1

هل أتاك حديث الوهن؟

إنّ المرجع الأوّل والأساسي لكلّ مسلم لمعالجة واقعه وفهمه وإدارة التّغيير هو القرآن الكريم، الذي به تُحيَ القلوب وتُبنى العُقول ويُقوّمُ السّلوك العملي للفرد وللجماعة، فهو النّور الخالد الربّاني الذي يقود البشريّة الجمعاء للنّجاة في عصرٍ انتشرت فيه الظُّلمات والجاهليّة العمياء، واستفحل فيه الفساد القاتل لكلّ مظاهر الفطرة  السّليمة والإنسانيّة، ومن اتّبع غير سبيله ظنًّا منه أنّ الإصلاح يكون في اتّباع مناهج بشريّة ضالّة فإنّه لا يخدعُ إلاّ نفسه، ولن يكون إلاّ مُتّبِعًا للأهواء وما تُمليه عليه شياطين الإنس والجنّ من إغواءات.

ومن بين آياته الخالدة التّي تصفُ لنا موضع الدّاء في حياتنا وكيفيّة علاجها نقرأ قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، فالوهن هو من أخطر الأمراض المُستشرية فينا فخلّفت الجُمود والفساد والجهل داخل مُجتمعاتنا. فما هو مرض الوهن الذي نهانا الله عنه؟ وماهي مظاهره؟ وما هو سبيل العلاج منه؟!

أريد قبل ذلك الإشارة أنّ بعد بدايتي في كتابة هذا المقال بدأت معارك “طوفان الأقصى” من قبل المقاومة الفلسطينية في غزة، مما أشعل الأمل جديد في نهوضنا مرة أخرى، وتحرّر أرضنا، فعسى أن يكون ذلك بُشرى لطوفان التّغيير داخل أمّتنا الذي نمحو به مظاهر الضّعف والوهن، فأمّة الإسلام تضعف وتمرض لكنّها لا تموت ولا ينقطع الخير منها وستكون لها الغلبة والنّصر بإذن الله إذا أفاق المُسلم من غفلته وأخذ بأسباب التّمكين في الأرض ولنجعله طوفان الأقصى وطوفان النّهوض والانتصار!

الوهن ومظاهره

إذا بحثت في مُختلف المعاجم العربيّة عن مفهوم الوهن فإنّك فستستنتج أنّه الضّعف النّفسي والعملي والاستسلام للواقع والرّضا بالذلّ والانحطاط والقبول بالدّنيّة في الحياة، وهذا المرض أصابنا في مُختلف المجالات وبسببه لم نُحدِث أيّ تغيير حضاري في الحاضر، بل مُنذ قرون عدّة، حيث نشهد تقهقرًا وانكماشًا مُتواصلًا للمُجتمعات المُسلمة في مُختلف بقاع العالم.

العقيدة هي اللّبنة الأساسيّة لبناء المُجتمعات القويّة والنّاجحة والتي يجتمع جميع الأفراد حولها، لتكون منهج حياتهم ومرجعيتهم الأساسيّة في وضع القوانين وتنظيم الحياة، وفي الأصل يكون الجميع موقنون بها، ومُتّفقون عليها.

من شدّة الفراغ العقائدي والضّعف أصبح منّا أقوامٌ يبحثون مجهريًّا عن الاختلافات العقائديّة الفرعيّة التّي لا حرج فيها فيَكثُر الجدال حولها حتّي يصل بهم الأمر للتّصنيف والتّكفير والتّشويه وبثّ الكُره والفتنة بين النّاس وإدخالهم في صراعات أحيانًا دمويّة وخصومات كُبرى نحن في غنى عنها وما جُعلت العقيدة إلاّ لتوحيد الأمّة والبناء كما فعل قبلنا سلفُنا الصّالحُ، ولكنّنا اليوم لم نأخذ من مفاهيمها إلاّ الجزء القلبي والقولي مع غياب العمل بها، فأصبحنا بالكاد نرى مظاهرها في الحياة وأصبحت القوانين العامّة مصدرها البشر لا شريعة الإسلام، وبالتّالي أصبحت القوانين المُنظّمة للحياة سببًا في الشّقاء والمحاباة وخدمة المصالح الخاصّة على حساب المصلحة العامّة.

درجات أخرى من الوهن

لم يكن الأمر ليقف هنا بل وصل بنا بأن تحمي هذه القوانين الفاسدين الطّغاة كثيرًا، وتُحاسب المُصلحين الطّاهرين وتُنزلُ بهم أشدّ العُقوبات بسب دعوتهم للتّغيير، وأصبحت تُنتهك الحُرُمات في الفضاءات العامّة الرّقميّة والواقعيّة وفي وسائل الإعلام المُختلفة بدون مُبالاة، بل يُسمحُ بذلك داخل المُجتمعات الإسلاميّة فترى التمرّد على الأخلاق الإسلامية، فتسمع باعتياد اللّغو في القول والإيحاءات الفاحشة باسم اللّهو والتّرفيه، بل يصلُ الأمر بالاستهزاء بشعائر الإسلام علنًا بين المُسلمين، والتمرّد على الحياء فثمة تحقير للحِجاب وعدم احترام شُروطه كثيرًا لدى أهله، إلى جانب نشر التعرّي الفاجر بين نساء المُسلمين باسم الحداثة والنّسويّة.

خلّف الوهن العقائدي في الناس كثيرا من مظاهر الاضطرابات النفسيّة عند الأزمات، فتصِلُ بهم أحيانًا للانتحار بسبب الغفلة عن الحقيقة الكبرى بأنّ هذه الحياة دار ابتلاء مُسيّرة بأمر الله وقضاءه سبحانه وتعالى وتعلّقًا منهم بالحياة الماديّة ونتائجها التي هي بيد الله وحده أو اللّجوء للعُنف والطُغيان حفاظًا على مصالحه الدّنيويّة فقد يسرقُ المُسلم ويَقبل بالرّشوة ويُشارك في الفساد ويُدافع عنه ويكذب ويغشّ من أجل البقاء الموهوم والحفاظ على المظاهر الاجتماعيّة الزّائفة.

لقد أصابنا الوهن أيضا على المُستوى الشّخصي فكثير منهم أصبحوا ضعيفي الشّخصيّة، يخجل من دينه وإظهاره عمليًّا في سلوكه خوفًا من نظرة الآخرين المُنحرفين عن منهج الله المُتّبعين لأهوائهم البشريّة، بل أصبح مُطيعًا لهم شعوريًّا أو لا شعوريّا كطاعة العبد لسيّده فنتَج عن ذلك التّقليد الأعمى في المظهر باسم الموضة العالميّة والتّقليد الأجوف للسّلوكيّات باسم الحداثة والتحضّر، فأصبح الفرد فريسة سهلة تعصفُ به وساوس شياطين الجنّ والإنس بتزيين الشهوات والفواحش وتحسينها في نظره بدون مُقاومة نفسيّة منه مع العجز التّام للرّفض وانشاء حياة حرّة خاصّة به وفق المنهج الرّباني الذي يُؤمن به.

تطوّر هذا الاستسلام النّفسي حتى أصبحنا نرى المُنكر داخل مُجتمعاتنا فنلتزم الصّمت ونقبل به ونتعايش معه ولا نسعى لرفضه والتّوجيه للخير والمعروف الذي أمر به الشّرع، فنرى الظّلم ونستكين له ويُوالى أهله الطُغاة الذين يسوموننا أشدّ أنواع التّنكيل في هضم حقوق العامّة وحرمانهم من حياة كريمة عادلة وآمنة، ونرى في تعامُلاتنا اليوميّة اللاّمصداقيّة والانتهازيّة والأنانيّة فنقبل بذلك ولا نأخذ مواقف حازمة تحدّ من كلّ ذلك ولو بالكلمة، بل من شدّة ضُعف الشّخصيّة عندنا في حالة تعارض المصلحة الدّنيويّة مع أمر ديني وقيمة إسلاميّة فإنّنا نُسرعُ في التّنازل عن مبادئنا من أجل عرض دنيوي زائل.

الإعلام.. وتسويق الوهن

يُعتبر الإعلام أقوى وسيلة لتوجيه الرّأي العام وإعادة صناعة العقول والتحكّم فيها، فمن شدّة وهنِنا الإعلامي اليوم عدم قُدرتنا على إعادة تشكيل فكر المُسلم عن طريق مختلف وسائل الإعلام بل هنالك فئات طاغية تدير إعلامنا وفق المصالح الغربيّة فتُنتج لنا برامج ومُسلسلات تنشر الرّذيلة وتُشجّع على التحلّل من الثوابت الإسلاميّة فترى فيها دعاوى فاجرة للسّفور والتميّع وللسّلوكيّات المُخلّة بالحياء.

لقد كشفت أحداث طوفان الأقصى الأخيرة كيفية تسخير الغرب آلة الإعلام العالميّة من أجل تشويه المُقاومة واتّهامه بقتل الأطفال والاعتداء على النّساء بدون رحمة أو شفقة وفي المُقابل إخفاء جرائم الاحتلال الذي يقصف المستشفيات والمباني السّكنيّة والمساجد والجامعات بدعوى الدّفاع عن النّفس، فقد زرع هذا الإعلام المُضلّل في نفوس البعض الحقد والكراهية ضدّ المُسلمين والفلسطينيين خاصة ممّا دفع رجل مسنًّا في أمريكا لقتل طفل فلسطيني طعنًا والاعتداء على والدته!

في المُقابل مازالت بعض الجهات الإعلاميّة عندنا تلتزم الحياد إزاء القضيّة الفلسطينيّة وتسعى للتأثير على الرّأي العام سلبيّىا وشيطنة المُقاومة! بل أصبحنا نستخدم الإعلام من أجل تشويه رموز الإصلاح عندنا من علماء ومُفكّرين وتبرير ما تقوم الحكومات الظالمة من تقييد حرّياتهم والزجّ بهم في السجون وقمعهم!

نحن نعيش أيضًا وهَنًا علميًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، حيث تُشير الإحصائيّات وفق مؤشّر الويبو العالمي للابتكار لسنة 2022 عدم وجود أيّ دولة عربيّة مُسلمة في قائمة العشرين الأوائل بل أوّل دولة عربيّة وحيدة هي الإمارات في المرتبة 31 ضمن 50 دولة من العالم!

لقد أصبحنا لا نهتمّ إلا بالجانب الاستهلاكي العام ولا نقضي السّاعات الطويلة إلاّ في تتبّع المشاهير على مُختلف منصّات التّواصل والبحث عن طريقة عيشهم وعاداتهم ونقضي أوقاتنا أيضًا في التّفاهة المرئيّة والمقروءة والسّمعيّة وزد على ذلك إبداعنا المُتواصل في الثرثرة غير الهادفة والنّقد غير البنّاء، فالعلم والصّناعة والتّكنولوجيا الحديثة ليست من أهمّ المحاور في حياتنا.

أمّا على المُستوى السياسي والاقتصادي فإنّ صنّاع القرار عندنا ليست لهم الإرادة والمنهجية الواضحة في وضع الاستراتيجيات والاستثمارات اللازمة من أجل تحقيق نهوض علمي وصناعي واقتصادي، بل يعيشون تحت أوهام صندوق النّقد الدّولي المُستعبد لنا!

أمّا سياساتنا الخارجيّة فهي مُحرجة فمن شدّة ضُعفنا فإنّ حكوماتنا عاجزة عن رفض ما يحصل من جرائم واعتداءات على المُسلمين في بقاع العالم مع لزوم الصّمت بل وصل الأمر بالتّطبيع الفاجر مع أعداء الأمّة ومُوالاتهم الذين هم أنفُسهم يستنزفون خيراتنا من مواد خام مُختلفة ويبُثّون الفتن في مُجتمعاتنا ويتعاملون معانا بعقليّة استعماريّة بحتة ويُملون خياراتهم علينا مع وجوب تنفيذها.

وهننا بين السياسة والمجتمع

ما يحصل في هذه الأيام من جرائم بشعة تجاه إخواننا في غزّة على يد الكيان الصّهيوني المُحتلّ خير دليل على ضُعف سياساتنا الخارجيّة فأغلب الحكومات الإسلاميّة إمّا التزمت الصّمت واكتفت بالمتابعة من بعيد وبعضهم أصدروا بيانات تدعو للتّهدئة بل هنالك من يُحمّل المُجاهدين في فلسطين إثم هذه الجرائم ويتعاطف مع الكيان الغاصب، وفي المُقابل سرّعت دول -مثل أمريكا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا- للإعلان رسميّا مُساندة الكيان الصّهيوني واستعدادها لدعمه بمُختلف الوسائل المُتاحة! فعجبًا لقوم رضوا بالذلّ وسعى حكامه لإرضاء جلاّديه والخضوع لهم وهم يستبيحون دماء إخوته!

لابدّ لنا أيضًا من ذكرِ الوهن الاجتماعي، فعلاقتنا فيما بيننا تنزل في الوهن والضعف والأحباط، والأنا طاغية، ولا يَنصر بعضنا البعض دفاعًا عن العرض أو الكرامة أو المال، فقد يُهان الفرد أمامنا أو يُعتدى عليه فترى الآخرين ينظرون إليه نظرة اللامُبالاة مادُمت لستُ أنا الضحيّة، بل ورّث هذا الضعف الفردانيّة في الحياة والمصلحة خاصة أصبحت أعلى من المصالح الجماعية المُشتركة وبالتّالي وصلنا إلى حدّ التفكّك الاجتماعي وضعف الرّوابط وانتشر الخوف وعدم الثقة والطمأنينة مع الآخر الذي قد يؤذيك في تعاملاته بل قد يهضم حقوقك من أجل منفعته الخاصّة، فقد يصلُ الأمر بالوشاية وتسليم المُسلم لأعدائه ليفتكوا به بدون مُبالاة!

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم في تشخيصه لمرض الوهن الذي أصاب الأمّة حين قال: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت) [أخرجه أبو داود في السنن]، فعذرًا لإخواننا في غزة وفلسطين الذين تُستباح دمائهم يوميّا من قِبل كيان ظالم مُجرم، فقد أصابنا الوهن وتخلّت الأمة عن فاعليتها، لكنّكم اليوم أبطال التاريخ الحديث أشعلتم داخلنا لهيب التّغيير والعودة للمجد والكرامة وحبّ الجهاد في سبيل الله فاثبتوا فإنّا قلوبنا معكم واعلموا أن النّصر من عند الله ولا تهنوا لما أصابكم فأنتم رمز عزّتنا وقوّتنا.

هل من علاج للوَهَنُ؟

إنّ أوّل خطوة في علاج الوهن هي إعادة بناء العقيدة وترسيخها في القلب، وقد يقول أحدنا إنّا جميعًا نُدرك هذه الحقيقة، ولكن كيف نُصلح عقيدتنا عمليّا، فقد اكتفينا من الخطب الطنّانة ومن قراءة المقالات دون توفير الحلول؟!

إنّ العقيدة هدفها ترسيخ شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ مُحمّدا رسول الله في القلب يقينًا صادقًا وفي الجوارح عملاً خالصًا، وبكل بساطة تعني أن تعيش حياتك وفق شريعة ربّ العالمين قولا وعملا والتزاما كاملا وليس جزئيّا بأن تقوم بفرائض العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحجّ وفي المُقابل تظلم وتكذب وتحتال على غيرك وتُنافق أهل الفساد وتُداهنهم في آرائك وتنهاز لمنهجيّتهم في الحياة.

تذكّر دائمًا بأنّ المًسلم الحقّ هو من يُحكّم شرع الله في كلّ جزئيّات حياته، ولكن كيف نُحكّم شرع الله في حياتنا؟! إنّ فاقد الشئ لا يُعطيه فنحن ابتعدنا عن روح الإسلام ومفاهيمه كثيرا، فعليك أيّها القارئ أن تأخذ دينك عن علم فتبدأ بالقرآن واعرض نفسك عليه بصدق واقرأه بتدبّر، وتوسّع في تفاسيره ولا تتجاوز آياته إلاّ وقد درستها وفهمت معانيها، ولتستسلم لكلام الله ليُعيد تشكيل شخصيّتك من جديد ومن ثمّ انغمس في مُراجعة سيرة سيّد المُرسلين عليه الصلاة السّلام وتدبّر حياته وكيف طبّق فيها مبادئ الإسلام وليكن هو قدوتك الأولى في كلّ شئ، فهذا هو الطريق الوحيد الموصل لبناء عقيدة قويّة متماسكة. ولكن هل هذا سيكون بالأمر الهيّن والسّهل؟!

لن يكون الطريق سهلا فهو ممتلئ بالأشواك المُمثّلة في الفتن وتيّار المُجتمع المنجذب للمذاهب الغربيّة المُختلفة، وهذا جهاد طويل يتطلّب منك الصبر والمُصابرة والمُرابطة حتّى تُصبح مُسلمًا قويّا عاملاً بدينك صادعًا بالحقّ الذي معك لا تخشى أحدًا إلاّ الله، ولا ترجو رضا أحدٍ إلاّ الله مُخلصًا له وحده.

فإذا التزمنا بذلك -أفرادا- فكيف ستخرج الأمّة من وهنها وضعفها، وكيف سينتصر المسلمون ويُدافعوا عن مُقدّساتها؟!

إن العقيدة السّليمة تجعل المؤمن قويّ الشخصيّة يُظهر دينه بدون حرج أو خجل منه لأنّه على يقين بالحقّ الذي يملكه، فلا يسكت على ظلم أو فجور، بل يسعى للإصلاح قدر استطاعته بالكلمة أو الفعل وسيكسر قيود الذلّ التّي تفرضها الحكومات وسيطالب بالكرامة والعزّة والعدل وتحكيم شرع الله وجعلها قوانين منظّمة للحياة.

لن يرضى المسلم أن يتولّى أمره حكومة توالي أعداء دينه، أو تطبّع مع الفساد والانحلال، وسيكون هو الرّقيب عليها في كلّ قراراتها ومواقفها وانجازاتها، ولن يرضى صاحب العقيدة الرّاسخة بالغوص في اختلافات فرعيّة تؤدّى به إلى الاعتداء على أخوه المُسلم أو تكفيره واستباحة دمه، بل سيسعى لتوحيد الصّفوف والعمل على التّغيير والتقدّم ولن يُحاول إيذاء أخيه المُسلم أو تسليمه لعدوّ أو الغدر به بل سيسعى لحماية دمه وماله وعرضه ولن تكون له في ذلك مصلحة دنيويّة بل هدفه أن يُقيم الإسلام في الأرض ويُحقّق وظيفة الخلافة فيها.

سيسعى المؤمن الصادق لتعليم من حوله العقيدة الحقّة ونشرها داخل مجتمعه من أجل إنشاء جيل جديد يحمل قضايا الأمّة وينتصر لدينه، عملا بقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ مِنكُمۡۚ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} [الأنفال: 74].

لا يرضى المؤمن بالسلبيّة بل يبذل ما يستطيع من جهد لنصرة دينه، ولا يرضى بأن يكون من الخوالف، بل يُبادر لتحقيق النّهوض وإعادة بناء حضارتنا الإسلامية، ويبدأ التغيير بنفسه فيهجر المعاصي والمنكرات والاستبداد والظلم والفتنة، وإن لم يقدر على مواجهة ذلك كله، فإنه يجاهد نفسيًّا ومعنويا للثبات على الحقّ، أما الجهاد الفعلي فيكون بمقاومة كلّ مظاهر الفساد، والجهاد القتالي يكون بنصرة إخوانه ودفاعه عن مُقدّساته، وهذا كله مرتبط بالعقيدة.

وبالتنشئة على هذه العقيدة يكون هناك مديرون وموظفون ومسؤولون في مختلف المؤسّسات السياسيّة والإعلاميّة والعلميّة والعسكريّة، بإيمانهم وصدقهم، يسعون للتغيير وتحويل الأمّة إلى قوّة ذات وزن وهيبة تُحترم قراراتها ولا يجرؤ أعداؤها بالمسّ من أراضيها ومقدّساتها. وستصبح الأمّة مُستقلّة بذاتها صناعيّا واقتصاديّا ولن يأتى ذلك من فراغ بل علينا كأفراد العودة للمنابع الصّافية للعقيدة والأخذ منها وتحمّل المشاق لذلك.

فلا تيأس ولا تحزن بل ابذل ما استطعت من وقت وجهد، وسيأتي النّصر والتّغيير بإذن الله، فنحن مسؤولون عن العمل والأخذ بالأسباب، أمّا النّتائج فهي لله ومنه وحده.




وقفات ما قبل الطوفان

إنّ الأحداث الحالية التي اشتهرت باسم “طوفان الأقصى” ليست إلا نتيجة ظلم وقهر وانتهاكات متواصلة عاشتها مُختلف الأجيال في فلسطين المُحتلّة، فهذا الجيل اليوم المُرابط في ثغور غزّة، الذي يعيش تحت القصف العنيف، ويرى استشهاد أحبّائه يوميًّا، ثم يبقى صامدًا وشامخًا ما هو إلاّ ثمرة لجيل تلقّى تربية إسلاميّة سليمة يستمدّ منها قوّته ويُحوّل ضُعفه إلى قوّة.

من هنا نتعلّم الدّرس الأوّل من طوفان الأقصى أنّه لا انتصار لهذه الأمّة ولا عزّة لها إلاّ بالعودة إلى دينها والالتزام به، وليس بما يُخيّل للبعض بالانسلاخ منه واتباع الغرب في مجتمعاتنا، حيث أنتج هذا الاتباع أفرادًا كثيرين منشغلين بقضايا لا وزن لها، ولا يُتقن معظمهم إلاّ الاستهلاك لا الإبداع، فالطوفان يدعونا لتغيير نظرتنا للحياة ومُراجعة أنفسنا والعودة لمنهج الله.. فهل من مُجيب؟!

لا بد من توضيح حقائق التاريخ

في كلّ مرّة تُطرح فيها القضيّة الفلسطينيّة يكثر الجدل حول أحقيّة اليهود بإقامة دولةٍ لهم فيها بدعوى أنّها أرض أجدادهم، ومن واجبنا هنا أن نعود للتّاريخ ونُوضّح بعض الحقائق الغائبة عنّا حتّى نفهم أصل الصّراع من أوّله وكيف وصل اليهود لأرض فلسطين وكيف أسّسوا دولة الكيان فيها وما هي أسباب الصّراع وماذا نتج عنه حيث سيكون محور حديثنا اليوم عن حقائق تاريخيّة ما قبل الطوفان.

فمن هم أهل فلسطين؟

عندما نبحث عن أصل اليهود في التّاريخ نجد ارتباطهم بسيدنا إبراهيم عليه السّلام الذي ظهر مع قومه في القرن الثامن عشر قبل الميلاد كجماعة من الرُّحَّل في جنوب العراق قادمين من الجزيرة العربيّة التي نشئوا فيها، وفي حوالي 1800 قبل الميلاد هاجر سيدنا إبراهيم عليه السّلام وقومه شمالاً ثمّ غربًا ثمّ جنوبًا حتى وصلوا إلى فلسطين. وهنالك وُلِد له إسحاق، وسيولد لإسحاق يعقوب، وليعقوب سيولد اثني عشرة ولدًا، الذين يُمثّلون الأسباط أو القبائل الاثني عشرة الشهيرة في التّوراة.

لليهود ثلاث تسميات مشهورة: “إسرائيل” وهو الاسم البديل لسيّدنا يعقوب، والعبريّون: وهو مشتقّ من هجرتهم من كلدان إلى كنعان حيث يقال إنّهم عبروا نهر الأردن أو الفرات، والتسمية الأخيرة “اليهوديّة” فهي مشتقّة من يهودا، وهو اسم أحد أبناء يعقوب الذين يُمثّلون الجزء الأهمّ من بني إسرائيل بعد رحلة الأسر البابلي.

يُثبت التّاريخ أنّ اليهود وجدوا فلسطين أرض كنعان وسكّانها الأصليون هم الكنعانيّون الذين هم في التّوراة أبناء كنعان بن حام بن نوح والذين قدموا من الجزيرة العربيّة إلى أرض فلسطين ما بين 2500 قبل الميلاد و3500 قبل الميلاد و استقرّوا فيها ما بين 1000 و 2000 سنة  وأقاموا فيها حضارة عامرة، ثمّ هاجر جزء منهم إلى ساحل لبنان عُرفوا بالفينيقيّين، وإلى جانب الكنعانيّين، الذين يُعتبرون من السّاميّين الشماليّين، كان هنالك قبائل أخرى من السّاميّين يسكنون فلسطين مثل الأيدوميين والعَمونيين والمؤابييين. أمّا الفلسطينيّون فيرجع أصلهم إلى شعوب البحر الذين يُعُدّون أقدم عهدًا من العبرانيّين في المنطقة، فقد قدموا من العالم الإيجي بسبب اضطرابات في موطنهم ثمّ استقرّوا على سواحل أرض كنعان في عام 1200 قبل الميلاد.

من أجل استقرار العبريّين في أرض كنعان كان عليهم محاربة الكنعانيّين، لكنهم لم يسيطروا إلا على الأراضي الداخليّة الفقيرة. واتّصف تاريخهم بالدّمويّة وعدم الانضباط الأخلاقي، وكثرة الحروب والغزوات، وكانت الهزيمة من نصيبهم غالبًا على أيدي الفلسطينيّين.

ما نستنتجه هنا أنّ اليهود لم يكونوا يومًا السكّان الأصليّين لفلسطين كما يدّعون، بل وجدوا فيها إثر هجرتهم الأولى مع سيّدنا إبراهيم الكنعانيّين ثمّ أصبح الفلسطينيّون جزءًا من هذا البلد، في الجانب السّاحلي خاصّة، مع سكّانه الأصليّين حيث حاربوا معهم دفاعًا عن أرض فلسطين.

وللتذكير هنا أنّ وجود الفلسطينيّين، الذين هم ليسوا بالكنعانيّين، يعود إلى حدود عام 1200 قبل الميلاد واستمرّ ذلك إلى يومنا هذا فلا يمكننا القول إلاّ أنّهم يمثّلون السكّان الأصليين لفلسطين.

هاجر يعقوب في منتصف القرن 17 قبل الميلاد إلى مصر بسبب القحط الذي أصابهم، و استقرّوا بأرض جاشان مع ذريته ما يقارب 350 سنة إلى أن خرج بهم سيّدنا موسى عليه السّلام هربًا من ظلم فرعون حيث كانت وجهتهم العودة إلى أرض كنعان، إلا أن الخوف تملّكهم وقاموا بمعصية أمر نبيّ الله موسى، فكانت النتيجة أربعون سنة من التّيه في أرض سيناء، وخير دليل على معصيتهم من أجل دخول أرض فلسطين قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ* قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 24- 26]

استمرّ هذا التّيه حتّى ظهور يوشع بن نون الذي قادهم إلى أرض الأردن حيث انتزعوا بعضًا من المناطق الدّاخليّة في أرض كنعان دون الوصول للعاصمة القدس التّي كانت تسمّى يبوس عند العرب، وإيليا لدى الرومان، وأورشليم عند اليهود، إلا أنهم لم يصلوا إلى سواحل فلسطين.

لوحة تخيلية ليوشع بن نون وهو يأمر الشمس بالتوقف عن الحركة حتى لا تغرب قبل أن يتم له النصر

في عام 1000 قبل الميلاد وحّد سيدنا داوود عليه السّلام الأسباط وهزم اليبوسيّين والفلسطينيّين وأسّس مملكة إسرائيل وأصبحت يبوس (القدس) عاصمة لها وتحوّل اسمها إلى أورشليم -أي مدينة السلام- وتوسّعت هذه المملكة من دان في الشّمال إلى بير السبع في الجنوب.

وبعد تولي نبيّ الله سليمان الحكم، أطلقوا يُسمّونه بـ “صاحب الهيكل” وانقسمت الدولة إلى مملكتين: مملكة جنوبًا تضمّ قبيلتيْ يهودا وبنيامين، ومملكة إسرائيل شمالاً تضمّ القبائل العشرة الباقيةـ مع العلم أنّ حدود هاتين الدّولتين تتّفق مع رقعة الضفّة الغربيّة الحالية.

سريعًا ما أصبحت الدّولتان في حالة حرب وعداوة ممّا سهّل نهايتهما حيث تعرّضت الدولة الجنوبيّة لهجمات مصريّة على يد شيشنق في مرّة أولى ثمّ على يد نخاو في المرّة الثانية ثم قُضيَ عليها نهائيًّا على يد نبوخذ نصّر البابلي.

أمّا جارتها الشّماليّة فقد قضى عليها سرجون الآشوري في القرن 8 قبل الميلاد، ولم تبق اليهود فيها -دون حكم- سوى أربعة قرون.

ما نلاحظه هنا تعاقب الأنبياء على فلسطين حيث كانت وجهتهم الأولى بداية من سيّدنا إبراهيم ثمّ سيّدنا يعقوب ثمّ سيّدنا موسى ثمّ نبيّا الله داود وسليْمان وصولا إلى سيّد المرسلين محمّد ﷺ، وفي هذا دلالة أنّ كلّ نبيّ يأتي ويأخذ المشعل ممن قبله في فلسطين من الأنبياء والرّسل حتى كانت الخاتمة بأن أصبحت فلسطين بشرى لخاتم المرسلين عليه الصّلاة والسّلام.

ومن المعلوم أنّه لا نبيّ بعده يُسلّم له أمر فلسطين لذلك ستبقى للمسلمين إلى يوم يرث الله الأرض ومن عليها، وهي مسؤوليّة أمّة رسول الله ﷺ، فهو قدوتهم وقد صلّى بكلّ الأنبياء والرّسل وإليها أُسريَ بِه ومنها عُرج به إلى السماء، وكانت قبلة المسلمين الأولى، وعليه فإن فلسطين بانتمائها تعود للمسلمين تتبّعًا لهذا التّسلسل المتعاقب بين الرّسل والأنبياء، وفي هذا إبطال لدعوى اليهود بإعادة بناء الهيكل وتهويد القدس لأنّ تاريخ الرسالات السّماويّة لم يقف عند سيّدنا سُليمان بل تتابع على مدى التّاريخ حتّى ختمت الرّسالة بمحمد بن عبد الله صلوات الله عيه وسلامه.

الدعاوى الصهيونية.. التاريخ والواقع

ما نلاحظه أنّه في فلسطين تأسّست مملكة يهوديّة ومن هنا ادعوا أنّ فلسطين أرضهم وأرض أجدادهم وأنّهم يعيدون بناء دولتهم في فلسطين على حساب تطهيرٍ عرقيّ لشعبٍ كاملٍ مترسخ منذ أكثر من 1200 سنة قبل الميلاد.

إن تاريخ الأمّة الإسلاميّة التي توسّعت إلى حدود إسبانيا اليوم وأسّست فيها دولة الأندلس تحت راية الخلافة الأمويّة سنة 756 ميلادي، هل يمكننا اليوم بعد مرور 1263 سنة أي ما يقارب 13 قرنًا أن نخرج الإسبانيّين اليوم من منازلهم وأراضيهم ووطنهم وتسليمها للمسلمين بقوة السلاح، لأن الخلافة الإسلاميّة أقامت دولا متعاقبة هناك؟ وإن حصل ذلك فإن العالم كله سيرفض ذلك وتغزوه الفوضى والدمار، وبالمثل، فإن الدعوة الصهيونية القائمة على هذا الأساس باطلة ولا يقبلها عاقل.

بعد سقوط المملكة اليهوديّة في فلسطين، دخل اليهود في مرحلة الشّتات والتيه، وعرِفت هذه الفترات بالشتات البابلي: الذي نُقل فيه أغلب يهود القبائل العشرة إلى بابل وتميّز هذا الشّتات باتجاهه نحو الشرق، أما الشتات الآخر فهو الهيليني: الذي بدأ بامتداد امبراطورية الإسكندر واستمرّت مع السّلوقيّين والبطالسة ثم البيزنطيّين وتميّز هذا الشّتات باتجاهه نحو الغرب.

أما الشّتات الرّوماني الوسيط: فقد اتّجه في الغالب نحو الغرب الأقصى. حيث تواصل انتشار اليهود في العالم وتشتّتهم حتى وصلوا إلى ألمانيا، وهناك تعرّضوا للإبادة على أيدي النّازيّين، ومن ثم توجهت أعداد كبيرة منهم إلى والولايات المتّحدة.

في آواخر الخمسينات قدّم الدكتور جمال حمدان نِسَب انتشار اليهود في العالم داخل مختلف القارات على النحو الآتي:

القارة العدد النسبة المئوية من يهود العالم
أوربا والاتّحاد السوفيتي 3.400.000 28,8
أمريكا الشمالية 5.433.000 45,1
أمريكا الجنوبية 633.000 5,3
آسيا 1.855.000 15,4
إفريقيا 585.000 4,9
أستراليا ونيوزيلندا 61.000 0,5

جدول1: نِسب انتشار اليهود حول العالم [اليهود أنثروبولوجيًا د. جمال حمدان، ص: 98].

بناء على ذلك نستنتج أنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة كانت المكان الأكثر انتشارًا لليهود ثم أوروبا آنذاك، ويمكننا من هنا أن نستخلص مدى تأثيرهم في السياسة الأمريكيّة ونيل الدعم لهم حيث أنّهم وصلوا إلى الكونغرس وكوّنوا لوبيات مؤثرة جعلت القوى الكبرى في العالم تتّخذ موقفًا سلبيًّا إزاء القضيّة الفلسطينيّة.

ما موقف الانثروبولوجيا؟

يشير د. جمال حمدان أن البحوث الأنثروبولوجيّة لليهود الذين احتلّوا فلسطين اليوم ليس لهم أي علاقة مع يهود التّوراة الذين أقاموا مملكتهم سابقا في فلسطين والذين يريدون إعادة بناء الهيكل من جديد، ويقول: “ليس من المتصوّر-أليس كذلك؟- غير هذا بعد نحو ألفي سنة من التشتّت والاختلاط، لاسيما إذا تذكّرنا-وهو اعتبار مهمّ للغاية- أنّ كلّ قوّة يهود الشتات حين خرجوا من فلسطين بعد هدم الهيكل الثاني لم تزد عن 40 ألفًا وهذا الرّقم وحده يكفي ليوحي -رغم كلّ قيود العزل والاضطهاد- بأنّ يهود الشتات الأصلاء قد ذابوا وانصهروا وضاعوا في محيط الهجرة كقطرة في بح، وأنّ يهود العالم اليوم في سوادهم الأعظم هم أجانب متحوّلون أكثر منهم يهودًا متجوّلون”. وقد أشار الأنثروبولوجيّ المخضرم “فيلكس فون لوشان” أنّ “من بين اليهود المُحدَثين نحو 50 بالمائة عراض رؤوس، 11 بالمائة ذوو بشرة بيضاء، وما لا يزيد عن 5 بالمائة يتّفقون مع ما عرفنا أنّه النّمط السّامي القديم”.

هذا بذاته ما يتّفق تمامًا مع ما تؤكّده دراسة حديثة جدًّا قام بها في العام الأخير فقط أنثروبولوجي بريطاني هو جيمس فنتون على يهود إسرائيل توصّل فيها إلى أنّ 95 بالمائة من اليهود ليسوا من بني إسرائيل التوراة، وإنّما هم أجانب مختلطون ومعتنقون لليهودية لاحقا، فهم أقارب الأوروبّيين والأمريكيّين، بل هم في الأعمّ  الأغلب شريحة منهم، لحمًا ودمًا، وإن اختلف الدّين.

رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)

بداية الاحتلال

يقول ليو موتسكن أحد مفكّري الحركة الصّهيونيّة: “فكرتنا هي أنّ استعمار فلسطين يجب أن يسير في اتجاهين: استيطان يهودي في أرض إسرائيل، وإعادة توطين عرب أرض إسرائيل في أراضي خارج البلد. وقد يبدو ترحيل هذا العدد الكبير من العرب أوّل وهلة غير مقبول من النّاحية الاقتصاديّة، لكنّه مع ذلك عملي. إنّ إعادة توطين سكّان قرية فلسطينيّة في أرض أُخرى لا يتطلّب كثيرًا من المال” [التطهير العرقي في فلسطين إيلان بابه، 15]، وهكذا كانت منذ البداية أهداف الحركة الصهيونيّة استعمار أرض فلسطين وتكثيف الاستيطان فيها مع إخراج أهلها إلى أماكن أخرى وما زالت حتى اليوم تقام مستوطناتهم ويهجر الفلسطينيون من أرضهم.

بعد الحرب العالميّة الأولى وسقوط الخلافة العثمانيّة قامت بريطانيا بدعم المشروع الصّهيوني لفلسطين سنة 1918 فقام وزير الخارجيّة البريطاني اللّورد بلفور بإعطاء وعد للحركة الصّهيونيّة بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين مع التعهّد بحماية حقوق السكّان غير اليهود أي الفلسطينيّين الذين هم السكّان الأصليّون والأغلبيّة في وطنهم.

كان من الطّبيعي رفض هذا الوعد من الجانب الفلسطيني والعربي، إلا أن الهجرة اليهوديّة تزايدت نحو فلسطين وتوسّعت المستعمرات ممّا زاد خوف الجانب الفلسطيني الذي رأى أن القبول بوعد بلفور سيكون أفضل كحلّ أوّلي مع استمرار المفاوضات، إلا أن الصهاينة رفضوا ذلك مع دعم الاحتلال البريطاني لهم، فكانت النتيجة اندلاع ثورة فلسطينيّة سنة 1929 ممّا جعل الجانب البريطاني يلين للمطالب الفلسطينيّة ولكن اللّوبي الصّهيوني قام بإعادة توجيه الحكومة البريطانيّة للوفاء بوعدها له، فاندلعت ثورة جديدة سنة 1946 قامت السلطة البريطانيّة وقتها بحشد قوتها العسكريّة ووأد هذه الثورة بكلّ قوّة مع نفي القيادات الفلسطينيّة المشاركة فيها. في هذه الأثناء كانت الحركة الصهيونيّة تستعدّ لاجتياح الأراضي الفلسطينيّة ووضعت خطّة ممنهجة لهذا، بدءا من إنشاء منظّمة عسكريّة صهيونيّة تحت مسمّى الهاغاناه التي أنشأت سنة 1920 بمساعدة ضبّاط بريطانيين قاموا بتدريب هذه المنظّمة على الاستراتيجيّات العسكريّة، وازدادت المنظّمة خبرة عندما شارك العديد من أعضائها في الحرب العالميّة الثانية مع الجيش البريطانيّ.

كان هدف الحركة الصهيونيّة واضحًا ووضعوا الخطط الممنهجة للوصول لأهدافهم، أمّا المسلمون -في الجانب الرسمي- ما زالوا في سبات أمام مخططاتهم اليوم، فالعالم بأسره يخطّط ويبحث عن الإستراتيجيّات المناسبة ويضع أهدافًا مستقبليّة ويوحّد الجهود لتحقيقها، أما حكام المسلمين فأغلبهم يبقى بلا حراك مؤثر، ومنذ العقد الثاني من هذا القرن توجهوا لاتهام المقاومة في فلسطين بوصفها بالإرهاب والعمل مع الصهاينة على تفكيكها.

في فبراير/شباط 1948 قرّرت بريطانيا التخلي عن فلسطين وإحالة القضيّة للأمم المتّحدة بهدف مواجهة التدهور الاقتصادي والتفرغ لإعادة بناء البلاد بعد الحرب العالمية، وهو ما كان فرصة لدول أخرى قوية -كالولايات المتحدة- لتتخذ من وجود إسرائيل موقعا متقدما لتدمير موقع العالم العربي واحتمالات نهوضه. أمّا المقاومة الفلسطينيّة الآن فقد فهمت الدّرس واختارت السعي والعمل في سبيل الله والدّفاع عن أرضها بنفسها لأنّ الإنسان إن لم ينتصر بنفسه فلا حق له في انتظار شفقة الآخرين لدعمه.

وعد بلفور

مجازر لا تنتهي

قامت القوات الصهيونية في فلسطين منذ ما قبل إعلان دولتهم بقتل وطرد الفلسطينيّين من أراضيهم بلا رحمة ولا شفقة، وظهرت بشاعة هذه العمليّات على سبيل المثال في مجزرة دير ياسين حيث ينقل لنا المؤرّخ إيلان بابِه قائلا: “عندما اقتحم الجنود اليهود القرية، رشقوا البيوت بنيران المدافع الرشّاشة، متسبّبين بقتل كثير من سكّانها. ثمّ جمعوا بقيّة القرويين في مكان واحد وقتلوهم بدم بارد، وانتهكوا حرمة أجسادهم، في حين اغتُصِب عدد من النّساء ثمّ قُتلن.. ويكفي أن يعلم المرء أنّ ثلاثين طفلاً صغيرًا كانوا بين ضحايا المجزرة في دير ياسين، ليدرك كم أنّ الحذلقة “الكميّة” برمّتها- التي كرّر الإسرائيليون استخدامها حديثا في نيسان/ أبريل 2002 فيما يتعلّق بمجزرة جنين- لا معنى لها. إنّما في ذلك الوقت، أذاعت القيادة اليهوديّة بافتخار رقما مرتفعا للضحايا كي تجعل من دير ياسين نذيرًا للنّكبة، تحذيرًا للفلسطينيين كافة من أنّ مصيرًا مماثلاً ينتظرهم إذا رفضوا أن يتركوا بيوتهم ويهربوا.” [إيلان بابه، ص: 101- 102]

تواصلت عمليّات القتل ونسف البيوت ومحو الوجود الفلسطيني في كلّ مكان لتدخله قوات الصهاينة ثمّ امتدّت هذه العمليّات إلى المدن وكانت البداية مع مدينة طبريّة التي تعرّضت لقصف عنيف حتى ترك الكثير من الفلسطينيون بيوتهم هربًا من هذا القصف المستمرّ، وبعد سقوط هذه المدينة تحولت وجهة القوات العسكريّة اليهوديّة إلى حيفا بهدف تهجير 75 ألف فلسطيني منها وقد تمّ ذلك في نيسان/أبريل 1948، وفي هذه الأثناء كانت القوات البريطانيّة مازالت في ميناء حيفاء الرئيسي يستعدّون للانسحاب النّهائي في مايو 1948، ورغم ذلك لم يتدخّلوا لإيقاف التطهير العرقيّ في حيفا حيث هرب سكّانها، وتركوا منازلهم وحاجياتهم، نحو الميناء من أجل إيجاد قوارب تنقلهم لأماكن أخرى آمنة وبسبب الفوضى العارمة والتّدافع نحو الميناء قرّرت القيادة الفلسطينيّة تجميع النّاس في السوق القديمة من أجل تنظيم عمليّات الهروب وما إن وصل هذا الخبر للقوات اليهوديّة إلاّ قاموا بنصب مدافعهم وقصف هذه السّوق بمن فيها من السكّان العزّل الفارّين، وبعد هذه المجزرة عبّرت القيادة الفلسطينيّة عن استيائها من موقف القوات البريطانيّة التي كانت مكلّفة بحفظ النظام داخل المدن الفلسطينيّة.

ما حصل في صفد لم يكن مغايرًا فطُرِد سكّانها الفلسطينيون البالغ عددهم 9500 قسرًا من بيوتهم، وما حصل بمدينة القدس لم يكن مغايرًا فقامت القوات البريطانيّة بتجريد الفلسطينيين من أسلحتهم مقابل الدّفاع عنهم ولكن سرعان ما نكثوا العهد، غير أنّ القوات العربيّة المنظّمة، بقيادة الأردن أوقفت هذه العملية ودافعوا عن أجزاء من المدينة، إلى جانب دفاعهم عن الضفّة الغربيّة التي سقطت في يد اليهود سنة 1967، لتكون حصيلة اليهود في القدس تطهير ثمانية مدن وتسع وثلاثين قرية تمّ طرد سكّانها منها مع إزالتها من الوجود وبناء مستعمرات يهوديّة مكانها.

لم تتوقّف عمليّات التطهير هنا بل تواصلت وشملت قرى أخرى مثل المنشية، وبيار عدس ومِسْكة الكبيرة وذكر المؤرّخ بابِه في كتابه أنّ ما بين 30 مارس و15 مايو احتُلّت أكثر من 200 قرية وطرد سكّانها وهذا كلّه قبل تدخّل الجيش النّظامي العربي في فلسطين، الذّي لم يُحدث فرقًا كبيرًا وكانت النتيجة تهجير أهالى  247 قرية سنة 48 إلى غزّة التّي تُمثّل 1% من مساحة فلسطين وتبلغ حاليا الكثافة السكّانيّة في غزة ما يقارب 7 آلاف شخص في الكيلومتر مربع!

ماذا اليوم؟

يُجاهد اليوم هذا الجيل نُصرة لحقّه ونصرة لدينه بكلّ ما في استطاعته وعلينا نحن كمسلمين أن نكون في صفّهم لا مُتخاذلين، فالكيان الصهيوني مُحتلّ ومُجرم والصّراع اليوم تحوّل إلى صراع بين الحقّ والباطل فلا نكن من المُتخلّفين. ولنا مثلاً في المهندسين الشهداء -كمحمّد الزّواري- أسوة حسنة لمن أراد منّا خدمة القضيّة الفلسطينيّة فليجاهد بعلمه فمن لم يستطع فبماله وإيصال المساعدات لأهل غزّة المحاصرين تحت القصف فمن لم يستطع فليجعل هذه القضيّة حيّة بين النّاس يروي تفاصيل تاريخها حتى لا يُنسى الظلم المُسلّط على الأمّة، فمن لم يستطع فليقاطع المنتجات الداعمة للكيان الصّهيوني والمصنعة فيه.




هل استطاع الغرب حرفَ الإسلام نحو التشوّه الحداثيّ؟

أصدرت مؤسسة راند، التي تعتبر من أهم مراكز الدراسات الإستراتيجية الأمريكية، وأحد أهم الأذرع البحثيّة للإدارة الأمريكية تقريرًا بعنوان “الإسلام الديمقراطي المدني” قبل حوالي تسع سنوات، يهدف الطرق المناسبة لتغيير الدين الإسلامي وفق قوانين النظام العالمي، ويطلب تشجيع الحكومات والشعوب المسلمة على الإقدام لتنفيذ ذلك الأمر.

اقترح التقرير الإستراتيجيات المناسبة لبلوغ هذا الهدف، حيث تقول الباحثة النمساوية صاحبة التقرير شيريل بينارد: “من الواضح أن الولايات المتحدة والعالم الصناعي الحديث، بل المجتمع الدولي برمته، يفضلون جميعًا عالمًا إسلاميًّا متناغمًا مع النظام العالمي، فمن الحكمة تشجيع العناصر الإسلامية المتوائمة مع السلام العالمي والمجتمع الدولي، والتي تحبذ الديمقراطية والحداثة”(1).

إن المقصود هنا هو إعادة بناء عالم إسلامي خاضع للقوانين الدولية التي يضعها الغرب وأمريكا دون نقدها أو رفضها من قبل الشعوب الإسلامية وحكوماتها، ودون الحاجة للعودة إلى المرجعية الإسلامية وشريعتها حتّى ولو كانت هذه القوانين مخالفة للفطرة الإنسانية، فالهدف هو فصل العالم الإسلامي عن عقيدته الإسلامية وعن شريعته والتطبيع مع القوانين التي تضعها الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.

لنا أن نتساءل اليوم بعد مرور حوالي تسع سنوات عن إصدار هذا التقرير، ما هي الإستراتيجية المتبعة لبلوغ أهداف التقرير، وغرس الحداثة في روح العالم الإسلامي، وما مدى تأثيرها في واقع مجتمعاتنا اليوم؟

الإستراتيجيّة الأمريكيّة

إن أساس الإستراتيجية الأمريكية في تغيير الإسلام وتمييعه قائمة بدرجة أولى على دعم الحداثيين في مختلف مجالات الحياة والترويج للحداثة، وتأكيدًا على ذلك تقول الباحثة شيريل بينارد: “والرؤية الحداثية متوافقة مع رؤيتنا. ومن بين كل الأطياف، فإن هذه الفئة شديدة الاتساق مع قيم وروح المجتمع الديمقراطي الحديث، وهذا يشمل بالضرورة تجاوز الاعتقاد الديني الأصلي أو تعديله أو تجاهل بعض عناصره على نحو انتقائي. والعهد القديم لا يختلف عن القرآن في دعم ألوان من القيم والمعايير وترسيخ عدد من القوانين الشاذة إلى درجة لا يمكن تصورها بغض النظر عن تطبيقها في مجتمع اليوم الحديث”(2). والسؤال المطروح هنا ما هي أسس الرؤية الحداثية؟

الحداثيون يعتبرون الإسلام حركة تاريخية وشريعته غير ثابتة بل هي لا تصلح إلا في الفترة الزمنية التي ظهر فيها ويمكن تغييرها وفق متطلبات العصر مع الحفاظ على القيم الأخلاقية والإنسانية التي لا تتعارض مع قيم الديمقراطية والحداثة العالمية، وللفرد حرية التديّن وفق الطريقة التي تناسبه وتبقى دائمًا مصلحة المجتمع أهم من تعاليم القرآن وأحكامه، فالحكم والقوانين المنظمة للحياة في مختلف المجالات لا علاقة لها بالإسلام بل هي فقط من صنع العقل الإنساني وفق ما يرى فيه مصلحة له ولمجتمعه.

لا تقتصر الاستراتيجية على دعم الحداثيين وحدهم بل إن أمكن دعم غلاة التصوّف غير المنضبط بتعاليم السنة النبوية الذي يوصى بالانعزال من الحياة والتعبّد السلبي الذي لا ينشر إلا البلاهة والخرافات والضعف والجمود! فمن الوصايا في هذا التقرير نجد: “تعزيز مكانة التصوف بتشجيع الدول التي توجد بها تقاليد صوفية قوية على زيادة الاهتمام بهذا الجانب من تاريخها وبثه في مقرراتها المدرسية”(3).

ومن أهم بنود هذه الإستراتيجية هي دعم الرؤية الحداثية للإسلام والترويج لها ونشرها تحت غطاء الإسلام الحداثي وهذا ما يحدث في مجتمعاتنا اليوم بظهور نخب مثقفة في المنابر الإعلامية تفسر الإسلام وفق أهوائها وتبطل أحكامه وتحل ما حرم الله في كتابه، ومن البنود أيضًا صناعة قدوات وزعمات وعلماء حداثيين وتصديرهم للعامة، ومحاول غرس أفكارهم داخل المجتمع، وإظهارهم على أنهم يملكون الحل لمختلف المشاكل، وبهم يتقدم المجتمع، وجعلهم رموزًا قوميين، بهدف التأثير في العامة ودفعهم للاقتداء بهم في كل شيء، فيسلمون لقولهم وأمرهم.

من أهم البنود التركيز على مبدأ الاختلاف والتفرقة بين مختلف الطوائف والمذاهب الإسلامية وتأجيج الصراعات بينهم مع استغلال أخطاء زعمائهم وزلاتهم الأخلاقية، ونشرها بين العامة، مع إبراز فشل الجماعات الإسلامية في الحكم وعجزهم عن النهوض بالبلاد، وتقديم المشروع الحداثي على أنه البديل والحل للتغيير والنهوض، وكثيرًا ما نرى اليوم بعد الثورات وصول الأحزاب الإسلامية للحكم وإخفاقها لأسباب داخلية أو خارجية، ومن ثم الترويج أنّ سبب ذلك هو توظيف الإسلام في السياسة وعدم صلاحيته لذلك ومن ثم الدعوة للفكر الديمقراطي الحداثي وإيهام الناس بذلك، ومن البنود أيضًا التشكيك في الثوابت الإسلامية كالسنة النبوية وبث الشبهات حولها، حتى يشعر الفردِ بضعف وشكّ في دينه فيترك تعاليمه ولا يُصدّقها، وكثيرًا ما نرى في الآونة الأخيرة حملات تشكيك تهز المجتمع وتتركه تائها.

من البنود المهمة فكرة ترسيخ مفهوم تحديث أو تجديد الإسلام على النحو الحداثي في مناهج التعليم وغرسه في الناشئة وأنه هو طريق السلام العالمي والتقدّم والتطوّر والتّرويج لذلك في المنابر الإعلاميّة وربط مشاكل المجتمع بالشّريعة والدّين، ونحن اليوم نعاني كثيرًا من مشكلة هجر أبنائنا لتعاليم الإسلام والتمرد عليه. فهذه البنود هي الواردة إجمالًا في التقرير، ولمن أراد التوسع فيها فيمكنه العودة للتقرير ومراجعته.

مظاهر الإستراتيجيّة الأمريكيّة داخل مجتمعاتنا

بعد هذه السنوات من العمل والتنفيذ لهذه الاستراتيجية، بتنا نرى اليوم أجيالًا لا تعرف من الإسلام إلاّ الاسم، بعيدة عن مبادئه ونافرة من شريعته، ترى ضرورة فصل الدين عن السياسة والاقتصاد، وجعله حرية شخصية لمن أراد الالتزام به، كما أن من يُطبّقه في نفسه وأهله صار يشعر بالغربة والتنمّر في مجتمعه المسلم، وفي المقابل أصبحت الحداثة والديمقراطية والقوانين الوضعية هي المرجعية لكل شيء، ومن أراد الاستقرار ومواكبة النظام العالمي فلا بد له من الانسجام مع هذه المفاهيم فالدين لم يعد المميّز لهوية المسلم ومرجعيته ومبادئه في الحياة، فقد أُفرِغ من محتواه وأصبح عقيدة خاوية بلا عمل ولا التزام!

أصدرت “بي بي سي” تقريرًا يثبت تراجع نسبة التديّن في العالم العربي سنة 2019 إذ ارتفعت نسبة الغير المتدينين من 8% إلى 13% منذ عام 2013، ويعتبر هذا الأمر ملموسًا في مجتمعاتنا فقد أصبحت المصلحة هي الراجحة حتى ولو كانت حرام ولم يعُد هنالك توقير وتعظيم للحدود والحرمات التّي وضعتها الشريعة الإسلامية وأصبحت هناك توسّع في اللامبالاة بأحكام الإسلام خاصة لدى غالبية الشباب فيمرحون ويعيشون وفق أهوائهم، وبالتالي تبع ذلك انحلال الروابط الأسرية وعدم تحمل المسؤولية والكثير من المظاهر السلبية تحت مُسمّى الحداثة والحريّة.

في هذا السياق لا يمكن نسيان موضوع المرأة وتصاعد أيديولوجيات النسوية وارتفاع ظاهرة خلع الحجاب والابتعاد عن الحياء وانتشار التعرّي في الأماكن العامة، ومن هذه المظاهر أيضًا ما يحدث اليوم في بعض البلدان العربية من محاولة تجديد الإسلام -كما يقولون- وإدخاله تحت منظومة الحداثة، فانتشر الاختلاط والحفلات الصاخبة تحت مسمى الحداثة، وأصبحت هنالك دعاوى لتحرير المرأة وفق المنظور الحداثي الغربي، ولم يعد المجتمع المحافظ فيها محافظًا كما كان تحت وطأة عملية التحديث!

مؤخّرًا أصبحت هنالك حملات متتالية من أجل دمج العالم الإسلامي في النظام العالمي، بهدف قبول الشذوذ الجنسي واعتباره حرية شخصية لا علاقة له بالدين وتغييبه عن توجيه العامة للصواب، فأصبح من المسلمين المعاصرين من يدعم هذا السلوك الشاذ ويدافع عن أصحابه باسم الإنسانية!

هل نجح الغرب باستراتيجيّته؟

لنا أن نقول هنا بأن الغرب حقق نجاحًا ملموسًا في هذه الإستراتيجية المُتّبعة، فمجتمعاتنا اليوم أصبحت بعيدة عن دينها وأحكامه، وبات الكثير من الناس لا يُقيم للدين وزنًا، ولا تحتكم لشريعته، ويا لها من حقيقة مفزعة ومحزنة!

إن المسلم اليوم الذي يتعامل بالربا ويعتبر ذلك من متطلبات العصر، وأنّ الدين يبيح في نظره ذلك بسبب المُتغيّرات التّي نعيشها، والمسلم الذي يقنع نفسه بأن التصرفات اللاأخلاقية التي  يشجع عليها الشيطان وينهى الإسلام عن اقترافها، هي أفعال لا بأس بها ولا شأن للدين في تنظيمها، أهذا المسلم هو الذي وُصِف بأنه المستسلِم لأمر الله الباحث عن رضاه ومقيم الدين في نفسه وأهله.

فالمُسلم المُعاصر الذي يعتبر الانتساب للدّين شأنًا صوريًّا، فلا يلتزم بأحكامه وشريعته، ويرى أنه غير مُطالبٍ بالالتزام بتعاليم الدين، وأنها قد تتغيّر بتغيّر متطلبات العصر، فإنه سائر على خط ما يُسمّى بـ تحديث الإسلام وفق النهج الديمقراطي الذي تسعى أمريكا لترسيخه بيننا.

المفهوم الحقيقي للإسلام

انساق كثير من الناس وراء هذه الإستراتيجية دون وعي منهم، إلى جانب انبهارنا بما تُقدّمه الثقافة الغربية لنا، ولكن إذا أردنا العودة للعقيدة الصحيحة وإصلاح واقعنا فلا بد لنا أن نعلم أوّلا أنّنا نخوض حربًا عقيدية هدفها مسخ الهوية الإسلامية وذوبان مجتمعاتنا داخل النظام العالمي وهذا ما نبهنا منه الله عز وجل في كتابه العزيز: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].

كما أنه لا بدّ لنا -ثانيًا- من العودة للمفهوم الصحيح للإسلام وكيف ينبغي لنا أن نفهمه، فالإسلام الحقّ يكون بتسليم النفس كلها لله وأن تكون أفكارنا ومشاعرنا وأقوالنا وسلوكنا العملي محكومة كلها بما أنزله الله لنا من قرآن وسنة نبوية.

إن شهادة أن لا إله إلا الله تعني أن الله هو الخالق والمالك لهذا الكون والمُدبّر الوحيد لكلّ ما يقع فيه من أحداث ولا يخفى عليه شيء في هذا الكون الفسيح، فالأمر كله بيده فلا نافع، ولا ضارّ إلا الله فهو سبحانه وحده واهب الحياة ومُقدّر الموت لكل شيء، وهو وحده الرزّاق ذو القوة المتين، وهو وحده الذي ينبغي أن يُعبَد وأن تتعلّق به وحدَه القلوب فلا تخشى أحدًا سواه ولا ترجو أحدًا غيره، وهو وحده الذي يملك ويُشرّع للبشرية ويضع لهم النظام والقوانين التي يجب أن تقوم عليها حياتهم في مختلف مجالات الحياة فهو وحده العليم الخبير بما ينفع عباده بدون مصلحة أو محاباة لأحد، وكيف لا وهو الغني عن العالمين! وعلى المسلمين في المقابل أن يلتزموا بهذه القوانين والأحكام ويسعوا لإقامتها في واقع حياتهم والدعوة إليها وأن تكون هي مرجعيتهم في كل صغيرة أو كبيرة.

وأما شهادة أن محمدًا رسول الله فتعني أنه صلى الله عليه وسلم هو المُبلّغ عن ربّه بما أوحى له، ويجب الاقتداء به واتّباعه وطاعته مع طاعة الله، كما يُعتبر النّموذج الحي للتطبيق العملي لرسالة الإسلام، فلذلك وجب أن يكون هو القدوة والمعلم الأوّل في كلّ عمل وتصرّف وقول وما علينا إلاّ الاقتداء بسنته والتمسّك بها.

وهذه هي الحقائق العامة التي يجب أن تستقر في قلوبنا، وإعادة إحيائها من جديد، وأن نعود إلى الطريق السوي الذي رضيه الله لنا، فمن البداهة أننا لا يمكن أن ندّعي الإسلام ثم لا نلتزم بأحكامه بل نخالفها وندعي أنّ الإسلام في القلب وفي النية الطيبة! فالإسلام منهج حياة كاملة لا يُمكن تجزئته وفصله عن بعضه البعض وعلينا التشبث به مهما يترتب على ذلك من أخطار وتداعيات فهو الطريق الوحيد الذي سيوصلنا للنور والفلاح في الدنيا والآخرة.

ختام القول

إذا أردنا مقاومة هذه الموجة من الدعاوى لتحديث الإسلام وفرض نزعة الديمقراطية عليه وفق النموذج الغربي والأمريكي فعلينا أن نستيقظ من غفلتنا ونعي دورنا الفعّال بوضع استراتيجية متكاملة على مدى سنوات يتشارك فيها الجميع من مسلمين ودعاة وعلماء وفقهاء صادقين هدفها إعادة الروح المؤمنة وتوجيهها إلى حقيقة الإسلام وإيقاظ الضمير الخاضع لله من جديد.

على جميع الأفراد المُصلحين أن يكونوا خير نموذج تتجسّد فيهم مفاهيم الإسلام الحقيقية، ويجب أن نُذكّر من حولنا بهذه الحقيقة عن طريق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والالتزام المستمر بدورنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه الذي يرضي الله عنّا.


الإحالات

(1) تقرير مؤسسة راند، الإسلام الديمقراطي المدني الشركاء والموارد والإستراتيجيات لشيريل بينارد، الطبعة الأولى سنة 2013، دار تنوير للنشر والإعلام، ص 13.

(2) المصدر السابق، ص: 73.

(3) المصدر السابق، ص: 115.




عالمنا الإسلامي ومشكلة الوعي

نعاني اليوم في عالمنا الإسلامي من مشكلة غياب الوعي الشامل والمتكامل، ولهذا أسباب عديدة، ولعل أبرز ما تتجلّى فيه هو انحسار طموحات الإنسان المسلم -بشكل قسريٍّ وجبريٍّ- من الوصول لأعلى المراتب الفكرية أو العلمية إلى السعي الدائم المضني لضمان لقمة العيش وإيجاد مكان آمن يسكن فيه ربما لن يتحقّق إلا بشق الأنفس وبعد أعمار مديدة.

من جملة ما يبرز فيه غياب الوعي المتكامل أن عموم نخبنا ومجتمعاتنا بعيدة عن الفعل المؤثر على المستوى العالمي بل أصبحنا نمثل المثال الأفضل للمجتمع المستهلك الجامد المنتمي للعالم الثالث وأصبحنا نعيش على هامش الحياة.

بحثًا عن المفهوم

ما نحتاجه اليوم هو إيقاظ مفهوم الوعي بيننا ولكن لنا أن نتساءل أولًا ما هو الوعي؟

في تفسير الوعي في لسان العرب نرى الآتي: “الوعي: حفظ القلب الشيء. وَعَى الشيء والحديث يعيه وعيًا وأوعاه: حفظه وفهمه وقبله، فهو واعٍ، وفلان أوعى من فلان أي أحفظ وأفهم. وفي الحديث: نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فرب مبلغ أوعى من سامع. قال الأزهري: الواعي الحافظ الكيِّس الفقيه. وفي حديث أبي أمامة: لا يعذب الله قلبًا وعى القرآن؛ قال ابن الأثير: أي عَقَلَه إيمانًا به وعملًا، فأما من حفظ ألفاظه وضيع حدوده فإنه غير واعٍ له”(1).

ينبئنا هذا النص عن المقصود بالوعي، وهو في مقامنا هذا الفهم، وبالأخصّ فهم الواقع، أيْ الفهم لما يدور حولنا ومتابعة الأحداث وتحليلها، وهو أيضا فهم دورنا في الحياة والقيام به، ومن نواقض الوعي أن ننغلق على أنفسنا ولا نهتمّ بما يَحصل داخل مجتمعاتنا أو خارجها ولا نُبالي بالتغيّرات المتسارعة التي يعيشها عالمنا اليوم وأن نكون سلبيين في تفاعلاتنا مع من حولنا، فغياب الوعي من مجتمعاتنا لم يأتِ صدفة بل له أسباب مهَّدت لذلك وأدّت إلى تغييبنا عن الحياة.

أسباب غياب الوعي

   إن الحكومات المستبدّة والظالمة لحقوق شعوبها والتي لا تراعي إلا مصلحتها وتسعى للخضوع والخنوع لأعداء الأمة والتطبيع معهم سيكون من مصلحتها تغييب الوعي داخل المجتمع حتمًا، فتجعل الفرد تحت تهديد غلاء المعيشة والسعي المضني وراء لقمة العيش وتفتح له أبواب الشهوات حتى ينغمس فيها.

ومن يسعى منهم لتتبع الأحداث وفهم واقعه وتوعية من حوله بما يحصل من مفاسد واضطهاد وخيانة للقضايا الكبرى فسيكون مصيره التشويه واتهامه بالإرهاب وفي مرحلة أخرى يتم سجنه حتى يصمت صوت الوعي الذي ينادي به بين الناس، لأنه إذا انتشر الوعي وأصبحت العامة تتابع تحركات من يحكمه وقراراته وسياساته الداخلية والخارجية فإنها سوف تتكوّن قوة شعبية تتحرّك بقوة لنقد السلطة وتصحيح مسارها ومحاسبتها ومنعها من تنفيذ مخططاتها واتفاقياتها المهدرة لثروات الشعوب مع القوى الغربية.

 وخير مثال على ذلك عندما أرادت السلطة في السعودية تغيير مناهج التعليم وتمييعها من المبادئ الإسلامية مع تغيير نمط الحياة إلى الحداثة كان في البداية هنالك دعاة ومُصلحين يحاولون نشر الوعي بين الناس وتنبِيههم بخطورة ما يحدث وعدم الانخراط في تيّار الحداثة فكانت النتيجة إسكات صوت الوعي وسجن هؤلاء الدعاة والمصلحين والتضييق على من يتبنّى فكرهم وصوتهم!

ومن الأسباب أيضًا المباشرة في غياب الوعي هي الإعلام، الذي دوره الأصلي يكون بإيصال الحقائق للناس بكل أمانة ونقل لهم ما يحدث في واقع الحياة بلا محاباة لجهة معينة حتى يفهم الجميع ما يحصل داخل مجتمعه أو خارجه ومن ثمّ يتخذ موقفًا واضحًا يصدع به، ولكن في مجتمعاتنا أصبح الإعلام يشغل العامة بالتفاهة ويقحمهم في جدالات جانبيّة تبعدهم عن المشاكل الكبرى التي يعانون منها وكذلك يقوم بإعادة بناء العقول وفق السياسة المرجوّة من السلطة الحاكمة.

ولا ننسى أيضًا دوره في قلب الحقائق وتزييفها وأضف إلى ذلك دوره في نشر الرذيلة والتعرّي بين الناس تحت غطاء المسلسلات والأفلام والبرامج الترفيهيّة، وبالتالي ستكون النتيجة بناء أجيال غير واعية ومغيبة عن واقعها، فعلى سبيل المثال عندما حصل الانقلاب العسكري في مصر تم تصوير المعارضين له بأنهم مجموعة من المجرمين الإرهابيين الذين يقتلون من يواجههم ومن ثم قامت القوات العسكرية بناء على ذلك بنيل ثقة بقية الشعب وتحوّل الأمر إلى مذبحة وتنكيلٍ بالمتظاهرين الأبرياء ولكن بعد برهة من الزمن انكشفت الحقيقة بما تم توثيقه من شهادات وفيديوهات نشرت على الانترنت تثبت العكس ولكن حصل ذلك بعد فوات الأوان!

   إنه عندما يغيب الوعي عن الشعوب فإنها ستفقد قوّتها في التّغيير والإصلاح وفي التعبير عن رأيها بكلّ حرية وستصبح خاضعة ومنقادة لا إرادية لما تُمليه عليها السياسات الداخلية والخارجية.

بناء الوعي

   إن اللبنة الأولى في صناعة الوعي هي النظر في الهزائم التي حلت بنا في كل الميادين وأن نبحث عن أسبابها الرئيسية وكيفية النهوض من جديد، فنحن اليوم بعد أن كنا الحضارة الأولى في العالم أصبحنا تبعا لقوم لا يتبعون إلا أهواءهم.

ولنا أن نتساءل لماذا حصل ذلك؟ وكيف وصلنا إلى هنا؟!

ولو بحثنا بصدق وبفهم لتتابع الأحداث لوجدنا أن السبب الرئيسي لهذا الانحطاط الذي نعيشه هو اتساع الفجوة بيننا وبين ديننا الذي لم يعد هو دستور حياتنا وبوصلتنا المرشدة للحق!

إننا بحاجة لبناء الوعي بدورنا في الحياة أوّلا ولا يُمكن تحديده إلاّ بالعودة لتكاليف الرسالة التي شرفنا الله بها، حيث يقول لنا الله عز وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُون} [آل عمران: 104]، فتحديد الخير الذي يجب أن ندعوا إليه لا يكون إلا بالعودة لشريعة الإسلام وتطبيقها في واقعنا ومن ثم يمكننا القيام بهذا الدور بأن نكون حرَّاسًا لكل خير وأن نأمر بكل معروف في مختلف المجالات وأن ننهى عن المنكر سوى داخل مجتمعاتنا أو خارجها فأين نحن اليوم من رسالة الإسلام؟! فليعرض كل فرد منّا نفسه على مبادئ ديننا وقيمه ولينظر مكانه منها وليسأل نفسه ما هو مدى التزامه بها وما هو مدى تطبيقه لها في حياته اليومية وفي عمله وداخل أسرته وفي تعاملاته؟!

   وتعليقًا على هذه الآية يقول الشيخ محمد الغزالي: “إن عمل الخير والدعوة إلى الخير سمات الأمة الظاهرة، وملكاتها الباطنة، ووظيفتها الدائمة، وشهرتها التي تملأ الأفاق و إجابتها عندما تسأل عن منهجها وغاياتها…الذي يبدو لي أن المسلمين شعوبا وحكومات هبطوا دون المستوى المنشود بل هبطوا دون مستوى غيرهم ممن لم يشرفهم وحي و يكلفوا بحمل الرسالة!!…فنحن المسلمين الآن في العالم الثالث على حين أمسك بزمام الحضارة من ينكرون الألوهية أو من يتخيلونها “عائلة مقدسة”(2)، فالخطوة الأولى في صناعة الوعي بأن نوقظ في نفوسنا حقيقة أننا أصحاب رسالة وجب الالتزام بها وأن نكون خير قدوة لمختلف الأمم وأن نمسك بزمام العالم في مختلف المجالات وبأن نقوده للحق والعدل والنجاة وأن نبين الحقائق.

وعندما يتحقّق هذا الوعي فإننا سنصبح بطريقة آلية واعين جميعا بقضايا الأمة الكبرى ولعل من أبرزها المسجد الأقصى وتحريره من اليهود الغاصبين وسنصبح واعين بضرورة إنشاء اقتصاد إسلامي موحد يضمن لنا الاستقلالية وأن نتمتع نحن بثرواتنا الباطنية وسنصبح واعيين بقيمة العلم وضرورة تطوير التعليم لنكون رائدين في مجال الصناعات والاكتشافات، فالوعي برسالة الإسلام هو المفتاح لكل شئ!

ولكن هل ينتهي الأمر هنا بأن نعي دورنا في الحياة؟! لا بل يجب أن يُنتج هذا الوعي حركة ملموسة وتغيير عملي في أرض الواقع وأن نبدأ بأنفسنا في مرحلة التغيير وأن ننشر هذا الوعي في من حولنا فيتحول وعينا إلى ثورة فكرية وعمليّا نستطيع بها تغيير وجهتنا والعودة لحضارة الإسلام من جديد، ومن ثمّ علينا أيضًا من باب الوعي أن نواصل المُراقبة والمُتابعة ونحن في طريقنا للعودة لمستوى الرسالة التي كلفنا الله بها فيجب أن تُبنى لدينا ميزة النقد الذاتي حتي نتدارك عثراتنا وهفواتنا ونُراجع أنفسنا في ما نفعله وهل يتوافق مع ما يجب أن نكون عليه كأفراد أو كمجتمع مسلم وإلا فإنّنا سنظلّ الطريق وقد نقع في الغرور والجمود والفوضى من جديد على أن تبقي مرجعيّتنا الأولى في النقد والمراجعة هي شريعتنا.


الإحالات:

(1): لسان العرب لابن منظور، حرف الواو، وعي، ص 246، جزء 15.

(32): كتاب الطريق من هنا لمحمد الغزالي، دار القلم للنشر، الطبعة الخامسة 2019، ص76 -78 .




المسلمون والتغيرات العالمية

يَشهد عالمنا اليوم تغيرات كُبرى مُتسارعة على المُستوى الدولي، ومؤخرًا الصراع العسكري الذي نُتابعه جميعًا بين روسيا وأوكرانيا، وكذلك نُلاحظ صراعات أخرى حول مصادر الطاقة وتأمينها، واللجوء لجريمة التطبيع مع الكيان الصهيوني من أجل ذلك كما فعلت مؤخرا عدة دول بهدف الوصول لاتفاق حول حقول الغاز في المُتوسط. ونحن المُسلمين يجب علينا التوقف على هذه الأحداث الكُبرى وتحليلها برؤية عميقة حتى نتعرف على المخاطر المُستقبلية والتحديات التي سوف نواجهها، ومن أجل ذلك وجب علينا العودة لعلم الجيوبولتيك الذي يُبرز لنا الدوافع والغايات وراء ما يَحدُث اليوم.

 والتعريف المُبسط لهذا العلم هو التحديد الجغرافي والمدى المكاني للدول والحضارات فبه يتم وضع الاستراتيجيات من قِبَل السلطة للتوسع الجغرافي للأمم وبسط نفوذها السياسية. وقد بين لنا أُسس هذا العلم الألماني فريدريك راتسيل المُلقب ب”أب الجيوبولتيك” فقال:” تتشكل الدولة مثل كائن حي مرتبط بجزء مُحدد من سطح الأرض وتتطور سماتها طبقا لسمات الشعب والتربة. أما السمات الأهم فهي الأبعاد ومكان التوضع والحدود”(1)، فنظرية راتسيل قائمة على أن الدولة كائن حي وتوسعها الجغرافي عملية طبيعة شبيهة بنمو الكائنات الحية. وما يحدث اليوم من صراعات إقليمية هو امتداد لهذه النظرية وما حرب روسيا وأوكرانيا إلا تجسيدًا لها وإيقاظ لنا من سُباتنا وجمودنا المُتواصل.

حُلم الإمبراطورية العالمية

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب العالمية الثانية قامت الولايات المُتحدة الأمريكية بتأسيس حلف أطلسي جديد بالشراكة مع أوروبا الغربية مُكونًا الغرب الأطلسي، يهدف لبسط نفوذه والتوسع وضمان المصالح المُشتركة، ومن أجل نجاح هذا الحلف واستمراره كان لابد من ضمان عدم وجود قوات استراتيجية تُهدد مصالحه وبالتالي وجب اتخاذ بعض الخطوات حماية له حيث يقول هنتينغتون، مدير معهد جون أولين للدراسات الاستراتيجية لجامعة هارفارد: “على الغرب ضمان قيام التعاون الأكثر اتثاقًا وتوحدًا في إطار الحضارة الذاتية وبخاصة بين جزئيها الأوروبي والأمريكي الشمالي، أن تتكامل في الحضارة الغربية تلك المُجتمعات القائمة في أوروبا الشرقية و في أمريكا اللاتينية، والتي تتقارب ثقافتها مع الثقافة الغربية […] الحد من التطور العسكري للدول الكونفوشيوسية والإسلامية، وقف انكماش القوة الحربية الغربية وضمان التفوق العسكري في الشرق الأقصى وفي جنوب غرب آسيا، استغلال المصاعب والنزعات في العلاقات المتبادلة بين الدول الإسلامية والكونفوشيوسية، ودعم المؤسسات العالمية التي تعكس المصالح الغربية وتُضفي عليها الشرعية وتحقيق اجتذاب الدول غير غربية إلى هذه المؤسسات”(2).

خريطة تقسيم العالم بعد الحرب العالمية الثانية

خريطة تقسيم العالم بعد الحرب العالمية الثانية

وما حدث مؤخرًا من محاولة ضم أوكرانيا المنتمية لأروبا الشرقية للحلف الأطلسي الغربي الأمريكي ليس إلا امتدادًا للعمل بهذه الاستراتيجية، للتوسع والسلطة والحد من الخطر الروسي المُهدد لمصالحهم وما كانت هذه الحرب إلا ردة فعل قامت بها روسيا أيضًا حماية لأهدافها الجيوبولتيكية وتحقيقًا لها.

فهدف الولايات المُتحدة والغرب هو إقامة حكومة عالمية يقومون هم بإدارتها ويُخضعون باقي المُجتمعات للقيم العالمية التي يرونها هم حسب نظرتهم هي الأنسب حيث يقول  المحلل الاستراتيجي ألكسندر دوغين: “إن الخط الأساسي لكافة مُخططات العولمة يتمثل في الانتقال إلى النظام العولمي الواحد تحت السيطرة الاستراتيجية الغربية والقيم (التقدمية والإنسانية والديموقراطية)”(3)، وفي المُقابل نجد روسيا التي تهدف بدورها بإعادة بناء امبراطورية عالمية خليفة للاتحاد السوفييتي سابقًا ذات خصائص ثقافية مُختلفة ومُحاولة تعميمها، وتأكيدًا على هذا يقول دوغين:”فروسيا شيء ثالث مُستقل وخاص لا هي الشرق ولا هي الغرب، وعلى هذا فإن المصلحة العُليا لروسيا تتمثل في الحفاظ بأي ثمن على فرادتها، الدفاع عن خصوصيتها أمام تحدي الغرب وتقاليد الشرق، وأحد المطالب الجيوبولتيكية الأكثر إلحاحا لروسيا هو تجميع الإمبراطورية، فإذا ما اختارت روسيا طريقا آخر غير طريق تجميع الإمبراطورية فإن دولاً أخرى أو تحالفات دول ستتبنى رسالة الHeartland القارية. وفي هذه الحالة تغدو الآماد الروسية هدفًا استراتيجيا أساسيا لتلك القوى، فإما أن تقوم الصين بقفزة يائسة باتجاه الشمال نحو كازاخستان وسيبيريا الشرقية، أو تتحرك أروبا الوسطى باتجاه الأراضي الروسية الغربية نحو أوكرانيا وبيلاروسيا وروسيا الكُبرى الغربية، أو يقوم المعسكر الإسلامي بمحاولة التكامل مع آسيا الوُسطى، منطقة الفولجا والأورال بالإضافة إلى مناطق روسيا الجنوبية.”(4)، فما تقوم به روسيا اليوم في حربها على أوكرانيا لا يعدو أن يكون امتدادًا لهذا الحُلم وما قامت به في سوريا أيضًا ينتمي لهذا الهدف حيث تسعى روسيا للسيطرة على الدول ذات الشريط الساحلي الاستراتيجي وسوريا ساحلها يطل على المتوسط المُتنازع عليه والغني بالغاز ولم تضيع روسيا الفُرصة لتخوض هذه الحرب كما فعل الاتحاد السوفياتي في حربه مع أفغانستان سابقًا.

فالعامل المُشترك بين الغرب وأمريكا وروسيا هو بناء حكومة عالمية مُوسعة وتحقيق السيطرة العالمية كل يُحاول من خلالها بسط سُلطته ونشر ثقافته وقيمه التي يراها الأنسب في نظره، ومن هذا المُنطلق نُشاهد هذه الحروب والصراعات المُتتالية في عالمنا.

حُلم الدولة اليهودية الكُبرى

تُعتبر دولة الكيان الصهيوني في بدايتها امتدادًا للاستعمار الغربي الذي أراد الحفاظ على مصالحه من خلال توطين اليهود في الشرق عندما اختارت الحركة الصهيونية بقيادة تيودور هرتزل فلسطين كموطن لها فقامت برعايتها بريطانيا وفرنسا ومن ثم أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي الداعم الرسمي لها بهدف أيضا الدفاع عن المصالح الأمريكية في الشرق وتواصلا لامتداد النفوذ الأمريكي والسيطرة العالمية لها. ولكن كان حلم الحركة الصهيونية أكبر من ذلك فهي لن تكتفي فقط باحتلال فلسطين والاستيطان فيها بل هدفها هو إنشاء دولة يهودية كبرى تمتد من نهر مصر إلى الفرات قادرة على احتواء مختلف اليهود في العالم بل منهم من يضع حدود لا نهائية لدولتهم الكبرى على حسب هجرة اليهود في العالم إليها وتأكيدًا على هذا المعنى يقول الحاخام فيشمان عضو الوكالة اليهودية: “الأرض الموعودة تمتد من نهر النيل حتى الفرات، وتشمل أجزاء من سوريا ولبنان”(5)، ومن أجل الوصول إلى الحلم اليهودي فلا بد لدولة الكيان الصهيوني من تفتيت الشرق الأوسط وإضعافه في مختلف الميادين وإخضاعه لها وما موجة التطبيع إلا جزء من هذه الاستراتيجية، فما تقوم به دولة الاحتلال من قصف عسكري في سوريا وتدخلاتها في سيناء تحت مسمى صفقة القرن وفي العراق ما هو إلا مرحلة من مراحل إقامة إسرائيل الكبرى بل هنالك من يرى أن ما تقوم به السعودية اليوم في الشمال الغربي تحت تسمية مشروع نيوم، الذي يتوافق مع حدود دولة الاحتلال الكبرى كما تشير إليه الخريطة، عن طريق إخلاء المنطقة وتهيئتها هو مواصلة للهيمنة اليهودية وتحضير هذه الأرض لها، ولا ننسى أيضا البحث عن مصادر الطاقة وتقوية دولة الاحتلال اقتصاديا في المتوسط من خلال الاتفاق مع تركيا والتحكم في توريد الغاز لبسط نفوذها أكثر في العالم.

خريطة دولة اليهود الكبرى أصدرتها منظمة (Young Judaea) في نيويورك عام 1917

إن هدف دولة الاحتلال التوسع والسيطرة في الشرق الأوسط عن طريق تفتيت الدول العربية وتقسيمها وبسط النفوذ داخلها، وفي ظل هذه التغيرات العالمية من الحرب الروسية الأكرانية والحلم ببناء امبراطورية عالمية روسية وغربية وأمريكية، والحلم اليهودي بإنشاء دولة كبرى، فلنا أن نتساءل أين نحن المسلمون من هذا كله وما هو موقفنا منه؟!

المسلمون.. إلى أين؟

في ظل هذه الصراعات العالمية، مازلنا نحن كمُسلمين نعيش في التبعية من مؤيد للغرب أو لروسيا أو لأمريكا، ومنا من يلتزم بخيار الهروب والحياد السلبي ويكون فقط مُشاهدًا كأن الأمر لايعنيه، بدون أن تكون لنا نظرة عميقة لما يحدث، فكل الأطراف تسعى لفرض السيطرة العالمية وجعل قيمهم وثقافتهم هي السائدة وباقي العالم في نظرهم هو عدو  وجب إخضاعه لأنظمتهم وفكرهم وجعله تبعًا لهم، فليس من الغريب اليوم أن نرى مُرتزقة من سوريا وجيش الشيشان يُحاربون في أوكرانيا إلى جانب روسيا، وليس من الغريب اليوم أن نرى انتشار الرذائل من زنا المحارم والشذوذ والربا والفساد في العالم باعتبارها -وفق نظرتهم- هي القيم الأنسب للعالم في ظل طموحاتهم التوسعية.

الروس يؤمنون بتفوقهم العرقي وفرادتهم وتميزهم الثقافي الذي يُخول لهم أن يحكموا العالم، والغرب وأمريكا يؤمنون بسيادة الرجل الأبيض وحقه في السلطة العليا وباقي البشر عبيد لهم، والصهاينة يؤمنون بأن اليهود هم شعب الله المُختار والأجدر بالسلطة العالمية وباقي الأمم خدم لهم! فما بالك أنت أيها المُسلم يعتبرونك عقبة في طريقهم يجب إزاحته، ما زلت تخجل من دينك وقيمك وتُظهر الضعف في التمسك به وتطبيقه وتشعر بالنقص بانتمائك لهذه الأمة المُسلمة والعربية؟! فإلى متى سوف تبقى في الذل ترضي بالعبودية والتبعية لمن يكيدون لنا وتخضع لهم؟! ألم يأن لك وأنت في شهر القرآن أن تستعيد عزك ومجدك وقوتك المُرتبطين بمدى التزامك بشريعة الإسلام وتطبيقها؟! فمن الأجدر اليوم بالسيادة العالمية هل الذين يتبعون أهوائهم وشياطينهم من الجن والإنس فيظلمون البشرية من أجل مصالحهم وينشرون الفساد أم الذين يملكون شريعة ربانية لا تُحابي أحد ولا تخدم مصلحة فئة على حساب الأخرى بل هدفها نشر العدل والمساواة ونشر دين الله في الأرض الذي فيه الخير الكثير للبشرية جمعاء؟!

فهم يُبيحون اليوم قانون التوسع الجغرافي للدول وحقها في السيادة العالمية وفق علم الجيوبولتيكا، وفي المُقابل غرسوا فينا على امتداد سنوات عدة فكرة الخوف من الجهاد والشريعة وجعلونا نشعر بالخزي منها حتي أصبحنا ننكر تطبيقها العملي في مُختلف ميادين الحياة وكل من دعا لها أصبح مُتهمًا بالإرهاب والتحريض عليه والانتماء إلى جماعات مُتطرفة التي هي في حقيقة الأمر أبعدُ ما تكون عن رسالة الإسلام ومبادئه بل أغلبيتها لا تخدم إلا مصالح القوى العُظمى ولا تُساهم إلا في تدمير أوطاننا، ونحن نُقبل في شهر رمضان على القرآن الكريم فإننا سنقرأ حتْمًا قوله تعالى: {الذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشيْطَانِ إِن كَيْدَ الشيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76.]، وسنقرأ أيضًا قوله تعالى: {فَقَٰاتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللهِ لَا تُكَلفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَسَى ٱللهُ أَن يَكُف بَأْسَ ٱلذِينَ كَفَرُواْ ۚوَٱللهُ أَشَد بَأْسًا وَأَشَد تَنكِيلً} [النساء: 84.]، وسنقرأ أيضًا: {يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍۢ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَد عَن سَبِيلِ ٱللهِ وَكُفْرٌۢ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتىٰ يَرُدوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطَٰعُواْ} [البقرة: 217]، والآيات في هذا السياق كثيرة وفيها دعوة للجهاد والقتال ونُصرة للحق في ظل ما نعيشه اليوم من صراعات هدفها طمس الآخر واستعباده، فليس لنا بعد اليوم أن نبحث عن مُبررات لهذه الآيات كأنها تُهمة لنا، فالخطر مُحدق بنا وهم يعلمون جيدًا أن قوة العالم الإسلامي في تمسكه بدينه ولن يُخضعونا لهم إلا بإبعادنا عن تعاليمه، فبالعودة إلى الجهاد كما أمرنا به الله في كتابه سنُحافظ على كِياننا  وسنسترد فلسطين المُحتلة وسنُدافع عن إخواننا المُسلمين المُضطهدين في كل مكان وسنُحارب الفساد والفُسوق والفُجور وسننشر مكانه قيم العدل والطهر والعفاف وسنُعيد للإنسان فطرته السليمة النقية التي شوهتها المذاهب المادية، فهم يؤمنون بالحروب والإبادة وسفك دماء الأبرياء بغير حق من أجل فرض سيطرتهم العالمية وتوسعهم الجُغرافي ونحن نؤمن بالجهاد العادل كما شرعه الله من أجل إعادة بناء حضارة قائمة على شريعة الإسلام يستعيد بها الإنسان إنسانيته ويعرف غايته من الوجود.

ولكننا لن نصل إلى ذلك إلا إذا بدأنا أولاً بإصلاح أنفُسنا وعرضها على القرآن وأن تكون منه نقطة البداية للتغيير.. وأن نؤسس عليه رؤية مُستقبلية جديدة، فإذا عاد أفراد المُجتمع إلى دينهم وبدأوا بتطبيقه في أنفسهم وداخل أُسرهم والتزموا به فإنهم لن يرضوا بحكمٍ مُستبد ظالم وراثي، ولن يرضوا بالذل والضعف والجهل والجمود، بل سيكون أكبر همهم الإصلاح والبناء والعلم والصناعة والاستقلال الاقتصادي والسياسي والتقدم والريادة في مُختلف المجالات ونشر الحق بين الناس، فنقطة البداية في الحفاظ على وجودنا في ظل هذه الصراعات العالمية وفي تحقيق وظيفة الإنسان الأولى الخلافة في الأرض ونشر رسالة الإسلام للبشرية جمعاء تكون بالعودة إلى شريعة الإسلام وأخذها عن علم ووعي من منابعها الصافية.

الهوامش:

(1):كتاب أسس الجيوبولتيك مستقبل روسيا الجيوبولتيكي لألكسندر دوغين، ترجمة الدكتور عماد حاتم، دار الكتاب الجديد المتحدة، سنة 2004، ص 77.

(2): نفس المصدر السابق، ص161.

(3): نفس المصدر السابق، ص 166.

(4): نفس المصدر السابق، ص 207- 212 – 214.

(5): كتاب الأيديولوجية الصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري ، سلسلة عالم المعرفة، ديسمبر 1982، ص137.




رمضان فرصة لتجديد العهد مع القرآن

تمتلئ الحياة بالتقلبات والتغيرات، وفي بعض الأحيان ينغمس الفرد منا في معتركها وتملأ وقته حتى يغفل عن بعض التزاماته الدينية، ويبدأ بالشعور بالبعد رويدا رويدا عن ربه وعن مناجاته حتى يعتاد قلبه على ذلك، ومن ثم تصبح هنالك فجوة بين الإنسان المسلم وتعاليم دينه، فيترك ذكر الله وورده القرآني وتدبّر معانيه من أجل العمل به، ويغفل عن إقامة صلاته والحفاظ على أركانها والخشوع فيها، ويهجر مجالس الذكر، وكل ذلك بعلة الانشغال بمسؤوليات الحياة من عمل وحياة زوجية وأسرية، مما يؤدى إلى ضعف الصلة بيننا وبين ديننا، وبالتالي ينعكس ذلك سلبا على حياتنا اليومية بطول الزمن واعتيادنا على هذا النسق من الحياة، فتصبح تعاملاتنا وأقوالنا وأفعالنا وتفكيرنا بعيدة كل البعد عن منهج الله ومخالفة له.

ولعل من الحكمة التي شرعها الله لنا بجعل مواسم طاعات متفرقة في كل عام لإيقاظ القلوب من غفلتها ونفض الغبار عن نفوسنا وبعث روح الإيمان فيها من جديد وتجديد العهد في علاقتنا مع ربّنا ومع ديننا ومع سنة رسولنا صلوات الله عليه وسلامه ويظهر ذلك في الحديث النبوي الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِرَبِّكُمْ عزَّ وجلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا) [أخرجه الطبراني في الأوسط، وهو ضعيف]

رمضان موسم الطاعات

ها نحن اليوم في أيام شهر كريم نادى الله فيه عباده المؤمنين قائلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فهنا يُذكّرنا الله عز وجل بأنّ الصيام عبادة كتبها علينا وعلى من قبلنا من الأمم وفي هذا إشارة لانتماء البشرية إلى ركب عظيم من الأنبياء والرسل ومن تبعهم من الصالحين والمصلحين وما نحن إلا وارثين لمشعل الإيمان مطالَبين بإقامته في واقع الحياة والدفاع عنه ضد كل من يسعى لإخماد نوره، فعلى المسلم أن يعتز بتاريخه وبدينه ويستعظم هذا الانتماء وأن يكون خير خلف لخير سلف، إذ إنه من المخجل أن نكون من أتباع هذا الركب العظيم من أفضل خلق الله ومن أتباع خاتم النبيين محمد صلى الله عليه و سلم وصحابته الكرام وأن يكون واقعنا متسمًا بالجمود والتخلف والضعف والفوضى في كل ميادين الحياة!

ومن المحزن أن نجد مسلمين يشعرون بالخجل بسبب انتمائهم الديني وفي المقابل يتمنون أن يكونوا من أبناء الحضارة الغربية متناسين تاريخ هذه الحضارة المُتّسم بالإبادة والاستعمار والعنصرية والظلم الذي يمارسونه إلى اليوم ضد الأقليات المسلمة داخل أوطانهم أو خارجها، بل هؤلاء يُبيحون الفواحش ويَتفنّنون فيها، مُشوّهين بذلك الفطرة الإنسانية، فيُبيحون الزنا ويَعتبرُونه علاقة حب، ويُبيحون المثلية ويعتبرونها حرية شخصية وفطرة إنسانيّة، ويُبيحون الربا ويعتبرونه ربحًا اقتصاديًّا، ولا يرون حرجًا في قتل الأبرياء واغتصاب الأراضي ونهب الخيرات من أجل مصالحهم العليا وبقاء هيمنتهم! فأيّ الفريقين أحق بالخجل من تاريخه وانتمائه؟!

وفي المقابل نجد في تاريخنا رسلًا وأنبياء وأتباعهم المصلحين واجهوا الظالمين والمستبدين من أجل إعلاء كلمة الحق ونشر العدل والمساواة في الأرض وجاهدوا في سبيل ذلك بأموالهم وأنفسهم وأفنوا حياتهم في محاربة الجهل والخرافات والفسق والفجور من أجل إقامة قِيَم العلم والطُّهر والحياء مكانها! فيا ليتنا كمسلمين نعي هذه الحقيقة و لا ننخدع بالثقافة الغربية المُزيّنة اليوم بغطاء التقدّم العلمي والتّكنولوجيا ورفاهية الحياة.

حقيقة التقوى

في هذه الآية أيضا تذكير للمؤمنين بغاية الصيام المتمثلة في التقوى، فقد قال رجلٌ لأبي هريرة رضي الله عنه: (ما التقوى؟ فقال: أما سلكت طريقًا فيه شوك؟ قال: نعم، قال: ما فعلت؟ قال الرجل: إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه، فقال أبو هريرة: ذاك التقوى) [أخرجه البيهقي في الزهد الكبير]، فما بال الناس والحكّام، وأين هم من حقيقة التقوى اليوم، بل أين هم من دينهم؟! وأين العلماء الربانيين الذين يصدعون بالحق ويعظونهم ويذكرونهم وينهونهم ويأمرونهم بالمعروف بلا مداهنة أو ملامسة لإرضائهم؟! بل أين المسلم الصادق الذي لا يرضى بجور الحاكم وميله عن الحق وترك تعاليم الدين وعدم الحكم بشرعه فيرفضه ولا يكتفى بالصمت والخضوع له ويرفض العيش تحت طائلة الجبن والخوف؟!

فالتقوى بكل بساطة كما بيّنها أبو هريرة هي جبل النفس على ترك المحرمات والمعاصي مع الإقبال على الطاعات والعبادات، فمن التّقوى تحقيق العدل والمساواة والدّفاع عن المظلومين، ومن التّقوى حماية المُقدّسات الإسلاميّة والجهاد في سبيل الله ورفض مُداهنة أعداء الأمّة والتّطبيع معهم، ومن التّقوى الأكل الحلال وإتقان العمل الذّي أوكِل إلينا، ومن التّقوى أداء الأمانات سواء كانت أمانة الدّين أو الحُكم أو العلم، ومن التّقوى الحفاظ على الآداب الإسلاميّة سواء كان ذلك من النّاحية الأخلاقيّة كالحياء والصّدق والشجاعة والكرم والعفّة أو من النّاحية الظاهريّة كستر العورات ولبس الحجاب بشروطه الكاملة، ومن التّقوى تربية الأبناء والإحسان للزوجة وبناء أسرة تقوم على الإسلام وقيمه، فالتّقوى هي فعل كلّ أمر يُحبّه الله ورسوله والمُسابقة في القيام به مع ترك كلّ أمر يبغضه الله ورسوله، ولنسأل أنفسنا في كلّ عمل نقوم به هل اتّقينا الله فيه أم لا؟!

  ونحن اليوم مع انتشار الفتن في كل مكان حتى داخل بيوتنا عن طريق وسائل التواصل الإجتماعي والتلفاز نحتاج في هذا الشهر الكريم إلى تجديد العهد مع كلام ربّنا حتّي نُحيي نُفوسنا من جديد فهو المنبع الصّافي الذّي به تُعالج الضّمائر وتستقيم على منهج الصّلاح والفلاح.

تجديد العهد مع القرآن

يتميز شهر رمضان بنزول القرآن فيه حيث يقول لنا الله عز وجل : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، فطريق الهداية ومعرفة الحق والتفريق بينه وبين الباطل يكون بالرجوع إلى كتاب الله، فهو منهج الحياة وهو العدل المطلَق الذي لا جور ولا ظلم فيه وهو الأساس الذي يجب أن تبنى بها حياتنا ومجتمعاتنا، فعندما ابتعدنا عن كلام ربنا وتركنا العمل به وانشغلنا بغيره فقدنا البوصلة الحقيقة المرشدة لطريق النجاح والفلاح والتحضر، وأصبحنا نتخبّط في مسالك الجاهلية ونتحاكم إلى أهوائنا، ولم تعد مبادئ القرآن هي التي نحتكم إليها سوى في حياتنا اليومية أو في قوانينا التي تنظم مجتمعاتنا المسلمة، ويا لها اليوم من فرصة بأن نتفرغ في هذا الشهر الكريم لكلام ربنا ونجدّد العهد معه، وأن نعرض أنفسنا عليه ونتلقّاه كأنه نزل لتوهّ يخاطبنا به ربنا، حتى نقوم اعوجاج أنفسنا ونتدبر آياته ونغوص في مفاهيمه، لعلنا نقتبس من نوره وهداه، ونخرج من هذا الشهر بهيئة نفسية مؤمنة جديدة، ونغير من حياتنا ونقيمها وفق القرآن ومنهجه وشريعته لا وفق الميولات والشهوات.

ومن أشد انحرافات الأنفس تعلق القلب بالشهوات أو بالسلطة أو بالمال أو بحب الدنيا وتعظيم مظاهرها الزائفة ولن يطهر نفوسنا من هذه الآفات إلا القرآن الكريم الذي هو شفاء ورحمة لنا مصداقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وتعليقًا على هذه الآية يقول الإمام بن عاشور [في تفسيره]: “أومأ وصف القرآن بالشفاء إلى تمثيل حال النفوس بالنسبة إلى القرآن، وإلى ما جاء به بحال المعتل السقيم الذي تغير نظام مزاجه عن حالة الاستقامة فأصبح مضطرب الأحوال خائر القوى فهو يترقب الطبيب الذي يدبر له بالشفاء، ولا بد للطبيب من موعظة للمريض يحذره بها مما هو سبب نشء علته ودوامها، ثم ينعت له الدواء الذي به شفاؤه من العلة، ثم يصف له النظام الذي ينبغي له سلوكه لتدوم له الصحة والسلامة ولا ينتكس له المرض، فإن هو انتصح بنصائح الطبيب أصبح معافىً سليمًا، وحيي حياة طيبة لا يعتوره ألم ولا يشتكي وَصَبًا، وقد كان هذا التمثيل لكماله قابلا لتفريق تشبيه أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها، فزواجر القرآن ومواعظه يشبه بنصح الطبيب على وجه المكنية، وإبطاله العقائد الضالة يشبه بنعت الدواء للشفاء من المضار على وجه التصريحية، وتعاليمه الدينية وآدابه تشبه بقواعد حفظ الصحة على وجه المكنية، وعبر عنها بالهدى، ورحمته للعالمين تشبه بالعيش في سلامة على وجه المكنية. ومعلوم أن ألفاظ المكنية يصح أن تكون مستعملة في حقائق معانيها كما هنا، ويصح أن تجعل تخييلا كأظفار المنية، ثم إن ذلك يتضمن تشبيه شأن باعث القرآن بالطبيب العليم بالأدواء وأدويتها، ويقوم من ذلك تشبيه هيئة تلقي الناس للقرآن وانتفاعهم به ومعالجة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بتكرير النصح والإرشاد بهيئة المرضى بين يدي الطبيب وهو يصف لهم ما فيه برؤهم وصلاح أمزجتهم فمنهم القابل المنتفع ومنهم المتعاصي الممتنع”، فيا ليتنا نكون في هذا الشهر من القابلين المُنتفعين بالقرآن الكريم، وليكن هذ هدفنا!

اغرس القرآن في نفوس أبنائك

وكم نحن بحاجة اليوم في هذا الشهر خاصة بتجديد العهد مع مجالس القرآن في بيوتنا حتى نغرس في نفوسنا أولاً ونفوس أبنائنا وأهلنا ثانيا قيم القرآن، وأن نفتح في ما بيننا حوارات بنّاءة نناقش فيها كيفية العمل بالقرآن في واقعنا وكيفية إصلاح النفس والمجتمع والعودة إلى منهج الله، بدلا من إضاعة أوقاتنا في نقاشات تافهة لا معنى لها أو الانشغال بمواقع التواصل الاجتماعية طوال اليوم، والإقبال على البرامج التلفزية من أفلام ومسلسلات، و يمكننا أيضا فتح باب البحث والتعلم من أجل فهم كلام ربنا بالعودة للتفاسير وأهل العلم الموثوق بهم وتبيين الحقائق وترك الجهل وأخذ الدين عن علم ووعي بحقائقه لا عن طريق الوراثة والجمود، فيا لها من نعمة عظيمة أن ننير بيوتنا بكلام ربنا، وأن نربي أبناءنا على القرآن بدلا من أن نترك المواد الإعلامية هي التي ترسم لهم طريقة حياتهم والانحراف بهم عن الصراط المستقيم وأن نُحصّنهم ونُحصّن أنفسنا من الشبهات وليكن رمضان فرصة لنا بأن نقيم بيوتنا وفق ما يرضي الله ورسوله فهنيئًا لمن اغتنم هذه الفرصة وأقام الدين في أسرته وجعله هو الدستور الذي ينظم حياتهم!

ولن يكون تجديد العهد مع القرآن وتدبره والعمل به بعد هجراننا له بالأمر الهين بل يحتاج منا لبذل الجهد والصبر عليه ومجاهدة النفس به حتى يصبح كلام الله هو المرجع العمليّ لنا في كل شيء في كل جزئيّات حياتنا اليومية وفي المجالات الكبرى من حياة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية ومن حِكَم الصيام أن يُعلّمنا هذه القيم ويُدرّبنا عليها، فلنغتنم هذه الفرصة ولنجعل هدفنا في رمضان هو تجديد العهد مع القرآن.




كيف تمنعنا الأسباب الخارجية من النهوض والتغيير؟

التغيير والنهوض والتحضّر، هي كلمات أصبحنا كثيرًا ما نردّدها، وأصبحت حلم المجتمعات العربية ولكن هنالك عوائق في الطريق لا بدّ لنا من تأمّلها حتى نفهم سبب تأخّرنا وانتكاسنا الحضاري.

قمنا في مقال سابق بوصف الأسباب الداخلية المانعة للنهوض والتغيير والتى تتلخص في قابليتنا للتخلف والجمود وغياب الثقة في النفس والشعور بالعجز واليأس واستسلامنا للواقع ولكن هنالك أيضا أسباب خارجية تمنع مجتمعاتنا من كسر قيود الجهل والتأخر الحضاري، وتتمثل هذه الأسباب في القوى العالمية التي تسعى لحماية مصالحها على حسابنا ومواصلة هيمنتها الحضارية عن طريق إعادة تشكيل ثقافة المجتمع وترسيخ فيه المبادئ التي تتوافق مع نظرتهم للحياة.

إن كثيرًا منا لا يزال يؤمن بأسطورية المؤامرات الخارجية وأنّها حجة نستخدمها للهروب من تحمل المسؤولية وإيجاد الحلول العملية لمشاكلنا الكبرى، والحقيقة أنّ التدخل الخارجي هو حقيقة لا مفر منها وهدفه هدم كلّ مُحاولة للنهوض أو للإصلاح تُغيّر من حالنا وتجعلنا أمة واحدة قوية ومتحضرة من جديد، وخير دليل على ذلك التقرير الذي قدّمته مؤسسة راند الأمريكية سنة 2002 والذي عُرِض على وزارة الدفاع الأمريكية تحت عنوان الاستراتيجية الكبرى للشرق الأوسط، حيث نجد فيه “إن العراق يجب أن يكون المحطة الأولى التي ينبغى أن يحدث فيها التغيير، ومن بعد ذلك تأتي السعودية ومصر وهكذا بالنسبة لبقية البلدان” (1).

إننا نعلم مأساة الوضع الكارثي الذي وصل إليه العراق من صراعات طائفية ومن تأخر وضعف على جميع المستويات وتفتيت للمجتمع، ولا يخفى علينا أيضًا التحول الذي يَشهده المجتمع السعودي بدفعه للانسلاخ من مبادئه والإقبال على الثقافة الغربية وقبول الحفلات الماجنة والتعرّي والاختلاط الفوضوي بدون قيود! ولا ننسى أيضًا ما وصلت إليه مصر اليوم من اضطهاد واستبداد وخضوع للقوى المهيمنة وقبولها للتطبيع المطلق مع الكيان الصهيوني، وكلّ هذا يدخل تحت استراتيجية التغيير في الشرق الأوسط حيث تقوم المراكز الأمريكية والغربية بدراسة مجتمعاتنا والإعداد لكيفية تغيير معالمها والتأثير فيها بينما نحن في غفلة وننفي عنهم فكرة المُؤامرة ونتهجّم على كلّ من يذكر هذه الحقيقة ويُحذّر منها.

مؤسسة راند أحد الأسباب الخارجية التي تمنع التغيير في مجتمعاتنا

القوّة النّاعمة

كان التدخل العسكري المباشر هو السلوك الأعنف الأول من أجل إحداث تغيير داخل المجتمعات وفرض السيطرة عليها ولكن هذه الإستراتيجية اليوم لم تعد ناجعة حيث استنتجت القوى العالمية أن الحروب ستؤدى إلى خسائر مادية وبشرية فادحة وقد تكون نتائجها عكسية بتوحيد صفوف المجتمع المستهدف وإيقاظه من غفلته من أجل المقاومة وإعادة البناء من جديد وأصبحت هي الحل الأخير المطروح.

هذه الاستراتيجية قديمة، إلا أن مقالا نشرته سنة 2003 صحيفة الفايننشال تايمز يوضح أهدافًا عميقة من هذه الاستراتيجية، حيث يقول: “من أجل كسب السلام، يتعين على الولايات المتحدة أن تظهر براعة كبيرة في ممارسة القوة الناعمة، كما أظهرت براعتها في ممارسة القوة الصلبة في الحرب”(2)، والقوة الناعمة تحقق أهدافها على مدى طويل يتم فيه اختراق المجتمعات وتغيير طِباعهم ببطئ وبثّ الأفكار التي يُريدونها وبرمجة الأفراد عليها سوى عن طريق الإعلام أو الجمعيات الناشطة أو النُّخب المُثقفة أو عن طريق رجالات الدولة الموالين لقوى عالمية معينة أو عن طريق مناهج التعليم.

فمثلا عندما توجد مجتمعات محافظة وملتزمة بدينها مع وجود توجه إسلامي في الحكم فإنه المجتمع الدولي يراها مجتمعات رجعية ومصدر تهديد لمصالحه داخلها، فإذا أراد إفشالها فإنه لن يستهدف المبادئ الإسلامية مباشرة بل سيقوم بتمويل ودعم كل من يروج لأفكاره المنحلة في مختلف المجالات حتى يألفها الأفراد وتنحل عرى الدين بينهم رُويدا رُويدا، وإذا ما انتشرت الرذيلة والفساد الأخلاقي داخل هذا المجتمع وبدأ في الابتعاد عن ثوابته سيحصل داخله تصدع وتصارع حول هوية المجتمع وثقافته.

بكل تأكيد فإن هذه الصورة ستنعكس على الجانب السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ومن هنا تبدأ ملامحه في التغير وفق الاستراتيجية الغربية والأمريكية وسيكون في واجهة هذا التغيير أفراد ينتمون إلى هذه المجتمعات بدون ملاحظة القوى الخفية التى تحركها وهذا ما أكد عليه الكاتب جوزيف ناي حيث قال في كتابه استراتيجية أمريكية بعيدة المدى تقوم على دبلوماسية الرأي العام: “والأهم من ذلك كله هو الاستراتيجية البعيدة المدى التى يجب أن تبنى من خلال تبادلات ثقافية وتعليمية، تهدف إلى تأسيس مجتمع مدنى أكثر انفتاحا في منطقة الشرق الأوسط. ومن أجل تحقيق تلك الغاية فإن أفضل من يتحدث باسمها يجب ألّا يكون الأمريكيين أنفسهم، بل أناس من أهل تلك الدول تابعون لأمريكا يتفهمون قيمها وأخطائها”(3).

مظاهر التدخّل الخارجي

تبدأ تدخلات الغرب في تغيير مفهوم الإسلام وتمييعه وإعادة تشكيله حتى يصبح دين بلا روح في عزلة عن الحياة غير مؤثر فيها، وخير دليل على ذلك ما قاله الجنرال ويسلي كلارك قائد حلف الناتو: “من يظن أننا ذهبنا إلى أفغانستان انتقاما لأحداث 11/9 فليصحح خطأه، بل ذهبنا لقضية أخطر هي الإسلام، ولا نريد أن يبقى الإسلام مشروعا طليقا يقرر فيه المسلمون ما هو الإسلام، بل نحن من نقرر من هو الإسلام”(4)، ونحن نعلم جميعا كيف سيُقرّر الغرب مفهوم الإسلام حيث سيحرصون على نقض مبادئه والتّرويج للفساد الجنسي والأخلاقي وجعله يتوافق مع أهوائهم ومع نظرتهم المادية للحياة، بل من شدة هذا التمييع للفهم الصحيح للإسلام الذي أساسه الشمولية لمختلف ميادين الحياة أصبح من بنى جلدتنا من يتهجم على شريعة الإسلام ويحاربها ويرفض تطبيقها في واقع الحياة ظنًّا منه أنّه يملك الفهم الصحيح للدين الإسلامي الذي غرسه فيه الغرب عن طريق المنابر الإعلامية وعن طريق العلماء الكاذبين الذين يخدعون الناس في ما ينقلونه لهم!

الجنرال ويسلي كلارك

ولنا أن نتساءل هنا لماذا اتخذ الغرب من الإسلام عدوًّا له؟! تأتينا الإجابة من وزير خارجية بريطانيا السابق روبن كوك: “الغرب بحاجة إلى عدو، ومادامت الحرب الباردة قد انتهت، فإن الإسلام سيأخذ مكان الاتحاد السوفييتي القديم، وسيصبح هو العدو”(5)، فإذا كانت نظرة الغرب لنا كمسلمين تقوم على العداوة فإنهم لن يُقدّموا لنا أيّ خير بل سيحرصون فقط على مصالحهم ولن يسمحوا للمسلمين للنهوض من جديد، ومن هنا يأتي تدخل الغرب في سياسة دولنا الإسلامية.

لاحظنا خاصّة بعد الثورات العربية وصول الاتجاه الإسلامي للحكم حسب إرادة الشعوب ولكن بعد فترة لم ينجحوا في الحكم لأسباب داخلية ومن ثم لأسباب خارجية التي نحن في صدد الحديث عنها، فالغرب لن يسمح لأيّ مشروع إسلامي يجعل الشريعة مرجعية له في مختلف مجالات الحياة لأنّهم يعلمون جيدًا بالإسلام وحده سينهض المسلمون وسيتّحدون من جديد وسيكسرون قيود الاستعمار والتبعية والاستغلال الخارجى لهم وسيُحاربون الظلم والفساد المنتشر في العالم فلا غرابة أن تصدر مؤسسة بروكينغز في تقريرها ما يلي :” لا مانع من المرجعية الدينية ولكن بدون دولة إسلامية”(6)، والمقصود هنا أنّ لأي دولة مسلمة الحق في تنظيم المؤسسات وحياة الأفراد من الناحية الدينية ولكن بدون أن يكون للدين دور في إصدار قوانين تشريعية تمنع ما حرمه الله من رذائل وبدون التدخل في حياة الناس بأمرهم بالصلاة أو الحجاب بل لا بد من وجود فصل بين الدين والدولة ولهذا نجد أنّ أغلب الأنظمة عندنا تميل للاتّجاه العلماني!

وعلى المستوى الاجتماعي تظهر التدخلات الخارجية في قضية المرأة وعلاقتها بالأسرة ودورها في المجتمع حيث يقول الرئيس الفرنسي ماكرون في خطابه لافتتاح الدورة الـ 17 للفرنكوفونية سنة 2019 في بثّ تلفزيوني: “على الفرنكوفونية أن تكون نسوية، ونحن نشجع الرئيس التونسي، في ظل ظهور الجماعات المظلمة ذات القراءة الدينية الخاطئة، الذي اعتمد نصوص قانونية تضمن حرية المرأة في الإرث والزواج وفي الحياة وفي المساواة بين الجنسين، وعلينا أن نقف بجانبه في هذا النضال”، والقوانين التي تمّ عرضها في تلك السنة تنصّ على حرية النوع الاجتماعي وعلى أنّ للمرأة حريّة اختيار ميولاتها الجنسية إلى جانب الاعتراف بما يُسمّى الأمهات العازبات وغيرها من القوانين المفسدة للعائلة وإذا تمّ تفكيك الروابط الأسرية عن طريق إفساد المرأة والتلاعب بها باسم الحقوق والحريات فإنّ المجتمع سينهار وسينشأ جيل بلا هوية وبلا أخلاق وبلا هدف في الحياة فقط جيل مطبوع على الثقافة التي رسمها الغرب له!

الرئيس الفرنسي ماكرون

ولا ننسى أيضا أننا نعيش اليوم حالة من الغزو الاقتصادي حيث يبدأ الأمر عن طريق منح قروض دوليّة ذات فائض ربويّ مرتفع للبلدان النّامية عن طريق صندوق النّقد الدّولي أو عن طريق مؤسّسات دوليّة أمريكيّة أو أروبيّة الهدف منها إحداث تنمية اقتصاديّة داخل هذه البلدان والنّهوض بها، ويُوظّف خبراء اقتصاديّون من ذوي الخبرات العالميّة من أجل إعداد مخطّط تنموي اقتصادي شامل، يحتوى على مؤشّرات تنمويّة مضخّمة وزائفة في أغلب الأحيان، الهدف منه إغراء واقناع حكومات هذه الدّول بفكرة إنشاء مشاريع تنمويّة لشعوبهم مع المحافظة على مكانتهم كحكومات ودعمهم سياسيًّا واقتصاديًّا، وعندما تتمّ الموافقة على هذه المشاريع وأخذ القروض تسند مهمّة إنشاء هذه المشاريع إلى الشركات الأوروبيّة والأمريكيّة العالميّة من أجل تحقيق ربح مالي لهم وإعادة ضخّ هذه القروض من جديد للبلدان التي قامت بإقراضنا عن طريق شركاتهم الصّناعيّة. وعندما يأتي وقت سداد الدّيون تجد نفسها الدّول المقترضة عاجزة عن السّداد بسبب فائض المديونيّة المرتفع فتكون النّتيجة أخذ قروض جديدة من أجل تسديد القروض القديمة مع فرض شروط من الدّول المقرضة على ضحاياها من أجل السيطرة عليها مثل قبول التطبيع مع الكيان الصّهيونيّ، فليس من العجب أن نجد دول إسلاميّة ذات قوّة اقتصاديّة صاعدة مثل تركيا لها تعاملات تجاريّة مع هذا الكيان لأنّ أصل نهضتها استند على دعم صندوق النّقد الدّولي لها وقد تمكّنت تركيا مؤخّرًا من سداد ديونها لصندوق النقد كاملة، وهي من الدّول القلائل التي تمكّنت من تحقيق ذلك والخلاص من المديونيّة الخارجيّة للدول، ومثل إنشاء قواعد عسكريّة على أراضي هذه الدّول ومثل ضمان التّصويت لهم في مجلس الأمن والأمم المتّحدة وموالاتهم ومثل استغلال مواردهم الطّبيعيّة بأبخس الأثمان ومثل القبول بقوانين هم قاموا بصياغتها وما على الدول المقترضة إلاّ تطبيقها حرفيّا في داخل أراضيها.

إنّ التدخّلات الخارجيّة تكون خاصّة في الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي عن طريق إثارة قضيّة المرأة، وعلينا بعد معرفة مُختلف مظاهرها أن نكون واعين بأنّ طريق التّغيير والنّهوض لن يكون سهلًا بل هناك عوائق داخليّة وجب إيجاد الحلول لها ووضع الاستراتيجيات المناسبة لمواجهتها من قبل الحكومات من جهة، ومواجهتها كأفراد مُجتمع واحد وعدم الاستسلام لها، فطريق التغيير يحتاج إلى صبر وعمل وتضحيّات ووعيٍ حتّى ننهض من جديد!


الإحالات:

(1) التبرج المسيس، عبد الله بن عبد الرحمان الوهيبي، مركز تكوين للدراسات والأبحاث، الطبعة الأولى سنة 2014، ص 31

(2) المصدر السابق، ص: 40- 41.

(3) المصدر السابق نفسه.

(4) المسلمون والحضارة الغربية، سفر بن عبد الرحمان الحوالي، ص: 36.

(5) المصدر السابق، ص: 45- 46

(6) المصدر السابق نفسه




لماذا نعجز عن النّهوض والتّغيير؟!

أبتدئ هذا المقال باقتباس عن الإمام ابن الجوزي يقول فيه: “ينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يُتصوّر للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوّة تُحصّل بالاجتهاد رأيت المقصّر في تحصيلها في حضيض”(1).

يقودنا كلام هذا العالم المتبحّر في العلوم الإسلامية، إلى أنّ على المسلم بذل أقصى جهده من أجل الوصول للإبداع والرّيادة في مختلف المجالات، فالحقيقة التي يجب أن تقال إنّ الجمود والتخلّف هو نقيض للإسلام ومبادئه، فلا يُمكن لمجتمع أن يخدم رسالته في الحياة وأن يَنصر قيمه وعقيدته وأن يدافع عن مقدّساته، بينما يستسلم غالبية أفراده للظلم ويخضعون الفساد والاستبداد، ويرضون بواقع الجهل والتأخّر عن ركب الحضارة.

ماذا جرى؟

بعدما أن كنّا أمّة واحدة قادت العالم بحضارتها الإنسانيّة الراقية، أصبحنا نعيش تحت قيود الاستعباد والعجز والتّقليد الأعمى للأمم الغالبة، فمالذي أصابنا؟!

لقد بدأ الأمر بفصل الإسلام وشريعته عن الحياة وجعل النّظام العلماني والرّأسمالي منهج حياتنا الاجتماعيّة، وهنا تحوّل الإيمان إلى مجرد شعائر نقوم بها وعقيدة تتوارثها الأجيال بدون التزاماتٍ، ومن هنا فقد المجتمع ركيزة أساسية في وجوده لأنّ الأصل أن يجتمع أفراده حول فكرة مُعيّنة تُمثّل عقيدتهم ومبادئهم ليعيشوا بها ومن أجلها، وتستمرّ قوّة هذه الفكرة بين الأجيال فإن فَقدت بريقها وتشتّتت التوجّهات حصل التصدّع داخل المجتمع واستسلم أفراده لهيمنة المجتمعات الغالبة عليه، وانحلّ داخل ثقافتهم الوافدة عليه بدون تمحيص أو انتقاء لما هو نافع لنا أو ضارّ بنا.

وقد تعمّقت الأزمة اليوم عندنا وتآلفت نُفوسنا على الجمود والركود حتّى أصبحت لدينا قابلية للتخلّف وتركنا العمل من أجل التغيير ولم نعد نحسن إلاّ الثرثرة التى لا تَبني فكرًا ولا تُحدِث نهضة.

القابليّة للتخلّف

يقول الكاتب والناقد الفرنسي بلزاك: “أوليس عجبا أن أتجه إلى إصلاح الوطن، بينما عجزت عن إصلاح فرد في هذا الوطن”(2)، إن هذا حقًّا من أكثر ما نقع فيه عندما نتحدث عن التغيير والإصلاح بأن نتجه لإصلاحات تنظيمية أو إدارية لا تعتني بإصلاح الإنسان داخل مجتمعه الذي هو القلب النابض لكل وطن، فإن مرض هذا القلب أو تخلّف عن أداء وظيفته فإنها ستكون النهاية الحضارية لكل مجتمع. فكيف لمجتمع ما أن ينهض ويبني أمجاده وقد أصاب أبناءه الجمود والكسل والعجز؟!

بلزاك

هل سيكونون قادرين على الإنتاج والتصنيع وتحقيق الاكتفاء الذاتي في مختلف الميادين إذا ما كانت تطغى عليهم ثقافة الإستهلاك والبحث عن الرّاحة والرّفاهية فقط؟!

الإجابة ستكون بالنفي –بطبيعة الحال- وما نحتاجه اليوم هو تشخيص حالة الفرد المسلم المعاصر الذى يشتكي من قابليّته للتخلّف والجمود وهذا أخطر ما أصابنا بأن استسلمنا لضعفنا وجهلنا واكتفينا بنظرة المنبهر العاجز أمام المجتمعات المتحضرة!

وأوّل ما يخطر في بال كلّ فرد منّا إذا تحدثنا عن التغيير والانتاج والحضارة هو بأننا قوم ينقصنا العلم ويطغى علينا الجهل واللاّوعي في مختلف مجالات الحياة ومن هذه الفكرة يُصيبنا الاحباط ونتوقّف عن مُجرّد المُحاولة أو التّخطيط للعمل والنهوض. فإن كان واقعنا يتسّم بالجهل والفوضى بسبب التّراكمات التى أصابتنا عبر التاريخ من فترات الاستعمار الذي سلك طريقًا ممنهجًا لنُصبح سوقًا استهلاكية له وتابعين عميًا لثقافته وما يروجون لنا من فساد أخلاقي، ومن فترات الاستبداد المتواصلة إلى اليوم والتي تسعى لنشر الجهل واللاوعي بين أفراد المجتمع من أجل إبقائهم خاضعين لحكم الطاغية المستبد، فعلينا أن نواجه هذا الجهل ونعالجه.

هنا يظهر دور النخب المثقفة عندنا، وهذا يدفعنا لنتساءل: ماذا قدّمت لنا هذه النخب في مواجهة جهلنا؟! أم أن دورها كان عكسيًّا في زيادة طمس هوية المجتمع وتغريبه وتركه تائهًا بلا هدف في الحياة؟!

إن الأصل أن تهتمّ هذه النّخب بإصلاح الإنسان وتثقيفه وجعله واعيًا بدوره في الحياة وكما وجب عليها الاهتمام بالاصلاح التعليمي الذي يجب أن يقدم لنا مُختصّين في مختلف المجالات يحملون داخلهم شُعلة التّغيير والثقة بالنفس مع الكفاءة العلمية اللازمة من أجل التقدّم والعمل ونحن بحاجة اليوم إلى مُراجعة نظامنا التعليمي ومواكبة العصر وتطوير آلياته حتى يصبح عنصرًا فاعلاً في الإبداع والابتكار. ومن أخطائنا في مُحاولة إصلاح التّعليم ربطه بثقافة تغريب المجتمع وتكوين إنسان لا صلة له بدينه أو بتاريخه لا يخدم إلاّ مصالح القوى العظمى المُستغلّة لنا، فعلى سبيل المثال محاولة إدخال منهج جديد في نظام التعليم بتونس مُتمثّل في التربية الجنسيّة للأطفال في سنواتهم الأولى في المدرسة والمُشرف على هذا المنهج الجديد هي منظّمات الأمم المُتّحدة وعند الاطّلاع على مُحتواه سنجد فيه دفعًا الأطفال للتطبيع مع فساد الأخلاق منذ الصّغر.

ولنا في تجارب الأمم السابقة خير دليل حيث عندما عزموا على النّهوض وتغيير مُستقبلهم بدؤوا بإصلاح التعليم وتطويره مع المحافظة على هويّة المجتمع وكيانه ولقد أكد على هذا المعنى الباحث بونعمان في وصفه للتجربة اليابانيّة فقال: “لقد انطلق روّاد الإصلاح من الحاجة الملحّة لتطوير النظام التّعليمي الياباني ليواكب مستجدّات العصر ومناهجه، مستحضرين الخبرة الحضاريّة التّاريخيّة المراكمة خلال مرحلة توكوغاوا، لكنّهم سعوا إلى تجاوز منطقها المنغلق على الذات، وفي الوقت نفسه عدم إحداق قطيعة مع التّراث الثقافيّ الياباني. إنّها تلك القدرة التفكيكيّة المبدعة في الاستفادة من الرّوح العامّة السّائدة في فترة ما قبل الميجي وتطوير الإمكانات الكامنة بداخلها والتجديد الجذري في المضامين والمناهج والأشكال دون السّقوط في التقليد الغبيّ أو استنساخ التّجارب الفاشلة أو التغريب الاستلابي اتجاه الآخر”(3).

العجز ومشكلة الفقر

من الأفكار التي تجعلنا عاجزين والتي نستتر ورائها هي مشكلة الفقر والعجز المادي، ولنا أن نتساءل كم يوجد من أغنياء ورجال أعمال داخل مجتمعاتنا المسلمة؟! والسؤال الأهم ما هي فاعليتهم الاجتماعية وماذا قدموا لأوطانهم؟!

إن مشكلة الأثرياء عندنا بأنهم أصابتهم العطالة والسّرف ولم يُوجّهوا رؤوس أموالهم نحو الاستثمار النّاجح الذي يبني المجتمعات بل هدفهم هو زيادة ثرواتهم بأقل جُهد مُمكن وتحقيق الرّفاهية المُطلقة، ومن العجائب أن تُنفَق الأموال الطائلة من أجل تنظيم أو حضور حفلات غنائية ماجنة، فعلى سبيل المثال أعلنت السعودية وفق خبر نقلته وكالة الأنباء الفرنسيّة على أنّها ستستثمر 240 مليار ريال (نحو 64 مليار دولار) في قطاع الترفيه في غضون عشر سنوات بدءًا من سنة 2018.

إن الترفيه المقصود هنا هو ما نراه اليوم من إقامة حفلات غنائيّة يُقدّمها مشاهير العالم في هذا المجال مع إقبال شعبي فاق التوقّع! فهل الإنفاق المسرف في هذه الحفلات سيكون ركيزة أساسيّة في نهضة المُجتمع؟! في حين أن الطابع العام لدولنا هو التهرب من إنفاق هذه الأموال من أجل إصلاح الفرد وتثقيفه وتربيته ومن أجل دعم حركة الإنتاج والصناعة بدلاً من الحفاظ على نمط الاستهلاك! ومن هنا فإن علينا إعادة تنظيم نظرتنا للثروة وجعلها أساسًا لدعم العمل ودفع الإنسان نحو التغيير مع استغلال الوسائل المتاحة من أجل مواجهة عجزنا المادي.

هل ضعفنا نتيجة مؤامرة فقط؟

من الأفكار الشائعة التى تزيدنا ضعفًا وجمودًا هي حصر سبب تخلّفنا في الطرف الآخر من القوى العظمى المهيمنة علينا، فهي تفتك بنا وبثرواتنا وتستغلها لمصالحها، إلا أن هذا لا يعتبر إلا أثرا من آثار قابليتنا للجمود والضعف، فإنهم لم يتجرؤوا على مُجتمعاتنا ويتسلّطوا عليها إلاّ بسبب استسلامنا الفكري والثقافي لهم وقُبولنا بالضّعف أمامهم، فلو أنّهم وجدوا مجتمعًا مترابطًا واضح المعالم، يجتمع أفراده على الإيمان باستخلافهم في الأرض وتحقيق العدل فيها ونشر الحقّ بين الناس، فإنّهم سُرعان ما سيرفعون أيديهم عنا ولن تُجدي محاولتهم لإخضاعنا.

إن المشكلة تبدأ من داخلنا عندما ننهزم نفسيًّا ونظن أنّ حياتنا لن تستقيم إلا بالرّجوع للغرب ورؤاه، والاتّكال على تقدُّمهم الحضاري، والعيش على ما يُقدّموه لنا من قروض وإعانات تزيدنا تبعيّة وأسرًا لهم!

إن المسلم اليوم مطالب بالتخلّص من قيود قابليته للتخلّف وللضعف، وبأن يكون سبَّاقًا من أجل حيازة مُختلف الوسائل المُتاحة التّى تُنمّي شخصيّته وتُطوّر من قدراته العلمية والفكرية والثقافية، وأن يفكر في استخدام ما يملكه الآن من وسائل بطريقة مؤثرة يستطيع من خلالها تغيير مجرى تاريخه، مع بذل أقصى الجهد من أجل رفع مستوى حياته، وهو مطالب أيضًا بتسخير وقته واستغلاله من أجل هذه الأهداف العالية وعدم التفريط فيه في العطالة.

انعكاسات التخلف والجمود

أبرز انعكاسات ما –ذكرته آنفًا- تظهر في الشق السياسي بمفهومه الشامل، فالسياسة تخطيطٌ لحياة الأفراد، ومشروع لتنظيم ظروف حياتهم وتسيير أوضاعهم. والخطأ في سياسة العالم الإسلامي منذ عقود عديدة، أنّها كانت عن اقتباس لقوالب جاهزة غير ملائمة لحياة مجتمعاتنا، إلى جانب الاقتداء الأعمى بكل وافد غربي.

لقد أدّى ذلك إلى التحلّل من مبادئنا الإسلامية، ولا يَكمن أصل المشكل هنا فقط، بل حاولنا رسم منهج للنهوض وتناسينا أنّ الأفراد الذي سيكونون سببًا في نجاح أيّ استراتجيّة يخضعون للقابلية للتخلف والجمود والاستسلام لواقعهم، ولا يستطيعون العيش إلاّ تحت ظلال الغرب والقوى العالمية والقبول بما يُقدّمونه لهم عن طريق حصر مفهوم الدّين في الشعائر الدينية ونقض الشريعة والقيم الإسلامية باسم الحرية والتخلّص من الرجعية! والأكثر غرابة أنّنا نلتمس وسائل النهضة من الدول التى تريدنا البقاء تحت قبضتها والتى تستغلّ ثرواتنا لصالحها وصدق المفكر مالك بن نبي حين قال:”وعجيب أمر الأسير يطلب مفتاح سجنه من سجانه”(4).

عندما يستعيد الإنسان المسلم ثقته بنفسه في النهوض والعمل وبذل أقصى الجهد وتسخير طاقته لتغيير واقعه وحسن إدارة وقته فإنه يحتاج وقتها إلى تسخير ما في وطنه من خيرات ومواد أولية وثروات لجعلها ركائز القوة عنده، وممّا لا شكّ فيه أنّ أوطاننا العربية تزخر بالمواد الخام من الغاز والنفط والفوسفات والملح والحديد ولكن لا يتمتّع بفوائدها إلاّ القوى العالمية التي رضينا بالخضوع لها سياسيّا وفكريّا وثقافيّا، في شرود واضح عن قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13] فقمّة التخلف أن يكون مفتاح النجاح بين أيدينا متمثلا في الوحي الإلهى ومن ثُمّ نُدير ظهرنا لقيمه ومعانيه، ثم نتساءل: لماذا أصبحنا هكذا بعد أن كنّا من أعظم الحضارات المؤثّرة في التاريخ الإنساني؟!

لنا في ذي القرنين عبرة

ولنا منهج واضح في مراحل السياسة التى يجب علينا اتّباعها في قصة ذي القرنين عندما وجد قومًا مستسلمين يشعرون بالضعف واليأس داخلهم ينتظرون الحماية وتغيير الحال من الخارج بسبب خطر يأجوج ومأجوج الذي يهددهم ويظهر ذلك في قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 93- 94].

لقد كانت الخطوة الأولى التي اتّخذها ذو القرنين في سياسته هي التّوافق مع الوسائل المتاحة عن طريق حسن توظيف طاقة الفرد الموجود وإعادته للنشاط وإخراجه من جموده ومن ثم استغلال الثروات الموجودة عندهم داخل حدود أراضيهم ومن ثم حسن إدارة الوقت في توزيع العمل والمهام ويدل على ذلك قوله تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95]، وأمّا المرحلة الثانية فهي إيجاد وسائل جديدة خاصة بهم عن طريق تطويع المواد الأولية المتاحة وجعلها قابلة لبناء سدّ منيع كان سببًا في تغيير حالهم كما في قوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} فكانت النتيجة {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 96- 97].

إن سياساتنا اليوم تخلو كذلك من معاني الأخوة الإسلامية، فحكّامنا لا يهتمّون بالاجتماع والعمل المشترك من أجل النهوض بالأمة الإسلامية، بل لا نكاد نرى إلا نِزاعات حزبية أو ملكية هدفها التّكالب على المصالح الضيقة وتلبية شهواتهم في الحكم والترف!

ليس من الغريب –والحال هكذا- أن نجد من يُطبّع مع الكيان الصهيوني من أجل توسيع سيطرته على مناطق معينة أو من أجل البقاء في الحكم ونيل دعم خارجي يُغطّي جرائمه، وليس من الغريب أن نجد حُكمًا استبداديًّا ظالمًا يَستعبد النّاس لصالحه ويقتل فيهم الضمير الإنساني من أجل حياة كريمة حرة، ويَطبع فيهم الأنانيّة واللاّمبالاة بقضاياهم الكبرى وكل هذا يؤدي إلى فوضى سياسية تعكس حالة مجتمعاتنا.

ولعلّ من أبرز أسباب فشل الثورات العربية التى أطاحت بالحكومات المستبدة هو بقاء الفرد على حاله ولم تقع له ثورة داخلية نفسية تخرجه من قابليته للعجز والجمود والاستهلاك ولم تضع الحكومات الجديدة استراتيجية دقيقة تأخذ بعين الاعتبار واقع المجتمع والوسائل المتاحة من أجل النهوض به.


الإحالات:

(1): مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، محمد الغزالي، سلسلة كتاب الأمة، ص: 41.

(2)،(4): وجهة العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ص: 65 ،97.

(3): التّجربة اليابانيّة دراسة في أسس النموذج النهضوي، للباحث: سلمان بونعمان، ص: 113.

 

 

 




ما هي عوامل النهضة المنشودة؟

يدعو الإسلام إلى إقامة مجتمع فاضل تسوده الأخلاق الحسنة والمعاملات الطيبة، ويسهم المؤمن في بنائه بما يتصف به من أخلاق حميدة، وبما يؤثره مع غيره في نفوس أبنائه وأسرته، وذلك نابع من وعي الإنسان المؤمن بدوره في الحياة.

في حالة المسلمين المعاصرة، فإن المسلم الواعي مسكونٌ بهمّ النهوض الحضاريّ بمجتمعه وأمته من جديد، وتوحيد صفوف الناس من حوله للعمل بمبادئ الإسلام والاصطفاف حول شريعته، فالمجتمع عبارة عن تجمّع بشري يمتلك أفكاره ومبادئه الخاصة، وله صفاته وشخصيته التي تُمثله وتُحدد معالمه، وقد نَجد مجتمعات كثيرة زاخرة بأفرادها والمنتسبين إليها، إلا أنها فقدت الشخصية والتعاليم التي كانت سببًا في تطوره، وهذا عائد لانحلال أفكاره في ثقافة المجتمعات الغالبة.

الانفصال عن الهوية الإسلامية

هذا بكل اختصار ما نعيشه اليوم في مواجهة زحف الثقافة الغربية علينا وتقليدنا الأعمى لها، فقد أصبح الواحد منا يعيش في انفصال بين هويته الإسلامية التي يؤمن بها وبين نمط العيش الغربي الوافد عليه، بين نظام الحياة القائم المتصف بالعلمانية ونبذ الدين من مختلف القوانين المنظمة لحياة الأفراد، وبين تشريعات الدين الرباني، وهنا يَصْدق الوصف الإلهي الجلي على واقعنا حين يقول الله عز وجل: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].

ولو أجلنا النظر في هذا المثل الكريم لوجدنا أطرافًا منه في حياتنا، فالمبادئ والقيم الوافدة علينا المزيّنة بعناوين الحرية وقبول الآخر، مشاكسة للقيم الإسلامية التي تبيّن الحق والباطل والحلال والحرام وما يتوافق مع الفطرة ويرفضها.

كثير من المسلمين يجدون أنفسهم مشتتين بين مختلف الدعوات والقوانين الغربية، لا يدرون ماذا يأخذون منها وماذا يتركون، ضائعون بين نمط العيش الذي يتحوّل يومًا بعد يوم إلى باطل محضٍ، وفساد مكين في مختلف القطاعات، فغدا الحرام بشتى صوره في حياتنا حرية شخصية يجب احترامها، بل وعدم نقد تعلق الآخر واتصافه بها، وكأن الانتماء للإسلام بات صورة شكلية لا أثر عملي له في واقع الحياة.

يعلم الفرد المسلم في داخله حرمة الكثير من الكبائر كالربا والزنا والخمر والميسر والغش بمختلف أشكاله كالرشوة والتزوير والسرقة بمختلف أنواعها والخيانة والظلم في الأعراض والأموال والدماء إلخ.. إلا أن كثيرًا من المسلمين رغم ذلك يُقْبلون على مختلف هذه الحرمات مدفوعين بانبهارهم بالحداثة والحياة العصرية وتقليد المجتمعات الغربية وثقافتها الغالبة، ويبحثون لها عن التفاسير والتعليلات مُحاولين إقناع غيرهم بها.

وأما المثل الثاني في نفس الآية فهو يُمثل الفرد المخلص لربه والمُتمسك بمبادئ دينه فله رُؤية واضحة في الحياة وله مصدر واحد يستمد منه قوانين الحياة فلا يزيغ عنه ويُصبح كل تركيزه في أداء رسالته التي وُكل بها ويَشعر في داخله بسلام وراحة لوضوح معالم الطريق الذي يَسلكه، وبمثل هؤلاء الأفراد يستطيع المجتمع الحفاظ على كيانه وشخصيته من الطمس والضياع، ولو هلك جيل من أجيال هذا المجتمع فإنه سيُحافظ على مبادئه ومعالمه وسيحافظ على رسالته ودوره، وسيكون الجيل الجديد ملتزمًا بتعاليم الآباء والأجداد متمسكًا بثوابته.

وسائل النهضة

أشرنا في مقالٍ سابق إلى عاملي القدوة والقرآن في بناء المجتمع، وهنا نؤكد على أن التكامل مع هذين العاملين يبتدئ بالوسائل المناسبة لذلك، بدءًا من الإعلام، الذي يزيد قوة الكلمة وتأثيرها، بل إنه صار الوسيلة المُتاحة الأهم للسيطرة على العقول وصياغة أفكارها، فما إن يجلس أحد ما أمام التلفاز إلا وتوجّه له الرسائل إما بهدف تفريغه من القناعات المسبقة أو تعزيز بعضها أو إنشاء قناعات أخرى جديدة.

جميعنا يعلم أن الإعلام سلاح ذو حدّيْن، فعندما يستغله أهل الباطل فإنهم سيَسعون لنشر أفكارهم داخل المُجتمع وفرض نفوذهم مُحاولين طمس هوية المُجتمع وتغييرها وفق أهوائهم، وإشغال أفراده بتوافه الأمور وتغييبهم عن أهم قضاياهم ومشاكلهم ومنعهم من النهوض أو مُحاولة كسر قيود الجمود والجهل والتخلف.

وفي ظل انكماش أهل الحق وانعزالهم في مزاحمة أهل الباطل إعلاميا، فإنه لن يكون لهم تأثير في واقع الحياة، ولن يستطيعوا نشر الوعي واليقظة داخل المُجتمع، ولن يقدروا على تقويم سلوك الأفراد وتغييرها، فنحن نحتاج اليوم إلى صناعة الكلمة القوية والمؤثرة على أن تكون مُستمدة من روح القرآن ومبادئه، لإظهار الحق ونشر ثقافة القرآن داخل المجتمع، ومن أجل ذلك يجب توحيد الجهود المادية والعلمية حتى نتمكّن من صناعة مادة علميّة مُؤثّرة تجذب المُستمع والمشاهد لها وتُغيّر من نفسه.

و من الوسائل المُهمة أيضًا مُحاولة إقامة مجالس قرآنية داخل كل بيت، فعلى الأب والأم تأسيس حلقات تعليمية لدراسة القرآن وتدبّره، وحتى لو ظنّا أنهما بعيدين عن تعاليمه وجاهلين بعلومه فيُمكنهما اعتماد أحد كُتب التفسير المُتاحة والإقبال على كتاب الله مع أبنائهم والسعي لتلاوة الآيات آية آية، ومُحاولة فهم المُراد منها وكيفية تطبيقها، وفي هذا حفظ للأسرة وتوطيد للعلاقات داخلها وضمان تربية قرآنية سليمة للأبناء وطَبعهم على قيمه وأخلاقياته، ولا ننسى أيضًا أهمّيّة المجالس القرآنية المنظّمة داخل المساجد أو خارجها مع الحرص على فهم الآيات التي تُتلى فليس الهدف من القرآن حفظه بلا فهم ودراية وعمل والتزام بمبادئه أو تبيين المنهج العملي لمُختلف أحكامه.

ومن الوسائل أيضًا الحرص على تكوين المُسلم القائد والمؤثر من خلال الاستعانة بخبراء ومُختصين في مجال علم النفس والاجتماع وغيرها من العلوم المُهتمة بتكوين شخصية الإنسان وتربيته على المبادئ المُثلى، ويُمكن للجمعيات الناشطة داخل المجتمع التكثيف من الدورات المجانية في هذا المجال، وفتحها للعموم وإيصالها للجميع، بهدف بناء الإنسان المُسلم القادر على تحمل المسؤوليات والمُبادر بالتغيير والمُستعد لخدمة رسالته في الحياة.

المجتمع ودوره في النهضة

إذا ما توفرت عوامل القدوة وتدبر القرآن والوسيلة الملائمة، فإننا بحاجة إلى عامل أخير، إنه العلاقات الاجتماعية، فقيمة كل مُجتمع مُرتبطة بأفكاره ومبادئه وأهدافه التي يحملُها ويُؤمن بها، فما نعيشه نحن اليوم هو توفر الفكرة والمبادئ المُتمثلة في الإسلام وشريعته، ولكن هل يُوجد في مُجتمعاتنا من يأخذها بقوة ويُقيمها في واقع الحياة؟ أم أننا أصبحنا مُجتمعًا يعيش على هامش الحياة يأخذ قيمه وتصوراته في الحياة من مصادر مُتناقضة؟

إن المعادلة الناجحة لنا هي الإسلام وشريعته مع وجود فئة مؤمنة به وعاملة بأركانه ومٌلتزمة به كمنهج للحياة مع إرادة الأفراد في النهوض وتطوير مُجتمعهم مع الانسجام والتوافق والتعاون بينهم والاستعداد لبذل أقصى الجهد من أجل تحقيق هذه الغاية، وأن تكون روح الأخوة جامعة بينهم لحمل أمانة الرسالة وتحقيق مبادئها، وهذا ما فعله رسول الله عليه الصلاة والسلام عند بناء المجتمع بالمدينة بالمؤاخاة بين الأنصار والمُهاجرين فكانت علاقتهم متماسكة متينة، وبالتالي كان المجتمع على قلب رجل واحد من ناحية، وذو تصور واضح ومنهج واحد في الحياة من ناحية أخرى.

من جملة مُشكلاتنا اليوم انتشار الاحتقان الاجتماعي النابع عن التعصب، فكل فريق يُريد فرض رأيه على الآخر، وكلٌّ يرى نفسه الأحق بالاتباع وعلى الآخرين السماع له وتنفيذ أمره، وهذا المُجتمع المنقسم لن يكون قادرًا على تغيير مجرى التاريخ وصناعة مُستقبله، ونحن بأمس الحاجة اليوم لأن نعيش مفهوم الأخوة الإسلامية، وأن يكون هدفنا واحدًا نتشارك فيه جميعًا، وأن نكون مُنسجمين ساعين للتطور والعمل والتغيير وعلينا نبذ الدعاوي العصبية العمياء القائمة على الجنس والعرق والانتماءات الحزبية والطبقية، وألّا نقع في فخاخ أعداء الأمة الساعية لتفريقنا وتشتيتنا وإدخالنا في صراعات لا تزيدنا إلا هلاكًا وتخلّفًا، فنحن مُجتمع مُسلم ولن ننهض من جديد إلا بالعودة إلى الإسلام كمنهج كامل للحياة.

ولا ننسى أيضًا كيد أعداء الأمة الناهبين لثرواتنا والذين يتمنون استمرار حالة الركود والجمود عندنا، فهم يتبعون سياسة “فرق تسد”، فأعداؤنا يدرسون مُجتمعاتنا ويضعون الخطط اللازمة لتفتيتها، وأما نحن فما زلنا عاجزين عن التحرك للحفاظ على وحدتنا أو الدفاع عن المجتمع في وجه الانقسام والانحلال على الأقل، كما أننا مُطالبون بدراسة مُجتمعنا بطريقة علمية ووضع الاستراتيجيات المُناسبة للنهوض به وإخراجه من سجن التخلّف الذي يُلاحقنا منذ قرون.

خلاصة القول

وما نستخلصه هنا أن المجتمع يَحتوى في داخله على صفاته الذاتية التي يُمثلها أفراده الذين يقومون بتحديد شخصيته، ولا يكون ميلاد مجتمع ما إلا تلبية لنداء الفكرة التي يؤمن بها أفراده الذين اجتمعوا من أجل تحقيقها وجعلوا علة وجود مجتمعهم وغايته واستمراره قائمة على القيم والمبادئ التي اجتمعوا حولها وأنشأوا من أجلها مجتمعهم، وعندما يفقد الأفراد داخل المجتمع هذه المبادئ وتتشتت الأفكار والمفاهيم فإنهم سيدخلون مرحلة الجمود والخمول، وهذا إعلان واضح بزوال هذا المجتمع وانحلاله.

وإذا حاول أفراد المجتمع النهوض من جديد والدخول في حركة الحضارة وصناعة تاريخهم فعليهم الأخذ بعلة البقاء المُتمثلة في تحدي الواقع وتغييره ومواجهة مختلف الصعوبات المُنتظرة وتَحمّل المسؤولية وعدم الفرار منها لإعادة بناء شخصية مجتمعهم وترسيخ مبادئه، فلو كانت رغبة هذا التحدي ذات فاعلية قوية داخل نفوس الأفراد فستكون استجابتهم للتغيير والعمل والنهوض إيجابية، وفي المقابل إذا كانت القُوى التحفيزية ذات تأثير ضعيف داخل نفوس الأفراد فلن يكون هنالك تأثير على واقعهم.




القدوة والقرآن .. وأثرهما في نهضة المجتمع

اتصف المجتمع العربي قبل الإسلام بالجمود والبعد عن التقدم الحضاري المحيط به، ولم يسعَ أفراده للتغيير وتطويره، فأصبح مُجتمعًا بعيدًا عن روح الحضارة، لا يمتلك هدفًا واضحًا لوجوده، إلا أن النقلة العملية والروحية والفكرية لهذا المجتمع كانت عن طريق رسالة الإسلام التي أنتجت ميلادًا جديدًا له، فعلَّمَ العالم المعنى الحقيقي للحضارة، وأنار العقل الإنساني بمفاهيم ومبادئ جديدة أخرجته من ظلمات الجهل والظلم.

لنا أن نتساءل هنا: لماذا حقق المسلمون الأوائل هذه النقلة الناجحة داخل مُجتمعهم بينما يعايش المسلمون منذ قرون عدة التقهقر والتراجع الحضاري بالرغم من أننا نملك -مثل السابقين- الرسالة ذاتها ومفرداتها من القرآن والسنة النبوية، فما سر هذا التغيير الذي جرى على أيديهم ونرجو أن نراه واقعًا في حياتنا نُعايشه ونكون جزءًا منه؟!

حين يُشعِل الإيمان الشرارة!

إن طبيعة رسالة الإسلام هي التي تُقدم لنا الإجابة الواضحة عن هذا التساؤل، ومبدأ الرسالة الإسلاميّة هو الإيمان الذي يحيي الضمير الإنساني ويقذف فيه البصيرة لمعرفة الحق واتباعه والالتزام به، وقد كان هذا دور رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، حيث نجح في إزالة غشاوة الجاهلية عن ضمائر العرب الذين آمنوا به وحرر نفوسهم من النزعات الضالة التي سيطرت عليهم، وعندما سرى نور الإيمان في كيانهم تغيّرت نظرتهم للحياة، وأصبحوا يعون دورهم والأمانة التي كلفوا بها لتحقيق الاستخلاف الإلهي في الأرض وحمل الرسالة للناس جميعًا، وهذا هو سر النقلة التي حدثت في حياة العرب ما بعد الإسلام.

حينما يفقد الإنسان يقظة الضمير والقوى النفسية التي تجعله يرتقي بنفسه وبمجتمعه، فإنه سيلجأ لإرضاء الباطل، وسيتقبله نظامًا لحياته وتتغلب عليه شهواته، وبذلك يرى نفسه ضعيفًا أمام مختلف تحديات الحياة، وبالتالي لن يقدر على حمل أعباء الرسالة، ولن يقدر من تغيير سلوكياته أو يكون مؤهّلًا لتغيير واقعه والنهوض به، ولنصل لهذه اليقظة في ضمائرنا فإن علينا تفعيل أدوات بناء المجتمع والنهوض الجديد.

القدوة الصالحة وغرسُ القيم في النفوس

عاش رسول الله صلى الله عليه سلم بالقرآن ومن أجل تحقيق مبادئه في واقع الحياة، وقد كان صلى الله عليه وسلم قدوة للصحابة في كل شيء، فكانت أخلاقه القرآن، يمشي بين الناس يلتزم بأحكامه ويأتمر بأمره وينتهي بنهيه مُلتزمًا بتعاليمه، ثابتًا على الحق راسخًا به، ولا أدلّ على ذلك شيء أكثر مما قاله رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما حاولت قريش مُداهنته وإيقافه عن دعوته والضغط عليه عن طريق طلب ذلك من عمه الذي يَكفله: (يَا عَم ، وَاَللهِ لَوْ وَضَعُوا الشمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتى يُظْهِرَهُ اللهُ ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ ، مَا تَرَكْتُهُ) [السيرة النبوية (ابن هشام)، (ج1/  266). ] إنها قوة الثبات على الحق والتضحية من أجله مهما حاولت الأطراف الأخرى تهوينه عن طريق تهديد أصحابه الداعين له ومُحاولة قمعهم وإغرائهم وتشويههم والكيد لهم ومُداهنتهم.

لقد كان صلى الله عليه وسلم وما زال وسيبقى إلى نهاية الحياة النموذج الذي يُقتدى به في فهم القرآن ومُختلف شؤون الحياة، وهذا عين ما نحتاجه اليوم في مُجتمعاتنا، أي أن يكون الدعاة والعلماء والمُصلحون عاملين ومُجتهدين قُدوة حقيقية للمجتمع المسلم، فيؤثرون في حياة الناس ويُظهرون لهم أخلاق الإسلام ومبادئه في سلوكياتهم وأقوالهم وقراراتهم، ولا يخافون في الله لومة لائم، ولا يُداهنون الظالمين والمُستبدين والمُفسدين من حكام ومسؤولين في مُختلف المجالات، بل يكون هدفهم نصرة الحق والالتزام به ودعوة الناس له وتبيينه لهم مع مُعادات الفساد والباطل ومُقاومته.

من الواضح أن من أشدّ ما نعانيه في زماننا هذا هو غياب القدوة الحقّة من ناحية، وارتكاس كثير ممن تصدر للدعوة والتعليم الشرعي من ناحية أخرى، بل ربما يحق لنا القول: إن ما نعيشه اليوم هو فرع عن أزمة القُدوة، حيث أصبح عامة المُسلمين لا يثقون في مُفكريهم وعلمائهم ودُعاتهم، بل كيف يكون ذلك وأغلبهم يقف مع مصالح الطغاة، يفتون بما يوافق أهواءهم ويُنسي الناس جرائمهم، ويسكتون عن ظُلمهم وغيهم ويُحلون ما حرم الله ويُحرمون ما أحله الله، حتى أصبحنا نرى منهم من يُبارك للتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين المسلمة، ويراه تحقيقًا للمصالح الاقتصادية وسبيلاً إلى السلام والتسامح الذي يأمر به الإسلام!!

ومن هنا ابتعد عامة المُسلمين عنهم، لا يسمعون لهم ولا يتبعون أوامرهم ولا يثقون فيهم، حتى أصبح الفرد منا يشعر بأن الدين أصبح تجارة دنيوية يتخذها البعض من أجل الشهرة وكسب المال زنيل الترف وتحقيق المصالح الدنيوية، ومع غياب الإخلاص والصدق في العمل وإصلاح مُجتمعاتنا، ترك ذلك كله أثرًا سلبيّا في حياة الأفراد الذين فقدوا الأمل في التغيير واستسلموا لواقعهم ورضوا به ولم يجدوا من يُوقظ ضمائرهم من جديد ويُعيد إشعال نور الإيمان المُنطفئ داخلهم.

إننا نحتاج اليوم إلى أفراد يأخذون بزمام المُبادرة ويقتحمون مُعترك الحياة وهم واثقون بدينهم ومُلتزمين به ويُقدمون الحلول البديلة لمشاكل مُجتمعاتهم على أن يكونوا هم البادئين بالعمل وبالالتزام بما يقترحونه من أفكار وبدائل وأن يكون هدفهم إيقاظ الهمم وإحياء الضمائر وإزالة غبار الجهل والجمود والتخلف عن نفوس باقي أفراد المُجتمع وليُحافظوا في ذلك على صدقهم وإخلاصهم لربهم ولدينهم، وإذا لم تنهض فئة منا من أجل إحداث تجديد داخل المُجتمع بالعودة لنبع الإسلام الصافي وإيجاد القدوة الصالحة فسنبقى في سُباتنا ونومنا ولن يتغير واقعنا.

من هو القدوة؟

من مشاكلنا اليوم أننا نعيش انفصالاً بين ما نؤمن به من مبادئ وقيم وبين ممارساتنا اليومية، فتجد الواحد منا ملتزمًا بصلاته داخل المسجد مُحافظًا على أوراده من الأذكار والقرآن وقد تراه خاشعًا لربه ولكن ما إن يغادر المسجد حتى يبدأ بأذية الناس بكلامه وبأفعاله، ويُبيح لنفسه المال الحرام، ويمتنع عن بذل المال في أوجه الخير رغم قدرته على ذلك، فمثل هؤلاء الأشخاص سيتركون أثرًا سلبيا داخل المجتمع، ويجعلون الآخرين يظنون أن المشكل في الإسلام لا في المسلمين الذين لا يطبقونه، فلا بد لنا من العمل على تصحيح أعمالنا وأن نُقيم حياتنا كما يُحبها الله أن تكون عن طريق مراجعة النفس وتزكيتها وتربيتها على الالتزام بدينها أينما كانت.

ليس بالضرورة أن تكون القدوة المُؤثرة من العلماء والدعاة بل يُمكن أن يُمثلها كل فرد مؤمن صادق يجعل نفسه قدوة لغيره ولمن حوله من أهله ومن أصدقائه ومن يتعامل معه عن طريق إظهار أخلاق الإسلام في حياته اليومية، فيكون صادقًا في كلامه، مُخلصًا في عمله، مُوفيًا بوعوده، مُلتزمًا بآداب دينه، فلا يسرق ولا يغش، ولا يخدع ولا يخون أحدًا، وبالتالي يستطيع كل واحد منا أن يُصبح مُؤثرًا في بيئته التي يعيش فيها كل حسب قُدرته واجتهاده.

إن السياسي الصادق والمُتمسك بدينه والمخلص له مع حرصه المُتواصل في تحقيق مصالح مُجتمعه ومُحاربة الفساد داخله سيكون قدوة لغيره من الساسة ومن أبناء مُجتمعه، وكذلك المُوظف النزيه المُجتهد والمُتقن لعمله الرافض لكل مظاهر الفساد في مؤسسته سيكون قدوة لزُملائه في العمل، والمُعلم الذي يبذل أقصى جهده والمُستشعر لقيمة الأمانة في تربية الناشئة وصقل مواهبهم وتطوير معارفهم العلمية سيكون قُدوة لمن حوله ولتلاميذه، والأب والأم المتمسكين بتطبيق تعاليم دينهم والباذلين لأقصى جهدهم في تعلم فنون التربية من أجل إنشاء جيل صالح سيكونون قُدوة لأبنائهم ولمن حولهم من الآباء والأمهات، وهكذا، فكل مسؤول أو راعٍ يجب أن يكون قدوة لمن يليه من الناس.

دور القرآن الكريم في حياتنا

بالقرآن نهتدي ونبدأ بناء طريقنا في النهضة، هذا ما يمكن البدء به في التعرّف لدور القرآن في حياتنا، إذ إننا لا يُمكن لنا إيجاد القدوات وبناء الإنسان المُصلح والمُؤثر داخل مُجتمعاتنا إلا عن طريق العامل الذي ينشئه والمُتمثل في القرآن الكريم، ومن ثمّ فإنه بجب علينا الانشغال به وفهم آياته وتدبرها والعمل بها، وهنا يظهر سر التغيير الذي أحدثه القرآن في المسلمين الأوائل من الصحابة والتابعين، فقد تأثروا به وغيّروا به من أنفسهم ونهضوا به وغيروا مجرى التاريخ به وبنوا حضارتهم به، فلماذا لم ننجح نحن مع أن القرآن هو هو ذاته، محفوظ من التحريف والتبديل؟

السر هنا يكمن في كيفية التعامل مع كتاب ربنا، ومن ثم فإن علينا أن نتعرف إلى حقيقة علاقتنا بالقرآن، لنرى إن كنا نُعطي أولوية له في أوقاتنا وساعات يومنا، فنخصص له وقتًا يوميا لمراجعته وتدبر آياته وفهمها؟ وهل نَحْتَكم إلى قوانينه ومبادئه وقيمه في تعاملاتنا اليومية؟

إن الإجابة واضحة للغاية، فقد أهملنا فقه العمل بكتاب الله، وضعفت علاقتنا به، فكانت النتيجة عموم الفوضى وتصاعد التخلف والضياع، وقد ذكرنا رسول الله عليه الصلاة والسلام بضرورة التمسك بالكتاب والعمل به وجعله منهاج حياتنا حتى نُحافظ على كيان مُجتمعاتنا وبقائها في الريادة، فَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِي قَالَ : (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ فَقَالَ : أَبْشِرُوا أَبْشِرُوا أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلا اللهُ وَأَني رَسُولُ اللهِ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِن هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ فَتَمَسكُوا بِهِ ، فَإِنكُمْ لَنْ تَضِلوا وَلَنْ تَهْلِكُوا بَعْدَهُ أَبَدًا) [صحيح ابن حبان]

إن أول ما نحتاجه في منهج التعامل مع القرآن أن نستشعر به كأنه نزل علينا لتوّه، فهو كلام الله الموجه لنا، وأن نوقن بأن رب العالمين يُخاطبنا به ويُوجهنا به في مُعترك الحياة ويرسم لنا من خلاله طريق النجاح والتفوق، فيجب علينا إذًا أن نقبل على آياته آية آية مُحاولين تدبرها وفهم المُراد منها ومُجاهدة النفس بالإلتزام بتعاليمه ومُحاولة تربيتها على قيمه.

بالقرآن يُمكننا اكتشاف بواطن نفوسنا عن طريق عرضها على آياته وإصلاح عيوبها والانشغال بتزكيتها وتطهيرها من مختلف أسقام التخلف والكسل والجمود التي أصابتنا، وبالقرآن نتعرف على دورنا في الحياة وما علينا فعله من أجل تحقيق الخلافة في الأرض وإقامة العدل والمساواة فيها، وبالقرآن نتعرف على طبيعة علاقاتنا بمن حولنا وكيفية التعامل معهم من مسلمين وغير مسلمين ومن مُسالمين ومن مُحاربين لنا، وبالقرآن نتعرف عل ربنا ونتعلم مبدأ الطاعة المطلقة له وكيفية إقامة حياتنا كما يُحبها سُبحانه وتعالى أن تكون، وبالقرآن نتعرف على حقوقنا وواجباتنا في الحياة وكيفية الموازنة بينها ونتعرف أيضًا على حرياتنا وحدودها، فالقرآن منهج حياة كامل تنهض به الأمة جميعها إذا أقبلت عليه بصدق وأخلصت لربها في تعاملها معه.

إن الواجب علينا هو البدء بتدبر القرآن وألّا نُبرر سوء علاقتنا به بسبب قلة زادنا العلمي، فلنا الاستعانة بكتب التفسير المُتاحة للجميع، وأن نبحث في صفحاتها لفهم آيات كتاب ربنا وتعلّمها، ومن ثم يُصبح كل واحد فينا –رويدًا رويدًا- على علم ودراية بكلام الله وآياته، وبذلك تتطبّع النفس على فهمه والالتزام بقيمه، ومن ثم سنرى أثر التغيير في حياتنا اليومية، فالقرآن الكريم ليس لغزًا.. وما علينا إلا أن نقبل عليه وننهل من علومه وحِكمه ونستجيب لمبادئه.