اللغة وسلوك الإنسان .. هل للغة دورٌ في التفوق العقلي؟

تشير نظريات اللسانيات المعاصرة إلى أن للغة وبنيتها وعلاقتها بالتفكير دورًا مهمًّا في سلوك الإنسان، وقد كان الطريق لذلك التعمق في ربط علم اللسانيات بعلم الأعصاب والنفس الحديثين، وقد ناقش البروفيسور “ديريك بيكرتون” عام 1992 في جامعة واشنطن دور اللغة في التفوق والسلوك والذكاء في ثلاث محاضرات جُمعت لاحقًا في كتابه “اللغة وسلوك الانسان”، ليصل إلى أن عملية التفكير والذكاء لم تكن لتتحقق دون امتلاك الإنسان للّغة بشكلها الإنساني.

لكن ما هي اللغة؟ وهل هي مجرد أداة تواصل، وما دورها في التفكير وتطور الذكاء البشري، وهل الذكاء يُعزى حقاً إلى نمو حجم الدماغ أم أن الأمر عائد لوجود اللغات البشرية؟

اللغة ودورها في التفكير والذكاء

يرى ديريك بيكرتون في كتابه المشار إليه أن السلوكيات الغريزية لأغلب الكائنات تتصف بأنها نفعيّة تلبي الحاجات الرئيسية للنوع كالتكاثر والبحث عن الطعام والشراب ومواجهة الخصوم بهدف البقاء، في حين أن الإنسان يستطيع القيام بالعمليات الحسابيّة ويتميز على تلك الكائنات بالوعي العميق، فلديه الفن والأخلاق والقيم، ويتحدث عن المنطق والجدل ولا يتوقف عن البحث ودائماً ما يتساءل من هو.

تساءل بيكرتون: هل للغة دور في كل هذا؟ وهل امتلاكنا للّغة بشكلها المعقد والقواعد النحوية التي تتضمنها دورٌ في ذلك؟ وهل هناك فرقٌ بين الأصوات التي تستخدمها الحيوانات والبنية اللغوية للإنسان؟

عالم اللغة ديريك بيكرتون

ديريك بيكرتون

الإجابة هي نعم، فالحيوانات عندما تستخدم صرخات الإنذار، فإنها تعبر عن خوفها الغريزي، وتعطي إشارات إنذارٍ باقتراب الخطر، أما اللغات البشريّة فإن الإنسان يستطيع النطق والقول بكل بساطةٍ إن خطرًا قادم.

فالفرق بين صيحات القرود مثلاً واستخدام الإنسان للغة يكمن في أن استجابة الحيوان لحظيّة والصيحة لا تعني حقيقةً سوى أن هناك شروط بينها وبين الخطر القادم، لكن الإنسان لا يكتفي بالتحفيز الشرطي، بل يستطيع توليد مفاهيم متعددةً عن تلك العبارة، فجملة “هناك خطر” قد تجعل الإنسان يطرح سؤالاً عن نوع ذلك الخطر وطبيعته، وهل هو خطر حقاً، ويستطيع توظيف الحدث ليتسأل لماذا نشأ هذا الخطر، فالإنسان دائماً ما يستطيع إضافة موضوعات معرفيّة جديدة ويبحث عنها..  وهذا المجال المفتوح هو التميز الذي يفرضه الوعي الإنساني.

ولفهم الموضوع بشكل أكبر، دعونا نأخذ الصور الذهنيّة ونطابقها مع عملية الإدراك: فعندما يقال: هناك قطة على السجادة، فإن كلاً من صورة القطة والسجادة سترتسم في الذهن، وقد نستطيع رسمها أيضاً، لكن لو سئلنا مثلاً: ما حجم السجادة؟ وهل القطة سوداء أم بيضاء؟ أو هل هي ساميّة أم فارسيّة؟ ومتى كانت على السجادة وهل نهضت وماهي جهتها بالنسبة لنا؟

هنا هل سنقول هي مجرد قطة وسجادة فقط؟ بالتأكيد لا، وهذا عائد لطبيعة البشر الفكرية وخصائصهم الذهنية الكثيرة، وهذا يؤكد الحاجة للغة من أجل التعبير عن مختلف المقولات والأحوال كالزمان والمكان والجهة والحجم.

النحو والقواعد الدور والحاجة!

يشير ديريك إلى أن بعض التجارب أثبتت وجود قدرة بسيطة لبعض الحيوانات على تشكيل قضايا لغوية بدائية، فمثلاً استطاعت الحيوانات من خلال التلقين تركيب كلمات من مثل “أنا آكل برتقالة”، وللوهلة الأولى تبدو هذه الجملة وكأنها مرتبة إذ أنها تتضمن كلاً من الفعل والفاعل والمفعول به، لكن هل ستستطيع الحيوانات إذا افترضنا أنها فهمت المعنى من الجملة، فهم كلمات من مثل “أنا البرتقالة آكل”، أو “آكل البرتقالة أنا” أو “البرتقالة أنا آكل”؟  بالتأكيد لا، لكن بالنسبة لنا فإننا لا نرى اختلافاً كبيراً بين هذه الجمل نظراً لامتلاكنا النظام النحوي لكثير من الصيغ بالفطرة.

وكذلك بالنسبة لاستخدام كلمات مثل “إذا ولكن وإن” فإن جميعها واضحة جداً بالنسبة لنا، وهناك أيضاً قدرتنا على الإضافة ما لانهاية، فجملة مثل “كلب كبير”، يمكننا أن نضيف عليها لتصبح مثلاً “كلب كبير أحمر اللون”، وأيضاً: كلب كبير جداً ذو لون أحمرٍ جالسٌ على الأريكة… إلخ..

كذلك فإن منطق القواعد النحوي يعيننا على استيضاح العلاقة بين السبب والنتيجة والفعل والآخر، وهنا تستخدم العديد من الأدوات، مثل: إذا – فإن – لن – إلا إذا.. إلخ

إن النحو الذي يمتلكه الإنسان يساهم –ببنيته- بشكل كبير بازدياد ذكائنا وتميز اللغة البشرية عن اللغة الحيوانية البدائية.

وقد يقول بعض الناس إن قواعد النحو وضعها بعض الأفراد العباقرة!، لكن لو ذهبنا نبحث في بنية لغات الشعوب والعالم مع الاختلاف الكبير بين الثقافات والمجتمعات، سنجد تشابهاً واضحاً بينها، بل إن كلاً من اللغة الصينية والأمريكية مثلاً وعلى الرغم من اختلاف كلٍ من البيئتين والمجتمعين، فأننا سنجد أنهما متقاربات في البنية، يقول “إدوارد سابير”: “أما فيما يخص اللغة فإن لا فرق بين أفلاطون يمشي مع راعي الماشية المقدوني”.

والملفت للانتباه أن هناك تجارب أقيمت على أطفال من الصمّ تلقوا إيماءات لغوية، فاستطاعوا تكوين بنية لغوية متكاملة، كذلك استطاع أطفال قد تلقوا خليطاً من لغتين في هاواي تطوير لغة مزيج خلال جيل واحد!  وكأن النحو نموذج واحد موجود في جميع العقول وهو يبرمج العقل دائما لإعادة تنظيم ما يتلقاه.

وهذا يدفعنا للقول: إن الاعتقاد الشائع بأن اللغة هي مجرد وسيلة للتواصل قد أثبت خطأه، فالتواصل ما هو إلا استعمالٌ واحد من استعمالاتها.

إدوارد سابير

العلاقة بين الذكاء اللغوي وتطوّر التفكير

يتركّز حديث ديريك هنا على مستويين، هما: زيادة حد الذكاء، وإيجاد الشكل المميز في طريقة تفكير البشر.

تشير الدراسات إلى أن الذكاء البشري يزداد مع اللغة، وأن ذكاء الإنسان يزداد من خلال خوضه في مجاهيل اللغة.

قد يقول البعض: إن ذكاءنا هو بسبب امتلاكنا أدمغة كبيرة متطوّرة، لكن دعونا نلقي نظرة على ما تقوله نظرية التطور بهذا الموضوع وماهي الإجابات المقدمة من قبلها:

إذا أخذنا “الهومينيد” كما تدّعي نظرية التطور -وهو أحد أصناف القردة العليا- فإن دماغه يبلغ ضعف حجم دماغ القرد، ومع ذلك لا تظهر الفوارق بين الدماغين بشكل واضح، ولو اقتربنا أكثر وقارنّاه بالفترة التي ما قبل مليوني عام  فإن الأدوات التي صنعها “هومو هابيليس”  ظلّت بدائية لا تنم عن فوارق وظيفيّة واضحة، والأدوات التي صنعها “هومو اركتوس” و الفأس الأكوينية التي تُعد أشهر أدواته لم تكن أداة مكتملةً صُنعت لتؤدي غرضاً معيناً، وحتى مصنوعاتُ ما قبل الإنسانِ ضيقة المجال إلى أبعد الحدود، وهذا طبعاً جدَل تابع للتسليم أساساً بصحة النظرية الدراوينية، ورغم أن دماغ “هومو أركتوس” بلغ نطاق الأدمغة البشرية منذ حوالي مليون ومئتي عام، فإن “إنسان النياندرتال” قد امتلك دماغاً أكبر من دماغ الإنسان الحديث، وحتى الأدوات التي صنعها لا تمثل تقدماً مهماً على الفصائل السابقة مع أنه كان يمتلك قدرة بسيطةً على التعلم، لكن.. ليس هناك أيُّ دليلٍ على قدرته على الاختراع.

لقد ظهر الإنسان الحديث ودماغه أصغر، وظهرت معه كم هائلٌ من الأدوات الجديدة والمتنوعة مما ساعد الإنسان على بناء هذا العالم الذي يعج بالصناعات في يومنا هذا.

وبناءً على المعطيات السابقة يرى ديريك أنه لا يمكننا أن نعزي الذكاء البشري إلى نظرية التطور أو نمو حجم الدماغ، فلا بد من حدوث تبدّل جذري في طريقة تنظيم الدماغ، وربما تكون اللحظة السحرية –برأيه- هي تلك اللحظة عندما نُطقت أول عبارةٍ ذات معنى، واستجاب لها الإنسان المقابل بشكل ملائم.

إن الحيوانات -كما أُشيرَ سابقاً- ترتبط صيحاتها بمحفز سلوكي، ويتخذ الدماغ ردة فعل فورية بسبب تحفيز المناطق التي تتحكم بالسلوك، فلو صرخت القرود بأن هناك نمراً قادم، فإن أغلب القرود ستتسلق الأشجار، أما الإنسان فإنه إذا سمع صراخ كلمة “نمر”، فإن هذه الكلمة لا تقوم -بالضرورة- بتحفيز أي شيء ومن الممكن أن تدخل بمجالٍ غير محدود من الاحتمالات التي قد نفكر بها، بمعنى أن هناك انقسام حقيقي حصل داخل بنية الدماغ حيث أن هنالك انفصال بين المناطق التي تتحكم في السلوك الحركي، فردة فعل الإنسان تعبر عن وجود مناطق من الدماغ ليست على اتصال مباشر مع مراكز الحركة، وليس لهذا سابقة بتاريخ التطور أو الكائنات.

إن هناك ثلاثة مبادئ أساسية حكمت الكائنات منذ وجودها وهي: إذا حدث شيء مهم فافعل شيئاً ما تجاهه، وإذا لم يحدث فوفر طاقتك.. وهذين المبدأين نافذان على مستوى الحيوانات.

أما المبدأ الثالث الذي غير وجه العالم وهو: إذا رأيت شيئاً قد يكون مهماً فلا تتصرف على الفور بل فكر بالأمر لعلك تستطيع التصرف فيما بعد. وهذا الأمر لم يكن ليحدث من دون وجود لغة بشرية.

يظهر تاريخ الإنسان اللغوي على مرحلتين، الأولى: تحتوي على معجم لغوي أو ذاكرة مفردات بدون قواعد نحوية، والثاني: مرحلة إنتاج بلا حدود لها بوجود القواعد النحوية، فمثلاً استطاعت القرود المدربة عبر التجارب والتلقين على إنشاء بعض الكلمات التي كانت وظيفتها ترتبط شرطياً بالمحفزات لكن قل ما نجد قرداً يتحدث من تلقاء نفسه إلا نادراً عندما يريد التعبير عن أمور عاطفيّة بسيطة أو الإشارة إلى شيءٍ بالبيئة المحيطة، ولم يحدث أبداً أن كان دافع الحديث هو المبادرة بإعطاء معلومات غير مطلوبة أو استرجاع أحداث ماضية كما يفعل البشر مع لغتهم.

ثمة مستويان من اللغة كما يقول ديريك، وهما: اللغة البدائية التي تستخدمها الحيوانات للتعامل مع محطيها حسب ما تمليه الظروف ويسميه بالتفكير الموصول ويشترك البشر مع الحيوانات في هذا المستوى، إلا أنهم يزيدون عليهم بالمستوى الآخر الذي يشكل أساس الوعي والتفكير، وهو التفكير منفتح الآفاق، الذي نستخدم به الجدل ونتجاوز لحظتنا التاريخية من خلاله ونفكر بالمستقبل ويُطلق عليه التفكير المفصول.

التفكير الموصول والتفكير المفصول

بما أن للغة مستويات فكذلك للتفكير عدة مستويات يندرجان ضمن التفكير الموصول والمفصول.

التفكير الموصول: هو الذي يرتبط بالبيئة المحيطة بالفرد مباشرة ويتفاعل من خلالها مع ما يراه ويسمعه ويدركه من خلال حواسه وهذا التفكير ضروري للبقاء على قيد الحياة.

أما التفكير المفصول: فهو التفكير الذي لا يتحفز من خلال الحواس بل يعمل داخليًّا من تلقاء نفسه، ولا علاقة له باللحظة الحالية التي يعيشها الفرد، ولا بالمحفز الخارجي المباشر، وهذا التفكير هو أساس تقدم المعرفة الإنسانية.

ولتبسيط الأمر نقدم المثال التالي:

هل رأيتم من قبل نمراً يتدرب أو أي حيوان آخر، على التمارين الرياضية؟

بالطبع لا؛ وذلك لأن سلوك النمر والحيوانات مرتبط بالغريزة والمحفز فقط، أما الإنسان فيتدرب ويقوم برياضات عديدة وعملية التدريب نفسها عملية تحليل وتركيب، ومنها يستنبط معياراً ويقوم بالتحسين عليه، بحيث يتفاعل مع حياته ويوظفها لأجل غاية داخله.

ولنتخيل الموقف التالي، إنسان ما في سيارته يقودها ذاهباً إلى اجتماعٍ ما، على الأغلب فإنه يفكر بماذا سيقول وماذا سيفعل وكيف سيكون الاجتماع، و فجأة تتوقف العربة التي أمامه، هنا سوف يختفي الاجتماع من عقلي مباشرةً ويضغط على المكابح، وحينما يقوم بإيقافها قد يخمن أن هناك طفل صغيراً خرج أمام العربة التي تسير أمامه أو حدث شيء ما مما اضطرها إلى التوقف، وبعد انتهاء هذا الحدث ربما يعود ليفكر بالاجتماع من جديد.

إن داخل هذا الموقف نوعين من التفكير، تفكيراً قد تجاوز اللحظة الحالية (تفكير بالاجتماع)، وتفكير مبني على معطيات سابقة وعلى السببية وذلك عندما خُمِّن سبب الحدث، هذا بالإضافة إلى التفكير الموصول وذلك عند الضغط على المكابح.

أخيراً

استنتاجاً للسابق يمكننا القول إن التفكير المفصول هو أهم ما يميز عملية التفكير عند البشر، وهذا النوع من التفكير لا يمكن أن يوجد بدون اللغة التي مكنته وذلك من خلال حفظ الذاكرة للمعاني والأحداث واستحضارها متى يشاء، وكذلك فإنه يمتلك النحو الذي يساعده على توليد القضايا المعقدة، ولا يمكن الفصل أبداً بين اللغة والذكاء والوعي وعملية التفكير، إذ أنها عملية متضافرة يحتاج الجميع فيها إلى بعضهم البعض وأساسها اللغة.

إن اللغة نعمة عظمى من الله، ومزيّة كبرى ميّز الإنسان بها، ولها قيمتها في جميع مجالات الحياة البشرية، وهي الخاصية التي تميز بها الإنسان عن سائر الحيوان، ولو أن البعض قد عدها وسيلة فإن ذلك قصورٌ عن الحقيقة إذ إنها جزء من هوية الإنسان تربط بين الفكر والعمل، وبفضل هذه النعمة –وغيرها- أصبح الإنسان كائنا مثاليًّا على وجه الأرض.