كورونا.. المخلّص المنتظر

لطالما تغنّى المسلمون سنةً وشيعةً بالمهديّ المنتظر وارتقبوا مجيئه لتخليصهم من الهزائم التي تنتابهم، والتي أقعدت شبابهم وكهولهم، فهو قادم بلا ريب، بل هو عقيدة لا بد من اعتناقها لترتاح في زمن الانتظار الطويل ولتقنع نفسك بأن الأرض ستُملأ عدلا بعد أن ملئت جوراً وظلماً.

ولأن هذا المهدي لما يأت ولا يعلم أحد إلا الله متى سيأتي، ولأن الراسخين في العلم يدركون جيداً وأنّ على المسلم أن يكون هو المهدي وأن يعمل ما استطاع {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله} [سورة التوبة: 105]، كان لا بد لهذا العقل الجمعي أن يبتكر وسائل أخرى لاقتلاع الظلم من الأرض فالنفس الجمعية المسلمة تكره الظلم بفطرتها وتميل نحو العدل والحق جملة وعموماً.

لذا فإنها تتلقى الأخبار الكونية التي يرسلها الله سبحانه على عباده في عموم الأرض وتتأوّلها على أنها عذاب أرسله الله للفجرة من عباده ليأخذهم بالسنين ونقص الثمرات فيقتلع شأفتهم ويقضي على ظلمهم وجورهم وينصر دينه.

والحق أنه سبحانه قال {وما نرسل الآيات إلا تخويفا} [ سورة الإسراء. 59]، وأخبرنا أنه أخذ من قبلنا بالبلاء ليربي عباده ويردهم إليه، أو ليمحق الظالمين فقد أرسل الريح والمطر والطوفان والجراد والقمل والدم وغيرها من الآيات العظيمات فيمن خلا من الأمم وقص علينا القصص.

غير أننا في زمن توقف الوحي ولم نعد نملك الأحكام القطعية في هذه الآيات عموماً، والأولى للمسلم في هذه المواقف أن يكف لسانه وأن يسأل الله خيرها وخير ما أرسلت به ويستعيذ به من شرها وشر ما أرسلت به وأن يطيع أمر ربه: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} [سورة الإسراء: 36].

ابتلاءٌ مختلف
فيروس كوروناكان هذا الحال والأعاصير والزلازل والبراكين والحرائق تجتاح بلاد الغرب وضمير المسلمين مرتاح بأن العذاب ينزل بأهله وأنهم يستحقون ما ينزل الله فيهم، حتى جاء هذا الفيروس الصغير (كورونا) وبدأ رحلته في بلاد غير المسلمين الذين استمروا بالتعليق نفسه، حتى إذا اجتاحهم الوباء وعصفت ببلاد المسلمين الجائحة بدت تلك التعليلات في غير سياقها فكان أن أجاب من ذهب ذلك المذهب منهم: “لنا بلاء ولهم عقاب”.

لكن.. من نحن كي لا ينزل فينا العقاب؟ لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الريح تغير لونه وهوالذي تلقى وعد الله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [سورة الأنفال: 33].

ومن هنا فقد مضى آخرون يتحدثون عن غضب الله أنزله على عباده فابتلاهم وأغلق مساجده وبيته في وجوههم في محاولة لتفسير المصيبة التي اجتاحت بلاد المسلمين.

وقد ورد عن العباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله يوم الاستسقاء أنه “ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة”، غير أنّ أحداً لا يملك أن يحدد الذنب الذي أنزل البلية وذنب من وفي أي مكان وأي زمان.

التغيير المنتظر
ولما كان هذا الوباء عامّاً  قد نزل بسكان الأرض كافة وأن تداعياته تبدو لكل ذي نظر ذات تأثير عميق في المجتمع البشري كله، فقد شاع بين الناس قولهم إن ما بعد كورونا لن يكون مثل ما قبلها، فها هو يترك آثاراً نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية وربما يكون له آثار ديمغرافية!

لما كان الأمر كما ذكرنا فقد استبشر كثير من المسلمين بأن هذا الجندي المأمور بأمر الله قادم ليعز الله به دينه ويستخلف المستضعفين من عباده وهو من حسن الظن الجميل بالله غير أنه يتغافل بطريقة أو بأخرى عن سنة الله في التغيير التي تقوم أساسا على مبدأ جوهري هو {حتى يغيروا ما بأنفسهم} [سورة الرعد: 11] إن لهذا التغيير شروطاً جوهريةً أوردها صاحب كتاب (هكذا ظهر جيل صلاح الدين) منها:

*  أنه يبدأ في محتويات الأنفس من أفكار وقيم وثقافة وعادات وتقاليد ثم ينتقل إلى الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وسائر ميادين الحياة.

* وأنّه لا يحدث إلا أذا قام القوم مجتمعين وليس الأفراد بتغيير ما في أنفسهم[1].

إن الوباء العاصف قادر على التغيير الجزئي فهو يجعل الأنفس أكثر إحساساً بالضعف والعجز والحاجة إلى الالتجاء إلى الله ومن ثم الإيمان به ودعائه وربما الالتزام بأحكامه.

لكن التغيير الحقيقي ليس إلا استجابة لقوم أرادوه وأعدوا له عدته واستغلوا  كل حادثة في سبيل إحقاق الحق وإبطال الباطل.

إن هذا الدين عزيز والله معز دينه باستعمالنا أو باستبدالنا فلا تخبرونا أن الغرب يدخل في دين الله أفواجا بينما كنا قعودا عن أي دعوة أو عمل!

إن هذا الدين عزيز ولا يعزه دخول أي ملك أو مشهور، بل إن من يدخله يحمل من عزته فلا تظلموا أنفسكم.

لا ريب أن ما بعد كورونا ليس كما قبلها، ولا ريب أنها فرصة للتغيير الإيجابي في الأنفس ليتحول هذا التغيير سلوكاً عملياً يغير الله به حال الأمة إلى الأفضل بإذنه… لكن لا ريب أيضا أن هذا التغيير لا يكون ونحن منهمكون في حاجات الجسد ولسان حالنا {شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا} [سورة الفتح: 11].


[1] الكيلاني؛ ماجد عرسان: هكذا ظه جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، دار القلم، دبي ط 3، 2002