مغالطات الحداثيين في تناول موضوعات الوحي كمصدر للمعرفة

كثيرًا ما تؤدي الانتقائيّة إلى الوقوع في فخّ التّشتّت وفوضى الوعي، فالبناء العقليّ السّليم يقتضي الانطلاق من مصادر معرفيّة سليمة هي بمثابة المشترك العقليّ بين البشر، كما يقول كانط: “العقل هو أعدل الأمور قسمة بين النّاس”.

والعقل مقيّد بمدخلاته ومصادر معرفته، ولكنّنا نجد أنفسنا في واقع فكريّ هجين بين محاولات رفض ماضي الذّات ومحاولات استنساخ حاضر الآخر.

هذا الواقع يستدعي طرح تساؤل حول (الهويّة) المعرفيّة، والدّينيّة، والفكريّة، والاجتماعيّة، والسّياسيّة، للإنسان العربيّ، وأسباب ضياعها أو تحوّلها لهويّة هجينة محيّرة تكبل الإنتاج والإبداع والنّهوض.

وعلى الرّغم من أهميّة البحث عن إجابة سؤال الهويّة، إلّا أنّ موضوع هذا المقال هو من متعلّقات هذا التساؤل بشكل مباشر، وغير مباشر. وهو الحداثة الغربيّة وأثرها في الفكر العربيّ الذي لا بدّ أن يكون أثرًا مشوّهًا بسبب اختلاف البيئة، والمنهج، والغايات.

ومن أهمّ مستندات الحداثة فكرة مفادها أنّ الإنسان هو مركز الكون وسيّده، وأنّه غير مفتقر ولا محتاج لسواه لتدبير أمور نفسه ومجتمعه.
وهي فكرة يؤدي انتقالها إلى الفكر العربيّ -الإسلاميّ خاصّة- إلى الكفر بخالق الكون، ورفض سيادته وقيوميّته عليه. والقراءة النّصيّة في كتب الحداثيين العرب توصلنا إلى محاولات تفنيد فكرة مركزيّة الله، وحصرها في الإنسان من خلال الطّعن بأمرين هما: ذات الوجود الإلهيّ، ووسيلة تواصل الخالق مع الخلق، وهي المعروفة لدينا بالوحي.

ومغالطات الحداثيين العرب بتقليد المنهج الحداثيّ الغربيّ في رفض فكرة الوحي كمصدر معرفيّ ضروريّ للإنسان، هي مجال حديث هذا المقال. على أنّنا لا نغفل عن ذكر جهودٍ عربيّة فكريّة تناولت المنهج الحداثيّ بالنّقد والتّمحيص، وساهمت في محاولة لتأسيس فكر حداثيّ عربيّ أو إسلاميّ منضبط، مع المحافظة على ذات فكريّة مستقلّة تتصل بالماضي بمقدار ما يحتاجه الحاضر، وتأخذ في طريق استقلالها شروطها التّاريخية والقيميّة بعيدًا عن التّبعيّة والماديّة، كما فعل المفكر طه عبد الرّحمن في كتابه “روح الحداثة: المدخل إلى حداثة إسلاميّة”، فجعل مقوّمات الحداثة ثلاثة أمور هي: الرّشد والنّقد، والشّمول. بحيث تفتعل كلّ أمّة حداثتها الخاصّة دون دعوة إلى القطيعة مع التّراث، وإنّما دعوة إلى مبادئ وأسس خاصّة ينبغي تطبيقها للنّهوض بالحضارة الإنسانيّة.

“إنّ علاقة الفرد بتراثه ليست علاقة نظريّة جامدة، ولا علاقة اختياريّة، بل وجدانيّة اضطراريّة. دون أن يقصد من ذلك قبولًا غير منضبط للمنقول، أو رفضًا تامًّا لمنهجيّات نقد التّراث.” [1]

ظهر مفهوم الحداثة بعد مرحلة تاريخيّة مرّت بها مجتمعات إنسانيّة غربيّة اصيبت بظروف بيئيّة لعبت السّلطة الدّينيّة، والسّلطة السّياسيّة دور البطل فيها، وبعد هذه المرحلة تبلورالمفهوم ليطلق على أيّ حركة تدعو إلى الاستنارة الفكريّة، والخروج من الماضي، والنّظر إلى الحاضر بأدوات عقليّة فرديّة.

يشير المسيري إلى مفهوم الحداثة، فيقول: “ثمة ما يشبه الإجماع على أنّ الحداثة مرتبطة تمامًا بفكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من فكرة أنّ الإنسان هو مركز الكون وسيّده، وأنّه لا يحتاج إلّا إلى عقله، سواء في دراسة الواقع، أو إدارة المجتمع أو للتّمييز بين الصّالح والطّالح، وفي هذا الإطار يصبح العلم هو أساس الفكر، مصدر المعنى والقيمة، والتّكنولوجيا هي الآلية الأساسيّة في محاولة تسخير الطّبيعة وإعادة صياغتها ليحقّق الإنسان سعادته ومنفعته، والعقل هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى المعرفة.” [2]

كما نجد في مبحث مفهوم الحداثة دلالات فلسفيّة واجتماعيّة مرتبطة بالفعل، فليست الحداثة مفهوم نظريّ، أو آلة فكريّة مجرّدة، بل تؤثر في الفرد بما يغيّر قناعاته وبالضّرورة تغيّر سلوكه أو تبنّيه من جديد.

أمّا مفهوم الوحي فهو واسع ويتفرّع عنه مسائل عديدة، ما يهمّنا هنا هو المفهوم نفسه، فهو وسيلة اختارها الله خالق الكون ليتواصل بها مع البشر، ويعلّمهم بأمور توقّفت عنها عقولهم كإجابة سؤال النّشأة والغاية والمصير. فالمعرفة القادمة من الذّات الإلهيّة الخارجة عن ماهية الكون هي أعلى درجات المعرفة، فمن أدرى بالمخلوقات من الخالق؟

مع التّنبيه إلى استغناء الإله عن الوسائل والطّرق، فمن لوازم الإيمان بأنّه إله، ومن موجبات إلوهيّته أنّه فعّال لما يريد ولا يُسأل عمّا يفعل.

لم تنعكس الحداثة الغربيّة في الفكر العربيّ على استشكال مفهوم الوحي وحسب، بل تعدّت إلى رفض النّظرة الدّينيّة لأصل الوجود وشكّكت في حقيقة وجود الذّات الإلهيّة، وبعثة الأنبياء، والخوض في طبيعتهم البشريّة وإمكانيّة ادّعاء الوحي وهيئاته، والتّشكيك في حجيّة السّنّة، والمطالبات بإعادة قراءة وتفسير النّص المقدّس بما يتناسب مع الواقع الحاليّ مع ضرورة إهمال كل التّفاسير السّابقة إلى آخره من المسائل الدينيّة في الفكر العربيّ، والتي صادمت فكر الحداثة الغربيّة.

لكن حار دليلنا مع كمّ الأفكار المتناقضة بين مفكري الحداثة العرب، وطريقة تناولهم الذّاتيّة لكلّ مسألة من مسائل الدّين غير المتوافقة مع فكرهم الحداثيّ المُقلّد، فبين محاولات التّوفيق ومحاولات الانسلاخ، تضيع المبادئ ويضيع المعيار النّقديّ، وقد يتحوّل إلى مصالح ذاتيّة فرديّة، منطلقها في النّقد الجهل والهوى والرّغبة الجامحة في هدم الموروث، والخروج عن طبيعة التّفكير السّائدة!

“فترى أحدهم  ينعى تعطيل العقلانيّة والبرهانيّة في تاريخ الفكر العربيّ لصالح عرفانيّة الغزالي التي أفضت إلى غيبوبة العقل برأيه، ثمّ تراه في سياق آخر يستدعي نصًّا صوفيًّا للنّفري مشيدًا بشعريّته العالية ورؤيته الكونيّة، ويراه مثالًا للنّصّ الإبداعيّ العالي الذي تواطأت المؤسّسة الدّينيّة الثّقافيّة على تغييبه.” [3]

جاء تعريف نظريّة المعرفة في المعجم الفلسفيّ على أنّها: البحث في طبيعة المعرفة وأصلها وقيمتها ووسائلها وحدودها. فمكوّنات المعرفة داخلة في التّعريف نفسه، وأهمّها هي الوسائل أو المصادر. وقد اتّفق عقلاء الحضارات على أنّ هذه المصادر لا تخرج عن ثلاث؛ العقل، والخبر، والحس. وأنّها تشكّل في وعي الإنسان تكاملًا معرفيًّا موزونًا لا يشوبه النّقص المعرفيّ الدّنيويّ. ومع ذلك استعلى بعض الحداثيين عن الوحي، واستشكل بعضهم متعلّقاته مع محاولات لنزع قداسة النّصّ والتّشكيك في مصدره، وننطلق الآن في سرد بعض هذه الإشكالات، ثمّ بيان المغالطات التي وقع بها الحداثيون العرب في هذا السّياق.

يحتجّ المشروع الحداثيّ على العقل الإسلاميّ بأنّه محكوم بنظام معرفيّ واحد متمثل باللّاهوت أو الوحي، والجهود الفكريّة في تاريخ الفكر الإسلاميّ ما هي إلّا مجرد “نضالات من أجل الحقيقة”، وهذا ما يقوله محمد أركون، عرّاب الفكر الحداثيّ المعاصر.

يقول أركون: “العقل الدّينيّ ينشط داخل إطار المعرفة الجاهزة، ويقوم باستخراج المعرفة الصّحيحة اعتمادًا على النّصوص الدّينيّة، ولذا فإنّه يبقى عقلًا تابعًا لا مستقلًّا، فليس بمقدوره أن يقدّم مشكلة مشروعيّة المرور أو الانتقال من مرحلة الوحي (النّصّ المقدّس) إلى مرحلة المعارف المنجزة طبقًا للمنهجيّات الأصوليّة.” [أركون، 1989]

ومغالطة هذا القول تكمن في أمرين؛ أولهما أنّه ممتلئ بالألفاظ المشحونة التي توهم القارئ صحّة الكلام، وتتضمّن في دلالتها معنى سلبيّ يستحضره الذّهن تلقائيًّا عند قراءتها، وتعكس الجانب الشّخصيّ للكاتب أو المتحدّث. والأمر الثّاني هو أن كلام أركون منطلق من افتراض مبنيّ على استقراء ذاتيّ لجهود المفكرين والعلماء المسلمين من قبل ومن بعد، وهذا ما يسمّى في علم المنطق بمغالطة التعميم المتسرّع بحيث يفترض الطّرف الأوّل فرضيّة ثمّ يعمّمها على كلّ عيّنات وكلام الطّرف الثّاني دون برهان منطقيّ صائب بل مجرد استقراء ناقص.

فالموروث الإسلاميّ منطلق من تكامل مصادر المعرفة بين العقل والخبر والحسّ، والفِرق الإسلاميّة تتفاضل فيما بينها بمناهج المعرفة التي بنيت عليها مواقفها من المسائل الدّينيّة، فنجد ابن تيمية مثلًا يتحدّث في منع تعارض العقل مع النّقل، ولا حاكم ولا محكوم بين مصادر المعرفة، بل هو تكامل تامّ.

ويغفل الحداثيّون عن أنّ محلّ نقاش الفرق الإسلاميّة بين بعضها، هو كيفيّة التّعامل مع النصّ القرآني بين تأويل وتفويض، وليس التّقديم المطلق للنّصّ على العقل، أو إغفال مصدريّة الثّانية، وتحكيم الأوّل بالمطلق.

ولو شئنا أن نغالط لقلنا إنّ الحداثيين يقعون بمثل هذا -أي الاحتكام لنظام معرفيّ واحد- فالعقل عندهم هو بمثابة الوحي عندنا، وهو نظامهم المعرفيّ الوحيد! ولكنّنا نستعلي عن مثل هذه الأساليب، ولا نوافق قولهم من أساسه.

وللحداثيين اعتراض آخر على الوحي يتمثّل في أنسنة النّصّ، وإقصاء الإله عن توجيه الإنسان، وجعله محور الوجود وسيّده وواضع المبادئ والقيم له، فيرجع الأمر كلّه للإنسان لا للإله.

يقول نصر حامد أبو زيد في كتابه نقد الخطاب الدّينيّ: “ولعلّنا الآن أصبحنا في موقف يسمح لنا بالقول إنّ النّصوصّ الدّينيّة نصوصًا لغويّة، شأنها شأن أيّة نصوص أخرى في الثّقافة، وأنّ أصلها الإلهيّ لا يعني أَّنّها في درسها وتحليلها تحتاج لمنهجيّات ذات طبيعة خاصّة تتناسب مع طبيعتها الإلهيّة الخاصّة.” [4]

وهذا القول هو محور مشروع الأنسنة التي يتبنّاه بعض الحداثيين، وثمة أمثلة أخرى ومقالات عديدة تدور كلّها حول نفس الفكرة (فصل النّصّ عن مصدره) وإعادة قراءته على صورة واقعيّة مع تهميش لأدوات الفهم الخاصّة وجهود المفسّرين المتوارثة. وهذا القول في رأيي ينطوي على عنصر الاستعلاء النّخبويّ المضمر الذي يلازم المفكر الحداثيّ، والغريب ما نراه اليوم ممّن يتصدّر منصّات الإعلام والثّقافة، فيستعلي عن الدّين وحالة التّديّن ويربأ بنفسه وعقله عنه، كأنّ من شرط النّخبويّة الطّعن في المقدّس!

ومغالطة تبنّي هذا الرّأي تكمن في تهوين الرّأي الذي تتمّ محاورته، بادّعاء بنائه على نحو يصير من اليسير نقده، وإمكانيّة عدم صدقه، بحيث يصير قائله كغيره من النّاس ليس لقوله أيّ حجّة. وهو ما يُعرف بمغالطة رجل القشّ، الغلط هنا يكمن في أمر دقيق غفل عنه الحداثيّون؛ إذ إن تسلسل الأفكار المنطقيّة المختصّة بذات الإله تُلزم الإنسان بالتّسليم والطّاعة لأوامره إذا ثبت صدق حاملها، وهذا متحقّق في النّصّ المقدّس الذي بين أيدينا وهو القرآن، فلِمَ هذا الخوض في تفاصيل الأفكار الدّينيّة وترك أصولها؟ فالأصل في النّقد هو النّظر إلى أصل الفكرة، وليس الخوض فيما يلزم عنها مع عدم تقرير أصلها، أهو خلاف أم نقطة اتّفاق، فإنّ إقرارهم بوجود الله والصّفات اللازمة له كإله واحد للكون، وأنّهم يؤمنون بالقرآن كلامًا له، يبطل قولهم ومطالبتهم بالأنسنة بالضّرورة.

فهو شبيه بالتّناقض كمن يقول أنا أؤمن بإله، لكن أؤمن بمحدوديّة قدرته أيضًا، وهذا باطل بالضّرورة العقليّة، فلازم الإله القدرة والإرادة المطلقة.

وفي النّهاية تقلّب الفكر العربيّ بالحداثة الغربيّة، ومرّ بأطوار كثيرة ظلّ الثّابت في كلّ طور منها؛ هو الدّعوة إلى الأنسنة والعقلنة، والمتّتبع لنصوص الحداثيين، يجدها في معظم الدّعاوي تفتقد للمنطق والبناء العقليّ السّليم في أصول الأفكار وفروعها، وما تقدّم من نماذج قليلة هو على سبيل الذّكر لا الحصر، وليس الغاية من هذا كلّه الإقصاء، وادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة دون الآخرين، بل هي دعوة إلى الخروج من النّزعة الاستعلائيّة والاختزاليّة للحداثة، والنّظر إليها كفلسفة قابلة للنّقد، وعدم قراءة النّصوص الحداثيّة قراءة سطحيّة لا تستبطن منظومتها الغربيّة ولا المعرفيّة.


[1] طه عبد الرحمن، حوارات من أجل المستقبل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2010، ص 16

[2] عبدالوهاب المسيري، دراساتمعرفية في الحداثة الغربية، القاهرة،دار الشروق،٢٠٠٦،ص٣٤

[3]  وليد سيف، الشاهد والمشهود، الأردن، الأهلية للنشر والتوزيع، ٢٠١٦،ص٢١١

[4] نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني ،ص٢٠٦