مبادئ من عَبَق أم مبادئ من ورق؟
تعتبر الحياة المكونة من توازن القيم والمبادئ والأخلاق والعمران الأساس للنهضة وبناء الحضارة المستمرة، فلا يمكن أن تقوم النهضة الحقيقية دون أساس أخلاقي ينصف الفقير والمظلوم والضعيف، كما أنه لا يمكن أن تتقدّم الحياة في ظل الاضطراب والحقد الداخلي المتبادَل، ولذا فإن المجتمع يسمو بمواطنيه وأخلاقهم وقيمهم ومبادئهم وما يقدمونه من إسهامات فاعلة لتحقيق الاستقرار، لذلك يجب التمسّك بالمبادئ والقيم والصفات النبيلة والإنسانية والاخلاق الحسنة والعمل على نشرها بين الناس حتى تترسخ هذه المبادئ وتمنع من انتشار القيم المفسدة له.
إنّ روح الإنسان كشجرةٍ وارفة الظلال ومبادئها الجذور، وإنّ من الجذور لممتدّة في الأرض عمراً من نور، وإنّ من الجذور جذورًا أصابها الضعف فاستقرت في الأرض لا تظهر، وإنّ المبدأ ميزان حرارة الإيمان، وعلى كل مؤمن أن يظهر الخير من نفسه، ولا يجعل روحه ضائعة في الخذلان والندم، وشتّان بين نقيّ المبادئ وبين مشوبها.
التثبيتُ منّةٌ من الله
لنحملَ بيدنا مقاييس نورانيّة علّها تعطي كلّ واحد منّا إجابة: هل أنا من يُثبت دوماً في أرض الصلاح القدم؟
إنّ التمسّك بالمبادئ يحتاج إلى تثبيت من الله تعالى، وهو مصداق قول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]، والتثبيت بحدّ ذاته يتطلّب صلة راسخة مع الله، تسقي فسيلة الروح حتى تغدو شجراً يبثّ نقي الأوكسجين في بيئة القضيّة، ويمتصّ كلَّ غاز سامٍّ يُنفثُ ممن اختاروا أن يكونوا للفساد رعيّة.
ولذلك كان رسول الله ﷺ يُكثر من دعاء: (يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك) وقد ذكرته زوجه أم سلمة رضي الله عنها عندما سألها شهر بن حوشب يا أمَّ المؤمنينَ ما كانَ أَكْثرُ دعاءِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا كانَ عندَكِ؟ قالَت: كانَ أَكْثرُ دعائِهِ: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما أكثرُ دعاءكَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ؟ قالَ: ((يا أمَّ سلمةَ إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أصبُعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ، فمَن شاءَ أقامَ، ومن شاءَ أزاغَ.)) فتلا معاذٌ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [الإسراء: 74]. [حديث صحيح، رواه الترمذي]
كيفَ تُنحَت المبادئ
إن مقياس المبدأ ينطلق من الشريعة الغرّاء لا من موافقتها للأهواء، وبما أن الشريعة ليست ثوباً يُفصّل، ولا مصفوفة يُقرّب فيها ما نحبّ وما لا يعجبنا يُقصى ويُؤجّل، فإن الإقرار بعلوّها والتسليم لها والتمسّك بتعاليمها بداية الطريق للثباتِ على المبادئ التي أقرتها.
إن المبدأ هويّة الإنسان، ولذا نرى كثيرًا من الناس يسقطون عند العاصفة الأولى ويتغير منهم الحال، بينما نرى آخرين راسين ثابتين كالجبال.
قد نرى أحدهم في حال اليسر ينافح عن تحريم الربا إلا أنه حين اهتزّ مركب تجارته لجأ للاقتراض بفوائد عالية!!
إنه يحدّث مفاهيمه بحسب الواقع المحيط به. وقد وصف الله تعالى الناس الذين تموج بهم الفتنة منذ الصدمة الأولى فقال عنهم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} [الحج:11]
كما أن آيات القرآن رسمت لنا الخطوط الدقيقة للدنيا، ووضعت الطريق الذي يأخذنا إلى الحقيقة.. فالدنيا بوصف القرآن مساحة ممتلئة بالفتن التي يكسوها البريق، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] ولا بد لنا أن نعرف حقيقتها أولاً لنقيس مبادئنا عليها.
وهنا يأتي دورنا في الالتجاء إلى الله وطلب الثبات منه، إذ الثبات على المبدأ ليس جهداً شخصياً وإنّما هو مدد ربّاني{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، ولذلك فإن لزوم القرآن والسنة هو الطريق الآمن للحفاظ على الرصيد الإيماني.
تحديد نقطة الضّعف ورحلة العلاج
نقطة الضعف هي بوابة الدّخول للنهاية، فإن لم تُعالَج منذ البداية، فإن الإنسان سيستمر في الغوص بالخطأ والبعد عن المراد الإلهي، ومن ثمّ فإن الأولى أن يبدأ الإنسان بتحديد نقاط قوّته ونقاط ضعفه وتحديد مساره والنّظر في الدّافع والغاية.
عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله ﷺ: ((سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)) [حديث صحيح، رواه البخاري]
لقد بشّر رسول الله ﷺ المتمسّكين بالإسلام ومبادئه، فقال مخاطباً الصحابة الكرام عمّا سيعتري الناس في الأزمان التالية لزمنهم: ((إِنَّ مِنْ ورائِكُم زمانُ صبرٍ، لِلْمُتَمَسِّكِ فيه أجرُ خمسينَ شهيدًا منكم)) [حديث صحيح، صحيح الجامع].
قد يختلفُ الزمان والمكان، إلا أنّ استهداف الإسلام ومبادئه لا يكون إلا بالنفوذ إلى الحلقات الضعيفة في أنفسنا وقلوبنا، ومن ثم فإنه حريٌّ بنا أن نقوّي صلتنا بالله وأن لا نكون سببًا في ضعف الإسلام وقيمه في قلوب الناس وعيونهم ،فشتّان بين من تختار روحه التصحّر وبين من تختار روحه أن تكون غيثًا تنشر الخير لمن اختار السعادة