مرجعية الأخلاق بين الفردانيّة والدين
من البدهيّ أن يكون للإنسان مرجعيّة يستمدّ منها مفاهيمه ويَبني من خلالها تصوّراته التّي تنبثق منها سُلوكيّاته، وبها يُصدر أحكامًا ومواقف حول الأحداث التّي تعترضُه، ومن الطبيعي أن اختلاف المرجعيّات يُنتج مفاهيم مُتباينة ومُتناقضة، وسينعكس ذلك على سُلُوكيّاتنا داخل مُجتمعاتنا.
في ظلّ واقعنا الذّي يَشْهد موجةً مُتسارعة للتّحديث الهادف لطمس الهويّة الإسلاميّة واجتثاثها من نُفوس المُنتمين إليها، فإنّنا نُلاحظ تكوّن تيّارٍ اجتماعيّ يجعلُ الغرب مرجعيّته في الحياة، ممّا إنعكس ذلك على مُختلف جوانب حياتنا اليوميّة. ولعلّ من أبرز هذه الانعكاسات هو التغيّرات التي طرأت على مفهوم الأخلاق، ومن هنا أصبح هنالك تساؤل جديد فيما بيننا حول مرجعيّة الأخلاق: هل هي الدّين وفق المنهج الإسلامي أم هي العقل وفق منهج الفردانيّة والتمركز حول الذات؟
مرجعية الأخلاق، بحثٌ عن الجواب
يُجيبنا عن هذا التّساؤل الدّكتور عبد الوهّاب المسيري فيقول:” كيف يُمكن للعقل في إطار العقلانيّة الماديّة أن يفرّق بين ما هو أخلاقي وبين ما هو غير أخلاقي؟ فالعقل إذا كانت مرجعيّته النهائية الطبيعة، أي المادة، وهو قادر على اكتشاف مبدأ السببيّة العامّة في الأشياء والدوافع الغريزيّة في الإنسان، التّي تؤكّد الحتميّات الماديّة الخارجيّة، وتنكر ضمنًا استقلاليّة الإنسان وحركته، علمًا بأنّ العقل المادي المحض يوجد داخل حيّز الماديّة فحسب، وقد وصفه أحد المُفكّرين بأنّه لا يشع نورًا، وإنّما هو موصل جيّد للنور أو الظّلام”(1) فإن العقل المادّي ههنا سيبقى وحده عاجزًا عن أن يصل للمفهوم الصّحيح للأخلاق، بل قد يجعل من الباطل والظُلم خُلُقًا يُدافع عنه!
ولنضرب مثالاً قريبًا على ذلك، فعندما بلغ انتشار فيروس كورونا ذروته وتدَهور الوضع الاقتصادي العالمي، قرّرت الحكومة الأمريكيّة -استنادًا إلى العقل الاقتصادي- التخلّي عن الكبار في السنّ وذوي الاحتياجات الخاصّة لأنّهم لا يُمثّلون قوّة إنتاجيّة في المجتمع وفي المُقابل منح الأوليّة في الرّعاية الصحيّة لباقي أفراد المُجتمع بسبب التّكلفة الباهظة للمُعدّات الصّحيّة، إذ إن العقل المادي المُحايد لا يُحابي أحدًا، فهو لا يرى إلاّ مصلحته الآنية الضيّقة المُستندة على الأرقام والإحصائيّات ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامّة.
إن الخلاصة من هذا كلّه أنّ الدّفع بالأخلاق عن كلّ مرجعيّة دينيّة هو دفعٌ بها نحو أخلاق الجاهليّة العمياء.
ولنا أن نتساءل هنا: كيف وصل الغرب إلى مفهوم “الأخلاقي” وما هي مرجعيّته في ذلك؟ وكيف انعكس هذا المفهوم على مُجتمعاتنا المُسلمة وما هي حقيقة نظرة الإسلام للأخلاق؟
فلسفة الأخلاق في الغرب
كان مصدر الأخلاق في أوروبا هو الدّين المتمثّل في الدّيانة المسيحيّة التّي تعرضت لتحريف حقائقها فكانت النّتيجة الحتميّة الابتعاد عن المفهوم الصّحيح للأخلاق لأنّها قرينة للعقيدة ومُنبثقة منها، وعندما احتكّ الغرب فترة الحروب الصّليبيّة بالمُسلمين ودخلوا بُلدانًا إسلاميّة ومكثوا فيها، استفادوا من الأخلاق الإسلاميّة فقد لاحظوا سلوكيات أخلاقية متعددة لديهم كالأمانة عندما يترك التجّار دكاكينهم للصّلاة مفتوحة ثمّ يعودون إليها ولم ينقص منها شيء، ولاحظوا أخلاق الأخوّة والتّعاون والمحبّة والرّحمة بين أفراد المُجتمع الواحد، إضافة إلى إتقان ونشاط واجتهاد العامل المُسلم في عمله، وتعلّموا أيضًا معنى الوفاء بالعهد خاصّة في تعامُلهم مع صلاح الدّين الأيّوبي، و لنضف إلى ذلك كلّه الرّوح الرّومانيّة القديمة التي كانت تتميّز بالنّشاط و النّظام و التّحسين في عالم المادة و الإنتاج، و من هذا المُنطلق الدّيني و الرّوماني تكوّنت مجموعة من الفضائل والأخلاق الكريمة في الغرب بقيت مُنتشرة بينهم لأنّهم لاحظوا منفعتها داخل مُجتمعاتهم ومدى أهمّيتها في تنظيم حياتهم. ولا ننسى أيضًا تأثير الفلسفة اليونانيّة على حصيلة الأخلاق الأروبيّة حيث أصبحت قائمة على التّفرقة بين النّظريّة والتّطبيق، فتحوّلت الأخلاق إلى نظريّة في عالم المُثل وبقي الالتزام بها وتطبيقها مُرتبطًا بالظّروف و محكومًا بالضّرورات.
ففي السياسة أصبحت القاعدة العامّة “الوسيلة تُبرّرُ الغاية” وأصبح هنالك نوع من المكر والخداع واستغلال النّفوذ من أجل تحقيق مصالح حزبيّة أو شخصيّة ضيّقة، وتحوّلت السياسة الخارجيّة إلى فكر استعماري هدفه السيطرة على الدّول الأخرى واستنزاف خيراتها عن طريق الحروب المُدمّرة ومُساندة المُستبدّين والظّالمين حفاظًا على مصالحهم. فعلى سبيل المثال تمّ عقد اتّفاقيّة سريّة سنة 1916 بين فرنسا و بريطانيا و روسيا عُرفت باسم اتّفاقيّة “سايكس بيكو” هدفها إقتسام الدّول العربيّة الواقعة شرقي المتوسّط، و تمّ الاتّفاق على أن تقوم فرنسا بالاستلاء على غرب سوريا و لبنان و ولاية أضنة، و أن تقوم بريطانيا بالاستيلاء على منطقة جنوب و أواسط العراق بما فيها مدينة بغداد و كذلك ميناء عكا و حيفا في فلسطين، و أمّا روسيا فمن حقّها الدّفاع عن مصالح الأرثوذكس بالأماكن المُقدّسة بفلسطين. و من الأمثلة أيضًا السياسة الخارجيّة التّي تنتهجها الإدارة الأمريكيّة في تعاملها مع عالمنا العربي الإسلامي، حيث أصدر “مركز القرن الأمريكي الجديد” بحثًا جديدًا بعنوان “التّكيّف الإستراتيجي” وردت فيه التوصيّات التّالية التّي تعتمدها أمريكا: أ- حماية أمن حلفاء أمريكا و رعاية السّلام العربي الإسرائيلي، ب- نشر القيم الأمريكيّة و أسلوب الحياة الأمريكية، ت-محاربة الإرهاب، ث- الوصول الآمن للنّفط، ج-دعم الأنظمة العربيّة المُستقرّة و لو كانت ديكتاتوريّة، ح- التّمييز بين الأفراد و الحركات المعادية للقيم الأمريكيّة و بين من يقبلونها (2).

سيغموند فرويد
وفي الاقتصاد قامت الرّأسماليّة على الرّبا والاستئثار بالثّروات وعلى الجشع والأنانيّة ونهب المواد الخام من الشّرق من أجل الرّبح المادي مع الحرص على إغراق أصحاب هذه المواد في الفقر والتخلّف والجهل مع تصدير لهم المفاسد والملذّات وأدوات الزّينة والملابس من أجل تحقيق الرّبح المادّي، وفي الجنس أصبح هنالك انفصال عن الأخلاق أساسه التّفسير الحيواني للإنسان ولا غرابة من أن نجد الفيلسوف فرويد يقول:” إنّ الإنسان لا يُحقّق ذاته بغير الإشباع الجنسي وكلّ قيد من دين أو أخلاق أو مُجتمع أو تقاليد هو قيد باطل ومدمّر لطاقة الإنسان وهو كبت غير مشروع”(3).
وبذلك أصبح الجنس عمليّة بيولوجيّة لا علاقة لها بالأخلاق، ولا ننسى أيضًا المثليّة الجنسيّة حيث أصبحنا نشاهد في الغرب مراسيم زواج بين طرفين من نفس الجنس باسم الحرّية الزّائفة. وقد وقع هذا التحوّل الأخلاقي تدريجيًّا ولم يبق من الأخلاق إلاّ فضائل محدودة في التّعامُلات اليوميّة، والسؤال المطروح هنا كيف انعكس ذلك على مُجتمعاتنا المُسلمة؟!
الأخلاق الغربية، انعكاسات وآثار
بسبب انبهار المسلمين بالتقدّم العلمي والمادي في الغرب، وظن كثيرٍ من المؤثرين فيهم بأن سبيلنا للنّهوض هو التّقليد الأعمى للغرب، فقد صار المسلمون يقلّدونهم في كلّ شيء، إلاّ في تطبيق شروط التقدّم والتّطوير العلمي! فقد أصبحنا نشهد انفصالاً بين الإسلام والواقع، ففي السّياسة أصبحت الفكرة السّائدة إذا أردت مُمارسة السّياسة فعليك ترك القيم والمبادئ الأخلاقيّة واستبدالها بالنّفاق والكذب والخداع والغشّ، وأصبح الحُكم عندنا غاية هدفُها تلبية غريزة السّلطة في نُفوسنا وتحوّلت السّياسة إلى سبيل لخدمة المصالح الذّاتيّة وبيع الذّمَم كالقبول بالذلّ وخدمة المصالح الغربيّة وبيع الوطن من أجل البقاء في الحكم، وفي الاقتصاد أصبح همّنا الرّبح المادّي وتحقيق الثّراء الفاحش حتّى عن طريق السّرقة من المال العام والظّلم والسّلب والاحتيال والرّشوة والتّعامُل بالرّبا ولم يعُد هنالك وزنٌ لكلمة “المال الحرام”، وفي الجنس انتشرت بيننا الميوعة، وبات يُطلق اليوم على الزّنا “علاقة حبّ” وأصبحت الزّانيات يُطلق عليهنّ ” الأمّهات العازبات” وأصبح التعرّي دليل على الرّقيّ والثقافة وأصبح الشّذوذ حريّة وجب القبول بها. ورغم هذا الفساد الأخلاقي مازال منّا من يقول أنّ للغرب فضائل مثل الصدق والأمانة والعدل والإتقان والجودة في العمل ولو التزمنا بها سنُصبح مثلهم، ولكنّنا تناسينا أنّ هذه الفضائل نفسها لا يخلوا منها مُجتمع، حتّى في الجاهليّة حيث كان العرب يتّسمون بالشجاعة والصّدق والكرم، وفي المُقابل كان الظلم والفساد والكُفر مُنتشراً بينهم، وما حافظ الغرب على هذه الفضائل إلاّ في حدود القوميّة والمنفعة من أجل استقرار مُجتمعاتهم وحُسن تنظيمها، وأمّا خارجها وعند تعارض المصلحة فلن تكون لهذه الأخلاق قيمة وخير مثال على ذلك الإساءة التّي حصلت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في فرنسا، فمن الأخلاق احترام الآخرين وخاصّة الأنبياء، وعدم السّخرية منهم وترويج الأكاذيب حولهم، ولكنّهم في المُقابل يُعاقبون من يسخر من مسؤول حكومي عندهم لأنّه قد يتسبّب ذلك في عدم الاستقرار وتفقد حكومتهم هيبتها داخل مُجتمعهم!

علم قوس قزح لتأييد حقوق المثليين والشواذ
مفهوم الأخلاق في الإسلام
إنّ المُسلم الذي يلتزم بالأخلاق الفاضلة إنما يطيع الله ويسعى لنشرها في واقع النّاس وتطبيقها، وسعيُه هذا عبوديّة لله، فالأصل أنه لا وجود لانفصال بين الإسلام والواقع عملاً بقوله تعالى:” قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ”(4).
ففي السياسة نرى أن كلّ مسؤول مُطالب بتحقيق العدل والإصلاح ومُحاربة الفساد مُلتزمًا في ذلك بالمنهج الإسلامي عملاً بالقاعدة التّي أرساها الخليفة عمر بن عبد العزيز حيث قال له والي خراسان إنّ شعبها لن يُصلحه إلاّ السيف والسّوط، فكان جواب عمر له: ” كذبت، بل يُصلحهم العدل والحقّ فابسط ذلك فيهم واعلم أن الله لا يُصلح عمل المُفسدين”(5).
وفي الاقتصاد نرى أن كلّ مُسلم مُطالب بمُقاطعة المال الحرام والالتزام بالصّدق والأمانة وحُسن الأداء عملاً بقوله صلّي الله عليه وسلّم:” التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ”(6)، وفي العلاقة بين الجنسين فإننا مُطالبون بالعفّة ونقاوة السّريرة وبغضّ البصر والسّتر والحياء في القول والفعل وفي اللّباس عملاً بقوله تعالى:” قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ” (7).
إن أخلاق الإسلام واضحة وعلينا أن نكون مُخلصين فيها لله وحده وما تشهده مُجتمعاتنا من أزمة القيم والمبادئ هو بسبب تخلُّفنا نحن عن ديننا وبداية الإصلاح تكون بتصحيح المفاهيم وبمُجاهدة النّفس على الالتزام بمنهج الإسلام.
الهوامش:
(1): حوار حول التّراث والحداثة، د. نعمان عبد الرزاق السامرائي، سلسلة كتاب الأمة، الطبعة الأولى، 2015، ص: 80.
(2): المسلمون و الحضارة الغربية، د. سفر عبد الرحمن الحوالى، الطبعة التمهديّة،2018، ص: 38.
(3): جاهليّة القرن العشرين، محمد قطب، دار الشروق للنشر، 1993، ص: 175.
(4): سورة الأنعام، الآية 162-163.
(5): الدولة في الإسلام، خالد محمد خالد، دار ثابت للنشر، الطبعة الأولى، 1981، ص: 109.
(6): تحفة الأحوذي، كتاب البيوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، الحديث رقم: 1209، ج4- ص” 335.
(7): سورة النور الآية 30-31.