ماذا بعد اجتياح “كورونا”؟

أدّى انتشار وباء “كورونا” إلى تغيرات هائلة في جميع مناحي الحياة، وقاد إلى تحولات في مجالات مختلفة، فترك آثاره في مختلف القطاعات الاقتصادية والصناعيّة، وكان لأساليب التعامل مع هذا الوباء أثرها الواضح في ظهور عادات اجتماعات جديدة، كما أن العمل نفسه تغيّر نحو الاعتماد على الإنجاز عن بعد، وبات نمط حياة كثير من الناس والأعمال مختلفًا بشكل لا يمكن معه العودة لما قبل انتشار الوباء.

وفي ظل استمرار انتشار فيروس كورونا، يجدر بنا أن نسأل أنفسنا بعض الأسئلة، لعل الإجابة عنها تقودنا إلى سبيل الحق –بإذنه تعالى-، كالتساؤل: ماذا لو استمر هذا الفيروس بالتفشي؟ ماذا لو استمرّ العالم باتخاذ الإجراءات الوقائية الصارمة باستمرار؟ وماذا لو بقي التباعد الاجتماعي فرضًا على جميع الناس؟ ماذا لو أن حالنا اليوم ازداد سوءًا غداً وبعد غد؟ ماذا لو أصبح نمط الحياة التي فرضتها علينا الإجراءات “المؤقتة” هي الحياة “الطبيعية”؟ ألا يجدر بنا هنا أن نتفكر في حياتنا ونتخذ بعض الخطوات للأمام؟ ألا يجدر بنا أن نُنمّي “عضلاتنا” الفكرية والنفسيّة ونتكيّف مع الوضع؟

والآن اسمح لي أن أستدرك هذا الاسترسال في افتراض الأسئلة عن المستقبل، وأتساءل: ألا يجدر بنا أن نعود بأدراجنا قليلاً ونُوقف عجلة حياتنا فنتأملها قبل أن ننطلق بعدها؟

وما مَثَلي في هذا إلا كمثل أغلبنا، فإننا عندما نشاهد مقطعًا مرئيًّا على اليوتيوب، بالتوازي مع ضعف الاتصال بشبكة الإنترنت، فيحدث أن نضغط للإيقاف “pause” حتى يكتمل تحميل الفيديو، ثم نضغط على التشغيل ” play” لنتابع!

كذلك الأمر بالنسبة لحياتنا، علينا أن نفعل بين فينة وأخرى وضعية التوقّف “Pause” لنعيد حساباتنا، ونواجه ما اقترفنا من أخطاء، ونفكّر في مرحلتنا الحالية وآفاقها القادمة، وعلينا أن نختلي بأنفسنا ونقول لها: “تعالي، ما دوركِ الذي استخلفكِ الله فيه على هذه الأرض؟ أأمٌّ أنا أم طالبة أم زوجة أم أخت أم معلمة؟ هل أنا قريبة من هدفي أم لا أزال تائهة لا أعلم ما أريد؟

عليّ -وعلى كل امرئ- أن نسائل أنفسنا: أنحن راضون عنها؟ هل حقق كلٌّ منا ما يروم تحقيقه أم هناك ما ينقصنا؟”.

إننا إذا أردنا أن نرمي رمحًا لمسافةٍ ما، فإن علينا أن ندفعه إلى الخلف ثم نرميه بقوة كي ينطلق بسرعة كبيرة، ولكن مع ذلك، ألا ينبغي أن نسدد ونقارب؟ هل يهمّنا أن يسبق هذا الرمح الرماح الأخرى دون الوصول للهدف المراد؟ أم أن الأولى أن نسدد ونقارب مصداقًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (لو تَعلمون ما أعلَمُ، لضحِكتُم قَليلًا، ولبكَيتُم كَثيرًا، ولكنْ سَدِّدوا، وقارِبوا، وأبشِروا) [أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، ورقمه: 10029]

الفرق بين النجاح والفلاح

ثمّة فرق واضح بين لفظتي “النجاح” و”الفلاح” فالأولى تختلف عن الثانية، وفي القرآن لم يرد لفظ النجاح البتة، بخلاف مشتقات الفلاح التي وردت بكثرة.

تخبرنا المعاجم اللغوية أن النجاح يعني الظفر وإدراك الغاية [المعجم الوسيط]، بينما يشير الفلاح إلى الفوز [المعجم الوسيط]، فالكلمتان –إذًا- متفقتان في الدلالة على الإدراك، إلا أن الفرق بينهما في الاتساع، فأحدهما يغطي الدلالة الماديّة والأخرى تغطي دلالة الدنيا والآخرة، فالفلاح –بحسب الإمام المناوي- “دنيوي وأخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادة التي تطيب بها حياتها، والأخروي على أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وعز بلا ذل، وغناء بلا فقر، وعلم بلا جهل” [مادة الفلاح: التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي].

من هنا نستطيع القول: إن النجاح ليس بالضرورة النجاح الذي يقود إلى حسن الختام في الآخرة، فالغاية من النجاح قد تكون دنيوية محضة، فكم رأينا من أناس ملحدين وكفّار وشذاذٍ حقّقوا المراتب العليا والمناصب، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] فهم بموتهم على حالهم تلك ليسوا من الناجين، فالنجاح -كلّ النّجاح- هو الذي يقودكِ –أختي المؤمنة- للفلاح في الآخرة، وإن أدّى ذلك لخسرانكِ في الدنيا.

ألم تتفكري في كلام المؤذن حين يقول: “حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح”؟ لمَ لمْ يقل “النجاح”، بل قال “الفلاح”، كما أنه ذكر الصلاة قبل الفلاح؛ في دلالة على أن الصلاة الخاشعة سبب مباشر للفلاح -أي الفوز-، ونستذكر هنا ذلك الرجل الذي سأل النبي عن العمل الذي يدخله الجنة بشكل مباشر كما في الحديث (قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم) [أخرجه مسلم، ورقمه 38]، فالإيمان موجب للاستقامة، كما أن الصلاة موجبة للفلاح.

عزيزتي المؤمنة، عليكِ أن تدركي أنكِ لو صعدتِ القمم وأنتِ مقصّرة في دينك، فإنك لن تبلغي الفلاح والفوز العظيم، فإذا وصلتِ لنهاية السباق في ركوب الخيل –مثلاً- ولكن في طريق آخر-ليس طريق السباق الصحيح-، فأنتِ هنا لم تفوزي بل لم تنالي –في الأصل- شرف المحاولة. أما اذا كنتِ في المسار الصحيح، فحتى لو لم تفوزي فقد نلتِ شرف المحاولة، فأنتِ مسؤولة عن السعي لا النتيجة، {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النّجم: 39]

أسئلة لا بدّ منها

ربما على كلّ منّا أن يتوقف هنيهة ويسأل نفسه: من أنا؟ ولمَ أنا موجود؟ وماذا أريد؟ وما هي سبل الرشد؟

أنتِ –وأوجّه خطابي للفتاة المؤمنة- يا من تخرجين إلى جامعتك أو عملكِ في روتين يوميّ ممل، ألم تشعري حين تغيّر نمط الحياة بعد كورونا، أنكِ في فراغ وعليكِ إشباعه؟ ألم تفكري بأن هذا الحال قد يطول بكِ فعليكِ التهيؤ بما هو أسمى وأحقّ أن تفكري فيه؟ ألم تتدبري قول الله تعالى {بل تؤثرون الحياة الدنيا} [الاعلى: 16]؟ ألم تخافي ممن كانوا يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة؟ ألم يحن الوقت لتشمري عن ساعديكِ وتخطي أولى خطوات الفلاح؟ فإننا جميعًا في سباق دائم، وإذا لم نغتنم هذه الفرصة للبدء من جديد، فمتى تتخذين هذه الخطوة؟

ألم نؤجل مرات عدة البدء بتلاوة القرآن أو الحجاب أو قراءة كتاب نافع بحجج واهية؟ ألم ننتظر هذه المادة وتلك من الانتهاء وانتهت ثم لم نباشر؟ ألم نقل حين تستقر أموري، وحين ينتهي هذا الفصل، وحين أتخرج وحين….؟ إلا أن شيئًا من ذلك لم يحدث! ألم نعد أنفسنا بكل ذلك ثم ما لبثت أن انتهت الحجج حتى عدنا إلى ما كنا عليه وربما أسوأ؟ ألم نقرن القرآن بالعطلة الصيفية؟ ألا يثير غيرتك أنكِ تعظمين الجامعة والمدرسة و”نفسيتك” التي لا تستقر وتتأرجح في معظم الأحيان على حفظ كتاب الله وتلاوته وتدبره؟ ألا تشعرين بالتناقض حين يسألونك ما غايتك فتقولين أن أرضي ربي وأنت لم تحاولي التقرب منه على وجه حقّ مرة قط؟

تجربة شخصية

مررتُ بصراع لمدة سنة، وقد كان سببه أنني أبتغي التقرب من الله، إلا أني لم أجد القوة أو المعينَ الذي يشجعني على المضيّ في الطريق، بل وجدتُني تارة أشرعُ في علم ما (تفسير، فقه..إلخ) ومن ثم أتقاعس وألوذ بالفرار.

استمرّ هذا الصراع حتى وجدت الجواب المناسب وأرجو أن تأخذيه بعين الاعتبار: لم أكن صادقة مع نفسي، وكذا فإني لم أكن صادقة مع الله، فلم أستعن به كما نقرأ في آياته {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]، ولم أبحث على صحبة أصبر نفسي معها وأدعو الله معها في الغداة والعشيّ، بل مكثتُ مع صحبة لا تسمن ولا تغني من جوع، فبقيت كالمعلقة: لا إلى هنا ولا إلى هناك.

لم أصبر على العبادات، رغم أن الله يقول لنا: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] فوجدتني أقفز من عبادة لعبادة دون إمساك وتوقف ومحاولة المواظبة والمداومة على أقل القليل. تذبذبت في هذا الصراع حتى رُزقت بمن يعينني على ديني (سلسلة مع نفسي، دورة فقه النفس)، ورزقت بصحبة صالحة، وعلم نافع يضعني على الطريق الصحيح (البناء المنهجي)، والأهم من ذلك أنني صدقتُ العهد مع الله والحمد لله.

من هنا أنصحكِ أختي الباحثة عن الحق بأن تنتقي الصحبة الصالحة، وأن تنقّبي عن العلم الذي ينفعك في دينك ودنياك وعاقبة أمرك، وأن تجددي العهد مع الله وتستعيني به على العبادة فهو الصمد الذي تصمد له جميع الخلائق.

فطوبى لمن عرف فالتزم.


مراجع إثرائية:

[سلسة مع نفسي، الدكتور عبد الرحمان ذاكر الهاشمي]

https://youtu.be/HTG87X8n_jE

[محاضرة من أنا؟ ولما انا؟ لماذا خلقت؟ هويتي.. وظيفتي.. هدفي..، الدكتور عبد الرحمان ذاكر الهاشمي]

https://youtu.be/CN8yQRmkLTw

[سلسلة سكينة، نورا سوبرة]

https://youtu.be/RbKSOfSZGuQ