الوحي القرآني

image_print

تحققنا في مقال “نبوة محمد” من ضرورة النبوة وحاجة الإنسان إليها كمصدر وحيد لبلوغ الحقيقة في الغيبيات، وتبين لنا أيضاً صدق نبوة العربي الأمي محمد بن عبد الله، المولود بمكة في القرن السادس الميلادي، وكونه مرسلا من الله إلى عباده، وسنبحث هنا في الوحي الذي أنزل إليه متمثلا بالقرآن الكريم الذي جُمع على هيئة كتاب وما زال محفوظاً إلى اليوم، ففي مقابل الشكوك التي يقر بها باحثو الأديان الأخرى، يُجمع علماء الإسلام على مر العصور وبالتواتر بأن الكتاب المتوفر بين أيدينا اليوم هو القرآن نفسه المنزل على النبي بواسطة الملَك جبريل.

سنركز بحثنا في مصدرية القرآن وصدق نسبته إلى الله تعالى مباشرة بألفاظه ومعانيه، كما سنتحقق من صحة توثيق هذا الكتاب وتدوينه ونقله بالتواتر حتى وصل إلينا بالرغم من مرور أكثر من أربعة عشر قرناً، وسنعرض بعض الأمثلة والنماذج التي تثبت صحة هذا الوحي وعصمته من التحريف، ونناقش بإيجاز أهم الشكوك التي تُطرح في هذا المجال.

البحث في مصدرية القرآن:
سنعالج هذه المسألة في تسع نقاط مهمة، وهي كما يلي:

النقطة الأولى: حاجة صاحب الرسالة إلى القرآن

المسجد النبوي في المدينة المنورة بمنتصف القرن التاسع عشر

فقد مر صاحب الرسالة ببعض المواقف المحرجة، وكان نزول الوحي السبيل الوحيد للتخلص منها، وفي حال تأخر الوحي كان يتعرض للحرج لأنه لا يستطيع حسمها، وأبرز هذه الحالات “حادثة الإفك”، حين خاضت الألسنة بزوجته عائشة، واتهما البعض بالزنا، ولم يكن بين يديه ما يمكنه من معرفة الحقيقة، ولم يشأ أن يتبع الظن، فتمنى لو نزل الوحي بقرآن يحسم الأمر، ولم يزد في هذه الفترة على التحري والاستشارة، وطوال هذه المدة لم يدعي أن له طريقة للعلم بحقيقة التهمة من غير طريق الوحي، فبقي ينتظر الوحي دون أن يتمكن من استعجاله بالرغم من حاجته الشديدة له.

ولو كان كاذبا لزعم نزول آية تبرئ زوجته على الفور، وحمى بذلك عرضه من لسان أعدائه المتربصين، إلا أنه ظل منتظرا كبقية أصحابه حتى نزلت سورة النور لتبرئة عائشة.

النقطة الثانية: توقف صاحب الرسالة -أحيانًا- في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان
وفي القرآن آيات تحتاج لبيان معناها، ولو كان القرآن من تأليفه فكيف يقول كلاماً لا يفهم هو معناه؟ وقد يتضمن القرآن أيضاً أمراً لا يعرف حكمته، وهذا دليل على أنه ناقل لا قائل، ومثال ذلك ما جاء في القرآن: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فظن أصحابه أنهم سيحاسَبون على كل شيء حتى خواطر القلوب، فقالوا: يا رسول الله نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال لهم “أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير” [رواه مسلم]، فكانوا يتضرعون بهذه الدعوات حتى نزل التوضيح: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وهنا علموا أنهم مُحاسبون على النوايا والعزائم وليس على الأماني والخواطر العابرة.

فلو كان صاحب الرسالة قد اخترع تلك الآية من عنده ابتداءً، فلماذا لم يبين لهم خطأهم ويزيل اشتباههم، وهم في أشد الحاجة إلى بيان معناها؟

النقطة الثالثة: طريقة صاحب الرسالة في حفظ القرآن أول نزوله
كان الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الرسالة يكرر القرآن على عجل، بهدف حفظه خشية نسيانه، وهذا أمر لم يُعْرف به في كلامه العادي، فلو كان القرآن من عند نفسه لقاله كما يقول أي كلام آخر، غير أنه كان يجد نفسه أمام تعليم يفاجئه في وقت معيَّن وعلى عجل، مما يتطلب تكراراً سريعاً لحفظه وتدارك نسيانه، وقد ظل على هذا الحال حتى ضمن الله له حفظ القرآن وعدم نسيانه {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]،فتوقف عندئذ عن التكرار، ولم يكن ينسى شيئاً من القرآن.

رسم لمكة يعود إلى عام 1790

النقطة الربعة: هل كان القرآن من تأليف محمد؟
في الحديث عن الماضي وما كان به من أمم، وما جرى عليها من أحوال، وإعطاء معلومات دقيقة حول ذلك، فهذا لا سبيل إليه إلا بالدراسة والتعلم. ومثال ذلك قصة أصحاب الكهف ضمن سورة الكهف والتي جاء ذكرها في الكتاب المقدس، فمع أن الأخير قال إنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية، فقد ورد في القرآن أنهم لبثوا في كهفهم {ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا}، وهذه السنوات التسع هي فرق مابين عدد السنين الشمسية والقمرية، وهو حساب لم يكن معروفا لدى العرب الأميين.

صحيح أن العلم بأسماء بعض الأنبياء والأمم الماضية وبمجمل ما جرى من حوادث التدمير في ديار عاد وثمود وطوفان نوح وأشباه ذلك وصل منه شيء قليل إلى العرب الأميين؛ لأن مثل هذه الأخبار مما توارثته الأجيال، وإنما النقطة المهمة فتتمثل في التفاصيل الدقيقة، التي ينبغي ألا تتوفر إلا في بطون الكتب والتي لا يعرفها إلا القليل من الدراسين، لكننا وجدنا ذلك واضحاً في القرآن.

ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رجلا أميا في أمة أمية، يشغله ما يشغلهم من المجالس وطلب الرزق في الأسواق أو المهن المتنوعة، وله زوجة وأبناء يعيلهم، ولا صلة له بالعلم والعلماء؛ وكان خصومه يعلمون أنه عاش هذا الحال أكثر من أربعين سنة من عمره، ثم بين عشية وضحاها جاء بما لا معرفة له به في حياته السابقة، وأخبر عن أخبار القرون الأولى،لا شك أن العقل المجرد يدرك أن لهذا التطور في المعرفة سر خارج عن حدود النفس وعن دائرة المعلومات القديمة، وهو الوحي.

النقطة الخامسة: أنباء المستقبل لا سبيل فيها لليقين إلا بالوحي الصادق
في الحديث عن الغيب والمستقبل يكون الإنسان أمام ثلاث احتمالات:

1- أن لا يخوض فيه لأنه لا سبيل لمعرفته.

2- أن يتوقع أمورا مستقبلية من خلال مقدمات علمية أو علامات ظنية، وقد يوافق المستقبل توقعاتهم دون يقين.

3- أن لا يمتلك المقدمات العلمية أو العلامات الظنية لكنه يجزم بصحة تنبؤاته، فهذا أحد رجلين: فإما أن يكون مجازفاً كالعرافين والمنجمين، أو نبياً يستمد معرفته من الوحي.

وبالمقارنة بين ادعاءات المنجمين ونبوءات محمد صلى الله عليه وسلم يبدو الفرق واضحا، فالادعاءات تأتي غالبا مبطنة بالرموز والعبارات المبهمة التي تحتمل التأويل، بينما ذكر النبي أحداثا واضحة ستقع في حياته أو بعد مماته على فترات متفاوتة، وقد تحقق الكثير منها، وما زال الباقي ينتظر التحقق كما وعد في آخر الزمان. ومن أمثلة ذلك:

المثال الأول: تأكيد الوحي حفظ القرآن دون الكتب السماوية الأخرى التي ضاعت وحرفت {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:10]، بالرغم من المحن التي واجهت النبي أثناء نزول هذه الآية وبعدها، وبالرغم مما تعرضت له دول الإسلام على مر القرون، من تسلط الكثير من الجيوش وحدوث المجازر الجماعية وإحراق الكتب وهدم المساجد، فإن القرآن ما زال محفوظا بكل كلماته وحروفه دون تبديل.

المثال الثاني: كان النبي عرضة للكثير من محاولات القتل، وكان من أصحابه من يحرسه ليتمكن من تبليغ دعوته، حتى نزل {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فقال لحراسه في تلك الليلة “يأيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله”.

إن ضمان السلامة من الأمور التي لا يمكن أن يملكها أحد لنفسه، لا سيما إن كان محاطاً بالكثير من المحاربين له، فما هذه الثقة التي تدعوه لإعفاء حراسه من مهمتهم،  لقد كان بإمكان أي رجل من أعدائه أن يسارع إلى قتله فور نزول هذه الآية ليثبت أنها ليست وعداً إلهيا بحمايته، لكن هذه النبوءة تحققت فعلا، وبالرغم من الحروب الكثيرة التي خاضها، إلا أنه لم يمت حتى بلّغ الرسالة كما وعده الوحي، وحتى نزلت عليه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

المثال الثالث: قضية تحدي الناس على الإتيان بمثل القرآن {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، حيث نفى إمكان ذلك بشكل مؤكد، بل ومؤبد، وهذا حكم خطير، خصوصاً أنه بذلك استفز قدراتهم البيانية، ودعاهم للتكاتف بحيث يعين بعضهم بعضاً في التأليف والتهذيب حتى يخرجوا كلامًا منافسا، ولم يكتف بذلك بل أعلن أن هذا التحدي عام يشمل الأجيال القادمة، ومن الإنس والجن.

المثال الرابع: نبوءة انتصار الروم على الفرس رغم مخالفتها للتوقعات وللتحليل السياسي في وقت نزول الآيات من سورة الروم: {ألم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}، ذلك أن دولة الروم في تلك الفترة بلغت من الضعف درجة أنها غُزيت في عقر دارها وهزمت بمعركة أنطاكية سنة 613م، ولم يكن أحد يظن أنها ستقوم لها بعد ذلك قائمة، فكيف بمن يحدد وقت انتصارها ببضع سنين فقط؛ ولذلك تراهن المشركون على تكذيب النبوءة، ثم فوجئوا بتحقق الوعد وانتصار الروم على الفرس في معركة كابادوكيا سنة 622م، أي خلال تسع سنين.

كما أن هذه الآية لم تحدد عدد السنوات واكتفت بلفظ بضع أي بين الثلاث والتسع سنوات، وعلة ذلك اختلاف الناس في حساباتهم، فالحساب الشمسي غير الحساب القمري، لذلك عبر بلفظ “في بضع”.

المعركة بين الفرس والروم بريشة پييرو فرانشيسكا في منتصف القرن الخامس عشر

وإضافة لما سبق، فإن صاحب الرسالة لم يكن يدعي لنفسه معرفة بالغيبيات، بل كان يؤكد على بشريته كقوله: “إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له على نحو ما أسمع…” [رواه البخاري]، أي أنه يحكم بناء على المعطيات التي بين يديه ما لم يأته وحي إلهي، ومن كان بهذا الحال فكيف يزعم لنفسه القدرة على التنبؤ بالمستقبل من عند نفسه، وهو أمر لا نجده في سيَر الدجالين والسحرة ممن يجدون في التواضع علامة نقص، فيخوضون في ادعاءات تتجاوز قدراتهم.

إن الفراسة والذكاء في مواضيع الغيب لا تفيد، والمرء في كلامه عنهما يتخبط، إن أصاب الحق مرة أخطأ مرات، لكن نبوءات النبي لم تخطئ مرة واحدة، مما يدلل على أنه تلقاها بالوحي الإلهي.

النقطة السادسة: هل نسبة القرآن للوحي تحصن كلام صاحب الرسالة؟
وهذا السؤال يفترض أن محمداً رأى أن ينسب القرآن للوحي الإلهي، ليُكسبه مكانة عظيمة عند الناس، فيتبعونها أكثر ما لو نسبه إلى نفسه، والحقيقة أن هذه الفرضية باطلة من وجهين:

الوجه الأول: إن صاحب القرآن صدر عنه كلام منسوب إلى نفسه (الحديث)، وكلام منسوب إلى ربه (القرآن)؛ ومع ذلك فطاعة أحدهما من طاعة الآخر، ومعصية أحدهما من معصية الآخر.

الوجه الثاني: هذه الفرضية تعني اللجوء إلى الكذب لغاية الإصلاح، وهذا سلوك منحط  لم يعهد عنه في سيرته التي تؤكد أنه أبعد الناس عن ذلك.

النقطة السابعة: الإقرار سيد الأدلة
النصوص القرآنية تبين أن هذا القرآن ليس من عمل صاحب الرسالة، وإنما نقل بواسطة جبريل الذي تلقاه من ربه، ثم نزله بلسان عربي مبين فتلقنه محمد منه كما يتلقن التلميذ عن أستاذه، ولو وجدت هذه القضية قاضياً عادلاً –كما يرى الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه النبأ العظيم- لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، لأنها من نوع “الإقرار” الذي يؤخذ به صاحبه، لا سيما أنه لا مصلحة لعاقل يدعي لنفسه حق الزعامة ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة، ثم ينسب بضاعته لغيره، ويتبرأ من نسبتها إليه؟ على حين أنه كان يستطيع أن ينسبها لنفسه فيزداد بها رفعة.

دير بحيرا الراهب في بصرى الشام

النقطة الثامنة: أمية محمد
من المعلوم أن النبي عاش حياته وهو لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وحاله هذا يشبه حال أكثر العرب في زمانه، فهم أمة أمية تحفظ الشعر، لكنها لم تكن من الأمم المنتعشة علمياً بحال، ويسجل التاريخ أن أقصى من التقى بهم محمد صلى الله عليه وسلم ممن لهم شيء من العلم في طفولته بحيرا الراهب في سوق بُصرَى بالشام، وكذلك لقي في مكة بورقة بن نوفل بعيد نزول الوحي لأول مرة، وقبل إعلان نبوته بثلاثين شهرًا، والتقى بعد نبوته كثيراً من علماء اليهود والنصارى في المدينة، إلا أنه لم يتلقَّ عن أحد منهم، وقد صحبه الشهود في لقاءاته، فكان عمه أبو طالب معه حين رأى راهب الشام، وكانت زوجته خديجة رفيقة له حين لقي ورقة، ولم يزد الرجلان غير أنهم رأوا فيه سيما النبوة، وأما الذين لقوه بعد النبوة فقد سمع منهم وسمعوا منه، وكان هو معلمًا لهم مصححاً لأخطائهم ومنذراً ومبشراً.

النقطة التاسعة: علاقة محمد بعلماء الدين في زمنه
صوَّر القرآن عقيدة علماء الدين في زمنه، فعاب عليهم التلاعب بالعقائد وتحريف كلام الله، فلو تعلم محمد منهم شيئاً لتبنى وجهة نظر معلميه بدلا من نقدهم، بل إن القرآن تقدم على ذلك بخطوات وصحح لهم أغلاطهم وتوعدهم بالعذاب، ومن ذلك:

{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ}

{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}

{وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}.

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ}

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ}

{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}

{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}

{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}.

وبهذه الآيات يبدو واضحاً أن علاقة محمد بعلماء الأديان الأخرى، لم تكن علاقة التلميذ الذي يحفظ منهم، بل كانت علاقة الأستاذ الذي يصحح لهم ما حرَّفوا، ويكشف ما كتموا.

ظاهرة الوحي وتحليل عوارضها
روى لنا الصحابة في أحاديث عديدة الحالة التي كانت تعتري النبي أمامهم عندما كان ينزل عليه القرآن فجأة دون معرفة مسبقة منه ولا استعداد، فكان يحمر وجهه فجأة وتصيبه شدة حتى يتصبب جبينه عرقًا، ويثقل جسمه حتى يكاد يرُضُّ فخذه فخذ الجالس إلى جانبه، ولو كان راكبًا لبركت به راحلته، وكانوا مع ذلك يسمعون عند وجهه أصواتًا مختلطة تشبه دويَّ النحل، ثم تذهب عنه تلك الشدة فإذا هو يتلو قرآنًا جديدًا محدثًا.

ويرى الدكتور دراز أن الباحث عن مصدرية القرآن سيجد هذا أقرب مكان يتأمله، فعندما نقارن ما كان يصيب النبي أثناء نزول الوحي مع عارض السبات الطبيعي الذي يعتري المرء في وقت حاجته إلى النوم؛ نجد أنها حالة تختلف عن التدريج الذي يعرض لمن يغالبه النعاس، فقد كانت تأتيه قائمًا أو قاعدًا، وسائرًا أو راكبًا، وفي أثناء حديثه مع أصحابه أو أعدائه، وكانت تأتيه فجأة وتزول عنه فجأة، وتنقضي في لحظات يسيرة، وتصاحبها أصوات غريبة لا تسمع منه ولا من غيره عند النوم.

وحالة الوحي هذه تناقض كذلك الأعراض المرضية والنوبات العصبية التي تصفرُّ فيها الوجوه، وتبرد الأطراف، وتتكشف العورات، بل كانت مبعث نمو في قوة البدن، وإشراق في اللون، وارتفاع في درجة الحرارة، ثم يصدر عنها من العلم ما تخضع العقول لحكمته.

فلو كان القرآن من قول محمد لقاله في حال يقظته، لا في تلك اللحظات التي تغشاه سحابة رقيقة قد تشبه الإغماء. فلا بد أن يكون وراء هذه السحابة مصدر يزوده بالعلوم.

ولعل قائلاً يقول: إن ما أصاب محمداً هو اضطراب في أعصاب البصر خيل إليه أنه يرى شيئا غير حقيقي، أو لعله اضطراب عقلي جسّد له بعض الأوهام، وقد أوضحنا في مقال “مصادر المعرفة” أن المعرفة الحقيقية لا تُكتسب بالضرورة عبر الحواس فقط، وأثبتنا في مقال “وجود الله” أن الوجود لا يقتصر على الجانب المادي دون غيره، وقد كان مشركو قريش يشككون في نزول الملاك بالوحي على محمد مع أنهم لا ينكرون وجود الغيبيات أصلا، بل كانت ثقافتهم مليئة بقصص الجن والعفاريت وغيرها من الأساطير.

ولا يمكن القول أيضاً إن محمداً كان يتلقى القرآن من مصدر غيبي آخر غير الله، فالقرآن نفسه كان شديدا في تقريع إبليس وجنده من الشياطين، ولو كان القرآن من وسوسته لكان يأمر باتباع إبليس وليس بطرده ولعنه والتحذير منه، كما لا يصح القول إن محمداً كان يتصنع حالة الشدة التي يتعرض لها عند نزول الوحي كما يفعل الدجاجلة من المشعوذين والشامانات الذين يزعمون الاتصال بعوالم خفية، فمحمد كان صريحاً في محاربة هؤلاء، وكان صادقاً في تعامله مع الناس قبل البعثة وبعدها، حتى سمته قريش قبل نزول الوحي بالصادق الأمين [انظر مقال نبوة محمد].

إن الوحي قوة خارجية لا تتصل بنفس الرسول إلا على فترات متقطعة، وهي قوة أعلى من قوته لأنها تحدث في نفسه وبدنه آثاراً عظيمة لا يمكن لأحد أن يتصنعها حتى لو كان دجالاً، وهي أيضاً قوة خيّرة معصومة لا توحي إلا بالحق ولا تأمر إلا بالرشد، فلا يمكن لها أن تكون من مصدر بشري ولا جني.

كيف حُفِظَ القرآن؟
كان العرب قبل الإسلام، وفى صدر الإسلام من ذوي المَلكات في الحفظ، ومن يعرف الكتابة والقراءة فيهم قليل، فكانوا يحفظون عن ظهر قلب ما يريدون حفظه من منثور الكلام ومنظومه.

وقد ساعد نظم القرآن، بألفاظه ومعانيه وإيقاعه الصوتي على حفظه، لا سيما وأنه نزل مفرقًا خلال ثلاثة وعشرين سنة.

ولا شك أن حفظ القرآن في الصدور من الأمور الشائعة، فحتى في عصرنا الذي نعتمد فيه كثيرا على الذاكرة الإلكترونية قياسا إلى الذاكرة العقلية كما في عصور سابقة، حيث نجد في بلاد المسلمين الملايين من حفظة القرآن، وما زالت هناك مسابقات عالمية تثبت اهتمام المسلمين بحفظ القرآن وضبطه بدقة شديدة.

ولم يكن الحفظ مخصوصاً بالعرب دون غيرهم من المسلمين، فمئات الألوف ممن يحفظونه اليوم ليسوا من أهل العربية، بل ربما يحفظه من لا يكاد يعرف شيئاً عن لغة العرب ومعانيها، ومع ذلك يقرؤه بلسان عربي مبين كما يقرؤه العربي سواء بسواء، وهذا أمر يستحيل أن نراه في نصوص أخرى بأي لغة كانت.

وما دام الحال هكذا في القرن الحادي والعشرين، فإن التشكيك بحفظه في الصدور في قرون الإسلام الأولى تتبدد، فالحفظ كان العلاقة الأولى بين المسلمين وبين القرآن، وكان للحفظ وسيلة واحدة هي السماع، والسماع لم يكن عشوائياً بل كان يتبع منهجا لتكريس الحفظ، حيث تنوعت أساليب حفظ القرآن بين ختمه في صلوات الليل، وتقسيمه إلى أحزاب، وقراءة بعضهم على بعض، وفي ذلك أخبار وأحاديث موثقة في الكتب.

مصحف عُثر عليه في مكتبة جامعة برمنغهام الإنجليزية عام 2015 وهي تعود إلى عصر الصحابة

وبالتوازي مع عملية الحفظ كانت عملية التدوين قائمة، حيث كان من الصحابة كتَّاب للوحي، فكان إذا نزل الوحي دعاهم النبي فأملى على مسامعهم ما نزل فيكتبونه على الفور، وكانت هذه الكتابة مفرقة في الرقاع والورق، ولم تكن مرجعا للمسلمين في حال الخلاف، إذ كانوا يعودون إلى الرسول ليصحح لهم، واستمر الحال في الاعتماد على الحفظ حتى في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر.

وكان حفظ الصحابة للقرآن متفاوتا، فمنهم من كان يحفظ القدر اليسير، ومنهم من يحفظ الكثير، ومنهم من يحفظ القرآن كله. ومات في موقعة اليمامة في خلافة أبي بكر سبعون حافظًا ممن كانوا يسمون بـ”القُرَّاء”.

وعلى هذا؛ لم يُجمع القرآن في مصحف واحد في حياة النبي ولا في صدر خلافة أبي بكر، وكان حفظه في الصدور هو المتبع، رغم أنه كان مكتوباً في رقاع متفرقاً، وبإملاء من النبي صلى الله عليه وسلم، وظلت هذه الرقاع كما هي لم يطرأ عليها أي تغيير، ولما حدثت واقعة اليمامة اقترح عمر على أبي بكر أن يجمع القرآن المدون في مصحف واحد، وكان الجمع يتضمن تنسيق وثائق كل سورة مرتبة آياتها على نسق نزولها، والقصد منه أن يكون مرجعًا موثوقًا به عند اختلاف الحفاظ، فتم بذلك جمع كل الوثائق الخطية التي سجلها كتبة الوحي في حضرة النبيسماعا مباشرا منه.

وبعد وفاة أبي بكر تسلَّم عمر المصحف، وبعد وفاته ظل المصحف في حوزة ابنته حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي خلافة عثمان بن عفان حدثت مرحلة الجمع الثانية، وكان عثمان حافظًا للقرآن كله، فأوكل مهمة جمع المصحف إلى الأنصاري زيد بن ثابت وثلاثة من قريش، هم عبد الله بن الزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، على أن يرأس زيد الفريق لكونه حافظًا متقنًا بالسماع المباشر من فم رسول الله، وكان هو الذي جمع القرآن في المرة الأولى.

اشترط زيد أن تكون كل آية محفوظة حفظًا مطابقًا لما في المصحف عند رجلين من الصحابة على الأقل، وأن توجد في مصحف أبي بكر.

المصحف الذي أرسله عثمان إلى الكوفة ما زال معظمه محفوظا اليوم في طشقند (Wiggum)

وقد أجمع جميع أصحاب رسول الله على المصحف الذي اعتمده عثمان ولم يعارضه منهم أحد، حتى عبد الله بن مسعود الذي كان له مصحف خاص كتبه لنفسه، ثم تلقت الأمة هذا العمل الجليل بالقبول في جميع الأقطار والعصور ونسخت مصاحفها من هذا النص الموثق على أعين الصحابة، حيث أرسل الخليفة عثمان نسخة منه إلى كل قطر من أقطار الدولة، وأمر بحرق كل النسخ الأخرى خشية أن يكون في بعضها أي جملة تفسيرية على الهامش فيُعتقد في عصر لاحق أنها من النص نفسه.

المستشرقون والقرآن
الشبهات المثارة حول صحة القرآن قديمة قدم الإسلام، لكن بعض الشبه متهافتة ويمكن لأي مهتم أن يرجع لكتب علوم القرآن ويجد فيها الإجابات الشافية، لذلك فأننا سنستعرض أبرز الشبه المعاصرة التي أنتجتها جهود المستشرقين، الذين استعاروا بدورهم طريقة دراسة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ودرسوا الإسلام بذات الطريقة، فدرسوا “تاريخ القرآن” كما دُرِس “تاريخ الكتاب المقدس” وبالمنهج الذي تم تطويره في الغرب لنقد الكتاب المقدس، بالرغم من التباين بين حال الكتابين.

فعلى سبيل المثال، احتاج العهد القديم إلى مرور نحو ألف عام حتى استقر تأليفه وتدوينه، وظلت مضامين هذا العهد بدون كتابة وتنتقل شفهياً مئات السنين بعد وفاة موسى عليه السلام، حيث ينسبون إلى عزرا الكاتب (عزير) بداية التدوين، مع أنه جاء بعد موسى بحوالي 750 سنة، كما تحولت الكتابة في عصر تدوين التوراة من الخط الكنعاني إلى الخط العبري واستُخدمت الحروف الساكنة دون المتحركة، ما تسبب باختلافات في النطق، وذلك فضلا عما أدخله كتبة التوراة من التعديلات، حيث عملت أيدٍ كثيرة في المخطوط الواحد [انظر مقال اليهودية]، بينما اكتمل نزول القرآن وتدوينه في حياة صاحبه، وهو استثناء على كل القواعد، وحظي بفرصة غير مسبوقة في الحفظ بالصدور، فضلا عن المنهج الفريد في التحري أثناء الجمع والتدوين كما أوضحنا سابقا.

من جهة أخرى، عُنيت الموسوعات العالمية بدراسة القرآن، بدءا بمصدره، ومرورا بكيفية جمعه وقراءاته وأسلوبه وموضوعاته وترجماته، ومع أن هذه الموسوعات تحظى بقبول في دوائر الباحثين في الغرب والشرق، غير أنها تحفل بالكثير من الشبهات والأخطاء، ومن أشهرها دائرة المعارف الإسلامية-الطبعة الجديدة The Encyclopaedia of Islam- New Edition.

وتخرج مقالات دائرة المعارف الإسلامية عن كونها مجرد إشارات سريعة تتيح للباحث تكوين رأي خاص في الموضوع، بل تتضمن هذه المقالات الكثير من التقرير والحسم، فعلى سبيل المثال تتضمن الطبعة الثانية من الموسوعة مادة ضخمة باسم “القرآن”، وقد حشد فيها الكاتب A.T.Welch آراء كبار المستشرقين في كل جزئية، ما يدفع الباحث المبتدئ وغير المتخصص -ولا سيما غير المسلم- إلى تبني تلك الآراء التي سار أصحابها في دراستهم للقرآن على نفس قواعد نقد الكتاب المقدس.

مناهج نقد الكتاب المقدس
1- النقد الأعلى: حيث يُفرض على الناقد فيه اعتماد قاعدة الشك المنهجي، فلا يجزم بشيء يتعلق بالراوي إلا بعد التثبت من ذلك، حيث يتحقق الباحث من سيرته وأخلاقه وغايته، ثم يتحقق من زمن كتابة كتابه ولمن كتبه، ويدرس البيئة السياسية والاجتماعية والأحداث التاريخية والصراعات العقدية ومدى انعكاسها على الكاتب ونصه، ويبحث في كيفية جمع النص والأيدي التي تناولته والنسخ التي اشتمل عليها.

2- النقد الأدنى: وهو يشبه النقد الداخلي في مناهج الدراسة الأدبية، ويشترط فيه إتقان لغة “الكتاب المقدس” (العبرية) لفهم المعنى المقصود دون تدخل من المترجمين، ثم يعمل الباحث على تحليل النص إلى أجزاء وإدراك كل جزء على حدة، ويفرز العبارات الواضحة من المبهمة مع تطبيق قاعدة الحقيقة والمجاز اللفظي لا المعنوي، كما يحلل النص تحليلا داخليا دقيقا للعثور على الأخطاء والاختلافات والتناقضات، كالأخطاء الطبيعية والرياضية، أو اختلاف زمان ومكان الأحداث التاريخية، أو إثبات شيء في موضع ونفيه في موضع آخر، أو ذكر قاعدة شرعية في موضع ونفيها في موضع آخر، أو ورود لفظ لا يمكن أن يكون قد استعمل بهذه الدلالة إلا في عصور لاحقة، أو تباين الأسلوب الأدبي بين أجزاء النص.

وقد بدأ المستشرقون بتطبيق قواعد النقد الأعلى والأدنى على القرآن الكريم في شأن ترتيبه حسب النزول، فبحث المستشرق الألماني تيودور نولدكه النص القرآني لترتيبه زمانيًّا حسب نزوله، وقسم السور المكية إلى ثلاث فترات يتميز أسلوب النص القرآني في كل منها عن الآخر، كما يزعم.

ولا شك أن نولدكه كان متأثرا بمنهج نقد “الكتاب المقدس”، والذي كتبت أسفاره على مدى قرون، فيعلّق الدكتور عبد الرحمن بدوي على نولدكه بالقول إن “كل الفترة المكية لا تزيد عن 12 سنة، فبأي حق ندعي إذًا التمييز بين أسلوب كاتب خلال 12 سنة فقط؟ ناهيك عن استطاعتنا التمييز في تلك الفترة بين ثلاث فترات قصيرة”. [عبد الرحمن بدوي. دفاع عن القرآن، ص 107-108]

آربري

وقد أدرك عدد من كبار المستشرقين عدم جدوى تطبيق هذه القواعد على النص القرآني، ومنهم الإنجليزي آرثر جي آربري الذي يقول إن “عملًا خالدًا كالقرآن لا يمكن أن يفهم بصورة أحسن لو أخضعناه لتجربة النقد الأدنى… إن منطق الوحي ليس منطقًا مدرسيًّا، فليس هناك قبل وبعد في رسالة النبي، وعندما تكون هذه الرسالة صادقة فإن الحقيقة الدائمة لا يمكن أن تُحصر داخل إطار زمني أو مكاني” [من مقدمة أربري لترجمة القرآن الإنجليزية، انظر: أحمد سمايلوفيتش، فلسفة الاستشراق، ص 173- 174]، كما يقول السويدي تور أندريه صاحب كتاب “محمد: حياته وعقيدته” إن جوهر النبوة لا يمكن تحليله إلى مجموعة من آلاف العناصر الجزئية.[ التهامي نقرة: القرآن والمستشرقون، ج1 ص 21-57].

وبالرغم من هذا النقد، لم يعترف آربري وأندريه بأن تطبيق هذا المنهج على القرآن الكريم فاسد، لأنهم يدرسونه باعتباره نصًّا من تأليف محمد أصلا، فمناهج النقد قد تصلح لدراسة العهدين القديم والجديد وبقية النصوص البشرية، لكن معاييره لا يمكن أن تطبق على نص لا يخضع للحدود البشرية. ومن المعروف أن المنهج العلمي يتطلب من الباحث ألا يدخل على الموضوع بفكرة سابقة، بينما ينطلق جميع المستشرقين من منطلق الحكم على القرآن بأنه نص بشري.

ذكر العديد من المستشرقين في مؤلفاتهم أنهم كانوا يجدون في قراءة القرآن تجربة روحية غير مسبوقة، وذلك بالرغم من عدم اعتناقهم للإسلام وعدم إيمانهم بأن القرآن وحي منزل من الله.

ونذكر منهم البريطاني المتقن للغة العربية آرثر جي آربري الذي كان يقول إنه حينما يستمع إلى القرآن يتلى بالعربية فإنه يشعر بأنه يستمع إلى نبضات قلبه.

كما يقول “فريدرك ديني” إنه يشعر بتجربة عجيبة غير طبيعية عندما يقرأ القرآن، واصفا تلك التجربة بأنها “حضور شيء غامض وأحيانا مرعب”، ويضيف أنه بدلا من قراءته هو للقرآن فإنه يشعر وكأن القرآن هو الذي يقرؤه.

[جيفري لانغ، حتى الملائكة تسأل، دار الفكر، ص 206].

ويتضح لمن يطلع على نتائج أبحاث المستشرقين أن عدم إلمامهم باللغة وبلاغتها كان حائلا رئيسا أمام قدرتهم على استيعاب إعجاز لغة القرآن، فالقرآن الذي كان على مدى قرون مقياسا العربية، حتى لدى غير المسلمين من العرب، لا يمكن أن يُكتفى في البحث فيه بمعايير النقد التي يطبقها باحث أجنبي.

نتائج التحيز
وبما أن المستشرقين قد بدأوا أبحاثهم منطلقين من نفي المصدر الإلهي للقرآن، فقد نتجت عن ذلك عدة نتائج غير موضوعية، وأهمها:

1- الشك في الراوي نفسه، أي أن الرسول محمد الذي يؤكد أن القرآن وحي، لا بد أن يكون كاذبا، وهذا يستلزم المضي قدما في تصديق الاتهامات وتضخيمها، وصولا إلى اختلاق الأكاذيب حول سيرته وأخلاقه وغايته.

2- حصر النص القرآني قسرا في حدود التصورات البشرية، فما يخرج فيه عن دائرة قدرة العقل والحواس يؤول فورا على أنه أسطورة، ويُحكم بذلك على القرآن بمعايير الفلسفة المادية التي تستثني كل الغيبيات من الوجود.

3- تضخيم أثر البيئة ومحاولة البحث عن أي مؤثرات يهودية ونصرانية ووثنية محتملة في النص القرآني، وقد يلجأ الباحث في سبيل ذلك إلى تجاوزات ومبالغات، كما يحكم مسبقا على أي تشابه بين القرآن وما سبقه من الكتب بأن المتأخر قد نقل عن المتقدم، لأنه جزم مسبقا بأن القرآن لم يأخذ من المصدر نفسه وهو الوحي.

4- الطعن في قيمة الروايات التاريخية القرآنية، فمع أن الباحث لا يشكك في أي رواية يجدها في لوح طيني أو مخطوط أثري، ويعتبرها مصدرا تاريخيا موثوقا، إلا أنه يحكم مسبقا على روايات القرآن وقصصه بأنها موضع شك، فإذا لم يجد لها أصلا في الكتاب المقدس شكك في وجودها، مثل قصص عاد وثمود، حيث شك بعضهم في وجود هذين القومين، بينما عدّها آخرون من الأساطير الشعبية التي كانت رائجة في البيئة العربية قبل النبوة، ولا دليل لهم على هذا الفرض.

5- ربط آيات القرآن بظروف البيئة والعصر الذي نزلت فيه، وتجاهل ما أجمعت عليه الأمة الإسلامية من كونها أحكامًا نهائية مطلقة خارجة عن إطار الزمان والمكان.

6- تطبيق مفاهيم غربية غير ملزمة في النقد الأدبي، كاشتراط “وحدة الموضوع” في كل سورة وضرورة أن يكون لكل سورة موضوعًا واحدًا، ومن ثمّ دراسة البناء الداخلي لكل سورة بمعزل عن غيرها، وهو شرط تحكمي غير موضوعي اضطر بعض المستشرقين للاعتراف بعدم جدواه، وقد أقر كاتب مقال القرآن بدائرة المعارف الإسلامية (سبق ذكره) بأن طبيعة القرآن وترتيبه تجعل من الصعب تصنيف صيغه الأدبية أو تنظيم موضوعاته الرئيسة وفق النماذج الأدبية المعيارية. علما بأن “وحدة الموضوع” تختلف جذريا عن مسألة “النظم القرآني” وترتيب الآيات ترتيبًا توقيفيًّا (أي أمر به الوحي)، فهذا الترتيب يعد من أبرز دلائل الإعجاز القرآني.

7- التشكيك في أي توافق يحدث بين النص القرآني وما يثبته العلم المادي الحديث، أو مما يُكتشف حديثا من الوقائع التاريخية التي كانت أخبارها مدفونة في ألواح ومخطوطات غير مُكتشفة بعد.

وكان من أبرز أمثلة النقد الاستشراقي للقرآن التشكيك بأصالة ألفاظ القرآن، وهي من الشُبه التي لاقت رواجاً، وانتشرت مؤخراً بين بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي، فبالعودة لمادة “القرآن” التي أشرنا لها من قبل والمنشورة في موسوعة دائرة المعارف الإسلامية، نجد أنهم بدأوا في:

أصل كلمة القرآن ومرادفاتها، حيث يعرض الكاتب لكلمة “القرآن” والتي ترددت في القرآن نفسه -كما يشير الكاتب- أكثر من سبعين مرة بمعان مختلفة. ويقول: إن المستشرقين قبلوا النظرية التي قال بها شفالي في كتابه “تاريخ القرآن” أن “القرآن” قد اشتق من كلمة “قرياءنا” السريانية، ومعناها القراءة المقدسة. أما النظرة الغالبة لدى الدوائر الإسلامية فهي أن الكلمة اسم من قرأ. ثم يقول “ولعل أنسب النتائج وأقربها قبولًا هي أن مصطلح القرآن قد أصّل في القرآن نفسه لكي يمثّل كلمة قيريانا السريانية، ولكنه أسس على مصدر عربي بصيغة  فعلان من قرأ”.

وهكذا حاد كاتب المقال عن الحقيقة بعد أن تبينت له، فالكلمة العربية اشتقت من القراءة، كما أن أول سورة من القرآن -حسب الترتيب الزماني للسور والذي أعده المستشرقون أنفسهم- تبدأ بكلمة اقْرَأ، فعل أمر من قرأ، وهي نفس المادة العربية التي اشتقت منها كلمة القرآن.

ويضيف كاتب المقال قائلًا: “ولا يمكن لمعنى كلمة القرآن ومصدر الكتاب المقدس للمسلمين أن يتضحا تمامًا دون أن نضع في الاعتبار استخدام عدد آخر من المصطلحات الوثيقة الصلة بالموضوع”، زاعماً أن معنى لفظ “آية” مطابق للكلمة الشبيهة في العبرية “أوث”، والسريانية “آثا”، وبالطريقة نفسها يعتبر أن كلمة “سورة” مشتقة من “صورطا” أو “سورثا” السريانية، ومعناها الكتاب المقدس، ويواصل هذه الافتراضات في كلمات أخرى كثيرة.

وإذا تأملنا النتائج التي توصل إليها المستشرقون في هذا البحث نجد أنها لم تأت بجديد، فهي أقرت بما أعلنه المسلمون من أن ألفاظ: قرآن، آية، سورة، كتاب إنما تمثل وحدات من التنزيل، وأن الكتاب يعني كتاب الله.. إلخ، ومن ثم لا يشتمل هذا المبحث إلا على ما أثاره بعض المستشرقين من شبهات حول اشتقاق بعض ألفاظ القرآن الكريم وردها إلى أصول عبرية أو سريانية، واستدراج للقارئ لإقناعه بأن القرآن من اختراع محمد وتأليفه، وأنه قد تعلم هذه الألفاظ من اليهود والنصارى.

ويناقش الدكتور عبد الرحمن بدوي هذه المزاعم بقوله “ولكي نفترض صحة هذا الزعم فلا بد أن محمدًا كان يعرف العبرية والسريانية واليونانية، ولا بد أنه كان لديه مكتبة عظيمة اشتملت على كل الأدب التلمودي والأناجيل المسيحية ومختلف كتب الصلوات وقرارات المجامع الكنسية وكذلك بعض أعمال الآباء اليونانيين وكتب مختلف الكنائس”.

على أن اللغات العربية والعبرية والسريانية تنتمي إلى سلالة لغوية واحدة هي سلالة اللغات السامية، ولا بد من أجل ذلك أن يكون بينها الكثير من التشابه والتماثل، ومن ثم فإن القول بأن إحدى اللغات استعارت ألفاظًا بعينها من أخواتها هو تعسف لم يقم عليه دليل.

ويمكن أن تكون هذه الألفاظ قد وجدت في العربية قبل زمن النبي بوقت طويل واستقرت في اللغة العربية حتى أصبحت جزءًا منها وصارت من مفرداتها التي يروج استخدامها بين العرب، كما أن من المستحيل الآن بسبب غموض تاريخ اللغات السامية أن نحدد من اقتبس هذه الألفاظ المشتركة من الآخر.

القرآن والبيان
كان العرب قوم تعجبهم العبارة البليغة، ويرون المثل الأعلى للنبوغ في قصيدة جيدة، أو كلمة حكيمة، وقد أرادوا إبراز آثارهم التي تكشف عن نواحي العظمة فيهم، فكانت المعلقات السبع، لذلك تعد صناعة الكلام لديهم من أرقى الصناعات التي تنتجها الأمم، وتقام لها المعارض، ويدعى لها الزائرين، ولقد كانوا مولعين بالأدب درجة تثير العجب، فيذكر عن الصحابي ابن عباس، إنه استمع إلى الشاعر الماجن عمر بن أبي ربيعة في قصيدة غزل له تربو على السبعين بيتاً وحفظها، فقيل له: أوقد حفظتها؟! فأجاب: أومنكم يسمع شيئا ولا يحفظه؟!

وروي عن التابعي سعيد بن المسيب أنه فاضل بين شاعرين وتلا أبياتا يحتج فيها لرأيه في ترجيح أحدهما، فلما انقضى الكلام استغفر الله مائة مرة، حيث غلبته فطرة العرب فصنع ما صنع، وهو لم يرتكب إثماً، وإنما رأى أنه شغل نفسه بغير ما يُنتظر من مثله، ونستنتج من ذلك أن حالة ولع العرب أيام الرسالة بالآداب العليا، وحفظهم لها، وتنويههم بأصحابها.

وقد مثَّل لهم القرآن المعجزة الأدبية الخالدة في لسان العرب، فما إن ظهر حتى بهر، وقد استمع له البلغاء فنفذت بلاغته إلى شغاف قلوبهم، فتلقوه مسحورين، يستوي في ذلك المؤمنون والكافرون منهم، فمنهم من يُسحر فيؤمن، ومنهم من يُسحر فيهرب ويكابر، ثم يصف هؤلاء وهؤلاء عما مسهم منه، فإذا هو حديث لا يعطيك أكثر من صورة المبهور، الذي لا يعلم موضع السحر فيما يسمع من هذا النظم العجيب.

فهذا عمر بن الخطاب يقول في رواية: “فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام”، وهذا الوليد بن المغيرة يقول وهو كافر بمحمد وبالقرآن: “والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه يعلو وما يعلى”.

ولعل قائلاً يقول: إنني لا أدرك بيان القرآن، ولا أستطيع الإتيان ببيان مثله –لأن لغتي ضعيفة- لكن في الناس من هم متخصصون، وقد يستطيعون الإتيان ببيان مثله، أو أنهم لا يرون جودة بيانه. والرد بالرجوع إلى أفصح أدباء العصر، وسؤالهم إن كان بالإمكان الإتيان بمثل بيان القرآن، فإن ادعوا قدرتهم على الإتيان بمثله، فليأتوا به حقاً، وإن عجزوا، فأي شهادة أدل على هذا الإعجاز؟ لقد سجل التاريخ هذا العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن، وهم الذين عاشوا في أزهى عصور البيان العربي.

كما أن الدعوة لهؤلاء قائمة بالرجوع إلى التاريخ والنظر في القرون الطويلة التي أعقبت نزول القرآن، والنظر إن كان بها من استطاع الإتيان بمثل بيان القرآن، غير بضعة أشخاص حاولوا فصارت محاولاتهم أضحوكة للناس.

موريس بوكاي

القرآن والعلم
في عام 1976، أخرج الطبيب الفرنسي موريس بوكاي نتائج دراسته التي استمرت لعقود في كتاب بعنوان “التوراة والإنجيل والقرآن والعلم”، حيث درس معالجة الكتب المقدسة في الأديان الثلاثة للمواضيع العلمية، ولا سيما فيما يتعلق بعلوم الفلك والجيولوجيا والأحياء والكون (كوزمولوجي) وغيرها، وبما أنه لم يكن مسلما ولا عربيا فقد بدأت علاقتة بالقرآن دون أدنى تعاطف مسبق، فيقول: كنت أعرف قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، ولكن معرفتي كانت وجيزة، وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن الكريم لا يحتوى على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث.‏

وبنفس الموضوعية، فحص المؤلف نصوص العهد القديم والأناجيل.‏ حيث لم يجد حاجة للذهاب إلى أبعد من السفر الأول في العهد القديم، أي سفر التكوين، والذي يتضمن مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخا في عصرنا، فعلى سبيل المثال كان العلماء يعلمون في عصر المؤلف أن أقدم آثار أعمال بشرية يعود تاريخها إلى ما قبل 12 ألف سنة، ثم اكتُشفت آثار أقدم من ذلك بعد عصره، وعليه فإننا لا نستطيع علمياً قبول صحة نص سفر التكوين الذى يعطى أنساباً وتواريخ تحدد بداية الإنسان بسبعة وثلاثين قرناً فقط قبل المسيح [انظر مقال اليهودية].‏

ويقول أما بالنسبة للأناجيل فما نكاد نفتح الصفحة الأولى منها حتى نجد أنفسنا دفعة واحدة في مواجهة مشكلة خطيرة، وهي شجرة أنساب المسيح، فنص إنجيل متى يناقض بشكل جلي انجيل لوقا، والأخير يقدم لنا بصراحة أمرا لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض [انظر مقال المسيحية].‏

وينهي المؤلف عمله بهذه الخلاصة: “ولا يستطيع الإنسان تصور أن كثيراً من المقولات ذات السمة العلمية كانت من تأليف بشر بسبب حالة المعارف في عصر محمد. لذا فمن المشروع تماماً أن ينظر إلى القرآن على أنه تعبير الوحى من الله وأن تعطى له مكانة خاصة جداً، فصحته أمر لا يمكن الشك فيه”، وقد كان المؤلف وفياً للبحث الذي أنفق معظم عمره في خدمته، فاعتنق الإسلام -بحسب ترجيح بعض الباحثين- لما تبينت له صحة هذا الوحي.


أهم المراجع
محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم، دار القلم، الكويت.

أحمد سمايلوفيتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، 1980م.

محمد السعيد جمال الدين، الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم. مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الطبعة الأولى، 1421هـ.

محمد خليفة حسن، دراسة القرآن الكريم عند المستشرقين في ضوء علم نقد الكتاب المقدس.

عبد الرحمن بدوي، دفاع عن القرآن ضد منتقديه، ترجمة كمال جاد الله، الدار العالمية للكتب والنشر، 1998م.

موريس بوكاي، التوراة والإنجيل والقرآن والعلم. ترجمة حسن خالد، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1990م.

محمد الغزالي، نظرات في القرآن. نهضة مصر للطباعة، الطبعة السادسة، 2005م.

سيد قطب، التصوير الفني في القرآن. دار الشروق، الطبعة السابعة عشرة، 2004م.

التهامي نقرة، بحث “القرآن والمستشرقون” ضمن كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، الجزء الأول، مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1985م.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد