حيادية الدولة العَلمانية… بين الحِياد والانحِياز

هبة البغدادي البارزي

يرى مؤيّدو العلمانية، أن في تطبيق مبدأ العلمانية الدّيمقراطيّة في الدّول الإسلاميّة عامةً والعربية خاصّةً؛ طريقًا إلى الخروج من الحالة المترديّة التي تعيشها في الواقع المعاصر، فالعَلمانيّة بهذا الرأي، بديل سياسيّ يحمل مرجعيّة قانونيّة ودستوريّة بشريّة متعالية قادرة على تجاوز أي مرجعيّة دينية وحزبيّة أخرى.

يسوّق هؤلاء للعلمانية بوصفها مظلة ستعيش تحتها جميع الأديان والطوائف، متساوية في الحقوق، مع ضمان الحرية الفردية الاعتقادية، شريطة ألا تَضرّ الممارسات لهذه الحريّة بالنّظام العام، وألّا تتعارض مع قوانين حقوق الإنسان، مّما يعني أن حريّة الأديان ليست مُطلقة، وإنّما مُقيّدة بمزاج النّظام العالمي، وميثاق حقوق الإنسان.

حيادية الدولة العَلمانيّة

لضمان أن يكون الجميع متساويًا أمام القانون، ولئلا تعطى أي امتيازات لأي جهة دينيّة أو حزبيّة من قبل الدولة على حساب مجموعات أخرى، تمت صياغة مفهوم جديد، إنه مفهوم الحياديّة، حيث إن الدولة نفسها مجبرة بألا تتبع أي دين، بل ينبغي أن تَتبنّى الحياد كموقف رسميٍّ ثابت[1].

 ولنعلم مدى فاعليّة الحياديّة علينا أن ننظر إلى تطبيقاتها في الواقع الذي خرجت منه، ولكن لنُعرّج أولاً على دلالة المُصطلح ومفهومه.

إنّ مصطلح حيادية الدولة العلمانية أو الدولة الحيادية ويطلق عليها بالإنكليزية State Neutrality، وهو المبدأ الذي يَضمن حياد الدولة العلمانية تجاه الأديان والقضايا المتعلقة بها، سواء على الصعيد التشريعي أو على الصعيد العام، كعدم السّماح لأي مظاهر أو رموز دينية في مؤسسات الدولة والمرافق العامة التابعة لها، ويشمل ذلك الدوائر الحكوميّة والمدارس والشرطة والقضاء، وتتفاوت درجة المنع أو التقييد حسب الدولة أو الولاية أو طبيعة المنشأة.[2]

ولنتعمق أكثر في مصطلح الحيادية أنقل لكم تعريفاً موجزاً لها من موقع السفارة الفرنسية في مصر: “إن العلمانية تنطوي على حياد الدولة […] واستناداً إلى مبدأ المساواة لا تمنح الدولة العلمانية أي امتياز عام إلى أي من العبادات والأديان… كما أنه يجب على كل ما هو ديني وروحاني الامتناع عن فرض أي هيمنة على الدولة وأن ينأى عن أي بعد سياسي… وتميز العلمانية بين حرية التعبير الروحانية أو الدينية في المجال العام.. وبين الهيمنة على المجال العام، الذي يعد أمر غير شرعي..” [فرنسـا في مصـر، الموقع الالكتروني لسفـارة فرنسا في جمهورية مصر العربية، مؤسسات ومجتمع – تطبيق مبدأ العلمانية].

الحياديّة العَلمانيّة وأزمة الحجاب

إن مبدأ الحيادية يسمح للدولة بسنّ القوانين التي تحدّ من الهيمنة الدينيّة على المجالات السّياسيّة والعامّة، ومن هذه القوانين قانون منع ارتداء الحجاب في الدوائر الرسميّة وبعض الأماكن العامّة، باعتباره رمزاً دينيّاً، ممّا أفضى إلى جدل واسع حول جدوى هذا الحظر وما يترتب عليه من مَنع للمرأة المُسلمة من المشاركة العامّة والفاعلة في المجتمع الغربي، فهل يعتبر هذا القرار الذي يُنظر له كقمع للحريّة الفرديّة والدينيّة كقرار مَشروع للحفاظ على حياديّة الدّولة؟

لقد أطلق تكتّل حزب الخضر الألماني في مجلس النّواب بهذا الصدّد مبادرة سياسيّة في محاولة لإلغاء قانون الحيادية، باعتباره قانوناً يؤثّر على مجموعة من المتديّنين وعلى النّساء المسلمات في المقام الأول، ويمنع من الاستفادة من كفاءاتهنّ التي تحتاجها ألمانيا[3].

وقد قدمت مؤسسة Open society بالتعاون مع الشبكة الأوروبية المناهضة للعنصرية تقريراً موسّعا في هذا الشأن، يُفصّل في القيود المفروضة على لباس المرأة المسلمة في دول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، والتي عرقلت وصولها للفرص والخدمات المُختلفة، ومنها الدراسة والعمل، وأيضاً أثّرت على خروجها من منزلها بالمطلق.[4] 

الحيادية ومنع حرية الصّلاة

لنأخذ حالة أخرى نوضح من خلالها أزمة الحياديّة، وهي أزمة منع الصلاة في عَدَدٍ من المدارس الأوروبيّة بناء على قانون الحياد للدول الغربية، باعتبار أن الصّلاة مظهر ديني لا يجب أن يُمارس في منشأة حكوميّة مثل المدرسة، لأنّه قد يهدّد المظهر الحيادي للدولة، ويؤثّر على الوعي الجمعي وعلى تعزيز العيش المُشترك، وحريّة الاختيار العقدي.

والقرار بمنع الصلاة أو عدمه، راجع لسياسة كل مؤسسة تربويّة بحسب التقديرات لشدّة تأثير السّماح بالصلاة على الحيّادية وحرية الاعتقاد في المؤسسة نفسها[5].

خوفٌ مشروع أم محض خيالات؟

هذه النّظرة للصلاة والحجاب كرموز دينيّة تُهدِّدُ التعدديّة والحريّة الدينيّة، راجع لتأثّر فكري وتصوّري لمن يجدون الحقّ في منعهم، حيث ينظرون لهذه الممارسات من منطلق التهديد على الهويّة والقيم الأوروبية، لا من منطلق الحريّة الدينية الشخصيّة والفرديّة، ولا من باب احترام الرغبة الشخصيّة، والتي لا يجب للدولة أن تتدخل بها، بل يكون دورها مَحصوراً في نطاق الحامِي لهذه الحقوق والرّغبات بحسب مبدأ الحرية والعَلمانيّة.

بين الحِياد والانحِياز

وعلى النّقيض تماماً مَن يتابع الواقع الغربي يشاهد لوناً برّاقاً من الحرية المُصدّرة في الإعلام، كالدّعم الكبير للاحتلال مِن قِبل بعض الدّول الغربية، حيث فُتح الباب للمظاهرات الدّاعمة للاحتلال وقُمِعت نَظيراتها المعارضَةُ لَهُ، وبالإضافة لذلك نُشاهد الدّعم مُنقطع النّظير للنسوية والحركات المناهِضة للتمييز بين الجنسين، ومن أحد أشكال هذا الدعم هو المشاركة في احتفالات ما يسمى شهر “الفخر” لدعم الحركات التي تتبنّى نظرية التنوع الاجتماعي (الجندر)، فَقَد رُفعت الأعلام الملوّنة في كثير من الأماكن العامّة وعلى مباني الدوائر الرسمية والحكومية الغربيّة.

 ولكن لم يَلقَ هذا الفعلُ تأييداً عامّاً حيث عارضَهُ مجموعَةٌ من المحافظين، وبعضٌ من أولياء الأمور الذين قاموا برفع دعاوى لإزالة العَلم من المدارس في مدينة برلين، وتصاعد في الآونة الأخيرة نشاط حركة المعارضين للجندريّة في العالم[6]، باعتبارها أجندة تؤثر على المجتمع وتُهدِّدُ مبدأ الحياديّة.[7]

 وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على صعوبة تطبيق الحياد التَّام، واستحالة عدم الانحياز لمجموعة ضدّ أخرى.

الحرية العقدية للمسلمين في دول الغرب

قد يقول قائل بعد كل ما ذكرناه آنفاً أنّ هذه المَبادئ ضِمنَت للأقليّة المسلمة في الغرب ممارسة دينهم بحريّة، والكلام يبدو في ظاهِرهِ صحيحاً، لكنّ هذه الحريّة حملت في طيّاتها كثيراً من الشوائب والعوائق والتحدّيات، فالعلمانيّة تعطي الحرية للجميع من الأديان والطوائف والجماعات، وجميعهم يجلسون على طاولة واحدة اسمها التعدُّديّة ليتحدثوا عن تحدياتهم ومشاكلهم التي يتمّ جَمعها في مصطلح التمييز ضدَّ الآخر.

 والمساواة هذه لاتعدّ عَادلَةً، لعدم منطقيّة المساواة بين أديان سماوية متأصّلة في البشر، وبين أجندات بشريّة حديثةٍ يتمّ فرضها على المجتمعات.

إضافة لما سبق، فإن العلمانية لا يقتصر دورها على تنظيم الشؤون بين الجماعات، بحيث تُحقِّق رغباتهم وتَصون حريّاتهم، وإنّما تضع حدوداً وتَقييدات، فالحريّة الدينيّة التي تَمنحها العَلمانيّة للفَرد، مَحصورةٌ في حرية الاعتقاد والممارسة ضمن النطاق الفردي والجماعي الضيق فقط، وتمنع من التَّدخل في الشؤون العامة، فالمسلم مُضطّرٌّ للاحتكام إلى القوانين الغربية الوضعية في أمور الطلاق والزواج والميراث التي يتعارض كثير مع الإسلام.

أمّا فيما يخص التربية والتعليم فالمناهج التربوية مُنبثقة من رؤية عَلمانية تَرفُض التصوّرات الدينيّة عن الإنسان والعالم، وتحصر الدين في مجال الأخلاق والشأن الخاص، وبالتالي تقدّم -أو بمعنى أدق تِفرِض- تصوّراتها الخاصة عن الكون، كنظريات التطور ونشوء الكون والاختلافات بين الجنسين، ومفهوم حرية الجسد.

بين المرونة وعدم الثّبات

ما يجعل العَلمانيّة والحيادية متعارضة مع الإسلام بشكل أساس، هو مرجعيتها البشرية المُتقلّبة، ومواقفها الأخلاقيّة غير الواضحة، والتي تشكل نقطة ضعف بنيويَّة في التصور العلماني، والتقلّب المستمر يعكس غياب مرجعية ثابتة، مما يجعل المجتمعات عرضة للتجريب المتكرر، دون ضمان للاستقرار المعنوي أو التشريعي.

حيث تتغير السياسات بتغير السياسييّن والأحزاب، على عكس الإسلام الحقّ الذي من صفاته الثّبات في الأساسيّات الكبرى والأصول التشريعيّة، والذي من شأنه أن يخلق استقراراً ومعنىً للحياة وهدفاً واضحاً للناس.

لقد بدأ المفكرون والباحثون في إعادة صياغة العَلمانية بعد ظهور الخَلَل والأزمات في التطبيق، ويتطلّعون لمرحلة ما بعد العَلمانيّة، والتي يحاولون فيها فهم دور الدّين في حياة النّاس بشكل أفضل، بعد أن اعترفوا بخطئهم في تقدير قوة حضور الدين في العَالم وارتباطه بالبشر، وبصعوبة فَصله عن التأثير في مجالات الحياة[8].

المرجعيّة الكبرى، والانحياز المتأصّل في النفس البشرية

كَتب الدكتور سامي العامري في كتابه العَلمانيّة طاعون العصر: “إن إنكار الخلفيّة الإلحاديّة للعَالمانيّة خيانة للحقيقة التي لم تظهر إلا لتقليص الدين أو إلغائه. إن نظرة شموليّة كالتي تقدمها العالمانيّة في الكشف عن (الحقيقة) و(المنفعة) لا يمكن أن تنفكّ عن اتصال عميق بتصور كُلّي ينافس الدين في طرحه الكوني.. وإذا كانت هي كذلك -العلمانيّة- فماذا أبقت للدين بعد أن استأثرت بكشف الحقيقة بكليّتها ونفخها في عقول الناس وأفئدتهم؟!”[9]

هذه العَلمانيّة التي تحمل تصوّراً للكون، لابدّ وأن تميل لفكر دون الآخر وتُميّز مجموعة دون أخرى، وذلك راجعٌ أيضاً لطبيعة النفس البشرية المُتقلّبة والمتأثّرة بمن حولها، والّتي تجعل من الصعب تجنّب الانحياز في السياسات والمُمارسات، وإن كان الإنسان تُحرّكه الأهواء والمصالح دون وازعٍ من دينٍ أو رادعٍ من أخلاق، فما الضّامن لعدم ميله وانحيازه للأفكار والجماعات؟

ختاماً..

ربّما لم تُفلح الدولة العلمانية بالحفاظ على الحِياد تِجاه قضاياً تَمسُّ الهوية والقيَم الغربيّة التي انبثقت منها، ولا تجاهَ الإسلام الذي ظَهر بقوةٍ في أوروبا بعد تزايد أعداد المهاجرين المُسلمين إليها، على الرّغم من أن المسلمين مازالوا قلّة قليلة لا تتجاوز الخمسة بالمئة من مجموع الشّعب الأوروبي، وذلك لأنّ دين الإسلام دين لا يَقبل إلّا الظّهور، وأتباعه من المسلمين مازالوا من أشدّ النَّاس تَمسّكاً بدينهم، ممّا يجعل العلاقة بين الإسلام وبين العَلمانيّة علاقة تصادمٍ وتنافر.

وبالنسبة للغرب شكلّ الإسلام تَحديّاً حقيقيّاً مُنافساً للعلمانيّة، وذلك لأن الدّين الإسلامي يحمل منظومة قويّة مُتماسكة وشاملة لكلّ مرافق الحياة، ويراعي الجانب الروحي والنّفسي للإنسان، وأيضاً حاجاته الفطريّة وقيمته الإنسانيّة، والتّي أخفقت العَلمانيّة في تعبئة تلك الفراغات الذي خَلّفها إقصاء الدّين من حياة الإنسان الأوروبي، ما أدّى بهم إلى محاولة إعادة صياغة مرحلة ما بعد العلمانيّة، عندما أدركوا متأخرين أن الدين حاجة فطرية للإنسان وَضرورةٌ مُلحّة، وليس مجرّد فكرةٍ عابرة في التاريخ.


[1] يُنظر في بحث: ما الذي نعنيه بحياديّة الدولة؟، بسّام القوتلي، المركز العربي لدراسات سوريّة المعاصرة، تاريخ: 16. آذار,2020، وَفي: سوريا والعلمانية وحيادية الدولة، د.بشار علي الحاج علي، مركز أبحاث مينا، 24. ديسمبر.2024

[2] يُنظر في موسوعة أكسفورد البحثية: Secularism in Political Philosophy، وفي ويكيبيديا العربية: دولة علمانيّة.

[3] German_Greens_push_to_abolish_neutrality_act, allowing_headscarves_for_civil_servants_Euronews

[4] opensocietyfoundations_events_towards-more-inclusive-europe-countering-restrictions-muslim-womens-dress-eu

[5] theguardian_this_ban_on_Muslim_praying_in_school_is_a_dystopian. , dw_School_prayers

[6] Anti-gender movement

[7]europeanconservative_german-parents-file-lawsuit-to-take-down-lgbt-flags-in-school

[8] العالمانيّة طاعون العصر، تأليف: د.سامي عامري، الطبعة الأولى 2017، الفصل الثاني: الحقيقة الواقعيّة للعالمانيّة، المبحث الثالث: مابعد العَلمانية وأزمة العَلمانيّة، ص 167-185

[9] المصدر رقم 7: الفصل الرابع: الصورة الدعائية للعلمانية، المبحث الأول: التدليس في تعريف العلمانية بنفي حقيقتها، المطلب الثاني: فصل العَلمانية عن أصولها الفلسفية، ص: 257

شارك المقال
Exit mobile version