضلالة) وبناءً على ما سبق نجد أن الشرط في وصف القضية بالمجمع عليها أن تكون في مجال الدين أولا، وثانيا يكون الإجماع عليها من قِبِل المسلمين جميعا.

وهنا قد أنتقد تعريف كثيرٍ من العلماء للإجماع بأنه إجماع علماء عصرٍ ما على مسألة ما، وذلك لأن تضييق الدائرة من المسلمين جميعا إلى العلماء وحدهم ليس عليها أي دليل بل هي مناقضة للأصل الذي بُنيت عليه حجية الإجماع.

فالله قال {ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء: 115] ولم يقل ويتبع غير سبيل العلماء أو غير سبيل علماء المؤمنين ومن المعلوم أن الله ليس إنسان ليسهو فلا يدقق في كلامه وإنما هو الإله التام الذي لا يقول عبارة إلا وهو يعلم معناها جيدا.

وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تجتمع أمتي على ضلالة) ولم يقل (لا يجتمع علماء أمتي على ضلالة).

وأما الاستدلال العقلي الذي بنينا عليه حجية الإجماع فكان مبنيا على أساس عدم خروج الحق عن المسلمين جميعا لا عن علماء المسلمين حصرًا! وقد يقال هنا: لكن المسلمين الذين لا يملكون الأدوات الفقهية لا يحق لهم الإفتاء أصلا ليؤخذ كلامهم بعين الاعتبار في الدين؟

إلا أننا نقول: ليست المشكلة في أخذ أقوالهم وهم فرادى وإنما المصيبة أعمق من ذلك بكثير ويمكن تلخيص مشاكلها في محاور عديدة.

محاذير في الإجماع المعيّن

من جملة المحاور التي ينبغي الإشارة إليها في تعميم الإجماع هو أن قصر الإجماع على العلماء يجعل كل فريق أو حزب ديني متعصب لطائفته يحصر علماء الأمة في عدد من الشيوخ الموافقين له ثم يعتبر اتفاقهم على المسألة المعينة إجماعا وذلك بعد تعرية كل العلماء المخالفين له عن وصف العالم ما لم يُكفّرهم أساسا.

وقد فعل ذلك الجهمية والمعتزلة في زمن الإمام أحمد بن حنبل، حتى قال رحمه الله ورضي عنه: “من ادعى الإجماع فقد كذب” وذلك لأنهم كانوا يحصرون العلماء في طائفتهم ويستغلون سيف السلطان الذي سخروه لصالحهم ثم يقتلون أو يسجنون أو يُسكتون من خالفهم وبعد الانتهاء من كل ذلك يدعون الإجماع في المسألة، ويلاحظ اليوم أن عددًا من الجماعات يفعلون ذلك، فيُقصون بقية الأمة ثم يتخذون إجماع مشايخ طريقتهم وطائفتهم إجماعا ملزما لبقية الأمة.

إلى جانب ذلك فقد يسيء الناس تقدير العلم وأهله فيرفعون من لا يستحقه ويضعون من قدر أهله فيصنفون العالم الحقيقي مع من لا ينال صفة العالم أساسًا، ويصنفون غير العالم مع العلماء.

وقد يكون السبب في هذه التصنيفات جهل المصنفين أنفسهم بالعلم وأهله أو استغلال نفوذهم عند السلطان أو شهرتهم بين الناس أو حتى الخداع ببعض المظاهر كطول العمر واللحية والقميص الفاخر الذي ينزل عليه خمار الرأس والنظر إلى الأسفل لإظهار السّمت وإجابة السائل بالمختصر المخلّ لإظهار الهيبة، ناهيك عن استعانتهم بتزكية بعضهم لبعض أو الانخراط في حزب معين يحميه ويرفعه وبذلك يُصنّف مع العلماء وهو من الذين لم يتمكنوا في أي فن إسلامي.

في المقابل قد يصل الفرد لمرتبة العالم ولكن الناس لا يسمعون بوجوده إما لعدم شهرته أو لعدم وجود أصحاب المؤهلات العلمية الكافية التي تستطيع معرفة قيمته العلمية أو إقصائه وتهميشه حتى مع العلم بقوته حسدا وغيرة وخوفا على أن ينافسهم على عرشهم أو بسبب مخالفته لهم في توجهات فكرية أو سياسية أو حتى من أجل بعض الآراء الفقهية فضلا عن العقائدية.

وبناء على كل ما سبق كيف يمكن لنا عمليا أن نتأكد من أن المجمعين على المسألة في ذاك العصر المعين هم كل علماء المسلمين؟ وهل يمكن إحصاء آرائهم جميعا وقد يبلغ عددهم في العصر الواحد آلافًا؟

ثم لو حدث وأجمع كل العلماء على مسألة معينة ألا يكون إجماعهم عليها وعدم اختلافهم فيها دليلا على أنها من أوضح المسائل الشرعية كالشهادتين ووجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج وبقية المسائل التي يعرفها كل المسلمون علماء وعواما؟ فنعود للنتيجة الأولى نفسها عندئذ.

وهذه المسألة الواضحة التي يعرفها كل الناس ألا يكون مصدرها التشريعي الأول هو القرآن والسنة؟ إذ لا يمكن الاتفاق على مسألة لم يفصِل فيها القرآن والسنة لأن العقول لا تجتمع جميعا على قولٍ خفي وإنما تجتمع على القول الواضح الجلي.

مصدرية القياس

أما مصدر القياس فيمكن القول بأنه مصدر عقليٌّ محض وهو مستعملٌ في كل مجالات المعرفة سواء النقلية أم الحسية أم العقلية، لكننا لو دخلنا لمجال أصول الفقه فإننا نجد أن الأحكام الفقهية إما أن تكون أحكاما تعبدية وإما أن تكون أحكاما معللة، وببعض من التفصيل، فإن الحكم التعبدي هو الحُكم الذي لم يبين الشارِع علته في التحريم أو الكراهة أو الجواز أو الاستحباب أو الوجوب فيؤخذ كما هو، كعدد ركعات الصلاة.

أما الحكم المعلل فهو ما ذُكرت علة تحريمه في النصوص الشرعية وقال بعض الأصوليون “أو كانت علته واضحة يمكن استنباطها” وأميل إلى أن المعلل هو ما ذُكرت علته نصا لأن الإنسان قد يخطئ في استنباطه، وحتى ولو أصاب فقد يستنبط الحكمة من تحريمه لا العلة وفرقٌ بينهما فالحكمة موجودة حتى في الأحكام التعبدية سواء علمناها أم جهلناها ولا يقاس عليها أما العلة فهي منصوص عليها وترتبط بها القاعدة الفقهية “الحكم المعلل يدور مع علته وجودا وعدما”.

ولذلك كان القياس صالحا في الأحكام المعللة لا التعبدية كما أنه يكون في القضايا العامة التي يتفق عليها ولا يكون في المسائل الجزئية المختلف فيها.

أي أنه يكون في القدر المشترك لا القدر المتفرق، ومثال ذلك قياس السُكْر باستعمال البنزين على الخمر في كليّة السُّكر ولا نقيس بينهما في لون المادة أو وظائفها الأخرى من غير السُّكر، فلا نحرّم كل ما كان من عنب أو شعير قياسا على الخمر لأن علة التحريم في الخمر ليست مادة الصنع وإنما الإسكار، ولا نحرّم البنزين وقودا للسيارات لأن علة التحريم في جانب الإسكار هو الإسكار نفسه، أما في غير ذلك المجال فله أحكامه المنفصلة.




التأصيل المعرفي لمصادر الشريعة الإسلامية

تعتمد مصادر التشريع الإسلامي في الأصل على مصداقية القرآن والسنة وتحكيمهما في كل تفاصيل الأحكام الدينية وترد إليها التعاملات الدنيوية، إلا أن المراد بيانه دور العقل المهم في هذه العملية، حيث يبرهن على مصداقية النقل وصحة ثبوته ثم مطابقة دلالته لمناط الاستدلال المستخرج منه.

الاستهداء بالقرآن

أما العقل فله في الاستدلال طريقان: الاستدلال المباشر وغير المباشر، وينقسم الاستدلال المباشر إلى ثلاثة طرق، الاستدلال بالقياس والتمثيل والاستقراء، كما أن الاستدلال غير المباشر له ثلاثة طرق أيضًا، حيث الاستدلال بـالنقيض وعكس النقيض والعكس المستوي.

إن المسلم يعتنق الإسلام لاقتناعه بصحته عقلًا إذ لابد من مقدمة تسبق النتيجة –أي صحة الإسلام- حتى لا تكون النتيجة مجرد دعوى لا برهان عليها.

وطبعا فإنه من غير المعقول أن يكون البرهان على صحة الإسلام هو الجانب النقلي منه إذ أن ذلك يُعدّ استدلالًا بالدّور فيكون النقل استدلاًلا على صحة نفسه فلزم أن يكون النقل مقدمة ونتيجة في آن واحد وذلك ممتنع لعلة التناقض.

وبما أن العقل هو الذي يبرهن على صحة الإسلام فإنه يكون من حيث ترتيب المقدمات والنتائج سابقًا للنقل، ولكن بما أن العقل حكم على المنقول الإسلامي بالصحة بعد النظر إلى الحجج العقلية الواردة في هذا المنقول فإن هذا الخبر الذي حُكِمَ عليه بالصّدق المطلق يصبح حُجّة على العقل الذي حكم عليه بذلك.

وعندها لا يمكن للعقل أن يطعن في صحة أي جزئية فيه كأن يقول: (أخطأ الله في هذا الموضع) لأنه بذلك يناقض حكمه الأول إذ أن الجزئية السالبة تنقض الكلّية الموجبة، ولذلك صار لزاما على العقل الإيمان بكل ما قاله الله عز وجل.

السنة النبوية وضرورة الاعتراف

من جملة ما أنزل الله في قرآنه قوله: {فإن تنازعتم في شيءٍ فرُدّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا} [النساء: 59]

وبعد أن جعَل العقلُ القرآنَ حكمًا عليه ومصدرا أولا في التشريع صار لزاما عليه أن يُدخل في مصادر التشريع ما أُمِر به في القرآن، وهو ردّ النزاع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا مما يعني إدخال سنّته في مصادر التشريع، وبذلك تكون أهم مصادره هي “القرآن والسنة”.

إلا أننا نتساءل .. ما هي السنة؟

السنة هي كل ما أضيف للنبي صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل أو وصفٍ أو تقرير، وقد حكم العقل على صحة ثبوت القرآن عن الله عز وجل من البداية، فبقي أن يعرف العقل طريقةً للوصول إلى السنة الصحيحة حتى يميز بينها وبين الضعيفة أو المكذوبة.

هنا توصّل العقل إلى شروطٍ لصحة الحديث من حيث الثبوت ثلاثة منها تدرُس الأسانيد وهي:

“اتصال السند، وعدالة الراوي: أي ترجيح صدقه ونزاهته وعدم كذبه، وضبطُه والضبط نوعان ضبطُ حفظٍ وضبطُ كتابةٍ وذلك لضمان عدم خطئه ولو بحسن قصد” واثنان منها تدرسُ المتون وهي “الخلو من الشذوذ أو العلل” وهذه الشروط كلها عقليّةٌ محضة إذ لا يوجد في القرآن ولا السنة اشتراطها لصحة المنقول كما لم يكن ممكنا أن تكون السنة حكما على ثبوت القواعد والقواعد حكما على ثبوت السنة في آن واحد فهذا دور سبقي ممتنع كما سبق بيانه.

وبناءً على ما سبق نعلم جيدا أن قواعد علم الحديث التي بها نميز بين الصحيح والضعيف والمكذوب قواعد عقلية، وليس الأمر مقتصرا على ذلك فحسب وإنما شرطان منهما يناقشان المتن مباشرة، أما شرط الشذوذ فعند مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، ويمكن الاعتماد على السند فيه.

أما العلل فجلّها علل عقلية تمسّ المتن نفسه فيُحكم عليه بالنكارة إن كان ظنيا مخالفا للعقل للقطعي.

والعقل القطعي لا يحكم على القضية بالاستحالة إلا إن كانت مركبة من قضيتين متناقضتين قد توفرت فيهما وحدات التناقض الثمانية (الاتحاد في: الموضوع والمحمول والكل والجزء والمكان والزمان والقوة والفعل والشرط والإضافة، أو كان مناقضا لقضية واجبة الصحة، وليس كل حديث يستعصي فهمه على القارئ يرميه بحجة مخالفة العقل، فيجب التفريق بين العقل الذي يعمل وِفقَ قواعد وأصول متسلسلة في مقدماتها ونتائجها وبين العقل المعتمد على الهوى المحض، فقال الله {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون: 71].

سبيل للإيضاح

نضرب هنا الآتي مثلاً، فإنه لا يقال: هذا الحديث ضعيف لأني لم أقتنع بالقصة التي وردت فيه.

وإنما على المعترض أن يبيّن وجه الاستحالة في القصة، فليست كل قصة مخالفة لما تعوّد الناس عليه تكون مستحيلة بالضرورة إذ أن باب الممكنات العقلية أوسع من باب المشاهدات الحسيّة، وليس عدم العلم بالشيء يعني العلم بعدمه.

فهناك من أنكر قصة الإسراء والمعراج لمجرد أنها تبدو غير مألوفة لديه ولم يتعود البشر على مشاهدة مثلها، ولكن لو عرضناها على العقل لوجدناها ممكنة لذاتها إذ إنها غير مركبة من نقيضين ولا هي مناقضة لقضية واجبة الصحة، بل هي مؤيدة لذلك إذ أن العقل أثبت وجود الخالق التام الذي يقدر على كل شيء وبما أنها من الممكنات لذاته فما المانع من أن يرجح الله وجودها على عدمه إن هو أراد ذلك؟ فيكون العقل هنا حجة على من ينكر الحادثة لأن المنكر يتهم الله من غير أن يشعر بالعجز عن نقل نبيه إليه وإعادته لمكانه في ليلة واحدة.

فهنا لا يصح أن يوصف المتن بأنه مخالف للعقل أصلا، ومن ثم إذا أردنا فهم دلالات النص وجدنا أنفسنا بحاجة إلى قواعدَ وأصولٍ توصل العقل إليها لغرض فهم المنقول ومعرفة دلالته، وهذا العلم يُصطلح عليه باسم “أصول الفقه”.

معظم قواعد هذا العلم عقلية ولغوية ومنها ما استُقرئ من مجموع النصوص النقلية بعد استعمال العقل آلةً لفهمها، لذلك اختلفت العقول في بعض قواعده فتأسست مذاهب فقهية كلٌّ منهم يريد الوصول إلى مراد الله ورسوله فمن اجتهد منهم فأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد.




لعبة الحبار بين الترفيه والإجرام

ما هي إلا ساعات من توقيت نشر المسلسل الكوري الجنوبي “لعبة الحبار” حتى بلغت مشاهداته رقمًا قياسيًّا فاق عشرات الملايين، وقد اشتهر مسلسل لعبة الحبار، بشكل ملفت للانتباه لدرجة أنك لا تكاد تتحرك في الفايسبوك أو اليوتيوب إلا وقد ظهر لك مقطعٌ منه.

بسبب شهرته الكبيرة انتابني الفضول لمعرفة محتواه وقصته، فشاهدت المسلسل كله دفعة واحدة في ليلة واحدة خلال 9 ساعات وهو عدد الحلقات إذ أن زمن كل حلقة ساعة واحدة، وبناء عليه أستطيع التعليق عليه بعلمٍ وذلك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

إشارات وتعقيبات

من جملة الأمور التي ينبغي التنبّه إليها أن فكرة المسلسل –برمتها- مشابهة لفكرة أنمي ياباني اسمه كايجي ويوجد مسلسلات أخرى أيضاً من الأنمي والتمثيل تقدم أفكارًا قريبة من الموضوع بتناولات متعددة، ومن المعروف أن لعبة الحبار تدور حول منظمة سرية عملها إغراء الفقراء والغارقين في الديون لسحبهم إلى أقسى أنواع القمار على الإطلاق “المقامرة بالأرواح” فإما الفوز بالمال الوفير وإما الموت أثناء المحاولة، إلا أن أنمي كايجي تضمن التعذيب والعقوبات بينما مسلسل لعبة الحبار ليس فيه إلا القتل.

إن هذه المنظمة من حيث المبدأ تشبه منظمة موجودة على أرض الواقع تنشط عبر النت المظلم -دارك ويب- ويدعى موقعهم الغرفة الحمراء -ريد روم- إذ أن وجه التواطؤ في المبدأ العام هو إهلاك الناس لغرض التسلية والاستمتاع بألمهم وأنينهم وبذل الأموال في سبيل ذلك، أما أوجه الاختلاف ففي نوعية الألم ما بين تعذيبٍ وقتل واختطاف واستدراج وإعطاء فرصة للنجاة وعدم إعطائها.

إلى جانب ذلك فقد كانت الفتاة الأنقى في المسلسل والتي نالت التعاطف الأبرز هي فتاة تكره مبدأ الربوبية ووجود الإله والمتدينين وتطرح شبهاتٍ لا دينية تبنيها على بعض المغالطات المنطقية التي لا ينتبه لها في الغالب معظم المشاهدين لهذا الفيلم، وهذه الأطروحات غير موجهة للمسلمين وإنما لجنس الديانات حتى ولو كان المثال المستهدف الديانة البوذية وحدها، نظرا لكون المسلسل كوريا، هذه الفتاة تضحي بحياتها لتنجو فتاة أخرى في المسابقة، بينما الراهب المتدين في المسابقة يضحي بالأبرياء لينجو هو.

ولكي لا ينتقد المشاهد هذه الفتاة تبرر موقفها بأنه ناتج عن صدمة اعتداء أحد الرهبان عليهم أو تدميره لحياة أسرتها وحياتها بالكامل.

إلا أن النقطة الأخطر في هذا السياق هو محاولة المخرج أن يصنع لصاحب المسابقة القاتلة هذه تسويغًا ما حتى ولو لم يؤكد على تأييده إذ جعل البطل معارضا له في الجزء الأول ولما يصدر الجزء الثاني بعد، ولكني أكاد أجزم أن الجزء الثاني أو الأجزاء التالية ستقود المشاهد أكثر فأكثر للتعاطف مع المجرمين صنّاع اللعبة.

وتر التعاطف

ينبغي التنبه إلى أن المسلسل حرص على إثارة الكلمات والمشاهد التي تجر إلى التعاطف مع فكرة المسلسل ولو كانت التفاصيل الداخلية متناقضة مع الطبيعة البشرية –التعاطف مع المجرم مثلاً- ويمكن الإشارة إلى ذلك إجمالا، مثل قضية اعتماد اللعبة على التصويت والديموقراطية، فمن حق المتسابقين أن يصوتوا على قرار التوقف عن المتابعة فإن وافق الأغلبية على ذلك توقفت اللعبة، وكذلك فإن المتسابقين لم يشاركوا في اللعبة إلا باختيارهم.

حاولت مشاهد المسلسل إظهار الشر الكامن في المتسابقين أنفسهم وذلك بقتلهم لبعضهم بعضا وكيدهم لبعضهم البعض طمعا في زيادة نصيبهم في المال، وذلك على خلاف مؤسس اللعبة ورأسها الأعلى الذي كان حريصا على العدل والمساواة بين اللاعبين –ضمن تسويغات تناقض فكرة العدالة ذاتها- لذلك فقد قام بقتل بعض الموظفين الذين كانوا يسربون فكرة الألعاب القادمة لأحد المتسابقين مقابل مساعدته لهم في تشريح جثث الموتى لبيع أعضائهم، فقال: “لا يهمني بيعكم لتلك الأعضاء أو إحراقها مادام أصحابها قد ماتوا ولكن الذي آلمني خرقكم للنظام الأساسي لهذه اللعبة وهو العدل، إذ أن هؤلاء البؤساء المساكين لم يُمنحوا فرصا عادلة في الحياة ليكسبوا أموالهم ونحن هنا نعوضهم عن ذلك الظلم لنعطيهم فرصا عادلة للنجاح يتساوى فيها الجميع”.

هذا الرأس الكبير لا يعرفه المشاهد بشخصيته أو بكونه مؤسس اللعبة وقائدها الأعلى، إلا أنه سيتعود على مشاهدته لاعبا يتحمل كل الصعاب كما أنه وضع نفسه في ذات الخطر الذي وُضع فيه أولئك الفقراء ليعبروا بذلك عن عدله في اللعبة ومساعدته لبعض الطيبين فيها للنجاح، وبذلك ينسى المشاهد مئات الضحايا الذين ماتوا بسبب هذه اللعبة، خاصة الذين قُتلوا في أول مسابقة ولم يكونوا يعلمون بوجود القتل فيها.

إن هذا المسلسل -أو تصميم القوانين التي بثّت فيه- يبعث في النفس حب القتل والتمتع به، كما أنها تميت القلب وتزيده ظلاما، كما أن الأفكار التي يبثها هذا المسلسل خطيرة جدا على الوعي واللا وعي ولكن معظم الناس لن ينتبهوا إلا لجانب المتعة والتسلية في متابعة هذا المسلسل.

ليس سبب كتابتي للمقال هو الحث على عدم مشاهدة المسلسل أو مشاهدته وإنما أردتُ التنبيه على هذه النقاط، حتى إذا وُجد من شاهد هذا المسلسل من قراء مقالي هذا أمكنه الانتباه لها أو تنبيه غيره عليها، حتى لا يسلّم عقله لمثل هذه الأفكار الخطيرة من دون أي مقاومة فكرية.