تاريخٌ جديد يكتبه النبي الفاتح في دخوله المهيب لمدينته التي أخرج منها ظلمًا وعدوانًا قبل ثماني سنوات، طريقة الفتح الأجلّ التي صارت فيما بعد منهجًا للفتح الإسلامي، الفتح الذي سما عن إراقة الدماء بلا وجه حق، وتعالى عن أن يكون انتقامًا لكل سنوات العذاب والظلم التي طالت المسلمين في بداية الدعوة.
الضعفاء الذين كانوا يخافون أن يتخطّفهم النّاس إلّا أن يقولوا ربّي الله، وما ملكوا إلّا الكلمة الطيّبة أمام صنوف العذاب! الذين التصقت بطونهم بظهورهم من الجوع أيام حصار شعب أبي طالب من بني جلدتهم وعمومتهم.
النبي الذي لجأ للطائف يسألهم عونًا وسندًا فإذ بهم يخذلون دعوته ويسخّرون غلمانهم يتبعونه بالحجارة حتى أدموه، فيخلّد الله دعاء نبيّه في التاريخ (اللهم إنًي أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت ربّ المستضعفين وأنت ربي)، وإنك إذ تقرأ هذه الكلمات تقف حائرًا أمام هذا الضعف النبيل الذي ألجأه لطلب العون والنجدة من الله، فمنتهى العزّ أن تقرّ بمنتهى الضعف بين يدي الله.
نعم هم “المستضعفون” الذين ذكرهم الله بهذا الوصف في كتابه العظيم وهو يذكّرهم بنصره لهم وبعظيم فضله حين قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].
كانت البداية من عند “الضعفاء” الذين وجدوا في الدعوة إلى الله معنى التحرر من سلطان الناس إلى ربّ الناس فتحققت فيهم أولى طلائع النصر، وحملوا همّ قيادة الدعوة على ما فيهم من ضعف حتى وصلت إلينا.
الضعف المؤذن بالنصر
اعتقادك المطلق بعبوديتك لله أولى خطوات التمكين ونزع أغلال الضعف المؤدية لعبادة كل شيء سوى الله، واعتقادك بأنّك من الله وإليه راجع يورثك إيمانًا وقوّة راسخة تجعلك تقف أمام ظالميك لا تخافهم ولا تخاف ما يمكن أن يلحقوه بك، لتكون شاهدًا على الدوائر حين تدور.
هذا بلال الحبشي العبد الضعيف مهدور الحقوق، يعتلي الكعبة الشريفة يوم الفتح يصدح صوته في أرجاء مكّة يسمعه القريب والبعيد معلنًا أن هذا الدين باق وأن حناجر الضعفاء انتصرت يوم آمن أصحابها بالله واتخذوا كل سبب يوصل للنصر.
لقد ظنّت قريش كما يظنّ الطغاة في كل زمن أن في التضييق والتنكيل والتعذيب الذي صبّته عليهم وهم في غاية ضعفهم نهاية هذه الدعوة، فزادوا على كل ما سبق حصارًا وتهجيرًا، ذلك التهجير الذي ذكره الله في كتابه ضمن العذابات الشديدة التي يتعرض لها المظلوم، فلا أقسى من أن يُنتزع الإنسان من مكانٍ ولد ونشأ فيه وله فيه قرابات وصلة وهوى، إلى مجهولٍ لا يعرف كيف يعيد غرس نفسه وأولاده فيه، فيهيم في تلك البلاد وتضيع بوصلته أو تكاد.
ثلاث وخمسون عامًا عاشها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، فلك أن تتخيل حجم الألم الذي دخل قلبه الشريف وهو يدير ظهره لمكة المدينة التي يحب، ويستقبل مدينة أخرى لم يألفها، وقد ذكر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه فقه السيرة أنّه لما وصل المسلمون إلى مهجرهم المدينة كان مرض الملاريا قد انتشر فيها، فتخيل كيف كانت أيامهم الأولى فيها، وانظر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يبتهل إلى الله أن يرزقه الاستقرار وحبّ الواقع الجديد: (اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكّة من البركة)، [رواه البخاري ومسلم]، وقوله: (اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكّة أو أشد) [رواه البخاري]، فتأمله فداه روحي كيف كانت مكة عنده منتهى المدن وحبها منتهى الحب فأراد لقلبه وقلوب المهاجرين أن تستقر فكان هذا الدعاء الجليل أن يثبتهم الله ويزيل حسّ الغربة الأليم فيحبون مهجرهم كما يحبون وطنهم.
لم تكن الهجرة وترك الوطن إلا بداية العمل، ولم يكن صلح الحديبية الذي سبق الفتح إلا التمهيد الأكبر له، الصلح الذي ضمّ شروطًا رآها المسلمون آنذاك تنازلات وضعف، فشاء الله أن تكون فاتحة عصر جديد فيه يغاث الناس بعد سنين عجاف، بل إن سورة الفتح نزلت يوم الحديبية، أي في ذلك اليوم الذي تم فيه الصلح الذي أتاح للنبي أن يبدأ تأسيس الدولة بمفهومها الثابت ومؤسساتها، وأتاح له تجهيز جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل يدخل مكة بعد ثمان سنوات من هجرتها.
هذا هو النصر!
كيف يكون الفتح إذًا والفاتحون اليوم هم أصحاب الأرض ضعفاء الأمس، وقد صارت لهم المنعة والشوكة فلا تقدر قوة أن تقف في وجههم، هم الذي تشهد لهم أحياء مكة وصحاريها ما لاقوه في سبيل اعتقادهم، ولو أن الفاتحين حين دخلوا مكة عمدوا إلى من ظلمهم وأخرجهم من بيوتهم فأعملوا فيهم سيوفهم أو أخرجوهم منها كما فعلوا هم لكن ذلك قصاص عين بعين والبادئ أظلم، لكن تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم تربوا على معان سامية عالية أساسها الرحمة واللين، وقد أمر الله بذلك نبيّه فبدأ بالعفو عمن ظلمه أولًا وسار عليه صحابته اقتداء بمن أحبوا.
دخلها منتصرًا متواضعًا مصلًيا في الكعبة التي حُرِم منها، جمع القوم كما جمعهم يوم بلّغهم دعوة التوحيد، جمعهم البارحة داعيًا ويجمعهم اليوم داعيا وقائدا منتصرا، حمل سنوات الدعوة والعذاب والهجرة وجعلها جسرا يوصله لمكّة ثم لقلوب أهلها ومنهم إلى العالم.
كانت رحلة امتدت لـ 23 عامًا بين “اذهبوا فأنتم الطلقاء“، و “والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه“، فكان أن أظهره الله ووصلت دعوة الإسلام بعد 50 عامًا من بدايتها ليكون أتباع هذا الدين ممتدين من الصين إلى إسبانيا، واليوم في كل مكان، من يدري لعلّ سنّة الله في التغيير قد بدأت، ولعلّ حناجر الضعفاء التي أزهرت في الشام تزهر في غزّة والسودان وكل بلاد المستضعفين، فلنا في الفتح أُنْسٌ وعبرةٌ ودروسٌ لا تكاد تنتهي.