ويهدي الله من يشاء!
أشعرت نفسك ذات يوم غارقًا فيما يشبه الأجواء الصاخبة، ضائعًا في ظلمة حالكة السواد، تقف على طرق متفرقة، تحاول مرة تلو مرة العبور، فتفشل، ويذهب استنفار الطاقة هباءً، تعاني الأرق المستمر، وتشعر بأن شيئًا ما يكاد يقضّ عليك! إنها خصال ضلالة الطريق، حين تختار انجرافًا مع الهوى، واتباع الهوى من معوّقات الهدى، وهذا ما أفادنا به قول النبي صلى الله عليه وسلم (فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوًى متبعٌ، وإعجاب المرء بنفسه) [أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط وهو حسنٌ بشواهد أخرى].
لقد ساق الله لنا الهدى -التي هي الرسالة-، بالبيان البليغ عبر الرسل والأنبياء، طالبًا منا التسليم والانقياد، فمن أخذ بالتسليم لله أضفِيَ عليه صفة المتقين، كما في قوله تعالى: {ذٰلك الكتاب لا ريب ۛ فيه ۛ هدًى للمتقين} [البقرة: 2]، وهناك من أعرض عن دليل الهدى فأخلد إلى الهلاك؛ كما قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 124].
إن الهداية التي تتحدث عنها هذه الآيات تشير إلى أنها سببٌ وشرطٌ مؤدٍّ لا موجبٌ للهداية الكاملة، بل قد ينتفي الهدى مع وجودها، فالله تبارك وتعالى أرسل الأنبياء هدىً للناس ولإرشاد الأمم السابقة إلى طريق الحق، أي أنهم كانوا أسبابًا للوصول إلى الهدى، لكنهم استحبوا الضلالة عليها.
إن وجود الدليل الإرشادي (القرآن) لا يعني بالضرورة وجود الاهتداء أو العمل بهذا الدليل، مما يؤكد على أنه هناك موانع أو استعدادات قلبية نفسية ذهنية يمكن أن تسهم في طبيعة التفاعل مع دليل الهدى، ولذلك تجد في دعوة الرسل؛ ما ذكره الله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون} [فصلت: 17]، أي أنهم فضّلوا اختيار الضلال والعناد عليه، وبالتالي فإن هناك عوامل لها الأثر الذي يقتضي رفض الرشاد.
ما سبب عدم اتعاظ البعض بالقرآن؟
يعود الأمر -بدايةً- إلى النفس البشرية؛ إذ لها الدور في اتعاظ البعض وعدم اتعاظ آخرين، صحيحٌ أن الإنسان يُخلَقُ سويَّ الفطرة لكن لا شيء يدوم على ما هو عليه دون المتابعة اليومية أو العناية المستمرة، حيث إن النفس تتأثر بالعوامل من حولها سريعًا، سواء كانت عوامل إيجابية أو سلبية.
والنفس البشرية تصل إلى مرحلة من الضلال بحيث لا يأتي لخاطرها الإنابة والتوبة، وذلك مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أذنب العبد نُكِتَ في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقل منها، فإن عاد عادت حتى تعظم في قلبه، فذلك الران الذي قال الله: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14])، فإذا خُتِم على قلب العبد انتهى أمره، ومن ثمّ لا تستغرب إن صادفتَ أشخاصًا لا يعنيهم الدين من الأساس بل ينفرون منه نفورًا شديدًا.
إن القرآن لم يختص بأحد دون آخر، ولم ينزل على مؤمن دون كافر، بل أنزِل للناس كافَّةً، وهناك من اختار أن يكون من منزلة {أولئك على هدًى من ربهم} وهم الذين خصهم الله بالمنزلة الرفيعة في الدنيا والآخرة، وهناك من اختار منزلة {إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6] وهؤلاء كفروا بالدليل الإرشادي وكان مصيرهم الضلال في الدنيا، وأعدت لهم جهنم في الآخرة.
إن الله سبحانه وتعالى جعل أمامنا طريقان بيّنان، الهداية أو الضلالة، ولكن السبب يعود إلى مباشرة العبد في الحكم علة نفسه، فالضال إنما هو ثمرة ضلاله وما ترتب على ذلك من الطبع والختم والران، والمتّقي إنما وصل لذلك بإرادته الحرة وسلوكه السبل التي تعين على الطاعة.
الزم طريق الهدى
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: “الزم طريق الهدى، ولا يضرّك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين” [الصواعق المرسلة، ابن القيم] فإن أصابك الضمور، والإحباط في تفردك، فلا تجعل نظرك إلا إلى السابقين من الأتقياء، واحرص على اللحاق بهم، وغضّ الطرف عمن سواهم من أهل الضلالة، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا، ولا تفكّر في الالتفات إليهم، فإنك متى التفت إليهم سقطت في فخ الانقياد لهم.
قال تعالى: {أفمن يمشي مكبًّا على وجهه أهدى أمن يمشي سويًّا على صراط مستقيم} [الملك: 22] فأيهما أولى بأن يتبّع؟ من يمشي في الضلالة، أم من يمشي مهتديًا؟ لا بد أن التائه في الضلال، الغارق في الكفر والمعاصي، يعيش وقد طمس على قلبه، لا يعرف للحق قرارًا، أما من يمشي على الصراط المستقيم فقد تخلل قلبه الإيمان والعمل بالحق.
تروي لنا السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يدعو: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)، قلت: (يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء! فقال: ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، أما تسمعين قوله: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب} [آل عمران: 8]) [أخرجه الإمام أحمد في المُسند والترمذي في السنن بسند حسن]
من الطبيعي أن يبقى الإنسان في دوامة التقلب، فهو بشر يعافس الأخطاء والخطّائين بشكل مستمر، لكن أكثر ما يعينه على الثبات على الصراط المستقيم هو العزم على اجتناب المحرمات واتباع الهوى، وأن يبادر في فعل الخيرات، وأن يبادر لتنمية معرفته أكثر بخالقه والعظمة التي يتصف بها، ويتعلم كل علم يقربه من الله، كما قال تعالى : {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} [الزمر: 9].
إن طريق الوصول إلى الله يسير وسهل، لكنه يحتاج منك إلى الإرادة والمثابرة، والعزم على الثبات، وعدم التهاون، ومتى أردت المقابل لا تتهاون في أن تعمل أضعاف مضاعفة لأخذ ما تستحق.