كيف يتحقق النهوض.. سبيلنا نحو رشدية حضارية

تنصرف الأذهان مباشرةً إلى البحث عن وجهةٍ بمجرد سماعها كلمة “نَحْوَ”، وتُدرِك تِباعًا أنها خارج سياج هذه الوجهة، وأنها تحتاج التحرُّك خلال طريقٍ معلوم حتى تبلغ بُغيتها. وطالما أنّ الوجهة التي نرنو إليها هي الرشدية الحضارية، فيجب علينا بحث الدائرة التي نتواجد فيها حاليًا ثم الكشف عن بعض الإرشادات التي تُعين على إصابة الوجهة الصحيحة بإذن الله.

أطوار تكوين الرشدية

يسبق الرشد مراحل مختلفة تتمثل في: العدم – الولادة – المهد، فينمو هذا المهد ويتمدد حسب مجريات البيئة التي يتواجد فيها، مما يعني أنّ الوصول إلى الرشد ليس حتميًا لكل مهدٍ، فرُبَّ مهدٍ وُئِدَ في أوله، ورُبَّ مهدٍ صار يافعًا ثم تخطّفه السفهاء؛ فاجتُث، ورُبَّ مهدٍ اجتمع عليه العقلاء فسلك سبيل الرشدية حتى بلغ مداه.

ولو أردنا التعرف على المرحلة التي تتواجد فيها الأمة الإسلامية الآن يجب علينا أولًا تحرير كل مرحلة ومعرفة علاماتها، ثم ما تطابق منها على حالنا فإنه حتمًا ينفع في فهم وصفنا.

سنلاحظ أنّ أطوار نمو الرشدية الحضارية تتطابق مع أطوار نمو الكائنات الحية، لأنّ الحضارة تعتبر حالة من حالات الكائنات الحية في طبيعتها ونموها وتمثلاتها وأثرها، لذا يمكننا قياسها على نموذج الكائن الحي.

١- مرحلة العدم: إنّ مرحلة العدم تتجلى في طورين: طور ما قبل الولادة، وطور ما بعد الموت، ففي كلا الطورين لا يستطيع الكائن أن يثبت لنفسه حضورًا في دائرة الوجود، وإن كان له تمثُّل تكويني قبل الولادة، أو تمثُّل روحي بعد الموت، ولكن كلا الطورين خارج سياج الحضورية.

٢- مرحلة الولادة: وهي المرحلة التي تتجلى بعد تمام التمثل التكويني، وبعد الحصول على كل التفاصيل المعلوماتية المسئولة عن رسم ملامح خاصة لهذا الكائن ليتميز بها في حضوريته، ولكنه لم يمتزج بعد بمكونات الحضورية.

٣- مرحلة المهد: هو التواجد الحقيقي لهذا المخلوق منفصل تمامًا عن مراحله التكوينية، مستعدًا للانطلاق أو إعادة الانطلاق نحو رشدية ملامحه التي حمل أدق تفاصيلها في مراحله التكوينية، وقد ذكرنا إعادة الانطلاق لأن المهد له طورين: الطور الذي يلي الولادة، والطور الذي يلي رشدية أصابها مكروه، ففقدت دلائل رشديتها؛ لتنتكس إلى المهدية مع احتفاظها بذات المخزون المعلوماتي الذي يُمكّنها من إعادة الانطلاق مرة أخرى.

٤- مرحلة الرشد: هي المرحلة التي تنتج عن سير المهد في الطريق الصحيح الذي يضمن تبلور ملامحه دون تشوّهها، مع رعاية عقلاء بيئته له بتوجيهه والحفاظ عليه من الزيغ أثناء المسير حتى يبلغ تمام رشده وصلاحه وعمله بمقتضى منهج خالقه وامتثاله تمام الامتثال.

 أين نحن؟

عندما نمعن النظر في هذه المراحل ثم ننزلها على حال الأمة الآن، سنجد أنّ الأمة الإسلامية تعيش في الطور الثاني من مرحلة المهد، حيث إنّها متجاوزة لمرحلة العدم بطوريه، إذ إنّ العدم مستحيل في حق الموجود فضلًا عن أن يكون وجوده بلغ الرشدية، وعدم ما بعد الموت مستحيل في حق الأمة الإسلامية لأن وجودها متعلق بالحاكمية الإلهية المتصفة بالأزلية، لذا فإنها اكتسبت صفة الديمومة الحضورية التي لا يجوز في حقها الموت، مع إمكان تغيُّر أطوارها الحضورية بناءً على مدى امتثال وموافقة حامليها للمنهج الرباني.

وهي كذلك متجاوزة -ضرورةً- مرحلة الولادة التي تسبق الوجود المُثبَت لها.

إنّ الأمة بلغت مهدها الأول ببزوغ نور الدعوة المحمدية، والذي اعتنى بها أيما عناية وطفق يربيها حتى ربت، وبلغت رشديتها على خير وجه، ولكن تلاحقت المصائب تتهاوى على رأس الأمة حتى انتكست مرة أخرى إلى مهديتها، ولولا أنّ وجودها الحضوري حتميٌ بسلطة تعلو على سلطات الأرض، كان احتمال أن تنتقل إلى العدم بهذه المصائب قائم.

ما سبب بقائنا في مرحلة المهد؟

عندما نطلق على أنفسنا أننا أصبحنا في مرحلة المهد الحضاري، فإننا لا نروم بهذا التلويح التأخر المادي في أمتنا، لأن هذا ليس محكّ الرشدية عندنا، وكذا لا نقصد به أنّ هذا المهد متمثلٌ في البُنية العقدية المنهجية في هذه الأمة، لأنه تامٌ وكاملٌ كمالًا إلهي، وإنما موضع المهدية عندنا كامنٌ في اللُحمة بين تلك العقيدة وبين غالبية حامليها، فبسبب النوازل الكثيرة التي أصابت الأمة؛ انسلخت فيها تلك اللُحمة، فصار الوصول إلى تطابق حقيقي يُمكِّن للمهدية أن تنتقل مرة أخرى تدريجيًا إلى طور الرشدية أمرًا يحتاج إلى عمل حثيث مُبصِر.

فردانية الحضارات

إذا أردنا قياس المستوى الذي عليه الأمة ومعرفة مكانها بدقة، فيجب علينا أن نقارن الأمة بالأمة في حقبة أخرى لقياس المقومات التي تمتاز بها والحد الأقصى من الرشدية التي يمكننا بلوغها، ولسنا بحاجة لمقارنة الحضارة الإسلامية بالحضارات الأخرى، لأن الحضارة هي كلمة مشتقة من الحضور، فكأن تمثلات كل أمة بمقوماتها الخاصة التي تنتظم في مجتمعها كنِتاج لسلوك الأفراد هي حضورها وتبلورها في حاضرها المُعاش، ولأن الثقافة عنصر فرداني، أي أنها لا يمكن أن تتشابه بين أمة وأخرى لكونها اكتسبت تمايزها من تفرُّد كل دين، وهي انعكاس لهذا الحضور الحضاري، فإن تواجد العناصر التي تتيح عدالة المقارنة الحضارية تكاد تكون منعدمة، لذا فإن محاولة وضع العين على حضارة أخرى في معرِض البحث عن سبيل الوصول إلى الرشدية في الحضارة الإسلامية هو من قبيل من يترقب غزالًا ليصطاده بسنارة!

لذا يجب أن تنمو الحضارة في حاضرها بمقومات رشديتها الخاصة، وألا نتوقع مدحًا من الحضارات الأخرى أثناء سيرها بحثًا عن لبِنات الرشدية، لأن سنة التنافسية والتدافعية الأممية ستظل قائمة أبد الدهر، وسجِال الحق والباطل سيظل وطيسه حاميًا، ويجب التنبه أنّ تلك اللحظة التي تلقي حضارة  ثناءها على حضارة أخرى أو حتى تصمت صمات رضى، فهذا لا يعني أنّ تلك الحضارة الأخرى وصلت إلى الرشدية، وإنما تفسير ذلك أنها ابتُلِعَت في الحضارة المحتفية بها، فاعتبرتها جزءًا منها مُحقِقًا لمعاييرها، وإن لم تنسلخ تلك الحضارة سريعًا عن جعبة الحضارة الآكلة، ستُهضَم بداخلها وتنعدم ويكون مآلاها الفناء.

هل يمكن أن تفنى الحضارات؟

والفناء جائز في حق الحضارات التي لا تنطلق من عقيدة، إذ إنّ هذا النوع من الحضارة يتركب من مكونين أساسيين هما الروح وتمثلات تلك الروح، والروح الحضارية حصرية لكل حقبة زمنية، بل أحيانًا لكل جيل، إذ إنّها النَفَس العام المتكوَّن من مجموع أنفاس الأفراد، فبمجرد زوال هذا الجيل وإرهاصاته؛ تزول معه روح حضارته، ولكن تبقى تمثّلاتها العلمية والعملية والفكرية التي وجدت مسلكًا إلى أرض الواقع تدل عليها، ولكن رغم حضور التمثلات إلا أنها فقدت الأنفاس البشرية التي تُجسد فيها الحضور، لذا يمكن اعتبار هذه الحضارة في حالة فناء.

ومن هنا فإن التشبث بتمثلات هذه الحضارة الماضية بمثابة التشبث بجثمان ميت فاضت روحه منذ زمن، مهما استنطقت أغراضه وموروثاته؛ لن تتمكن من تطويعها بذات النحو الذي طوّعها هو.

لكن عندما تدخل العقيدة الإسلامية ضمن مكونات الحضارة، فإنها تكسبها ميزة تضمن لها إمكان البعث في أي جيل، حيث إنّ العقيدة الإسلامية تتناسق تمامًا مع غاية الخلق وفطرة الإنسان، وهذان العنصران في حالة وجودية مرتبطة بوجود الإنسان، لذا فمهما زهقت أرواح الأجيال وبقيت التمثلات عاجزة عن الحياة والبعث، تظل تلك العقيدة بهذا النمط متواجدة في الأوساط تتخلل النفوس البشرية لتتطابق مع النزعة الغائية فيها وتلتحم بفطرتها، فتتحول أنفاس الجيل الجديد إلى أنفاس متشابهة _وأحيانًا إلى حد التطابق_ مع سلفهم الذين عاشوا تلك الحالة، وبالتالي فإن مجموع الأنفاس قادر على توليد روح تشبه الروح الأولى لتلك الحضارة لأنها من نفس المشكاة.

إن اندماج العقيدة الصحيحة في المعادلة الحضارية ينتج حضورًا جديدًا لها، ويجعل إمكانية بلوغ الرشدية بعد كل كبوة ممكنًا، وبالتالي لا يهمنا كثيرًا التمثلات الحسية لتلك الحضارة لأنها في النهاية طرف غير فعّال في تفعيل المعادلة الحضارية، وإنما هو نتيجة لما أنتجه الجيل حتى يكوّن الروح التي أنتجت هذه الأفكار ونفذّتها، فسواء تم تنفيذ تلك التمثلات أم لا؛ فإن الرشدية غير معتمدةٍ عليها.

ما واجبنا نحو الرشدية؟

نخلُص من هذا الطرح إلى أنّ الأمة رغم انتكاسها إلى طور المهدية مرة أخرى، إلا أنها لا زالت -وستظل- تحمل في أعماقها الملامح التكوينية التي تضمن لها بلوغ رشدها مرة أخرى إذا سارت بهذه المقومات في الطريق الصحيح، وأن عنصر العقيدة هو العنصر الحيوي في تفعيل المعادلة الحضارية بشكل عملي، لذا علينا استنطاق هذه الملامح وتذليل الطرق التي تسمح لها بالظهور والبروز مرة أخرى، وتهيئة البيئة التي تضمن حصول مرحلة انتقالية صحيحة من المهد إلى الرشد.

أسأل الله أن يُبَّلِّغ هذه الأمة رشدها.