نقد الخطاب المدني والعبودية الناقصة

من المسائل المركزية التي استُحضرت مؤخرا في النقاشات القائمة في فضاء الفكر الإسلامي هي نظرة الإسلام إلى الحضارة والمدنية، وقضية ما إذا كان الإسلام قد دعا إلى إقامة حضارة عصرية أو مدنية متقدمة، أم أنه يعدها مسألة ثانوية، ولذلك لم يعطها ذلك الاهتمام الكبير.

ويبدو أن الكلام في هذه القضية بدأ يستحوذ على اهتمام خاص في البيئة العربية الإسلامية بعد عصر النهضة الأوروبية واكتشاف المسلمين الفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين الأوروبيين، وتجلي ذلك في ميادين العلوم الطبيعية والإنسانية والتقدم التقني في المجالات الصناعية والزراعية والحربية وغيرها، وهو ما انكشف للمسلمين مع الحملات الاستعمارية التي اجتاحت معظم البلاد الإسلامية، وكذلك عن طريق البعثات العلمية التي أُرسلت إلى الديار الأوروبية. وبناء على ذلك نشأ تيار من العلماء المسلمين أفزعه ذلك التخلّف وقض مضجعه، فانطلق يدعو المسلمين إلى ضرورة النهوض، وبنى خطابه الإصلاحي على مركزية الشهود الحضاري، وجعل يحرّض المسلمين ويستحثّهم على استئناف مسيرتهم الحضارية، والعودة إلى مركز الريادة في سائر مجالات الحياة. وعلاوة على ذلك رأى بعض منظري هذا التيار أن وظيفة الإنسان المركزية في الحياة هي عمارة الأرض، وما سوى ذلك ما هو إلا وسيلة لهذه الغاية.

وعلى صعيد آخر قام الحداثيون العرب بالدعوة إلى تقليد الغرب بعجره وبجره، واقتفاء أثره شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وصار التقدّم المدني عندهم معيار الحكم على المجتمعات والثقافات، وقد تطوّر الأمر عند بعضهم إلى درجة التصريح بعدم صلاحية الإسلام وشريعته للزمن المعاصر باعتبار أن المسلمين أصبحوا متخلّفين في مختلف المجالات الدنيوية، بينما تقدّم الغربيّون بمراحل بعيدة خارج إطار الدين، فقال هؤلاء: تعالوا نضع الدين جانبًا كما فعل الغربيون من أجل أن نصل إلى ما وصلوا إليه. وهذا الفريق على اختلاف أقنعته ومشاربه من علمانية وليبرالية وحداثية، لا نستهدف مناقشته في هذه المقالة، فقد كُتبت الكثير من الردود على أطروحاته بما كشف لنا حقيقته وأغراضه وخطورة أفكاره على المجتمعات الإسلامية ونهضتها المنشودة.

لكن الذي يهمّنا هنا هو مناقشة ردود بعض الإسلاميين المعاصرين التي تُقدم تحت عناوين من قبيل “نقد الخطاب المدني” و”الرد على الأفكار الحداثية أو الليبرالية” وما أشبه ذلك، لكنها في الواقع تحاول -في حيّز كبير منها- تقديم ردٍ على خطاب المدرسة الإصلاحية، الذي نُسِب إليه مسمى “الإسلام الحضاري”، ونقد بعض أفكاره المركزية.

معارضة الخطاب المدني بمركزة مفهوم العبودية لله  

وجد بعض الباحثين ممن اشتغل بنقد الخطاب المدني -وقد لاقى خطابهم قبولا لدى الشباب- الحلَّ في المقاربة التالية: الإسلام ما جاء للناس لكي يقول لهم ابنوا حضارة أو شيّدوا مدنية، لكن جاء لدعوتهم ليكونوا عبادا لله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وكل دعوات الأنبياء مع أقوامهم المسجلة في القرآن شاهدة على ذلك، بل هي صريحة وواضحة في مركزية هذه الدعوة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وذلك ظاهر من نداءاتهم المتكررة {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [هود: 61]، بل نجد فوق ذلك أن الاستعلاء المادي والتفوّق الحضاري والتقدم المدني، الذي بلغته بعض الشعوب الغابرة، جاء في القرآن الكريم غالبا في معرض الذم، وعقّب الله عز وجل بعد ذكر أحوالهم بالوعيد والنكير الشديد. فالعبودية لله إذن حسب هذا الرأي هي رسالة الإسلام الجوهرية، أما الحضارة والمدنية وعمارة الأرض والسعي الدنيوي عموما فهي مسائل ثانوية لم يعطها الإسلام تلك الأولوية كما يدعي أنصار الإسلام الحضاري، ويرى هذا المذهب أن الأفكار والمشاريع الإصلاحية المتمركزة حول النهضة المادية متأثرة بالخطاب الحداثي المدني.

وفي تطور لافت أصبحت بعض الاجتهادات الفقهية الحديثة، والمقاربات الفكرية المعاصرة، والرؤى التجديدية تُوضع مباشرة في خانة الخطاب المدني المتأثر بسلطة الثقافة الغالبة، الذي يُنتج حسب هذه الرؤية تحت ضغط الواقع، وفي مصانع التجميل العصري، بحيث يراد إخراج الإسلام بحلّة عصرية جديدة تتوافق مع المكتسبات المدنية الحديثة، وتلقى قبولا لدى الآخر غير المسلم، وتتماهى مع المعايير العالمية الجديدة التي أقرتها دساتير الدول الحديثة.

إشكالات هذا الطرح

لا حاجة هنا لمناقشة فكرة أن العبودية لله تعالى هي غاية الوجود الإنساني، فهي من الوضوح بما لا يُحتاج معه إلى مزيد إيضاح. كما لا بد من الإقرار بوجود إشكال في المبالغة في تصوير مكانة الحضارة والسعي المدني في الإسلام، وأن ذلك جاء أحيانا على حساب تزكية النفوس وتربية القلوب، فلم تتصف هذه الدعوة بالتوازن المنشود. فالحضارة أو المدنية ليست مسألة معيارية تسمح بالحكم النهائي المطلق على السعي الإنساني بالنجاح أو الفشل، لكنها في المقابل قضية غير منفصلة عن مفهوم العبودية لله، بل إنها ملازمة له، ونتيجة طبيعية لتحمل تكاليف الخطاب الشرعي كما سيتبين لاحقا.

والإشكال في هذا الطرح هو تصويره للعبودية على أنها العبادة المحضة (الصلاة، الصيام، الحج، الدعاء…)، وإهمال حقيقة أن بعض الأعمال الدنيوية قد تدخل أيضا في معنى العبودية، إذا قصَد الإنسان فيها وجه الله تعالى. ويؤخذ على هذه المقاربة أنها جعلت العبودية مقابل المدنية والمكتسبات الحضارية كأن بينهما تناقض أو انفصال في التصور الإسلامي، فالأولى حسب هذه الرؤية هي التي أرادها الله لعباده، وكلّفهم بها، والثانية ليست من جوهر الدين، ولم يحثّ الشارع عليها.

والعبودية لا تُقصر على العلاقة المباشرة بين الإنسان وخالقه، ولا يمكن حصرها في مجال الوجداني والروحاني أو اختزالها بالشعائر العبادية، لكنها تنسحب أيضا على المجالات الحياتية كافة {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]. والعبرة فيها بالنية والقصد، فإماطة الأذى عن الطريق عبادة، وإتيان الزوجة بغية الاستعفاف عبادة (وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ)، وإقامة الدولة لنصرة الحق عبادة، وإرساء نظام اقتصادي نظيف بعيدا عن الربا والغرر وأكل أموال الناس بالباطل عبادة، وبناء مدرسة أو جامعة من أجل تنشئة الأطفال وتعليم الشباب عبادة، وتشييد مصنع لصناعة الأدوية عبادة، وهكذا.. ولا يمكن أن تتحقق العبودية لله على مستوى الأمة حتى بشقها التعبدي المحض على الوجه الأمثل دون هذا السعي “المدني”.

وعليه وجب تقرير أن للإسلام مطالب “دنيوية” واضحة تجاه المسلم بأن يضطلع بدوره التعميري في هذه الأرض. وإلا فماذا نفعل بتشريعات القرآن في المجالات المالية والسياسية والدفاعية وغيرها من المجالات؟! فالقرآن وضع المبادئ العامة في مجالات الحياة الأساسية ليقول للناس: أقيموا حياتكم بكل ما يلزم لضمانها حياة كريمة نظيفة عادلة تعبدا لله تعالى.

ومن إشكالات هذا الطرح أيضا أنه جعل العبودية بمعنى التزكية، والأقرب أن الأمرين مختلفان في المدلول والمقام. فتحقيق العبودية لله له مساران يترقّى بهما المسلم ليكون عبدا لله في باطنه، وفي أعماله الظاهرة: مسار روحي قائم على تزكية القلب وتنقيته من الأهواء والشهوات في عملية مستمرة وملازمة لوجود الإنسان في الحياة الدنيا، ومسار مادي قائم على جملة من الأمور منها: اكتشاف السنن الكونية، والازدياد المعرفي، وتحصيل أسباب القوة من أجل تحقيق الغايات والمقاصد التي حددها الشرع، ولا يقوم الدين إلا على هذا. وإن عدم احترام السنن الربانية في الطبيعة والإنسان، والزهد في البحث عنها، وإهمال النظر في الكون، ومحاولة الكشف عن أسراره، مع التوهم بتحقيق العبودية، هو تمرد على مفهوم العبودية ذاته.

والعبادة عند شيخ الإسلام ابن تيمية هي: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة”. وقريب من ذلك رؤية الأستاذ المربي ماجد عرسال الكيلاني لهذا المصطلح، فهو عنده: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفكار والمشاعر والعواطف في حياة الأفراد والجماعات، وفي جميع الميادين الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وغير ذلك”.

ومن هنا يتأكد لنا أن قصر مفهوم العبودية على العبادة المحضة يحولها إلى عبودية ناقضة تكرّس نظرة مختزلة ومشوهة لمهام الوجود الإنساني، ولا يُستبعد أن تؤدي إلى الدروشة والعطالة الفكرية والحضارية، بحيث يصير المسلمون عالة على الأمم كما هو الحال في أيامنا هذه. ومن العجيب أن تدفعنا انحرافات المقولات الحداثية في هذا الشأن إلى التخبّط بين طرفي الطريق، إما إلى إفراط أو تفريط، دون الاهتداء باتزان إلى الصراط المستقيم وسطا بين المسالك المنحرفة. كما أن ضغط الواقع وثقله لا ينبغي أن يربك المفكر المسلم الواثق فينسى تجاربه التاريخية وخبرته الثرية، ويصرف نظره عن الإشكالات الكثيرة والآثار الخطيرة في تحوير مصطلح العبادة، وهو أمر ظهرت له تبعات ثقيلة في تاريخ هذه الأمة الطويل، ولنا في بعض فرق المتصوّفة المبتدعة قديما وحديثا دروس وعبر.

الحضارة والمدنية نتيجة لازمة لتحمل التكاليف الشرعية

وإن كان الإسلام لم يأمر صراحة بإقامة الدول، أو إنشاء الدواوين، والمؤسسات، والوزارات، وتشييد وسائل النقل والاتصال، وهي مما تشكّل بمجموعها المدنية أو الحضارة عند البعض، فإن تلك الوسائل والآليات وما يضاهيها هي النتيجة الطبيعية لمحاولة تنزيل الإسلام على أرض الواقع، والترجمة الضرورية للسعي إلى بلاغ الرسالة الربانية؛ وهذا ما يبوح به التاريخ، إذ إن المسلمين في المرحلة الأولى للدعوة، لمّا اضطروا إلى دفع الاعتداءات والمكائد عن معاقل الإسلام، عملوا على الاستعانة بأحدث الأسلحة المتوفرة في زمانهم (الخندق، المنجنيق..)، ولمّا سعوا إلى تطبيق فريضة الزكاة، وأرادوا جمعها وتوزيعها على مستحقيها، أنشأوا المؤسسات والهيئات الإدارية اللازمة التي تمكنهم من أداء هذا الفرض على أحسن وجه. وكذلك لمّا سعى الخلفاء إلى تنظيم الأسواق، ومراقبة سَير الحياة المالية وضبطها، ومحاربة الغش والاحتكار والغرر، استحدثوا هيئات الرقابة ونظام الحِسبة وبيت المال.. إلخ؛ وذات الشيء يقال في المستشفيات، وصك العملة، ونظام البريد، وابتكار نظام التأريخ الهجري، وسوى ذلك من الابتكارات الحضارية التي توالت في المراحل التاريخية اللاحقة.

وعليه فإن مجرد قيام المسلمين بواجبات الإسلام في تطبيق منهجه وممارسة شعائره، والسعي إلى بلاغ رسالته، ونشر دعوته، وحماية أرضه، يلزم منه قيام هيكل متناسق ومترابط من الهيئات والمؤسسات والوسائل التي يستند عليها في إحياء الفكرة الإسلامية وحمايتها، وجعلها فاعلة مؤثرة في أرض الواقع. وإن الاعتداء على هذه الوسائل المدنية بعدَّها مظاهر خارجة عن مفهوم العبودية هو بمثابة قصَّ أجنحة الفكرة الإسلامية، وتقطيع أطرافها، وهدم أسوارها، وذلك يفضي في النهاية إلى جعلها فكرة مثالية هلامية منبتّة الصلة بالواقع، وعاجزة عن إصلاح الأفراد والمجتمعات، ويسلبها حظا وافرا من قوتها ورونقها فيما يُرتكز عليه في الإقناع والمجادلة، ورفع الهمم وإرشاد الأمم في الإقبال على تطهير النفوس من قبائح السلوكيات والعادات، وتقبّل منهج التوحيد منهجا في الحياة.

وهذا هو الحاصل في أيامنا، فقد رأينا أنه لما ذبلت الحضارة الإسلامية، وتحوّلت وسائلها المادية إلى أدوات بالية ومتهالكة، صارت الفكرة الإسلامية عارية الجسد، ووُجِّهت إليها الأسهم من كل اتجاه، وأخذت الشبهات تتسلل دون مقاومة فعّالة إلى عقول الشباب المسلم، وتعشش في نفوسهم، متوسلة بأدوات البحث العلمي الحديثة تارة، وبالمناهج التربوية والتعليمية الجديدة في المدارس والجامعات تارة أخرى، ولم تتوانَ الآلة الإعلامية عن استخدام سحر الصورة وبهجة الألوان من إرسال أشعتها الضارة من خلال الثقوب التي وجدتها في أسوار القلاع الحجرية القديمة، ممهدةً بذلك لاعتناق الأفكار الجديدة بما فيها من أوبئة وسموم. ولما انتفض دعاة الإسلام إثر هذه التطورات المخيفة، وفزعوا لمواجهة هذه التهديدات الخطيرة، لم يجدوا في سبيل ذلك من الوسائل ما يكافئها ويفت عضدها، وصاروا يحتاجون إلى جهود مضاعفة ومساعي ماراثونية من أجل صد الفتن ومقاومة الضلالات الوافدة. وإن نجح بعضهم إلى حد ما، فإن الكثير من هذه الأشعة الفتاكة اخترقت السدود، وأصابت قطاعات واسعة من المسلمين في عقيدتهم وقيمهم وأخلاقهم في مقتل.

وإذا نظرنا من زاوية أخرى، يمكن التساؤل: ما حاجة المسلم الجاد المجتهد إلى السعي المدني الذي يحتسبه نصرة للإسلام إذا أُخبر أن سعيه وجهده في هذا الميدان لا يقع ضمن الأولية القصوى التي جاء بها الدين، بل في رتبة ثانوية تابعة، وأن ذاك المتعبد في محرابه خير منه، وعمله خير من عمله، وأنه أقرب منه إلى تحقيق العبودية لله والغاية من التكليف ومقصود الشارع من الخلق؟! فهل سيدفعه ذلك إلى مواصلة تحمّل معاناة السعي الدنيوي في طلب العلوم الدنيوية، ومحاولة فهم بدائع الصانع في خلقه، واكتشاف قوانينها، ومن ثمّ تسخير ذلك لصناعة الأدوات والآلات التي تتحقق بها كفاية الأمة وقوتها ومنعتها؟ أم أنه سيهجر ميادينها كما فعلت الأمّة بالمجمل في القرون الماضية تحت تأثير هذا الخطاب؟!

وقبل الختام أريد أن أوضح أن ما سبق ليس دفاعا عن الخطاب المدني الذي تمارسه التيارات العلمانية والليبرالية والحداثية، وإن انحرافاتهم وضلالاتهم معلومة لكل مثقف واعي، ولا هو دفاع عن ما يسمى بخطاب المدرسة الإصلاحية، ولا هو انتقاص من أهمية التزكية والتربية الروحية، ولا نفي لوجوب أن تكون العبادات والشعائر الإسلامية هي المنطلق والمحرك لكل سعي دنيوي، إنما هو دفاع عن جملة من الخصائص والقيم التي تفرّد بها هذا الدين الحنيف، وعلى رأسها: الشمولية والواقعية والتوازن والفاعلية، لما لها من دور جوهري في نهضة الأمة، وتمليكها القدرة على مقارعة الظلم وإزالة التخلف الذي أصابها.

وخلاصة القول: إن التزام منهج الدين الكامل على المستوى الجمعي، والسعي إلى تفعيله في أرض الواقع، لا بد أن تنشأ عنه حضارة منتجة متماسكة البناء، ومدنية مادية قائمة على أفضل الوسائل العصرية في كافة مجالات الحياة، تكون هي العاكسة لقيمه العليا، والممثلة لحقائقه النقية، والحامية لمبادئه السامية، والناشرة لأفكاره النيّرة؛ وليست الحضارة ولا المدنية مسألة ثانوية بأي حال من الأحوال.




المفكر الحق.. دوره وصفاته!

كل إنسان مفكر بطبيعته، فالإنسان العادي دائم التفكير في كيفية تحقيق مصالحه ومتطلبات نفسه، بداية من إنجاز المهام اليومية، كتأمين حاجيات أسرته المعيشية، مرورًا بأهدافه العلمية أو الوظيفية، ثم تحقيق طموحاته وأحلامه المستقبلية البعيدة، إلى جانب ذلك، ثمة طائفة قليلة من الناس تكرّس جل طاقتها وأوقاتها في التفكر في أحوال الجماعة أو الأمة التي تنتمي إليها أكثر من اهتمامها بشؤونها الخاصة، فتتأمل في أسباب انحطاط أمتها، وتبحث عن أسباب نهضتها، وتحاول تشخيص أمراضها ومعرفة مكامن الضعف فيها، وتحديد نقاط قوتها ومكامن الطاقة فيها وما شابه ذلك.

من هو المفكر؟

إذا كان الإنسان البسيط يحرص بفطرته على التواصل مع محيطه، فالمفكر يتأمّل في طبيعة الوشائج بين عناصر المجتمع وسمات النظام الاجتماعي الناتج عن هذه العلاقات، وإذا كان كل فرد في المجتمع يسعى إلى الحصول على عمل أو وظيفة يؤمّن بها رغيف الخبز لأولاده، وأجرة المسكن الذي يعيش فيه وما إلى ذلك، فإن المفكر يدرس طبيعة النشاط الماليّ، وسمات النظام الاقتصادي المتشكّل من هذه الحركة، ويسعى إلى استنتاج القوانين التي تحكمه، وقد يدعو إلى ابتكار أدوات جديدة تنعش الحركة الاقتصادية وتنمّيها، بما يعود بالنفع على عامة الناس، وهكذا الحال بالنسبة للمفكر في سائر المجالات.

المفكر –إذًا- هو الذي يشغل نفسه بقضايا أمته الكبرى، ويسعى لاستخراج السنن والعبر من حركة التاريخ، ويطوّر الرؤى والمفاهيم، ويرتقي من مستوى الجزئيات التخصصية إلى الكليات الحاكمة لسير الحياة وتطور المجتمعات، وينصّب نفسه الحارس الأمين على تحقيق قيمها في النفوس، وفاعلية مبادئها الأساسية في شعاب الحياة، كما أنه يسعى إلى استشراف الأحوال المستقبلية من مصائب وانتكاسات محتملة، فيحذّر منها قبل وقوعها، ويصف العلاج للوقاية منها.

لكن لا يحصل هذا إلا بعد أن تصغر نفسه في عينه، ويمتلئ كيانه بالشوق إلى المجد المنتظر، فيسعى إلى البحث عن أسبابه بالقراءة المتفحصة والدراسة المتأنية دون كلل أو ملل، مُفنيًا بذلك نفسه ومتصدّقًا بعمره، مُفتديًا ليالي الأنس والسمر، والنزهات بين خضرة الشجر، بسهر الليالي بين الكتب، وتجرُّع كؤوس الكدّ والتعب.

المفكر الحق يرى نفسه نقطة في بحر أمّته، ولكنه في الواقع المنارة التي تهتدي بها في مسالك الترقي بين الأمم. وإنّا لن نجد أمة لها حظ من التقدير والاحترام تخلو من مفكرين عظماء رسموا لها خارطة الطريق، ووضعوا خلاصة أيّامهم في ورقات من نورٍ كُتبت في سجلات الخلود عبر العصور. في المقابل لا تتنكّر هذه الأمم الواعية لهؤلاء الكبار، ولا تنسى أفضالهم عليها، بل يصبحون الأيقونات الشهيرة، والأسماء المنيرة في مسيرة تاريخها، حتى تقترن أسماؤهم باسمها، فإذا ذُكرت ذُكروا والعكس بالعكس.

من إشكالات الواقع الفكري المعاصر

ومن المؤسف أننا صرنا نرى انحراف بعض المفكرين عن الدور المنوط بهم في توعية الجماهير وتثقيفهم، وتوسيع آفاق النظر والتفكير عندهم بما يمهّد لتقبّل الرأي المخالف ومعذرة صاحبه، وبالتالي تقريب الناس من بعضهم، وتوحيد جهودهم في خدمة قضايا الحق والعدل، حيث أصبح خطاب البعض منهم سببًا في إحداث اللبس والفتن والخصومات بين العامة، لا سيما مع وجود وسائل التواصل وحرص بعض المثقّفين على الحضور والتأثير، وبالتالي ضرورة التواصل اليومي مع المتابعين.

وقد صرنا نشاهد يوميًّا الكثير من المنشورات المتسرعة والأفكار الطائشة التي صارت مناسبة للمناكفات بين المتابعين وتبادل الشتائم وتعزيز الفرقة، وقد طالت هذه الانحرافات كافة المجالات، من المجال السياسي المتعلق بالأحداث السياسة اليومية إلى المسائل العقائدية والإيمانية، ولذا فإنا اليوم بأمس الحاجة لوضع أصول أدبية ومنهجية ضابطة للتعامل مع وسائل التواصل، سواء للمؤثرين أو المتابعين.

ومن الإشكاليات الواضحة هي الفجوة السائدة منذ عقود بين الخطاب الثقافي والفكري من جهة وعامة الناس من جهة أخرى، وذلك يرجع إلى عدة عوامل وإلى أسباب متداخلة، منها يرجع إلى السياق التاريخي والحضاري، والواقع الذي نعيشه وما يتعلق به من مؤسسات تعليمية وتثقيفية وإعلامية وما سوى ذلك، ومنها ما يتعلق بالمثقف نفسه، ومنها يعود إلى الفرد العادي باعتبار تركيبته الثقافية والنفسية.

صفات المفكر الحق

تُعنى هذه المقالة بإلقاء الضوء على بعض سمات المفكر الحق والتذكير بها، بما يشكل لبنة في سبيل هدم هذه الهوة، وإصلاح الانحرافات المذكورة. وسيساعد ذلك في تحصيل نوع من النضج المعرفي في التمييز بين المفكر الحق، وغيره من أصحاب المآرب والغايات الشخصية. وهذه الصفات اخترتها – بما يناسب المساحة المتاحة هنا – من بين كثير من الصفات الضرورية، وذلك لأهميتها ولتأثير فقدانها على إنتاج الإشكاليات العويصة التي أشرت إليها.

  1. الربانية

نحن المسلمون نؤمن بأننا لم نأتِ إلى هذه الدنيا عبثًا، ولكن وجودنا القصير فيها له غاية واضحة وأمر محدد، وهو تحقيق العبودية لله تعالى أولًا، ثم تحقيق عمارة الأرض والقيام بواجب الاستخلاف فيها على الوجه الذي يرضي الله تعالى، كما بينّه في شرعه الحكيم. إذاً نحن هنا لا لندعو الناس إلى أنفسنا، ولا لنضيّع أوقاتنا المحدودة بكثرة السجالات وبترف الأفكار والأقوال.

إن المفكر الحق يعرف ماذا يريد، وإذا اضطُر إلى خوض المعارك الكلامية فإنه لا ينسى غايته، ولو كان تحت ظلال السيوف، ولا تزيغ الرؤية عنده في أي ظرف من الظروف.

وعليه فإن المفكر الحق هو الذي يسخّر فكره وإنتاجه العلمي والأدوات المنهجية التي يتقنها وكل ما حوى وعاؤه العقلي في سبيل الدلالة على رب الأرباب، وهداية الناس إلى المنهج الحق، والدفاع عنه وتبليغه للخَلق، وتطوير العلاجات لأسقام الإنسانية التائهة، وكل ما يفضي إلى ذلك من تذليل العقبات المركوزة في رؤوس المعاندين، ونسف الكِبر الثاوي في قلوب المتكبرين.

ولكن كيف يقدُر المفكر على هذا إذا كانت صلته منقطعة بمالك القلوب والعقول، وغفل عن المداومة على الوقوف بين يدي المولى عز وجل والالتجاء إليه؟

ستلاحظ عند المفكر الغافل انحراف البوصلة بكثرة الجدل والسجالات، واللدد في الخصومة ومخالفة الآداب، والتربص بالمخالف، والغرق في الموضوعات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا ينبني عليها عمل في حياة الناس، فتجده كالذي يمشي بين الأشواك واضعًا قربة الماء على رأسه، وإذا وصل إلى بر الأمان كسرها بيديه!

فلا تتعجب، إذ هو يريدك أن ترى مهاراته في الموازاة الدقيقة والتحليلات العميقة، فلا تحسبنّ أنه يريد منك الريّ والهدى، إنما يقول ليسقي غروره ويُشبِع تطلّعات نفسه.

إنّ شرب الروح من مناهل الوحي الصافية تُكسِب المفكر الحق نفاذ البصر ووضوح الغاية، ونبل الأخلاق والهمة العالية، وصدق اللسان والنية الصافية، إذ ليس هناك أصفى من الفكرة الممزوجة بالأنوار المتسلّلة إلى الإنسان من وراء ستائر المحاريب، والمتمخّضة من نظرات العقول المتأملة، فهي النور الخالص!

  1. بين المشروع الخاص والتشتت

لا يوجد مفكر دون مشروع خاص به، يعمل عليه ويسعى إلى نشره بين الناس، فهل يمكن أن ترى ساعي البريد دون رسالة يحملها؟ وكذلك شأن المفكر كذلك لا يمكن أن يكون حائرًا فاقدا للهدف؛ إلا أن المشروع حصيلة السنين، وخلاصة الفكر الذي يسعى المفكر لينتشل به أمته من براثن الظلمة. كما أن المشروع لا بد أن يشمل معالم كبرى، ووصفة عملية في أحد المجالات الحيوية لتكون الركن الركين في بناء المستقبل المكين.

قد ترى بعض المثقفين يكتب في كل شيء، ويعلّق على كل حادثة! والسؤال الذي نسأله إياه: أليس عندك مشروع تعمل عليه؟! وهل عندك الوقت بلا حساب لكي تشتّت نفسك بين سراديب اللانهاية.

إن المشروع يحتم على صاحبه أن يحدد مسارات معينة يمشي ضمن إطارها معظم الوقت، ولا يخرج عنها إلا قليلا، ثم يسابق الزمن لتشييده على أسس ثابتة ومتينة، والموقع الذي يأخذه بعض الكتاب، وهو ردة الفعل على مجريات الواقع هو التشتت بعينه، إذ لا يمكن مجاراة الأحداث اليومية، والإحاطة بتفاصيلها لكثرتها وتشعبها وتنوعها. وهكذا يلزم المفكر بعد أن يحصّل جمعيّة قلبه (الربانية) أن يحقق جمعية فكره وعقله، من خلال تجلّي مشروعه الخاص.

لقد اضُطر بعض المفكرين إلى عزلة مؤقتة ابتعدوا فيها عن متابعة الأحداث والانخراط فيها لينجزوا مشاريعهم الأساسية، وليستطيعوا التحرر من إكراهات النظرة الجزئية المنقوصة التي تفرضها تطورات الأحداث اليومية. ومن ذلك ما رواه الدكتور عبد الوهاب المسيري –رحمه الله- في سيرته، إذ صرح بأنه توقف عن قراءة الأخبار في الصحف اليومية في فترة من فترات العمل على موسوعته الشهيرة عن اليهودية والصهيونية، كما أنه امتنع عن متابعة الأخبار وقت اندلاع الانتفاضة الفلسطينية – وهو المتخصص في اليهودية والصهيوينية – مسوّغًا ذلك بأنه لو سلّم نفسه لسيل الأخبار الجارف لما استطاع إنجاز هذه الموسوعة الفريدة.

عبد الوهاب المسيري

إن العزلة الدائمة مبدأ سلبي بحد ذاته، لكن العزلة المؤقتة قد تكون ضرورية في بعض الأحيان لصفاء الفكر والحد من تشويش مجريات الواقع، وهنا نشير –للفائدة- إلى كتاب “الماجريات” للشيخ إبراهيم السكران الذي يعالج هذه القضية، حيث يعرض فيه خمسة نماذج لكبار علماء عصرنا ممن خاض العزلة المؤقتة.

  1. تيسير لغة الخطاب

بعض المفكرين يجعل بينه وبين الناس حاجزًا، من خلال استغلاق لغته وصعوبة مصطلحاته وتعقيد تراكيبه اللغوية. ومنهم من يريد أن يبهرك باقتداره اللغوي، فيأتي بالعبارات المنمقة والديباجات المطوّلة، إلا أن كثيرًا من ذلك يحصل على حساب المعنى فيكون مبتَذلًا مكرَّرًا، لا إضافة فيه للقارئ سوى المعاناة وتضييع الأوقات.

مقابل ذلك ثمة مفكرون يخبئون في جعَبِهم جواهر مكنونة، لكن بعضهم يعرضها بصور مشبّعة بالرموز الغامضة والإيحاءات المحيّرة، فتصير كبعض اللوحات التي تعرَض في المعارض الفنية، يفسرها الزوّار كلٌّ حسب رؤيته، ولا أحد يدري ماذا أراد الرسام بلوحته، وإن على وجه التقريب.

ماذا يستفيد من يعرض فكره داخل أقفاص الغموض سوى ظلم نفسه، وتضييع فكرته، وحرمان الناس من الاستفادة من تجربته!.

أما عند عظماء المفكرين فإنا نرى العكس تماما، حيث الحرص على تبسيط الفكرة قدر المستطاع مع الحفاظ على عمق الطرح.

إن الجمال اللغوي مطلوب لا محالة، والفكرة التي تُصَبّ في قالب أدبي أنيق تتناقلها الألسن وتحفظها الذاكرة بيسر وسهولة، مثل الأمثال الشعبية والأشعار والمتون (وإن من البيان لسحرًا)، لكن الجمال والفصاحة لا تنافي البساطة، بل البساطة هي من أنواع الجمال. والله تعالى قد جعل كتابه ميسرا وهو الغاية في البلاغة والفصاحة {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 22]، وإنك لتجد عبارات النبي صلى الله عليه وسلم – وقد أوتي جوامع الكلم – مفهومة ميسرة بعيدة عن الوحشي من العبارات. وإن وجدنا بعض الكلمات الغريبة، فهي غالبًا كلمات موجودة وشهيرة في عصره إلا أنها اندثرت في أيامنا، فهي إذًا مسألة اختلاف أزمنة لا علاقة لها بالصعوبة أو السهولة اللغوية.

ولا بد من الإشارة إلى أن هناك بعض الكتابات التي قد يستعصي فهمها على معظم الناس، لكن الصعوبة فيها مبررة على الرغم من ذلك، إذ قد تكون دراسات علمية تتطلب ذكر مصطلحات معينة غير متداولة إلا في مجالاها، وقد تكون متونا كُتبت بتكثيف في المعاني واختصار في المباني ليسهل حفظها واستظهارها وما سوى ذلك. وهذا نستطيع أن تقبله ونتفهمه، إذ فيه فائدة وإعانة لطالب الغاية.

صفات أخرى

وهناك أيضا غيرها الكثير من الصفات العلمية والأدبية التي يجب على المفكر الحق أن يتحلى بها -أذكر بعض منها بإجمال دون تفصيل لضيق المقام- مثل: (شمولية المعرفة) أي إدراك تكامل المعارف والعلوم، والسعي إلى استنباط العلاقات بينها، وتوحيد الجهود والربط بين الإسهامات المختلفة، فلا إقصاء لمجال من المجالات على أنه غير مهم، أو الادعاء بأهمية مجال بعينه دون سواه، وهذه خطوة أولية في سبيل تجاوز خلافاتنا وفرقتنا، مثل الخلافات التاريخية المعروفة بين المتكلمين والفلاسفة، والمتكلمين والفقهاء، والفقهاء والمحدثين وما شابه.

والتنبّه لـ (تركيبية الإنسان): فالإنسان مخلوق مركب، يحوي عقل وعاطفة، روح وجسد، ولكي يفلح الإنسان يجب أن تعمل كل مكوناته بالتوازي في الإطار المحدد لها، ولا نؤيد الذين يقطّعون الإنسان إلى مجالات موضوعية معزولة عن الكل، ويحاولون إصلاح الإنسان بإصلاح إحدى مكوناته بمعزل عن الأخرى.

إضافة إلى (الانفتاح) المحمود: أي الاطلاع على فكر الآخر (أفرادا وحضارات) وتجاربه ومحاولة الاستفادة منها، ولكن مع مراعاة الخصوصية للمجال التداولي للبيئة العلمية والاجتماعية التي نعيش فيها وننتمي إليها، و(التخلّق بالصبر) على المخالفين وعفة اللسان والتحلي بأخلاق الإسلام، و(الواقعية): أي الاهتمام بالمباحث النافعة من العلوم، وما يتصل بحياة الناس العملية. ولا بد هنا من الإشارة إلى الإشكالية الكبرى في تحديد العملي والنظري، أي ما يبنى عليه عمل، وما هو من قبيل التَرَفِ الفكري، حيث يمارس الكثير من العوام نوع من الشغب في حق المفكرين والعلماء، وكيل الاتّهامات بالتنظير والفلسفة، غير مدركين خطورة بعض الأفكار النظرية، التي تولد في رؤوس شياطين الإنس، ولكنها قد تحتاج مئة عام ليراها الناس انحرافًا سلوكيًّا أو أخلاقيًّا جارفًا، يقتلع الفضيلة من جذورها، ويعصف بالمجتمعات الآمنة، ويُسقِط دولًا برمّتها. وهذه مسألة تحتاج إلى التفصيل وتحرير القول، وليس هذا مكانه هنا.