عالمنا الإسلامي ومشكلة الوعي

نعاني اليوم في عالمنا الإسلامي من مشكلة غياب الوعي الشامل والمتكامل، ولهذا أسباب عديدة، ولعل أبرز ما تتجلّى فيه هو انحسار طموحات الإنسان المسلم -بشكل قسريٍّ وجبريٍّ- من الوصول لأعلى المراتب الفكرية أو العلمية إلى السعي الدائم المضني لضمان لقمة العيش وإيجاد مكان آمن يسكن فيه ربما لن يتحقّق إلا بشق الأنفس وبعد أعمار مديدة.

من جملة ما يبرز فيه غياب الوعي المتكامل أن عموم نخبنا ومجتمعاتنا بعيدة عن الفعل المؤثر على المستوى العالمي بل أصبحنا نمثل المثال الأفضل للمجتمع المستهلك الجامد المنتمي للعالم الثالث وأصبحنا نعيش على هامش الحياة.

بحثًا عن المفهوم

ما نحتاجه اليوم هو إيقاظ مفهوم الوعي بيننا ولكن لنا أن نتساءل أولًا ما هو الوعي؟

في تفسير الوعي في لسان العرب نرى الآتي: “الوعي: حفظ القلب الشيء. وَعَى الشيء والحديث يعيه وعيًا وأوعاه: حفظه وفهمه وقبله، فهو واعٍ، وفلان أوعى من فلان أي أحفظ وأفهم. وفي الحديث: نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فرب مبلغ أوعى من سامع. قال الأزهري: الواعي الحافظ الكيِّس الفقيه. وفي حديث أبي أمامة: لا يعذب الله قلبًا وعى القرآن؛ قال ابن الأثير: أي عَقَلَه إيمانًا به وعملًا، فأما من حفظ ألفاظه وضيع حدوده فإنه غير واعٍ له”(1).

ينبئنا هذا النص عن المقصود بالوعي، وهو في مقامنا هذا الفهم، وبالأخصّ فهم الواقع، أيْ الفهم لما يدور حولنا ومتابعة الأحداث وتحليلها، وهو أيضا فهم دورنا في الحياة والقيام به، ومن نواقض الوعي أن ننغلق على أنفسنا ولا نهتمّ بما يَحصل داخل مجتمعاتنا أو خارجها ولا نُبالي بالتغيّرات المتسارعة التي يعيشها عالمنا اليوم وأن نكون سلبيين في تفاعلاتنا مع من حولنا، فغياب الوعي من مجتمعاتنا لم يأتِ صدفة بل له أسباب مهَّدت لذلك وأدّت إلى تغييبنا عن الحياة.

أسباب غياب الوعي

   إن الحكومات المستبدّة والظالمة لحقوق شعوبها والتي لا تراعي إلا مصلحتها وتسعى للخضوع والخنوع لأعداء الأمة والتطبيع معهم سيكون من مصلحتها تغييب الوعي داخل المجتمع حتمًا، فتجعل الفرد تحت تهديد غلاء المعيشة والسعي المضني وراء لقمة العيش وتفتح له أبواب الشهوات حتى ينغمس فيها.

ومن يسعى منهم لتتبع الأحداث وفهم واقعه وتوعية من حوله بما يحصل من مفاسد واضطهاد وخيانة للقضايا الكبرى فسيكون مصيره التشويه واتهامه بالإرهاب وفي مرحلة أخرى يتم سجنه حتى يصمت صوت الوعي الذي ينادي به بين الناس، لأنه إذا انتشر الوعي وأصبحت العامة تتابع تحركات من يحكمه وقراراته وسياساته الداخلية والخارجية فإنها سوف تتكوّن قوة شعبية تتحرّك بقوة لنقد السلطة وتصحيح مسارها ومحاسبتها ومنعها من تنفيذ مخططاتها واتفاقياتها المهدرة لثروات الشعوب مع القوى الغربية.

 وخير مثال على ذلك عندما أرادت السلطة في السعودية تغيير مناهج التعليم وتمييعها من المبادئ الإسلامية مع تغيير نمط الحياة إلى الحداثة كان في البداية هنالك دعاة ومُصلحين يحاولون نشر الوعي بين الناس وتنبِيههم بخطورة ما يحدث وعدم الانخراط في تيّار الحداثة فكانت النتيجة إسكات صوت الوعي وسجن هؤلاء الدعاة والمصلحين والتضييق على من يتبنّى فكرهم وصوتهم!

ومن الأسباب أيضًا المباشرة في غياب الوعي هي الإعلام، الذي دوره الأصلي يكون بإيصال الحقائق للناس بكل أمانة ونقل لهم ما يحدث في واقع الحياة بلا محاباة لجهة معينة حتى يفهم الجميع ما يحصل داخل مجتمعه أو خارجه ومن ثمّ يتخذ موقفًا واضحًا يصدع به، ولكن في مجتمعاتنا أصبح الإعلام يشغل العامة بالتفاهة ويقحمهم في جدالات جانبيّة تبعدهم عن المشاكل الكبرى التي يعانون منها وكذلك يقوم بإعادة بناء العقول وفق السياسة المرجوّة من السلطة الحاكمة.

ولا ننسى أيضًا دوره في قلب الحقائق وتزييفها وأضف إلى ذلك دوره في نشر الرذيلة والتعرّي بين الناس تحت غطاء المسلسلات والأفلام والبرامج الترفيهيّة، وبالتالي ستكون النتيجة بناء أجيال غير واعية ومغيبة عن واقعها، فعلى سبيل المثال عندما حصل الانقلاب العسكري في مصر تم تصوير المعارضين له بأنهم مجموعة من المجرمين الإرهابيين الذين يقتلون من يواجههم ومن ثم قامت القوات العسكرية بناء على ذلك بنيل ثقة بقية الشعب وتحوّل الأمر إلى مذبحة وتنكيلٍ بالمتظاهرين الأبرياء ولكن بعد برهة من الزمن انكشفت الحقيقة بما تم توثيقه من شهادات وفيديوهات نشرت على الانترنت تثبت العكس ولكن حصل ذلك بعد فوات الأوان!

   إنه عندما يغيب الوعي عن الشعوب فإنها ستفقد قوّتها في التّغيير والإصلاح وفي التعبير عن رأيها بكلّ حرية وستصبح خاضعة ومنقادة لا إرادية لما تُمليه عليها السياسات الداخلية والخارجية.

بناء الوعي

   إن اللبنة الأولى في صناعة الوعي هي النظر في الهزائم التي حلت بنا في كل الميادين وأن نبحث عن أسبابها الرئيسية وكيفية النهوض من جديد، فنحن اليوم بعد أن كنا الحضارة الأولى في العالم أصبحنا تبعا لقوم لا يتبعون إلا أهواءهم.

ولنا أن نتساءل لماذا حصل ذلك؟ وكيف وصلنا إلى هنا؟!

ولو بحثنا بصدق وبفهم لتتابع الأحداث لوجدنا أن السبب الرئيسي لهذا الانحطاط الذي نعيشه هو اتساع الفجوة بيننا وبين ديننا الذي لم يعد هو دستور حياتنا وبوصلتنا المرشدة للحق!

إننا بحاجة لبناء الوعي بدورنا في الحياة أوّلا ولا يُمكن تحديده إلاّ بالعودة لتكاليف الرسالة التي شرفنا الله بها، حيث يقول لنا الله عز وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُون} [آل عمران: 104]، فتحديد الخير الذي يجب أن ندعوا إليه لا يكون إلا بالعودة لشريعة الإسلام وتطبيقها في واقعنا ومن ثم يمكننا القيام بهذا الدور بأن نكون حرَّاسًا لكل خير وأن نأمر بكل معروف في مختلف المجالات وأن ننهى عن المنكر سوى داخل مجتمعاتنا أو خارجها فأين نحن اليوم من رسالة الإسلام؟! فليعرض كل فرد منّا نفسه على مبادئ ديننا وقيمه ولينظر مكانه منها وليسأل نفسه ما هو مدى التزامه بها وما هو مدى تطبيقه لها في حياته اليومية وفي عمله وداخل أسرته وفي تعاملاته؟!

   وتعليقًا على هذه الآية يقول الشيخ محمد الغزالي: “إن عمل الخير والدعوة إلى الخير سمات الأمة الظاهرة، وملكاتها الباطنة، ووظيفتها الدائمة، وشهرتها التي تملأ الأفاق و إجابتها عندما تسأل عن منهجها وغاياتها…الذي يبدو لي أن المسلمين شعوبا وحكومات هبطوا دون المستوى المنشود بل هبطوا دون مستوى غيرهم ممن لم يشرفهم وحي و يكلفوا بحمل الرسالة!!…فنحن المسلمين الآن في العالم الثالث على حين أمسك بزمام الحضارة من ينكرون الألوهية أو من يتخيلونها “عائلة مقدسة”(2)، فالخطوة الأولى في صناعة الوعي بأن نوقظ في نفوسنا حقيقة أننا أصحاب رسالة وجب الالتزام بها وأن نكون خير قدوة لمختلف الأمم وأن نمسك بزمام العالم في مختلف المجالات وبأن نقوده للحق والعدل والنجاة وأن نبين الحقائق.

وعندما يتحقّق هذا الوعي فإننا سنصبح بطريقة آلية واعين جميعا بقضايا الأمة الكبرى ولعل من أبرزها المسجد الأقصى وتحريره من اليهود الغاصبين وسنصبح واعين بضرورة إنشاء اقتصاد إسلامي موحد يضمن لنا الاستقلالية وأن نتمتع نحن بثرواتنا الباطنية وسنصبح واعيين بقيمة العلم وضرورة تطوير التعليم لنكون رائدين في مجال الصناعات والاكتشافات، فالوعي برسالة الإسلام هو المفتاح لكل شئ!

ولكن هل ينتهي الأمر هنا بأن نعي دورنا في الحياة؟! لا بل يجب أن يُنتج هذا الوعي حركة ملموسة وتغيير عملي في أرض الواقع وأن نبدأ بأنفسنا في مرحلة التغيير وأن ننشر هذا الوعي في من حولنا فيتحول وعينا إلى ثورة فكرية وعمليّا نستطيع بها تغيير وجهتنا والعودة لحضارة الإسلام من جديد، ومن ثمّ علينا أيضًا من باب الوعي أن نواصل المُراقبة والمُتابعة ونحن في طريقنا للعودة لمستوى الرسالة التي كلفنا الله بها فيجب أن تُبنى لدينا ميزة النقد الذاتي حتي نتدارك عثراتنا وهفواتنا ونُراجع أنفسنا في ما نفعله وهل يتوافق مع ما يجب أن نكون عليه كأفراد أو كمجتمع مسلم وإلا فإنّنا سنظلّ الطريق وقد نقع في الغرور والجمود والفوضى من جديد على أن تبقي مرجعيّتنا الأولى في النقد والمراجعة هي شريعتنا.


الإحالات:

(1): لسان العرب لابن منظور، حرف الواو، وعي، ص 246، جزء 15.

(32): كتاب الطريق من هنا لمحمد الغزالي، دار القلم للنشر، الطبعة الخامسة 2019، ص76 -78 .