هل الملحد ملحد حقاً؟

هل يكفي رفع لافتة أو التباهي بشعار ليقطع هذا بالانبثاق عنهما أو الالتزام بمقتضاهما؟ وهل يصح التسليم بصدق الموقف إن أعلن أحدهم أنه يؤمن أو لا يؤمن؟ يتشبّث بعضهم بوصف “الإلحاد”، فيحبسون وعيهم في مقولات منسوجة بعناية خشية أن يتخطوْها إلى آفاق الإيمان. ترتهن النزعة الأيديولوجية في هذا المنحى لمقولات صارمة تفرض سطوتها على العقل والقلب، لكن بأي شيء يؤمن أحدهم في أعماقه إن أعلن أنه “لا يؤمن”؟

عقيدة رفض الاعتقاد
إن بلغ رفضُ الاعتقاد مرتبةً اعتقادية ألا تكون هذه “عقيدة رفض الاعتقاد”، أو ديناً يعلن التبرّؤ من الدين؟ فالذين يتباهون بالتنصل من “الدين”، يتقمصون ملامح اعتقادية يفرّون عبرها من المعتقد إلى المعتقد. وإذ يضيقون ذرعاً بالمقدس فإنهم ضالعون في التقديس، فلا تبقى مساحة المقدس في وعي الإنسان شاغرة بأي حال. إنهم يقدسون قناعات وشعارات، ومقولات وأنظمة، أو يعظمون وجوهاً وأسماء، ولو على طريقة الذين طمسوا الدين من حولهم ثم نحتوا الأصنام بأحجام شتى لماركس وإنجلز ولينين، فنصبوها في الميادين والمكاتب والمنازل، وجعلوا “المانيفستو” كتاباً مقدساً في هيئته وهيْبته وطبعوا منه نسخاً مجهرية لتغدو تعاويذ مثل تذكارات المزارات الدينية.         

ولو أزيحت المقدسات جميعاً من الوعي، فقد يكون الإنسان ذاته هو الذي تألّه، مثل إشارة أحدهم التلقائية إلى رأسه كناية عن تعظيم شأنه وتقديس اختياراته. قد نرى في انشغال بعضهم الدائم بوجود الله في مسعى النفي والنقض، كنايةً عن صراع مع إيمان مكبوت في الأعماق، وهو كبت تساهم فيه ثقافة عصر تأخذ بالألباب كل مأخذ وتهيمن على الوعي من حيث لم يحتسب، فيرى الإنسان نفسه في مركز الكون وإن كان لا يُرى بالعين المجردة من رؤوس الجبال. يميل إنسان الحاضر إلى تأكيد ذاته، وتضخيمها، والتعالي بها، وتصويرها ذاتياً على نحو صنمي ونرجسي، حتى يتطلّع بعضهم لأن يشغَل بنفسه موقع الألوهية وإنْ بصفة لا شعورية، فلا يرى شيئاً يعلوه سوى منظومة ضوابط وقوانين وأعراف صاغها البشر أنفسهم وقد لا يترددون في تجاوزها. أي شعور يخامر أحدهم لدى التمرد على مرتبة المخلوق والسعي إلى مناجزة خالقه؟ أليس هو الإنسان ذاته الذي يتضعضع إزاء مديره في العمل، أو يتقلص في حضرة المخالفة المرورية، أو تعلو صرخاته في عيادة الأسنان؟

لا تأتي الحالات على لون واحد، فبعضهم يتخذون الإلحاد سبيلاً لأنّ أسئلة ظلت معلقة في وعيهم بلا إجابات مقنعة. ومأزقهم أنّ اقتناع أحدهم من عدمه لا يقضي دوماً بالصحة أو البطلان، فالاقتناع لا يحصل من الناس جميعاً بالمقولة الواحدة على منسوب محدد أو بكيفية واحدة. وقد يحصل الاقتناع بما هو هش أساساً أو متناقض للغاية، وهذا ضمن ملابسات تدفع بوعي زائف. ولا يخضع الاقتناع للعقل “المحض” وحده، بل هي حالة يتفاعل إنتاجها مع الوجدان، فملابسات الواقع والشحنات المعنوية والمؤثرات المصاحبة، وبعضها غير ملحوظ أساساً، تغري بالاقتناع بخيارات لا مصلحة فيها. ولا يندر أن يقتنع البشر بالشيء ونقيضه، وفقاً لمُدرَكات ومؤثرات ومشارب وأفكار مسبقة وتحولات نفسية واجتماعية وثقافية متضافرة، فكيف إن اتسمت المرحلة الراهنة بتحولات متسارعة وهزات جسيمة وأزمات طاحنة وتضعضع البنى القيمية التقليدية؟ إنّ العقل الذي يحتج به أحدهم، هو ذاته الذي يتفنن خبراء التسويق والترويج والدعاية و”حرب الأفكار” في استمالته وإخضاعه والهيمنة عليه، لدفعه إلى قناعات واهية وشراء ما لا يحتاج وانتخاب الفاسدين. وإن “قرر” بعضهم العدول عن الإيمان لأنّ أسئلة بقيت عالقة في وعيهم، فهل سيعني هذا أنّ اختيارهم النقيض يجيب على الأسئلة جميعاً بصفة متماسكة ومتسقة؟ ألا يمكن افتراض أنّ منطق “عجز النقيض” الذي يبرر به بعضهم الإلحادَ، من شأنه تسويغ الإيمان بالأحرى. فهل الإلحاد قادر أساساً على تقديم رؤية كونية شاملة ومتماسكة ذات قدرة تفسيرية سابغة حقاً؟ وهل يفسر الإلحاد لصاحبه الوجودَ بما يحتويه، تفسيراً منسجماً ومتماسكاً، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟      

يستبطن الإلحاد روحاً عدمية، تصرّ على نفي ما فوقها وما وراءها وما يعقبها، ومن تفاصيلها مثلاً أنها تنفي النبوات وتقدح بالرسالات، وتحطِّم تاريخ المؤمنين وتنزع عنه الشرعية وتُنكر مغزاه الرسالي وجدواه القيمية، ولا يغدو ذلك كله، إن تم الاعتراف به أساساً، سوى تروس في حركة تاريخ يفقد معناه ودورات في عجلة زمن يؤول من عدمية إلى عدمية، وعناصر عابرة في تدافع بشر لا ينتظرهم حساب على ما قدموا. تفرض رؤى الإلحاد على الإنسان تعبئة فراغ كبير أحدثته، كي يتملّص من عدميتها، وقد يمضي بمعتقده “الجديد” هذا إلى التألّه إن فعل، عبر تقديس ذاته وتمجيد عقله وتعظيم انفعالاته، ومن المألوف أن يمنح هذه الحظوة لمن يعدّهم دون غيرهم طلائع الفكر وفلاسفةَ البشر ورواد التاريخ.

يتجلى تأليه الذات في تعبيرات فجة جاء بمثلها أحدهم في برنامج عربي للفرجة بقوله “هنا الله”، وأشار إلى عقله بعد أن انعطف الحديث إلى الدين. وكيف يَقوى المتسامرون على مناقشة المتحدث الجسور عبر البث المباشر؟ ومن بوسعه مقاومة الاعتداد بالعقل؟ يجوز التساؤل إن كان جليس الشاشة يعني “عقله” الذي يترنح بأثر شراب متخمر، أو تمسك بخطامه شهقة من مسحوق أبيض، ثم يخامره النعاس كل ليلة بما يكبح قدراته التحكمية على الأقل؟

ملحد يكبت إيمانه
يرفع بعضهم لافتة الإلحاد بما يملي عليهم كبت إيمانهم. إنهم يؤمنون في أعماقهم، لكنهم يطمرون إيمانهم ويحجبونه بعيداً كي لا يزعزع موقفاً بات سمة من سمات تصوّرهم لهويتهم الذاتية وحضورهم في الوسط المجتمعي. قد تتهيأ فرصة ما تتحرر فيها روح مؤمنة من قفصها في لحظة وعي داهمة بالحقيقة؛ لحظة تنقشع فيها حُجُب كثيفة تراكمت على الأسماع والأبصار.          

يبدو بعض “الملحدين” أوفياء حقاً لإيمان عميق يكبتونه، إن أعادوا النظر في حقائق الوجود المرئية وباشروا تشغيل عقولهم بلا تحفظات، أو تأرجحت بهم طائرة في الأجواء، أو علا بهم الموج في عرض البحر، أو خفقت قلوبهم في انتظار خبر مصيري بين يدي طبيب يعكف على تشخيص حالة مُريبة، أو احتضنوا بين أذرعهم مواليدهم الأوائل الذين هم آية من آيات الله تعالى.

إغراء الهالة المجيدة 
ترسم خطابات رائجة، هالةً إيحائية مجيدة حول من يُعلن إنه “ملحد”، وهذا بقصد منها أو بدون قصد. فليس نادراً أن يقع ربط الإلحاد بالاشتغال الفكري والتألق العقلي والتفرد الذاتي والاعتداد بالرأي، وهي سمات محجوبة في هذه الخطابات عن المؤمن والمتدين وقد يُرمَيان بنقيضها.           

ما يسمى بفرسان الإلحاد الأربعة

بات نفر من متحدثي “البرامج الدينية” ينظرون بعين العطف إلى مَن يقولون إنهم “ملحدون”، وليس نادراً أن يصبّ المتحدثون أنفسهم سوط القسوة على “المتدينين” ويُشبعونهم غمزاً ولمزاً بدوافع تبدو للوهلة الأولى إرشادية وإصلاحية. تمنح المفارقة انطباعاً يتضافر عبر مضامين بعض تلك البرامج، بأنّ “الملحد” مثقف رصين ينطلق من نظر عقلي وتقدير قيمي وحس نقدي وموقف عصري، ولدى الحديث عنه بمنطق يبتغي الإقناع والاستمالة؛ يقع التطرق إلى أفكار العالم وأساطين الفلسفة واستعراض العضلات الفكرية، أما “المتدين” فليس نادراً أن يطارده أولئك المتحدثون بلغة إيحائية ذميمة تزدري هيئته وتستقبح مسلكه وتستخف بثقافته وتستهين بتحصيله، ضمن تصورات رائجة تقوم على قوالب نمطية ذميمة وأحكام مسبقة تعميمية، بصرف النظر عن مدى صلتها بالواقع.         

ليس بعيداً عن ذلك يأتي خطاب لوبي الإلحاد متقمصاً رداء “العلمية” و”العقلانية”، فيراهن بهذا على غواية الذين تسحرهم مقولات تمجيد الذات واختياراتها وتقديس العقل وتفضيلاته والتملص من معابد الدين إلى معابد العلم. وإن أوحى بعضهم باجتياز “رحلة فكرية معمقة” أوصلته إلى هذا الاختيار؛ فما يَسهُل اكتشافه أحياناً أنّ بعض الرؤوس محشوة بمقولات محبوكة أو شعارات أيديولوجية، تم تجهيزها مسبقاً في “لوبي الإلحاد” وأُعيد إنتاجها وتمريرها بما يتناغم مع نفسية الجماهير في هذه الحقبة. وقد تتكثف التأثيرات على وعي بعض الأفراد بصفة تعبئة أيديولوجية تحاكي في بعض صورها فنون غسيل الأدمغة.

في قراءة الحالة 
طورت اتجاهات شتى في فضاءات العالم، بما فيها النزعة الإلحادية، جماعات ضغط وتشكيلات ناشطة تستعمل أساليب متجددة من الكسب والإقناع والاستمالة، وتجد في هذا دعماً سخياً من نزعات سائدة ونفسيات رائجة وأنماط تفكير تتغذى مما يسمى “ثقافة العصر”، كما تجسدها الصناعات الإعلامية والثقافية والفنية.        

إنّ نفسية إنسان الحاضر مشحونة أساساً بمقولات الانعتاق ورفض الانصياع ونبذ الهيمنة العلوية أو التوجيه الفوقي، كما أنّ افتتان الفرد في زمن التصوير والتشبيك والبث بقدراته الذاتية على الحضور العام والتأثير والإسماع والإزعاج قد يغريه بالاستنتاج أنه في مركز الحالة وشريك في صناعتها. تضغط هذه التحولات والمتلازمات على وعي أجيال الحاضر بمؤثرات نفسية، بعضها غير ملحوظ أساساً، وبجهود دعائية محبوكة بعناية تفتن إيمانها وتسليمها. وما استجد أيضاً؛ أنّ أصوات المجتمع جميعاً تحوز اليوم فرصة الإسماع وإحداث الضجيج كما لم يحدث من قبل، مهما قلّ المنتسبون إلى كل صوت منها، وبهذا تعيد المجتمعات اكتشاف التفاصيل المتنوعة الكامنة تحت سطحها بعد أن تجاوزت التحولاتُ مركزيةَ التعبير عن المجتمع واحتكار قنواته.       

والواقع أنّ حالات الشك والإلحاد بصورتها الفردية أو الجماعية، لم تغب يوماً عن المجتمعات ولو كانت مُسلِمة، حتى تمددت الشيوعية مثلاً في ثنايا عربية في ما مضى، ومعها مذاهب وفلسفات غير متصالحة مع الإيمان، بل شارك وكلاؤها المحليون في الإمساك بزمام الحكم طوعاً أو كرهاً، ومنها عدن، عاصمة الشطر الجنوبي من بلاد الحكمة والإيمان. لكنّ اللافتة الحمراء في التطبيق العربي لم تفرض دوماً التنصل من الدين، بل اشتهر عن قيادة الحزب الشيوعي السوداني ريادة المساجد مثلاً، وقيل في بلاد الشام إنّ الانتماء الأحمر قد لا يتجاوز القشرة بينما يبقى الجوهر على فطرته، وعبّر بعضهم عن ذلك بوصف طريف شاع في النصف الأول من القرن العشرين، هو “شيوعي فجلة”!

على أنّ الإلحاد، في منحى الإفصاح الجديد عن ذاته في المجتمعات العربية والمسلمة، يتناغم مع نزعة تحدي النسق الثقافي المرجعي للمجتمعات. يستقوي المنجرفون مع الحالة بالشبكات الاجتماعية مثلاً وبتطبيقات مدنية تتيح الانتظام وتكثيف الحضور وتضخيم الأثر. ولا يبتعد ذلك في نفسيته وتمظهره عن تجارب أخرى متضافرة، كإعلان التمرد على الشعائر الإسلامية والصدام مع الحس الديني العام، من قبيل جماعة المجاهرة بالفطر في رمضان أو سلوك التعري التنديدي وغيرها، ويوظف المتحدثون والناشطون في الترويج لهذه النزعات تطبيقات صاعدة في المجتمع المدني والفضاء الشبكي حول العالم.

وفي التعبير الراهن عن نزعة الإلحاد إفصاح مهم عن حيرة أجيال عربية ومسلمة مسّها طائف من “ما بعد الحداثة”، التي تفصم العلاقة بين الدال والمدلول، وتمضي بمنحاها النسبي في إسالة المعايير وتقويض القيم والمبادئ من داخلها بما يُفضي إلى عدميتها. تأتي التفاعلات على البنيان الاجتماعي فتنزع الوصف والمعنى حتى عن المفاهيم التأسيسية المتعلقة بالأسرة والزواج والذكورة والأنوثة والأمومة والأبوة، لتصبح هذه جميعاً ألفاظاً غير محددة الفحوى فتحتمل طائفة، لا نهائية تقريباً، من النماذج والحالات في التطبيق الواقعي.          

وما ينبغي الإقرار به أنّ مناهج التعليم ومضامين الإرشاد ليست مصممة لاستيعاب متغيرات جارفة، وقد لا تنجح المدرسة بصورتها الراهنة في تمكين الأجيال من الإبحار وسط أمواج متلاطمة، فضلاً عن قدرة المضامين الإعلامية والإرشادية المتاحة على النهوض بالدور وسط انشغالها بأولوية “مكافحة التطرف والإرهاب”. كما تعجز وفرة من الخطابات الرائجة في الفضاء الديني عن استيعاب التفاعلات الجارية في مجتمعات الحاضر، ومنها ما يتلبس الظاهرة الكبرى المسماة بالعولمة من تداعيات عميقة تداهم الأمم من حيث لم تحتسب.

تبرير الإلحاد بالسلوك 
يتذرّع بعضهم بأسماء ساطعة من الماضي والحاضر اختارت الإلحاد لما عايشته في محيطها من استعمال مُسيء للدين. وما يتم تقديمه، عادة، بمثابة سبب أحادي ساذج لإلحاد شخص ما، يبقى جديراً بالبحث والفحص. فمن المألوف أن يميل الإنسان إلى تأويل بواعث اختياراته وسلوكه بعلة فريدة لا تبديل لها، مع استبعاد تضافر أسباب أخرى محتملة خلف الحالة، لكنّ تشخيص السبب أو الأسباب ليست مهمة سهلة كما لا يُقطَع بصحة التأويل الذي يأتي من صاحب الموقف ذاته أو ممن يعرفونه، بل قد يكون الإتيان بها من صاحب الموقف أو مَن شايعوه سردية تبريرية لمسلكه.   

أما تأويل الإلحاد بسلوك مشين محسوب على “أهل الإيمان”، فيفرض استدعاء المنطق ذاته في الاتجاه العكسي، أي إمكان تأويل الإيمان ذاته بسلوك ذميم محسوب على “أهل الإلحاد”، وشواهده لا تنقطع كما في مجزرة الكنيسة في تكساس (5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017). غاية القول في هذا الشأن أنّ المنزع الانتقائي للبواعث يُظهِر هشاشة منطقها، فانتقاء حالة أو حالات مخصوصة لا ينفي ما سواها أساساً ولا يجعلها سابغة أو ممثلة شرعية للواقع ككل.

ثم تصرّ بعض الخطابات على تبرير نزعة الإلحاد بحالات التشدد والتوحش المتذرعة بالدين أو تسويغها بما يقع من وجوه الحالة الدينية ومتصدريها. تبدو هذه اندفاعة متوقعة تحت سطوة الاستعمال الديني المُسيء، الذي يبقى قائماً في كل زمن ومجتمع، لكنها تعزز الاستنتاج بأنّ هذا “الإلحاد” المُعلن إنما هو موقف نفسي ووجداني في الأساس وليس فكرياً وعقلانياً بالأحرى. تتجاهل هذه الذرائع، مثلاً، أنّ معظم المسلمين المتدينين ينبذون “داعش” مثلاً، علاوة على أنهم أبرز ضحاياها، كما أنّ جماعات التشدد الديني من طوائف شتى لا تحظى بغطاء الأغلبية المتدينة منها غالباً. 

ثم، ألا يستدعي الرضوخ لهذا المنطق تشديدَ النكير على “الحرية” لمجرد أنّ الثنائي الماكر بوش وبلير أحرق العالم الإسلامي بحروب استعملت هذه القيمة المجيدة ذريعة لخوضها؟ وما الذي سيبقى من قيم أساسية سامية ومقولات جوهرية نبيلة في عالمنا، إن تمت الإطاحة بها بذريعة سوء الاستعمال الذي مورس بحقها جميعاً بلا هوادة، ومنها قيم الثورة الفرنسية مثلاً التي تم استعمالها غطاء لفظائع الاستعمار؟     

إنّ السلوك الاستعمالي لدين أو لقيمة أو لفكرة لا يصحّ حُكماً عليها، وإن أظهر التسليمُ بهذا الباعث أنّ النزعة الإلحادية المعنية تشكّلت أساساً من موقف نفسي أو نفور جامح أو عقدة ما مترتبة إزاء حالة أو شخص أو سلوك، ثم مضت تالياً إلى شرعنة ذاتها بمقولات عقائدية تبريرية لها. وقد لا يكون هذا الموقف سوى حدث رمزي أو نفسي أو قشة قصمت ظهر صاحبها بعد تراكمات حملها أحدهم في عقله ووجدانه؛ دفعته إلى تأويلات داخلية مخصوصة وأحكام صارمة وتبريرها بمنطق قطعي تبسيطي عبر ربط القناعة المعلنة بحدث ظاهر لا مراء فيه، من قبيل فظائع “داعش” أو شطط بعض متصدري المنابر الدينية.     

وأيا كانت البواعث، فلا غنى عن الترفق في وصف مقامات الفعل الذهني والشعوري الذي يخامر الأفراد في زمن الاضطراب والتشنج والصدمات، الذي تجزع فيه الأنفس وتطيش فيه العقول، والحذر واجب من دمغ الحائرين في موسم مخصوص بوصمة المروق من الدين، علاوة على مشروعية التشكك بعمق الالتزام بمقولة الإلحاد، التي يتباهى بها بعض الذين يكبتون إيمانهم.




ملحد يكبت إيمانه

أي رجفة هذه التي تسري في بدنك قبل إغماض عينيك على الوسادة؟ هل أرهبتك كلماتٌ سطّرتَها في منافحتك الأخيرة عن “الإلحاد”، الذي تزعم أنك به مؤمن؛ فخشيتَ معها غضبَ الله عليك؟

رفقا بنفسك، نَمْ هانئا، وأسلِم قلبك النابض لبارئه، فلن تعبث به صدفةٌ كالتي افترضْتَها في مقطعك الذي أحرز الإعجابات. ألم تَغْفُ في أمسِك ثم أفقتَ عليه يواصل خفقانه الدؤوب؛ كما فعل بلا هوادة منذ أن احتواك جَوْفُ أمِّك الدافئ؟ 

أرأيت؟! لم تكن صدفة أنت، بل انبثقتَ مثلي عن أم رؤوم، وأطلقتَ صيْحَتَكَ الأولى في دنيا البشر، واتخذتَ سبيلَك في الدهر عجبا، فمضيْتَ نحو الْتِقامِ صدرٍ حانٍ كأنك تعرفه من أمد بعيد. من علّمك أنتَ فنّ الالتقام قبل أن تُبصِر كيفيّته؟

نَم قريرَ العين، ولا تُنهِك عقلَك بتأويل اشتغاله المُعجِز، أو بإدراك روحٍ تحتويها أنت؛ ومعها ترقى عن أن تتقزّم في كتلة لحم ودم، هي المحسوس منك؛ أو مجرد جذع يمضي على ساقين صوب مرافعة جديدة تُشغِلكَ عن التفكّر. أنت برهانُ “التجاوز” الذي رفضتَ التسليمَ به في مرافعتك، فما يكون أمرُ روحك “المتجاوزة” لقميصها على وجه اليقين؟ وهل يقنَعُ عقلُك بأنه كتلة نخاعية محسوسة وحسب؟ سَلْه، إذن، ما يكون هو تحديدا، قبل انهماكك بتشغيله كي تترافع أنت بنفي خالقه، أم سيباشر عقلُك نفيَ ذاته لأنه لم يدركها خالصةً محددة على وجه اليقين أيضا؟

سَلْ قلبَك يا عزيزي إن أعياك عقلُك الذي زاد الفلاسفةَ من قبلك رهَقا لما حاولوا تحديد كنهه! وما يكون القلبُ هذا أساسا في حقيقته على وجه اليقين؟ أو سَلْ فؤادك، إن شِئت، عمّا ألجأك إلى الأعلى يوم أن تأرجحت بك المجنّحةُ بين طبقات الغمام، أو لمّا تقاذف الموجُ مركبَك الصغير، أو لحظةَ الارتطام المفاجئ على الطريق السريعة.. وقد استبدّ بك الهلع في حضرة مشاهد خاطفة تعاقبت على وَعيِك، مُختزِلةً حياتك التي كانت دون شاشة عرض.

أتذكُر لحظتَك المفصلية؟ لمّا انخلع قلبُك، وأطبق الجَزَعُ على صدرك، وتحشرجت الكلمات في جوفك، وارتقت عيناك صوب سماء تعلوك، ترقّبا لما سيبوح به الطبيب بمعطفه الذي بدا لك كفنا يوشك أن يحتويك، ثم جاءك ذو النظارة السميكة بابتسامة هدّأت من روعك ومنحتك أملا بحياة جديدة، بعد كشْفِه على ما حسبتَها أوراما تضخّمت في أحشائك، ثم إنك تهاوَنتَ وقتها مع لسانك المنطلِق بالحمد والتسبيح، وقد تحرّر لحظةً من كبتٍ مديد؛ أثقله عن أن يبوح بما احتبستَه أنت في أعماقك.

أتذكُرُ صباحا ربيعيا مشرقا، ضمَمْتَ فيه وليدَتك الأولى بين ذراعيك برفق، ولم يستَقِم في عينيك الدامعتيْن أنّ هذا الكائن الإنساني النابض بدفء هو محض صدفة شكّلته الطبيعة بذاتها؟ تفتحت الورود من حولك، وأمسكتَ بخيط يُفضي إلى سرّ كبير، ثم صرفتَ وجدانَك في المساء عن مراجعة التفكير في قوانين الطبيعة التي عنها تترافع، وكيف لها أن تكون بلا مقدِّمات مؤسِّسة لنتائجها ومسبِّبات مُوجِدة لأسبابها. وكيف للخلقِ أن ينتظم في الوجود، بالأحرى، بلا قوانين لانتظامه وسنن مركوزة فيه، فمن نظَمَها عبرَه وركَزها فيه إذن؟

أما التمثالُ البديع الدقيق فقد أخذ بك كلّ مأخذ، لمّا استوقفَك وسط الميدان السياحي، فأدركتَ عظمة صانعه من دقة تشكيله التي تشبه البشر، فلما فاجأتْكَ رمشةُ جفنيْه ورعشةُ كفّيْه عاجلتَهُ أنت بكبْح انشغالك بمن نحَتَه، وأسرعتَ بدسِّ يدك في جيبك لتَخرُجَ مرتجفةً بقطع المال، وألقيْتَ بالنقود إلى فتى بارع انتحل هيئة التمثال المعدني الذي أذهلك، ثم انصرفتَ ولم تعقِّب. ها أنتَ أفصحتَ وقتها عن إيمان في أعماقك بصنعة النسخة الجامدة المقلدة، في ما بقيتَ تجادل في صنعة الأصل النابض الذي جُعِلَت هي على منواله، فعقدتَ لسانك عن إبداء الإعجاب به.. لمّا تحرّك ونطق. أتؤمن بإلحادِك حقا؟!

ثم إِنّ صنعة الروبوت قد أبهرتك من بعدُ أيما إبهار، لمّا تسامَرتَ مع إنسانٍ آلي، برز لك بعينين واسعتين بمحاذاة قامتك المنتصبة، وبادرَك بالتحية. تودّدَ إليك المصنوعُ العجيب اللامع ليعرض خدماته عليك كما اختزنها فيه صانعوه تماما؛ بلا زيادة. وأدركتَ وقتها تهافُتَ منطقٍ جادلتَ به من قبل. ألم تسألهم في المعرض التقني عن البلد الذي أنتجه؟ والشركة التي ابتدعته؟ لعلك لم تلحظ وقتها أنّ الكائن الودود لا يجادلك في حقيقة خِلقته وصحّة نسبته، فما زلنا عاجزين عن تصنيع كائن أكثر تعقيدا، يناهز مرتبتنا، فيقوى على إنكار صنعته ونفْي وجود من ركّبه وبرمجَه.

وإن تحقّق هذا التطوير في زمن آتٍ فسيتجلى الابتكار الموعود بُرهانَ اقتدارٍ فذّ للصانعين والمطوِّرين، وقد تبتسم مختبرات التطوير من أعماقها إن رصدَتْ ثقافة الإنكار والنفي والتعالي تسري بين كائنات آلية متكاثرة من حولها. فكيف لا تكون خِلقة البشر دالّةً على عظمة خالقهم؟ أليسوا هم من يتألّهون في الأرض ولا يتواضعون لربهم، حتى تبارى بعضهم في مناجزة العلي القدير بنفي وجوده كليّةً أو التطلّع إلى التمرّد الساذج عليه؟ إنها مرافعاتنا المذهلة، نحن البشر، من منصّاتنا الغائرة في نقطة لا تُرى من عمق الفضاء، يُقال لها الأرض.

هي أرضٌ ينبسط فوقها سرّنا الكبير، الذي يمنحنا رشفةَ الشعور بأننا مركز كونٍ نعجز عن استجماع حقائقه الفسيحة وإدراك أبعاده المنطوية في حُجُب الغيب. نحسب أننا مركزه دون أن تقوى تصوّراتنا على تجاوز خبراتنا المتحققة حصرا مما جرّبناه وأبصرناه. وإن بقينا عاجزين عن معاينة هذه الفضاءات المجهولة، أو التلصّص على دقائق فحواها واستراق السمع إلى عوالمها والوقوف على قوانين تسييرها ونظُم تشغيلها؛ فكيف بنا نجادل في محاولة تصوّر خالقها ومدبِّرها جميعا؟ ومن بوسعه منا، أساسا، إدراك ذات الخالق إن عجَزنا عن تصوّر بعض المخلوق ابتداءً؟ وأي تعالٍ هذا الذي يتملّكنا، في محاولتنا لنحت إلهٍ تأسره خبراتنا الأرضية القاصرة؛ التي تعجز عن مفارقة أقفاصها الذهنية ابتداءً؟

يطوي الغيبُ عوالمَ منثنية في دواخلنا، وفي كائنات دقيقة من حولنا، ومن لم يعترف بعدُ بخِلقةِ بعوضة يطاردها فتتحايل عليه في رقاده لترتشف من دمه؛ فلا سبيل له للإقرار بما دونها من عوالم غير مرئية، وبما فوقها من أسرار المجرّات التي نسبح في ركن منها دون دراية بالوجهة.

هل أدركتَ -عزيزي- سرّ كلماتٍ أتمتمُ بها مبتسما.. كلما حدّثتني في منافحاتك الجريئة عن نفي الخِلقة والخالق؟! فإني ما أدركتُ أحدَهم يبرع مثلك في اعتصار عقله الملهَم، وحشد حججه الأخّاذة، وتركيب مقولاته المنمقة، وتشغيل لسانه المنطلق، وتنسيق عرضه المبهِر؛ إلا وأدركتُ في هذا كله عظمةَ هذه الصنعة البديعة العجيبة، التي هي نحن، بكل ما يعنيه أحدنا أن يكون إنسانا. ألا يحق لفؤادي أن يهتف في حضرتك المهيبة من أعماقه الغائرة، وأن ترضخ شفتايَ للحقيقة التي أراها ناطقةً فيك، فتباشر البوح الكبير: ..سبحانك، ما أعظمك، ما أبدع هذه الخِلقة، سبحانك يا الله.




مارتن لوثر الإسلام

لوثرية الإسلام
تشي مقولة “لوثرية الإسلام” بنزعة مركزية أوروبية فاقعة، فهي تتخذ من التجربة التاريخية الأوروبية نموذجاً للسياق الإسلامي الذي يقع تجريده من توقّع القدرة الذاتية على التجديد المتلاحق، وفق حتمية لوثرية لا فكاك منها تقريباً في تلك الخطابات، دون أن يوحي القوم باعتراضات على هذا المنحى التعسفي.

وفيرة هي العناوين الصحفية والتعليقات الإعلامية والمقالات والكتب في أوروبا التي استشرفت الآتي ومنحت ذاتها حق اقتراح اسم هذا الذي سيحظى بلقب “مارتن لوثر الإسلام”. تزايَد التلويح بهذا الوصف في مواقف وتعليقات وأعمال أوروبية متكاثرة منذ منعطف الحادي عشر من (سبتمبر/أيلول) 2001، عندما تفاقم النظر إلى الدين الإسلامي في أوساط أوروبية وغربية على أنه خطر وتهديد، أو مشكلة بشكل أو بآخر. لم تتواضع بعض الوجوه المسلمة التي تم خلع اللقب عليها من أحدهم في أوروبا، بل طارت به وتحدّثت به بفخر على الملأ، واعتبرته شهادة استحقاق وجدارة من “أوروبا والغرب”. ومن المفهوم أن يمنح البريق اللوثري حافزاً لعدد أوفر ممن يخوضون “مراجعات تجديدية” و”مقاربات إصلاحية” ضمن النطاقات المسلمة. وإن استبعد أولئك مسألة “المهدي المنتظر” فإنهم بمقولة “مارتن لوثر الإسلام” يضعون “المهدوية” في عباءة “اللوثرية” تقريباً.

من القسط القول إنّ السمات الإنسانية العامة حاضرة في التجربة اللوثرية، فهي تتجلى مثلاً بميلاد الأفكار الإصلاحية وكيفيات استقبالها ومقاومتها وتفاعلاتها ومآلاتها وعواقب تطبيقاتها المتعددة. لكنّ ذلك على قيمته المُلهِمة وعظاته الوفيرة لا يقضي بإغفال أنّ “اللوثرية” هي تجربة أوروبية أساساً، بل ألمانية ابتداء على وجه التحديد، وأنها ابنة العصر الوسيط المتأخر والتجربة الكنسية، وأنّ مقاربتها الدينية موجهة ضد السلطة الاستغلالية في الأساس متمثلة بكهنوت روما، فهي من هذا الوجه ثورة ضد سلطة مهيمنة وليست مجرد مراجعات دينية في الأروقة أو تنظير على المنابر. وإن تجاهلت نزعة البحث عن “مارتن لوثر الإسلام” هذه الحقيقة فإنها تقود بالتالي إلى استنتاجات مضللة للغاية بالمنظور المنهجي.

فالإسلام لا يقوم على نظام كهنوتي في الأصل، وإن لم تغب عن واقع المسلمين حالات سلطوية غير مرئية تحاكي الكهنوت وقد تباشر تنصيبه رسمياً تحت ستار مقولات مثل ولاية الفقيه أو ولاية الأمر، أو بالمبالغة في تعظيم العلماء والشطط في النزعة المشيخية، علاوة على سطوة تقاليد وتأويلات غير سوية على النص الديني المرجعي.

يبدو واضحاً أنّ كهنوت روما في زمن لوثر وفي السياق الألماني بوضوح، استعمل سلطة الحكم وهيْمن عليها، بينما يشهد واقع العالم الإسلامي اليوم علاقة معاكسة تقريباً في كثير من أرجائه المركزية، فسلطة النظام تستعمل الدين بطرق فظة ولو من وراء ستار، ولا تتوانى عن التحكم الشامل بالمرجعيات العلمية والمشيخية وبمواقع الفتوى والإرشاد وباحتواء الفضاء الديني ورموزه عموماً. ويُضاف إلى ذلك تضافر قدرات التحكم الأوروبية والأمريكية بالوجهة الدينية في العالم الإسلامي، كما يتجلى بوضوح منذ عهد بوش الابن وحتى عهد ترامب علاوة على الجهود الأوروبية المتعددة في هذا السياق. والحديث في هذا الصدد يدور حول “حرب أفكار” تتسارع عواصفها وتتلاطم أمواجها تحت مقولات مثل “مكافحة الإرهاب والتطرف” و”تجديد الخطاب الديني” و”المراجعات”، و”تصحيح الفهم”، وإن لم تشمل جميع ما يأتي تحت هذه العناوين بالطبع.

وللتقمص اللوثري مفارقاته التي تبلغ مبلغها لدى حالمين بانتزاع لقب “مارتن لوثر الإسلام” في عاجل الأمر أو آجله، إذ يرتمي بعضهم في أحضان سلطات مهيمنة ويأكلون على موائد الاستبداد المتخمة ويظهرون على شاشاته الملونة، دون الكف عن إطلاق مقولات إصلاح الدين وتجديده “بشجاعة” وخوض المراجعات “الجريئة” بلا تردد. ثم يتضعضع هؤلاء ويظهرون للعيان في منتهى الجبن والخوار والمداهنة إزاء سلطة النظام؛ الذي يمضي في اكتساح المجال الديني على طريقة لا تبتعد في روحها عن نهج البابا ليو وطغمة الاستبداد الديني التي تصدى لها لوثر قبل خمسمائة سنة.

سطوة المركزية الأوروبية
لا يُبصِر الباحثون في أوروبا عن “مارتن لوثر الإسلام” مخزون التجديد الكامن في هذا الدين، ولا يطيب لهم الاعتراف بحقيقة تحرّر النص الإسلامي المرجعي من الهياكل السلطوية؛ وإن تَضافَر حوله تحريفُ الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

عكف لوثر على تمكين الجمهور من قراءة النص عبر الترجمة عن لغة الكنيسة الرسمية، لكنّ المسلمين المتجاوزين في الأصل للوسيط الكهنوتي تحرروا ابتداء من هذا العائق إلى درجة يستسهل بها بعضهم الإقدام على التأويل وحتى الفتوى بلا ضوابط منهجية، وهي حالة يَصعُب تصوّرها حتى في البروتستانتية التي بعثها لوثر.

وما يجري في أوروبا منذ مطلع القرن الحادي والعشرين مع الملف الديني الإسلامي يسير في الواقع باتجاه محاولة إنتاج حالة من التقنين والمأسسة والهيكلة، التي تسعى لتجاوز ما تُعتَبر “مشكلة” عدم وجود كنيسة في الإسلام. وتتصاعد الشكاوى في الأقاليم الأوروبية من أنّ مواقع الإمامة والخطابة والإرشاد الديني الإسلامي منعتقة من ضوابط واشتراطات يفرضها الانخراط في السلك الديني الرسمي كما عليه الحال في الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية ومعظم البروتستانتية. فما الذي ستقدمه التجربة اللوثرية في هذا السياق الإسلامي المنعتق أساساً من البابوية والكهنوتية والتراتبية اللاهوتية؟

وإن منح لوثر جمهوره ألوان الحياة وروح السعادة وفتح باب الزواج للمنخرطين في السلك الديني؛ فما بوسعه أن يمنح المسلمين من هذا المتحقق لديهم ابتداء؟ إنه غيض من فيض التساؤلات التي يجدر إثارتها إزاء مقولة “لوثرية الإسلام” التي تجنح إلى إسقاط الماضي الكنسي الأوروبي على المستقبل الإسلامي، وقد يُفهَم ضمناً من بعض الخطابات أنّ التجربة الغربية بلغت بالتاريخ نهايته وأنها مستغنية اليوم عن المقاربات الإصلاحية الجوهرية، رغم الاختلالات الجسيمة التي تنتصب في حقول شتى في واقع التطبيق البشري المتمحور حول التجارب الأوروبية – الغربية.

وإذ يخلب البريق اللوثري الأنظار؛ فإنّ منحى التقمص لا تستوقفه تساؤلات مشروعة؛ مثلاً عن ضراوة المخاضات التي ستترافق مع “اللوثرية الإسلامية” إياها، وهل يُرجى لهذا الإصلاح أن يُنعش نهضة مجتمعية واقتصادية وسياسية تحاكي تجربة أوروبا الاستعمارية وتزاحمها في التوسع الاقتصادي والصناعي والإنتاجي والسياسي والاستراتيجي ضمن عالم الحاضر والمستقبل؟ أم أنّ غاية المطلوب لدى بعضهم لا تتعدى تفكيك الإسلام ببريق الشعار اللوثري وإخضاعه لقراءات أوروبية يقع إسقاطها عليه دون أن يقوى على المنافسة في عالم متنوع؟ وهل يأمل القوم حقاً من مقولة “اللوثرية الإسلامية” أن يُتاح التوسع في نشر المصاحف الشريفة حول العالم بألسن الأمم جميعاً لتناهز “الكتاب المقدس” الذي هو أوسع الكتب طباعة ونشراً وتوزيعاً بفضل اللوثرية أساساً؟

السياقات اللوثرية ومآلاتها
يبقى الانشداد إلى تجربة مارتن لوثر (1483 – 1546) مفهوماً، خاصة في الذكرى مرور خمسمائة سنة على عريضته التي غيّرت وجه أوروبا وتركت تفاعلاتها وتأثيراتها وبصماتها حاضرة في العالم. تقول الرواية إنّ اللاهوتي الألماني الشاب عمد يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 1517 إلى تثبيت وثيقة من 95 بنداً بالمطرقة على باب كنيسة القصر في فيتنبرغ الألمانية، فأوجعت طرقاته روما الرازحة تحت غطرسة البابا ليو، الذي أعماه الجشع المادي عن تعاليم المسيح عليه السلام.

لكنّ فهم الرواج الذي تحقق لحركة الإصلاح هذه لن يتحقق دون إدراك سياقاتها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولا يصح النظر إلى شجاعة لوثر بمعزل عن حفاوة الجمهور المحلي بأفكاره المركزة التي صبّها في عريضته ورسائله.

قاد لوثر ثورة عارمة بقوة الأفكار التي لامست حاجات قائمة أساساً في مجتمعات أوروبا التي أخضعها الاتجار البشع بالدين، وأثقلتها الطقوس الجوفاء، واستغرقت في التبرّك شبه الوثني بعظام القديسين على حساب روح الإيمان والتعاليم. ظهر لوثر في مجتمعات شاحبة تستعذب الفقر والفاقة والحرمان وتدفع بعصارة قوتها إلى كهنوت روما المنشغلة بمراكمة الثروة وتشييد البنيان الشكلية من بيع صكوك الغفران ونشر ثقافة التعاويذ.

سدّد لوثر ضربات موجعة للكنيسة، حتى خلال محاكمته المشهودة التي خرج منها منتصراً، وأنجز نقلة جوهرية بتحرير الوعي الديني من ربقة الكنيسة إلى نص “الكتاب المقدس” مباشرة، رغم أنّ ترجمته الخاطفة للنص ليس بوسعها أن تبرأ من التحيزات التي هي سلطة ضمنية، وإن حرَم الكهنوتَ الكاثوليكي بذلك احتكار سلطة تأويله. أقدم لوثر على خطوة جسورة لتمكين الجماهير من فهم “النص المقدس” بأن أنجز ترجمة “العهدين القديم والجديد” من اليونانية إلى الألمانية، وتجنّدت المطبعة المبتكرة آنذاك في خندق لوثر وأسعفته في ��لذيوع الجماهيري.

تقوم النزعة اللوثرية لدى بعضهم على تقمّص أجوف لتجربة مارتن لوثر، مع منظور سطحي لها غالباً يتجاهل سياقاتها وملابساتها ويغفل عن أوجه قصورها المحتملة أيضاً

تحدّى لوثر الكنيسة وجها لوجه، لكنه أتاح للدين فرصة البقاء ضمن حضور متجدد مؤهل للعبور إلى العصر الحديث والتعايش مع الحداثة أو حتى تهيئة الأجواء لبعض شروطها، مثل الحرية والديمقراطية ومقولة الامتثال للضمير التي ألحّ عليها، علاوة على تأثيراته المتعددة في الكاثوليكية ذاتها وإن لم يقع الاعتراف بها.

لم يكن ذلك إصلاحاً في النطاق اللاهوتي وحده، بل هي بالأحرى ثورة مجتمعية واقتصادية وسياسية تحققت لأوروبا التي انعطفت إلى زمن جديد بفعل جملة من العوامل والمتغيرات التي لم تقتصر على اللوثرية. وقد اتسع تأثير هذه الحركة الإصلاحية حتى تجاوز أتباع كنائسها المتعددة اليوم نصف مليار إنسان، لكنّ انتشارها العالمي لم يأتِ فقط بقوة الأفكار والتعاليم بل تحقق عبر تفاعلات الواقع وملابساته، بما فيها التوسع الاستعماري مثلاً. ومن الإنصاف القول إنّ مارتن لوثر قدح شرارة الإصلاح تلك، لكنّ الافتتان بتجربته يصرف النظر عادة عن ثغراتها ومآلاتها التي لم تكن وردية تماماً، ويجوز الافتراض بأنه إصلاح لم يكتمل إذ بقي وفياً للإطار العام للتقليد الكنسي في كثير من سماته.

دشّن لوثر مسيرته الإصلاحية بتعليق عريضته الشهيرة المشتملة على 95 نقطة موجزة، ولو جاءت في زماننا لما تردد في إطلاقها عبر حزمة تغريدات في “تويتر”، وستحظى على الأرجح بوفرة من الإعجابات وإعادة التغريد أسوة بشغف الجماهير حول كنيسة فيتنبرغ بالبنود الثورية التي علّقها.

لكنّ عريضة لوثر ينبغي عليها اليوم قبل أن تقارع سلطة الكهنوت أن تقود حركة إصلاح في منظومة الحداثة التي وقع تحنيط قيمها ومقولاتها واستغلال قدراتها المتراكمة بأساليب ذات وقع مدمر على الإنسان والعالم. سيكون على مارتن خوض نضال جديد للتبرؤ من مسالك وتقاليد وممارسات تذرعت بالبروتستانتية أيضاً خلال ضلوعها في التمدد الاستعماري والمشروع الصهيوني والتفرقة العنصرية والحمى النازية والجشع الرأسمالي وصور متعددة من الشرور، التي لا تنفي الوجوه الإيجابية التي دفعت بها أيضاً وإن لم تكن مكتملة.

تقوم النزعة اللوثرية لدى بعضهم على تقمّص أجوف لتجربة مارتن لوثر، مع منظور سطحي لها غالباً يتجاهل سياقاتها وملابساتها ويغفل عن أوجه قصورها المحتملة أيضاً. إنها نزعة تستدرج أصحابها إلى الوقوع في قبضة المحاكاة الرمزية لتجربة تنتمي في الواقع إلى ذيول العصر الأوروبي الوسيط، وإن ظلت دروسها وعظاتها شاخصة للمتأملين حتى اليوم، ضمن رصيد التجارب البشرية التي ما زالت تتراكم وتتفاعل.