وعد بلفور.. رحلة السياسة الصهيونية من التشكّل إلى قرار من لا يملك لمن لا يستحق!

تعد الرسالة التي بعث بها وزير الخارجية البريطانية عام 1917 والمتكونة من 67 كلمة إلى اللورد ليونيل روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية في تلك الفترة والتي عرفت فيما بعد باسم وعد بلفور، أول خطوة يتخذها الغرب لإقامة كيان صهيوني على تراب فلسطين، وقد قطعت فيها الحكومة البريطانية تعهدًا بإقامة دولة يهودية في فلسطين.

من هو بلفور؟

ولد آرثر بلفور في وايتنغهام، شرق لوثيان، اسكتلندا، وهو الابن الأكبر لجيمس ميتلاند بلفور (1820-1856) والسيدة بلانش غاسكوين سيسيل (1825-1872). كان والده وجده أعضاء في البرلمان الأسكتلندي، وتنحدر والدته من عائلة سيسيل المنسوبة لروبرت سيسيل، إيرل ساليسبوري الأول، وهي ابنة ماركيز ساليسبري الثاني وشقيقة الماركيز الثالث، رئيس الوزراء المقبل. والده الروحي هو دوق ويلينغتون، وسُمي تيمنًا به، وهو الابن الأكبر، والثالث من ثمانية أطفال، ولديه أربعة أشقاء وثلاثة أخوات.

تلقى آرثر بلفور تعليمه في مدرسة غرانج الإعدادية في هوديسدون، هيرتفوردشاير (1859-1861) وكلية إيتون (1861-1866)، حيث درّسه ويليام جونسون كوري. التحق بجامعة كامبريدج، حيث درس العلوم الأخلاقية في كلية ترينيتي (1866-1869)، وتخرج بدرجة الشرف.

قضى بلفور 50 عاما في العمل السياسي، بدأ حياته شديد التعصب للمسيحية كارهًا لليهود، وكان يكرس جهده كله للحد من هجرتهم إلى البلاد، لكن بمجرد بلوغه الستين تغيرت نظرته وأصبح أكثر تحمسًا للحركة الصهيونية، وكان يرفض الاستماع لأي هجوم أو نقد عليهم، بل صرّح بأن الوعد الذي أبرمه هو أهم إنجازاته السياسية.

أعجب بلفور بشخصية الزعيم الصهيوني “حاييم وايزمان” الذي التقاه عام 1906، فتعامل مع الصهيونية باعتبارها قوة تستطيع التأثير في السياسة الخارجية للدول، وبالأخص قدرتها على إقناع الرئيس الأميركي وودرو ولسون للمشاركة في الحرب العالمية الأولى إلى جانب بريطانيا.

كما تعمّق اهتمامه بالمسألة اليهودية حين حضر اجتماعات المؤتمر الصهيوني العالمي الذي أسسه ثيودور هرتزل، وتفاوض مع وزيريْ المستعمرات جوزيف تشامبرلين، والخارجية اللورد هنري لانسدون، بشأن توطين اليهود في شبه جزيرة سيناء، لتحويل الفائض البشري اليهودي عن إنجلترا وتوطينه بخدمة الإمبراطورية.

وجّه وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور في 2 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1917 رسالة إلى المصرفي البريطاني وأكبر زعماء اليهود في بريطانيا اللورد ليونيل والتر روتشيلد تعهد فيها بوقوف بريطانيا إلى جانب الحركة الصهيونية في سعيها لإقامة وطن لليهود في فلسطين.

تعرف إلى أسرة روتشيلد!

تعتبر أسرة روتشيلد هي واحدة من أغنى الأسر في أوروبا. بدأت الأسرة نشاطها المالي في مدينة فرانكفورت في القرن الثامن عشر في مجال المصارف والمال واتسع نشاطها ليشمل معظم البلدان الأوروبية وكانت رائدة في مجال القروض للمشاريع الكبيرة مثل قناة السويس.

وكانت الأسرة تدير أكبر بنك في العالم لمدة قرن من عام 1815 حتى 1914، بينما تقول بعض المصادر إن هذه الأسرة هي الأغنى في تاريخ العالم.

أما والترروتشيلد الذي تلقى رسالة بلفور على عنوانه في مدينة لندن، فهو من مواليد 1868 ودرس علم الحيوانات في جامعة كامبريدج وكرس جل وقته وثروته لجمع عشرات الآلاف من الحيوانات النادرة في مجموعات لا تقدر بثمن، وباع كامل مجموعته من الطيور النادرة لأحد المتاحف في الولايات المتحدة عام 1931.

أما الوجه الآخر لهذا الشخص فهو عمله لصالح الحركة الصهيونية، وقد كان والده أول يهودي يحصل على لقب لورد في بريطانيا وتمتع بعلاقات واسعة مع الأوساط السياسية والمالية في البلاد حيث وظفها لصالح استصدار وعد من الحكومة البريطانية بهدف إيجاد وطن قومي لليهود لما عرفوه من ضغوطات من اوروبا.

اليهود في أوروبا.. سياق معقد

عرف اليهود في أوروبا مجموعة من الإشكالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية نتيجة اضطهادهم من طرف الأوروبيين المسيحيين؛ وتعرف هذه المسألة بمعاداة السامية وهي حركة عدائية استهدفت اليهود بحيث أنهم أينما عاشوا بأعداد ملحوظة كانوا يتعرضون للاضطهاد من خلال حرمانهم من المناصب العليا سواء في المؤسسات العامة أو الخاصة.

في هذا السياق كانت تجري المحاولات لطردهم من مجال الأعمال التجارية وبصفة دائمة تتزايد مهاجمتهم في البرلمان والمجالس والصحف والمنابر وفي الشوارع. فمثلا يتم استبعادهم في الفنادق وحتى في أماكن الاستجمام وتتنوع أشكال الاضطهاد حسب البلدان والسياقات الاجتماعية ونذكر على سبيل المثال فرض المكوس على قرى اليهود في روسيا ورومانيا كما تعرضوا لمذابح في هذين البلدين، أما في النمسا فقد مورست شتى أنواع الإرهاب على اليهود من طرف المعادين للسامية.

هذه الأوضاع المعقدة كانت نتيجة اعتقاد المسيحيين بأن كل ما يصيب اليهود من ويلات هو عقاب من الله لهم بسبب “صلبهم” للمسيح، وأنهم بسبب خيانتهم يحملون ذنباً جماعياً يجعلهم دائماً موضع لعنة.

كيف ظهرت الصهيونية؟

هذا الواقع دفع اليهود للبحث عن حل لمشكلتهم، وقد كان أبرز هذه المقترحات إنشاء وطن قومي لهم، وقد بنيت هذه الفكرة على أساس المسيحية المتصهينة وهي مسيحية تؤمن بما تؤمن المذاهب المسيحية الأخرى فيما يتعلق بألوهية المسيح وبنوّته لله، كما تشاركها الاعتقاد بعقيدة التثليث والصلب والفداء. أما أهم ما يميزها فهو العقائد ذات الصبغة الصهيونية، والاعتقاد بأن لديها خطة إلهية للدهر تتضمن أحداثاً لا بد من وقوعها، فهي نبوءات آخر الزمان التي تشكل جوهر الفكر المسيحي الصهيوني، وفيما يلي أهم هذه العقائد:

عودة المسيح المخلص: حيث تؤمن المسيحية عامة بدور المسيح في خلاص البشرية من آثامها عبر صلبه ظلماً ليكفر عن خطايا البشر، وأضيف إلى هذا الاعتقاد لدى المسيحية المتصهينة الإيمان بأن المسيح سيعود في نهاية الزمان، وأن تاريخ نزوله يوافق رقماً ألفياً، ثم يؤسس مملكته التي تدوم ألف عام ومقرها القدس، كما أنه سيبطش بأعداء اليهود ويضع الأمم تحت أقدامهم، فيحكمون العالم معه.

كانت هذه في البداية رؤية اليهود للمسيّا أو الماشيح المنتظر عندهم، وهو شخص آخر غير عيسى بن مريم الذي ينكرون نبوته ويعتبرونه كاذبًا؛ لكن فكرة انتظار الماشيح سرعان ما تسربت إلى الأدبيات المسيحية وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من البروتستانتية، فأصبحوا ينتظرون المسيح كما ينتظر اليهود الماشيح. وهذه العقيدة تجعل الخلاص مرهوناً بالانتماء إلى اليهود (لدى اليهودية)، وبمساعدة اليهود (لدى المسيحية المتصهينة)، وتبرر أفعال القتل والإبادة في سبيل هذه الغاية.

أما ظهور شروط العودة المنتظرة، فهي: تجمُّع اليهود في دولة لهم هي إسرائيل، وذلك يوجب مساعدتهم والتقرب منهم، واحتلال القدس وانتزاعها من المسلمين، فهي المدينة التي سيحكم منها المسيح العالم، وإعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، ودعم دولة إسرائيل والدفاع عنها ومباركة سياستها، واعتبارها إشارة إلهية لرحمة الله واستجابةً لإرادته.

هنا ظهر تيودور هرتزل!

كان من بين من تأثر بهذه العقيدة الصحفي السويسري ثيودور هرتزل، ورغم الدور المركزي لهرتزل في المشروع الصهيوني، فإن ابتكار كلمة صهيونية يعود للصحفي السويسري ناتانبيرنبون، زميل هرتزل حين ابتكر هذا المصطلح عام 1890 م. وأكد بيرنبون بأن النهضة السياسية لليهود تتجلى بعودتهم الجماعية إلى فلسطين، أو بمعنى آخر إعطاء مضمون سياسي وقومي لليهودية.

وقبلهما، تبنت مجموعة من الحاخامات القضية اليهودية منذ أواسط القرن التاسع عشر مدفوعين بموجة معاداة السامية التي اجتاحت أوروبا في تلك المرحلة وتواصلت إلى أواسط القرن العشرين.

ومع ذلك، فإن هيرتزل هو أبو الحركة الصهيونية وصاحب مشروع الدولة اليهودية التي تحدث عنها بإسهاب في كتاب أصدره عام 1896 وحمل عنوان “الدولة اليهودية” بسط فيه أفكارا عملية فعالة سيكون لها إسهامها الكبير في إنجاح المشروع لاحقا. وتمحورت هذه الأفكار حول تهجير اليهود إلى فلسطين، والتعبئة من أجل القضية اليهودية عبر العالم، ثم تجنيد الأوساط اليهودية خلف فكرة الدولة اليهودية التي لم تكن ذات أهمية لدى فئات واسعة من اليهود وتحسب أول خطوة عملية ذات شأن في المشروع الصهيوني لجمعية أسسها الطلبة اليهود بمدينة خار كيف الأوكرانية في 1882 م وأطلق عليها جمعية “بيلو”، وحددت الجمعية لنفسها هدفا عمليا بسيط التنفيذ لكنه كان ذا فعالية كبيرة في إنجاز المشروع الصهيوني، من خلال إقامة تجمعات فلاحية لليهود الشرقيين في فلسطين. واكتسبت الحركة الصهيونية اهتماما سياسيا وإعلاميا هاما في أوروبا والعالم مع انعقاد مؤتمرها الأول بين 29 و31 أغسطس/آب 1897 م في مدينة بال السويسرية، وتوِّج المؤتمر أعماله بإعلان قيام الحركة الصهيونية العالمية وانتخب لها لجنة تنفيذية اتخذت من فيينا مقرا لها.

بعد ما وضع ثيودور هرتزل الحجرة الأساس للحركة الصهيونية بدأت تنشط هاته الأخيرة من خلال البحث عن راع لمشروعها وذلك من خلال ربط العلاقات مع القوى العظمى، وعلى رأسها المملكة البريطانية، وقد كان أبرز من أسس لهته العلاقة هو عالم الكمياء الروسي حاييم وايزمان، من خلال إقناع النخبة اليهودية في بريطانيا عن طريق ربط مجموعة من الاتصالات بيهود مانشستر بحيث تمكن من إقناع الكثير منهم بوجهة نظره وبعد فترة وجيزة أصبحت مانشستر مركز قويا من مراكز اليهود الصهاينة وقد حدث في أوائل عام 1906 أن تقرر إجراء انتخابات عامة في بريطانيا وكان من بين المرشحين آنذاك آرثر جيمس بلفور الذي رشح نفسه في دائرة مانشستر وكان بلفور أحد ساسة المدافعين على إقامة وطن لليهود وقد قابله حاييم وايزمان فعلق على المقابلة قائلا: (لقد أدركت أمرين : الأول أن رجلا مثل بلفور لا يدري حقيقة الصهيونية على الرغم من الدعاية التي نقوم بها منذ سنوات في بريطانيا والثاني أنه لو وجد في بريطانيا من يعرف المشكلة اليهودية على وجهها الصحيح لأمكننا كسب عطف السلطات البريطانية بل مساعدتها لقضيتنا)

    وفي سنة 1907 حضر وايزمان المؤتمر الصهيوني السابع وكانت الحركة الصهيونية منقسمة لقسمين قسم سياسي وقسم علمي فكان أنصار القسم الأول ينادون بطلب تصريح من سلطان العثماني قبل التوجه لفلسطين أما أنصار القسم الثاني فكان يرى ضرورة إحياء الهوية الصهيونية في نفوس اليهود من أجل خلق واقع في فلسطين وقد كان حاييم وايزمان مناصرًا للتيارين، فكان ينادي بالجمع بين القسمين حيث يرى بأن سلطة العثمانية كانت تضع العراقيل للمشروع الصهيوني كما اعتبر أن التصريح العثماني غير كاف لإقامة وطن لليهود مادام لم يتحمل اليهود مسؤوليتهم تجاه القضية.

بعد انتهاء المؤتمر التحق حاييم وايزمان بوزارة الحربية البريطانية عند نشوب الحرب حيث كلفته بتحضير مادة الأسيتون لاستعمالها في تحسين قذائف الأسطول وكان الأمر مهما لدرجة أن ونستون تشيرشيل وزير الحربية استدعاه لمقابلة خاصة وأعطاه كافة الإمكانيات ومطلق الحرية لتنفيذ ما كلف به وقد نجح وايزمان في مهمته وفي نهاية الحرب باع اختراعه مقابل مبالغ ضخمة وحصل على مكافأة من بريطانيا قدرها عشرة آلاف جنيه إسترليني نظير خدماته، وقد بدأ بعد هذا في إعداد الخطة لظفر بوعد بلفور من خلال دخول في مفاوضات مع الحكومة البريطانية في هذه الأثناء دخلت المفاوضات بين الزعماء الصهاينة والحكومة البريطانية حول إصدار تصريح رسمي وعلني يتبنى المطالب الصهيونية مرحلة متقدمة، لذلك عندما أعلن وايزمان في 20 أيار عام 1917، الاتحاد الصهيوني الإنكليزي أن الحكومة البريطانية جاهزة لتعلن عن دعمها للأهداف الصهيونية، حيث ألقى خطاباً جاء فيه تحت حماية هذه القوة العظمى أي بريطانيا، سيكون باستطاعة اليهود تطوير وإعداد الهيكل الإداري الذي سيمكننا من تنفيذ المخطط الصهيوني وأن الحكومة البريطانية على أتم الاستعداد لدعم مخططنا.

أغضب هذا الأمر يهود بريطانيا المعارضين للحركة الصهيونية، فعارضت منظمتان يهوديتان هما هيئة المندوبين اليهود البريطانيين والجمعية الأنجلو يهودية الحركة الصهيونية على أساس أن اليهودية دين وليست قومية، وفي 24 آيار 1917 نشر رئيسا المنظمتين على التوالي كلود مونتي فوري ودافيد اليكساندرا احتجاجا في صحيفة التايمز ضد البرنامج الصهيوني، أوضح فيه أن الصهيونية السياسية لا تتماشى مع الأسس الدينية اليهودية، بل تدعو إلى إقامة دولة يهودية علمانية، ورغم ذلك قوبلت هذه البيانات بالتجاهل التام، فلقد كان لويد جورج وبلفور يتعاطفون تعاطفاً تاماً مع المخطط الصهيوني وبدا واضحاً أن الحكومة البريطانية تخطو خطوات سريعة نحو إصدار بيان عام يحقق آمال الصهيونية في فلسطين بعد خروج المفاوضات الصهيونية البريطانية إلى العلن، وظهور المعارضة اليهودية التي تمثل خطر على مستقبل المفاوضات.

أصبح من الضروري زيادة الضغط على النخبة البريطانية الحاكمة، لذلك التقى وايزمان، وبرفقة اللورد روتشيلد، مع بلفور في مطلع حزيران 1917، وأكد له أن الوقت قد حان لإصدار تصريح نهائي يبين تأييد الحكومة البريطانية لإقامة وطن قومي لليهود فوعدهم بلفور أن يقوم بما في وسعه لتحقيق رغبات الصهاينة، وطلب أن تقدم الحركة الصهيونية صيغة الإعلان التي ترضها لتمريره على مجلس الحرب، وسرعان ما تألفت” اللجنة السياسية” لتضم مشاهير الساسة والمفكرين الصهاينة، وباشرت العمل لوضع مسودة تصريح يؤيد وجهة النظر الصهيونية لتتبناه الحكومة البريطانية ووضعت اللجنة عدة صيغ للتصريح منها المسودة التمهيدية التي قدمها سوكولوف مع مجموعة من مستشارين في 12 تموز 1917 ، الذين صاغوا مشروعاً تقوم الحكومة البريطانية بإصداره وجاءت هذه المسودة تؤكد على مبدأ الاعتراف بفلسطين وطناً قومياً للشعب اليهودي، ويحق للشعب اليهودي بناء حياته القومية في فلسطين تحت حماية تتقرر عند إبرام الصلح الذي يعقب الانتصار في الحرب، وعندما عرضوا هذه المسودة التمهيدية على وازرة الخارجية فاطّلع عليها كل من بلفور ومارك سايكس ولم يوافق عليها لأن صياغتها جاءت أطول من اللازم، وفضلوا في التصريح الذي تصدره الحكومة البريطانية يجب أن يركز على نقطتين أساسيتين هما: الاعتراف بفلسطين وطناً قومياً للشعب اليهودي، والاعتراف بالمنظمة الصهيونية.

صياغات جديدة

على ضوء هذه الملاحظات، وُضعت صياغة جديدة أبلغها روتشيلد في 18 تموز 1917 إلى بلفور، وجاءت هذه الصياغة قائمة على أن: توافق حكومة الملك البريطاني على مبدأ إعادة تركيب فلسطين لتصبح وطناً قومياً للشعب اليهودي، وأن تبذل حكومته أقصى جهودها لتأمين تحقيق هذا الهدف، وتبحث الأساليب والوسائل الضرورية مع المنظمة الصهيونية.

عُرضت هذه الوثيقة على وزارة الخارجية ووافقت عليها، وكذلك عُرضت على رئيس الوزراء لويد جورج ووافق عليها أيضاً، ولم يبقَ سوى عرضها على مجلس الحرب. عندئذٍ أرسل وايزمان رسالة إلى القاضي ب. أرنديس في الولايات المتحدة ليخبره بأن مجلس الوزراء البريطاني وافق على المشروع الذي قدّمه، وأنه سيكون ذا أهمية بالغة إذا ما أعلن الرئيس ويلسون تأييده لهذا المشروع.

عُرضت الصيغة الصهيونية المقترحة على مجلس الوزراء في الاجتماع المنعقد في 18 أيلول 1917، والذي كان لويد جورج وبلفور متغيبين عنه، وعارض الوزير البريطاني من أصول يهودية إدوين مونتاغو ذلك المقترح بشكل حاد، خاصة مصطلح “وطن الشعب اليهودي”، مما تسبب في سحبه من الاجتماع.

أغضبت المعارضة اليهودية الحركة الصهيونية، وهرعت لإنقاذ الموقف قبل أن تتبدد مساعيهم بالحصول على اعتراف بريطاني؛ لذلك قابل وايزمان وروتشيلد بلفور في 19-22 أيلول 1917، كل منهما على حدة، للتأكد من موقف الحكومة وأعضائها في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، إذ قال بلفور لهما إن مونتاغو لا يمثل الحكومة.

اقترحت الحكومة البريطانية إدخال بعض التعديلات على المقترح الصهيوني، تمثلت في تسهيل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بدلاً من اعتبار البلد بأكمله وطناً قومياً لهم، على ألا يمس ذلك حقوق الطوائف غير اليهودية في فلسطين، أو حقوق اليهود المكتسبة خارجها. إلا أن الإعلان عن التصريح المقترح أُجِّل بسبب ظروف الحرب، فارتاب الصهاينة من ذلك التأجيل، فأرسل وايزمان مذكرة إلى وزارة الخارجية في 3 تشرين الأول 1917 لعرضها على مجلس الحرب، وضّح فيها مدى تخوفه من المعارضة اليهودية التي يمكن أن تقف حائلاً أمام مصير الصهاينة والمصالح الاستعمارية، ودعا فيها أعضاء المجلس إلى الاعتراف الكامل “بالوطن القومي اليهودي”، الذي يعد ثمرة مفاوضات ومحادثات استمرت لأكثر من ثلاث سنوات مع ممثلين بارزين عن الحكومة البريطانية.

اجتمع مجلس الوزراء البريطاني في تشرين الأول 1917، واقترح اللورد ميلنر في نهاية الاجتماع صيغة معدلة للإعلان البريطاني، جاء فيها: “إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعطف ما بوسعها لتسهيل تحقيق ذلك الهدف؛ ومن المفهوم تماماً أنه لم يتم القيام بأي عمل يؤثر على الحقوق الدينية والمدنية للطوائف غير اليهودية في فلسطين، أو الوضع السياسي أو الحقوقي لليهود في أي بلد يرضون فيه بجنسيتهم ومواطنتهم الحالية.”

قرر مجلس الوزراء أن يتشاور مع الأطراف المؤثرة، واتفق الوزراء على إرسال الصيغة التي اقترحها ميلنر إلى الرئيس الأمريكي ويلسون، وقادة الحركة الصهيونية، وقادة الجالية اليهودية المعارضين للصهيونية، وذلك لطلب آرائهم وموقفهم من الصيغة المقترحة. وقد أبدى وايزمان غضبه عندما علم بقرار مجلس وزارة الحرب بسماع الطرفين، فأصدر مجلس الاتحاد الصهيوني الإنجليزي قراراً في 11 من تشرين الأول 1917 أعرب فيه عن رغبة اليهود في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، وحث الحكومة البريطانية على بذل جهودها لتحقيق هذه الغاية. وسرعان ما أصدرت في 21 تشرين الأول 1917 أكثر من 300 هيئة صهيونية قراراً بهذا المعنى، وأرسلت جميعها إلى وزارة الخارجية البريطانية.

اعترض اليهود المعارضون على عبارة “فكرة وطن قومي للجنس اليهودي”، معتبرين أن هذه العبارة تدل على أن اليهود يمثلون قومية، مؤكدين أنه ليس ثمة أمة يهودية أو عرق أو قومية، بل إنهم ديانة. أما مجلس الاتحاد الصهيوني برئاسة وايزمان، فاقترح استخدام لفظة “إعادة إنشاء” بدلاً من “إنشاء وطن”، واستخدام مصطلح “الشعب اليهودي” بدلاً من “العرق اليهودي”، وذلك في محاولة من الصهاينة لإيجاد رابط تاريخي بينهم وبين فلسطين، والحصول على اعتراف بريطاني بناء على ذلك الحق المزعوم.

لذلك قرر وايزمان والصهاينة، تجنباً لصعوبات أخرى، قبول مشروع اللورد ميلنر كأساس لسياستهم على أن يسعوا لتنفيذه، لأن وايزمان كان يخشى أن يؤثر ويلسون على الحكومة البريطانية، لأنه كان يرى أن إصدار تصريح في ذلك الوقت سابق لأوانه، ولأن الولايات المتحدة لم تكن في حالة حرب مع العثمانيين. لذلك، عندما حاول أرنديس الحصول على بيان رسمي من ويلسون، إلا أنه لم ينجح في تلك المهمة.

وأخيراً، توصلت جلسة مجلس وزارة الحرب البريطانية إلى قرار بالإجماع في 31 تشرين الأول بالموافقة على صيغة التصريح بشكلها النهائي، عندما أبرق الكولونيل هاوس نيابة عن ويلسون في 16 تشرين الأول إلى الحكومة البريطانية، معلناً تأييد الحكومة الأمريكية للتصريح. وكانت هذه البرقية من أكبر العوامل في حمل الحكومة البريطانية على الإسراع في إصدار التصريح.

حصيلة رحلة السياسة الصهيونية وبداية رحلة العذابات الفلسطينية

في الواقع، إن نص التصريح كان قد عُرض على الرئيس الأمريكي ويلسون، ووافق على محتواه قبل نشره، بينما كانت وزارة الحرب مجتمعة لتقرير النص النهائي للتصريح. كان وايزمان ينتظر خارج قاعة الاجتماع، ثم خرج سايكس معه بالوثيقة ليفرح بها وايزمان قائلاً له: “قد رزقت بولد” ويصف وايزمان ردة فعله على هذه البشرى قائلاً: “لكني لم أحب هذا المولود لأول وهلة، لأنه لم يكن المولود الذي أردناه، لكنني كنت أعلم أن هذا الذي حدث هو شيء عظيم في تأريخنا.”

أصدر بلفور تصريحه المعروف بصفته وزيراً للخارجية على هيئة رسالة موجهة إلى اللورد روتشيلد بناء على رغبة وايزمان في 2 تشرين الثاني 1917.

وكان نص الوعد كالآتي: “يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته التصريح التالي الذي ينطوي على العطف تجاه أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأُقرّ: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يُؤتى بعمل من شأنه أن ينقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.”

ومن هنا، فقد كان تصريح بلفور حصيلة التخطيط الدبلوماسي الصهيوني، وهذا النصر الدبلوماسي له صلة بوايزمان وإدراكه للعقلية البريطانية الاستعمارية، وما يتناسب معها من اقتراحات ومبادرات تخدم مصالحهم بشكل أو بآخر. ونجح وايزمان أيضاً في ترسيخ مطالب برنامج هرتزل الذي يدعو إلى طلب التأييد من الأمم الأخرى لحق اليهود الشرعي لبناء وطن قومي في فلسطين.

 المصادر:

جيمس بلفور.. سياسي بريطاني قمع ثورة الأيرلنديين وتسبب باحتلال فلسطين:

https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2014/11/6/%D8%AC%D9%8A%D9%85%D8%B3-%D8%A8%D9%84%D9%81%D9%88%D8%B1

روتشليد: من مهووس بالحيوانات إلى استصدار وعد بلفور:

https://www.bbc.com/arabic/in-depth-41818760

تيودور هيرتزل: الدولة اليهودية

مذكرات حاييم وايزمان دراسة وإعداد الحسيني معدى

كارل ماركس: حول المسالة اليهودية

روجيه جارودي: الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية

المسيحية الصهيونية. موسوعة السبيل   

شارك المقال
Exit mobile version