الدروس المستفادة من حوار إبراهيم مع أبيه وقومه في القرآن الكريم

الخلاف في هذا الكون سنة الله في خلقه، خلاف الآراء، والعقائد، والأفكار، والأذواق، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119].

ولأنَّ الخلاف منتشرٌ في كلِّ الأزمنة والأماكن كان لابد من وسيلة لنبذه أو التقليل منه، وهذا لا يكون إلا بالحوار، فالمتدبِّر للقصص القرآنية يرى أنَّ الحوار هيمن عليها، وهذا دليلٌ على أهمِّيَّة الحوار وفاعليَّته في الخطاب بين الناس.

فالحوار هو (مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين، وعرَّفه بعضهم: بأنه نوع من الحديث بين شخصين أو فريقين يتمُّ فيه تداول الكلام بينهما بطريقة متكافِئَةٍ، فلا يتأثُّر أحدهما دون الآخر، ويغلب عليه الهدوء والبعد عن الخصومة والتعصُّب)[1] .

فالأسلوب الجيد والأنفع لقبول الأفكار هو الحوار والجدال بالتي هي أحسن، قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ} [النحل: 125].

فلذلك أولى الإسلام الحوار أهميًّة فريدة، فترى القرآن الكريم حافلاً بالحوارات، إمَّا بين الله تعالى وبين عباده مثل حواره مع الملائكة، أو بين نبيٍّ وكافر مثل حوار إبراهيم مع أبيه، وغير ذلك من الحوارات.

نشأة إبراهيم عليه السلام
يروى عن ابن عبَّاس أن إبراهيم نشأ بغوطة دمشق، ولكنَّ الصحيح أنَّه نشأ في بابل في العراق وهذه الرواية الأصح[2]. وكان قوم إبراهيم يعبدون الأصنام، وكان أبوه أيضًا مشركًا، وهذا ما ذكره القرآن الكريم، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 52، 53].

وكان إبراهيم قد أوتي رشداً منذ صغره، قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51]. وقد أوتي أسلوبًا بليغًا في الدعوة، وهذا ما ظهر في حواره مع قومه وأبيه، حين دعاهم إلى فطرة التوحيد ونبذ عبادة الأوثان، وتوجَّه إليهم بالبرهان السَّاطع، والحجَّة البالغة.

 دعوة إبراهيم لقومه
حتى تنال الدَّعوة القَبول يجب ان تبنى على أسس صحيحة ومتينة، ولا شكَّ أنَّ إبراهيم قد امتلك أدوات الحوار اللَّازمة، وهذا مهم لكل داعية (فبمقدار ما يكون الدَّاعية متمكناً من الحوار محيطاً بآدابه وأساليبه، يكون أقدر للنجاح في دعوته، ولذلك لا بدَّ من دراسة هذا الموضوع والعناية به وتأصيله، ومن ثمَّ الرجوع إليه بين الحين والآخر، ليحاكم الداعية طريقته في النقاش وأسلوبه في عرض الدعوة فيحسن أداءه ويصلح أخطاءه)[3] .

وفي خطاب إبراهيم لقومه تظهر أسسٌ عدَّة أقام حواره معهم على أساسها:

١-المحاججة وإقامة البينة: لا بدَّ لمن أراد الدعوة أن يقيم الحجَّة بالبرهان والبيِّنة، (يقول ابن القيم: إنَّ البينة ليست محصورة في شهادة الشهود بل هي إحدى أنواع البينة، فالبينة هي كل ما يبين الحق)[4].

وإبراهيم جاء قومه بالبينة والحجة المقنعة، ويتجلى خطاب الحجاج في سورة الشعراء: {إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون، قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين} [الشعراء ٧٠-٧١]، فسألهم سؤال المستنكر عليهم، ثم أتاهم بالبينة الصارمة: {قال هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون}[الشعراء ٧٢-٧٤]. فحينها بُهِتوا واقتنعوا بكلامه، وأقرُّوا بأنَّ الأصنام التي يعبدونها لا تسمع ولا تبصر، واحتجُّوا بأنَّهم وجدوا آباءهم يعكفون عليها، وبأنَّهم ظلُّوا على كفرهم كبرًا وعنادًا حتى مع إقامة الحجة عليهم، فحينها لجأ إبراهيم لأسلوب أخر لعله ينفع.

٢-الشدة والإنكار عليهم: بعد أن لقي إبراهيم من قومه الغلظة والتكذيب كان لابدَّ من الشدة عليهم، وهذا ما أخبر عنه القرآن على لسان إبراهيم: {قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [ الشعراء ٧٥-٧٧]. حينها ظهرت العداوة بين إبراهيم وقومه، فلم تنفع الشدة معهم، فانتقل لأسلوب جديد.

3-تغيير المنكر باليد: بعد أن صدَّ القوم عن دعوته قام إبراهيم متسلِّلًا إلى معابدهم فكسر الأصنام وأبقى الكبير فيهم، وبعد أن علموا بالأمر جاؤوا إليه واتَّهموه بذلك، ولكنَّه استثمر الموقف وأقام الحجَّة عليهم جميعًا، وهذا ما يصوِّره القرآن: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 62 – 65].

وهنا تظهر قوَّة الخطاب الإقناعي، وكيف استطاع إبراهيم أن يبهت القوم ويحاججهم، فكانت النتيجة أن عاقبه قومه وطالبوا بتحريقه ونصر الآلهة، {قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين} [الأنبياء ٦٨].

وبذلك يكون الحوار قد وصل إلى طريقٍ مسدود، لأنَّهم عاندوا إبراهيم، ورفضوا ما أتاهم به من الحق، لا لأنَّهم لم يقتنعوا بكلامه، بل بسبب كبرهم واستعلائهم على الحق.

دعوته لأبيه
بعد أن دعا إبراهيم قومه كان لابد من دعوة أبيه بِرًّاً به وإقامةً للحجَّة عليه، ولكن لابد من اختلاف أسس الدعوة معه.

كان والد إبراهيم في مقدمة عابدي الأصنام، بل كان ينحتها ويصنعها لقومه، فعزَّ ذلك على إبراهيم لأنَّه كان يحبُّه ويرغب بهدايته، وقرَّر مخاطبة أبيه بتلطُّفٍ وتتودُّدٍ، {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 42 -45].

فيتوجَّه له مشفِقًا عليه، ويحاول بما اصطفاه الله أن يبلِّغ ما أمره ربُّه بتبليغه، فقد جمع الله بإبراهيم الصديقية والنبوة، فهو الصادق في أقواله وأفعاله وأحواله وهو أفضل الأنبياء كلهم بعد محمد صلى الله عليه وسلم.

{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم ٤٢]. ففي هذا إنكارٌ على أبيه وهو في الوقت نفسه إعلان ببطلان عبادة الأصنام العاجزة.

ثم توجَّه له قائلًأ: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم ٤٣] وفي ذلك إعلامٌ بالنبوَّة التي خصَّه الله بها، فهو موحى إليه من ربِّه، ولا يتكلَّم بهوى نفسه.

ثم ينتقل في خطابه إلى النَّهي عن الشرك وعن اتباع الشيطان: {يا أبتِ لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا} [مريم٤٤]، فهو لم يعبد الشيطان بل عبد الأصنام، ولكن بعبادته لها كان قد استجاب لأمر الشيطان، وذلك كان في الخطاب نوع من التهويل والمبالغة لغرض التحذير والتخويف: {يا أبت إني أخاف أن يمسَّك عذاب من الرحمن}[مريم ٤٥]،وهنا تكمن البلاغة في أسلوبه الخطابي فلم يقل: سيصيبك عذاب من الله ولكن أشعره أنه خائف عليه ليستميل قلبه، فهو يستعمل الخطاب العاطفي مع الخطاب العقلي لغرض التأثير والإقناع.

فماذا كان جواب آزر بعد هذا الخطاب البليغ؟

ما كان منه إلا أن غضب وقال: {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنتهِ لأرجمنك واهجرني مَليا} [مريم ٤٦].

فقد رد عليه بغلظة وأجابه إجابةُ فظَّة بسبب الكبر الذي أعمى قلبه، ولكن لم يترك إبراهيم الدعوة مع كل هذه الظروف بل صبر، وأراد تغيير الواقع بآلية أخرى تمهِّد لحوار جديد، وهي تحطيم الأصنام كما تمَّ ذكره سابقًا، حيث كانت خطوة مهمة، لأنَّ الهدم أوَّل خطوة للبناء، فكان لا بدَّ أن يهدم معتقدهم ليقيم لهم معتقدًا آخر صحيحًا.

بعض الدروس والعبر
تجلَّت في حوار إبراهيم مع أبيه وقومه في القرآن الكريم دروسٌ كثيرة، من الأهمِّيَّة عرض بعضها، ومن ذلك:

١-ضرورة الصدع بالحق: فما النفع إن كان الإنسان يعلم الحق ويخفيه؟ فهذا إبراهيم صدع بالحق ووقف بوجه قومه وأبيه.

٢- اتخاذ الأساليب يكون حسب رؤية الداعية : فأسلوب إبراهيم اختلف بين قومه وأبيه، فهو مع قومه كان في العموم أشدَّ منه مع أبيه، حيث رقَّق في بعض المواقف خطابه لأبيه تألُّفًا له وتليينًا لقلبه.

٣-كل من يحمل دعوة فإنه معرّض للخطر والإيذاء، فهذا إبراهيم قد حاربه قومه وآذوه وشتموه وانتهى بهم المطاف لرميه في النَّار.

٤-الصبر على الدعوة، فلا ينبغي للداعية ترك الدعوة إن رأى قومه لا يستجيبون له، وهذا ما قام به إبراهيم حين هدَّده أبوه فأجابه إبراهيم: {سلام عليك سأستغفر لك ربي}.

٥-الهداية من عند الله تعالى، فعلى الداعية أن يدعوَ إلى الله، وعلى الله الهداية، فرغم كلِّ محاولات إبراهيم لهداية أبيه إلا أنَّ أباه رفض دعوته، وتكبَّر عليها.

٦-جاهزيّة الداعية للرَّدِّ على دعوات المبطلين وشبهاتهم بما يتوفَّر له من أدوات وطرق للإقناع، فإبراهيم حاول التوجُّه بخطاب عقلاني للقوم، ثم بعد التكذيب حاول تغيير الواقع بيده عبر تكسير الأصنام، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80].

7- دِينُ المسلم أعظم من الأرحام والأحباب والمكاسب، فإن خُيِّر المسلم بين دينه ودنياه فعليه اختيار الدِّين لأنَّ فيه صلاح دنياه وآخرته، وهذا ما فعله إبراهيم.

خاتمة
وهكذا كان إبراهيم بدعوته مدرسة في الحوار، ورمزاً من رموز الخطاب، فصحيح أنه لم يستجب له إلا القليل من قومه ولكنَّ الله أثنى عليه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل: 120] لأنَّه واجه الباطل وحده، وحطَّمه بيده، وتبرأ منه ومن أصحابه، وعلى الداعية أن يتدبَّر الأساليب الدعوية التي توخَّاها إبراهيم ليحاجج قومه، حتَّى يكون على نهجه وطريقته.


[1] الحوار آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسُّنَّة، يحيى بن محمَّد حسن بن أحمد زمزمي، دار التَّربية والتُّراث، مكَّة المكرَّمة، ط1، 1414هـ-1994م، ص22.

[2] قصص الأنبياء، ابن كثير، تح: مصطفى عبد الواحد، مكتبة الطالب الجامعي، مكَّة المكرَّمة، ط3، 1408هـ-1988م، ص156.

[3] الحوار آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسُّنَّة، ص32.

[4] الحصانة كأساس لرفض البيِّنة المقبولة في الإثبات، أسماء الحمزة، تح: حافظ الشيخ الزاكي، جامعة الخرطوم، د.ط، 1425هـ-2004م، ص14.