“ما وراء الطبيعة” وتكريس الخرافة

قبل أيام بثت شبكة نتفليكس مسلسل “ما وراء الطبيعة” أول عمل مصري من إنتاجها، والذي وفرته مدبلجًا بتسع لغات ومترجمًا إلى أكثر من 32 لغة. والعمل مبني على سلسلة روايات ذائعة الصيت تحمل نفس الاسم. كل هذا كان كفيلًا بإحداث حالة من الترقب منذ الإعلان عن العمل وضجة بعد بثه، لدرجة تصدره قوائم المشاهدة على شبكة نتفليكس في عدة دول حول العالم، ودخوله -ولو بشكل مؤقت- قائمة imdb لأفضل 250 مسلسل في التاريخ.

وقبل مناقشة محتوى المسلسل -وما قد يتخلله ذلك من حرق للأحداث- يجدر بنا في البداية الحديث عن سلسلة الروايات التي بُني عليها المسلسل.

سلسلة روايات “ما وراء الطبيعة”
“ما وراء الطبيعة” هي سلسلة روايات جيب للكاتب أحمد خالد توفيق، من نوع التشويق والغموض والرعب موجهة للمراهقين، وهي من أوائل الأعمال الأدبية من هذا النوع في الوطن العربي، إن لم تكن الأولى. وقد تم نشرها على مدار أكثر من عشرين عامًا، منذ العدد الأول عام 1992 وحتى العدد الثمانين (الجزء الثاني) عام 2014.

غلاف العدد الأخير من السلسلة

تدور أحداث السلسلة حول شخصية خيالية تدعى الدكتور رفعت إسماعيل، الذي يجد نفسه أمام سلسلة من الأحداث الخارقة للطبيعة. وخلال مغامراته يواجه د. رفعت إسماعيل العديد من المخلوقات الأسطورية من المستذئبين ومصاصي الدماء إلى الزومبي وآكلي لحوم البشر، كما يقابل أناسًا قادمين من عوالم موازية ومسافرين عبر الزمن. هذا بالإضافة إلى السحرة والفضائيين، وبالطبع الأشباح والشياطين.

ولا يقتصر مسرح الأحداث على مصر، بل تدور الأحداث في شتى الدول والمناطق، بدءًا من الولايات المتحدة ومرورًا بجبال التبت، وانتهاء بـ”جانب النجوم” وهو مكان من نسج خيال الكاتب يحوي المخلوقات الشريرة.

مسلسل “ما وراء الطبيعة”
يأخذ المسلسل خمسة من المغامرات التي خاضها د. رفعت اسماعيل ويقدمها في ست حلقات، تحمل العناوين التالية: أسطورة البيت، أسطورة لعنة الفرعون، أسطورة حارس الكهف، أسطورة الندّاهة، أسطورة الجاثوم، أسطورة البيت: العودة.

بوستر مسلسل “ما وراء الطبيعة”

ويبدأ المسلسل بالدكتور رفعت وهو لا يؤمن بما يُسمى “ما وراء الطبيعة” وينتهي به مؤمنًا متيقنًا بوجود “ما وراء الطبيعة”. وفي البداية فإن هناك إشكالًا بأن شخصًا مسلمًا -أو ذا عقيدة دينية أيًا كانت- لا يؤمن بالماورائيات على الإطلاق. فالماورائيات تشمل الجن والملائكة والشياطين والجنة والنار وغيرها. ومن ثم فإن ما أصبح د. رفعت يؤمن به بعد مغامراته خلال الحلقات الست، ما هو إلا خرافات.

وما يزيد الأمر سوءًا أن بعض هذه الخرافات منتشر فعلًا ووثيق الارتباط بالثقافة الشعبية المصرية والعربية -كالجاثوم مثلًا-، وترسيخه لن يزيد المجتمع إلا جهلًا، خصوصًا إن وُضع بالاعتبار أن هذه القصص تستهدف المراهقين. أما الخرافات المبنية على الثقافة الغربية فما هي إلا امتداد لهيمنة هذه الثقافة. 

وبتتبع رحلة د. رفعت خلال المسلسل، في طريقه نحو الإيمان بـ “ما وراء الطبيعة” نرى الاستنجاد بالآلهة الفرعونية “احمنا يا حورس” وتلاوة التعويذات والترانيم الفرعونية كذلك، والجثو والصلاة لوحشٍ أسطوري، واستخدام بطاقات التاروت للتنبؤ بالمستقبل، من قِبل عدو د. رفعت، لوسيفر (إبليس) نفسه.

دينٌ موازٍ
في زمن الصورة التي يلهث فيه الناس وراء الأدرينالين، وبحجة أنها أرض خصبة للإثارة والرعب والغموض، فإن المظاهِر الشركية وغيرها من المخالفات العقدية التي احتواها المسلسل هي نتيجة طبيعية للتعرض للماورائيات في الروايات والأفلام والمسلسلات وغيرها من المواد “الترفيهية”. فهذه المواد شكلت ما يمكن تسميته بتراث عالمي مشترك من الصعب الخروج عنه، والذي كوّن ما يشبه الدين المحرَّف أو المنظومة العقائدية الموازية للديانات السماوية.

غلاف العدد الثامن والسبعين من سلسلة “ما وراء الطبيعة”

ومن ذلك مثلًا الوسيم الجذاب ذو “الكاريزما” لوسيفر والذي يوصف بأنه “حامل الضياء”، أي حامل النور والحياة والمعرفة والحضارة والحرية، وإله هذا الكون الذي يستحق أن يعبد بدلا من الإله الخالق الذي طرد الإنسان من الجنة، كما تصفه هيلينا بلافاتسكي مؤسِّسة جمعية الحكمة الإلهية (ثيوصوفيا)، التي تعد من أهم الجمعيات الباطنية. [انظر مقال الهندوسية من موسوعة السبيل].

وفي عصر العولمة العابر للقارات والثقافات يزداد القدر المشترك بين هذه المواد، خصوصًا عندما يكون الإنتاج منحصرًا بجهات محدودة ذات منظومة فكرية وثقافية واحدة، بإمكانها إعادة صياغة هذه المواد قبل تقديمها على الشاشة، واضعة المعايير الثقافية والتقنية لغيرها، في زمن الصورة.

مثلًا مما هو جدير بالذكر -والذي لفت انتباه أحد متابعي المسلسل- في هذا السياق، وفي ضوء ما توفره شبكة نتفليكس من دبلجات وترجمات متنوعة للعمل، هو ما حدث في الحلقة الرابعة من المسلسل، حيث قام دجال يُدعى “الشيخ صلاح” بقتل ابنته بعد أن تم اغتصابها. وهذا هو وصف سام هاريس -أحد الفرسان الأربعة للإلحاد الجديد- للمجتمع المسلم. فمن المهم الإشارة هنا أن هذا لم يكن موجودًا في رواية “أسطورة النداهة” الأصلية. حتى أنه في الرواية يتم إسقاط خرافة الندّاهة، بينما يقوم المسلسل بترسيخها.

من نافلة القول أن جهات الإنتاج لديها الأدوات اللازمة لتقديم الصورة التي تريد لأي شيء على أوسع نطاقٍ ممكن، إلا أن هناك خصوصية في قيام جهات الإنتاج الغربية بإنتاج أعمال متعلقة بالماورائيات وتقديمها للمشاهِد المسلم، حيث ينتُج عن ذلك تشويه العقائد وتحريف الدين نفسه في عقول أصحابه، وعدم الاكتفاء بتقديم صورة مشوهة عن الملتزمين بهذا الدين، بل بتشويه الجوهر العَقَدي للدين من خلال التحكم بالتصورات الذهنية المرتبطة بالماورائيات الموجودة في هذا الدين -كصورة إبليس مثلًا-، حيث يستمد المشاهِد تصوره من المادة التي يشاهدها، نتيجة لطغيان قوة الصورة. 

وهذا الخطر كان موجودًا منذ تعرض المسلمين للأعمال الغربية التي تتطرق للماورائيات، لكن الآن تضاعف الأثر واشتد الضرر، فالمادة الآن أقرب للمشاهِد، وهي تُقدَّم بلغته وفي بيئته وعلى لسان طاقم عملٍ مألوفٍ له، وهذا يضمن انتشارها على نطاقٍ أوسع بكثير من الأعمال الأجنبية. وهنا يتضافر الإنتاج الناطق بالعربية مع الناطق باللغات الأجنبية في سبيل الوصول لكافة أطياف المجتمع. ومن الجدير بالملاحظة هنا أن إنتاج نتفليكس في المنطقة العربية قبل “ما وراء الطبيعة” كان أيضأ مرتبطًا بالماورائيات، وهو مسلسل “جن”.

ختامًا، فإن لم ينطلق المنتَج الثقافي من منطلقات عقائدية وقيمية أصيلة، فلن يكون إلا مسخًا مشوهًا، ينطلق من منطلقات الآخر في محاولة لأن يكون مجرد بديل له، وفي النهاية لن يكون إلا مروجًا ومكرسًا للثقافة التي يحاول أن يحل محلها.