الرأسمالية

استعرضنا في مقال مستقل ظهور الليبرالية بصفته تيارا فكريا شاملا في العصر الحديث، وهو ينطلق من مبدأ الحرية وتحقيق الفرد لذاته في المجالات المختلفة، وأوضحنا أن التيار الليبرالي تفرعت عنه مذاهب ونظريات في السياسة والثقافة والاجتماع والاقتصاد، وعليه فإن المدرسة الاقتصادية الليبرالية التي سميت بالرأسمالية تقوم أساسا على المبادئ الفكرية التي وضعها الفلاسفة الليبراليون في ثورتهم على النظام الإقطاعي-الملكي، وسنعرض في هذا المقال تطور هذه المدرسة فكريا وسياسيا، مع محاولة استشراف مآلاتها والكشف عن مثالبها.

ويمكن القول إن الرأسمالية هي نظام يتكون من الأسس التي تسمح بإنتاج وتوزيع واستهلاك وتبادل الثروة، فهي قائمة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتقسيم العمل، ووجود السوق الذي يسمح بتنظيم النشاط الاقتصادي بهدف الربح الفردي لأصحاب رؤوس الأموال، والفصل بين رأس المال والعمل. وتعتمد من أجل تحقيق ذلك على آلية العرض والطلب لتحديد الأسعار ومن ثم الأرباح.

إذن فالرأسمالية نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية يقوم على أساس الملكية الفردية لوسائل الإنتاج التي تعتبر السمة المميزة له، والمحافظة عليها، معتمداً مفهوم الحرية الاقتصادية و آلية السوق في تحديد الأسعار والأرباح.

الأسس الفلسفية للرأسمالية
1- تنطلق الرأسمالية من فكرة رئيسية مفادها أن الإنسان رشيد عقلاني أناني، يبحث دائما عن تعظيم منافعه الشخصية ضمن القيود المفروضة عليه من الدخل المحدود، ومن أجل ذلك فهو يفكر دائما بتحقيق أكبر المنافع بأقل التكاليف وبطريقة مادية محسوسة، ويهمل كل العوامل التي ستحول دون تحقيق هذا الهدف، فكل القيم والعادات والأخلاق ليس لها مكان في حساباته إلا إذا كانت ستقود إلى تعظيم منافعه، ولذلك فالفرد في النظام الرأسمالي يطلق عليه اسم “الرجل الاقتصادي”.

2- البحث عن الربح بشتى الطرق والأساليب أمر مشروع ومطلوب، والمستثمر يعرف كيف يحقق الأرباح من خلال توجهه نحو النشاط الاقتصادي المناسب الذي يحقق أكبر مردودية له، ولا حرج في ذلك، حيث قال رائد النظرية الرأسمالية الاسكتلندي آدم سميث في القرن الثامن عشر “إن الانسان عندما يبحث عن مصلحته الشخصية فإنه سيخدم المجتمع أكثر مما لو أراد ذلك مباشرة”، وأضاف أن هذا يحدث عن طريق “اليد الخفية” التي تضمن تحقيق الانسجام بين المصالح الخاصة والعامة.

3- الملكية الخاصة أمر مقدس ويجب إطلاق العنان لكل إنسان كي يستغل قدراته ويزيد من ثروته ويعمل على حماية الملكية وعدم الاعتداء عليها، وعلى الدولة توفير البئية القانونية اللازمة لدعمها وتطويرها، وهكذا أصبح شعار الرأسمالية الكلاسيكية هو “دعه يعمل، دعه يمر”.

جون ماينارد كينز

4- السوق، وآلية العرض والطلب، ونظام حرية الأسعار، والمنافسة الحرة بين المؤسسات والأفراد، من أهم الأفكار التي بنت الرأسمالية عليها هيكليتها في نماذجها المتعددة.

5- منع تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وحياديتها تماما والاقتصار على دور واحد لها يتمثل في حماية حدود البلد والمحافظة على الملكية الفردية للأفراد الذين يقطنون فيها ورسم التشريعات والقوانين لتشجيع العمل الخاص للأفراد، حيث اعتقد الفرنسي جان باتيست ساي وزملاؤه في القرن الثامن عشر أن عرض السلع في الأسواق يخلق طلباً مكافئاً له، فيبقى السوق متوازناً تلقائياً بدون تدخل، وهو ما ثبت خطؤه لاحقاً مع ظهور الأزمات الخانقة، وقد تم تجاوز هذه المبادئ بشكل فاضح عقب الأزمة الرأسمالية الكبرى عام 1929م بعد توصية من الفيلسوف الاقتصادي جون ماينارد كينز الذي دعا إلى إعادة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي لخلق الطلب الفعال في مواجهة أزمة الكساد السائدة، وبقيت القاعدة سائدة في بعض الاقتصادات الرأسمالية إلى الآن.

ويبدو أن كل الأسس السابقة لم تعد مطبقة كما كانت في بداية ظهورها بالقرن الثامن عشر كما سنلاحظ لاحقا، فقد تطورت الرأسمالية بسرعة لتصبح نظاما احتكاريا واستعماريا قائما على الشركات متعددة الجنسيات لاستغلال ثروات العالم الثالث، وكانت الرأسمالية الجشعة منذ ظهورها قادرة على التكيف في كل مرحلة تاريخية حتى عام 1989م عندما ظهر نموذج فكري جديد ينتقد النماذج القديمة ويطالب بإعادة النظر في كل مقومات النظام الرأسمالي الحالي، وليعطي روحا جديدة قد تخرج الرأسمالية من أزماتها المتلاحقة، حيث طالب أصحاب هذا التيار الاقتصادي الفرنسي بإدخال القيم المعيارية والأخلاقية في النماذج الاقتصادية، وسنستعرض فيما يلي هذه المراحل.


مراحل تطور النظام الرأسمالي
في التسعينيات من القرن العشرين، اجتاز النظام الرأسمالي مرحلة تمركز الإنتاج والاستقطاب والصراع من أجل التوسع في إطار الثنائية القطبية بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وانتقل إلى مرحلة سيادة العولمة وتعمقها، حتى أصبحت العولمة هي السمة المركزية للمنظومة الرأسمالية العالمية التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية، وبرزالنظام الإنتاجي المعولم ساعياً إلى مزيد من الهيمنة لكي يفرض نفسه بديلاً للنظم الإنتاجية الوطنية والقومية في دول العالم الثالث، حيث فقدت هذه النظم القدرة على توفير احتياجات شعوبها لأسباب داخلية وخارجية، كما عجزت عن مواجهة متطلبات الاقتصاد الرأسمالي المعولم، وترافق ذلك مع تغيرات سياسية واجتماعية وأيديولوجية في بلدان الأطراف أو العالم الثالث بوجه خاص، مما عزز انقسامها إلى قسمين، الأول يتضمن بلدان توفرت لديها إمكانات التصنيع في حدود معينة، بما يسمح بإدخالها إلى السوق العالمي وفق شروطه الجديدة مع بقاءها ضمن دائرة العالم الثالث مثل بعض دول أمريكا اللاتينية وآسيا، والقسم الثاني يتضمن بلدان عجزت عن توفير هذه الإمكانيات، وتتوزع على قارتي أفريقيا وآسيا عموماً، ومعظم بلدان الوطن العربي خصوصاً.

عاطلون عن العمل ينتظرون دورهم للحصول على حساء مجاني في شيكاغو خلال الكساد الكبير

كما شهدت العقود الثلاث الماضية انتشاراً لأفكار الليبرالية الجديدة، ومع تفاقم الأزمة المالية العالمية في نهاية عام 2008 تبين أن هناك وجها آخر للحقائق الأمريكية التي تنمو وتتراكم بصورة سلبية، فإذا كانت السياسة هي تكثيف للاقتصاد، فإن الأزمات التي يعرفها النظام الرأسمالي هي تأكيد على صحة مقولة كارل ماركس (مؤسس الشيوعية) حول فوضى الإنتاج باعتبارها قانونا ملازما للرأسمالية من ناحية، وهو أيضا تعبير عما يجري في أسواق المال العالمية من ناحية ثانية، فهذه الأزمات ستوفر بالضرورة مناخاً جديداً لمتغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية هامة على الصعيد العالمي،كما هو حال التطور التاريخي للبشرية، والمتغيرات التي رافقت النمط الإقطاعي في أوروبا من القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر أدت إلى نمو البورجوازية ومن ثم ولادة النمط الرأسمالي بالانسجام مع أفكار وأسس ليبرالية السوق كما صاغها آدم سميث وفق شعار “دعه يعمل دعه يمر”، أي بسياسة حرية السوق دون قيود، وقد استمر تطبيق هذه السياسة حتى عام 1929 عندما انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية (الكساد الكبير) وأدت إلى متغيرات جديدة دفعت إلى الاستعانة بآراء كينز التي دعت إلى ضرورة تدخل الدولة في إدارة الاقتصاد.

من هنا فإن منطق التحليل العلمي يتطلب منا أن نعرض التجارب التاريخية لعمليات التكيف الدولية المختلفة التي فرضتها الرأسمالية العالمية إبان مراحل تطورها المتعاقبة على البلاد المتخلفة.

وسوف نميز هنا بين ستة مراحل أساسية، جرى فيها ضغط لا هوادة فيه من جانب الرأسمالية العالمية على البلاد المتخلفة لتطويع هذه البلاد وإخضاعها لشروط نمو الرأسمالية وحركة تراكم رأس المال بالمراكز الصناعية. وهذه المراحل هي:

المرحلة الأولى: الكشوف الجغرافية والبحث عن السوق العالمي
هي مرحلة التمهيد لنشأة الرأسمالية، وامتدت من نهاية القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن السابع عشر، وهي الفترة التي مهدت لتكوين السوق العالمية عبر اندفاع عدد من التجار والبحارة المغامرين في أوروبا مثل أسبانيا والبرتغال إلى البحار والمحيطات، وكانت تهدف إلى كسر الحصار التجاري الذي فرضته الإمبراطورية العثمانية، والبحث عن الذهب ومصادره.

لوحة لحملة دي غاما في الهند بأواخر القرن الخامس عشر

وتمكن عدد كبير من البحارة المعروفين، مثل فاسكو دي غاما، وكريستوفر كولومبس، بتمويل ضخم من الأمراء وكبار التجار، من الوصول إلى الهند والعالم الجديد (أمريكا الجنوبية والشمالية)، وتمكن الأوروبيون من نهب موارد هائلة من الذهب والفضة من البلاد المكتشفة، وتكوين مستعمرات للمستوطنين البيض على المناطق الساحلية، وإقامة محطات تجارية فيها، وتحويل اتجاهات التجارة الدولية وطرقها لصالحهم.

وخلال هذه المرحلة بدأت أولى محاولات تكييف الهيكل الاقتصادي لتلك البلاد والمناطق من خلال فرض نمط إنتاج احتلالي عبودي، يقوم على إجبار السكان المحليين على إنتاج بعض المنتجات الزراعية التي كان الطلب عليها قد تزايد في أوروبا، مثل الدخان والشاي والبن والسكر والقطن والأصباغ.

ومن المهم أن نعي أن وسيلة تكييف هذه المناطق لمتطلبات القارة الأوروبية كانت هي الغزو الحربي واستخدام القوة والقهر والإبادة الجماعية للسكان وعمليات القرصنة وإراقة الدماء.

ومن أهم خصائص هذه المرحلة تكييف القرصنة، والقهر، والغزو الحربي. وقد أدى التكييف إلى تكوين السوق العالمي وتدفق الذهب والفضة والأرباح إلى أوروبا، و تحويل مسارات التجارة الدولية وخطوطها لصالح دول أوروبا. وبالمقبل فقدت الدول المحتلة ثرواتها من المعادن النفيسة، وأبيدت شعوب وقبائل، وتحطمت حضارات قديمة.

المرحلة الثانية: الميركنتيلية (الرأسمالية التجارية)
وهي المرحلة التي تمتد من منتصف القرن السابع عشر وحتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والتي سيطر فيها رأس المال التجاري الأوروبي على أسواق العالم وظهرت فيها الدول القومية، فقد استطاعت الرأسمالية التجارية من خلال جماعات التجار المغامرين والشركات الاحتكارية الكبرى (مثل شركة الهند الشرقية، وشركة الهند الغربية) أن تُخضع البلاد المفتوحة لعمليات نهب لا رحمة فيها، وأن تتاجر في أحقر تجارة عرفتها البشرية، وهي تجارة العبيد الذين كانوا يقتنصون من أفريقيا بأبشع الوسائل، ويرسلون إلى مزارع السكر والدخان في أمريكا الجنوبية والشمالية وأوروبا.

لوحة لميناء فرنسي بريشة كلاود لورين في القرن السابع عشر

استطاعت الرأسمالية التجارية بشركاتها العملاقة، ومن خلال ما كونته من إمبراطوريات واسعة، أن تكدس أرباحا ضخمة عن طريق ترسيخ نمط الإنتاج الكولونيالي الذي أرسى دعائمه المستوطنون البيض في فترة الكشوف الجغرافية. وكان من شأن ذلك تحقيق موازين تجارية مواتية (ذات فائض) لدول القارة الأوروبية، فتمكنت الرأسمالية التجارية من سحب ثروات الذهب والفضة من المناطق الشرقية والأفريقية والأمريكية، والتي وفرت لاحقا التراكم البدائي لرأس المال في مرحلة الثورة الصناعية.

ومن أهم خصائص هذه المرحلة تمركز الإنتاج، حيث خسر بعض الرأسماليين أعمالهم في ظل المنافسة الشديدة وراكم آخرون الثروة، وبذلك تمركز الإنتاج في مؤسسات قليلة توظف أعدادا كبيرة من العمال، وتطور الأمر إلى ابتلاع كبريات الشركات لصغرياتها.

وبالنتيجة، شكلت التجارة مصدر قوة وثروة البورجوازية التجارية (الميركنتيلية)، وظهرت مدن كبرى بفعل الصناعة والتجارة العالميتين، كما ظهرت المحطات التجارية وراء البحار والاتفاقيات التجارية الجائرة، فضلا عن تكون الإمبراطوريات التجارية.

 مصطلح الميركنتيلية مشتق من التجارة، حيث كان منظرو هذه النزعة يعتقدون أن قوة الدولة تقاس بما لديها من ذهب وفضة، أكثر من قدرتها على الزراعة والصناعة.

أما في البلاد المنهوبة فقد تواصل استنزاف مناجم الذهب والفضة، ونقص عدد السكان نتيجة لتجارة الرقيق، وأجبر السكان المحليون على الاشتغال في المناجم والمزارع، وتشوه نمط الإنتاج المحلي.

المرحلة الثالثة: الثورة الصناعية
بدأت هذه المرحلة مع ظهور رأس المال الصناعي، وتحققت الثورة الصناعية خلال الفترة الممتدة من النصف الثاني من القرن الثامن عشر وحتى سبعينيات القرن التاسع عشر، مع استمرار المراكز الرأسمالية في تطويع وتكييف المناطق المسيطر عليها، فلم تعد حاجة الرأسمالية قاصرة على السكر والدخان والبهارات والتوابل والمعادن النفيسة، بل اتسعت لتشمل المواد الخام التي تلزم لاستمرار دوران عجلات الصناعة، والمواد الغذائية (القمح واللحوم والزبدة…) التي تلزم لإطعام سكان المدن والعمال الصناعيين.

آلات صناعية حديثة في “المعرض العالمي” بباريس عام 1900

ومن ناحية أخرى، سرعان ما أدى النمو الهائل الذي حدث في المنتجات الصناعية بفضل ثورة الماكينات إلى ظهور الحاجة للبحث عن منافذ إضافية لهذه المنتجات خارج الحدود القومية للرأسمالية الصناعية المحلية، ولعبت “ثورة المواصلات” في النقل البحري والسكك الحديدية دورا خطيرا في فتح هذه المناطق وغزوها بالمنتجات الصناعية الجديدة، حيث تشير بعض المصادر إلى أن التجارة توسعت خلال الفترة 1820- 1900 بمعدل أسرع بكثير من معدل نمو الإنتاج الصناعي، إذ تضاعفت واحدا وثلاثين مرة في تلك الفترة.

وهكذا أُرسيت دعائم تقسيم العمل الدولي غير المتكافئ بين البلاد الرأسمالية الصناعية والمستعمرات وأشباه المستعمرات، ففي ظل التفاوت الحاد بين درجة التطور في قوى الإنتاج الغربية وبين البلاد الأخرى في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وجدت الأخيرة نفسها أمام جحافل ضخمة من المنتجات المصنعة الرخيصة نسبيا التي تنافس الإنتاج المحلي، ما أدى إلى انهيار الإنتاج الحرفي الداخلي، وإجبار تلك البلاد على نمط جديد من التخصص، تقوم بمقتضاه بإنتاج المواد الخام الزراعية والمنجمية، على أن تستورد في المقابل المنتجات المصنعة في الغرب، وأن تتبع في ذلك سياسة الباب المفتوح والتجارة الحرة.

كاريكاتير يعود إلى عام 1898 حيث يحتج إمبراطور الصين على تقاسم بلاده بين زعماء بريطانيا وألمانيا وروسيا وفرنسا واليابان

المرحلة الرابعة: الاستعمار والإمبريالية
بدأت مرحلة الاحتكار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث زادت درجة تركز الإنتاج ورأس المال، وأخذت المؤسسات الصناعية الكبيرة تزيح من أمامها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، منهية بذلك عصر رأسمالية المنافسة، وبرزت قوة رأس المال المالي، وهو رأسمال يُستخدم في الصناعة بصورة أساسية وتسيطر عليه البنوك والشركات الصناعية، فلم تعد مهمة البنوك مجرد التوسط لجمع المدخرات وإعادة إقراضها لمن يريد، بل أصبحت بذاتها مؤسسات احتكارية قوية تجمع تحت أيديها الجزء الأكبر من رأس المال النقدي للجماعة، وتتحكم في جانب من وسائل الإنتاج ومصادر المواد الأولية.

وبذلك دخلت البنوك في عملية الإنتاج ونفذت إلى الصناعة، وامتزج رأسمال البنوك برأسمال الصناعة، وهنا سعى الرأسماليون للبحث عن مجالات خارجية للاستثمار يكون فيها متوسط معدل الربح أعلى من نظيره في الداخل، ولهذا تميزت الفترة الممتدة من العقد الثامن من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى بصراع محموم بين المراكز الرأسمالية الاحتكارية لاقتسام مناطق العالم وضمان احتوائها للوفاء بمتطلبات استمرار عمليات تراكم رأس المال في تلك المراكز. ويشهد على ذلك أنه في عام 1900 كان 90.4% من مساحة أفريقيا و75% من مساحة آسيا قد تم اقتسامها بين القوى الاستعمارية، لكن هذا التقسيم لم يكن متكافئا بين تلك القوى، ما أجج صراعا محموما فيما بينها وانتهى بإشعال الحرب العالمية الأولى.

ومن أبرز خصائص هذه المرحلة إغراق المستعمرات بالديون، ومن ثم احتلالها عسكريا وسياسيا، ما سمح بإنشاء المزيد من أسواق التصريف الخارجي، والحصول على المواد الخام بأسعار منخفضة، واستمرار ارتفاع الأجور ومستوى المعيشة في الغرب، بينما يزداد في المقابل فقدان الفائض الاقتصادي في الدول الأخرى، إلى جانب فقدان السيطرة على توزيع وتخصيص الموارد، وفقدان الاستقلال السياسي.

وحتى بعد تحرر تلك الدول المحتلة سياسيا، بقيت الهياكل الاقتصادية على حالها دون تغيير، وظلت أسيرة للمعونات الاقتصادية والعسكرية، فضلا عن التبعية للغرب في اتجاهات التنمية.

مؤسس العائلة ماير أمشيل روتشيلد المتوفى عام 1812

تعد العائلة الألمانية اليهودية روتشيلد أشهر عائلة في مجال البنوك والصرافة على مستوى العالم، فقد نجح مؤسس العائلة المصرفي ماير أمشيل روتشيلد بتوسيع مؤسسته الناشئة عبر إرسال أولاده الخمسة إلى إنكلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا، ليتولى كل منهم إدارة فرع محلي لأول بنك دولي في العصر الحديث، معتمدين على التبادل السري بينهم للمعلومات، فنجحت هذه الشبكة في تضخيم ثروتها بسرعة هائلة، وأصبحت تقرض الدول الأوروبية لتمويل جيوشها في الحروب، مثل حملات نابليون وحرب بريطانيا في القرم ثم الحربين العالميتين الأولى والثانية.

ما زالت العائلة إلى اليوم تملك أغلب سندات البلدان الكبيرة، وتسيطر على معظم بنوك العالم تحت مسميات مختلفة، بما فيها البنك الاحتياطي الفيدرالي الذي يملك حق إصدار الدولار الأمريكي، وهو العملة الرئيسية للتداول في أسواق العالم.

المرحلة الخامسة: الأزمات العالمية والليبرالية الجديدة
بعد تغول الاقتصاد الرأسمالي الاحتكاري والاستعماري على اقتصادات العالم كله، ظهرت بوادر الأزمات في داخل الدول الغربية نفسها قبل المستعمرات، فالرأسمالية المتوحشة والطامحة إلى الربح بشتى الوسائل لم تعد قادرة على الانضباط ضمن حدود عقلانية تحدد الأسعار وأسواق التصريف ومصادر، ما أدى إلى سلسلة من الأزمات الاقتصادية الطاحنة، وكانت أولها الأزمة الكبرى عام 1929م، والتي دفعت كبار المنظرين إلى إعادة التفكير بمبادئ الحرية الاقتصادية المطلقة، وعلى رأسهم البريطاني كينز الذي دعا إلى إعادة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي.

وبعد أن استعادت الاقتصادات الرأسمالية عافيتها، دعا منظرو مدرسة شيكاغو في ستينيات القرن العشرين إلى العودة لليبرالية الكلاسيكية تحت مسمى الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية)، وفي الثمانينيات تبنت هذه السياسة كل من إدارة رونالد ريغان الأميركية وحكومة مارغريت تاتشر البريطانية، فازداد تضخم الشركات مرة أخرى، مما مهد لظهور العولمة.

في عام 1992 قال فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ” إن الرأسمالية هي آخر مراحل تطور التاريخ البشري

المرحلة السادسة: العولمة الأحادية
لم يعد ثمة خلاف على أن المتغيرات العالمية التي ميزت العقدين الأخيرين من القرن العشرين في السياسة والاقتصاد والتطور العلمي قد شكلت في مجملها واقعاً تاريخياً وضع كوكبنا الأرضي على عتبة مرحلة جديدة، ولا سيما بعد الانهيار المريع للمنظومة الاشتراكية العالمية ومنظومة التحرر القومي في بداية التسعينيات، الأمر الذي أخل بكل توازنات القوة والمصالح وفق مفاهيم الثنائية القطبية التي سادت طوال حقبة الحرب الباردة السابقة.

فمنذ ثمانينات القرن الماضي برزت مقومات مرحلة الأحادية القطبية أو العولمة، والتي اقترنت بالإمبريالية الأمريكية المسيطرة على مقدرات الكوكب، بحكم ادعائها أنها المنتصر الوحيد وصاحبة الحق في رسم طبيعة ومسار العلاقات الدولية وفق آليات الليبرالية الجديدة، ولعل كتابَي “نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما و”صراع الحضارات” من أهم الأعمال الفكرية التي توضح تبريرات هذه الهيمنة.

لكن تفجر أزمة الرأسمالية عام 2008 أكد بصورة جلية تهافت أفكار منظري الليبرالية الجديدة المتمثلة في “نهاية التاريخ” و”سقوط الأيدولوجيا”، حتى أصبح من الشائع تسمية هذا النمط الاقتصادي باسم “الليبرالية المتوحشة”، وتحققت بذلك نبوءات ماركس التي طرحها قبل 150 عاما، وذلك استنادا إلى تحليله للمجتمع البورجوازي عندما قال إن هيمنة الاقتصاد الدولي المعولم هي أمر ملازم لنمط الإنتاج الرأسمالي، وإن هذه العملية لن تولد فقط نموا ورفاهية كما كان يبشر منظرو الرأسمالية بل أيضا نزاعات عنيفة وأزمات اقتصادية ومظالم اجتماعية في العالم كله. ومن اللافت أن الأزمة الأخيرة دفعت بعض الاقتصاديين الغربيين إلى الاستفادة من الاقتصاد الإسلامي، حيث تبين أن المصارف الإسلامية هي الوحيدة التي لم تتعرض لخطر الإفلاس.

الاستعمار وارتباطه بتطور الرأسمالية المنافسة
يتمثل الاستعمار التقليدي بالقيام بمجموعة من الأعمال التي من شأنها السيطرة بواسطة دولة أو جماعة منظمة من الناس على مساحة من الأرض لم تكن تابعة لهم، أو على سكان تلك الأرض، أو على الأرض والسكان معا.

أما الاستعمار بمفهومه الجديد فهو السيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية على دولة أو مجموعة دول، مع الاعتراف باستقلالها وسيادتها، دون اللجوء إلى أساليب الاستعمار التقليدية.

ومن حيث المضمون لا نجد فروقا أساسية بين الخطين السابقين، إلا في إعادة صياغة أشكال الاستعباد والهيمنة واستغلال الدول المتأخرة، لذا سنقف عند مظاهر النزعة الاستعمارية المتمثلة بنمو المؤسسات الرأسمالية الاحتكارية في مجالات مختلفة لاستغلال مصادر الموارد الأولية، وامتلاك رصيد كبير من الذهب، وتحول المصارف المالية إلى مؤسسات احتكارية وانتشارها حول العالم، وتصدير رؤوس الأموال إلى الخارج لتسهيل التغلغل السياسي والعسكري والاقتصادي، وتكبيل إرادة الشعوب الضعيفة.

ويترتب على مظاهر النزعة الاستعمارية ما يلي:

1- السيطرة على بلاد معينة والتوسع من خلالها على حساب أراضي بلاد أخرى.

2- إيجاد أساليب للتعامل مع أبناء المنطقة المستعمرة على أسس غير متكافئة.

3- التنافس بين الدول الاستعمارية بغرض الحصول على أكبر قدر من المستعمرات.

4- التوصل إلى اتفاقات لتقسيم مناطق النفوذ العالمي، مثل اتفاقيتي سايكس بيكو عام 1916 وسان ريمو عام 1920.

5- تغلغل الاستعمار داخل الإمبراطوريات القديمة بغرض إضعاف مؤسساتها وأجهزتها وعناصرها، ثم تفكيك أوصالها.

وهذا يعني أن النظام الرأسمالي الاستعماري يقوم على حرية المنافسة بين المؤسسات الاقتصادية بما يؤدي إلى إفلاس المؤسسات الصغرى واندماجها مع الكبرى، في إطار ما يسمى بالتركيز الذي يتخذ شكلين أساسين، هما:

التركيز الأفقي: عبر اندماج شركات لها نفس الإنتاج.

التركيز العمودي: باندماج مؤسسات لها اختصاصات متكاملة تهيمن على الإنتاج من البداية إلى النهاية (مثلا كل مؤسسة تنتج قطعة ما من قطع السيارة التي يتم تجميعها في النهاية بالمصنع الأم).

ونتجت عن ظاهرة التركيز أنواع جديدة من المؤسسات القوية، مثل:

– الترَست: اندماج عدة مؤسسات تحت إدارة واحدة مع فقدان المؤسسات المندمجة لشخصيتها القانونية والمالية.

– الكارتيل: اتفاق عدة مؤسسات بهدف الحد من المنافسة عن طريق توحيد الأسعار وتوزيع الأسواق، مع احتفاظ المؤسسات المتفقة بكامل استقلالها القانوني والمالي.

– الشركة القابضة (الهولدينغ): مؤسسة مالية تراقب شركات متعددة عن طريق امتلاكها غالبية الأسهم مع احتفاظ الشركات المراقبة باستقلالها القانوني.

رأسمالية الدولة الاحتكارية
يقصد بالاحتكار في المصطلح الاقتصادي انفراد مشروع واحد بعرض سلعة ليس لها بديل، وشرط وجود الاحتكار اختفاء المنافسة التي يَعْرض بها الاحتكار السلعة. 

وتعد رأسمالية الدولة الاحتكارية أعلى طور للرأسمالية، وقد ظهرت نتيجة للتناقض بين رأس المال والعمل من جهة، وبسبب تركز رأس المال وازدياد الطابع الاجتماعي لقوى الإنتاج من جهة أخرى، فالرأسمالية الاحتكارية للدولة هي جمع قوى الاحتكارات وقوى الدولة في آلية موحدة, وذلك للوقوف في وجه التناقضات الناجمة عن فائض التراكم أو فائض الإنتاج الرأسمالي.

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ازداد تدخل الدولة في معظم البلدان الرأسمالية المتقدمة التي تبنت النظرية كينز (المذكورة سابقا)، وقبلت البورجوازية الاحتكارية بمبدأ التدخل الحكومي لأنه أصبح يخدم مصالحها, لا سيما وأن كينز استهدف، وبإخلاص شديد، حماية النظام الرأسمالي وتأمينه من الاضطرابات الاجتماعية ومن زحف الاشتراكية عليه.

وساعد على ذلك ازدياد تركز وتمركز رأسمال المؤسسات العملاقة (الشركات متعددة الجنسيات)، حيث تلعب هذه المؤسسات اليوم دورا مهما على صعيد العالم الرأسمالي، وتسمى لدى المتخصصين الاقتصاديين بالشركات متعددة القومية أو فوق القومية، فهي ليست متعددة الجنسيات لأن لها جنسية واحدة، هي جنسية الوطن الأم، وإنما توزع استثمارها المباشر الأجنبي بطريقة غير متساوية، اجتماعيا وجغرافيا، على مستوى العالم كله.

وتعتبر هذه الشركات أحدث أشكال الاستثمار المعاصرة للإنتاج الرأسمالي، وأهم الأدوات المسؤولة عن الاستثمار الأجنبي المباشر المرتبط بملكية أصول ثابتة في الخارج، مع امتلاك حق إدارة هذه الأصول. وتكمن استراتيجية هذه الشركات في صياغة دور وتوزيع الاستثمار الأجنبي، كعنصر مكون أساسي في مرحلة الرأسمالية الاحتكارية.

مخطط يوضح أن عشر شركات فقط تحتكر معظم صناعة الغذاء والمنظفات في العالم كله

يتميز الإنتاج العالمي لهذه الشركات بالإنتاجية العالية، وبتوظيف الإبداع التكنولوجي من كل ما توصل إليه العالم في هذا المجال. ويقوم رجال الأعمال الأمريكيون وأشقاؤهم من البلدان الصناعية الأخرى بدعم هذا الاقتصاد عبر نوع جديد من التنظيم، حيث تمتد المئات من هذه الشركات عبر الحدود الوطنية لتنتج السلع والخدمات في الخارج بهدف إشباع حاجة مستهلكي العالم كافة.

 تتيح قوانين الرأسمالية المعولمة للشركات متعددة الجنسيات تخطي الكثير من القوانين وأنظمة الضرائب لسهولة التنقل فوق الحدود إلى المناطق التي تحقق لها أعلى الأرباح وأقل الضرائب، ففي أبريل 2016 نشرت منظمة الإغاثة العالمية “أوكسفام” (مقرها بريطانيا) تقريرا أكدت فيه أن 50 شركة أمريكية عملاقة تخفي 1.4 تريليون دولار من ثرواتها في دول نامية تتيح لها العمل دون ضرائب، وهي الدول التي باتت تسمى بالملاذات الضريبية، وذلك بالرغم من تلقي تلك الشركات تريليونات الدولارات من دعم دافعي الضرائب في الدول المتقدمة.

وعلى عكس المؤسسات التجارية للقرن الماضي، فإن المؤسسات متعددة الجنسيات تضمن سهولة انتقال عوامل الإنتاج (رأس المال والتكنولوجيا وتكنيك الإدارة)، وكذلك سهولة انتقال البضائع. فهي تطلب النمو والربح في كل مكان تبدو فيه الآمال والمردودات عالية جدا.

تتمتع هذه الشركات بالقدرة على جمع كميات جديدة من رؤوس الأموال، وتسعى بمهارة نحو الفرص الجديدة غير المستثمرة، وتطبق في استراتيجياتها المبدأ القائل “ليس لرأس المال وطن، بل وطنه سوق الاستثمار”، وهي تمثل الآن المحرك الأساس للاقتصاد المعولم، وتخلق تحالفاتها سوقا عالمية بالغة التفاوت، قائمة على احتكار القلة، وليست خاضعة لمقتضيات التنافس التام التي تتسم بها الرأسمالية التقليدية.

وتخوض الشركات متعددة الجنسيات صراعا تنافسيا فتاكا، حيث تستخدم كل الاستراتيجيات المتاحة لإقصاء المنافسين عن شبكاتها وحبس آخرين داخل هذه الشبكات، وتنعم هذه القلة الاحتكارية بالمزايا الكبرى.

إن عمل الشركات متعددة الجنسيات في أمريكا وأوروبا هو بمنزلة هدم كلي للأيديولوجية الاقتصادية النيوكلاسيكية والنيوليبرالية، التي تفترض الحصول على أقصى الأرباح في سوق (وطني ودولي) على أساس التنافس التام والذي لا بد أن يقود إلى أقصى حدود الرخاء الجماعي (الوطني والعالمي) والفردي، لكن الواقع يؤكد أن رأسمالية الدولة الاحتكارية هي نمط جديد تتحد فيه قوة الاحتكارات الكبرى وقوة الدولة لحماية المؤسسات الإمبريالية وزيادة أرباحها.

وهكذا ظهر شكل جديد من احتكار المجموعات المالية للسلطتين الاقتصادية والسياسية، وقدمت الدولة إسهامات جدية في عمليات تطور التراكم الرأسمالي وتركز رأس المال والإنتاج، وأصبحت العلاقات السياسية والعقائدية ترتبط بعلاقات الإنتاج وتخضع لها، وازداد ارتباط الاقتصاد بالسياسة، وأصبح تدخل الدولة بالاقتصاد أكثر عمقاً، وتوطدت العلاقات بين مؤسسات الدولة والشركات الاحتكارية، وهذا كله يتعارض جذريا مع المبادئ السياسية التي قامت عليها الليبرالية منذ تأسيسها. 

مدينة شنغهاي في الصين الشيوعية أصبحت تنافس المدن الغربية على اللحاق بالعولمة الرأسمالية

الرأسمالية ومظاهر الأزمة

آدم سميث

مع أن آدم سميث كان أستاذاً لعلم الأخلاق Moral Philosophy  وأستاذ كرسي للمنطق في جامعة غلاسغو University of Glasgow ، فقد نال لقب “أبو الاقتصاد السياسي” في الفكر الاقتصادي الرأسمالي، لذا فليس من المستغرب أن يقول في كتابه “نظرية الوجدان الأخلاقي” The Theory of Moral Sentiments  الذي كتبه عام 1759 “إنه ينبغي على الرجل أن ينظر إلى نفسه على أنه مواطن في هذا العالم وعضو في جمهورية الطبيعة وليس فرداً مستقلاً منفصلاً عن العالم، ومن أجل مصلحة هذا العالم الكبير ينبغي عليه طوعاً أن يضحي بمصلحته الشخصية الصغيرة في كل الأوقات”. لقد نشأت الرسمالية في جو مفعم من القيم والاخلاق إلا أنها مع مرور الزمن انحرفت عن الأطر التي نشأت فيها، ولا سيما مع ظهور التفاوت الطبقي الذي يزداد شناعة كل سنة، وسنذكر فيما يلي بعض الأمثلة عليه:

  • عدد الأشخاص الذين لا يتجاوز دخلهم اليومي دولارين تضاعف خلال أقل من ثلاثين سنة بعد عام 1980، حتى وصل إلى نصف سكان العالم تقريبا، وفقا لإحصاءات البنك الدولي.
  • دخل أفقر 10% من سكان العالم زاد بأقل من 3 دولارات سنويا بين عامي 1988 و2011، في حين زاد دخل أغنى 10% من السكان بمقدار 182 دولارا خلال الفترة نفسها، وفقا لمنظمة “أوكسفام”.
  • الفجوة في توزيع الثروة العالمية تضاعفت خلال أربعين سنة فقط من عمر البشرية، وذلك بين عامي 1960 و2000، وفقا لتقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة 1999.
  • من بين 103 دول شملها تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي مطلع عام 2017، زادت حدة التفاوت في مستويات الدخل بين فئات المجتمع في 77% من هذه الدول.

في مطلع عام 2017، أصدرت منظمة “أوكسفام” تقريرا قالت فيه إن ما يملكه النصف الأفقر من سكان الأرض جميعا يعادل ثروة أغنى ثمانية أفراد في العالم لوحدهم، وأضافت أن هذا العدد يتناقص بسرعة سنة بعد سنة، حيث كان يبلغ 43 شخصا في عام 2010.

نحو نظرية رأسمالية أخلاقية جديدة
في عام 1989 ومع صدور العدد 40 من المجلة الاقتصادية الفرنسية  ECONOMIE DES CONVENTIONS، ظهرت عدة مقالات لعلماء اقتصاد واجتماع وفلسفة فرنسسين تنتقد بجرأة الأسس التي قامت عليها الرأسمالية والتي قادت في النهاية إلى رأسمالية متوحشة، حيث أعادوا الاعتبار إلى الأخلاق والأحكام القيمية وإدراجهما في التحليل الاقتصادي، فأحدثوا بذلك ثورة حقيقة في النموذج الكلاسيكي والنيوكلاسيكي (الليبرالي)، وبدأ منظرو هذا التيار بالحديث عن نموذج اقتصادي جديد تماماً في قطيعة شبه كاملة مع النموذج الاقتصادي الليبرالي الحديث.

لقد برهنت هذه النظرية على أن إدخال الأحكام القيمية، بمعنى ما هو صحيح وماهو خاطئ، في التحليل الاقتصادي سوف يغير المفاهيم الأساسية في علم الاقتصاد، فقد أكدت هذه المدرسة أن السلوك الإنساني هو أمر إشكالي بحد ذاته لعدم خضوعه لقانون طبيعي قابل للتفسير والتعليل، وإنما يخضع لمجموعة أنماط اتفاقية (عرفية)، ورأت أن الإنسان ليس مجرد آلة حاسبة لتعظيم مكاسبه، فهو يأخذ بعين الاعتبار عوامل أخرى وبدائل استراتيجية في اتخاذ قراره، ويحتاج إلى مرجعية  تضبط سلوكه وتملي عليه تصرفاته.

كما أشار منظرو هذه المدرسة الجديدة إلى أن الرشاد الاقتصادي المطلق غير موجود في الحقيقة وإنما هو مرتبط بظاهرة “عدم التأكد” الموجودة في الاقتصاد، ومن ثم فإن هذه المرجعية التي تضبط السلوك البشري يمكن أن تكون نظاما خاصا من القواعد، فقد تكون باطنية كنظام القيم، أو مفروضة كالقانون، أو مقبولة ومتفقا عليها اجتماعيا كالعرف.

ورأى رواد هذه النظرية أن قانون العرض والطلب لا يعطي تفسيرا لكل شيء بل هو أحيانا خاطئ، فليس صحيحا القول إن التوازن في السوق يتم عن طريق السعر كما يعتقد الرأسماليون، بل هذه المرجعية هي التي تحدد التوازن.

فعلى سبيل المثال، عندما يكون هناك عرف بأن سلعة معينة تحمل علامة تجارية جيدة، فيسقط قانون العرض والطلب الذي يخصها لأن سعرها لا يتغير مهما قل عرضها أو طلبها، فالذي حدد التوازن ليس السعر بل العرف. والسؤال المطروح هنا هو كيف يمكننا معرفة هذه القواعد التي تضبط سلوكنا وتقودنا إلى الاختيار الأمثل؟ وما مصدر هذه القواعد وكيف تنشأ؟

ولبحث هذه المعضلة، يمكن الاستعانة بقصة مشهورة في علم الاجتماع يطلق عليها اسم “معضلة السجينين”، حيث تقول الرواية إن هناك صديقين اتُهما بجريمة قتل وقبض عليهما وهما يحملان أداة جريمة، ولكن لم يكن لدى القاضي أي أدلة تدينهما، فوضع كل متهم في حجرة بعيدة عن الآخر، وقال لكل منهما على انفراد: “اشرح لي ملابسات الجريمة واعترف بما حصل وسأضمن لك إطلاق سراحك وسجن صديقك 15 عاماً، وإن لم تعترف أنت واعترف صديقك فستسجن أنت 15 عاماً ويخرج هو من السجن، وإن اعترف كلاكما فستسجنان خمسة أعوام لكل منكما، وإن لم يعترف أي منكما فسيسجن كل منكما عامين”، ثم أعطاهما القاضي مهلة قدرها 24 ساعة للتفكير.

عندئذ سيقرر كل سجين أن القرار الأمثل هو عدم الاعتراف لكليهما لأنه يضمن لهما مدة السجن الأقصر، ومع ذلك فلن يتخذ أي منهما هذا الخيار، لأنه إذا لم يعترف قد يعرض نفسه للسجن 15 عاما في حال اعترف صديقه، فمن الوارد أن يفكر صديقه بمصلحته أولا، وهكذا قررا كلاهما أن يعترف بعد أن فكرا بطريقة “براغماتية” ووضعها المصلحة الشخصية أولاً، فكان حكم القاضي هو السجن خمس سنوات لكل منهما.

ويقول المنظرون إن هذه النتيجة تمثل بالضبط وجهة النظر الرأسمالية البحتة، أما وجهة نظر المدرسة الجديدة فستنقل التوازن الجديد إلى خانة السجن لمدة سنتين، حيث يعاد الاعتبار لقيمة الثقة في نفوس الناس، ويؤمن كل منهما بأن صديقه لن يخونه.

وفي ظل هذه النظرية يندمج الاقتصادي بالاجتماعي بالفلسفي بالرياضي في بوتقة واحدة، ويقول أصحابها إنهم يعتمدون أدوات تحليلية متلائمة مع مفهوم الرشاد الاقتصادي الجديد بعد تخليهم عن الأدوات التي أنتجتها المدرسة الرأسمالية الكلاسيكية، وإن نظريتهم تدرس السلوك البشري مع الأخذ بالاعتبار استراتيجية الأطراف الأخرى الفاعلة والتي ترشد خياراته.

ويرى أصحاب النظرية أنها ليست بديلة عن الرأسمالية التقليدية بل امتداد لها، لا سيما وأن آدم سميث كان يرى أن الإنسان الذي يسعى لتحقيق مصلحته الخاصة سوف يخدم المجتمع أكثر مما لو أراد أن يخدمه بشكل مباشر، وذلك بفضل “اليد الخفية”، إلا أنه لم يكن يعلم –حسب منظري النظرية الجديدة- أن اليد الخفية هي القواعد والأعراف التي تقود إلى الانسجام بين الخاص والعام، وأن مهمتهم هي اكتشاف هذه القوانين ومعرفتها وضبطها.


أهم المراجع
باتريك أرتو وماري بول فيرار، الرأسمالية تدمر نفسها، ترجمة سعد الطويل، المركز القومي للترجمة، 2005.

إسماعيل محمد هاشم، محاضرات في التطور الاقتصادي، دار النهضة العربية، بيروت، 1978.

فؤاد مرسي، الرأسمالية تجدد نفسها، سلسلة عالم المعرفة، العدد 147، الكويت، 1990.

رمزي زكي، الاقتصاد السياسي للبطالة: تحليل لأخطر مشكلات الرأسمالية العالمية المعاصرة، سلسلة عالم المعرفة، العدد 226، الكويت.

رفعت محجوب، الاقتصاد السياسي، دار النهضة، القاهرة، 1973.

Francois Duverny ;L’économie des conventions, méthodes et resultants, Tome 1. Débats, 2006, La Découverte.