كيف تبنى الخديعة في قضية فصل الدين عن السياسة؟

لا يمكن وصف مسألة (فصل الدين عن السياسة) بوصف أدقّ من أنها (وهم) وتلاعب بالألفاظ؛ ذلك أن هذه المقولة بحد ذاتها بمثابة الاعتقاد الديني إلا أنه من منشأ دنيوي (عالماني) لمن يعتنقها، ومن نافلة القول الإشارة إلى أن هذه الفكرة قد نشأت وتصاعدت ردًّا على الارتباط الوثيق بين حُكم رجال الكنيسة الكاثوليكية وبين طبقة الحكّام في أوروبا وتوليهم أمور السياسة في أوروبا، كما أنها كانت نتاجًا لتحول في عقيدة المجتمع قاده فلاسفة أرادوا للعقل البشري أن يكون المصدر الأول للتشريع، بعد قرون من ممارسات لا عقلانية من رجال الدين في شؤون السياسة والمجتمع ومحاربتهم لكل خروج عن تفسيراتهم للحق الإلهي، واحتكارهم علوم الدين وما ينبغي للعلوم الطبيعية أن تصرح به وما يجب اعتباره هرطقة وتجديف لمخالفته الكنيسة من تلك العلوم حتى لو ثبت صحته بالتجربة العلمية، فظهرت فلسفة الحق الطبيعي ضد الحق الإلهي، وسادت الفلسفة الإنسانية العالمانية التي نصَّبت العقل الإنساني كمرجعية نهائية للتشريع والسلوك والحكم إلهاً دنيويا ليحل مقام الميتافيزيقي المتعالي الإلهي الكنسي، في ثورة جددت شروط العقد الاجتماعي ونظم السياسة في الحضارة الغربية.

إن المطالب بهذا الفصل مُطالَب هو أيضًا بتطبيقه كما يفعل من يطالب بتطبيق الشريعة، فكلاهما يطالب بتطبيق ما يؤمن أنه الأصلح للحكم، والتلاعب اللفظي في الجملة واضح، إذ المقصود فصل (الشرائع السماوية) التي لا يؤمن بها دين العالمانية عن سياسة الشعب، فهو دين يريد أن يحتل مكانة دين آخر في مصادر التشريع..

الدين والسياسة، هل من فَصْلٍ؟

في واقع الحال فإنه من المستحيل الوصول إلى فصل للدين -أي دين- عن السياسة، فكل التشريعات والقوانين البشرية الوضعية السياسية، مصدرها الأصلي ما يدين به ويعتقده المشرعون، وما تلتزمه الدولة من عقيدة سواء أكانت سماوية أو بشرية مصدرًا للحكم، وعلى أساسها يقوم بناء الدولة كله وبه ينظّم مجتمعها، فالزعم بأن العالمانية ليست ديناً ينبعث من أحد سببين: إما القُصور في فهم ماهية الدين أو التلاعب لفظي.

إلى جانب ذلك فإن الزعم بأن العالمانيّة تقف على حياد موضوعي من كل الديانات هو زعم –آخر- أفضل ما يقال عنه إنه خيالي ومستعلٍ لا يمت للواقع بعلاقة أو صلة؛ إذ أن العقيدة العالمانية تتغلغل بالفعل في صميم المجتمعات العالمانية، بدءًا من المناهج التعليمية التي تشكل وعي الأطفال حتى الأطر والقوانين التي تنظّم العلاقات الاجتماعية، وقوانين الاقتصاد والتجارة وكل شؤون الفرد والأسرة والمجتمع.

لترسيخ ذلك كله، فإن الماكينة الإعلامية لدول العالمانية تعمل ليل نهار على ترسيخ مفاهيمها، وكل خروج عنها أو محاولة نشر قيم دينية مخالفة لها يقابَل بالقمع من قبل الدولة (كما هو مشهور في مسألة النقاب في بعض الدول العالمانية واعتباره مظهراً يتناقض مع قيم المجتمعات العالمانية، وخصوصاً اللائكية الفرنسية)، ولن يغيب عنّا أن الممارسات العنيفة التي تتبعها دول العالمانية قد تتجاوز حدود الخيال، فالحروب الدموية وعمليات الإبادة التي تمت في حق المؤمنين بالكنيسة بعد الثورة الفرنسية، وتلك التي كانت بعد الثورة البلشفية في حق المؤمنين بالديانات السماوية معروفة ومسجلة ولا أحد ينكرها من الباحثين والمؤرخين، ومن ثم فإن الزعم الساذج بسماحة العالمانية وقبولها لجميع الأديان تدحضه أحداث التاريخ القديم والحديث. فإذا لم تعتبر تلك الممارسات ديناً يحارب ديناً آخر، فإنما هذا من تلبيس بعضهم في تعريف الدين وحصره فقط في الشرائع السماوية.

مفهوم الدين

للدين معان متعددة وتعريفات مختلفة، إلا أن مفهومه العام يتأطر في الإذعان لوجودٍ أو تصوّر ما، وبذلك فإن مفهوم الدين ليس مفهوماً ينطبق فقط على الشرائع السماوية، بل أنه كل ما يدين ويؤمن به المرء في أمور الدنيا والآخرة ويشكّل منظومة معتقداته والسلوك والأخلاق والتعاملات التي تنتظم بها حياته، سواء أكان مؤمناً بالله واليوم الآخر أم لا، كما قال تعالى لمن كفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ]الكافرون: [6فسمى ما هم عليه بـ “الدين” بالرغم من عدم إيمانهم.

إن الدولة حتى في ادعاء حياديتها فهذا الحياد المزعوم هو دين وأيديولوجيا دنيوية تتعالى على الدين بمفهومه السماوي وتفرض عقيدة تزعم سماحتها مع جميع الأطراف، لكن تطبيقاتها الواقعية تثبت أن هذه السماحة والحيادية تنتهي إذا ما انتشرت عقيدة مخالفة لعالمانيتها في المجتمع _أحداث فرنسا الأخيرة وإجراءات ماكرون دليل صارخ على ذلك_ فلا توجد عقيدة تعتنقها دولة يمكن أن تسمح بانتشار أخرى!

ففصل الدين عن السياسة بل وعن كل جوانب الحياة ممتنع في ذاته، ونظرية خيالية تفترض أن السياسات والقوانين والتشريعات الوضعية موضوعية وبمعزل عن عقيدة المشرع الذي وضعها وعن إيمان أولئك الذين يسوسون المجتمع.

وعليه فإن دعاوى فصل الدين عن السياسة والسياسة عن الدين، أمر لا وجود له في الواقع، ولو تم زعم إمكانية تحقيقه فهذا جهل أو خداع، فكل سياسة لابد وأن تنطلق من عقيدة (دين)، فلابد من إيمان بغاية ما للسياسة؛ تلك الرؤية الاجتماعية التي يتم بها هندسة المجتمع، والغاية التي تنشدها السلطة للمجتمع ورضي المجتمع بالانصياع للسلطة لأجل تحقيقها؛ سواء قلت دولة مدنية عالمانية ليبرالية تعددية ديمقراطية، أو اشتراكية شمولية فاشية نازية شيوعية؛ أو إسلامية ومسيحية ويهودية؛ فهذه كلها غايات دينية عقائدية لحركة المجتمع، تندرج تحت المعنى العام للدين، فالدين بشكل عام هو رؤية شاملة للحياة، سواء كانت رؤية تؤمن بالله واليوم الآخر وتحكم بالشرائع السماوية، أو كانت رؤية دنيوية ذات مرجعية ديمقراطية ليبرالية فردية أو اشتراكية شيوعية شمولية؛ جميعهم يحدد اتجاه حركة المجتمع وغاياته وآليات حركة تدفق العلاقات والتعاملات فيه والمرجعية الشرعية التي سيحتكم إليها كل فرد ينتمي لهذا المجتمع!

المدنية بين الدين  والعالمانية، رديف أم مناهض؟

إن محاولة جعل الدين -بوصفه ديناً سماوياً- ضد الدولة المدنية -التي تُعرف بكونها نقيضًا للدولة ذات المرجعية الدينية- هو نوع من الخداع! بل هما دين سماوي ضد دين دنيوي وهذه هي حقيقة الصراع.

من ناحية أخرى فإن ادعاء أن المدنية تقتصر على تعريف العالمانية لها هو ادعاء باطل، لأن المدنية غاية اجتماعية مشتركة وليست رديفاً للعالمانية، فشرائع الأديان السماوية إنما هي لتحقيق المجتمع المدني المنظم السليم وتوفير ما يضمن حفظه وأمنه واستقراره الديني والثقافي والأخلاقي والسلوكي، وضمان نموه بتنفيذ تلك الشرائع السماوية، بينما في المقابل تزعم العلمانية رؤية نقيضة إنسانية تمنح الشرعية للحق الطبيعي لا الحق الإلهي. فهل سمعت أي اعتراض على تسمية الدولة الإسلامية الأولى (دولة المدينة) وصرخ “لا بل نريدها دولة الدين؟ لأن المدينة من المدنية وهي مصطلح كافر”؛ لن تجد أبداً مثل ذلك لأن المدينة والمدنية ليست بالأساس ضد الدين، وإنما عمل الدين في المدينة هو تنظيمها وفق أحكامه وشرائعه! كمثل ما تدعي العلمانية فعله في المجتمع.

كما ارتبطت العالمانية بالعلم لا لأنها مشتقة منه كما يحسب البعض، فالعالمانية من الدنيوية والدهرية والعالَم لا من العِلم، لكن الحكم بها واكب نهضة علمية في مقابل قمع الكنيسة للعلماء المخالفين لتعاليمها في نتائجهم وملاحظاتهم العلمية التجريبية، حتى تم الانقلاب على الكنيسة التي وصلت لحالة من الاستبداد والتخلف والحرص على نشر الجهل لم يعد أحد يستطيع تحملها. فظن البعض لدينا ونتيجة ترجمتها المغلوطة ب (العِلمانية) بكسر العين أنها حركة علمية في مقابل تعسف الدين ورفضه للعلم، وليس صحيحاً ف Secularism تعني دنيوية أي المرجعية هي العالم أو الدنيا ومادتها وقوانينها، فالصحيح أنها (عالمانية) لا عِلمانية والأصح أنها وكما سماها علماؤنا من السلف الصالح (دهرية) لكونها في نسختها الأصلية أو كما يعرفها البعض بوصفها عالمانية شاملة في مقابل عالمانية جزئية؛ هي نفس عقيدة من قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].

ومن المهم وضوحه في هذا الصراع الدائر الأبدي منذ هبط آدم وزوجه وانتشرت ذريتهما في الأرض؛ أن العالمانية ليست دينًا أوروبيًّا جديدًا، وإنما هي نفسها دين “الدهرية” التي هي ملة معروفة منذ شهد التاريخ عملية تدوينه، ولها في كل مرحلة اسم اشتهرت به، وهي ليست مرادفة للمدنية، فالمدنية غاية أي مجتمع يترقى من البداوة للحضر ثم المدنية، فهي مرحلة اجتماعية يكون فيها المجتمع في ذروة نموه وتطوره وازدهاره. وإنما ارتبطت بالعالمانية وظهرت كنقيض للدين، لأن الحكم السائد قبل ظهور المدنية الغربية كان لرجال دين الكنيسة في أوروبا، والتحول للحالة المدنية والعقد الاجتماعي صاحب الثورات العالمانية الإنجليزية والفرنسية والأمريكية والبلشفية وغيرها.