مفاتيح القلوب من القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، يبقى موضوع العقيدة موضوعا محوريا ليس فقط في الدين الإسلامي، بل في جميع مناحي الحياة، فالمرء بطبعه يحتاج حججا -بغض النظر عن صحتها- يستعملها لتبرير اعتناقه فكرة ما. وفي سبيل ذلك يوظف أساليب متعددة ويعتمد مناهج مختلفة سواء في التعرف عليها، أو اعتناقها، أو الدفاع عنها والدعوة لها.
ومادة الدعوة إلى الله ليست بالبعيدة عن هذا النسق الاستدلالي، فهي أيضا تعطي للإنسان أدلة على ما تدعو له، وهو عبادة الله وحده، وعدم إشراك أحد أو أي شيء في عبادته، مستندة على مصادر كثيرة واستنباطات منطقية وشهادات تاريخية وغيرها من أمثلة الحجج، مخاطبة في ذلك عقله وقلبه على حد سواء. قال الله تعالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف، الآية 108]. وفي هذا المقال، سنتفرغ لطرح بعض من أساليب الدعوة إلى الله من القرآن الكريم وتبيان المنهج المعتمد في ذلك.
بادئ ذي بدء، تجب الإشارة إلى أن هذا الموضوع كغيره من اشتقاقات النقاش، يرتكز على ثلاث عناصر أساسية:
أولها هو الجهة المرسلة، ما يعني في هذه الحالة الأنبياء والرسل أو من يخلفهم من الوعاظ والدعاة إلى طريق الله. وهذا يستدعي منهم حكمة وعلو خلق، تأسيا في ذاك بالرسول صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم، الآية 4]، وقال أيضا: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام، الآية 48].
ثانيها: الجهة المستقبلة، أي كل من حاد عن طريق الله، من الشرائع المحرفة كاليهودية والنصرانية، ومن الاعتقادات المبطلة لبعض الدين الإسلامي أو كله كاللاأدرية والإلحاد. وتحتاج هذه الفئة تحضيرا من قبل الجهة المرسلة لتلقي الرسالة لما قد يطالهم من جهل وجحود أو كبر أو غيرها من معوقات التواصل السليم، كما أنه يجب عليهم الإذعان للحق حين معرفته. قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ، الآية 24].
ثالثها: الرسالة أو مضمون النقاش، فهي يجب أن تكون مفهومة، سهلة الاستيعاب، خالية من المغالطات المنطقية، متماشية مع السياق الزمكاني الذي تتواجد به، ومن أمثلة ذلك كون المعجزات تأتي من جنس ما تداوله الناس واحترفوه، فتغير العادة وتعجز المعاندين الجاحدين. ولنا في قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون والسحرة خير دليل على هذا وكيف برهن على صدقه فيما يحكي عن ربه بأن ابتلعت حيته المعجزة ما جاءوا به من سحر، فأذعنوا لله رغم ما طالهم من التعذيب فيما بعد لعلمهم التام بخرق ما جاء به النبيء لعادتهم. فقال الله عز وجل: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ. (48)} [الشعراء، الآيات 30-48].
وحتى يتسنى للمرسل إيصال دعوته للمرسل إليه على الوجه الذي يصح، سطر القرآن منهجا واضحا لذلك يتبع قاعدة رئيسة، وهي عمل ما يتوجبه الوقت، وذلك بأن يحترم ما يحيط به من سياق زماني ومكاني، عرفي وتاريخي، وهذا ما يتم تفصيله في القرآن بإيجاز، فهو يراعي الحالة العامة التي تربط بين طرفي النقاش، فيفصل بين معاملة المسالمين من الجاحدين وبين معاملة المقاتلين والمعترضين منهم. يقول الله سبحانه وتعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة، الآيتان 8-9]. كما أنه أكد على اختيار الطريقة الأصوب في النقاش والبحث عن إيصال الرسالة على أحسن وجه ممكن. وفي هذا الصدد، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل، الآية 125]. ويعقب الغزالي على هذه الآية، فيقول: “إنَّ المدعوَّ إلى الله تعالى بالحِكمة قومٌ، وبالموعظة قومٌ، وبالمجادلة قومٌ؛ فإنَّ الحكمة إن غُذِّي بها أهلُ الموعظة أضرَّت بهم كما تضرُّ بالطِّفل الرضيع التغذيةُ بلحم الطَّير، وإنَّ المجادلة إنِ استُعملتْ مع أهل الحكمة اشمأزُّوا منها كما يشمئزُّ طبع الرجل القوي من الارتضاع بلبن الآدمي.” [1]
وعلى العموم، يتماشى القرآن والواقع، وكمثال على ذلك، نذكر الفرق بين الخطاب القرآني في الفترة السرية وفي الفترة الجهرية من الدعوة في مكة، وبين مرحلة الضعف ومرحلة القوة. ولكن هذا لا يكفي لإيصال الرسالة، فما تم ذكره سلفا هو نظري، ويحتاج إلى ما هو عملي لزيادة فعاليتها ووقعها على المتلقي. وهذا ما يتطلب التعرف على أساليب الدعوة، وتوظيف أصلها للمكان والزمان الواقعين.
ونجد أن القرآن يتأرجح بين الترغيب والترهيب، وبين الماضي والحاضر والمستقبل، فهو مرة يخاطب العقل، ومرة يخاطب القلب، ومرات يخاطبهما معا. وهذا ما يفهم من سرد قصص الأقوام التي خلت، والتهويل من ما طالهم من عذاب. قال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء، الآية 59]. ولكنه لا يقتصر على قصص العذاب، بل يطرح قصة يونس عليه السلام، كمثال على أقوام آمنوا فأكرمهم الله بذلك في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ} [يونس، الآية 98]. وهذا حتى ينبئ المحاوَر بما يصير إليه كل خيار من خياري الإيمان أو الإنكار.
ويرجع الأسلوب القرآني أيضا في دعوته إلى الله إلى سرد نعمه على الناس وإلى منه عليهم بما حباهم به، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [غافر، الآية 61].
كما أنه قد يلجأ لاستدلالات منطقية، كأن يسأل الجاحدين عن سر خلقهم، أو عن منبت ما يزرعون، فذكر سبحانه في هذا: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة، الآيات 57-74].
أو أن يريهم ما خلق لهم في أنفسهم وفي الكون فيهتدوا بها إليه. قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت، الآية 53].
وخلاصة القول، أن القرآن ينوع من الأساليب في الدعوة إلى الله موظفا الأسلوب الأنسب لكل زمان ومكان بعينه، ومخاطبا جميع الناس باللغة التي تخترق قلوبهم حتى يسهل اقتناعهم بهذه الرسالة. ويبقى التنويه في الأخير إلى أن الهداية بيد الله وحده، وما هذه الأساليب والمناهج إلا حجج يقيمها الله على الظالمين من عباده وموعظة للمتقين. قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص، الآية 56] وقال أيضا سبحانه: {هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران، الآية 138].
فاللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما. والحمد لله رب العالمين.
[1] تفسير الإمام الغزالي، جمع وتوثيق وتقديم الدكتور محمد الريحاني، نشر دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة، ومؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) بفاس، الطبعة الأولى 2010، ص202- 203).