فيتبعون ما تشابه منه

على الرغم من أن الدين كله بُنية واحدة من حيث وحدة المصدر ومقاصده الرئيسة، إلا أن نصوص الدين تتفاوت في درجة وضوحها ومعانيها بين نصوص محكمات -أي واضحة الدلالة- ونصوص أخرى لا يحيط بمعانيها إلا أولو العلم من المتخصصين -أي أنها من المتشابهات-، ولا بد من التأكيد على أن هذا التفاوت لا يكون في مقاصد الدين الكبرى، فأصول العقيدة وأساسيات الشريعة كلها تندرج تحت المحكمات الواضحات التي لا يمكن الاختلاف حولها، وإنما يقع خلاف العلماء دائمًا في تفصيليات الاعتقاد أو الشرائع مما لا يؤدي إلى فُرقة أو تشتت.

بين المحكم والمتشابَه

يقول تعالى في مطلع سورة آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]

يقول الشيخ زَرّوق في كتابه (قواعد التصوف): “وقوع الموهم والمبهم، والمشكل في النصوص الشرعية ميزان العقول والأذهان والعقود”. فالحكمة من وجود المتشابهات أن النصوص التي تثير الشك أو عدم الفهم أو الإشكال، أنه يُظهِر تفريق الناس بين مستقيم ينزعج من سوء الفهم ولكن يصبر حتى يتعلم ويُجاب فتزال الشبهة عنه، وبين المتبع للهوى العجول الذي لا يصبر على الشبهة فيبدأ بالشك أو يتعصب لرأيه ويتسرع في الحكم على الدين كله.

وكما أن النص المتشابه يفرق الناس على مستوى القلوب، فأيضا وجود المتشابه يفرق بين الناس على مستوى العلم، وبالمتشابهات يميز الله الخبيث من الطيب ممن رسخت أقدامهم في العلم وصبروا عليه حتى أوتوه درجات وبين متعالمين يسطحون المسائل العميقة بجهل وتسرع. فالمتشابهات هي حجة الله على الناس أن هذا الدين علم، وأنه لا تفسير لنص مستشكل بلا علم ولا إزالة لشبهة ولا وصول ليقين.

عصر الهوس بالمتشابه

في كل مرة أدخل في حوار مع شخص متشكك يكون له ميل للشك لأنه يعتقد أن اللادينيين أكثر علماً بالدين من عامة المسلمين. وهذا الوهم سببه أن اللاديني لا يُسمِعك ما لا قبل لك به لأنه أعلم منك بالدين، بل لأنه لا يبالي بالمحكم ويبتع المتشابه. وبناء عليه يتخذ اللاديني المعاصر دور المهرج الذي لا يبالي غير بالمشاغبة، أو لاعب الخفة والساحر الذي يفاجئ الجمهور بكل ما هو غريب وجديد عليهم! وهذا في الحقيقة تتبُّعٌ للمتشابهات {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].

أما عن ابتغاء الفتنة فهو تشكيك الناس في دينهم وصرفهم عنه، وأما عن ابتغاء تأويله فهو تفسير القرآن بالرأي والظن لا بالعلم والمنهجية. فمن يتخذ الدين لهوًا ولعبًا، أو وسيلة لإبراز عبقريته الفذة وتفوقه على الأغلبية من المؤمنين، فإنه لا يبالي بالمحكم لأنه لا يبالي بالهداية، وجودها من عدمها لديه سواء، بل كل ما يحلم به هو إثارة الفتن والمشاغبة. فأزمته الحقيقية هي رفض الدين من باب التكبر أو اتباع الهوى أو الحقد على أهله أو حب الدنيا أو غيره.

وبناء على تلك النية العليلة يكون عزمه للطعن والتشكيك والسخرية، ولكن لا يخرج مضمون كلامه عن الرقص حول المتشابهات مع تمام الغفلة عن المحكمات. وبناء عليه، عندما أدخل في حوار مع شخص متشكك يبدأ كلامه بطرح شبهات كثيرة في مواضيع شتى أرفض استكمال الحوار بهذه العبثية، لأن العقيدة درجات من المحكمات الأساسية أولا تبنى عليه بنيان الدين ككل. ومن السخف أن يبدأ الحوار حول ما استشكل فهمه من الدين دون إثبات الألوهية لله وحده، وصحة وجود الغيب، وصحة النبوات، وسائر أمهات العقائد. إذ إن الدخول للدين من باب المتشابه ما هو إلا لهو ومشاغبة، فالهداية في الأسئلة الوجودية الكبرى كلها هي من المحكمات الواضحات.

من العجيب في هذا الزمان أن الدخول للدين من بوابة النص المتشابه ليس دأب اللادينية فقط، بل للأسف الكثير ممن يُعلِمون الناس الدين ينطلقون مع طالب العلم المبتدئ بالنصوص المتشابهات التي كثر الاختلاف حولها على مدار التاريخ. وزيادة عليه، تتحول نية طلب العلم من المنفعة الشخصية إلى وسيلة للجدل والمراء والتصارع مع المخالفين بشكل يصل أحياناً إلى الهمجية وقلة الأدب.

ربنا لا تزغ قلوبنا

وسواء كان من يتبع المتشابه إنسانًا متشككًا أو مسلمًا لا منهجية له في طلب العلم وتعليمه، فإن سبب المشكلة واحد ألا وهو (مرض القلب)! فالإنسان الذي يريد الهداية يجد في المحكَم ما يكفيه، فيبدأ به ليتعلم أصول الدين، ومن يريد أن يستبين سبيل المؤمنين يجد في الشريعة كيفية التعبد على النحو الذي يقربه من ربه. أما اتباع المتشابه فلا يكون إلا للإنسان ذي القلب الزائغ، فلا يبالي بهداية أو استقامة أو انحراف، ولذلك قُرن تتبع المتشابه بمرض القلب، لأنه تفسير للنص ابتغاء الفتنة لا ابتغاء الهداية.

لقد جاء في الحديث الحسن عن الرسول ﷺ: (إذا رأيتُمُ الَّذينَ يتَّبعونَ ما تشابَهَ منهُ فأولئِكَ الَّذينَ سمَّاهمُ اللَّهُ فاحذَروهم) [سنن الترمذي]، فإذا ما تيقن الإنسان في درجات المحكمات الرئيسية من العقيدة سهُل عليه التعامل مع الفرعيات من الشبهات والإشكالات. ولأن هذا اليقين لا يحدث إلا بعد صدق في طلب الهداية بقلب مستقيم لا زائغ، ختمت الآيات بدعاء سلامة القلب حتى يكون المتشابه من الدين هو محل بحث وتعلم، لا محل شك وتكذيب: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً}. اللهم آمين..